وذلك أن الإمام المهدي عليه السلام لما عظم شأنه وملأت القلوب هيبته، وخاف ملك اليمن على سلب ملكه فبعث إلى خليفة بغداد فأجمع رأيهم على دس الحشيشية؛ وهم قوم يأتون من بلاد يقال لهم الطفش من تخوم خراسان ملاحدة، ثم يتخذهم بطانة ملك الباطنية بالموت في نواحي الديلم، ويعتقدون أنه ربهم، وأنه ينقل أرواحهم إلى صور غير صورهم ويلحقون بالعالم الروحاني فيعشقون الموت ويطرحون بنفوسهم على ما أمروا به ولا يرجون سلامة، ويعدون السكاكين العظيمة التي تنفذ في الدروع، ويبلغون في سمها الغاية بالسمومات التي لا ينجو من دمي بها ولو مثل خدش الإبرة، فلما وصل هذا الحشيشي على نهاية الكتمان دسوه على يد السلطان أحمد بن علوان بن بسر بن حاتم بن الفضل اليام ثم الهمداني فأتى على صورة رسول في خطاب وصلح، ولم تجر العادة بأن الرسل تكون من الحشيشية ولا سمع بدسيس الحشيشية على أحد في اليمن قبلها، فلما جاء هذا الحشيشي من حصن كوكبان على هيئة ولباس تلقاهم الإمام بما جرت به العادة من أخلاقه الرضية فأقام عنده يومين، فلما أصبح اليوم الثالث[19أ-أ] وأراد الوداع دخل على الإمام ومعه جماعة من أصحابه وحاشيته فلم يتمكن من غفلة يثب فيها حتى دنا رجل من أصحاب الإمام يشاوره فستر ما بين الإمام وبين الحشيشي فحينئذ استخرج السكين وهو ملصق إلى فخذه أو ساقه ثم قام قائما وانحط على الإمام وظن أنه دافن بدرع في أسرع ما يكون فأخذت الطعنة نيفا وخمسين طبقة في عمامة مثقلة ثم في قمصانه وشوخه سقلاط حمراء عليه ورداء فوطة منارية، ومرت تحت كفه الأيسر إلى نحو الصلب لعلها غاصت في لحمه قدر ثمان أصابع، ثم كانت الروعة في القصر وظن الناس أن الإمام قد قتل وانكشفت الحرم، فمن العجائب والفضائل العظيمة أن الحشيشي قبض على يديه الفقيه العالم القاسم بن أحمد الشاكري وهو شحب البدن كبير السن، وذلك الحشيشي من العلوج الأعاجم الذي لا يقوم له إلا جماعة فما انتصر ولا برح مكانه، بل أخذ الفقيه المذكور السكين من يده وضغطه حتى دخل عليه بعض مماليك الإمام وخدمه فقتله، ثم إن الإمام عليه السلام لما طعن فكان من رأى الطعنة وعظمها يأيس منه؛ لأنها في مقتل خوف السم، فلما بلغ العلم إلى صنعاء اليمن خرج السلطان وعمل المقامات والبشارات، وقطع على قومه بالسم الذي جعل في السكين فكان بردا وسلاما فما وقف الإمام عليه السلام إلا الأيام القرائب حتى خرج من القصر وصار يركب ويسير: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا}(1).
وكانت هذه الفضيلة مما طبقت الأرض وملأت الأقطار لأجل السم الذي لم تجر عادة أنه يسلم منه أحد، بل يصاد أجسام بني آدم ويخل نظامها ويذهب بحياتها، فجعل الله ذلك آية في الدنيا، فكانت سلامته عليه السلام حسرة على أعداء الله ونعمة أنعم بها على أوليائه، وسنذكر طرفا من القصة في موضعها من السيرة إن شاء الله تعالى، وكانت هذه القضية لمضي ساعة ونصف من يوم السبت لثمان خلون من شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
ومن فضائله عليه السلام: أن قوما ممن أغرق في عداوته وأذاه وبلغ الغاية في توهين أمره وهم في جهات مختلفة وبلاد متباينة دعا عليهم فمكنه الله منهم وانتقم منهم لدين الله.
ومن فضائله المشهورة: في غزوة مأرب في العين التي انخسفت في العواهل في موضع لم تجر فيه عادة غيل ولا علم بها قبل، وذلك ما يشهد به الجم الغفير من الناس.
ومن فضائله عليه السلام: ما رواه الأمير محمد بن حمزة بن الحسين الحمزي أنه لما ضعف بصره ولم يدع شيئا مما هو ممكن في جهاته من الأدوية والكحال ومدح مرتين أنه أخذ شيئا من شعره عليه السلام للبركة فجعله مع كحال أوكحالات مفردا أو كما روي ذلك لغير واحد، فحصل في بصره من الزيادة والقوة ما لم تجر به عادة مع نوع من أنواع الأدوية والأكحال، والحمية الطويلة التي لازمها سنينا كثيرة، والرواية مشهورة لا تنكر.
পৃষ্ঠা ৫৯