وهناك قاعدة يجب ألا ننساها، هي أننا نكتب وفق ما نشأنا عليه من اتجاه أخلاقي، وأيضا وفق الأحوال السيكلوجية التي نتكون بها ونسير في تياراتها، فإذا كنا من الشعب، نكتب للشعب، فإنه لا مفر من أن نكتب بلغته، ولكن ليس معنى هذا أننا نكتب بالعامية؛ لأن الكاتب فنان قبل كل شيء والعامية تخلو من الفن.
والكاتب الذي يلتزم أسلوب الجاحظ أو ابن المقفع من الكتاب القدامى يحيا في مناخ قديم؛ ولذلك أيضا تجد أن أهواءه وأغراضه تنأى عن الشعب، بل هو حين يؤلف كتابا يتخذ موضوعا من موضوعات القدماء التي لا تمت إلى الشعب، وهو ينعت هذه الموضوعات بأنها «ثقافة».
والثقافة عند هؤلاء الكتاب أن تهتم بثورة الخوارج على الخلفاء وتؤلف عنها، ولكن لا تهتم بثورة مصر ، بل ثوراتها، ولا تبالي أن تكتب عنها شيئا. وعندما تكتب عن الخوارج فإنك تتخذ الأسلوب الذي في هذا المناخ النائي عنا.
وقد كان هذا حال صحفنا قبل نحو ثلاثين سنة حين كنا نجد فيها أبحاثا ودراسات عن مشاكل تاريخية قديمة، أما مشاكلنا نحن فلم يكن هؤلاء الكتاب يعنون بها أقل عناية، بل كانوا حين يكلفون كتابة مقال افتتاحي، يتجهون في عناية خاصة إلى اتخاذ أسلوب قديم يتميزون به، كأنهم يأنفون لغة الشعب واهتمامات الشعب. •••
لقد قرأت اللواء والمؤيد وأنا طالب في المدارس الثانوية، وعرفت المقال يكتب مسهبا بلغة عكاظية في نحو خمسة أو ستة أعمدة، والخبر ينشر بلا عنوان، وأحداث الدنيا تنحى في زاوية تحت عنوان واحد وهو: تلغرافات خارجية. ولا تزيد على ربع عمود.
ثم جاءت ثورة 1919 فأكسبت الشباب أهدافا، وارتفعت بهم إلى معان جديدة من الفهم وبسطت أمامهم آفاقا، وظهرت صحف تغذوهم وتحاول إشباعهم بالصورة والخبر والمقال.
ولكن الصحف المصرية التي تعد السياسة موضوعها الأول اصطدمت بالسياسة، فلم تكن ترفع برأسها وتشهر أقلامها لمكافحة الاستعمار أو الاستبداد حتى كان المستعمرون والمستبدون يسددون إليها سهامهم القاتلة، وقتلوا عشرات من الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية، وما هو أن كانت الحكومات الماضية تعرف في إحدى هذه الصحف نزعة قومية أو تطرفا وطنيا حتى كانت تتعقبها هي ومحرريها إلى أن تقتلهم جميعا.
فقتلت جرائد الحزب الوطني كلها، وقتلت «الأخبار» التي كان يحررها الرجل الأمين أمين الرافعي، ولا أنسى أنه عطلت لي في سنة واحدة هي سنة 1930 اثنتا عشرة مجلة أسبوعية، وعطلت جرائد المرحوم عبد القادر حمزة جملة مرات، وأصدرت قوانين جعلت احتراف الصحافة يشبه احتراف الجريمة في نظر القضاء.
ومرت على مصر سنوات سود لم يكن يظهر فيها من الصحف سوى تلك التي كانت تنحني رءوس أصحابها ومحرريها، وكاد الصحفي المصري يلغى من الوجود؛ إذ هو متهم على الدوام بتهمة الوطنية.
ولكن رويدا رويدا تغيرت الدنيا، دنيا الصحافة في مصر، ورويدا رويدا رأينا شبابا جديدا يأخذ بألوان من النشاط الصحفي لم نعرف مثله قبل 1930 و1940، وحرث الأستاذ التابعي حقلا بالخبر المقالي أو المقال الخبري، وبالصورة الكاريكاتورية التي ليس لها عنوان، ولكنها تنطق بل تصرخ بالمعنى أو تطعن ضحيتها كما لو كانت سكينا، ثم جاء بعده، ونقل عنه، من زرعوا هذه الأرض المحروثة.
অজানা পৃষ্ঠা