تغلب على الإنسان أحيانا عصبية الوطن فيتحدث عن مفاخره، ويشيد بماضيه وحاضره، ويذهب في عصبية الوطن مذاهب، ولا يخلو قوله من محاباة وظلم. وتتسع عصبيته أحيانا إلى جنسه، فيتعصب للأمة التي ينتمي إليها، ويشيد بمآثرها ومزاياها ويحدث عما وعى التاريخ وما لم يع من مناقبها ومساعيها، وكثيرا ما يتزيد لأمته ويبخس غيرها. ولا تبرأ العصبية من ظلم ومحاباة. وأحيانا تتسع عصبية الإنسان فتجوز حدود الأوطان وأواصر الدماء إلى أواصر الفكر وحدود العقيدة؛ فيتعصب لدينه والمتدينين به أو لمذهبه والعاملين له. وهذه العصبية أعلى وأوسع وأجدر بالإنسان ، ولكنها عصبية ، والعصبية قرينة الهوى لا تبرأ من محاباة وظلم.
والخطة المثلى للإنسان ألا تجور به العصبية فيزيد ما له وينقص ما لغيره، بل الخطة المثلى ألا يتعصب بل يرى الحق حقا فيتبعه، والباطل باطلا فيتجنبه؛ يؤدي حق وطنه ولا يجور على أوطان الناس، ويعرف لأمته فضلها، ولا يبخس غيرها حقها، ويستمسك بدينه، ولا يزدري بالأديان الأخرى، ويعمل بقول القرآن الكريم:
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون
حتى يكون انتصاره للحق حيثما كان، وحبه للأخيار في كل قبيل، وقومه الصالحين في كل أرض، ويقول ما يقول المسلمون في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
الخميس 22 شعبان/8 يونيو
لولا هذه الآفات
نحن في عصر منير، وحضارة عظيمة بلغ الإنسان فيها من العلم والصناعة مبلغا بعيدا، ونال ما حسبه الأولون مستحيلا. طويت المسافات بالعجلات في البر، والسفن في البحر، والطائرات في الجو، وبالهاتف والبرق يقربان البعيد، حتى يتحدث من بالمشرق إلى من بالمغرب، وتزوى للإنسان الأرض فيطلع على ما فيها من أحداث، ويسمع ما في أرجائها القريبة والبعيدة من حديث.
وجلى الإنسان الجمال في الحقول والحدائق والأبنية والطرق والمجامع، وافتن في فنون الزينة وهلم جرا.
وكان الظن أن يصحب العلم والفلسفة والصناعة وما فتح على الإنسان من خيرات السماء والأرض، رفاه وطمأنينة وسكون، ويبلغ الإنسان سعادته على هذه الأرض. ولكن خاب الرجاء بما صحب هذه الحضارة من آفات أعظمها هذه الضوضاء.
الضوضاء الحسية تحيط بالإنسان حيث يسير وحيث يقيم، من المراكب في الأرض والهواء، ومن المذياع. لا يجد الإنسان الراغب في الهدوء منها مفرا. والضوضاء النفسية تدوي بها الآراء المتصادمة، والأفكار المتضاربة، والمطامح الجامحة، والشهوات العارمة، تسير الإنسان قاعدا وتوقظه نائما.
অজানা পৃষ্ঠা