على أن أبا بكر اتخذ في معاملة الأسرى الذين جاءوا إلى المدينة سياسة ليست كسياسة خالد بأسا وشدة، فقد رأيت ما كان من عيينة بن حصن ومحالفته طليحة وقتاله المسلمين، وقد جاء مع قرة إلى المدينة في الأسرى ويداه مجموعتان بحبل إلى عنقه، وكان غلمان المدينة ينخسونه بالجريد ويقولون له: أي عدو الله، أكفرت بعد إيمانك! فيقول: والله ما كنت آمنت بالله قط، ومع ذلك تجاوز عنه أبو بكر وحقن له دمه، فاتقى بذلك شر بني فزارة معه.
أما قرة بن هبيرة فكان في بني عامر، وقد مر به عمرو بن العاص عائدا من عمان إلى المدينة فنزل عليه، وقومه يقدمون للردة رجلا ويؤخرون أخرى، فلما أراد عمرو الرحلة خلا به قرة فقال: «يا هذا، إن العرب لا تطيب لكم نفسا بالإتاوة، فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم.» وأجابه عمرو: «أكفرت يا قرة؟ أتواعدنا بالعرب وتخوفنا بها!» فلما أرسل خالد قرة أسيرا إلى المدينة وجيء به إلى أبي بكر، وقال: «يا خليفة رسول الله، إني قد كنت امرأ مسلما، ولي من ذلك على إسلامي عند عمرو بن العاص شهادة، قد مر بي فأكرمته وقربته ومنعته.» فدعا أبو بكر عمرا وسأله عن قرة وأمره، فقص عليه الخبر، حتى إذا انتهى إلى أمر الصدقة وما قال عنها اعترضه قرة قائلا: حسبك يرحمك الله ! قال عمرو: لا والله، حتى أبلغ له كل ما قلت، فلما أتم عمرو كلامه ابتسم أبو بكر وتجاوز عن قرة وحقن دمه.
لم تكن سياسة الصفح سياسة هوادة أو تردد من أبي بكر، بل كان المقصود منها تسكين الثارات ما كان في تسكينها للإسلام والمسلمين خير، أما فيما خلا ذلك فلم يكن اللين يعرف إلى قلب أبي بكر سبيلا ما اتصل الأمر برسالة محمد. كان علقمة بن علاثة من بني كلب قد أسلم ثم ارتد في زمن الرسول ولحق بالشام، فلما توفي محمد أقبل مسرعا حتى عسكر في بني كلب، وبلغ ذلك أبا بكر، فبعث إليه القعقاع بن عمرو وأمره أن يسير حتى يغير عليه لعله أن يأخذه أو يقتله، وقال له: «واعلم أن شفاء النفس الخوض فاصنع ما عندك.» وخرج القعقاع في رجاله، فلم يثبت له علقمة وفر راكضا، وأسلمت امرأته وبناته ومن أقام من الرجال، وجحدوا أن يكونوا مالئوه، ورجع علقمة إلى أبي بكر تائبا، فقبل منه وحقن دمه؛ لأنه لم يقاتل المسلمين ولم يقتل منهم.
لكنه لم يقبل من الفجاءة إياس بن عبد ياليل ولم يحقن دمه، فقد قدم الفجاءة هذا على أبي بكر فقال له: أعني بسلاح ومرني بمن شئت من أهل الردة، فأعطاه سلاحا وأمره بما شاء أن يأمره به، لكن الفجاءة شنها غارة في سليم وعامر وهوازن على المسلمين والمرتدين على سواء، وقتل من المسلمين من قتل، عند ذلك أرسل أبو بكر طريفة بن حاجز في رجال قاتلوا الفجاءة ومن معه وجاءوا به أسيرا، فأمر أبو بكر فأوقدت له نار في مصلى البقيع على حطب كثير، ثم رمي به فيها فمات حرقا، ولو لم يقتل الفجاءة من المسلمين من قتل لما أصابته هذه الميتة القاسية التي أسف أبو بكر لقسوتها من بعد وتمنى لو لم تكن كذلك.
قبل أن نختم هذا الفصل بحديث أم زمل نورد قصة أبي شجرة بن عبد العزى؛ فهو بحديث عيينة وقرة وعلقمة أشبه، كان أبو شجرة هذا ابن الخنساء الشاعرة صاحبة المراثي الفياضة في أخيها صخر، وكان شاعرا مثلها، وقد لحق بأهل الردة وجعل يقول الشعر في تحريضهم على المسلمين وقتالهم، وكان مما قاله في ذلك قصيدة جاء فيها:
فزويت رمحي من كتيبة خالد
وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
فلما رأى تحريضه على خالد لم يثمر ورأى الناس يرجعون إلى الإسلام رجع إليه، وقد قبل منه أبو بكر وعفا عنه فيمن عفا عنهم، فلما كانت خلافة عمر جاءه أبو شجرة وهو يعطي المساكين من الصدقة يقسمها بين الفقراء، فقال: يا أمير المؤمنين أعطني فإني ذو حاجة، قال عمر: من أنت؟ فلما عرفه قال: أي عدو الله! ألست الذي يقول:
فزويت رمحي من كتيبة خالد
وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
অজানা পৃষ্ঠা