وانصرف الناس يولون الأدبار، ومر قوم بطليحة ينادونه: ماذا تأمرنا؟ وكان طليحة قد أعد فرسه عنده وهيأ بعيرا لامرأته النوار، فلما بصر بالناس يغشونه وينادونه قام فوثب على فرسه ثم حمل امرأته ونجابها، وهو يقول: «من استطاع أن يفعل منكم مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل.»
كانت هذه خاتمة المقاومة التي حاول هذا المتنبئ أن يثبت بها لأبي يكر، بل كانت هذه خاتمة نبوته؛ فقد لحق بالشام وكذبه من قالوا من قبل بنبوته.
واستقر المقام بطليحة في كلب فنزل بها، وعاد إلى الإسلام حين بلغه أن القبائل التي تابعته قد عادت إلى الدين القيم، وخرج بعد ذلك إلى مكة معتمرا في خلافة أبي بكر، فمر بجنبات المدينة، فذكر بعضهم لأبي بكر مكانه؛ فقال: «ما أصنع به! خلوا عنه فقد هداه الله للإسلام.»
ولما استخلف عمر بن الخطاب أتى طليحة يبايعه؛ فقال له عمر: أنت قاتل عكاشة وثابت! والله لا أحبك أبدا! قال: يا أمير المؤمنين، ما يهمك من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما. فرضي عمر بيعته، ثم قال له: يا خدع، ما بقي من كهانتك؟ قال: نفخة أو نفختان، ثم رجع إلى قومه فأقام بينهم، حتى خرج إلى العراق فأبلى بها مع المسلمين أحسن بلاء.
انصرف عيينة بن حصن في قومه من بني فزارة وأعلن على ملأ من الناس أن طليحة كذاب، وفر طليحة على فرسه واصطحب امرأته النوار ونصح للناس أن يفروا، أفكان ذلك آخر النضال بين خالد بن الوليد والقبائل التي وقفت في صف طليحة، وبينه وبين القبائل المرتدة في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة؟! قد يتبادر ذلك إلى الذهن، وبخاصة إذا عرفت أن بني أسد قوم طليحة عادوا إلى الإسلام ولم يكن قد أصيب في القتال منهم أحد، لكن الواقع أن خالدا بقي في عسكره بالبزاخة شهرا كاملا، وأنه قاتل من فلول القبائل من بقي على ردته، ومن اجتمع حول أم زمل يمالئها على عصيان أبي بكر وعلى الردة؛ كما قتل من اعتدى على المسلمين بالقتل، وبعث إلى المدينة بمن خرجوا على خليفة الرسول أمثال قرة بن هبيرة، والفجاءة السلمي، وأبو شجرة بن عبد العزى السلمي، فدخلوها أسرى حتى أنفذ أبو بكر فيهم أمره.
يجمل بنا قبل أن نقص نبأ أم زمل وسائر المرتدين فلول جيش طليحة، أن نقف هنيهة وأن نسأل: ما بال هؤلاء القوم لم يرجعوا إلى الإسلام كما رجع بنو أسد قوم طليحة وأعرف الناس به؟! أفلا يقتضيهم العقل بعد ما تبينوا كذبه أن يكونوا مع المؤمنين بنبوة محمد ورسالته؟ لقد أسلفنا جوابا على مثل هذا السؤال، فأكثر هؤلاء العرب إنما أذعنوا لنبوة محمد ولو يؤمنوا بها، وكثير منهم من رأى من عبادة الأصنام هزؤا فعدل عنها إلى عبادة الواحد الأحد، لكنهم رأوا فيما فرضه عليهم محمد من التكاليف بحكم هذه العبادة ما لا تطمئن إليه طبائعهم، فرأوا أن من الحق لهم أن يتحللوا منه، وقد صارحوا أبا بكر بهذا في أمر الزكاة؛ لأن حب الناس المال أقوى في نفوسهم من كل شيء غيره، لكنهم كانوا يودون لو تحللوا من الصلاة ومن سائر التكاليف التي فرضها الإسلام عليهم، وهم إنما اتبعوا طليحة، واتبعوا مسيلمة، واتبعوا غير هذين، ليحطوا عن عواتقهم ما فرضه الإسلام عليهم، فإذا ثبتوا بعد فرار طليحة وأرادوا مواجهة خالد فذلك لأنهم يأملون في نصر يجعل أبا بكر يصالحهم على النزول عن بعض هذه التكاليف، ويحقق لهم ما كانوا يرجونه من مصانعة طليحة.
وثم سبب آخر يتصل بنفسية البدو والأعراب ومن إليهم جعلهم لا ينفضون بفرار طليحة، فقد كانت بينهم وبين المهاجرين والأنصار ثارات قديمة من عهد الرسول تناسوها حين تغلب عليهم فأذعنوا لسلطانه وأظهروا الرضا بأمره، وإنما كان شأنهم في ذلك شأن المغلوب يرضى كارها، فإذا أتيحت له فرصة للثأر اقتنصها ولم يفتها، وهذه فرصة تهيأت تعيد للأذهان يوم الأحزاب وغزوة الخندق، ولقد كانت المدينة موشكة أن تفتح أبوابها للأحزاب لولا الريح الصرصر العاتية التي جعلتهم يولون منها فرارا ويمتلئون رعبا، فليهتبلوا هذه الفرصة التي أتاحتها المقادير لمواجهة خالد وليثبتوا له، لعلهم يكونون أحسن حظا مما كانوا على عهد محمد، وعلهم يستعيدون لقبائل البادية ذلك الاستقلال العزيز عليها بعد أن تقلص ظله أو كاد.
ولو أن القبائل كلها حركتها هذه العواطف البدوية لدق موقف خالد والذين معه، لكنك قد رأيت طيئا تنحاز مع من انحاز إلى طليحة، ثم لا تلبث حين يخاطبها عدي بن حاتم أن تعود إلى الإسلام، وأن تنضم إلى خالد وأن تحارب في صفه، وأن تدخل على طليحة من الفزع ما كان بين الأثر في هزيمته، ولقد حدث مثل ذلك بعد أن فر طليحة وانخذل عيينة في بني فزارة. كانت بنو عامر تقدم للردة رجلا وتؤخر أخرى، تنتظر ما يصير إليه أمر قيس وبني أسد، فلما هزمهم خالد ودارت عليهم دائرة السوء، أقبلت بنو عامر يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، وبايعهم خالد على ما بايع عليه أهل البزاخة من أسد وغطفان وطيء قبلهم؛ فكان لعودهم إلى الإسلام أثره فيمن سواهم من القبائل، كما كان لعود طيء إلى الإسلام أثره في طليحة ومن انحازوا إليه.
ثم إن خالدا أخذ الذين قتلوا المسلمين من مختلف القبائل بشدة أورثت القلوب الرعب، فهو لم يقبل من غطفان وهوازن وسليم وطيء حين وادعهم إلا أن يجيئوه بالذين قتلوا وحرقوا ومثلوا وعدوا على المسلمين الذين كانوا بينهم حين ردتهم، فلما جيء بهم صفح عن الأذناب، وأخذ الزعماء منهم، وبينهم قرة بن هبيرة، فأوثقهم؛ ومثل بالذين عدوا على المسلمين، فأحرقهم بالنيران، ورمى بهم من الجبال، ونكسهم في الآبار، ورضخهم بالحجارة، وجعلهم عبرة لمن يعتبر، أما قرة بن هبيرة وعيينة بن حصن فبعث بهما مع طائفة من الأسرى إلى أبي بكر، وكتب إليه يقول: «إن بني عامر أقبلت بعد إعراض، ودخلت في الإسلام بعد تربص، وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيئا حتى يجيئوني بمن عدا على المسلمين، وقد قتلت المعتدين كل قتلة، وبعثت إليك بقرة وأصحابه.»
ولم تأخذ أبا بكر في الذين قتلهم خالد شفقة أو رحمة، بل رأى فيهم أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء دينه الحق، فكتب إلى خالد يقول: «ليزدك ما أنعم الله به عليك خيرا، واتق الله في أمرك؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جد في أمر الله ولا تنثنين، ولا تظفرن بأحد قتل المسلمين إلا قتلته ونكلت به جهرة، ومن أصبت ممن حاد الله أو صاده ممن ترى في قتله صلاحا فاقتله.» ذلك ما كتبه أبو بكر رقيق القلب لين الطبع إلا فيما يغضب الله ورسوله، فلما بلغ كتابه خالدا أمعن في سياسة الإرهاب التي بدأها، وطال مقامه على البزاخة شهرا يصعد عنها ويصوب إليها في طلب المعتدين على الإسلام والمسلمين، فمنهم من أحرق، ومنهم من رمي به من رءوس الجبال، ومنهم من رجم بالحجارة.
অজানা পৃষ্ঠা