سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
فاتحة
الشوارد
الخاتمة
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
فاتحة
الشوارد
الخاتمة
الشوارد
الشوارد
تأليف
عبد الوهاب عزام
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
وبعد فقد باعدت الأسفار بيني وبين خزانة كتبي والخزائن التي كنت أستعين بها على التأليف في القاهرة، فلم يتيسر التأليف والنشر اللذان تعودتهما؛ فرأيت أن أثبت ما يخطر من خاطرات، وما يسنح من سانحات، وأن أسجل سلائل الفكر والوجدان، وأجمع حصائد العلم والتجارب، أصيد منها الشوارد، وأقيد الأوابد. وقلت: رب خطرة فتحت أبوابا، ورب فكرة سيرت الأقلام أحقابا.
وهذه الخطرات والفكر خلاصة أحداث الزمان، وتجارب الإنسان.
واقترحت على نفسي أن أقيد كل يوم فكرة عابرة، أو خطرة طائرة، وأن أمضي على هذا النحو حولا كاملا.
شرعت يوم الثلاثاء لثلاث وعشرين خلت من جمادى الآخرة سنة 1369 من الهجرة/الحادي عشر من نيسان 1950م في مدينة جدة من الحجاز. ودمت على هذا في تنقلي إلى مكة المشرفة والمدينة المنورة، وبلدان أخرى في الحجاز ونجد ثم في مصر والباكستان حتى انتهى العام الشمسي.
فالسانحات من أول يوم إلى يوم الأحد 22 شوال/6 آب كتبت في الجزيرة العربية، ومن اليوم التالي - يوم سفري إلى مصر - إلى أن ركبت الباخرة إلى الإسكندرية قاصدا باكستان يوم الجمعة 15 المحرم سنة 1370 كتبت في مصر.
ومخرت الباخرة عشرة أيام كتبت فيها سانحاتها بين البحر الأبيض وقناة السويس والبحر الأحمر وبحر العرب.
وبلغت كراچي يوم الإثنين 25 المحرم/6 تشرين الثاني، فما كتبت من هذا اليوم إلى العاشر من نيسان آخر العام فهو من خاطرات كراچي.
وقدرت لكل خاطرة صفحة من دفتر اتخذته، ولكن اختلفت السطور طولا وعددا باختلاف الخطرات فلم تتساو الصفحات.
وكتبت كل يوم صفحة، إلا أياما صرفت فيها عن الكتابة فقيدت الفكرة في رأس الصفحة حتى يتيسر بيانها.
وأياما قليلة فاتتني كتابة الصفحة وتسجيل الفكرة فتداركت ما فات بعد قليل. •••
اجتمع لي عدد أيام السنة الشمسية خاطرات سميتها «الشوارد» وحرصت على المسارعة إلى نشرها، ولكن عدا الزمان ، وكرت الأيام، فإذا عام يمضي قبل الطبع، ولو قيدت سانحاته لائتلف كتاب آخر.
فأخذت للنشر أهبته وسارعت إلى طبع الشوارد في مطبعة العرب من مدينة كراچي تعجيلا لإخراج الكتاب وإيثارا لإشرافي على طبعه تحرزا مما يلحق بالكتب حين تطبع في غيبة أصحابها.
وها أنذا أزف إلى قراء العربية بنات الأفكار، وربائب الليل والنهار، أجلو هذه السانحات، وأعرض هذه الخاطرات؛ آملا أن تجد من العناية كفاء الصدق الذي أملاها والإخلاص الذي ألحمها وأسداها.
وحسبي الله وكفى.
عبد الوهاب عزام
كراچي رابع رمضان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة
29 أيار 1952م
فاتحة
يدور الفلك وتمر السنون، وتعدو بنا الأيام، والإنسان مشدوه بعدوها، يكاد يغلب على عدها، وهو كراكب السفينة الباخرة السريعة، ينظر وراءها فإذا البحر مزبد والماء مسرع وإذا صفحة من اللج بعد صفحة، ولجة من البحر بعد لجة، لا يستطيع توقفا ولا تريثا، ورحم الله الشاعر أسد الله غالبا يقول:
1
أسوم جواد العمر ريثا وما له
ركاب برجلي أو عنان بأنملي
ومن مات كمن سقط على اللج، تجوزه السفينة، ويبعد عنه الراكب، وينأى عن البصر ثم عن الذكر.
وليس يثبت في هذا الجريان إلا عمل صالح يبقى سنة في الحياة، وإلا قول طيب يبقى هدى للأحياء.
فمن شاء ألا تمضي به الأيام سدى فليجتهد أن يباري الأيام ويسابق الزمان؛ مسارعة إلى الخيرات، وبدارا إلى الحسنات، بكلمة طيبة أو عمل صالح أو علم ينفع الناس أو فكر يضيء في أرجاء هذه الأرض.
إن الإنسان ليغفل فيعطل فكره أو يده؛ ولكن الأيام لا تقف والفلك لا يغفل، فاجهد ما استطعت أن يدأب فكرك ويدك نصرة للحق وفعلا للخير.
الثلاثاء 23 جمادى الآخر/11 أبريل
الشوارد
كل يقول: لي، وليس من يقول: علي!
تملأ الأرض صيحات المطالب، كل واحد يقول: حقي فأعطوني! وكل طائفة تقول: غبنت فزيدوني! وكل أمة تنادي: أنا أريد مالي فلا تلوموني!
ولا تسمع من يقول: هذا ليس لي وهذا حق غيري، ولا تجد من يقول: أخذت حقي فلا أستزيد، وفلان مغبون فهو أولى بالمزيد.
ذلكم بما تسلطت الشهوات وغلبت الجثمانيات، وانقلب الإنسان حيوانا لا يعف ولا يعدل، كل من اشتهى شيئا سعى إليه، وكل من رغب في أمر طمع فيه، والجسم لا يعترف إلا بلذاته، والهوى لا يبالي بغير نزواته.
فأيقظوا الأرواح وعلموها العدل والإباء والكرامة، وأن في الحياة أمرا وراء البدن، وأن في اللذات لذة غير جثمانية، وأن للناس مطالب روحانية. بصروا الناس بالحياة الكريمة لتسمعوا من يقول: هذا أستطيعه ولا أفعله، وهذا أعطاه ولا أقبله، وهذا ينفعني ولكن أنفر منه.
حينئذ يقول الإنسان: واجبي، قبل أن يقول: حقي. ويقول: حقي وحق غيري، ويقول: هذا لغيري، كما يقول: هذا لي. ويومئذ يجمع الناس الحق بعد أن باعد بينهم الباطل، ويؤلفهم العدل بعد أن فرقتهم الأهواء، وتلفهم المحبة بعد أن نفرتهم البغضاء.
الأربعاء 24 جمادى الآخر/12 أبريل
الحق يجمع والهوى يفرق
الحق في كل أمر محدود، والباطل كثرة لا تحد. والعدل في كل قضية واحد، والهوى نزعات لا تعد.
فإذا أخذ الناس بالحق اجتمعوا وإذا آثروا الباطل تفرقوا، وإذا قضوا بالعدل ائتلفوا، وإذا مالوا إلى الهوى تباغضوا.
وإن ما تسمع وترى من خصام وافتراق، وبغض وشقاق، وجدال ومراء، وتنافر وعداء، كل أولئك مما آثر الناس الباطل، ومالوا مع الهوى.
ودواء هذا الداء أن يعرف الناس الحق ويبصروا به ويرغبوا فيه حتى يحبوه فيؤثروه، وأن يعلموا العدل ويمرنوا عليه حتى يطيعوه، وأن يكشف لهم الباطل في شناعاته والجور في سيئاته، ويبين لهم كيف شقي بهما الناس وخرب بهما العمران.
فسروا للناس هاتين الآيتين بالقول والعمل:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله .
الخميس 25 جمادى الآخر/13 أبريل
شقاء المرأة في هذه المدنية
يحسب بعض الناس أن المرأة سعدت بهذه الحضارة التي تعيش فيها، وحليت بهذه الزينات التي تحملها. ولا أنكر أنها نالت أشياء من الحرية والمرح واللهو ، وأنها خلصت من كثير من العادات السيئة والمظالم البينة؛ ولكني أرى أنها نعمت بهذه الحضارة من وجه وشقيت من وجوه كثيرة، وحسبي في هذه الكلمة أن أعرض لوجه واحد:
كانت المرأة تملك الرجال بتصونها وحيائها، وكانت لا تكشف إلا عن وجهها، ولا يكون هذا إلا في مجامع ضيقة، وكان لها زينة يسيرة هي أن تقرب وجهها من الجمال الطبيعي بصنعة يخيل إلى الرائي أنها طبيعية.
فسفرت المرأة عن وجهها وغير وجهها، وغشيت المجامع كلها، وتزينت على وجوه من الزينة لا يحصيها العد ولا تحدها محاكاة الفطرة الجميلة، فصارت في معرض ينظر فيه إلى جسمها كله، وألزمت أن تنافس في ضروب من الزينة يضيق عنها الوقت والمال، فهي في شغل دائم بالتزين في المجلس والطريق، وهي بعد العناء في جمع المال وإنفاقه في الزينة وإضاعة الوقت فيها، والإشفاق من أن تبور في المعارض الدائمة التي تغشاها في الدور والمجامع والملاهي والطرق، هي بعد هذا كله تطلب السعادة فلا تجدها، وتبعد عن الفطرة ولا تقرب منها، وتتبذل فلا تسيطر على الرجال سيطرتها الأولى، وتفقد كرامتها من حيث تحسب أنها تحفظها.
ثم إذا كبرت المرأة لم تنفعها الزينات ولم تظفر بوقار الكبر، فهي في قبحين من الكبر والصناعة، وفي غمين من التزين والبوار.
إن هذا لمسخ في العقول يتجلى في مسخ الأبدان والأزياء.
الجمعة 26 جمادى الآخرة/14 أبريل
الناس عبيد الواقع
أقطع حجة عند الناس الواقع، إن تجادلوا في أمر أجائز أم غير جائز، أو نافع أم ضار، أو جميل أم قبيح، فقيل: إن جماعة فعلته أو واحدا من الكبراء أتاه؛ كان لهذه الحجة في الجدل ما ليس لقضايا العقل وأحكام الوجدان، وعدت من «السوابق».
وقد شاعت سياسة الأمر الواقع في هذا العصر، تعمد إليها حكومات أو طوائف أو آحاد، فيما يشجر بينها وبين غيرها من نزاع، فيقال: قابله بالأمر الواقع أو وضعه أمام الواقع. والحق أن المفكر المعتد بفكره المعتز بنفسه، لا يرى في الواقع حجة؛ فكم من واقع هو زور أو جور أو ضرر . إن جهاد المصلحين في الأمم أكثره لإزالة الباطل والشر؛ أي إزالة الواقع المكروه وإثبات النافع. ولعل أكثر ما يميز أمة من أمة، وإنسانا من آخر هو الخضوع للواقع أو الاستكبار عليه؛ الأمة الجاهلة الضعيفة ترى الواقع أوضح حجة من أن يجادل فيه، وأرسخ أساسا من أن يطمع في هدمه، والأمة العالمة القوية يستوي في رأيها الواقع وغير الواقع، ويلتقي في عزمها ما وقع وينبغي أن يزول، وما لم يقع وينبغي أن يكون، هذا تمحوه وذاك تثبته، وإنما مرد الأمر في القبول والرد أو الاستحسان والاستقباح هو إدراك النفع في الأمر أو الضرر. فلا ينفع ما تكرهه أن يقع ويتكرر وقوعه ويدوم أثر الوقوع أجيالا، ولا يضر ما تقبله أنه لم يقع ولم يألفه الناس فهم يعجبون منه وينفرون، أو يعترضون فيه ويحادون.
هذا عندي قياس الأمم والآحاد في عقولها وعزائمها، لا الذي أدركه أبو الطيب في طباع الناس حين قال:
كل ما لم يكن من الصعب في الأن
فس سهل فيها إذا هو كانا
السبت 27 جمادى الآخرة/15 أبريل
بين الحقيقة والخبر
قل أن أرى واقعة، أو أشهد مجمعا ثم أقرأ عنهما في الصحف إلا وجدت زيادة أو نقصا أو تحريفا أو كذبا.
فإذا قست ما لم أشهد على ما شهدت يتبين أن أكثر الأخبار والأوصاف تشتمل على تغيير ظاهر أو خفي، وتحريف على خطأ أو تعمد، وضلال على جهل أو علم، ويجني الناس في العاقبة ما يجره عليهم الكذب أو التضليل أو الخطأ.
فليتق الله المخبرون والراوون، ويتجنبوا التحريف والتبديل، ويحملوا أنفسهم على تحري الحق خالصا، ووصف الواقع بينا، ويتثبتوا قبل أن يقولوا ويتبينوا قبل أن يسجلوا. وليتهم القارئ المخبر أو الراوي، ويحذر تضليله أو تهاونه أو نسيانه أو غفلته، ولا سيما فيما يزيد التهمة فيه عصبية الراوي وتحزبه، أو سيرة له في التحريف والكذب، أو كلف عرف عنه بإثارة الفتنة، أو ولوع بالإغراب والإطراف. فكم أثار خبر فتنة، وأضل راو تاريخا!
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا .
الأحد 28 جمادى الآخرة/16 أبريل
من لم تشغله العظائم شغلته الصغائر
الفكر لا يفتر، واللسان لا يصمت، والجوارح لا تسكن، فإن لم تشغلها بالعظائم شغلتها الصغائر، وإن لم تعملها في الخير عملت هي في الشر.
إن في النفوس ركونا إلى اللذيذ والهين، ونفورا من المكروه والشاق، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع، ورضها وسسها حتى تألف جلائل الأمور وتطمح إلى معاليها، ثم تنفر من كل دنية وتربأ عن كل صغير. علمها التحليق تكره الإسفاف، وعرفها العز تنفر من الذل، وأذقها اللذات الروحية العظيمة تحتقر اللذات الحسية الحقيرة.
في النفوس رفعة وضعة، وفيها عفة وشره، وخير وشر، وفجور وبر، فأيقظوا فيها عواطف الخير، وتعهدوا فيها جوانب البر، ولا تدعوها لنزعاتها فتسف وتخلد إلى الأرض، وترض بالدنية وتسكن إلى الهين اللذيذ، حتى يستعصى داؤها، ويصعب شفاؤها.
الإثنين 29 جمادى الآخرة/17 أبريل
الإنسان صغير بجسمه كبير بروحه
الإنسان ضئيل الجسم، ضعيف القوى، محدود العمر، ولكن آماله لا تحد، وطموحه لا ينتهي. يحاول أن يدرك كل شيء، ويسيطر على كل شيء.
وطعامه وشرابه ولذاته الحسية، وقدرته على العمل لها حدود قريبة؛ فلذة الطعام تنقلب عيفا حين يشبع، والرغبة في العمل تصير نفورا حين يكل، وقدرته على الشيء في حال تحول عجزا في أحوال. ولكن شغفه بالمعرفة ونزوعه إلى الاطلاع، ولذاته الروحية التي يدركها في كل جميل حسي أو معنوي وينالها في الحب على كثرة أشكاله وضروبه، كل أولئك غير محدود؛ لا يحده زمان ولا مكان ولا حال. فالإنسان إذن صغير بجسمه وصورته وما يتصل بالجسم والصورة، غير محدود بروحه ومعناه، وما يتصل بالروح والمعنى.
روح الإنسان موصولة بالله سبحانه، والله هو الأول والآخر والظاهر والباطن المحيط بكل شيء الذي لا يحيط به شيء.
فليدرك الإنسان هذه الصلة ويقدرها، ويجتهد أن يعلو بها على الحدود الحسية والقيود الجسمية، حتى يتصل بالمعاني الجميلة العامة المتلائمة، وينفصل من المعاني القبيحة الجزئية المتنافرة؛ ليطمح إلى غير المحدود ويخلص من سجن الزمان والمكان وقيود الأحوال والأشكال.
الثلاثاء 1 رجب /18 أبريل
النظام والإتقان
أزمعنا سفرا طويلا، وعزمنا على التبكير به. ولم يكن السفر فجاءة، فقد روينا فيه وتأهبنا له، ولكن أخرنا الإهمال والإمهال حتى خرجنا والساعة أربع نهارا (قبل الظهر بأقل من ساعتين)! وإنما أخرنا التهاون والاستخفاف بالمواقيت، بل إعواز النظام، والنظام قوام الأعمال كلها.
هو في الزمان إحكام المواعيد والمحافظة عليه وتأدية كل عمل في حينه، وحين كل عمل موقوت بأسبابه ودواعيه. وتأخير العمل عن حينه تضييع للفرصة، وإخلال بالعدة ووضع للأمر في غير موضعه، وأن تضيع وقته لتزحم به وقتا أعد لغيره ولم يهيأ له.
والنظام في المكان وضع كل شيء في موضعه، وإحلاله محله المهيأ له والذي ييسر وجدانه والانتفاع به.
والنظام في الفكر أن تتسلسل المقدمات على ترتيب حتى تفضي إلى نتائجها.
والنظام في النفس أن تسير على قوانين لا تحار ولا تتردد.
والنظام في الجماعة ائتلاف أفرادها على قانون جامع، وتعاونهم على أمر مقدور؛ لتعمل متعاونة غير متخاذلة ومتآلفة غير متصادمة.
وكذلك النظام في الخليقة كلها. أحسب النظام - وإن شئت فسمه الوئام والوفاق والحب والسلام - قوام كل الأمر في الخليقة وفي نفس الوحدان والجماعات والأمم، وفي أقوالها وأفعالها وسياساتها.
تأمل تجد الأدلة قائمة والحوادث في الأنفس والآفاق شاهدة.
الأربعاء 2 رجب/19 أبريل
بركة الحاج
أجلس الآن على حافة بركة الحاج في الطريق إلى مهد الذهب؛ وهو إلى الجنوب والشرق من المدينة على مسيرة 270 كيلا، وهنا مفترق طرق ذاهبة إلى المدينة ومكة والطائف ونجد والعراق. أفكر كم ورد هذه البركة من حجاج الأوطان والأزمان، وكم عكس الماء من صور وأروى من غلة ورحض من دنس! ثم ذهبت الأشباح والظلال، ورحلت القوافل ثم تفرقت، ثم مضى بركبها الزمان المتدفق في مجراه من أزل الله إلى أبده.
وأكرهت نفسي أن تعدل عن حديث التاريخ والذكر والعيش والموت والفناء والبقاء إلى هذا المرأى الحي النضير؛ في هذه الصحراء ماء جار بجانب حرة يتوغل في أصول الشجر حتى يكل عنه البصر. شغلني هذا الجمال حينا ثم عدت أفكر، قلت: إن هذا الماء الذاهب سدى في هذه الأرض، لا يجد من يعنى به وينظر كيف ينتفع به، ولو وجد من يفكر ويعمل لكان له منافع، أيسرها أن يبنى له حوض كبير غير هذه البركة العتيقة ليسقى به زرع وشجر، ثم يروق بعضه ليستقي منه من يمر من الحجاج في الموسم، وكل من يمر به طول السنة. وليس محالا أن يبنى هناك فندق أو منزل يأوي إليه المسافر لينعم بالماء والظل والراحة والسكون، بعد العطش والضحا والتعب والجهد.
إنه أمر يسير ولكنا لا نفعل كل يسير. إن الأمريكان مهدوا الطريق الذي أدى بنا من جدة إلى هذه البركة؛ لأن لهم شركة تستخرج الذهب من مهد الذهب، وهذه البركة في طريقنا إلى المهد. ولكنا لم نمهد الطريق إلى المدينة وهو طريق الحاج من أقطار شتى، والمدينة أعز عندنا من ألف شركة. فليت شعري متى ندرك فنعزم فنعمل فنبلغ ما نريد! (انظر وصف البركة في الرحلات الثانية في الفصل من جدة إلى المدينة.)
الخميس 3 رجب/20 أبريل
مهد الذهب
قدمنا المهد؛ مهد الذهب البارحة فرأينا دورا مهندسة وطرقا معبدة قليلة بأعدادها كثيرة بحقائقها، صغيرة بأشكالها كبيرة بمعانيها. قرية صغيرة نشأت على سفح جبل من جبال الحجاز القاحلة، وأمدها العلم والعمل من النور والماء ووسائل الترويح والتدفئة والتبريد بما يكفل النعيم لسكانها.
ثم رأينا معدن الذهب وشاهدنا كيف تخرج الحجارة فتكسر فتسحق فتخلط بمواد تخلص الذهب من غيره. وأبصرنا كيف تتقلب المادة بين السيلان والجمود حتى تنتهي إلى طينة مسودة ربعها من الذهب وفيها من الفضة والنحاس والزنك. وعرفنا كيف تعمل الآلات في هذا عمل الفكر واليد.
ورأينا الآلات المكهربة الضخمة وآلات الترويح التي ترسل الهواء إلى طبقات المعدن. وهبطنا أربعمائة وخمسين قدما إلى طبقة من المعدن سرنا في سراديبها نرى عروق الذهب يتتبعها العمال فينحتونها ... وهلم جرا.
رأيت هذه الدور وهذه الآلات والعدد، فقلت: إنه العلم والخلق؛ العلم يكشف للإنسان المقصد والسبيل، والنظام يجمع العقول والأيدي على العمل، والعمل يمضي بالإنسان في سبيله، والعزم يثبته عليها . فإن جهل الإنسان فلم يعلم، أو علم ولم يعمل، أو عمل ولم يدأب، أو ثابر فلم يتعاون هو وغيره؛ انقطعت به السبل ولم يبلغ من العيش ما يشتهي.
الجمعة 4 رجب/21 أبريل
الشيوعية
ليست الشيوعية فيما أرى إلا النزول بالإنسان إلى مستوى الأنعام، على أن يوعد الطعام والشراب. فهي سلب للإرادة وقسر للناس على آراء وأفعال لا تدع للحرية مجالا، ونصب أصنام من البشر تعبد قسرا، بعد الكفر بالله.
وهي حرمان الإنسان من كل عاطفة كريمة من العواطف التي تنشأ في الأسرة وتنشئ الإنسان على الحب والود والرحمة والإيثار، وفي هذا تقريب من البهيمية كذلك.
وهي إهدار للأخلاق التي جاهد البشر أجيالا بعد أجيال ليمكنوها في الأنفس والجماعات. وهي حرب على الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالله منبع كل خير في هذا العالم.
ولو رجعت الشيوعية إلى أصول في عقل الإنسان وقلبه ما احتاجت إلى الجبروت يحرسها، والقسر يسوق الناس إليها، والكذب يروجها، والشهوات تغري بها. ألا إن الخير كل الخير أن يفعل الناس الخير باختيارهم محبة ومواساة وإيثارا، وأن يسيطر القانون فيأخذ ممن وجد لمن لم يجد، وممن قدر لمن عجز، على شريعة من الأخوة والحب والاختيار لا من البغض والعداوة والإكراه.
السبت 5 رجب/22 أبريل
الشيوعية أيضا
أمر في الدعوة الشيوعية عجيب؛ هو ولوع اليهود بها، وسعيهم لها، واليهود عباد المال وعبيد الذهب! لما دعاهم السامري إلى الوثنية صنع لهم عجلا من الذهب فعبدوه، وهم أصحاب الأموال في العالم اليوم، والكانزون لها، والمتجرون فيها، والمرابون بها، فكيف يجمعون بين عبادة المال وكراهته، وبين جمعه وتحريمه؟!
إن اليهود إنما يريدون بالدعوة الشيوعية في العالم، وفي بلادنا خاصة، أن يزلزلوا نظامها ويمحوا سننها، ويشيعوا البغض بين جماعاتها، وينشروا الفوضى فيها، ولهم في هذا كله مآرب، كما نشروا الشيوعية في أول أمرها ليزلزلوا الأمم التي اضطهدتهم، ويبلغوا في فوضى الشيوعية وفتنتها مآربهم. فليحذر الأغرار مآرب اليهود فلا يخدعوا عن دينهم وسنتهم ونظمهم باسم الحرية والمساواة والمواساة، فإنما هي أيد يهودية مدمرة وعقول يهودية ماكرة ، وما يريد اليهود إلا خير أنفسهم وإن أفسدوا العالم كله لمآربهم.
ألم ينشط للدعوة الشيوعية في مصر أناسي من اليهود الأغنياء كل أملهم وهمهم في الحياة كنز الأموال؟! وأمر آخر، هو ألا تجد طائفة شيوعية إلا فيها نساء جميلات يستهوي الدعاة بهن الشبان، ويرونهم الشيوعية عيانا في المرأة ليؤمنوا بها اعتقادا في المال. ولو رجعت إلى أصل في عقل الإنسان ووجدانه، ما احتاجت إلى الإغراء بالمال والنساء، والتضليل والاستهواء، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
الأحد 6 رجب/23 أبريل
الكلمة الطيبة والعمل الصالح
دار حديث في تبدل الأحوال وسرعة تغيرها: العالم في تغير مستمر، والأمم في تحول مضطرد، والإنسان لا يلبث على حال، ليس لشيء ثبات ولا لأمر بقاء.
منع البقاء تقلب الشمس
وطلوعها من حيث لا تمسي
قلت: أجل! ولكن أمرا واحدا لا يحول ولا يزول، هو الحق؛ الحق الذي يسير قوانين هذا العالم المتغير، ويفنى في بقائه كل شيء، وتحول على ثباته كل حال، فلا تخدعنكم الصور الحائلة الزائلة، فإن وراءها حقائق دائمة عمادها الحق الباقي الذي لا يزول.
ومن هذا الحق الكلمة الطيبة تتداولها الأجيال بعد الأجيال، مزهرة مثمرة مظلة، والعمل الصالح تسير على سنته القرون بعد القرون، وهو طريق بين لاحب مضيء يهتدي عليه الناس ويأنسون به، ويركنون إليه، ويبلغون به المقاصد.
الإثنين 7 رجب/24 أبريل
آدابنا
الطرق والمجامع مظهر أخلاق الناس وآدابهم، فيها يتعلم الناشئة، ومنها يشيع الصلاح والفساد، وبها يعرف ما في أمة من نظام وفوضى، ومعرفة وجهالة، وألفة وفرقة، وتعاون وتخاذل، ومحبة وبغضاء.
وإن طرقنا ومجامعنا لا تبشر بالخير، وهي حرية أن تنال عناية المفكرين، واهتمام المسيطرين، وتفكير المربين.
ترى في الطريق والمراكب العامة والمجامع؛ مجامع اللهو أو العلم، وقاحة في وجوه لا حياء فيها، وتسمع بذاءة في ألسن لا آداب لها، وترى من هيئات الجلوس والقيام والمشي ما لا يوقر فيه صغير كبيرا ولا يرحم كبير صغيرا.
ربما ترى أستاذا جليلا جلس إلى جانبه في مركبة عامة تلاميذ صغار لا يرعونه في حركة ولا كلمة، وترى شبانا يدخل عليهم الشيوخ فلا يوسعون لهم في المجلس، بله أن يقوموا لهم.
كل أدب يعلمه البيت أو المدرسة ضائع في طرقنا ومجامعنا، ولا صلاح ما لم يعن بالآداب العامة، ويؤخذ المخلون بها بالحزم والبطش.
لا بد لنا من محتسب مسلط يردع السفهاء، ويحمي العقلاء، وتربية تملأ الأنفس بالأدب والحياء فإننا نسير سيرة يعرف العاقل غايتها ويخشى الحكيم نهايتها.
الثلاثاء 8 رجب/25 أبريل
مغارس الجرائم
تمر أحيانا على قهوة في حي من مدينة، فترى شبانا جالسين يضحكون ويصيحون ويتبعون المارة أنظارهم. تراهم أحيانا يلعبون بالأوراق مقامرين سرا وعلانية، وتجدهم ساهرين الليل يشربون المسكرات، أو تجدهم متنازعين متخاصمين، متضاربين، تعرف في وجههم المنكر، والاستهانة بالناس وقلة المبالاة بالآداب، وترى شعرا طويلا أشعث، ووجها كالحا أغبر، وعينا أمرضها السكر والسهر. وكثيرا ما ترى هؤلاء سائرين في الطريق حربا على الأخلاق، وجناية على الآداب.
هؤلاء فيما أرى لا يجلسون مجالسهم هذه ليلا ونهارا إلا دبروا لجريمة يرتكبونها، أو ثارت في أنفسهم جريمة يصيب بها بعضهم بعضا، أو أوحوا إلى الأنفس الإجرام والإفساد. كلما رأيت هؤلاء أو تخيلتهم رأيت بؤرة من بؤر الشر، ومنبعا من منابع الفساد، وسميت مجامعهم هذه «مشاتل الجرائم». والحكومة تستهين بأمرهم ولا تعنى بهم، والناس عنهم غافلون، ولكنهم يحصدون كل حين ما يزرعون.
الأربعاء 9 رجب/26 أبريل
دهان على وبر
يقال في المثل للدواء الذي لا ينجع؛ لأنه لا يصيب موضعه، ولا يتجاوز الظاهر إلى الباطن: إنه دهان على وبر؛ والمعنى أنه كطلي الجمل الأجرب على وبره، والدهان لا ينجع ما لم يقع على جلد الحيوان.
وأنت تقرأ كل يوم عن جرائم كثيرة، ومخاز شتى تدل على مرض في النفوس أو في الجماعة أو خلل في نظامها. وترى كيف يتتبع الشرطة الجناة حتى يأخذوهم، وكيف يمسكهم القانون حتى يعاقبهم، ولكن سيل الجرائم لا يكف، وسلسلة المخازي لا تنقطع.
إن الشرطة والقضاء يخيفان ولا يصلحان، ويعاقبان ولا يربيان، ويأخذان المجرم بما اجترح إن ظفرا به، ولا يداويان المرض الذي ينشئ الجرائم.
الشرطة والقضاء يعددان الحادثات ، ويعاقبان عليها، ولكن الأمة لا تعنى بالتأمل في أسبابها، ولا تعمل للقضاء عليها، وكفاية الناس شرها. وإنما يكفى الناس شرها بالمداواة لا بالمجازاة.
ستزداد الجرائم على رغم الشرطة والقضاء إن لم تعالج مصادرها في النفس وفي سنن الجماعة، ستزداد إن لم يتصل الدواء بالجسم باطنه وظاهره؛ إن اكتفينا بهذه الوسائل التي هي دهان على وبر.
الخميس 10 رجب/27 أبريل
المعبد الأكبر
في الناس من يعتزل مشاغل العيش ويأوي إلى داره معتكفا متعبدا بعيدا من الشر والإثم. وليس شيئا أن يعتزل الإنسان الناس فيتعبد، إنما العبادة الحقة أن تدفع في مضايق الحياة ومعاركها، وتمارس فتنها ومطامعها، ثم لا يقطعك شيء من عبادة الله آخذا بالحق قائما بالقسط.
إن العالم هو المعبد الأكبر، فما أثرت فيه من عمل صالح، وما قلت فيه من كلمة طيبة فهو عبادة، وكل ما تسن للناس من سنة حسنة، وكل ما تهديهم إليه من رأي سديد عبادة يحبها الله ويدعو إليها الدين. فاتخذ هذا العالم معبدا، واسع فيه إلى الخير أبدا، وأصلح ما استطعت. فإن تفعل؛ فأنت في عبادة دائمة، ليلك ونهارك، وأنت في ذكر لا تفتر سرك وجهرك، وصلاة لا تنقطع يجزي الله بها عباده الحسنى وزيادة.
الجمعة 11 رجب/28 أبريل
السفر
قطعنا منذ أيام المسافة بين جدة والمدينة من طريق مهد الذهب، وهي ستمائة وخمسين ميلا في ثلاثة أيام. وبتنا في الطريق ثلاث ليال، ورأينا كثيرا من الناس والحيوان والشجر والجبال، واجتزنا حزونا وسهولا، وعبرنا سيولا ووطئنا أرضا ممطورة تتخللها غدر صغيرة.
واليوم خرجنا من المدينة نؤم جدة من الطريق الغربية؛ طريق رابغ، ولم يخل السير في هذه الطريق من استفادة على كثرة ما قطعت هذه الطريق قبل جيئة وذهوبا.
ولو سافرنا إلى المدينة وعدنا منها بالطائرة ما رأينا على الأرض إلا جبالا وأسودة لا ندري ما هي. ولو سرنا هذه الطريق على الإبل مرة واحدة لعرفنا من الأرض والماء والشجر والناس أكثر مما عرفنا في الأسفار المتوالية.
لماذا يعجل الناس بالطيران إلى غير ضرورة ، فيحرموا أنفسهم علما وتجربة ومتاعا ورياضة؟
إن في السفر بالطائرة بلوغ مقصد، وفوت مقاصد، وإن التمس المسافر الراحة فحسب، فالإقامة في الديار وترك الأسفار هي الراحة الكبرى لا محالة. إن الطائرة مركب الضرورة، فمن أعجلته الضرورة فليتوسل بها وإلا فخير أن نسير على الأرض أو البحر فنستفيد فوائد الأسفار.
السبت 12 رجب/29 أبريل
بعد الحضر عن الطبيعة
خرجنا من المدينة المنورة قبيل العصر نؤم جدة فأدركنا موضعا اسمه البستان، وقد مضى من الليل قرابة أربع ساعات فآثرنا المبيت؛ فنزلنا ومهدنا فرشنا تحت السماء الصافية المصحية، نرى النجوم شارقة وغاربة، ومطلة على الجبال وكانسة وراءها، وباتت الكواكب والبروج في جمالها وجلالها تسامرنا، وذهب التأمل مذاهبه في صورها ومعانيها.
ونمنا على نية المسير بغلس، وقمت قبل الفجر فإذا أحد الرفاق يوقظ الركب صائحا: قوموا لقد غاب القمر، وأوشكت الشمس أن تطلع! وجعل يكرر هذا القول ويؤكده حسبانا أن غروب القمر يعقبه طلوع الشمس، فضحكت وقلت: ياهذا إن القمر يغرب بالليل والنهار، ويغيب قبل طلوع الشمس وبعد طلوعها. ثم قلت لنفسي: لقد قطع الحضر الناس عن الطبيعة وحجبهم عن السماء، فقل من يعرف من أهل المدن أسماء النجوم والبروج وسيرها في أفلاكها واختلاف مواضعها باختلاف أيام السنة وساعات الليل، ولكن البادية يعرفون هذا كله ويهتدون به سائرين، ويوقتون به مقيمين.
سألت بدويا في الحجاز عن نجم فقال: هو الجوزاء، وأشار إلى آخر قريب منه وقال: هذا المرزم، ثم أشار إلى الأفق الجنوبي وقال: وهذا سهيل، وأخذ يحدث عن سهيل وأوقات طلوعه وصلته بالجو وأثره في الإبل.
ينبغي ألا تقطع الحضارة الناس عن الطبيعة في سمائها وأرضها، وعن الطبيعة في أجسادهم وأنفسهم، ففي البعد عنها ضعف الأنفس والأجسام وضيق الأخيلة والأفهام.
الأحد 13 رجب/30 أبريل
من المهد إلى اللحد «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد.» إن لم يكن من أحاديث النبي
صلى الله عليه وسلم
لفظا فهو من أحاديثه معنى؛ هو يلائم مقاصد الإسلام وأوامره وسننه وتاريخه. طلب العلم عند المسلمين عبادة، طلب العلم كله؛ ما تستقيم به الدنيا وما يستقيم به الدين. كذلك كانت مساجد المسلمين مدارسهم، ولم تكن مدارس للفقه والتفسير فحسب، ولكن كانت مدارس لكل ما وعى المسلمون من العلوم الشرعية والعربية والعلوم العقلية من الطب والرياضة والفلك وهلم جرا.
وقد سار المسلمون في تقديس العلم سيرتهم، وأمضوا في طلبه أعمارهم، ودعوا إلى طلبه من المهد إلى اللحد.
سئل شبيب بن شيبة: هل يحسن بالشيخ أن يتعلم؟ فقال: ما دام يحسن به أن يعيش يحسن به أن يتعلم.
وقال علي بن عيسى الولوالجي: دخلت على أبي الريحان البيروني وهو يجود بنفسه قد حشرج نفسه وضاق به صدره، فقال لي: كيف قلت يوما حساب الجدات الفاسدات (يعني ميراث الجدات لأم)؟ قلت: أفي هذه الحالة؟ قال: يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرا من أن أخليها وأنا جاهل بها؟
هكذا نحن معشر المسلمين دعاة إلى العلم، عباد بالتعلم والتعليم، حراص على المعرفة دائبون في طلبها، شعارنا الآية الكريمة:
وقل رب زدني علما ، والآية الأخرى:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، والقول المأثور الذي نجعل له قداسة الحديث: اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد.
الإثنين 14 رجب/1 مايو
سير الزمن
كثيرا ما آخذ القلم لأكتب كلمة اليوم - بعد أن أخذت نفسي بكتابة هذه الصفحات على الأيام - فأجد صفحات بيضاء لأيام ماضية فأتذكر ما قلت قبلا:
يقلب الزمان من أيامه
أسرع من تقليبنا أوراقنا
وأقول لنفسي: كلمة لا تشغلني إلا دقائق قليلة، وأنا أحرص عليها ولا أستطيع أن أسجلها في أربع وعشرين ساعة ولا أقوى على مسابقة الزمان فيها، ما أصعب تأدية العمل في حينه والمثابرة عليه! ما أصعب هذا على من استسلم للشواغل وسار مع التيار! وما أيسره لمن عزم عليه ومرن فيه!
ما أعظم هذا أثرا في حياة الإنسان وعمله، وما أدله على إنجاحه وإخفاقه! لعل أكبر فارق بين أمة وأخرى، وإنسان وإنسان، تقسيم الأعمال على الأوقات، وإنجاز كل عمل في وقته.
كم يضيع من أعمارنا - أممنا وآحادنا - في عمل يؤخر ثم يركم بعضه على بعض فيهمل، أو يدرك بعد وقته، وبعد أن يكلفنا من الانتظار والبحث والقلق والنصب ما لا يكلف عشره أو عشر عشره لو أنجز في وقته! لا تؤخر عمل يومك إلى غدك، ولا عمل صباحك إلى مسائك ولا عمل ساعة إلى ساعة، لا تبطئ والزمان عجلان، ولا تنم والدهر يقظان.
الثلاثاء 15 رجب/2 مايو
الاستسلام للتيار
الناس مولعون بالمحاكاة، كلفون بمسايرة من هو أعظم منهم، مستكينون إلى الواقع، وقليل من الناس يستطيعون الخلاص من سلطان المحاكاة، وحكم العرف وسيطرة ما وقع.
هؤلاء هم المصلحون الذين تنجبهم الأمم بين الحين والحين، لتقويم المعوج وإصلاح الفاسد والخروج على سلطان الواقع والثبات في مجرى الحادثات. وكثير من الناس يحسبون أنهم أحرار وهم في الواقع مستعبدون، يخرجون على مذهب أو عرف؛ لأنهم قد استعبدهم مذهب أو عرف آخر. ومن هؤلاء بعض المعاصرين في أمتنا، يخرجون على أمتهم في رأي أو عادة ويصيحون أنهم أحرار مفكرون، وهم في الحق عبيد بهرتهم مدنية أوروبا وزينتها وفتنتها؛ ولهذا لا تجدهم يدعون إلى أمر مبتكر أو طريقة مبتدعة - بل إلى ما أخذوا من سنن أوروبا، ولو صدقوا في دعوى الحرية لأخذوا من أممهم وردوا، وقبلوا من أوروبا ورفضوا، واخترعوا أحيانا من عند أنفسهم ما يخالف هؤلاء وهؤلاء.
لقد خبرت كثيرا ممن يخالفون أمتنا في كل شيء، فإذا هم مستسلمون لأوروبا في كل شيء. ومن كبار كتابنا من دعا إلى مسايرة الزمان، ومن كبار رجالنا من قال لي وأنا أحاوره في الحسن والقبيح: إن الأحسن هو الواقع.
والخلاصة أن دعوة هؤلاء الأحرار هي استسلام للتيار، ونحن نقول: إنما يذهب التيار بالأشياء الجامدة والأجسام الهامدة.
الأربعاء 16 رجب/3 مايو
النساء المسلمات في قبرص
أذيع اليوم أنه قد حرم تعدد الزوجات بين مسلمي قبرص، وحرم زواج الأحداث، ومنحت المرأة حق التطليق.
وكثير ممن سمعوا هذا الخبر يحسبونه ثورة على الشريعة الإسلامية وتكريما للمرأة وتحريرا لم تظفر بهما من قبل.
فأما تكريم المرأة وتحريرها فقد سبق إليهما الإسلام سائر الأديان والشرائع . وأما تحريم تعدد الزوجات فهو ملائم لمقاصد الإسلام ما لم تدع إليه ضرورة، أو مصلحة للأمة. وأما منع زواج الأحداث فقد سبقت إليه مصر في غير خروج على الدين ولا مخالفة للشرع، وقد حرمه من قبل ملوك المسلمين في الهند حتى على غير المسلمين. وكذلك حق المرأة في الطلاق أقرته مصر مستمدة من الفقه الإسلامي لا من غيره، فللمرأة المسلمة في مصر أن ترفع أمرها إلى القاضي وتطلب التطليق وتبين مسوغاته، وللقاضي أن يطلق بعد النظر في حجة المرأة، وكثيرا ما طلق القضاة في مصر استجابة لطلب النساء. وأجاز الفقهاء أن تشترط المرأة حين العقد أن تطلق متى شاءت، وأجازوا لها بعد هذا الشرط أن تطلق بغير سبب، فليس في هذا كله ثورة على الشريعة أو إنالة المرأة ما لم تنله في الإسلام. ولكن المسلمين لا يعرفون الحق من شرعة الإسلام، وغير المسلمين بالجهل به أحرى، وهم فيه أوضح عذرا.
الخميس 17 رجب/4 مايو
سحر المرأة
نظرت في جريدة الأهرام اليوم إلى صور خمس نساء من نسائنا فنفرت من مرآهن لأول مرة، ثم عدت فسألت نفسي: ما هذا النفور؟ أهن دميمات؟ فتأملت في وجوههن فإذا وجوه مألوفة لا ينفر الرائي منها، وتأملت فإذا نفرتي من منظر ليس منظر نساء؛ ملابس لم تجعل للستر والصون، وشعر مشعث كرءوس الشياطين، ووقاحة في النظر لا يخالطها خفر النساء، وأصباغ ذهبت بجمال الخلقة وبعدت عن الطبيعة ... قلت: يا ويح للمرأة! لقد خدعت عن نفسها، وتزينت بما ليس بزينة، وخلعت حياءها؛ فخلعت جمالها وسحرها.
لو أن هؤلاء النسوة لبسن ملابس النساء وسفرن عن وجوه خفرات، كأنها أكرهت على السفور، يحيط بها ستر المرأة، ويغشى عليها سترها ودلالها، لبلغن من الروعة ومن إعجاب الرائي وتعظيمه ما فاتهن حين حسرن ونظرن غير خفرات ولا متصونات. وكم بذلن في هذا المرأى الذي حسبنه جميلا من عمل ووقت ومال، ثم ما ظفرن إلا بالبعد عن جمال المرأة وكرامتها، والبعد عن الفطرة التي كفلت للمرأة مكانتها وحرمتها، وما جنين إلا سوء الحال ونفور الرجال.
الجمعة 18 رجب/5 مايو
الحضارة الفاسدة
الإنسان في بداوته يصاحب الطبيعة، يتعرض لشمسها وهوائها، ويرد ماءها ويتتبع مراعيها، وينطلق في أرجائها يتخير منها مقامه ومرعاه. وهو كافل نفسه يحميها من حيوان أو لص، شاحذ قواه النفسية والبدنية ومهتد طريقه عارف مكانه وزمانه بالنظر في النجوم ومعالم الأرض.
والحضارة خير للإنسان إن أسكنته الدار، ولم تمنعه الشمس والهواء، وإن يسرت له الطعام والشراب، ولم تحرمه الحركة والنشاط، وإن حمته الوحش واللص، ولم تذهب بشجاعته وقوته واعتداده بنفسه، وإن آوته ولم تقطعه عن الخليقة المحيطة به؛ برها وبحرها وجبلها وسهلها، وكواكبها ونجومها.
لا أرى أضر بالإنسان من الحضارة الفاسدة؛ تنقله من سعة الطبيعة وشمسها وهوائها إلى الدور التي تشبه القبور، أو تقتله بالطعام والشراب والكسل والدعة والترف، أو تضعف حسه وعقله بالبعد عن مرائي الطبيعة ومسارحها في السماء والأرض، أو تذل نفسه وتحبس فكره وتذهب بكرامته بسلطان جائر وقانون فاسد.
إن تكاليف الحضارة الصحيحة ثقيلة وشروطها كثيرة، فالأمة التي لا تحمل هذه التكاليف ولا تفي بهذه الشروط تحرم مواهب الطبيعة، ولا تعوضها عنها العلوم والصناعات. البدوي أرغد عيشا وأقرب إلى الإنسانية في كل شيء، ممن يعيش في حضارة فاسدة وبيئة راكدة.
السبت 19 رجب/6 مايو
إضراب عمال المصاعد في شيكاغو
أذيع أن عمال المصاعد في شيكاغو أضربوا عن عملهم؛ فعجز كثير من الناس عن مغادرة مساكنهم وتراكمت القمامة فيها.
وإن أضرب عمال الكهرباء تعطلت المصانع، وأظلمت دور، ووقفت مراكب، وعجز ناس عن طهو طعامهم. وإن تعطلت مضخات المياه أصاب الناس العطش ودنست الأجسام والثياب والأواني والدور. وإن سدت مجاري الفضلات أو اختلت آلاتها غرقت دور، وامتلأت سبل بالقاذورات.
وإن كفت الشرطة عن حراستها، أو أبطلت المحاكم في بلدة أكل القوي الضعيف، وعدا الفاجر على التقي، فهذا وأمثاله لا يحتاج إلى تعديد وتبيين هو من شروط المدنية وقيودها، ومن نتائج اصطناعها وتراكبها. والبداوة في غنى عن هذا وذاك، تقف بالعيشة عند الضرورات ولا ترتبط بمكان ولا تتوقف على صناعات وآلات؛ لهذا كانت حياة البدوي أيسر، وسلامته أقرب، وحريته أوسع، وكان الحضري كل حين عرضة لما ينغص عيشه، ويكدر صفوه، ويخل بشرط من آلاف الشروط التي يعيش فيها. ولكن الحضارة بلغت بالإنسان ما بلغ من العلم والصنعة والمتعة واللذة حين وفى بشرطها وأعد لها عدتها، فليسعد بها على علاتها وليستغن جهده عما يسعه الاستغناء عنه ويقارب الطبيعة ما استطاع حتى لا يصيبه الإعياء والملل، ويشقى كل حين فيها بخلل، وحتى لا تحبسه قيودها وتضيق به حدودها.
الأحد 20 رجب/7 مايو
مر الزمان
نشأت أرى حولي في قريتي شبانا وكهولا وشيوخا، ودارت السنون دورات فإذا الشيوخ قد وردوا المنية كلهم، وإذا الكهول يتهافتون على وردها، وإذا الشبان قد أخذوا مكان الكهول والشيوخ، وإذا نشء جديد لا أعرفهم صاروا رجال القرية.
وخرجت من مدرستي ثم نظرت بعد خمسة عشر عاما أو قريب منها فإذا أساتذتي قد تتابعوا إلى الموت إلا قليلا قليلا، وبعد عشرين عاما فكرت فإذا كثير من الأتراب هووا.
وجلت في أحياء من القاهرة غبت عنها سنين فإذا المعالم تغيرت، والطرق تنكرت؛ قامت دور وهدمت دور، ورحلت أسر وقدمت أسر، وامحى عرف ونشأ آخر.
هكذا دور الزمان، وبطش الحدثان، لا استقرار ولا دوام. وهكذا تقلب الدهر وتحول الأحوال، لا ثبات ولا بقاء.
فاستمسك ما استطعت بالمعاني الخالدة التي لا تتغير، والقوانين السائرة التي لا تتبدل، استمسك بالحق والعدل والخير والجمال، بل استمسك بالله الحق الذي لا يحول ولا يزول.
الإثنين 21 رجب/8 مايو
تاريخ الحوادث والناس
يقال: إن التاريخ لا يكتب إلا بعد مدة من وقوع الواقعات، وموت الرجال، حتى تخلص النفس من أثر الحادثات، وتنجو من العصبيات، وتستطيع أن تنظر إلى الأمور غير راضية ولا غاضبة، ولا فرحة ولا مبتئسة. تكتب عن الرجال بعيدة عن الحب والبغض، والمحاباة والظلم، بريئة من الأهواء التي تورثها المعاصرة، والمشاركة في المعيشة والمنافسة.
وهذا مقبول من هذه الوجهة، ولكنه مردود بما يضيع على غير المعاصر من دقائق الحوادث، ومن ألوان الواقعات، وما يفسرها من أحوال الزمان والمكان والناس وصلات بعضهم ببعض.
أحسب أن كتابة التاريخ المعاصر، مرهقة بكثرة حوادثها، ووفرة مصادرها على حين يكتفي مؤرخ العصور القديمة بكلمة ينسج عليها وهما، ودمية يلبسها خيالا. ويكتفي مؤرخ العصور التي بعدها بخبر يحمله ما لا يحمل، وخطبة أو قصيدة يستدل بها على أكثر مما تدل عليه، حين يخلص من رقابة الحقائق وشهادة الوقائع. ولا ريب أن تسجيل التاريخ قبل أن تبعد حوادثه، وتطمس معالمه، أوفى بالغرض وأقرب إلى الحق إن أراد الكاتب التاريخ محضا لا مدح جماعة أو آحاد، وذم فئة أو أفراد. وإن قيل: إن النفس المعاصرة لا تبرأ من الهوى، قلنا: إنها - على هذا - أقرب إلى التثبت وأقدر على التحقيق ممن يأتي بعد أجيال، ليستقصي الأقوال والأفعال.
الثلاثاء 22 رجب/9 مايو
إرضاء الجماهير
دار الحديث في مجلس حول الأفلام المصرية، تفاهة أكثرها وبذاءتها وسماجتها وخلوها من فائدة للعقل أو الخلق. وقيل: إن أصحاب الملاهي نقلوا الرقص والغناء الغث من الأمكنة الضيقة التي يشهدها قليل من الناس، إلى أفلام تعرض في كل مكان وتكرر كل حين. وتمادى المتحدثون حتى قال أحدهم: إن الأفلام التي تعرض مناظر طبيعية أو تصور حياة الحيوان في الغابات، أو جانبا من معيشة الجد والكد، أو تبين التاريخ الصحيح لا ترضي الجمهور، وأصحاب الملاهي ومصورو الأفلام همهم الأول جذب الناس وتملق الجماهير وتحصيل المال والصيت.
قلت: هذا أصل الداء الساري في أدبنا وصحفنا وأفلامنا ومسارحنا؛ الأديب والصحفي وصاحب السينما يبغي الجاه والمال، ووسيلتهما كثرة المتمتعين بما يحدثون. والدهماء في كل أمة أغلب، والسواد أكثر، والعامة أملك. فليكتب الكتاب ما يرضي الجمهور، ولينزلوا إليه، وليتملق الصحفيون العامة ويستكثروا منهم، وليعرض أصحاب الأفلام ما يدر المال بازدحام النظارة. وإنما أعني العامة أخلاقا وعقولا وإن كانوا من الأغنياء أو تسموا بالعلماء، فالجمهور أو الدهماء أو السواد أو العامة أو ما شئت من هذه الأسماء، قائدة لا مقودة، وسائدة لا مسودة. وحسب الأمة فسادا أن يؤمها عامتها وأن تقاد بأذنابها!
إن الخطة المثلى أن ينزل الكتاب ومن إليهم إلى الجمهور قليلا ليرفعوه إليهم كثيرا، ويقاربوه ليقودوه.
ولعن الله المال والجاه إن جعل الأفلام في خدمة العوام، وصير الرعاة أتباع السوام.
الأربعاء 23 رجب/10 مايو
ذلك هدى الله
ما عن المنزل عندي خبر
غير أن أسمع صوت الجرس
الغيب لله والمستقبل عنده، وكثيرا ما تلتمس الأعلام، وتشتبه السبل، ويحار العقل ويضل البصر. وكثيرا ما تحيط بنا الشبه ويثور فينا الشك. وكثيرا ما تعترض العقبة، وتبعد الشقة، ويساورنا اليأس ويكاد يغلبنا الضجر.
ولكنا على العلات في سبيلنا ماضون، وعلى كثرة المضلات على الطريقة مستقيمون، وللعقبات مقتحمون. ينير على البعد بصيص، ويهب من قبل المنزل نسيم فتتوجه إلى الغاية القلوب، ويتحرك شطر القطب الوجدان.
لا ندري أين المنزل، ولكن نسمع صلصلة الجرس الذي يهدي القافلة الحائرة، ويدعو إلى الطريق السابلة.
رحم الله حافظا الشيرازي:
ماز منزلگه مقصود بي خبريم
أين قدرهست كه بانكك جرسي مي آيد
الخميس 24 رجب/11 مايو
أساليب العجمة في اللغة العربية
تقرأ أحيانا وتسمع لغة ألفاظها عربية، ولكن تركيبها وسبكها أعجمي، وأخيلتها وصورها غريبة كل الغرابة. وأسباب هذه العجمة واضحة؛ فأكثر الأفكار والأخبار تأتينا من غير العرب، ونحن في ترجمة مستمرة عاجلة، لا يتسع الوقت لإجادتها وصوغها على أساليب العربية، أو لا يتسع لهذا علم المترجمين، وترجمة الأخبار كل ساعة على عجل تضطر المترجم إلى أن يقابل ألفاظا بألفاظ غير معني بسلامة التأليف ولا مقارب ذوق اللغة.
وكثير من مؤلفينا وكتابنا يعرفون لغات أعجمية، ويولعون بالقراءة فيها والنقل عنها، إلى كثير ينزحون إلى بلاد غير عربية يقيمون فيها سنين ويعاودونها بين الحين والحين. وهؤلاء تغلب عليهم لغة عجمية فإذا تحدثوا أو كتبوا قابلوا ألفاظها وجملها أو عباراتها بألفاظ لا يقبلها صرفنا، وجمل لا يقرها نحونا، وعبارات لا ترضاها بلاغتنا، بله الصور الغريبة والاستعارات العجيبة. حتى صار من يعرف اللغات الأعجمية المشهورة يدرك حين يسمع هذه العربية الألفاظ والجمل الأصلية التي ترجمت بها هذه الألفاظ في العربية. وإذا استقرت الكلمة أو العبارة بكثرة النشر صعب زجر الناس عنها وعسر إنقاذهم منها.
وكم بينت للطلاب والكتاب أن قولهم: «مع أن الأمر كذلك إلا أنه» عبارة أعجمية تحاكي عبارة في الفرنسية والإنكليزية، وأنها تأبى على الإعراب في العربية، ولكن مضى كثير من الناس عليها.
وليت شعري ما معنى قولهم: «الروح المعنوية» أيمكن أن تكون الروح حسية؟ وأمثال هذا من ضرب الرقم القياسي ونحوه. والأمر في حاجة إلى التنبيه الدائم والتصحيح المستمر وأن يعنى الكتاب والمترجمون بمعرفة لغتهم معرفة تحول دون غلبة العجمة على ألفاظها وأساليبها.
الجمعة 25 رجب/12 مايو
الضغط الأخلاقي
معلوم في علم الطبيعة أن للهواء ثقلا على الأشياء التي فيه، وهذا الثقل يقدر بأحمال ثقيلة يحملها كل إنسان.
والإنسان يعيش غير محس هذا الثقل بل غير عالم به. وفي هذا الثقل حياته، فإن رفع عنه مات، وإن خف عنه تألم واختل جسمه على مقدار هذه الخفة، حتى تبلغ الخفة حدا قاتلا.
كذلك يعيش الإنسان تحت ضغط من قوانين الأخلاق والآداب والعادات فيه استقامة أموره، وائتلافه في جماعته، والتئام أمور الجماعة وسيرها في سبيلها قصدا على هدى.
ولا يخلص من هذا الضغط إلا مصلح أو فيلسوف يحمل نفسه من فلسفته ما يكافئ هذا الضغط أو ما هو أشد منه.
فمن يستخف بقوانين الجماعات وأخلاقها وآدابها من دعاة الحرية، لا يعرفون ما يدعون إليه ولا يقدرون آثار دعوتهم في الإخلال بنظام الجماعة، وسوقها إلى الفوضى. وهم في دعوتهم على غير تثبت، كمن يعمل على رفع الضغط الجوي عن الناس ليريحهم من ثقله.
ألا إن تبعة الكتاب والمعلمين عظيمة، ولكن بعض الناس يعبثون ويقولون وينقلون وهم لا يشعرون.
السبت 26 رجب/13 مايو
بقاء أو فناء
إذا مضى من عمر الإنسان ساعة فهل بقي ساعة أو فني ساعة؟ وهل زاد عمره ساعة أو نقص ساعة؟ لعلك تقول: زاد ماضيه ونقص مستقبله؛ إن نظرت إلى الماضي وحده والمستقبل وحده، فإن نظرت إلى عمر الإنسان كله ماضيه وحاضره ومستقبله فهل تسمي مضي ساعة بقاء أو فناء، وتدعوه زيادة أو نقصا؟ نظر إلى هذا أبو الطيب إذ قال:
مشب الذي يبكي الشباب مشيبه
فكيف توقيه وبانيه هادمه؟!
إن البقاء والفناء وجهان لحقيقة واحدة؛ هي الكون (الوجود)، فمن شاء نظر إلى هذا الوجه ومن شاء نظر إلى ذاك، من شاء قال: إنه التغير والفناء، ومن شاء قال: إنه الاستمرار والبقاء، من شاء أن يصل نفسه بالحقائق الواسعة الباقية استطاع أن يرى الكون كله بقاء، ومن نظر إلى المضي والتغير وتعاقب الأشياء وتبدل الأشكال رأى الزمان كله فناء.
فصل نفسك ما استطعت بالحقائق الخالدة، وانفذ من الظواهر المتغيرة الفانية إلى البواطن الثابتة الباقية. صل نفسك بحقيقة الحقائق الذي لا يحده أول ولا آخر، ولا يحيط به زمان ولا مكان؛ لعلك تثبت على المضي الذي يبين فيه الفناء، فتشعر بالدوام الذي يتجلى فيه البقاء. صل نفسك بحقيقة الحقائق لا يحدك زمان ولا مكان، وكأن ساعتك صلة آلاف سنين مضت بآلاف بقيت، بل صلة الأزل بالأبد، صلة ما لا يبتدي بما لا ينتهي.
الأحد 27 رجب/14 مايو
وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب
لعل كثيرا من الناس تساءلوا: ما الساعة؟ وكيف تكون كلمح البصر أو أقرب؟ إن عمل العلماء الباحثين في قوى الطبيعة الكاشفين عن أسرارها يكاد يجعل أمر الساعة هذا مما يتناوله العلم بتحقيقه وتجربته، فهم يكشفون عن قوى الذرة ويسلطونها للشقاء على الإنسان وما صنع، يدكون بها المساكن والمصانع ويهلكون بها الحرث والنسل. فقد اخترعوا القنبلة الذرية، ويتحدث الباحثون عن قنبلة أشد تدميرا من القنبلة الذرية، يقولون: إنها قنبلة من الأيدروجين.
ويخشى بعضهم أن يؤثر انفجار هذه القنبلة على الماء فيشعله، فإن اشتعل الأيدروجين في البحار شمل الدمار الأرض ومن عليها في لمحة. ولعل بحثا آخر عن قوى الطبيعة الكامنة وأسرارها الباطنة يكشف عن وسيلة إلى إشعال الهواء، فإن اشتعل الهواء التهمت النار الأرض ومن عليها في طرفة عين. وهكذا يكشف العلم عن الأسرار ويوجهه شقاء الإنسان إلى الدمار.
ليس بعيدا أن يتمادى الإنسان في بحثه ولعبه، وكشفه وعبثه، حتى يلمس قوة من قوى الطبيعة التي يدركها، أو سرا من أسرارها التي لا يدركها، فإذا الهلاك الوحي والدمار الفجائي، وإذا الآية
وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب .
الإثنين 28 رجب/15 مايو
أخلاقنا
نسمع بين الحين والحين أنباء مروعة، وأحاديث شادهة؛ أعمالا تقطع ما اتصل من تاريخنا، وتهدم ما شيد من أخلاقنا.
تنظر في الصحف فتقرأ عن حدث بين والد وولده، أو زوج وزوجه، أو أخ وأخيه، أو جار وجاره، أو صديق وصديقه، فتروعك جناية على ما أحكمه الدين في نفوسنا ومكنته الأخلاق، وأبرمته المروءات. جناية ينكرها البر بالوالدين، والوفاء بين الزوجين، وعواطف الأخوة، وأواصر الصداقة. هذه الحرمات التي تجعل الأسرة معبدا ومسجدا مطهرا، وتجعل بر الوالدين قرين عبادة الله، والألفة بين الزوجين من آيات الله، وتجعل الصداقة قرابة محكمة، والجوار حرمة موكدة، وتقيم الجماعة على قواعد موطدة من الحب والتعاون والإيثار والوفاء والمروءة.
قل أن يخلو الأسبوع من حادثات يأسى لها القارئ، والذي يكتب بعض ما يسمع، والذي يسمع بعض ما يقع. وتمر الحادثات بين سخط القارئ أو لهوه، واستعداء القانون، دواليك لا اعتبار ولا ادكار.
رب حادثة من هذه الحوادث تعيها الآذان كل حين، وتعبرها العقول غير آبهة، هي أعظم أثرا في شقاء الأمة، وأبين دلالة على دائها، وأبلغ إنذارا بسوء العاقبة، من حوادث أخر يفزع لها الناس، ويرتاعون لهول منظرها، وشناعة مخبرها، ويهتم بها القانون وأعوان القانون. لا أذكر أمثالا، ولا أعدد واقعات؛ ولكن أنبه القارئ ليقرأ ويسمع، وينظر ويعتبر فلن تعوزه الحادثات ولن تخذله البينات، وسيتبين صدق ما ادعيت وشناعة ما ذكرت، ويعرف تفصيلا فظاعة ما ذكرت إجمالا.
الثلاثاء 29 رجب/16 مايو
طغيان البناء على الزرع
قرأت اليوم أن معهدا للأبحاث الصناعية في مصر سيبنى على سبعة عشر فدانا. وهكذا نسمع بين حين وحين بشرى بمصنع أو معهد أو معرض يشغل مساحة من الأرض واسعة. ولكن وراء هذه البشرى ما يجدر بالتفكير والقلق؛ أرض الزراعة في مصر ضيقة، والصحارى شاسعة، الأرض الزراعية جزء والصحارى تسعة وعشرون، فلم لا نشيد أبنيتنا في الصحراء على حافة المزارع ما استطعنا ، لنبقي على مزارعنا الضيقة؟ لماذا لا نتوسع ما نشاء في أرجاء الصحراء الواسعة ونرتفع عن الغيطان ورطوبتها وأدوائها إلى الصحراء وجفافها ونقائها؟
أنشأنا مدينة الأوقاف فكم عطلت من زرع وشجر، وكان في الإمكان أن تبنى على حافة الصحراء غير بعيدة من المكان الذي خط لها! ونرى مدينة المعادي، وهي على حافة الصحراء تمتد شطر الشمال والغرب على الأرض الزراعية، وللقوام عليها مندوحة في فسحة الصحراء القريبة. إن الأمر جدير بعناية حكومتنا لتضع خطة تحرم أن يشغل شبر من المزارع بالبناء ما أمكن أن يشغل بدله شبر في الصحراء. فإن ترك الأمر على خطة واستبحر العمران على غير حدود، نقصنا مزارعنا على قدر ما نزيد من دورنا ومصانعنا ومدارسنا، وعمرنا في جانب وأخربنا في جانب آخر.
الأربعاء 30 رجب/17 مايو
الصحراء أفسح للمدن والقرى
وادي النيل طويل ضيق، وهو جنوبي القاهرة يمتد على جانبي النهر بين صحراوين تتقاربان وتتباعدان، وهما في أقصى تباعدهما قريبان. وبعض القرى قائمة على حافة الصحراء ولو بنيت في الصحراء ما اختلف مكانها إلا قليلا.
فإن وضعت حكومتنا خطة بعيدة لنقل مدن الصعيد وقراه والبلاد القريبة من الصحراء في الوجه البحري، إلى الصحراء في عصور طويلة، لا يمض مائة سنة أو مائتان إلا كانت البلاد كلها مرتفعة عن مجرى النيل ونززه، وعن المزارع مياهها ورطوبتها، مستمتعة باتساع الصحراء وصحة الهواء.
إن فعلت الحكومة هذا كان صوابا من الرأي والعمل، وكسبت البلاد سعة ورفعة وصحة، ووفرت الأرض للزراعة، ولم يكن في هذا مشقة على الناس؛ لأن المسافات بين الصحراء وشاطئ النيل قريبة، فإذا مهدت الطرق وكثرت استطاع الفلاح أن يذهب من قريته على حافة الصحراء إلى مزرعته على إحدى ضفتي النهر في زمن قصير.
ولعل كثيرا من الناس يعجبون من هذا الرأي ويسخرون، ولكن التأمل والتروي يردانهم إلى الاعتراف بسداده وصوابه ويدعوانهم إلى الأخذ به والدعوة إليه والعمل له إن شاء الله.
الخميس 1 شعبان/18 مايو
الفراغ والعمل
أمضيت يومي معتكفا لوعكة ألمت بي، وقد قطعت الوقت بالقراءة بين حين وحين، ولكن أوحى إلي التفكير في العمل والفراغ كتابة هذه الكلمة: إن الإنسان يطول عليه وقت الفراغ فيمله، ولكن لا يذكره بعد مضيه، أو يذكر منه شيئا ضئيلا، وهو لا يشعر بمضي الوقت حين يشغله بالعمل، ولكنه يجد له بعد مضيه ذكرى طويلة. وتزيد الذكرى اتساعا إذا اختلف العمل واختلف المكان فتعددت الفكر والصور، فمن يمضي يوما متنقلا بين بلد وآخر يذكر يومه هذا أكثر مما يذكر يوما أمضاه يعمل في مكان واحد. كلما تشابه العمل ومضت الأيام على شاكلة واحدة قل شعور الإنسان بالزمن الماضي، وكلما تجدد العمل واختلفت صوره زاد شعور الإنسان به. ما أشبه الذي يعمل عملا واحدا مكررا بالحيوان الذي يدور بالساقية، يسير طويلا ويعمل كثيرا، ولكنه لا يخرج من هذه الدائرة الضيقة، ولا يشعر بأكثر منها. فإن لم يستطع الإنسان أن يغير عمله بين يوم وآخر فليجتهد أن يغير من صور العمل، ويجدد في أشكاله، ليخلص من هذا التشابه ويشعر بالوقت ويذكره.
العمر هو الوقت، والوقت هو العمل، فلينظر المرء كيف يمضي عمره فارغا أو ملآن، وطويلا أو قصيرا.
الجمعة 2 شعبان/19 مايو
فيضان ومطر
سمعنا في هذا الأسبوع عن طغيان الماء في أرجاء كثيرة من الأرض، مراكش والجزائر وسيناء وعمان ودمشق، وفي كندا والبرازيل، وهو جانب من اضطراب الجو وشذوذه في هذا العام، فقد هطلت أمطار غزيرة في الجزيرة العربية، وحدثني مسافر بين جدة والمدينة أن مطرا فيه برد أصابهم بين قريش والمدينة، كما نزل البرد في مصر هذا الشهر.
ولست أدري ماذا يقول علماء الطبيعة في هذا الفيضان وهذا المطر من الماء والبرد، ولكن لا يرتاب أحد في أنه شذوذ عما ألف الناس في مثل هذا الوقت من السنة في هذه البلاد.
ولا يعلم إلا الله أهذا الشذوذ بدء سنة جديدة في الطبيعة تخالف بها سننها المعروفة قبلا أم هو بدء اضطراب لا سنة فيه؟ ولا يعلم إلا الخالق ماذا يصيب العالم أرضه وسماءه بعد. وقد تحدث ناس من العلماء عن نقص حر الشمس على مر السنين، وذكروا ما يصيب العالم ولا سيما أرضنا إن اطرد النقص. وفي القرآن الكريم
إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت ... إلخ.
ورحم الله المعري يقول:
يجوز أن تطفأ الشمس التي وقدت
من قبل عاد وأذكى نارها الملك
فإن خبت في طوال الدهر وقدتها
فلا محالة في أن ينقض الفلك
السبت 3 شعبان/20 مايو
بغداد تخاف الغرق
طغت دجلة وفاضت فأغرقت جانبا من بغداد وهددت المدينة كلها، وليست هذه أول مرة تفاجئ فيها دجلة بغداد بفيضان مخيف، إن دجلة التي سميت المجنونة، لفيضانها الفجائي، قد نالت من دار العباسيين في عصور طويلة وأجيال متعاقبة؛ حتى قيل: إن آثار العباسيين ذهب بها طغيان دجلة، فلا ترى اليوم في دار السلام أثرا قائما لخلفاء بني العباس إلا جدرا من المدرسة المستنصرية التي شادها الخليفة المستنصر بالله.
وقد أمد العلم والصناعة الإنسان بما سخر له الجبال والأنهار والصحارى والبحار، فينبغي ألا تترك بغداد عرضة للغرق كلما جنت دجلة جنونها. ينبغي أن تخط خطة لوقاية دار السلام من الماء بوسيلة من وسائل العلم والصناعة التي لا يعجزها اليوم شيء.
إن عزيزا علينا أن يقال كل حين: إن دجلة تحيفت بغداد وأغارت على أطرافها وأغرقت آلاف الدور فيها، وإن المدينة كلها في وجل. فلنأخذ للأمر أهبته ولنحط المدينة العظيمة بما يقيها الغرق والنزز ويوقيها الخوف، فما أجدر بغداد العظيمة أن تبقى آمنة، وما أحرى دار السلام بالسلام! وقى الله بغداد كل سوء، ويسر لأهلها كل خير.
الأحد 4 شعبان/21 مايو
من الحجاز إلى باكستان
استلمت اليوم برقيتين من أسرتي فيهما تهنئة بنقلي سفيرا إلى باكستان، قلت: هذه نقلة قريبة، فأنا حينما كنت في بلاد العرب والإسلام كأني في وطني وبين قومي، بلاد أعرفها وتعرفني، أعرف ماضيها وحاضرها، وأعرف لغاتها وآدابها، وأعرف كثيرا من أهلها، لم أتكلف هذه المعرفة ولا اصطنعت هذه المودة؛ ولكنها وحي الأخوة الإسلامية والتاريخ والآداب. حقائق لا تزوير فيها، ووشائج لا تكلف بها، وأواصر لم أخلقها ولا اصطنعها غيري.
ذهبت إلى دمشق وبغداد والقدس وبيروت وبلاد أخرى في الشام والعراق فما أحسست أني اغتربت، ولا تنكرت لي الوجوه، ولا أوحشتني الأرض ولا السماء ولا المجامع ولا الطرق.
وذهبت إلى استانبول وطهران ودهلي وبلاد أخرى في بلاد الترك والعجم والهند فما رأيتني غريبا، ولا انبهم علي الحاضر ولا الغائب ولا استعجم علي مكتوب على الآثار أو مخطوط في الصحف.
وأما جزيرة العرب، ولا سيما الحجاز، مهبط ديننا ومهد لغتنا ومنشأ قومنا، فماذا أقول فيها؟
فإن ذهبت إلى باكستان من الحجاز فإني أذهب بنفحات الحجاز إلى قوم تجمعني بهم هذه النفحات، إلى أمة تشاركني في الحجاز وما أخرج الحجاز للناس، إلى أمة يسرني سرورها وتسوءني مساءتها، أمة تفرح بذهابي إليها وأفرح بأن أعيش فيها.
الإثنين 5 شعبان/22 مايو
إغاثة اللاجئين
سافرت اليوم لجنة إغاثة المشردين من أهل فلسطين؛ وهم: أمريكي وإنجليزي وتركي، قدموا إلى جدة يوم الأحد 21 مايو 1951، وكانت لهم حفلات حدثناهم فيها فكان من قولهم: إن الناس يرتابون فينا، وليس لنا مقصد إلا إنقاذ اللاجئين مما هم فيه. وكان مما قيل لهم: إن العرب يرتابون فيكم؛ لأنهم تعودوا من هيئة الأمم التي بعثت بكم أن تعمل لتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها، وحماية هذه الدول وتذليل الصعاب لها، وقد رأوا من آثار خطتها مئات الألوف من أهل فلسطين قد أخرجوا من ديارهم وحل بها مكانهم أوشاب من اليهود جمعوا من الآفاق. ورأوها غير راغبة في أن تطلب من اليهود تمكين هؤلاء البائسين من بلادهم؛ ولكن تريد أن ترضي العرب بما وقع، وتمكن هؤلاء المشردين حيث هم، إلى هذا تسعى هيئة الأمم ولهذا نرتاب فيها. ولو أن الأمر شفقة ورحمة وعدل ونصفة لأجبر اليهود إجبارا لا هوادة فيه على أن يدعوا أهل البلاد يقيمون بها كما أقاموا وأقام آباؤهم من قبل.
قال بعض أعضاء هذه اللجنة: إنا لا نعنى بالناحية السياسية، ونرى أن يبقى الخيار للاجئين في العودة إلى ديارهم، ولكنا كلفنا بتمكين اللاجئين من العمل وإنقاذهم من الفاقة والبطالة، فجئنا نتوسل بكل الوسائل ونسأل البلاد العربية أن تعيننا وتحسن الظن بنا حتى نبلغ ما نريد.
الثلاثاء 6 شعبان/23 مايو
سن الإنسان ما يحسه لا ما يعده
ربما ترى إنسانا في الأربعين أو دونها وقد ضعف جسمه وذبل وجهه وانحنت قامته وغلبه الهم وشاع في نفسه اليأس. وربما ترى رجلا بلغ السبعين أو جاوزها وهو صلب العود معتدل القوام ناضر الوجه طماح همام، يعمل عقله وتبطش جوارحه في غير فتور. فلا ريب أن الأول شيخ وإن عد من السنين أقل، وأهرم وإن احتج بقرب المولد، والثاني أقرب إلى الشباب وأدنى إلى الفناء، شاب وإن عد السبعين، وفتى بمظهره ومخبره على رغم السنين. ولله در أبي الطيب حين يقول:
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه
ولو أن ما في الرأس منه حراب
لها ظفر إن كل ظفر أعده
وناب إذا لم يبق في الفم ناب
يغير مني الدهر ما شاء غيرها
وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب!
ولله در القائل:
يا هند هل لك في شيخ فتى أبدا
وقد يكون شباب غير فتيان؟
نعم، إن سنك الحق ما تحسه في جسمك ونفسك لا ما تعده من سني عمرك، وإن شهادة العمر أسارير وجهك، لا سطور ورقة ميلادك.
الأربعاء 7 شعبان/24 مايو
على قدر القرب تحاسبون
كلما صليت في المسجد الحرام فرأيت التفاف المصلين حول الكعبة، تذكرت أن المصلي هناك عليه أن يتوجه إلى الكعبة لا يحيد عنها يمنة أو يسرة ولا يقبل منه إلا إصابة عينها، لا يجزئه إصابة جهتها، وأن المصلي في المواضع الأخرى يقبل منه أن يتوجه جهتها، ولا يكلف أن يكون وجهه إلى بنائها بل يسامح في الانحراف والارتفاع والانخفاض، فجال في نفسي هذا المعنى: إن الحساب على قدر القرب، فالإنسان يكلف بحاجات الإنسان على قدر قربه، وكلما قربت القرابة زاد التكليف، وعظمت الحرمات، وكثرت التبعات. وكذلك الإنسان مع ربه كلما زاد قربه إلى الله تعالى بإدراك عقله ما أحاط به من قوانين الله وآياته، وبشعور وجدانه بالله واستنارته به، كلما أدرك الإنسان صلات القرب هذه واخترق بعقله وقلبه الحجب، كثرت عليه التكاليف، وعظمت التبعات، وطولب بما لم يطالب به الجاهل الغر والمفرط الغافل.
وهكذا تعظم التبعات على قدر رقي الإنسان في درجات الكمال حتى يصدق ما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وهكذا تختلف الواجبات على اختلاف الدرجات، فعلى العالم أمور لا تجب على الجاهل، وعلى الحاكم تكاليف لا تجب على الرعية، وعلى القادة تبعات ليست على التبع ... وهلم جرا. فقياس كمال الإنسان ما يؤخذ به من أوامر ونواه استجابة لما يدرك عقله ويشعر به قلبه، فليحاسب كل امرئ نفسه على قدر ما آتاه الله من قدرة في الجسم والعقل والعلم والإدراك والشعور.
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير .
الخميس 8 شعبان/25 مايو
على الله
كنت اليوم في فندق مصر الذي بمكة المكرمة في مجلس جمع بعض الإخوان، فدخل رجل ووقف بعيدا منا وأشار إشارة عرفتنا أنه سائل، ودعا أحدنا ابنا له أن أعطه شيئا، فأعطاه شيئا فرآه السائل قليلا فرده، فعجبنا وضحكنا، فأخذه الرجل ناحية وأعطاه ما أرضاه فأشار إشارة التسليم وخرج.
قال أحد حاضري المجلس: جلست على مقهى في أطراف مكة خارج باب جدة، فجاءني سائل فقلت: على الله! فانفتل مسرعا لم ينطق بكلمة ولم يشر إشارة، فعجبت من أمره وأسفت أن لم أعطه، فأرسلت خادمي بريال، فقال الرجل: لا لا، قلتم على الله فلا آخذ شيئا، قال فرددت الخادم بريالين فلم يقبل، وقال: قلتم على الله فلن أقبل شيئا، قال: ورددت الخادم المرة الثالثة فألح عليه ليأخذ، فقال للخادم: والله لئن أعطاني عمك (سيدك) ألف ريال وهذه السيارة التي معه لا أقبل شيئا. قال المحدث: لقد تمنيت حينئذ أن يقبل مني ألفي ريال.
قلت: رجل سمع اسم الله فذكره فعز به فاستغنى فاستكبر وأبى أن يستعين بغيره، وحقر المال وأصحابه والغنى وطلابه؛ بل رأى نفسه بالله أغنى من كل غني وأكبر من كل كبير.
وقلت: سبحان الله لقد تحول الرجل في لمحة من ذل الاستجداء إلى عز الاستغناء ، سأل فازدري وحرم، فعف فاستغنى، فلحقه المال يلح عليه فيرده، ويتضرع إليه فلا يسمع له. رفضه المال قبل لمحات وهو الآن يرفضه، وأذله منذ لحظات وهو الآن يذله. كان منذ لحظات سائلا ينهر فصار مسئولا ينهر، كان ذليلا فعز، وحقيرا فعظم، كان طالبا فطلب وسائلا فسئل، لقد اعتز بالله واستغنى به.
جاء في الأثر: استغن عمن شئت تكن نظيره.
الجمعة 9 شعبان/26 مايو
يقظة البدوي
البدوي لا تحد نظره ولا سائر حواسه حدود الأبنية وسدود الحضارة، فهو ينظر إلى الآفاق البعيدة، ويرى السماء ليلا ونهارا، وهو يعيش في حماية نفسه يخاف العدو واللص والوحش، ويحترز من ضلال الطريق والهلاك جوعا أو ظمأ، فهو منتبه الحواس حاد الفراسة كثير الارتياب.
كنت في سفر بالحجاز، ومعنا دليل بدوي، فرأينا ثلاثة بعران فقال: هذه ضالة، وسرنا ونسيناها حتى لقينا رجلا على الطريق فوقف الدليل السيارة وسأل: أتلك بعرانك؟ قال: نعم. ثم رأينا صقرا محلقا فقال: هذا صقر أفلت من الأمير، قلنا: كيف عرفت؟ قال أراه يقرب ولا يفزع من السيارات. وكنا نسير بموضع كثير الأشجار فأشار إلى سرحة قائلا: هذه تسمى السرحة الغزلانية؛ لأن الغزلان تأوي إليها، فعجبنا كيف ميز سرحة من بين سرح كثير وشجر متشابه.
ومن يساير البداة أو يعاشرهم يجد ما هو أبعد من هذا وأغرب.
فليس بعيدا ما نقرأ عن فراسة الأعراب، ودلالتهم، وتمييزهم ما يتشابه من شجر أو جبال أو طرق. وقد عرفت دليلا من جهينة يعرف الطريق ليلا ونهارا، ويهدي السائق إن حاد في الصحراء قليلا نحو اليمين أو الشمال، والذي نراه ونسمع به الآن من فراسة القافة واستدلالهم، يصدق ما قرأناه وحسبناه خرافة مما روي في كتب الأدب العربي. إننا نستطيع أن نحكم الحاضر في كثير من الأمور الماضية، والقياس صحيح أكثر الأحيان.
السبت 10 شعبان/27 مايو
التقدم
حدثني الصديق محمد عاكف شاعر الإسلام رحمه الله قال: كان فلان من علماء الترك الصالحين الزاهدين، وكان السلطان عبد الحميد حريصا على أن يراه، والشيخ حريصا على الفرار منه، كان السلطان يدعوه فلا يلبي الدعوة حتى أعياه الأمر. كان الرجل صوفيا صادقا يفر بدينه وخلقه من فتن الجاه والمال ومزالق الرغبة والرهبة والملق في القول والفعل، وللصوفية سيرة مستقيمة يخافون عليها العوج، وخطة قاصدة يشفقون فيها من الهوى، ومعاملة مع الله يغارون عليها مما سواه. يجتهد واحدهم أن يجعل فكره وذكره وعبادته نغمات متسقة وأنشودة ملحنة، يخشى عليها نغمة شاذة وصوتا ناشزا، ويرى أن الطريق سير مستمر وتقدم مطرد يتشاءم فيه من الوقفة والرجعة والتردد والغفلة.
قال: ومر الشيخ يوما أمام القصر فرآه السلطان على البعد أو أخبر بمروره فاغتنم الفرصة وأمر أحد الأعوان بالمسارعة إلى الشيخ والتلطف في دعوته، وأسرع الرجل إلى الشيخ وقد جاوز باب القصر، قال: إن مولانا السلطان يدعوك، فأبى الشيخ. وألح الرسول وتلطف ما استطاع، فقال الشيخ: يا بني، إني ضعيف كما ترى، وقد بعدت عن الباب ويشق علي الرجوع. قال: ياسيدي، إنها خطوات قليلة لا يشق عليك أن تسيرها، قد جاوزت الباب قليلا فلا يصعب عليك الرجوع.
قال الشيخ: يا بني، إني منذ سنين كثيرة أجاهد لأتقدم خطوة واحدة، فكيف تريدني على أن أرجع هذه الخطوات؟!
الأحد 11 شعبان/28 مايو
عز الطاعة وذل المعصية
في دعاء مأثور:
اللهم إني أعوذ بعز طاعتك من ذل معصيتك.
حق أن الإنسان يمضي قدما أبيا عزيزا ما دام عمله مطابقا للشريعة التي اتخذتها أمته وتمسكت بها جماعته، ويسكن إلى نفسه ويستريح في وجدانه كلما نظر في سيرته فلم يجد فيها مخزية يطأطئ لها أو جريمة يخزى بها، ويأمن في سره وعلانيته غير خائف أن يطلع الناس منه على ما يكرهون، أو يفجئوه مقترفا جريرته، مكذبا خفية ما يدعيه جهرة، فهو عزيز بعمله كريم بسيرته.
وترى الإنسان المتكبر المتجبر المختال المعتز بسلطانه، تسف نفسه إلى المخازي فيخشى أن يطلع عليه فيهاب من يستصغره، ويخاف من يحقره، ويذل لخادمه ولكل إنسان يطلع منه على ما أسر من شناعة وأخفى من دناءة، وهو - لولا إسفافه إلى المخازي - عزيز كريم لا يهاب أحدا في سر أو علن، ولا يطأطئ رأسه لعظيم أو حقير.
وانظر إلى الحاكم المسلط الذي ينظر إلى الناس ازدراء، ويأمر فيهم وينهى عتوا وعلوا، انظر إليه حين تأخذه سورة القانون وقد ارتكب ما يؤاخذ عليه القانون، انظر إليه في هوانه وصغاره وضراعته واستكانته، تعلم فرق ما بين الاستقامة والاعوجاج والطاعة والمعصية. فاحذر المذلة يا بني، وقل: اللهم إني أعوذ بعز طاعتك من ذل معصيتك.
الإثنين 12 شعبان/29 مايو
الكريم يستحي من نفسه
تعرض سائل لأحد الأجواد فأعطاه كثيرا، فقيل له: هذا كثير والرجل لا يعرفك، قال: ولكني أعرف نفسي. ورحم الله شاعر الترك الحماسي نامق كمال، يقول:
إن من يستحي من الناس ولا يستحيي من نفسه يرى نفسه أخس الناس جميعا.
إن الدرجة العليا من كرم النفس أن يتجنب المرء الدنايا؛ ترفعا وتكبرا عنها وإن أمكنت وتهيأت في مأمن من العيون، وأن يحمل نفسه تكاليف المعالي ومشقات المروءة؛ حبا لها وطموحا إليها، بما يراها جديرة بنفسه، ويرى نفسه أهلا لها. لا يرجو من أحد جزاء ولا شكورا، ولا يبغي بها رياء ولا سمعة.
فهو يستحي من نفسه أكثر مما يستحي من غيره؛ أنفة من الصغائر، وعشقا للعظائم. ورحم الله شاعر العرب أبا الطيب يقول:
وترى الأبوة والمروءة والفتو
ة في كل مليحة ضراتها
هن الثلاث المانعاتي لذتي
في خلوتي لا الخوف من تبعاتها
الكريم لا يبالي بسلطان القانون ولا سطوة السلطان ولا حكم الجماعة؛ لأنه في غنى عن هؤلاء جميعا بسلطان من قلبه لا يغفل ولا يضعف، وسطوة من وجدانه لا تلين، ولوم من نفسه لا ينقطع. كذلك نريد الناس أحرارا إلا من سلطان الوجدان، كراما يستحيون من أنفسهم قبل أن يستحيوا من الناس.
لا ترجع الناس من غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
الثلاثاء 13 شعبان/30 مايو
طلبة العلم
قرأت البارحة في إحدى جرائد مصر أن طالبا في كلية طب تعسرت عليه إجابة الأسئلة في امتحان شفاهي في التشريح، فعمد إلى مسدس في جيبه فأطلق منه رصاصة على الأساتذة - وكانوا ثلاثة؛ مصريا وإنكليزيين - فأصيب أستاذ إنكليزي في ذراعه، ولم يسعف الطالب مسدسه بعد الرصاصة الأولى، بل هجم على الأستاذ الثاني يضربه بالمسدس على رأسه، واستطاع الأستاذ المصري أن يمسك به ويستعين بأحد الموظفين على نزع المسدس من يده.
وقال الأستاذ المصاب: إن هذا الطالب كان قليلا ما يحضر محاضرات التشريح، وكان أحيانا يدخل إلى المحاضرة وفي فمه سيجارة أو شطيرة.
وقرأت أن طلبة في كلية التجارة نظروا في أسئلة الامتحان فصعبت عليهم الإجابة، فما زالوا يشكون ويضجون بين حين وحين، والأساتذة يعدونهم التخفيف وينصحون لهم حتى انتهى تذمرهم إلى الهياج وتحطيم الكراسي في قاعة الامتحان وزجاج النوافذ.
ستنتهي هاتان الحادثتان بعقاب المعتدين، ولن يبحث في أصل الداء ليهتدى إلى الدواء، لن تبحث الجامعة أو وزارة المعارف أو أساتذة علم النفس أو الاجتماع في مقدمات هذه النتائج المحزنة.
ابحثوا عن معيشة الطلبة وعكوفهم على الملاهي وضياع حرمة البيت والمدرسة في نفوسهم، وغلبة الهزل عليهم، وتهاونهم بالعلم وحرصهم على الورقة التي تؤدي إلى الوظيفة وطموحهم إلى الدرجات المالية والعلاوات. انظروا في هذا كله لتعرفوا الداء فتطبوا له، وإلا استمر هذا الخلل وهذه الفوضى، وإلا حصلت الأمة على أعداد لا أرواح فيها، وفرحت بجيوش من طلاب الوظائف الجهلة أعداء القانون والنظام.
الأربعاء 14 شعبان/31 مايو
مقاصدنا الثلاثة
العقل القويم، والخلق الكريم، والجسم السليم.
من لي بجيل لم يضعف أجسامه الترف، ولم يوهنها الكسل ولم ينهكها المرض، بل صحت أجسامه بالخشونة والعمل، والقصد في المطاعم والمشارب وسائر اللذات، والأخذ بأسباب الصحة كل حين؟
ومن لي بهذا الجيل الصحيح يؤتى نصيبا من العلم النافع يستضيء به العقل ويهتدي به سبل المعايش، يبغي العلم للمعرفة وللضرب في هذه الأرض، لا يبتغي شهادة ولا منصبا، ولا يحاول أن يجتاز الامتحان جاهلا، ولا يرضى أن ينال شهادة مزورة؟
ومن لي بهذا الجيل الصحيح العالم يملأ قلبه إيمان بالله، فيرفعه عن كل دنية، ويسمو به إلى المقاصد العلية، وتملأ نفسه المروءة والهمة، فيتنزه عن سفاسف الأمور ويطمح إلى جلائلها، ويملكه الإنصاف فلا يؤذي أحدا، يشهد بالحق على نفسه ويقر به لخصمه، وتستقر في قلبه الرحمة فهو مشفق على الضعفاء بر بالفقراء. ثم يزينه الأدب يوقر به والديه، ويعظم من هم أكبر سنا من قومه كأنهم آباء له أو إخوة كبار. ثم يجمله الحياء فهو عف اللسان واليد؟
من لي بواحد من هؤلاء في كل جماعة؟ إن الذي وصفت في الناس قليل ولكنه ليس بمستحيل. ليس مستحيلا أن توضع الخطط الصالحة للتربية القويمة لتنشئ هذا الجيل؛ جيلا صحت أبدانه وعقوله وأخلاقه.
الخميس 15 شعبان/1 يونيو
تولي الحكومات تعليم الناس
لو سألت واحدا ممن نشئوا في جماعتنا وألفوا سنتنا، ولم يفكروا في الأمم الغابرة، ولا عرفوا غير أمتنا من الأمم الحاضرة؛ لو سألته: ما ترى في أمة ليس بها وزارة معارف؟ لأجابك: أمة لا قدر للعلم فيها، ولا خطر للتعليم عندها، أمة أحاطت بها الجهالة وحرمتها السيرة الرشيدة والعمل النافع على هذه الأرض.
ذلك بأن هذا المسئول نشأ فرأى وزارة المعارف تسيطر على مدارس كثيرة، وقد عملت للسيطرة على مدارس لم تكن لها حتى ظفرت بالسيطرة عليها فاستبدت بتصريف أمور التعليم والتعلم. ولكن التاريخ يعرفنا أن الأمم الغابرة نالت حظوظا من العلم موفورة، دون أن تهديها إلى العلم وزارة للمعارف، والحاضر يبين أن كثيرا من معاهد العلم التي تنشئ أجيالا وتربي أمما ليست في ولاية وزارة معارف، وليست هذه المدارس والجامعات التي لا يمتد عليها سلطان الحكومة أقل شأنا من نظائرها التي تتولاها الحكومة، بل هي أعظم شأنا وأجل قدرا.
كان لنا كتاتيب لو وجدت بيننا عقولا مفكرة وأيديا مدبرة تتركها وشأنها، وترقبها من بعيد، وترشدها وتعينها، لقامت بما تعجز عنه هذه المدارس الأولية دون حاجة إلى جهد وزارة المعارف وأموالها. ولو تركت المدارس الحرة على علاتها وأمدت وحرضت على المضي في سبيلها بعيدة من الحكومة، لكثرت ثم كثرت حتى قلت بجانبها مدارس الحكومة، وقام الناس بتعليم أنفسهم دون حاجة إلى هذه الجلبة التي تدوي في وزارة المعارف ومدارسها، ولكانت مدارسنا أقرب إلى التعليم والتهذيب مما نراه اليوم. إن مما يقاس به عظمة الأمم في رأيي مقدار ما تقوم به الحكومة من التعليم، ومقدار ما تقوم به جماعات من الأمة.
الجمعة 16 شعبان/2 يونيو
الأمن في البدو والحضر
يعيش أحدنا في حماية القانون والسلطان، ورعاية الشرطة والقوام على الأمن لا يخلو ليلا أو نهارا من حراس في محلته وعسس.
فلو سألت واحدا ما عسى أن يكون حالنا إن سلبنا السلطان والقوانين، والشرطة والحرس؟ لأجاب: حينئذ تقوم قيامة اللصوص والمجرمين فيسلبون الناس ويفسدون في الأرض وتختل أحوال الجماعة كلها. ولكنا نرى كثيرا من الجماعات تعيش من غير حاجة إلى سلطان قاهر، وقانون نافذ، وقضاة تحكم، وشرطة ترقب؛ والأمن فيها أعم، والأنفس والأموال أعظم حرمة، وأوفر صيانة. البدو يعيشون على سنن تكفل لكل حقه وحريته. للبدوي من نفسه حارس، ومن قبيلته حام، ومن العرف كفيل بحقوقه. وفي غير البادية تجد هذا التوازن بين الناس، والتعاون على حفظ النفس والمال أكثر أثرا من القانون. فليست هذه الشرطة وقوانين العقوبات ومحاكم الجنايات إلا ضرورة أدى إليها اعتلال الجماعات، وفساد الحضارة لا طبيعة العمران. وكلما قلت حاجة الجماعة إلى الحرس وإلى السلطان، وإلى القانون والقضاء والمحاماة، كانت أقرب إلى الإنسانية، وأعلى عقلا وخلقا؛ كما أن الجسم الذي لا يحتاج إلى طبيب ودواء أصح من الأجسام التي يعالجها الطبيب بالأدوية بين الحين والحين.
ليت الناس لا يستسلمون لعادات المجتمع ويعظمونها، ويعنون بها ويحسبونها مظهرا من تحضره وتمكنه في العلم والصناعة واستبحار العمران فيه، بل يتعهدون نظمهم بالنظر والفكر، ويحاولون أن يسيروا الجماعة على خير ما في الفطرة وأحسن ما في العقل والدين والخلق، لا على ما وجدوا وألفوا.
السبت 17 شعبان/3 يونيو
عليكم أنفسكم
الأمة إذا مرضت كثر كلامها عن الداء والدواء؛ كالمريض يتحدث عما به، ويستطب لمرضه، ويكثر حديثه عن دائه ودوائه وأطبائه. وإذا اعتلت الأمة فذكرت أدواءها اتهم فريق منهم فريقا بأنه أدى إلى المرض أو استشرائه، أو فرط في المداواة. بل ترى كل إنسان يذكر جنايات غيره ويفيض فيها ويغلو ، حتى يرمي قومه بالمساوئ ويقول: إنهم لا يصلحون لشيء، ويستثني نفسه فلا عيب له! وهكذا يضيع الوقت في الدعوى والتهمة والطعن والقيل والقال، «وآفة هذه الأمة عيابون طعانون يقولون لكم وتقولون.»
ولو أخذ كل إنسان نفسه بالحق وألزمها القيام بالواجب، غير ناظر إلى غيره، جاهدا أن يبرئ نفسه من الذنب، وينجيها من التبعة؛ لصلحت الأمة كلها. لو أن كل إنسان يقول: نفسي، ويشغله عيبه عن عيوب الناس؛ لم تجد لأحد عيبا إلا ما شذ.
فليتق الله كل امرئ في نفسه وأمته، وليجعل همه الدعوة إلى الخير بادئا بنفسه، وليكن ديدنه صباح مساء أداء الواجب، وتوطين النفس وحملها عليه، وسياستها باللين والشدة حتى تسلس وتنطلق في طريق الخير صالحة مصلحة.
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم .
الأحد 18 شعبان/4 يونيو
مرض أيام
لزمت الفراش أياما، فانقطعت عن العمل، فلم يكن أساي لمرضي مثل أساي لبطالتي، كأن المرض أقل ألما وأخف ضررا من التبطل. وكثيرا ما تصيبني وعكة لا تمنع القراءة والكتابة في الفراش، فأراها فرصة أعمل فيها ما أريد لوقتي، وأقضي فيها بعض ما فات من عملي، فلا أذم المرض الذي أتاح الفرصة، بل أحمد الخلوة القهرية التي أجبرتني على الفراغ، وأجبرت الناس أن يخلوا بيني وبين نفسي.
قلت إذ فكرت في هذا وما إليه: إن كانت البطالة شرا من المرض، أو شرا من بعض المرض، من هذه العلل الخفيفة التي لا تبرح بالمريض آلامها ولا تغلبه على نفسه سورتها، فكم في الناس مريض يحسب نفسه صحيحا! وكم مرت أوقات كنت فيها مريضا لا أذكر وفاتني فيها ما يفوت المريض بعضه، ولم أعرف الخسارة.
إن المرض سقم الجسم، والبطالة سقم الروح، وهو يؤدي لا محالة إلى سقم الجسم.
وتراكمت أعمال وتكدست أوراق، وتعطلت رسائل في هذه الأيام؛ أيام المرض القليلة، وفكرت في هذا وقلت: وا عجبا! نسابق الزمان شاعرين أو غير شاعرين ونغالب الأعمال في كل حين، فإن وقفنا قليلا أو بطأنا سبق الزمان فخلفنا وراءه ، وتراكمت الأعمال التي نؤديها في أوقاتها فلا نبصر كثرتها، ونسوق بعضها إثر بعض فلا نرى تزاحمها.
إن الإنسان في عمل دائم وجهاد مستمر، وسير لا ينقطع. السعيد من أعين على العمل بالعقل والجد، ويسر له الجهاد والمسير بالعافية؛ عافية النفس والبدن، والعافية من الحادثات. والله المستعان.
الإثنين 19 شعبان/5 يونيو
صحبة الحيوان
يستطيع الإنسان بإحسانه وإيناسه أن يستأنس الحيوان ويؤلفه ويصاحبه ويواده، ويدرك في هذه الصحبة معاني الأنس والصداقة والوفاء.
وكم قرأنا عن صحبة العربي فرسه، وإيثاره بالقوت، ومخاطبته في السراء والضراء! وقرأنا عن مواساة البدوي ناقته وتحدثه إليها بهمومه في أسفاره، ووصف حنينه وحنينها وصبره وصبرها، والشعر في هذا كثير.
وقد سمعنا عن فرس صام وحزن على فارسه حتى لحق به، وعن كلب لزم قبر صاحبه أو مكانه في داره حتى نفق.
جاءت إلى الحجاز بعثة مكافحة الجراد المصرية فضربت خيامها في الصحراء شمالي جدة، وكنت أتردد على هذا المخيم وآنس به وبصحبة إخوان كرام فيه، وأدعو الأصدقاء إليه، فرأيته على كثرة من يغشاه يعوزه كلاب تجول فيه وتصاحب أصحابه نهارا، وتنبح الطراق ليلا، وثلة من الضأن والمعز يكون لها حول المضارب ثغاء ويعار. وما زلت حتى التمس أعضاء البعثة الكلاب من كل جانب فأتوا بثلاثة، وغشيت المخيم كلبة فوجدت عيشا آمنا فأقامت بغير دعوة، وولدت. وجاءت عنز وثلاثة خراف.
قلت: الآن صار المخيم جديرا باسمه، وأنسنا بمرأى الحيوان في لعبه ومرحه وقربه وبعده.
وضربت الأيام ضرباتها فإذا البعثة تتهيأ للرحيل. فأما الغنم فمنها ما جزوه سوءا فذبحوه، ومنها ما وهبوه. وأما الكلاب فأشفقت أن تترك هناك فاجتهدت في إيداعها عند من يصونها، ففرقتها على من أعرفهم، على رجاء أن تعود إلى البعثة حينما تعود.
وقوضت الخيام وأقفر الموطن وفي النفس ما فيها من ذكر الأصحاب، وفيها كذلك ذكرى الحيوان وأنسه بالإنسان.
الثلاثاء 20 شعبان/6 يونيو
الكتب وأصحابها
بين الكتب وأصحابها معرفة وأنس وود، هو يعرف قدرها ومكانها من العلم ومن تاريخ العلم، وموضعها من خزانة كتبه، ويعرف متى اشترى الكتاب وأين اشتراه وكم قرأ فيه واستفاد منه، والكتاب يعرف يد صاحبه فيه، وعينه عليه، وتقليبه صفحاته وقراءته سطوره، وتعليقه في حواشيه، ويعرف له رعايته وصيانته.
والكتاب ميسر لصاحبه، يعرف ما شكله وأين هو. ربما يهتدي إليه في الظلام ولا يهتدي غيره في النور. وهو يعرفه دون قراءة كتابة عليه، وقبل فتحه؛ بما صحبه وعرف هيئته. وهو يعرف مواضع حاجته منه وأمكنة الاستشهاد فيه.
فالكتب متصلة بصاحبها، حية به تعرفه ويعرفها وتألفه ويألفها.
فإذا غاب صاحب الكتب عنها فقد غاب أبوها وراعيها ووافيها وصاحبها، فهي ميتة لا حياة فيها وهي جامدة لا حس بها، وهي أوراق لا تنطق ولا تجيب، وهي نكرات منبهمات لا تعرف، وهي همل مسيب وسوام مضيع.
نعم الصاحب الكتاب ونعم الجليس! لا كما وصف أبو عثمان الجاحظ وكما قال أبو الطيب المتنبي فحسب؛ ولكنه فوق ما قالا، موصول بعقل الإنسان وعلمه وإلفه ووده وحبه، حي به، ميت بدونه، محس متكلم مخاطب معه. وفي غيبته لا حس له ولا حركة ولا نطق عنده ولا خطاب.
وما أعسر بعد الكتاب عن صاحبه، وما أقبح إعارته إياه لمن يذيله ولا يعرف حقه ولا يحسن صحبته، وإن رده بعد قليل! فكيف بالمستعيرين المضيعين الذين لا يردون ولا يذكرون ولا يعتذرون؟! ألا ساء ما يعملون! وأسوأ منهم صاحب الكتاب الذي سمحت نفسه بفراقه، وضيعه عند من لا يقدره قدره.
الأربعاء 21 شعبان/7 يونيو
قومي الصالحون
تغلب على الإنسان أحيانا عصبية الوطن فيتحدث عن مفاخره، ويشيد بماضيه وحاضره، ويذهب في عصبية الوطن مذاهب، ولا يخلو قوله من محاباة وظلم. وتتسع عصبيته أحيانا إلى جنسه، فيتعصب للأمة التي ينتمي إليها، ويشيد بمآثرها ومزاياها ويحدث عما وعى التاريخ وما لم يع من مناقبها ومساعيها، وكثيرا ما يتزيد لأمته ويبخس غيرها. ولا تبرأ العصبية من ظلم ومحاباة. وأحيانا تتسع عصبية الإنسان فتجوز حدود الأوطان وأواصر الدماء إلى أواصر الفكر وحدود العقيدة؛ فيتعصب لدينه والمتدينين به أو لمذهبه والعاملين له. وهذه العصبية أعلى وأوسع وأجدر بالإنسان ، ولكنها عصبية ، والعصبية قرينة الهوى لا تبرأ من محاباة وظلم.
والخطة المثلى للإنسان ألا تجور به العصبية فيزيد ما له وينقص ما لغيره، بل الخطة المثلى ألا يتعصب بل يرى الحق حقا فيتبعه، والباطل باطلا فيتجنبه؛ يؤدي حق وطنه ولا يجور على أوطان الناس، ويعرف لأمته فضلها، ولا يبخس غيرها حقها، ويستمسك بدينه، ولا يزدري بالأديان الأخرى، ويعمل بقول القرآن الكريم:
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون
حتى يكون انتصاره للحق حيثما كان، وحبه للأخيار في كل قبيل، وقومه الصالحين في كل أرض، ويقول ما يقول المسلمون في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
الخميس 22 شعبان/8 يونيو
لولا هذه الآفات
نحن في عصر منير، وحضارة عظيمة بلغ الإنسان فيها من العلم والصناعة مبلغا بعيدا، ونال ما حسبه الأولون مستحيلا. طويت المسافات بالعجلات في البر، والسفن في البحر، والطائرات في الجو، وبالهاتف والبرق يقربان البعيد، حتى يتحدث من بالمشرق إلى من بالمغرب، وتزوى للإنسان الأرض فيطلع على ما فيها من أحداث، ويسمع ما في أرجائها القريبة والبعيدة من حديث.
وجلى الإنسان الجمال في الحقول والحدائق والأبنية والطرق والمجامع، وافتن في فنون الزينة وهلم جرا.
وكان الظن أن يصحب العلم والفلسفة والصناعة وما فتح على الإنسان من خيرات السماء والأرض، رفاه وطمأنينة وسكون، ويبلغ الإنسان سعادته على هذه الأرض. ولكن خاب الرجاء بما صحب هذه الحضارة من آفات أعظمها هذه الضوضاء.
الضوضاء الحسية تحيط بالإنسان حيث يسير وحيث يقيم، من المراكب في الأرض والهواء، ومن المذياع. لا يجد الإنسان الراغب في الهدوء منها مفرا. والضوضاء النفسية تدوي بها الآراء المتصادمة، والأفكار المتضاربة، والمطامح الجامحة، والشهوات العارمة، تسير الإنسان قاعدا وتوقظه نائما.
هذه الضوضاء حرمت الإنسان سكونه، وسلبته عقله وقلبه، فقامت الخصومات واشتعلت الحروب، وثارت الثائرات في نواحي الأرض.
وآفات أخرى في الأخلاق والآداب يضيق المقام عن إحصائها أو العد منها.
ما أعظم هذه الحضارة نعمة على الإنسان؛ لولا هذه الآفات!
الجمعة 23 شعبان/9 يونيو
اللذة الكبرى
كل لذة مادية، ضئيلة سريعة الزوال، بل تنقلب ألما إذا جاوزت حدودها. وما أضيق هذه الحدود؛ فالطعام الذي يلذه الطاعم، تنفر منه نفسه حين يشبع، والشراب الذي يحبه يعافه إذا أفرط فيه، وكل شهوة حسية إنما هي متعة دقائق، تزول أو تحول ألما، إذا أفرط فيها الإنسان ضعف عنها فحرم منها. إنها لذات جثمانية محدودة بالجسم وهو ضئيل ضعيف.
وللإنسان لذة أخرى لا تحد، لا يحدها زمان ولا مكان، كلما طالت زادت وكلما قدمت رسخت. لذة لا تقدر بحدود الجسم ولا طاقته؛ هي لذة الروح، والروح تأبى على الحدود والقيود. فاللذة التي يجدها الخير في فعل الخير، واللذة التي يجدها الكريم حين يفرج الكرب عن الناس، وحين يواسي المرضى والضعفاء، واللذة التي يوحي بها المرأى الجميل في أرجاء السموات والأرض، ولذة المعرفة والاطلاع والبحث والازدياد من العلم، ولذة التأمل في المعاني الجميلة التي لا تحد، واللذة التي يشعر بها العابد حين يقف في محرابه ويخلع نفسه من المادة فيستمد من الله النور والجمال والخير والحق، حتى يفيض قلبه نورا ومحبة ورحمة، كل أولئك لذات أعظم وأوسع وأجمل وأبقى من اللذات الحسية، ولكن أين من يدرك هذه اللذات ويقومها فيعمل لها ويستمتع بها؟
السبت 24 شعبان/10 يونيو
فقد الطمأنينة والثقة
حكي أن رجلين سافرا في قطار ليلا، ولم يكن في المقصورة معهما ثالث، فاستوحش كل واحد من صاحبه، وتوجس منه شرا، فنظر إليه يرقبه خائفا أن يفتك به. وكلما نظر أحدهما إلى الآخر زاد خوفه وكثرت وساوسه، وخيل إليه أن صاحبه سيفتك به إن لم يبادره هو بالفتك. وبقيا كذلك في خوف وحذر حتى افترقا.
قلت: ولم يكن بعيدا أن يبغت أحدهما صاحبه بضربة قاضية، ولم يكن بعيدا أن يتخالسا نفسيهما بضربتين تقضي عليهما معا، أو أن يتضاربا ويتجالدا حتى يقتل أحدهما الآخر؛ كل هذا من الريبة والتهمة وفقد الثقة.
وكذلك الأمم اليوم فريقان، كل ينظر إلى صاحبه ويخافه ويحذر منه ، ويتوهم أنه مفاجئه اليوم أو غدا. وكل يعمل ليل نهار للتسلح والإعداد بكل ما خلق العلم والصنعة من آلات مقتلة مدمرة مخربة، وينادي أنه لا يبغي إلا السلام. ولكن صاحبه يضمر له الغدر وينوي به الفتك، فماذا عسى أن يفعل؟
وليس بعيدا أن يتماديا في التنافر وتبادل التهم حتى يفجأ فريق فريقا بحرب ليدفع عن نفسه بزعمه، أو يفاجئ الفريقان بعضهما بعضا على وفاق، ذلكم بما فقدت الأمم الثقة. وإنما فقدت الثقة بما جربت الغدر والكذب، وإنما تكاذبوا وتغادروا بما فقدوا المروءة التي كانت تنأى بالأحرار عن هذه الرزائل، وإنما فقدوا المروءة حينما هبطوا من الإنسانية إلى الحيوانية ونسوا الأرواح وذكروا الأجساد، فصاروا في هذا الكفاح أشباحا بلا أرواح. فهل من معتبر؟
الأحد 25 شعبان/11 يونيو
آداب الضيافة عند العرب
للعرب، ولا سيما البداة، آداب في الضيافة يعنون بها ويحرصون عليها، ويشفقون من خلافها؛ يخافون العار وسوء الأحدوثة. ولهم في الدعوة إلى الطعام، وفي ترتيب الدعوات إذا تنافس الداعون، عرف متبع لا يحيدون عنه. بل لهم قضاء في أمور الضيافة يترافعون إليه؛ ليعرف المحق والمبطل، والمؤدي واجب الضيافة والمقصر. ترى هذا في بوادي مصر وبوادي بلاد العرب على تغير العرف قليلا واختلاف العادات باختلاف المواطن.
وشهدت كثيرا من ضيافة العرب في أسفاري، وأقربها عهدا ما رأيته في موضع اسمه «مدركة» في طريقي من جدة إلى مهد الذهب إلى المدينة. نزلنا بها بعد الغروب، وكان معنا دليل من قبل الحكومة السعودية؛ فضربنا خيامنا ورأينا كوخا قريبا فيه نور قيل: إنه مجلس أمير مدركة، وكل آمر في بلد أو إقليم هناك يسمى أميرا. وبعد قليل جاء الرجل مسلما ولم يجلس، ورجع وأرسل من يدعونا إلى مجلسه. فذهبنا فجلسنا على بسط ووسائد، وأمامنا وسط المجلس موقد للنار مهد في الأرض وسوي وحوله أدوات القهوة صفراء تسر الناظرين. وللقهوة من يتولاها؛ يدق البن على ضربات موقعة ويقدم القهوة على الترتيب، يتجه إلى صاحب الدار فيشير إلى الضيف الذي يبدأ به.
وبعد قليل انصرفنا ، وأرسل الشيخ من يعرفنا أن عشاءنا عنده. وبعد هزيع جاء الداعي، فسرنا إلى دار وجلسنا في حجرة على بسط وضع في وسطها سفرتان، على كل واحدة خروف على طبق كبير فيه أرز، جلسنا على واحدة وجلس أتباعنا على أخرى، والرجل يعتذر بين الحين والحين بأنه لم يتوقع قدومنا، وما قصر في شيء بل أكرم وبالغ. والقوم في الجزيرة - ولا سيما في نجد - يقطعون للضيف قطعا صغيرة إكراما له، ويتناول هو ما يريد ولا يلحون على الضيف ليأكل كما نفعل في مصر؛ وقل أن يقال له: كل. وكانت العادة في نجد أنه إذا قام الضيف الكبير قام الآكلون جميعا حتى أمرهم بتغييرها جلالة الملك عبد العزيز؛ فمن شبع قام، واستمر من لم يشبع.
الإثنين 26 شعبان/12 يونيو
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
إذا رأيت أمة معتلة، أمورها مختلة، فاعلم أصل الداء في الأنفس، وأن كل ما ترى من فساد ظاهر أعراض للداء المستكن. يحسب أن داء الأمة الفقر فتعطى المال، وتدر عليها المكاسب؛ فتتغير الظواهر، وتبقى البواطن سقيمة، ويظهر السقم في الأقوال والأفعال على تبدل الهيئات والأشكال. علم أمة سقيمة أحكم القوانين وأصلحها تتبدل في أيديها إلى قوانين فاسدة، أو تبقى ألفاظها صالحة ومعانيها معطلة. وأوثق هذه الأمة بما شئت من نظام في سياستها وتدبير أمورها، وبالغ ما شئت في وضع القوانين وإقامة الحراس عليها، تجد للأهواء تحللا من هذه القيود وللكبراء سلطانا فوق هذه النظم.
وتستطيع هذه الأمة أن تلبس كما تلبس الأمم الصالحة، وتتخذ من العدد والآلات والرياش والزينة ما يتخذون، بل تستطيع أن تأخذ نصيبها من العلم والصناعة، ولكن هذه الألبسة والعدد والعلوم والصناعات لا تصلح أحوال الأمة ولا تسعدها ما دامت الطوايا سقيمة، والأخلاق عليلة، وما بقيت النفوس التي تلبس وتتصرف بالآلات والزينات مريضة، لا تدرك النظام والوئام ولا تقدر الحق والخير، ولا تجنح للتعاون والتعاضد والمواساة. إن هذه الظواهر لا تصلح الأمم ولا تنقلها من حال إلى حال إلا ظاهرا، ولا تحول دون الظلم والمحاباة والسرقة والاحتيال للإجرام سرا وعلانية. إنما الأمم الأخلاق، وإنما مستقر الأخلاق النفوس، فأصلح النفوس تصلح الأمة.
قد نظرنا وعجبنا، ففكرنا فأدركنا، فقرأنا هذه الآية الكريمة:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
الثلاثاء 27 شعبان/13 يونيو
رقي يساير الزمان
من نعم الله على الإنسان أن جعله أهلا للمعرفة إلى غير حد، قابلا للعلم إلى غير غاية، ومن فضله عليه أن مكن له في التكمل دون نهاية، وهيأ له الترقي إلى أعلى الدرجات، فهو يزداد علما كل يوم بل كل حين إن رغب، ويزداد كمالا ورقيا كل وقت إن صحت نيته، وصدقت عزيمته.
الإنسان يرقى من درك الحيوان إلى درجات عالية لا تنتهي، ويرتفع من الجهالة إلى المستوى الرفيع من العلم والفلسفة والحكمة.
مغبون من مر عليه الزمان غافلا، لا يعلم ولا يتقدم. مغبون من لم يساير الزمان تعلما وترقيا. مغبون من لم يكن يومه خيرا من أمسه، وغده خيرا من يومه، ومن لم يجعل حياته حركة إلى الكمال دائمة، وسيرة في الرقي دائبة.
قد جاء في القرآن الكريم:
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، وجاء فيه:
وقل رب زدني علما ، وجاء في الأثر: «لا بارك الله في يوم لا أزداد فيه علما.»
فليطمح الإنسان إلى العلم وليسم إلى المعالي، وليمض قدما إلى الكمال مستمدا الله آملا فيه، متوكلا عليه.
الأربعاء 28 شعبان/14 يونيو
مجلس الوصاية وتدويل القدس
سمعت البارحة أن مجلس الوصاية التابع لهيئة الأمم، والذي كلف إنفاذ قرار الهيئة في تدويل القدس ووضع دستور لها، قد اتفق على أن يرد الأمر إلى الجمعية العامة للهيئة قائلا: إنه عجز عن إنفاذ القرار؛ لأن اليهود ومملكة شرق الأردن لا يقبلان التدويل، ويصران على تقسيم المدينة بينهما.
وكان الظن أن يقر مجلس الوصاية التدويل ويضع الدستور له ثم يقترح على هيئة الأمم إنفاذه طوعا أو كرها.
ليت شعري ما جدوى هيئة الأمم إن كان حكمها لا يجري إلا على من يقبله؟! وما جدوى التحكيم إن لم ينفذ رأي المحكمين على الخصوم راضين أو كارهين؟!
إن الحقيقة التي وراء هذا القول؛ الحقيقة التي تجلت في كارثة فلسطين من أولها إلى آخرها، أن هيئة الأمم لا تكره اليهود على شيء، فقد ألزمت العرب الهدنة ثم تركت اليهود يبغتون العرب ويستولون على البلاد، لم تصدهم ولم تقاتلهم، بل لم تنهرهم ولم تغلظ لهم القول.
وقتل اليهود وسط الأمم فما أصابهم سيئات ما عملوا، وكم خالفوا من قرار للأمم فربحوا ولم يخسروا.
ألا إن هيئة الأمم لا تجدي نفعا ولا تمضي أمرا، وإن أنصفت العالم كله لا تنصف العرب. أأقول: إنها وراثة حقد وعداوة منذ فتح العرب أوروبا، ومنذ انتصر العرب في الحروب الصليبية، ومنذ اصطدم العرب والباغون على ديارهم من أهل أوروبا؛ لم يغير منهما تغير الزمان وتبدل الأحوال؟ أم أقول: احتقار العرب بما تفرقوا وتخلفوا؟ أم ماذا أقول؟
الخميس 29 شعبان/15 يونيو
رمضان
صوم رمضان مشقة، ولكن لا بد منها لرياضة النفس على احتمال المشاق. وهو حرمان، ولكنه عظيم الأثر في توطين الإنسان على ما يكره. وهو تغيير في أسلوب العيش، ولكنه يجنب الناس حينا هذه المعيشة المتشابهة التي يصبح الإنسان فيها ويمسي على نسق واحد.
وهو تمكين للجسم من أن يفرغ لهضم طعامه قبل أن يشغل بطعام آخر، وقل أن يظفر بهذه الفرصة طول العام.
قل أن يحمل الإنسان نفسه على ما تكره إلا في رمضان، وقل أن يحرم الإنسان نفسه ما تشتهي حينا إلا في رمضان. وقل أن يغير الإنسان أسلوب عيشه ويخلص من هذه الدائرة المفرغة إلا في رمضان. وقليل منا من يعرف من دهره ساعات السحر ونسمات الفجر طوال عامه إلا في ليالي رمضان. وقل أن يتزاور الناس ويتهادوا ويتراحموا ويفرحوا كما يفعلون في هذا الشهر المبارك.
فينا من لا يصوم رمضان؛ لأنه لا يبالي بالدين، ولا يعنى برياضة النفس، وهو في شغل شاغل من لذاته ليل نهار. وفينا من لا يصوم رمضان؛ إشفاقا من مشقته وعجزا عن صبر نفسه على مكروهها ساعات. وفينا من يصوم رمضان ولا يصل بين صومه ونفسه، بل يكون في الصوم أشد شراسة وأكثر سلاطة.
إنما نريد صوامين يروضون أجسامهم وأنفسهم؛ ويطبون لأبدانهم وأرواحهم طوال الشهر بالحمية والعفة والمودة والمرحمة والذكر والفكر؛ فيخرجون من الشهر كما يخرج المريض من المستشفى وقد أبل واسترد صحته.
نريد صوامين هم من رمضان في عبادة دائمة وصلاح مستمر ورقي متصل، وهم في سائر العام في أثر رمضان وذكراه، وهداه وتقواه.
الجمعة 1 رمضان/16 يونيو
الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم
دارت الحرب في نهاوند بين المسلمين والفرس، وكانت حربا طاحنة ختمت المعارك الكبيرة من فتح إيران. وكان عمر بن الخطاب يخرج من المدينة في طريق العراق يرجو أن يلقى بشيرا بالفتح، يخرج كل يوم يسائل القادمين ماذا سمعوا عن المسلمين في فارس. وجاء البشير السائب مولى ثقيف، فسأله عمر في لهفة: ما وراءك يا سائب؟ فقال: خير يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك بأعظم فتح، واستشهد النعمان بن مقرن. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال البشير: ثم بكى عمر فنشج حتى إني لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده.
هال عمر الخبر إذ كان النعمان قائد الجند، وكان من خيار المسلمين، وآدته المصيبة فبكى ونشج.
فلما رأى الرجل ما دها أمير المؤمنين أراد أن يخفف عنه حر المصيبة ويهون وقعها، فقال: يا أمير المؤمنين، ما قتل بعده من رجل يعرف وجهه - يعني أن القتلى بعد النعمان من سواد الجند ليس فيهم قائد ولا زعيم معروف. فلم يشغل عمر بكاؤه على النعمان عن إجابة الرجل؛ عز على عمر أن يقال في المجاهدين: ما قتل منهم رجل يعرف وجهه.
قال عمر رضي الله عنه: ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم، وما يصنعون بمعرفة عمر ابن أم عمر؟!
السبت 2 رمضان/17 يونيو
للإنسان أوقات
يأتي على الإنسان وقت ينفتح فيه قلبه على الكتابة نظما أونثرا ويتسع لفكره المجال، ولخياله الآفاق، وينشط فكره ولسانه، وقلمه وبنانه.
ويأتي على الإنسان وقت يجبل فيه فلا ينظم ولا ينثر، ولا يشوقه نظم ولا نثر، أو كما قال الفرزدق: «وإن قلع ضرس أهون عليه من نظم بيت!» وهكذا لا يختلف إنسان وإنسان فحسب، بل يختلف الإنسان الواحد على حالات، وتتعاوره تارات.
ومرد هذا الأمر إلى حال الجسم من الصحة والمرض والراحة والتعب، واعتدال المزاج وانحرافه، وخلاء المعدة وامتلائها والتوسط بين هذين.
ومرده كذلك إلى ما يسيطر على الإنسان من أفكار؛ تسيطر عليه فكرة خيرة، ومعنى سام، ونزعة عالية فتؤدي إلى أمثالها فتتابع معاني الجمال والخير فتشرق بها النفس ويصفو لها القلب، وينطلق اللسان من سجنه وقيده إلى عالم المعاني غير المحدود. أو تتعلق بالإنسان فكرة خبيثة فيها الحقد والقتل، وفيها المآرب والأهواء، وفيها المنافع الخاصة التي تحبس العقل في مآرب الجسم الدنية، وفي ضيق المادة المظلمة. فهذه المعاني تهوي بالإنسان أسفل سافلين، وتحبسه في محابس من الشر والهوى حتى يكون من الخاسرين.
فليجتهد الإنسان أن ينأى بنفسه عن الحالات الجسمية التي تحبس فكره وخياله، وليتجنب التفكير والتخيل حين تطرأ هذه الحالات، ثم ليطرد من نفسه الأفكار الشريرة، والنزعات الحسية، وليجتهد أن يسمو مع المعاني السامية، ويسرح مع الآمال الواسعة الجميلة، في آفاق لا تحيط بها الأبصار، ودرجات لا تحيط بها الأفكار.
الأحد 3 رمضان/18 يونيو
بغير عنوان
وجدت هذه الصفحة خالية لم تكتب في حينها كما كتب بعض أخواتها، ولا وضع عليها عنوانها كأخوات أخر، قلت: ماذا أكتب فيها ولا عنوان لها؟ سهوت أو شغلت عن كتابة العنوان الدال على الفكرة التي أسطرها في الصفحة. ثم قلت: دعها صفحة بغير عنوان.
إن في منظومات الشاعر الصوفي الفياض فريد الدين العطار منظومة قيمة اسمها «بيسر نامه» أي كتاب لا عنوان له، ولم ينقص هذا من قدرها، ولا ذهب بفائدتها وصار عدم العنوان اسما لها. وقد قرأنا في التاريخ أن أحد الملوك مات له أولاد فأشير عليه ألا يسمي من يولد له من بعد ليعيش، فترك ابنا له بغير اسم فسمي هذا الذي لم يسم «آتسنر» أي غير مسمى، وصار نفي الاسم اسما له.
قلت: أجل، أدعها بغير عنوان ولكن لا أدعها بغير فكرة أسجلها، أسجل فيها أن من الناس من لا عنوان لهم، وهم في تأدية الواجب ونفع الناس وإصلاح الأمة والجدوى على البشر، أصلح عملا وأعظم أثرا من أصحاب العناوين المدوية التي تذهب في الناس كدوي الطبل والطبل أجوف. فاحذر أن يكون همك العنوان، وقصدك الدوي والضوضاء، واجهد أن تعنى بالموضوع ولا تبالي بالعنوان، وأن تعنى بالفعل غير معني بالقول، وأن تطمح إلى الحقائق لا إلى الظواهر، وأن تحرص على أداء الواجب لا على الصيت، وأن تقصد وجه الله، لا وجوه الناس.
كن كتابا مفيدا وإن لم يكن له عنوان، ولا تكن كتابا كله عنوان وليس وراء العنوان شيء.
الإثنين 4 رمضان/19 يونيو
ما أرحم الإنسان وما أقساه!
سمعت في إذاعة أن والدة الملك جورج السادس ملك الإنجليز تقوم على معالجة صبي من نيجيريا مجذوم، وأن جماعة من أخيار الإنجليز أنشئوا مستشفى للمجذومين من تلك الأصقاع وأنقذوا كثيرا من هذا الداء، قلت: ما أرحم الإنسان وما أبره بالمرضى والبؤساء!
وذكرت ما بناه الأخيار من مستشفيات وما بذلوا من أموالهم وأنفسهم لتخفيف آلام المرضى والمساكين، فقلت: أجل ما أرحم الإنسان!
بل ذكرت إشفاق كثير من الناس على الحيوان ودفع الآلام عنه، فكررت قولي: ما أرحم الإنسان!
ثم سمعت خبرا آخر ذكرني بقتل الإنسان أخاه بغيا وعدوا بالحرب المتمادية والتقتيل والتدمير في المشارق والمغارب، وذكرني اغتصاب الناس وتشريدهم. وذكرت الصواعق التي يصبها الإنسان من جو السماء على الناس في دورهم لا يفرق بين قوي وضعيف، وكبير وصغير. ترسل القنبلة على الأسر في دورها فتقتلهم جميعا أو تقتل الطفل وتدع أمه أو تودي بالأبوين وتدع الأطفال. ذكرت هذه وأمثالها فقلت ملء قلبي وفمي: ما أقسى الإنسان، ما أقسى الإنسان!
الثلاثاء 5 رمضان/20 يونيو
غرور الإنسان
إن سألت إنسانا: ماذا في جيبي؟ أو ماذا في هذه الحجرة؟ وهو لم يدخلها، أجاب متعجبا: وما علمي بما في جيبك، وما أعلمني بما في حجرة لم أدخلها؟! ولكن هذا الإنسان الذي يعجب أن يسأل عما لم يره، لا يتحرز من إرسال وهمه في أطباق العالم ليثبت أو ينفي بغير علم، فهو يتكلم في مبدأ العالم ومنتهاه، وعما في النجوم وعما وراءها تكلما لا يهدي إليه تفكير، ولا يزنه تثبت. لا حرج أن ينظر الناظر فيرتب مقدمات تؤدي إلى نتائج على أن يصف مقدماته ونتائجه بوصفها من العلم أو الظن أو الشك، ثم يقف عندها لا يتعداها بغير بينة. ولكن كثيرا من الناس يتكلم في المحجوبات من حقائق هذا العالم كلام العالم الثبت، وهو لم يعلم ولم يتثبت ولم يحاول العلم والتثبت.
وقد طوع للإنسان غروره أن يحسب أنه وحده في هذا العالم عاقل عالم مفكر، وليس في العالم؛ أرضه وسمواته شيء غيره يعقل، ليس في العالم؛ أرضه وسمواته مخلوق له عقل وعلم وفكر، ولا خالق يعلم ويدبر أمر هذا العالم اليتيم المهمل. هذا الكائن الضئيل الضعيف ينكر كل الإنكار ويأبى كل الإباء أن يكون في أعمال الناس وفيما يقع على الأرض، بل ما يكون في غير الأرض شيء إلا له سبب، لا يقبل أن دينارا مثلا قد سوي منقوشا بغير صانع. ولكن هذا الكائن الضئيل الضعيف الذي حرم العالم كله العقل والفكر إلا نفسه، يقبل أن يكون العالم كله بغير عقل، وسيره بغير سبب وبغير تدبير وتصريف، أليس هذا جهلا؟ أليس هذا غرورا وحمقا؟
الأربعاء 6 رمضان/21 يونيو
رمضان في الحجاز
لا تعمل دواوين الحكومة السعودية في رمضان، بل تعمل بعد صلاة العشاء وينصرف الناس منها إلى دورهم ليتسحروا، ويستريحوا غير مضطرين إلى التبكير للعمل. وهذا عمل مستحسن أيام الحر والصيام، وعسى أن يعمل الموظف في ساعتين من الليل أكثر مما يعمل في خمس من النهار. وكذلك الأسواق أكثر عملها بالليل؛ تجدها مضاءة مزدحمة بالناس، فيها رواد وعليها بهجة وسرور.
والناس يتزاورون بالليل بعد صلاة التراويح، ولكن ليس لهم من عناية بالسهر والاستماع إلى القرآن في الدور الكبيرة ما لأهل مصر.
ويميز رمضان في هذا البلاد احتشاد المصلين والطائفين في المسجد الحرام، وإفطار الناس في المسجد على ماء زمزم وقليل من التمر قبل الصلاة.
وكذلك يحتفل أهل المدينة بالاجتماع في الحرم النبوي والإفطار فيه، وشهود الصلاة في أحد الحرمين رجاء كل صائم من أهل مكة والمدينة وما حولهما؛ وإنه لأنس للنفس وخشوع للقلب. وما أروع صلاة التراويح في الحرم، إن فيها لمرائي ومعاني تدركها القلوب والأبصار.
وأما الصيام في جدة، على حرها ورطوبتها، فييسره قلة العطش لرطوبة الجو، ويروح عن الناس أن تهب الشمال هناك، وما أكثر ما تهب الشمال!
وأما الصوم في مكة فشاق لشدة الحر وجفاف الهواء، وكم يقاسي الصائمون فيها من العطش، وفي المدينة أيام على الصائمين شديدة.
ولكن في مكة والمدينة من مظاهر الفرح والبهجة في رمضان، وفيهما من الجمال والروعة ما يهون مشقة الصيام.
الخميس 7 رمضان/22 يونيو
الأمل والعمل
قطبا المعايش عليهما تدور، وجناحا الإنسان بهما يطير، وعيناه بهما يسير، ومجدافا الحياة بهما تقدم، وقدماها بهما تتقدم.
سر الجهاد في هذه الحياة أمل يخلق، وعمل يحقق؛ رجاء يدعو إلى الغاية وعمل يسير على الطريق.
لا يعمل غير الآمل، ولا يأمل غير العامل. من يئس في معترك الحياة حار فارتبك، ووقف في المزدحم فهلك. ومن أمل ولم يعمل فأمله سراب، وعمره يباب، يعيش في الخيال ويطمح في المحال. فأمل ولا تيأس، واعمل ولا تبتئس، فما أمل الإنسان وعمل إلا بلغ ما أمل. قلب آمل، وعزم عامل هما مبدأ العيش ونهايته، وطريقه وغايته.
إنما أنار الهداة في ظلمات الحياة وحدوا القافلة إلى النجاة، بما أملوا والناس يائسون، ورجوا والناس مبلسون، وأبصروا والأفق مظلم، وأقدموا والسواد محجم. على ضوء الأمل رأوا الغاية والطريق، وبالعزم والكدح صحبهم النجح والتوفيق.
كم يائس رجع والمقصد قريب، ووقف والمطلب مكثب! وكم عاجز أمل وانتظر، وبائس أشفق من المشقة فعذر! حتى جاء طموح مقدام فأمل فعزم، وصمم فأقدم، فطوى الطريق إلى غايته، وقهر الصعاب إلى بغيته، فأوفى واليائسون ينظرون، وبلغ والعجزة يعجبون.
والآمال تختلف اختلاف الهمم، والأعمال تتفاوت تفاوت العزائم. من الآمال ما لا يحد، ومن العزائم ما لا ينفد . يمضي بهما المجاهد يرى البعيد قريبا، والعسير يسيرا، والصعب سهلا، بل لا يبصر إلا أمله، ولا يعرف إلا عمله، ثم لا يرى الدهر كله إلا أملا وعملا.
الجمعة 8 رمضان/23 يونيو
مرعى أثيث
رأينا هذه السنة مرائي معجبة بهيجة في الحجاز؛ كثر المطر فنبت المرعى، وكثر الزرع واخضر الشجر، ونبت العشب ونضرت الأرض، وزانها النور مختلفا ألوانه؛ فترى وجه الأرض مخضرا في الطريق بين مكة والمدينة وجدة، وما رأيته من قبل في حياة وبهجة وزينة كما رأيته بعد هذا المطر. بل ضحكت فرحا وعجبا حين رأيت الجبال الجرداء على مقربة من مكة يهتز عليها النبات ويموج مع الرياح!
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة .
وقد دبت الحياة في البادية إنسها وعجماواتها، فرأيت القطعان سائمة مرحة سمينة. ولكن جدب السنوات لم يبق على الحيوان؛ فلم تجد هذه المراعي الأثيثة رعاءها. مررت السنة الماضية بدهبان على الطريق بين مكة والمدينة فرأيت الناس مجهودين يحدثون عن موت سوائمهم إلا ما ساقوه شطر الجنوب فأصاب المرعى، ورأيتهم هذه السنة عندهم البقول والبطيخ وعليهم آثار النعمة.
وأما نجد فقد حدثني من رآها بعد الأمطار قبل أن يذوي نبتها في القيظ أنه ذهب إلى روضة من رياضها يجمع أصناف النبات فيها، فرأى بسطا من العشب والزهر ذات ألوان بهيجة لا يقدرها إلا من رآها رأي العين.
وكم قطع طريقنا الماء في سيرنا من جدة إلى المدينة في نيسان الماضي! وكم أطربنا مرأى الحياة في الأودية وفي النجود، وفي أصول الشجر وعلى الأغصان!
وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج .
إن المطر في البوادي حياة، والجدب موت، يعرف هذا من عاش في البادية ومن رأى العائشين فيها. وإذا تتابع المطر وسالت الأودية وأث المرعى وامتلأت الغدران؛ تمتع أهل البادية ونعموا بما لا ينعم به الحاضرة على كثرة النعم ويسر العيش.
السبت 9 رمضان/24 يونيو
التراويح في الحرم
صليت التراويح في المسجد الحرام، والإمام يقرأ فيها جزءا من القرآن ليختم القرآن في الشهر.
لا أنسى مقام الإمام في جانب المطاف متوجها إلى الكعبة بين الركن اليماني والحطيم. يقوم الأئمة في غير التراويح بين مقام إبراهيم والكعبة متوجهين إلى الجدار الذي فيه الباب، ولكنهم في التراويح يفسحون المطاف للطائفين فيصلون حيث ذكرت.
لا أنسى الصفوف محيطة بالكعبة على نظام محكم، والمصابيح ترسل على الوجوه نورها، والقمر فوقنا ينافسها إنارة للمصلين، والنسيم يسري فيمحو عن المسجد حر النهار، ويمسح وجوه المصلين ويمس ثيابهم رفيقا رقيقا.
والقرآن تنبعث نغماته فتخالط الضياء والهواء، وكأن نغماته متصلة منذ قرأه الرسول الكريم حول الكعبة أول مرة.
والتكبير يدوي في الأرجاء كأنه توقيع في هذه الموسيقى الروحية التي يؤلفها نور المصابيح وأشعة القمر وخفقات النسيم وتلاوة القرآن.
كنت أشغل عن الصلاة حينا بالتأمل في هذا المشهد العظيم، أقول: وما عليك إن شغلت عن صلاتك لترى صلاة السماء والأرض في هذا المرأى الرائع، وتبصر قيام العالم كله حول الكعبة؟
أليست هذه الصفوف مقدمة صفوف متلاحقة متواصلة من الكعبة إلى أقصى الجهات؟ هل يخلو ميل من الأرض في بلاد المسلمين من مصل منفرد أو جماعة وجهتها الكعبة، ولسانها القرآن، ونداؤها التكبير؟ فانظر إلى هذه الجماعة الكبرى تتلاحق صفوفها، واستمع إلى هذه الموسيقى تتوالى نغماتها وتمتد موجاتها من هذه الكعبة إلى بلاد نائية في أقطار الأرض، هنا مركز الدائرة، هنا قطب المغناطيس تتوجه إليه القلوب والوجوه، هنا أخوة المسلمين، هنا توحيد الله، وهنا ذكرى نبي التوحيد ... الله أكبر.
الأحد 10 رمضان/25 يونيو
الخلف بين القول والفعل
كم بين أقوال الناس وأفعالهم من خلاف! رحم الله الطغرائي يقول:
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
والناس في اختلاف الأقوال والأفعال ضربان: ضرب يحلي نفسه بما هي منه عطل، ويمدحها بما هي منه براء
ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا
كما في الآية الكريمة، وحسب هؤلاء قول القرآن:
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .
والضرب الثاني لا يصفون أنفسهم بما ليس فيها ولا يدعون ما ليس لهم، ولكنهم يدعون إلى الخير وليسوا أخيارا، ويحمدون الفضيلة وليسوا متحلين بها، فالخلاف بين أقوالهم وأفعالهم لا رياء فيه ولا نفاق ولا خداع، ولكنه الفرق بين ما يأملون وما يعملون. الفرق بين ما يدركه العقل والوجدان وما تجترحه الجوارح؛ طموح إلى الفضيلة وبصر بها وقدر لها وعجز عنها، وقصور دونها. وهؤلاء محمودون يرجى لهم أن تطابق أفعالهم يوما أقوالهم، حريون أن تجتمع فيهم الآمال والأعمال، محمودون بما دعوا إلى الخير على كل حال.
الإثنين 11 رمضان/26 يونيو
الضلال الكبير من الضلال الصغير
لو أن رجلا قصد إلى غاية فسار على طريقها، ثم مال يمنة أو يسرة فحاد عن الجادة أذرعا قليلة وتمادى في مسيره؛ لبعد عن الطريق آلاف الأذرع بعد قليل.
وإذا ذرع ذارع طريقا بذراع يزيد قيراطا أو ينقص، صارت زيادته أو نقصه آلاف القراريط ثم آلاف الأذرع على قدر طول الطريق. وهكذا الكيل والوزن والعد يؤدي فيها الغلط اليسير إلى الغلط الكبير.
والعالم الباحث إذا أخطأ في قاعدة من قواعده قليلا، عظم هذا الخطأ في مذهبه وتضاعف في أقواله كثيرا.
وأكثر المذاهب الضالة تحيد عن القصد بشبهة في المبدأ، فتصير فسادا عظيما في النهاية، كالذين توهموا أن أخوة البشر تقتضي إزالة أسباب التنافس بينهم فأباحوا الأموال والنساء؛ ونشأ من وهمهم في أخلاق الناس وسيرهم البوار، كما ينشأ النار من الشرار.
وفي كتاب «الكلستان» للشيخ سعدي أن بعض الملوك نهى الجند عن نهب شيء ولو بيضة قائلا: إن أساس الظلم كان ضئيلا فما زال الناس يبنون عليه حتى بلغ ما بلغ.
فليحذر المفكر والعامل الضلال اليسير ولا يحتقره، فهو كبير في معناه وهو عسير في منتهاه.
إن الكف تحجب الشمس، وقيل: إن هدبا انحنى على عين إنسان فخيل إليه أنه يرى الهلال في السماء، وادعى في الناس ما شاء.
الثلاثاء 12 رمضان/27 يونيو
في تكية محمد علي
ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء .
هذه الكلمة الطيبة تنبت في النفوس الخير، وتثمر البر والصلاح، فكيف بالعمل الصالح؟ إنه شجرة مباركة تمتد جذورها في الأرض فتخضر وتنضر وتزهر وتثمر، ثم يتفتق ثمرها عن النوى فيصيب الأرض فينبت ويترعرع، ويكبر ويزهر ويثمر، ويتفتق ثمره عن النوى دواليك ... نضرة وظل وثمر نافع لا ينقطع.
ذكرت هذا حين أحتفل اليوم بذكرى محمد علي باشا في التكية التي أسسها في مكة قبل مائة وثلاثين عاما، فما زالت هذه التكية تمد المساكين بالطعام كل يوم، وتمد الأسر الفقيرة كل شهر. فكم أطعمت جائعا، وسترت أسرة كريمة من الذين قال فيهم القرآن:
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ! بل كم ورد حوضها من حمامة وعصفور، ودجاجة وهرة لتروي ظمأها في حر مكة! ما جلست في التكية فرأيت وفود البائسين يأخذون الطعام لأنفسهم ولأسرهم إلا دعوت لمحمد علي وفاضت نفسي شفقة وعطفا على البائسين.
ولا جلست عند النافورة فرأيت الحمام يهفو إليها زرافات ووحدانا ليعب الماء، والعصافير تسقط واحدا بعد آخر فتحسو وتطير ثم ترجع، إلا دعوت لمحمد علي وقلت: ما أجمل البر بحيوان الأرض والسماء!
رحم الله كل بر بالناس، رفيق بالحيوان. وفجر الله ينبوع البر في كل قلب، وهدى الناس إلى البر في كل عمل، وأفاض نفس الإنسان رحمة على كل إنسان وحيوان.
الأربعاء 13 رمضان/28 يونيو
الخطرة واللمحة والمصادفة
لا تحتقر الخطرة في فكرك، واللمحة من بصرك، والمصادفة في عملك؛ فربما فتحت كل واحدة لك سبلا، ومدت أمامك آفاقا. وكم من اختراع أدت إليه خطرة لم يحقرها صاحبها، وهدت إليه لمحة لم يهملها لامحها، أو نبهت إليه مصادفة لم يغفل عنها المصادف!
ولعل أكثر ما يميز بين المخترعين والمفكرين والمؤلفين وبين غيرهم اهتمام أولئك بكل ما يعرض لهم، والتأمل فيه ووصله بما يليه، ومتابعة البحث والضبط والاستقراء حتى يهتدى إلى نتائج؛ فتخترع الآلة أو توضع النظرية، أو تؤسس قواعد علم.
هداني إلى هذه الكلمة أني تنبهت من رقادي اليوم وأنا صائم، فأحسست الهمود والكلال، فلم أهم بعمل يحتاج إلى مئونة من الجسم أو الفكر. ونظرت حولي إلى متناول يدي فرأيت مجلدا من كتاب «الذخيرة» لابن بسام، وقد رأيته من قبل مرات فلم أعبأ به، ففتحته على فصول للكاتب العبقري ابن شهيد، فحي في نفسي الإعجاب بهذا الرجل النابغ. وذكرت ما جال في فكري حينما أشرفت على نشر أقسام من هذا الكتاب، أن ابن شهيد جدير أن يشاد بذكره، ويعترف بمكانته، وعاودني الأمل في أن أخرج كتابا عنه يلفت النظر إليه، ويدعو الآباء إلى العناية به، وتقصي أخباره وآرائه ورسائله.
قلت لنفسي: إن تناول هذا الكتاب على كسل وتهاون، أثار في الفكر هذا كله، فإن صح عزمك فستخرج هذه اللمحة أو المصادفة كتابا عن «ابن شهيد».
وتلك الأمثال نضربها للناس .
الخميس 14 رمضان/29 يونيو
ضوضاء هذه المدنية
هذه مدنية ذات ضوضاء شديدة؛ ضوضاء حسية وضوضاء معنوية، ضوضاء نفسية وضوضاء خارجية في الأنفس والآفاق.
فالإنسان حيثما ثار وحيثما سكن تقلقه الأصوات من كل جانب، من السيارات والقطارات والمذياعات والمجاهر والمصانع وغيرها. أصوات تأخذه من كل ناحية في الطريق لا يجد عنها محيدا، وتتبعه إلى داره فلا يجد عنها مفرا.
ثم الضوضاء النفسية من المذاهب المتصادمة، والدعوات المتناقضة، والمقالات المتلاحقة في القيم والتافه، والجد والهزل. تعرضها على من يريدها ومن لا يريدها، ومن يفهمها ومن لا يفهمها، الجرائد والمجلات والمحاضرات والإذاعات وهلم جرا.
فالإنسان من هذه المدنية في ضوضاء ظاهرة وباطنة، تقلق بها النفوس وتضوى بها الأجسام. وأحسب كثيرا من العلل النفسية والجسمية وليدة هذه الضوضاء. ولكن الإنسان يعيش في هذه الآفات فيألفها فلا يفطن لها ولا يبرم بها، أو يفطن لها وينفر منها ويضيق بها، ولكن أين المفر؟
لعل أسوأ آفات هذه المدنية هذه الضوضاء؛ إنها اضطراب في النفس وقلق، وسقم في الفكر وخلل، وتعب في الجسم ومرض.
إن على الإنسان أن يفر من هذه الضوضاء جهده، ويطلب الهدوء والسكون بعيدا عنها ما استطاع. وإن على الحكومات أن تتعاون على التخفيف منها، وتغليب الإنسان عليها، بمنع ما يمكن منعه، والحد مما يمكن حده ... وهكذا. وما يدرينا؟ لعل هذا الخصام والنزاع والاحتراب كله أو بعضه من آثار هذه الضوضاء التي تدوي بها هذه المدنية الخرساء!
الجمعة 15 رمضان/30 يونيو
العدل والهوى
هجمت جيوش كوريا الشمالية، وهي في حضانة الروس الشيوعيين، على كوريا الحنوبية، وهي في حضانة الولايات المتحدة الأمريكية. هجمت بغتة دون إنذار فثارت الولايات المتحدة صائحة: وا رحمتاه للضعيف يفتك به القوي، وللحرية يعصف بها الطغيان! ويل للأمم من الشيوعيين الغدرة الفجرة! النجدة النجدة يا أحرار الأمم ...
واجتمع مجلس الأمن بعد ساعة، وقرر أن يطلب من المهاجمين الرجوع إلى حدودهم ومن الفريقين الكف عن القتال، ومن أمم الأرض نجدة كوريا الجنوبية لدفع العدوان عنها.
ولمصر مندوب في المجلس سألوه رأيه، قال: حتى أستأمر حكومتي. واهتمت الحكومة المصرية ووالى وزراؤها الاجتماع ينظرون ماذا يفعلون، ثم خرجوا على العالم بهذا الرأي الجريء الصريح:
إن هذه القيامة في أمريكا وألفافها من أجل كوريا، ليست إلا وجها من أوجه الخصومة والتنازع بين روسيا وأنصارها، وأمريكا وأحلافها. لم يقمها دفع على الحق، ولا غيرة على الحرية، وإلا فكيف استغاثت مصر فلم تغيثوها، وشكت فلم تشكوها، وتظلمت فلم تنصفوها؟ وكيف سلطتم عسف اليهود وظلمهم وقسوتهم على العرب، حتى قتلوهم وشردوهم، ولم ترثوا للعدل، ولم تبكوا على الحرية؟ إنكم تكيلون بكيلين، وتزنون وزنين، ولو صدقتم لقمتم بالقسط بين الناس سواء، ولم تحرموا الغدر عاما، وتحلوه عاما. قد جربنا كذبكم ونفاقكم، وعرفنا جلية أمركم، فاذهبوا فلسنا معكم.
السبت 16 رمضان/1 يوليو
دار خديجة
ما أعظم هذه الدار وما أجلها وما أبركها، وما أكثرها جدوى على المسلمين وعلى البشر أجمعين، وما أقدسها ذكريات وأعطرها نفحات!
إنها دار خديجة التي تزوج بها الرسول وعاش فيها، حتى هاجر إلى المدينة، والتي ولد فيها أولاده الذين ولدوا بمكة، أولاده كلهم ما عدا إبراهيم، وفيها نزل الوحي، نزل معظم القرآن الكريم، فيها ولد الإسلام ونشأ ودرج وترعرع.
يكاد زائرها يسمع دوي القرآن، ويتمثل خاتم النبيين في صلاته ومناجاته، ويرى حركاته يقابل الناس هاديا ومعلما وملقنا كتاب الله .
أي دار على وجه الأرض هي صلة الأرض بالسماء، والدنيا بالدين، كهذه الدار المباركة.
قد عني بها المسلمون وعمروها جيلا بعد جيل؛ ولكنهم لم يقدروها قدرها، ولم يوفوها حقها. وقد بناها اليوم أحد الأخيار لتكون مدرسة، شادها الشيخ عباس القطان جزاه الله خيرا. ما أجدرها أن تكون مدرسة للقرآن، وهدى للإسلام، لا أن تكون مدرسة كالمدارس التي تلفى في كل مدينة وقرية.
وينبغي أن تكون بها مكتبة تحوي المصاحف وكتب السنة، ويقصدها المسلمون من آفاق الأرض؛ إنها مهد القرآن والحديث.
أيتها الدار المباركة، ما أعظم ذكراك نعمة على البشر، ومعراجا للأرواح!
الأحد 17 رمضان/2 يوليو
بين المظاهر والحقائق
من لم تشغله الحقائق عني بالصور، ومن أعوزته المعاني دار مع الألفاظ، ومن لم تستأثر به عظائم الأمور شغلته صغائرها، ومن لم يعتد بعلم أو خلق أو عمل نافع، أولع باللباس والزينة والأثاث والمال. وهكذا تستطيع أن تعدد الأمثال، وتوالي القول على هذا المنوال.
ومن أجل ذلك كان العلماء والصالحون والأخيار في شغل بعلومهم وأعمالهم من العناية بالصورة، وفي كلف برعاية الباطن يصرفهم عن رعاية الظاهر.
وليس عيبا أن يجمع الإنسان بين الحقيقة والصورة، وبين الظاهر والباطن، وبين جمال النفس وزينة الجسم. ولكن العيب أن يركن إلى الصور والظواهر، ويستهين بالحقائق والبواطن.
أثار في نفسي هذه الفكر أني سمعت الليلة محدثا في إذاعة لندن يصف دار جريدة التايمس، وناهيك بالتايمس صيتا وسلطانا، وغنى ومكانة في المشرق والمغرب. وصف هذا المحدث دار التايمس فقال: إنها دار عتيقة موصل بعضها ببعض، يسير زائرها في طرق ملتوية، ويمر بأبواب قديمة، ولا يجد أبهة في مجالس الكتاب والمديرين، ولا زينة في أثاثهم.
قلت: اكتفوا بالحقائق الجليلة الغنية عن العناية بالمظاهر والتجمل بالبناء والأثاث.
الإثنين 18 رمضان/3 يوليو
المحاربة بالخنافس
سمعت الليلة في إذاعة لندن أن حكومة ألمانيا الشرقية الخاضعة للروس تتهم الولايات المتحدة بأنها تلقي من طائراتها ضربا من الخنافس، اسمه «خنافس كلورادو» وهي من أشد آفات البطاطس.
وقد ردت بعض الصحف البريطانية بأن هذه الخنافس منتشرة في شرقي ألمانيا وجنوبيها وأقاليم أخرى وأنها سريعة الانتشار، وقد عبرت نهر المسيسبي. وهي تعبر الأنهار وتغير من بعض الجزر البريطانية على أوروبا، فليست في حاجة إلى أن تحمل في طائرات وتلقى منها. وقد سمت جريدة مانشستر جارديان الإنجليزية هذه الخنافس بالخنافس الفاشية.
سمعت الإذاعة وضحكت والتفت إلى سيدة في المجلس فأخبرتها بالخبر، فقالت: أفعال صبيانية! قلت: أجل، إن كان الخبر كذبا فالذين اخترعوه صبيان، وإن كان صدقا فالذين ألقوا الخنافس صبيان، ولكنهم صبيان سوء. وحسب أوروبا أن تبلغ في عدائها وحربها هذا المستوى، وحسب العالم صغارا وعارا أن تشغل دوله وجرائده ومذياعاته بمثل هذه التهم، ومثل هذا الجدل، والله المستعان.
الثلاثاء 19 رمضان/4 يوليو
مقتل علي
سمعت الليلة مذيعا من دهلي يحدث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتذكرت أن اليوم ذكرى مقتله، وجال فكري عجلا في التاريخ، وتمثلت هذه الجريمة الفظيعة والجناية المشئومة في تاريخ الإسلام. ولكني عزيت نفسي بأن عليا كان سيموت إن لم يقتل وبأن تاريخ البشر مملوء بأمثال هذه الجنايات، وأن الأمر كما قال الله في القرآن:
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون .
وكان فكري تأمل طويلا في إقدام ابن ملجم على قتل علي، قلت: لقد قتل عمر من قبل في مسجد رسول الله؛ ولكن كان قاتله عجميا مجوسيا أراد أن يثأر من المسلمين ففجعهم في عمر العظيم وهو يتقدم للإمامة في المسجد النبوي، وهذا ابن ملجم مسلم وعربي، فكيف أقدم على هذا الإثم الفظيع؟!
قلت: هذا هو الشر الكبير؛ أن يضلل الجهلة الأغبياء فيقدموا على أفظع الفظائع وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ظن ابن ملجم أنه يتقرب إلى الله بدم علي، ووجدنا من يقول فيه:
يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
وهذا هو الشر الذي لا يزال يصيب البشر في عظماء الناس حينا بعد حين، فيقتل أخيارهم بأيدي أشرارهم أو يصيب علماءهم بجهل جهلائهم، فليتق الله الذين يتكلمون ويجادلون، فيثيرون الجهلة الأغرار وينقلب كلامهم في نفوس هؤلاء الجهلة الحمقى ضلالا وغرورا، وحقدا وقتلا، ثم لا يستطيع البشر كلهم أن يتداركوا الأمر ويأسوا الجرح.
الأربعاء 20 رمضان/5 يوليو
أحسن الأوقات ما أنت فيه
وقفت اليوم في شرفة من دار المفوضية في جدة أنظر إلى الشمس وهي مضيفة للغروب وردة صافية، والأفق حولها أبيض إلا ما لونته أشعتها، قلت: ما أجمله مرأى، وما أجمل هذا الوقت في رمضان! إن من محاسن هذا الشهر أن أوقاته محسوبة مرتقبة، ترقب المغرب والفجر، وتحسب ساعات النهار والليل، وهذا بعض ما فيه من تغيير في هذه المعيشة المتشابهة.
ثم خطر لي أني في الأصائل من الأشهر الأخرى أمشي على ساحل البحر مرحا، أقسم تأملي بين السماء والماء، وأنا في رمضان لا أستطيع خروجا ولا مسيرا؛ فثار في نفسي الجدال بين أوقات رمضان وغير رمضان واستطردت إلى قياس الأزمان والتفضيل بينها: الشتاء والصيف، والليل والنهار ... وهلم جرا.
فلما ترددت نفسي في الموازنة بين الأوقات، فجأني إلهام من الغيب: إن هذا للعجز؛ إن العجز أن يخضع الإنسان لسلطان الوقت بين حره وقره وأحواله المختلفة. إن وقتك أنت، فما أحسنت فيه فهو أحسن الأوقات، وما أسأت فيه فهو أسوأ الأوقات. بل خير أوقاتك حاضرك، فهو فرصة التقدم ونهزة الكمال.
أيها الحر المقدام الذي لا يخضع للزمان والمكان! اجهد أن يكون خير أوقاتك ما أنت فيه.
الخميس 21 رمضان/6 يوليو
انف عن فكرك وكتابتك الصغائر
سمعت أيام الشباب أن أستاذا إنكليزيا كان يقول لتلاميذه: إن مقدرة الباحث تبين فيما يحذف أكثر مما تبين فيما يثبت.
وشهدت صدق هذا القول فيما نقدت من رسائل الطلاب في الجامعات؛ إذ رأيت الطالب يكتب ما لا يحتاج إليه، أو يزيد على مقدار الحاجة فيما يحتاج إليه. وهذا عجز عن التمييز بين ما هو من الموضوع وما هو غريب عنه، وعن إدراك المقدار الذي يلائم البحث والذي لا يلائمه، وربما يدل الطالب على جهله أو عجزه بالإثبات أكثر مما يدل بالحذف.
ويمكن أن تطرد القول فيما تفكر فيه وما تقرأ. فكم يفكر الإنسان في لغو أو شر يشغله عن التفكير في الصالح من الأمور أو الجميل منها، ثم يدع في النفس أثرا سيئا!
وكم يقرأ الإنسان ما لا يستحق أن يشغل البصر والفكر فيخسر قراءة ما ينفع، ولا تخلو قراءة اللغو والباطل من أثر سيئ في نفس القارئ!
فليجتهد المفكر أن يجتنب، فيما يفكر فيه وفيما يكتب ويقرأ، النوافل والتوافه والسيئات.
وليعمل المعلمون على أن يعلموا تلاميذهم أن يشغلوا أنفسهم بالخير عن الشر، ويريحوا عقولهم من عناء التفكير في اللغو أو الباطل، ويكفوها مئونة ما لا خير فيه.
الجمعة 22 رمضان/7 يوليو
الأذان بين التركية والعربية
الأذان شعار المسلمين في أرجاء الأرض، وهو مؤلف من عشر كلمات يعرفها كل مسلم؛ فقد دخلت في لغته، وتمكنت في نفسه أكثر من نظائرها في لغة قومه. ولم يكن بالترك حاجة إلى التأذين بالتركية، ولكنها الثورة على سنتنا والرغبة في الخروج من تاريخنا.
الترك يخطبون في مساجدهم بالتركية إلا تحميدا بالعربية في أول الخطبة وآية أو حديثا، وإلا ختما بدعاء أو آية أو حديث. وهم بهذا يجمعون بين التمسك بلغة القرآن وخطاب الناس بلغتهم، وهي طريقة حميدة. وليس منصفا من يلزمهم أن يخطبوا بالعربية والناس لا يفهمونها. ولكن الأمر في الأذان غير هذا؛ فهو شعار يفهمه كل مسلم.
وقد أجمع من سمعوا الأذان التركي من عرب وعجم على أنه لا يشبه الأذان بالعربية في اتزان الكلمات وحسن المقاطع، وحسبك أن تعلم أنهم ترجموا «أشهد»، هذه الكلمة الواحدة بقولهم: «شبهه يوق بيليرم، بيلديررم»؛ أي لا شبهة أني أعلم وأعلم. وشتان بين: الله أكبر، يمتد فيها الصوت وينتهي حسنا رائعا، وبين: «تنكري أولودر.»
لقد أحسن الترك حين محوا هذه البدعة فرجعوا إلى الأذان الإسلامي. إني على يقين أن الأمة التركية فتحت آذانها وقلوبها لهذا الأذان، وطربت في سرها وجهرها بهذه الألحان.
فليت شعري! هل فرحت مآذن جوامع الفاتح والسليمانية والسلطان أحمد وبايزيد وأخواتها فكبرت فرحا، وأنست إلى النغمات التي ألفتها ، وأصاخت إلى الكلمات التي افتقدتها؟
السبت 23 رمضان/8 يوليو
الفروق بين الناس
خلق الله الناس مختلفين في صورهم ومواهبهم؛ تختلف أمة عن أمة، وجماعة في أمة عن جماعة، وأسرة في جماعة عن أسرة، وفرد في أسرة عن فرد.
ولا يضرنا أن يختلف الناس في معايشهم كما يختلفون في صورهم ومواهبهم، بعد أن ينال كل منهم ضرورات العيش من القوت واللباس والمسكن. هذه الضرورات ينبغي أن يتعاون عليها الناس على اختلاف أرزاقهم وأقدارهم حتى ينالها كل منهم. فليس من الإنسانية أن يكون في الأمة عاجز عن الكفاف من القوت وعن اللباس والمسكن؛ هذا المقدار لا يسوغ الاختلاف فيه.
فإذا نال كل إنسان ضرورات العيش فدع الناس يتسابقوا في الفضول، يجهد كل منهم ليله ونهاره ليكسب ويجمع ويدخر، فكل ما يعمل بجهده واختياره إنما يعمله لخير الأمة كلها وإن لم يقصد إلى هذا الخير. وتكفى الأمة المراقبة والمحاسبة والقهر والإجبار، والشبهة والتهمة، من المساوئ التي نجدها في الأمم التي تمنع الملك والادخار، ويكفى الفرد العبودية والتسخير.
ليس يضيرنا بعد تحصيل ضرورات العيش والتعاون عليها وتوفيرها لكل أحد أن يحصل هذا عشرة آلاف ويحصل ذاك مائة ألف أو ألف ألف، إنما هذا لعب الحياة ولهوها، فدع الناس يتسابقوا فيه كما يتسابقون بالخيل وأنواع اللهو. دع كل واحد يحمل نفسه ما يشاء من السعي والكد، وخذ منه لحاجات من لم يحصل، ثم لا تحجر عليه أن يتمادى في سعيه وكده فإنما تعمر الدنيا وتلذ المعيشة بهذا السباق.
الأحد 24 رمضان/9 يوليو
ملك العالم
إذا أوتي الإنسان ما يكفل حاجاته، فقدر على أن يسكن في دار وافية بمرافقه وأن يلبس من الثياب ما يرضيه، وأن يأكل ما يشتهيه، وأن يستطب إن مرض، وأن يركب إلى آفاق الأرض ما أخرجت الفنون والصناعات من وسائل السفر في البر والبحر والجو.
إذا قدر إنسان على هؤلاء فقد استمتع بما اخترع المهندسون وأتقنوا، واستمتع بما أخرجه النساجون والزراعون والتجار والصناع في أرجاء الأرض، وكان كل زارع وصانع وتاجر على وجه الأرض كأنما يعمل له، ويعرض عليه عمله، ويود أن ينتفع بهذا العمل.
وإن كان هذا الإنسان ذا عقل وعلم أو أدب انتفع واستمتع بقراءة ما أخرجت العقول من كتب وصحف.
إذا قدر إنسان على أن يستمتع بكل ما تخرج أيدي البشر وعقولهم، وهذا ليس مستحيلا ولا بعيدا؛ فكل إنسان أوتي بسطة من الرزق قادر عليه، بل يقدر عليه كثير ممن لم تبسط أرزاقهم، فليت شعري! أي فرق بين هذا الإنسان في حالاته هذه وبين أن يكون ملكا على الأرض كلها يسخرها كما يشاء؟ لا فرق إلا أن هذا المستمتع بما في العالم دون أن يملكه خال من الهم، مستريح من التبعات، موفر له فكره ووقته.
إن أنصف الناس وتعاونوا لم يبعد أن يبلغ كل إنسان هذه الغاية، فيعيش البشر كلهم وكأن كل واحد منهم ملك الأرض كلها، يعمل له من في الأرض جميعا، ويسعد بأيدي الناس أجمعين، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
الإثنين 25 رمضان/10 يوليو
أذان الفجر في الحرم
ذهبت إلى المسجد الحرام سحر الليلة السادسة والعشرين من رمضان، فرأيت المصلين تحلقوا حول الكعبة، وتوالت حلقاتهم حتى شغلت المسجد كله، فأخذت مكاني على مقربة من الركن اليماني فصليت، وقعدت أرقب الطواف؛ أرقب هذه الدائرة الأبدية التي لا تقف نهارا ولا ليلا، فعرضت علي أجناس البشر تختلف قسماتهم وأزياؤهم وتتفق في هذا المركز قلوبهم.
وكلما اقترب الفجر ضاقت دائرة الطائفين وقاربت الكعبة صفوف المصلين.
والنور يحيط بالكعبة في دوائر تشبه دوائر الطائفين والمصلين. والقمر مطل من ناحية أبي قبيس يشارك هذه المصابيح وينافسها وينازعها هذا الشرف؛ يشاركها إضاءة الحرم.
ثم دوى الأذان فإذا هذه الحركات؛ حركات المصلين والطائفين والداعين، تترجمها كلمات الأذان، توجزها إيجازا وتؤلف بينها تأليفا. هذه المشاهد والدعوات تترجمها كلمات قليلة انبعثت من المآذن، فسرت في الهواء قشعريرة خيل إلي أن المصابيح تخفق لها كما تخفق قلوب حاضري المسجد.
وكانت المآذن في جوانب الحرم تتداول كلمات الأذان واحدة بعد أخرى؛ فيدوي الصوت حول المسجد متتابعا كأن له حول الكعبة طوافا .
رأيت الناس والأضواء والأصوات في دوائر متصلة متلاصقة تخيلتها تعم العالم كله، وتمثلت جماعات المصلين في أرجاء الأرض كلها وراء هذه الجماعة، والصوت الجميل مستمر تدوي به المجاهر، وتدور به المآذن، حتى ارتدت كلمات الأذان مشاهد رائعة، إذ انتفضت هذه الجماعات قياما واصطفت حول الكعبة للصلاة.
إنه لمشهد يريد فكرا وقلبا وخيالا.
الثلاثاء 26 رمضان/11 يوليو
ليلة القدر
أردت أن أعتمر في رمضان، ومضت أيام الشهر سراعا فإذا الثلث الأخير، فأردت أن أعتمر ليلة الخامس والعشرين ففاتتني. وقيل: إن بعد غد ليلة القدر، والناس يحبون الاعتمار فيها ويحرصون عليها حرصا تعلمه، قلت: إني أكره الزحام وأبغض الضوضاء، ولو في المسجد الحرام وبين الصفا والمروة ليلة القدر.
سأعتمر في غير ليلة القدر وأوثر بها إخواني الحراص عليها فلا أزحمهم فيها، ولعل في هذا الإيثار ما يربو على ثواب الاعتمار، كل معتمر فيها يزحم إخوانه لنفسه، وأنا أحرم نفسي لإخواني، سأبعد بنفسي عن المزدحم فلا أزاحم أحدا ولا أوذي أحدا.
وذهبت إلى مكة فاعتمرت ليلة السادس والعشرين، قيل: فلتعد إلى مكة ليلة السابع والعشرين؛ إنها ليلة القدر ومثلك يعرف فضائلها.
قلت: إننا لا ندري متى ليلة القدر، أهي في السنة كلها أم في رمضان كله أم في ثلثه الأخير، أهي في الوتر من الثلث الأخير أم في ليلة السابع والعشرين خاصة؟ وما أحسب الرسول أراد بإخفائها إلا أن يلتمس كل إنسان ليلة قدره.
إن ليلة القدر ليلة ترقى نفسك، ويصفو ذهنك ويطهر قلبك، وتتجه إلى الخير نيتك وتستعد للفيض الإلهي. هذه ليلة القدر لك، لا ما حسب الحاسبون وقدر المقدرون. التمس ليلة القدر في نفسك، إن الله سبحانه قادر أن يجعلك في ليلة قدر دائمة، أن يجعل لياليك كلها ليالي قدر. رحم الله حافظا الشيرازي يقول:
براءة ليلة القدر استلمنا
ووافى الليلة الحظ السعيد
برات ليلة القدر بدستم
زبخت خويش بر خوردارم امسب
الأربعاء 27 رمضان/12 يوليو
الحرم
لا بقعة على وجه الأرض أكرم على المسلمين وأولى بعنايتهم من المسجد الحرام؛ فهو لا ريب مرآة أحوال المسلمين، ومقياس حضارتهم. فإن كان فيه سعة وعظم وجمال ونظام، فللمسلمين نصيب من هذه المعاني، وإن كان في ساحته ضيق، وفي بنائه نقص، وفي جماله خلل، وفي نظامه اضطراب، فلا يبرأ المسلمون من هذه النقائص.
إن المسجد يضيق بقصاده، وليس فيه من فخامة البناء وجمال الهندسة ما هو أهل له. والناس ينامون فيه ليل نهار فيضيقون من ساحته ويغضون من كرامته. والمساكن مطلة عليه متزاحمة حوله، بل تأخذ من أبنيته. وكثير من أبوابه يفضي إلى أزقة ضيقة، ومسالك مظلمة.
والناس يذهبون إلى مكة فيرون فيشكون ويتفرق الحجيج فيسكتون.
لا بد أن يسارع إلى توسيع الحرم حتى يسع من يؤمه من الحجيج ولو اجمتعوا فيه كلهم، ولا بد لهذه التوسعة من زحزحة هذه الدور المطلة عليه، ولا بد من إحاطته بشوارع فسيحة. ولا بد من إغناء الحجاج عن النوم فيه بأماكن أخرى، ثم لا بد - حين تتيسر هذه الأماكن - أن يؤخذ الناس بالشدة فلا يرى فيه إلا مصل أو طائف أو قارئ أو ذاكر.
وهذا كله لا يتسنى إلا بجماعة من المسلمين يوكل إليها الإشراف على الحرمين، وتوفر لها الحكومات الإسلامية الأموال فتعمل على مر الزمان لحفظ الحرم وتجميله، وتبني الدور والمستشفيات والمدارس وتمهد الطرق، وتمد الحرمين بالماء والكهرباء، وتجعل مكة والمدينة كما يجدر بهما، وكالبلاد المقدسة عند سائر الأمم.
ليت شعري! متى تتحقق هذه الآمال فيمحى عن المسلمين هذا العار؟
الخميس 28 رمضان/13 يوليو
العقل والعشق
يكثر كلام الصوفية في العقل والعشق، الأول عندهم ضعيف جبان تشغله الصغائر والجزئيات، والثاني قوي مقدام يهجم على الحقائق الكبرى والكليات.
صور الصوفية هذا في صور مختلفة، وأبانوا عنه بعبارات شتى، من الشعراء الكبار: سنافي والعطار وجلال الدين الرومي، إلى شاعرنا العظيم: محمد إقبال.
ولا أريد أن أحد العقل والعشق كما يؤخذ من أقوالهم، ولكني أذكر كلمات متفرقات تميز بينهما وتهدي القارئ سبيلهما.
العقل يرى أن من الخطل أن يموت الإنسان في سبيل شيء، فكل ما على الأرض يقوم عند الإنسان بمنفعة، فمن التناقض أن يقتل نفسه في طلب شيء فيفوت كل شيء! فما الذي يهجم بالإنسان على الموت غير هياب؛ دفعا عن عقيدته أو حريته أو كرامته؟
والعقل يقبل أن يترك الإنسان الكدح إن وجد طعاما هنيئا ورزقا ميسورا عند أمير أو كبير، يسير وراءه ويأتمر بأمره فيجد راحة جسمه ونفسه. فما الذي يربأ ببعض الناس عن الاتباع، ويجعلهم يؤثرون الخبز القفار أو الجوع على مذلة الخضوع والائتمار؟
ثم العقل يستقري أشياء من المادة التي تحيط به في هذا العالم، فهو محدود فيها مشغول بها، يستوي في بحثه الإنسان والبهائم والنبات والخير والشر والحسن والقبح، صور من الخارج تنطبع فيه. فما هذا الذي يسلط الإنسان على العالم إحاطة وتسخيرا وتذليلا، وينزع به إلى الخلود والإباء على القيود والحدود، والطموح إلى المعاني الأبدية؟
على أن الصوفية يقدرون العقل ويقومونه حين يصاحب العشق، فيأخذ من نوره ويسير في هديه.
وهذا موضوع يضيق عنه المقام هنا؟ وفي كتابي عن «فريد الدين العطار»، وفي «پيام مشرق» و«ضرب كليم» ديواني الشاعر محمد إقبال، اللذين ترجمتهما إلى العربية، نظرات شتى في هذا الصدد.
الجمعة 29 رمضان/14 يوليو
رمضان الآتي انتهى
اليوم آخر رمضان، ورمضان علم في الأشهر، يعرف المسلمون كم بقي له، وكم مضى بعده. وإذا كانوا فيه يعرفون كم مضى منه وكم بقي، وفي كل يوم منه يذكرون كم ساعة مضت وكم ساعة بقيت؛ لهذا يعرف به المسلم مضي الزمان ودورانه وإسراعه. فهو يودع رمضان ثم يستقبله فيذكر أن حولا مضى، وإذا ذكر رمضان الذي يودعه ورمضان الذي يستقبله، وقدر فرق ما بينهما راعه كر الأيام عجلى، لا يستطيع لها وقفا ولا ريثا.
وأذكر أنني قلت لقريب لي في رمضان، وقد مضى معظمه: «رمضان انتهى»؛ أعني أن ما بقي منه لا يعتد به، وأعجب من سرعة الأيام، فقال: رمضان الآتي انتهي! فهالتني الكلمة وفكرت، فقلت: أجل، الزمن سائر مسرع، ورمضان الآتي قريب، وكل آت سيمضي. فما هي إلا شواغل العيش تتداول الإنسان فإذا رمضان الآتي أقبل وإذا رمضان الآتي انتهى.
ولقيني قريبي هذا بعد في رمضانات عدة، فقال: رمضان الآتي انتهى! فقلت: قد صدق قولك في رمضانات مضت، فما أحراه أن يصدق في رمضانات مقبلة، والأمر لله من قبل ومن بعد.
إن الزمان مسرع بنا مجد، فكيف نثبته بل كيف نخفف من سيره؟ لا حيلة إلا أن نثقله بالعمل الثابت والفكرة الراجحة، فإذا أوقرته بالقول الثابت والعمل الخالد لم يستطع أن يسرع بهما بل يتريث بهذا العبء، أو يعترض جريته هذا الثقل اعتراض الصخرة الكبيرة مجرى النهر.
ليثبت الإنسان نفسه وليكبر على أن يجرفه التيار كما يجرف الغثاء والأعواد الصماء.
السبت 30 رمضان/15 يوليو
العيد
هذا يوم العيد، وأنا بعيد عن الوطن والآل والصحب؛ ولكني لا أحس اغترابا، فأنا في الحجاز، أسير بين الحين والحين إلى مكة، وهي أم القرى، وبلدة كل مسلم.
لا أقول ما قال أبو الطيب المتنبي في عيد الأضحى سنة خمسين وثلاثمائة، وهو يخرج من مصر مغاضبا كافورا:
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدا دونها بيد
فهذه البيد التي بيني وبين بلدي، وهذا البحر الذي يعترض بيني وبين مصر خطبهما يسير، فالباخرات تنقلني إلى الوطن في أقل من ثلاثة أيام، والطائرات تطير بي إلى بلدي في أقل من خمس ساعات، والبريد يبلغ رسائلي في يوم، والبرق يبلغ أخباري في ساعة أو بضع ساعات. وأنا أسمع أخبار وطني وأغانيه وأحاديثه في موضوعات شتى بالمذياع فور النطق بها، لا فرق بيني وبين الجالس مع المتكلم. وأنا أقرأ صحفه بعد يوم من نشرها.
فأين الاغتراب في هذا الزمان؟ أجل، إنه اغتراب وبعد عن الأهل والدار والمرافق، ولكن أين هو من اغتراب أهل العصور الخالية؟ كان أحدهم ينفصل عن جدران قريته فتنقطع أخباره وتنقطع أخبارها، إلا أن يلقاه مسافر فينقل إليه خبرا لا يسكن إليه ولا يشفي غلته.
لقد طويت الأرض وزويت أقطارها وامحت المسافات.
الأحد 1 شوال/16 يوليو
ألعابنا
هذا ثاني أيام عيد الفطر، وأنا في جدة أرى الناس يسيرون مواكب إلى ظاهر البلد، يغنون ويزمرون ويصفقون ، فأذكر ما روي في السيرة النبوية أن جماعة من الحبش دخلوا إلى مسجد الرسول في يوم عيد ينشدون، فرآهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولم ينكر عليهم. وأنه مر بجماعة من الحبش يلعبون الدركلة فقال: جدوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة.
وأعجبني في هذا الموكب أن لها لعبا ولهوا ما رأيته في بلاد أخرى، فهو اختيارها وملاءمة معيشتها وبيئتها. وذكرت كثيرا من ألعابنا التي حقرناها حتى هجرناها، وفيها متعة للنفس، ونشاط للجسم. حقرناها لأنها من عاداتنا وتاريخنا لم نأخذها عن الحضارة الغربية، فآثرنا عليها ألعابا أخذتها مدننا من هذه الحضارة، وماتت ألعابنا في القرى أو كادت، ولم يستبدل الناس بها ألعابا أخرى. إن علينا أن نبقي على ضروب اللعب التي عرفتها قرانا، وأنواع الفروسية التي حرصنا عليها دهرا، فكثير منها يذهب إلى غير خلف من لعب قديم أو حديث.
إن لنا وزارة تشرف على الشئون الاجتماعية، وإن أول فروضها - فيما أرى - المحافظة على لعبنا وإصلاحه، والحث عليه والاستفادة منه في تقوية الأجسام والأخلاق. إن بعض اللعب هو في ظاهره لعب وفي حقيقة أمره جد، له في سيرة الأمم آثار بليغة.
الإثنين 2 شوال/17 يوليو
نبوغ في الكلام
روي أن الأحنف بن قيس قدم على عمر رضي الله عنه في وفد من البصرة، فوجد فيه عمر فصاحة ولسنا، وحسن حديث وفنون كلام. فلما هم الوفد بالارتحال دعا عمر الأحنف إلى التريث في المدينة أياما ليعرف حقيقة أمره، ثم أذن له في الرجوع وقال: «ما اتهمتك، ولكن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حذرنا كل منافق صنع اللسان.» قد كان لسن الأحنف مؤديا إلى التهمة، ومثيرا للشبهة في نفس عمر حتى تبين له أن الأحنف صادق غير منافق.
وكذلك تجد الوحدان والجماعات أقربها إلى الصدق والجد أقلها كلاما، يشغلها الفعل عن القول، ويغلب فيها الفكر واليد على اللسان. وأقرب الناس إلى البطالة والهزل أكثرهم كلاما، وأذربهم لسانا، إلا قليلا. لو اتصل اللسان بالفكر لقيده الفكر، ولو صحب القول العمل لوقره العمل. ولكن اللسان يتقلب في هواء لا ينفد، ويصرف ألفاظا لا تحد. قول بغير حساب، وقشر ليس فيه لباب.
وكم قال الناس قديما في كثرة الكلام وقلته، وفي ثقله وخفته! وما يتأمل متأمل في أحوالنا إلا يجد تصديق ما قيل، فحركة ألسنتنا تربي كثيرا على حركات العقول والأيدي، وابتكارنا أكثره في الكلام لا في النظام، وفي القول لا في الفعل. رحم الله من جعل عقله على لسانه رقيبا، وعمله على قوله حسيبا.
الثلاثاء 3 شوال/18 يوليو
فتح الرياض
أعدت الحكومة السعودية للاحتفال بمضي خمسين عاما على فتح مدينة الرياض في الرابع من شوال سنة 1319؛ الفتح الذي قامت به الدولة السعودية الحاضرة.
وكان في منهاج الاحتفال نشر كتاب فيه صور المنشآت التي أنشأتها الدولة في الخمسين عاما، وحفلات في المفوضيات السعودية، وضروب من الصدقات في المملكة.
وأذيع قبل موعد الاحتفال بيومين أن جلالة الملك عبد العزيز سأل العلماء فقالوا: لا عيد في الإسلام إلا ما سنه الشرع؛ فعدل عن الاحتفال بالعيد. ولكن البلاد العربية وبلادا أخرى تعنى بشئون المملكة السعودية، كانت أعدت خطة للمشاركة في الحفاوة بهذه الذكرى، فلم تر المملكة السعودية بدا من أن تشارك هي كذلك.
أخبرت أمس أن الإذاعة السعودية ستحتفل بالعيد في موعده ولن تسميه عيدا، وطلبت مني كلمة كنت وعدت بإذاعتها.
كتبت كلمة فيها طرف من مكانة المملكة السعودية، مكانتها التاريخية والدينية، وفيها طرف من سيرة الملك عبد العزيز، وقلت: إنا لا نحتفل بفتح الرياض ولكن بالخمسين عاما التي تلت هذا الفتح ويسر الله فيها ما يسر من الإصلاح والعمران. وإن هذه الخمسين فيها غير وعبر ينبغي أن ينتفع بها في العمل لمستقبل مجيد سعيد لهذه المملكة. والحق أن وراءنا ماضيا حسنا كان فيه التأسيس والتجريب، وأمامنا مستقبلا نرجو أن نجعله للتشييد والانتفاع بالتجاريب. وما خاب من بنى على التجارب، وجعل يومه عدة لمستقبله، وأعماله وسائل متتابعة إلى التقدم والتكمل.
الأربعاء 4 شوال/19 يوليو
أحرار مقتدون وعبيد مسيبون
في الناس أحرار لا تستعبدهم رغبة ولا رهبة ، ولا يسيرهم حرص ولا طمع، ولا يذللهم حب الغنى ولا خوف الفقر، ولا يهمهم وجدان أو حرمان.
وهم على تحررهم من رجاء الناس وخوفهم، آخذو أنفسهم بالسيرة القويمة، والطريقة المستقيمة، ومكلفوها الخطة الشاقة، ومحملوها العبء الثقيل. فهي في قيد الحق ووثاق العدل تمضي على السبيل الضيقة الطويلة لا تحيد يمنة ولا يسرة، على كثرة الخدع على جانبي الطريق وعلى ازدحام الفتن حفافيها، وعلى قدرتها أن تنال ما تشاء.
هؤلاء أحرار مع غيرهم، مقيدون مع أنفسهم؛ أحرار تسيرهم إرادتهم، وتمضي بهم عزيمتهم. وتلك غاية الحرية، ليس لأحد عليهم سلطان إلا نفوسهم.
وفي الناس عبيد تستعبدهم الرغبة والرهبة والحرص والطمع والخوف والرجاء، تذللهم كل شهوة ويصرفهم كل هوى، فهم تبع لكل مرجو، سخرة لكل قوي. ولكنهم على هذه العبودية مسيبون في شهواتهم إذا خلوا إلى أنفسهم، راتعون في آثامهم إن أمنوا سطوة القانون وغضب من يخافون ومن يرجون. هؤلاء عبيد مع الناس، أحرار مع أنفسهم، ولكل أحد عندهم حرمة إلا أنفسهم، ولكل شيء عليهم سلطان إلا قلوبهم، وتلك غاية العبودية.
الخميس 5 شوال/20 يوليو
عظة
صليت الجمعة اليوم في جامع عبد الله بن عباس الذي في الطائف، وشهد الصلاة بعض كبار الأمراء السعوديين، وجلست معهم في الصف الأول. وبعد الصلاة نودي للصلاة على جنازة، وكانت الجنازة في فناء المسجد خلف المصلين، وأريد أن يصلي عليها الحاضرون كلهم، فحملت الجنازة وتخطى حاملوها الصفوف حتى وضعوها أمام المحراب موضع الصف الذي كنا فيه، فتقدمت الأمراء والكبراء وسائر من شهدوا الصلاة.
وقمنا للصلاة عليها وملء نفسي الخشوع والعبرة؛ قلت: يا لها حقيقة هائلة هذه الحقيقة التي تلقف كل هذه المظاهر؛ حقيقة الموت التي تقهر كل شيء ولا تقهر، الموت الذي فضح هذه الدنيا كما قال الحسن البصري. هذه الحقيقة التي كانت خلفنا أبت إلا أن تذكر بنفسها، وتنبه من غفل عنها، فجازت صفوف الأحياء، وتخطت الحرس وتقدمت الكبراء وأخرت الأمراء واستقرت عند المحراب في الصف الأول، أمام الناس جميعا. إن في ذلك لذكرى لمن كان له كان قلب.
هذه الجثة الهامدة بهذه الحقيقة الهائلة أبطلت كل المظاهر، ولقفت كل هذه الصفوف، وأجبرتها على الشخوص نحوها والتفكير فيها، بل جمعتها فكانت جمعها، وفذلكة حسابها، أو كما يقول المعري:
لو نخل الناس لما حصلت
شيئا، سوى الموت، يد الناخل
لا أقول هذا تثبيطا للأحياء ودعوة إلى الحزن والبكاء كما يذهب المعري وأمثاله، ولكن أدعو إلى العمل والإقدام والتوكل والتقدم في غير غفلة عن الحقائق، ومع الاعتبار بالحادثات، والاتعاظ بالواقعات.
الجمعة 6 شوال/21 يوليو
البكور يطيل العمر
يقال: إن التبكير يطيل العمر، ويروى في الأثر: بورك لأمتي في بكورها. ومعنى طول العمر والبركة اتساع الوقت للعمل، فالمبكر يدرك من الزمان ما لا يدركه النئوم الكسول الذي يستيقظ بعد أن يمضي ريق النهار، فهو يعي من الزمن أكثر مما يعي من تأخرت يقظته كل يوم، وهو يبادر إلى العمل فيسبق من يتأخر عنه، ويجد من أسباب النجح ما لا يجدها الآخر، ويتسع وقته للعمل فيدرك أكثر مما يدرك المتأخر.
أكتب هذه الكلمة في المويه؛ قرية صغيرة في الطريق من مكة إلى الرياض، وقد بتنا في العشيرة فصلينا الصبح وشربنا لبنا وشايا. وركبنا فضربنا في البادية ثلاث ساعات إلا عشر دقائق فإذا نحن في المويه، فشربنا القهوة واسترحنا ونمنا حتى زال تعب السفر ثم قمنا فأفطرنا، ونظرت في الساعة فإذا ثلاث ساعات مضت من النهار.
وكثيرا ما تمضي هذه الساعات الأولى، وهي شباب النهار، في نوم أو كسل أو عبث لا يكسب فيها الإنسان صحة ولا لذة ولا عملا.
إن أسلافنا كانوا يبكرون، يصلون الفجر ثم لا ينامون، فيخرجون إلى أعمالهم فيفرغون مما يهمهم منها قبل أن يشتد الحر، وقبل أن يفتر النشاط. ولا يزال كثير من أهل المدن في بلادنا ومعظم أهل القرى يفعلون هذا. فأين من هذا النشاط وهذه البركة الكسالى اللذين يقتلون أول النهار مثقلين في مضاجعهم لا يعملون؟! وبئس هذا الكسل مقدمة للعمل وفاتحة لليوم!
أليس في التبكير بركة؟ أليس فيه طول العمر؟ أليس طول العمر أن ينفسح الزمان للإنسان في هذه الحياة وأن يتسع له الوقت للعمل؟
السبت 7 شوال/22 يوليو
الأخوة الحق
سرنا من الطائف نؤم الرياض مساء يوم الجمعة الماضي، وكان من رفقائنا طبيب روسي الأصل كان طبيب القنصلية الروسية في جدة، ولما عطلت القنصلية بقي هو في الحجاز، وأسلم وسماه الملك عبد العزيز: عبد الرحمن السعودي. وهذا الطبيب يكره الشيوعية ويكذب الشيوعيين في كل ما يدعون، ويقول ليس عندهم إلا الحرمان، ولا أخوة بينهم ولا مساواة في القوت ولا غير القوت.
واجتمعنا أمس على مائدة أمير المويه - والمويه منزل على طريقنا - وقدم صحنان
1
فيهما الأرز واللحم؛ لحم الضأن ولحم الظباء. قال الطبيب عبد الرحمن: ليس عند الشيوعيين هذا الطعام، وليس بينهم هذه الأخوة والمساواة، ألا ترى الجالسين حول المائدة؟ أنت وزير، وهذا مستشار المالية وأحد كبار الأغنياء، وذاك سائق، وذلك خادم، أليست هذه الأخوة الحق والمساواة الصادقة؟
واجتمعنا اليوم على مائدة قيم دار الضيافة أو منزل الملك عبد العزيز في الدوادمي - إحدى القرى على الطريق - وقدم طعام كالأمس، واستدار حوله الرفاق جميعا؛ الخادم والمخدوم والتابع والمتبوع. قال الطبيب عبد الرحمن أيضا: ليس عند الشيوعيين هذا الطعام ولا بينهم هذه الأخوة وهذه المساواة، كل ما تسمعون كذب وكل ما يدعون هراء، هذه هي الأخوة الحق والمساواة الصادقة، فلا تخدعوا عنهما.
الأحد 8 شوال/23 يوليو
عقرباء
مررت بعقرباء صباح اليوم، وكنت رأيتها حينما رجعت من الرياض إلى مكة قبل سنتين؛ وهي أرض واسعة معشبة مطمئنة تسمى الروضة لإعشابها وإزهارها بعد المطر، ورأيت في وسطها شجرة واحدة.
هذه عقرباء، موضع الموقعة الحاطمة التي أدارها خالد في المسلمين على مسيلمة الحنفي ومن تبعه من بني حنيفة وغيرهم. وعطفنا من عقرباء شطر الغرب فدخلنا في واد إلى موضع اسمه جبيلة فيه دور وشجر، وعلى جانب الوادي فجوات في مكان عال، قيل إنها قبور الصحابة الذي استشهدوا في عقرباء كشف السيل عنها، وفي شعب من الوادي شطر اليمين قبور أخرى.
مهما يشك الإنسان في أن القبور التي رآها في جبيلة هي قبور الصحابة أو غيرهم، فلا ريب أن شهداء عقرباء دفنوا في هذا الموضع القريب منها. وحدثني من أثق به أن قبر زيد بن الخطاب كان معروفا هناك يزار حتى هدمه الوهابيون، وزيد أخو عمر من شهداء عقرباء وقد دفن مع غيره من الشهداء.
لا أريد أن أذكر الوقعة؛ مقدماتها ونتائجها، ولكن أذكر المجاهدين الذين كفل لهم إيمانهم وتوكلهم النصر حيثما توجهوا، فهم في عقرباء على بعد الديار وشط المزار يبطلون باطل مسيلمة على تمكنه في دياره، واعتزازه بقومه وأنصاره.
يقال: إن في عقرباء استشهد سبعون من حفاظ القرآن، فهذا القرآن آتى المسلمين النصر، وبهذا القرآن ثبتت القلوب واجتمعت الكلمة، وعملت الأيدي والسيوف، وصبرت الأبدان والنفوس.
الإثنين 9 شوال/24 يوليو
البداوة والحضارة
رحم الله أبا الطيب؛ يقول:
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
ما ذهبت إلى البادية إلا صدقت قول أبي الطيب؛ أذواد الإبل وقطعان الغنم، والرعاء من الرجال والنساء، كل أولئك يعرض عليك الجمال طبيعة، ويبصرك بالحسن لا صنعة فيه. مررت في بادية نجد مرور مسافر مستوفز، لا يتخلل الحلل ولا يقيم في الأحياء، ولكن جال طرفي وقلبي مرارا في جمال الطبيعة وجمال الناس والأنعام، وفي القرآن الكريم عن الأنعام:
ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون .
وقد قيد طرفي وانطلق إعجابي في سفرتين مررت فيهما بمكان اسمه الدفينة في نجد على طريق الذاهب إلى مكة، فرأيت ازدحام الإبل على الآبار، والناس يمتحون الماء فيصبونه في أحواض صغيرة من الجلد نصبت على قوائم، والبدويات من قبيلة عتيبة في جمال وخفر، وفي عيونهن وطف وحور، وقد تلثمن على الأنوف والأفواه وأطلقن العيون من حجبها، جمال ليس فيه إلا صبغة الله، وتصون يذكر بقول الغزي الشاعر في البدويات:
ولا خفير لعين الحسن كالخفر
وقفنا وقفة لم تطل، وددت لو طالت وعادت، وذكرنا كذلك قول أبي الطيب:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
أين المعيز من الآرام ناظرة
وغير ناظرة في الحسن والطيب؟!
الثلاثاء 10 شوال/25 يوليو
الوقت
طارت بنا طائرة من الرياض إلى الحوية على جبال الطائف في ساعتين ونصف، مسافة تكلفها السيارة في ثلاثة أيام، وتعمل فيها الإبل عشرين يوما! طويت المسافات وزويت الأرض وقرب البعيد، وكنا وعدنا أن يلقانا ناس في المطير
2
فلم نجد أحدا ينتظر، وسألنا فلم نظفر بخبر، وأعملنا الهاتف وألححنا حتى جاء من نرجوه بعد ساعتين من بلوغنا الطائف، وبعد ساعة ونصف من بلوغ الطائرة التي كانت تقلنا جدة.
قلت وا عجبا! طوى بعض الناس الأرض بعقولهم وعزائمهم وأيديهم فجمعوا مشرقها والمغرب، وسووا البعيد بالقريب، وكأنما وصفهم البارودي حينما قال:
بعيد مناط الهم فالغرب مشرق
إذا ما رمى عينيه والشرق مغرب
ولا زال بعض الناس عاجزين عن قطع المسافات قريبة على الأرض، قادرين على طي الوقت سدى. إنما البعد والقرب، والعجز والقدرة أصلها في نفس الإنسان، ومنشؤها في خلقه، فما المسافات على الأرض إلا صور للمسافات في الأنفس. يدرك الإنسان الأمر فلا يفكر في عمله، أو يفكر فيه فلا يهم به، أو يهم به فلا يعزم عليه، أو يعزم عليه فلا يدوم به العزم. وبين التفكير والهم، وبين الهم والعزم، وبين العزم والإنجاز، مسافات تطول وتقصر، وربما تمضي السنة في أمر يقضى في يوم، أو يمر يوم في أمر ينجز في ساعة. في طي هذه المسافات النفسية يختلف الناس، ويبدو هذا الاختلاف في المسافات الحسية يبصرها الناس ويغفلون عن أصولها في الأنفس.
الأربعاء 11 شوال/26 يوليو
أين عكاظ؟
لعكاظ صيت ذائع في أدب العرب وأخبارها، وقد ذكرته كتب البلدان وبينت معالمه على اختلافها في البيان والإبهام، والإيجاز والإسهاب.
وحرص المعاصرون من الأدباء والمؤرخين على تبيين مكان عكاظ، فقال بعضهم ظنا دون تثبت، وقال بعضهم حزرا دون تبين. قيل: إنه المكان الذي يسمى اليوم السيل الكبير، وقيل: بل هو السيل الصغير، وكلاهما في الطريق من مكة إلى الطائف، الأول دون جبال الطائف والثاني فوقها.
وقد ذهبت أمس إلى موضع قيل إنه هو عكاظ، وكان معي الشيخ محمد بن بليهد فقمنا على حرة هناك، وسردنا أقوال المؤرخين، وأصحاب التقويم، وقرأنا أرجوزة الرداعي اليماني التي ذكر فيها طريق الحج من صنعاء فتوفرت الأدلة، واجتمعت البينات على أن هذا المكان هو عكاظ الذي وصف في كتب التقويم والتاريخ، ورجعنا موقنين أنا رأينا عكاظ بلا ريب. قلت: ليت شعري! علام عول الذين زعموا عكاظ مكانا آخر؟ وقلت: إن كثيرا من الاختلاف بين الناس يرجع إلى التسرع إلى النتائج قبل استيفاء المقدمات، والسكون إلى الظن، والاستراحة إلى الحزر. ولو تثبت الناس قبل الدعوى وراثوا في تتبع الأدلة، وصبروا حتى يتضح البرهان ما وقع بينهم الاختلاف في كثير مما اختلفوا فيه، ولكنه الظن المفرق والوهم المضل، وصدق الله العظيم:
إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا .
الخميس 12 شوال/27 يوليو
السيل في الحرم
الذين يذهبون إلى مكة فيجوسون خلال دورها، ويجوزون شوارعها ودروبها تحجبهم الأبنية عن رؤية البلد على طبيعته بين جباله وأوديته، بل يسعى الحجاج جميعا بين الصفا والمروة وكثير منهم لا يرى الصفا؛ لأن الأبنية على سفحه تحجبه عن الأبصار! ولا يدرك زائر مكة خططها حتى يصعد على أحد جبالها فيرى كيف تقسمها الجبال والأودية، وكيف تمتد الشوارع بينها وكيف تصعد البيوت على السفوح في جهات وتعلو الجبال في جهات.
وقل من يدرك أن البيت الحرام في سرة واد يسيل حينا بعد حين، وأنه من أجل هذا رفعت أبواب المسجد الحرام فيصعد إليها الداخل درجات ويهبط عنها إلى المسجد درجات أكثر. لا يعرف هذا إلا مدقق في تقويم البلد وتاريخه، وإلا من شهد السيل جارفا يأتي من جهة منى حتى يمر في شارع القشاشية ويجتاز المسعى ويمر بجدران الحرم وينطلق في مجراه إلى المسفلة. رأيت مرة ماء ضحضاحا جاريا لبثت أرقبه وأنا على باب التكية المصرية، وذهبت إلى مكة عقب سيل عظيم علا حتى دخل إلى التكية وبينها وبين الشارع ست درجات، ودخل الحرم ولم تصده حواجز الخشب التي توضع على الأبواب، مر السيل فحطمها وانهمر فملأ المسجد وارتفع إلى الحجر الأسود. وحدثت أن الطواف لم ينقطع، بل اغتنم الطائفون الفرصة ليطوفوا حول البيت سابحين. ومن قبل قرأنا أن العوام أبا الزبير طاف بالبيت عائما فلقب العوام.
أمر يجدر بالمسلم التفكير فيه، كيف لم يحتط المسلمون لهذه السيول ولبثوا أحقابا يفجئهم السيل ثم ينسونه، أو يتخذون له سدودا لا تقوى عليه ولا تثبت له حين يدهمها؟! إن الأمر جدير بالاهتمام والتدبير والعمل الناجز، وعسى أن نسمع ونرى ما تفعله العزيمة والعلم لوقاية الحرم إن شاء الله.
الجمعة 13 شوال/28 يوليو
الصور المشوهة في البيان
للمجاز في توسع اللغة وتطورها شأن كبير، وأثر بليغ. وإذا تأمل الإنسان فيما يقرأ ويسمع من مقالات أدبية وخطب، يجد المجاز أكثر من الحقيقة؛ المجاز الذي شاع استعماله حتى ظن أنه الحقيقة، والمجاز البين الذي يذكر القارئ بنفس، وقد يسر للناس شيوع التجوز، أن يقرنوا بين صور غير متألفة يتوهمون أن المجاز تنسى صورته الأولى بنقله إلى المعنى الثاني. وهذا موضوع أوسع من أن يعالج في هذه الخاطرة، فحسبي أمثال قليلة من أمثال لا يحصيها العد يبصرها المتأمل في كلام الكتاب والخطباء. قرأت في صحيفة: «ولم تزل جراثيم الفساد قائمة على أصولها»، والجرثومة: التراب المتراكم حول الشجرة، أو أصل الشيء، فتصور جرثومة قائمة على أصولها من الصور المشوهة.
وقرأت في صحيفة أخرى: «يبنون صروحا من الباطل على سلسلة من المقالات»، فضحكت لصورة صروح قائمة على سلاسل.
وقرأت في إحدى الصحف: «قد محلت البلاد بعد إقبال»، والقارئ حين يقرأ محلت يتصور الجدب وما كان قبله من خصب، وتفاجئه كلمة إقبال بما لم ينتظر! وسمعت في إذاعة «أن فلانا أجرى مقابلة»، فقلت في نفسي: ليت شعري! كيف تجرى المقابلة؟!
وغير هذه الأمثلة أوضح منها وأغرب، ولكن يضيق المجال عن بيانها، وهذا مثل ابن دقيقة كتبت الآن لضيق المقام. ثم ذكرت أن مقام الإنسان لا يضيق ولا يتسع ولكن يطول ويقصر، فكتبت: المجال.
هذه دقائق أرجو أن تفصل في مقالات نوفيها حقها من البيان إن شاء الله .
السبت 14 شوال/29 يوليو
سير القلم
قدرت أن القلم لا يسير في يد الكاتب أقل من متر في الدقيقة لو استقامت الحروف التي يخطها، فكانت خطا واحدا مستقيما، فقلت: إن الإنسان الذي لا يسرع في الكتابة يسير قلمه على القرطاس ستين مترا في كل ساعة، فكم يكتب كاتب وسط في كل يوم وكم يكتب كل شهر وكم يكتب كل سنة وكم يكتب طول عمره إذا مد له في العمر؟
ثم قلت: وكثير من الكتاب تسير أقلامهم كما تسير أرجلهم فيخطون خطوطا ليست مجدية، ولكنها رياضة لليد على الحركة كما يجدي المشي في رياضة الرجل، إذا لم نحسب خسارة المداد والورق. وهؤلاء لا يكسبون شرا ولا خيرا.
وقلت: كثير من الكتاب يسرعون في الشر والفساد مسيرة ستين مترا في كل ساعة بما يكتبون، فإنما حركة أقلامهم على الورق كمشي السارق أو القاتل إلى بغيته.
وقلت: ومن الناس من يعمل للخير في كل ما يكتب، وينير للعقل والعاطفة في كل ما يخطر، فهو يسير في الخير ويسرع في الإصلاح ستين مترا في كل ساعة.
ثم رجعت إلى نفسي فقلت: إنك تقيس الأفكار بالأمتار! نعم، يسير القلم هذه المسافات في الدقائق والساعات، ولكن رب فكرة يلهمها كاتب تسير به وبالناس معه في طريق الكمال أميالا كثيرة في لمحات، ورب فكرة يفتن بها كاتب ترد الإنسانية وراء أو تهوي بها أسفل أميالا كثيرة في دقائق. سير الأقلام كسير الأفكار يأبى أن يحده زمان أو مكان، فلينظر كاتب كيف يسير قلمه، وليعتبر آثار ما يكتب في سعادة البشر وشقائهم وفسادهم وصلاحهم!
الأحد 15 شوال/30 يوليو
قصص أبي زيد الهلالي
كان لقصص أبي زيد الهلالي وما يتصل بها من واقعات المغرب، ولقصص تشبهها متصلة بتاريخنا، شأن بين العامة كبير، وأثر في نفوسهم بليغ. كان لها شعراء يقصون نثرها ويغنون شعرها على الرباب، وكان كثير من أهل القرى من غير الشعراء يعرفون حوادثها وينشدون شعرها حين يجمع مجلس جماعة منهم فارغين من أعمالهم.
وكان لأناسي هذه القصص حياة بين العامة يعرفون كلا بخصاله من الشجاعة والعفة والوفاء والسخاء وخصال أخر، وكل منهم يطمح إلى أن يتقيل واحدا من هؤلاء الذين تقص سيرهم. وكانوا يجعلونهم مثلا بينهم، فيقال: هذا كأبي زيد شجاعة أو كدياب بن غانم، وهذه كسعدى بنت الزناتي أو الجازية أخت السلطان حسن.
وكانت العصبية تثور بين سامعي القصص أحيانا، هذا يتعصب لرجل وهذا يتعصب لقرنه. وهذه العصبية تزيد القصص حياة ومثولا بين الناس، وتزيد السامعين حبا لهم واقتداء بهم.
وليس في هذه القصص إلا مكارم الأخلاق، ولم يكن في الاستماع إليها إلا دعوة إلى هذه المكارم؛ هذا إلى استمتاع الناس بها، واستغنائهم بها عن مجالس الشر، ومجامع الآثام. وقد حقرنا هذه القصص فقلت عناية الناس بها، وجدير بوزارة الشئون الاجتماعية أن تشيعها بين الناس فإنها أجدى في تربية العامة من كثير من المدارس ودور التمثيل.
الإثنين 16 شوال/31 يوليو
الحياة
هذا اليوم، اليوم الأول من شهر آب يذكرني بمولدي ويذكر بما بعد المولد من أطوار، وما في الأطوار من غير فيؤديني إلى التفكير في الحياة كلها.
أفكر في هذا النهر الذي ينبع من الأزل ويسير إلى الأبد، ما منبعه وما منتهاه وما مجراه؟ قلت في قصيدة من شعر الشباب:
إن هذه الحياة نهر عجب
صاخب الموج دائم الإزباد
مده في مجاهل الغيب نبع
جائش الماء دائم الإمداد
فجر الله نبعه في حماه
من وراء الأسماع والأشهاد
فهو آت من منبع الأزل المج
هول وجار لمظلم الآباد
فهل الحياة كما زعمت نهر جار بين طرفين مجهولين أو هي نبع فياض نراه ونسمع خريره، ثرار دائم مستقر، لا يقاس بجريه بين أوله ومنتهاه، ولكن بفيضه في مكانه؟
يخطر لي أن الإنسان إن استسلم للحادثات فجرت به كما يجري النهر بالغثاء، وقاس عمره بما بين المكان الذي حمله فيه الماء والمكان الذي ينتهي فيه إلى البحر، فالحياة أشبه بالنهر الجاري. وإن ثبت الإنسان على الحادثات وصرفها واستقر مكانه وسبرها، راسخا موضعه بالقوانين العامة الثابتة، فالحياة أشبه بالينبوع الفياض نراه مكانه، لا نجري مع الماء الذي يفيض عنه.
ومهما يكن فالذي لا ريب فيه أن الحياة عمل دائم وجهاد لا يفتر، وأن علينا أن نعمل غير مفكرين في الينبوع والنهر، وأن نثبت أنفسنا بالقوانين والشرائع لا نذهب مع الحادثات غثاء، ولا نطير مع الزمان هباء.
الثلاثاء 17 شوال/أول أغسطس
الشباب الأبي
في الناس من يجري مع الصبا طلق الجموح، ويهون عليه مأثور القبيح كما قال أبو نواس، حتى إذا ذهبت قوته وذبلت نضرته، ارعوى عن غيه وندم على جهله.
وفي الناس من هو في قوته كما هو في ضعفه، وهو في شبابه كما هو في هرمه، وفي نضرته كما هو في ذبوله، تكبر نفسه أن يخضعها الجسم قويا وتخضعه ضعيفا. بل يصرف أموره على الحكمة لا الهوى، وعلى الرشد لا الغي، يستوي عنده الشباب والمشيب، والفقر والغنى، والوجد والعدم.
فهو في شبابه وغناه عف حكيم يستكبر على الدنايا ويأبى على الصغائر، كما قال أبو الطيب:
وترى الفتوة والمروة والأبو
ة في كل مليحة ضراتها
هن الثلاث المانعاتي لذتي
في خلوتي لا الخوف من تبعاتها
ذلكم الشباب الأبي يأبى أن ينقاد بالشهوات، ويخضع للأهواء، ويرى في هذا الإباء لذته، وفي هذه الكبرياء راحته، وفي هذا الحرمان وجدانه، وفي هذا العزوف وصله. والشباب الذليل تذهب به نزوة وتميل به شهوة، مغلوب على رأيه، مقهور على خطته، يصغر عن جهاد هواه، ويضعف عن كفاح مأربه، كالريشة في مهب الريح، وكالغثاء على الدأماء. فمن حسب الشباب خضوعا للشهوات فهذا يعده سيطرة عليها، ومن رآه للأهواء ذلة جعله هو عن الأهواء عزة، ومن قنع باللذات المتفرقة الحقيرة فهو يطمع في اللذة الكبرى الدائمة؛ لذة النفس الحرة الأبية تتخذ الشباب عدة للسيطرة والقهر لا وسيلة الاستخذاء والانقياد. ليت شعري! لم يكون الشباب قوة للأجسام، وضعفا للأرواح؟
الأربعاء 18 شوال/2 أغسطس
المشيب القوي
يا هند هل لك في شيخ فتى أبدا
وقد يكون شباب غير فتيان
في الناس من تنقص همته بزيادة سنه، وتسكن نأمته حين تضعف منته ، أمانيه في حدود جسمه، تقوى بقوته وتضعف بضعفه.
وفي الناس نفوس عظمية هي أعظم من أن يحدها جسم، وأوسع من أن تقيسها سن، مقدمة لا تنثني، منطلقة لا تني. هي كما قال أبو الطيب:
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه
ولو أن ما في الرأس منه حراب
لها ظفر إن كل ظفر أعده
وناب إذا لم يبق في الفم ناب
يغير مني الدهر ما شاء غيرها
وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب
وكم ترى من شيب هم قادة حرب، أو ساسة ملك، أو أئمة علم، لا يفترون عن العمل، ولا ينالهم بالمشيب كلل. يجتمع لهم في المشيب العلم والتجاريب، فهم أحصف من الشبان بالعلم، وليسوا دونهم نشاط جسم. شيب هؤلاء على رغم السنين، أقوى من الفتاء عند آخرين. إنما هي قوة الأنفس تتجلى في الشباب والهرم، أو ضعفها يستوي فيه الحداثة والقدم.
إني لأعرف شيوخا في السبعين، هم أمضى جنانا، وأذرب لسانا، وأشد على الشدائد إقداما، وأثبت في اللأواء أقداما، من شباب خانعين لم يجاوزوا الثلاثين.
الخميس 19 شوال/3 أغسطس
الواجب كما هو
في الناس من يلبسون الهوى بالطاعة؛ يسارعون إلى الطاعة فيما يحبون، ويبطئون فيما يكرهون. يسايرون الأمة فيما يلائم منافعهم، ويمتثلون الأمر فيما يوافق مصالحهم، ويدعون أنهم يؤدون الواجب، ويقومون بالفرض. فإن امتحنوا بأمر يكرهونه وفيه صلاح الجماعة، عذروا وولوا، أو أطاعوا كارهين، وامتثلوا ساخطين.
وإنما أداء الواجب أن تؤديه في المنشط والمكره، وتصدع به فيما تحب وتبغض، وأن تتلقاه عزيمة لا رخصة فيها، وحزما لا تردد فيه، وجدا لا هوادة لديه، حتى لا يكون للرأي فيه تردد، ولا للهوى فيه خيار. هو الواجب تلقاه راضيا وتمضي به مقدما وتحتمله صابرا. وهو حلو عندك وإن أمر، ونافع وإن بك أضر. هكذا تمضي الجماعات والآحاد بواجباتها غير معذرة فيها حتى يكون أداء الواجب ديدنا لا مفر منه، وعزما لا محيص عنه، وحتى تقصد الأمة غايتها لا تقول: حزن وسهل، ولا يسير وشاق، ولا بعيد وقريب، ولكنه واجب وأداء، ودأب وظفر.
ذلكم قياس الصدق في الآحاد، وميزان الإخلاص في الجماعات. وذلكم يتجلى حين تمتحن الأمم الشدائد، وتبلوها المصائب. ولا يخالط الواجب منفعة، ولا يشوبه هوى، فالأمم الرشيدة يصفو في الشدائد جوهرها، ويصقل فرندها، ويبلى إخلاصها، فإذا هي قوامة بالواجب خالصا، لا رغبة ولا رهبة ولا يسر ولا مشقة. ومن الأمم والآحاد من تتحدث عن الواجب تلوح فيه المطامع، فإن طولبت بالواجب المر والفرض الحتم فيما تكره، تبين تلبيسها وبان كذبها.
الجمعة 20 شوال/4 أغسطس
الحب والبغض في الإنسان
في نفوس الناس الحب والبغض، الحب إلى غير حد، والبغض إلى غير نهاية. يعرف هذا الإنسان في نفسه، ويشهده في الناس حين يحسن المراقبة، ويجيد التأمل.
وفي الحب سعادة الناس وفي البغض شقاؤهم، إن العالم قائم على الحب، وفي التنافر بين أجزاء العالم الانهدام والانفجار والانشقاق، وما إلى هؤلاء من معاني الدمار والخراب والفناء.
وهذا في الإنسان أبين لو نفذت النظرات، وصحت البصائر. وسبيل الحكماء والهداة على هذه الأرض أن يوقظوا المحبة في الناس ويزيدوها، ويتموها ويفيضوها على كل شيء، وأن يطبوا للبغضاء فيقلوها إن استطاعوا.
إن ذرة من البغض كشرارة من نار؛ إن وجدت وقودا ومشعلا ونافخا، التهبت وسيطرت وأحرقت اليابس والرطب. ورب شقاء بيت من ذرة من الكره وجدت ثقابها ووقودها بالكلمة الخبيثة والفعلة السيئة! ورب حرب متمادية بين الجماعات والأمم نشأت كما تنشأ النار من الشرار!
وكذلكم سبيل الحب: هو كالنواة الطيبة إن وجدت غارسا وساقيا ومتعهدا؛ علت وامتدت وأظلت وأثمرت وثبت أصلها وينع فرعها.
عليكم أيها الناس بالحب فأشيعوه، واجعلوه صلة الواحد بالواحد، والجماعة بالجماعة، واحذروا البغضاء أن تؤرثوها فتكون في الصدور نارا، وفي الأرض دمارا، وعلى التاريخ ثارا.
السبت 21 شوال/5 أغسطس
الذكر
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
أتأهب للسفر من جدة وقد لبثت في الحجاز سنتين، ذهبت فيها إلى نجد ثلاث مرات. وكم دعاني الشوق إلى مكة والمدينة فلبيت، وكم سارت بي الفكر والذكر والعبر في معاهد المدينتين المشرفتين، وكم طوفت في أرجائها كأني أطوف في العصور، وأجول في نواحي التاريخ! إن ذكريات المدينة ومكة وما حولهما لأعظم من أن تذكر في سطور، وأعز من أن يرضى القلم فيها بالعبور. وإن لها لصفحات في كتاب الرحلات، وإن لها في النفس صفحات أوسع وأجمل مما في الكتاب، وإن لها في الحقيقة صفحات أكثر وأجل مما في نفسي.
وغير مكة والمدينة مما ليس له شأنهما وجلالهما. كم سرت بين جدة ومكة، وبين جدة والمدينة فما والله ما مللت ولا شقت علي المشقات، كم عبرت أم السلم وبحرة، وحدة والحديبية، وطمحت إلى قمة حراء مرات حين قاربت مكة. والطريق بين جدة والمدينة على وعورتها ومشقتها قطعتها عشر مرات، فما شكوت ولا سلوت ولا صرفتني مشقة عن رجاء المعاد إليها. والسفر بين ينبع إلى الوجه ذهوبا وأوبة، وبين مكة والرياض سفرتين، تشوقني معاودته ومكابدته.
وما ينقص ذكراها إلا أني طويتها عجلان، ولم ألبث بها كما تمنت العين والقلب. إن كثيرا من الناس يرون في هذه القفار أرضا وعرة أو سهلة، وطريقا صعبة أو ذلولا، ولكني أقرأ فيها صفحات، وأسعد فيها بذكريات وأستمتع بها استمتاع الأديب يقرأ سطورا بليغة عسيرة، وهأنذا أفارق جزيرة العرب وما قضيت الوطر من معاهدها، ولا أديت حق التاريخ فيها. وفي النفس أمل في العودة، وشوق إلى الأوبة.
وتلفتت عيني فمذ بعدت
عني الطلال تلفت القلب
الأحد 22 شوال/6 أغسطس
في الطائرة يعرف الإنسان قدره
ركبت اليوم طائرة من جدة إلى القاهرة، وكثيرا ما ركبت طائرات كارها أو راضيا. وقد سجلت ما شعرت به حينما ركبت الطائرة أول مرة في مقال عنوانه: في جو السماء، وأثبته في كتاب «الرحلات الأولى».
واليوم لبثت في لوح الجو، أفكر في المركب الهائل، والمنظر الرائع، وانقطاع الراكب عن حوله وطوله، وقريبه ونصيره، وصحوه عن الغرور والكبرياء، وتنبهه إلى قدره ريشة في جو السماء، وعرفانه قوته وحيلته، ونسيانه ماله وجاهه. قلت: ما أضعف الإنسان، وما أشد غروره! هنا يقدر الإنسان نفسه، ولا يعدو قدره.
قالت نفسي: ولكن الإنسان سير هذه الطائرة في عنان السماء، ورفع بحيلته هذا الجسم الهائل في الهواء، وطير هذا البيت الكبير، فهنا يقدر الإنسان عقله وعلمه وصنعته ويعتد بنفسه. قلت: لا أجادل عظم الإنسان وسعة عقله وعلمه، ولكن ينبغي ألا تخدعه حقيقة عن حقيقة، فهو عاقل عالم صانع، وهو ضعيف ضئيل قاصر عاجز؛ يتمنى فلا يدرك، ويحاول فلا يقدر، عرضة للآفات هدف للمهالك. وهو على الأرض جبار يعز بقوته وجاهه وماله، وعشيرته وقومه، فتغلب عليه الأوهام وتحجب عنه الحقائق. فهنا في جو السماء فليعرف نفسه، وليزنها بميزانها، ويقدرها حق قدرها.
إنه هنا إن استصرخ لا يجد مصرخا، وإن فزع لا يجد مفزعا، وإن أحس الخطر لم يجد منه مفرا ولا عنه مزحلا، فإنما هو وطائرته فوق السحاب والعباب ... وإلى الله يرجع الأمر كله.
الإثنين 23 شوال/7 أغسطس
مسايرة الطبيعة
كان كثير من الناس في الزمن الغابر يخرجون على الأخلاق والآداب محتجين بمسايرة الطبيعة، كأن مسايرة الطبيعة حق وخير لا ينبغي العدول عنهما! وكذلك نجد في زماننا من يعتل بمسايرة الطبيعة، كأن كل ما هو في الطبيعة خير لا يسوغ الحيد عنه.
ولنا في إبطال المذهب حجتان:
الأولى:
أن كثيرا من أعمال البشر محادة للطبيعة، ومخالفة لها. فالناس يلبسون وقد خلقوا عرايا ويحلقون لحاهم وقد أنبتتها الطبيعة وينضجون الطعام ولم يخلق كما يريدون، ويسيطرون على مجاري المياه بالقناطر والسدود وفي هذا مقاومة الطبيعة. فلماذا لا يدعو هؤلاء إلى مجاراة الطبيعة في كل شيء؟ هذه الدعوى لا تستقيم، ووجدان الإنسان وعقله يكذبانها في كل عصر.
والحجة الثانية:
إن عقل الإنسان من الطبيعة التي يفتنون بها، ويخضعون لها، فإذا تصرف الإنسان في الطبيعة بعقله، لم يخرج على قانون الطبيعة؛ بل سلط الجانب المفكر منها على الجوانب غير المفكرة.
فما لهؤلاء المدعين يؤثرون الإسفاف إلى الطبيعة الجاهلة؛ مسايرة لأهوائهم وشهواتهم، ولا يرتقون مع الطبيعة العاقلة؛ إيثارا لما هو أجل وأبقى، وأوسع وأشمل، وأجمل وأحسن؟! أعني معاني العدل والخير والإحسان والنظام، والمروءة والعفة وما يشبهها أو يتصل بها.
الثلاثاء 24 شوال/8 أغسطس
لكل إنسان أفق عشق
هر كڴ حالنجه واردر بر تجليگاه عشق
بيستون فرهاده كوه طور شكلن كوسترير
لكل على قدره أفق عشق
ففي بيستون لفرهاد طور
3
النفوس مختلفة في نزعاتها، متباعدة في مطالبها، متباينة في هممها. منها الطامحة إلى المعالي، الدائبة سجيس الليالي، المقدمة على كل عظيمة لا تبالي. ومنها قنوع صاغرة، من العظائم نافرة، إلى الأرض مخلدة، نابية مصلدة، هيابة لا تقدم، مترددة لا تعزم.
ما أعظم ما يختلف إنسان وإنسان، وتتباعد نفس ونفس، وتتباين همة وهمة، وإدراك وإدراك! من الناس طموح إلى أعلى المعالي، يقصد إلى النار والنور في جنبات الطور، يريد تجلي الله لا يرضى بما سواه. ومنهم من همه «شيرين»، ومنهم من همه دون هذا ... وهلم جرا، حتى لا هم ولا طموح ولكنها نزعات قريبة، وشهوات حقيرة، وأقصى الهم البطن والفم. درجات صاعدة وهابطة، ونزعات طائرة وساقطة.
لفرهاد جبل بيستون حيث تتردد ذكرى شيرين، وهي همه وهمته، وأعلى ما بلغته منيته، هذا الجبل طوره، وشيرين ناره ونوره. هكذا لكل عاشق موضع للتجلي يغشاه، ومكان للإلهام لا يتعداه. هنا موسى وطور سينين، وهناك فرهاد وبيستون وشيرين.
الأربعاء 25 شوال/9 أغسطس
ولله يسجد من في السموات والأرض
ما أحسن ما أبان القرآن؛ كتاب الله الخالد عن وحدة العالم، ووحدة الخالق المدبر له، المهيمن عليه! هذا العالم كله؛ مواته ونباته وحيوانه، موحد بقوانين سارية فيه مسيطرة عليه، شاملة كاملة، لا تتخلف ولا تقصر ولا تتعطل. وهذه القوانين سنن الله الواحد الذي لا يزول ولا يحول، ووحدة الإنسان في آحاده وجماعاته من هذه الوحدة، وإن اعتراها خلل بالجهل والعدوان، فإنما هو خلل في ظواهرها، وقوانين الله سارية فيها مسيرة لا تعطل ولا تبطل.
كان الناس شتى في آحادهم وجماعاتهم وعقائدهم وتفكيرهم في هذا العالم وإدراكهم إياه؛ نفس الواحد شتى بأهوائها وأوهامها وخرافاتها، والجماعة شتى متنافرة بما تشت له نفس الواحد، والأمم شتى متقاتلة بما تشت به الجماعة، فجاء الكتاب المجيد فوحد النفس ووحد الأمم، ووحد العالم كله بتوحيد الله الخالق المسيطر على العالم سيطرة واحدة لا اضطراب فيها ولا انقطاع، والمتصل بكل نفس اتصالا لا تباين فيه ولا تفاوت. ونادى هذا الكتاب في الناس أن كل العالم متوجه إلى هذا الواحد، وكل الناس قبلتهم هذا الواحد، وأشاع التوحيد في كل شيء في السماء والأرض:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .
ومن هذا التوحيد توحدت الأمم على اختلاف أوطانها وأزمانها:
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .
فمتى يشعر الناس بهذه الوحدة ويعتقدون التوحيد خالصا، ويدركون في سرائرهم هذه البينات في الآية:
ولله يسجد من في السماوات والأرض ، وفي أخواتها من الآيات؟
الخميس 26 شوال/10 أغسطس
تفاوت العقول
تتشابه أجناس الحيوان وفصائله، ويقل التخالف بينها، ولكن الإنسان - وقد هيئ لرقي لا يحد - تتفاوت شعوبه وآحاده تفاوتا بعيدا؛ من عامي جاهل ضيق الفكر خامد الوجدان، إلى فيلسوف يحاول أن يحيط فكره بالأرض والسموات، ويبلغ بإدراكه أبعد الغايات، وشاعر ينبض قلبه بكل معنى دقيق وشعور رقيق، وكأن قلبه الخليقة كلها، فهو يترجم عن جمال ظاهر وخفي، ويتناول أبعد الحقائق في صور قريبة، وأروع الأفكار في أساليب شعرية حبيبة، وعالم يصحب الطبيعة يتعرف أخبارها، ويستكنه أسرارها، وما يزال يرفع حجابا بعد حجاب، ويطلع على نظام بعد نظام، ويفضي به طريق إلى طريق، وباب إلى باب إلى غير نهاية.
فإن قرنت الإنسان الجاهل بواحد من هؤلاء، فبينهما أبعد مما بين الأرض والسماء. ثم إن قست، فوق الجهلاء، عالما بعالم ومفكرا بمفكر، وجدت بينهما درجات كالتي بين الجهال والعلماء أو أكثر ... وهكذا. فالفكرة البعيدة من عقل قريبة إلى آخر، والعلم الميسر لفكر مستعص على غيره. وربما يبدو أمر لمفكر محالا، وهو عند مفكر جائز، وعند آخر واقع. ولعل أعلى درجات عقولنا وأسمى مستوى أفكارنا، هي في الحقيقة وفي غيب الله كالعقل العامي والفكر السوقي قياسا إلى ما يمكن أن يكون، وما استسر في علم الله المكنون. فاحذروا أيها المفكرون ضلال الفكر وخداعه، ولا تظنوا ما تدركون نهاية النهايات، وغاية الغايات.
الجمعة 27 شوال/11 أغسطس
الإنسان بين الإعجاب والتحقير
عجيب أمر الإنسان، يرتقي إلى الدرجات العلا، ويهوي إلى الدرك الأسفل، ويقدم إلى أبعد الغايات، ويحجم عن أقرب المطالب! ترى إنسانا يسف فتحتقره، وآخر يحلق فتكبره. وترى خيرا تسكن إليه كل السكون، وشريرا تنفر منه كل النفور، وذكيا يذهلك ذكاؤه، وغبيا يضحكك غباؤه، وعالما تحار في علمه، وجاهلا تعجب من جهله. وترى الإنسان معمرا يجعل الصحارى جنات ويحيي كل موات، وطبيبا ييسر الشفاء من كل داء، ورحيما يرفق بالضعفاء، ويحنو على البؤساء، ويبني ويشيد ويبدئ في الفنون ويعيد. ثم تراه للشقاء مدمرا، يرد العامر خرابا والجنات قفرا يبابا، ويرسل الصواعق من الهواء، يهدم الأحياء ويفتك بالأحياء، تهبط قنابله على الأسرة في مسكنها والجماعة في موطنها، فلا تبقي ولا تذر، وتذهب بالعين والأثر، يبتكر الخير والشر، والنفع والضر.
هكذا يتداول الإنسان إكبارك وإصغارك، ويتناوبه إعجابك واحتقارك، ويتداولك له الفرح والحزن، والحب والبغض، والرضا والغضب، واليأس والأمل.
إن الإنسان قدير على الإعمار والإخراب، مفتن في الإفساد والإصلاح، في نفسه خير وشر، وفي كفه نفع وضر.
فيا ساسة الأمم وقادة الشعوب، ويا علماء البشر وأدباء الجماعات! أيقظوا الخير في الإنسان وأوحوا إليه الإحسان، واحذروا ما استطعتم كلمة تشعل النار، أو فعلة تسوق إلى الدمار، أو سنة يسير بها العالم إلى البوار.
السبت 28 شوال/12 أغسطس
مرآة تضطرب
أقبلت على حجرة فخيل إلي أن أثاثا فيها يضطرب، يعلو ويسفل، ويميل ويعتدل؛ فدهشت. ثم اقتربت فلم يسكن الاضطراب؛ فوقفت. فتأملت فإذا مرآة معلقة على جدار أمامي تحركها الريح.
قلت هذا الاضطراب الذي أحسسته في أثاث الحجرة وجانب منها وعجبت له لأول وهلة ولم أشك فيه وأخذت أتعرف أسبابه متعجبا، لم يكن في شيء من الحجرة ولكن كان في المرآة، وكانت حركة المرآة ضعيفة، ولكنها صورت الأثاث في حركة شديدة.
إن إدراك الإنسان مرآة لما يدرك. ولعل كثيرا مما يبدو في العالم الحسي والمعنوي من اختلاف وتفاوت وتناقض، مرده إلى اضطراب الإدراك، وتفاوته وتناقضه، والعالم نفسه عالم المادة وعالم الفكر مستقر متلائم لا عوج فيه ولا خلل، ولعل خللا يسيرا في آلات الإدراك يظهر خللا عظيما فيما ندرك.
فليعن الناس بالعقول المفكرة، والعواطف والحواس، ووسائل الإدراك، فيقوموها ويسددوها ويجنبوها مواطن الضلال والخداع، ويعدوها لأن تعي وتدرك دون زيغ أو ميل، ويحولوا جهد الطاقة بينها وبين الأهواء والمطامع التي تصور الحق باطلا والباطل حقا، والخير شرا والشر خيرا، وتخيل الجميل قبحا والقبيح جميلا.
إن يفعلوا هذا يصح إدراكهم وتفكيرهم، ويزل كثير مما يرون من الاضطراب في عالم الحس والمعنى، وكثير من الخلاف بينهم والنزاع.
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
الأحد 29 شوال/13 أغسطس
باكستان
اليوم نحتفل في القاهرة بعيد باكستان، نحتفل بذكرى قيام دولة للمسلمين في الهند.
وباكستان هذه كانت خيالا بعيدا، وحلما عجيبا، ثم صارت رأيا مفندا ودعوة مردودة، ثم انقلبت عقيدة وعزيمة، فإذا هي حقيقة تملأ العيون والأسماع.
حدثت أن أحد قادة باكستان العظام قال حينما دعا الشاعر محمد إقبال إلى دولة للمسلمين اسمها باكستان: هذا حلم مجنون! ثم صار حلم المجنون هذا عنده فكرة عاقل يقظان، وانقلب اعتقادا وجهادا؛ فإذا باكستان دولة قائمة.
كان الشاعر إقبال أول داع إلى باكستان أو من أول الداعين إليها، وقد دعم الدعوة بالأمل بعد الأمل، والحجة بعد الحجة، والبيان بعد البيان، وأمدها بفلسفته وشعره حتى تحققت.
وإقبال هذا من أحرار النفوس والعقول، يستوي عنده الكائن وغير الكائن، والقريب والبعيد، والصعب والسهل، والشاق واليسير. الإنسان الحر في رأيه خلاق. يرى الرأي الحق فيقدم ويعزم، ويجاهد ويدأب فيخلق من الخيال حقيقة، ومن عالم الفكر عالما كائنا محسا.
وشعر هذا الرجل العظيم فياض بهذه المعاني، فيه من الطموح والإقدام والعزم والجهاد نور ونار يهديان السبيل، ويمنعان التعريس والمقيل، حتى يوفي الطالب على غايته، ويظفر بطلبته.
الإثنين 30 شوال/14 أغسطس
الإنسان الصناعي
سمعنا أن الصناعة الأمريكية أنشأت هيكل إنسان يتحرك بالكهرباء، ويؤدي أعمالا آلية فيغني عن خادم.
إن فكرة هذا الإنسان المصنوع، هذا الخادم الآلي، أوحتها حياة الإنسان في هذا العصر وحركة الآلات. فقد سير الإنسان آلات محكمة التركيب متساوية الحركة يتقلب فيها المصنوع أطوارا، تسلمه آلة إلى أخرى حتى تتم صنعته، فيوضع القطن مثلا فيها فيحلج ويندف ويغزل وينسج ويلون، كأن الآلات تفكر وتدبر وترتب. وصناعات أخرى أكثر تركيبا وأدق عددا.
وإلى جانب هذه الآلات يقوم الإنسان مشرفا عليها ومصاحبا لها، ومعاونا إياها أحيانا فكأنه قطعة منها.
ثم هو إلى هذا غلبت عليه الصنعة. فبينما الإنسان البادي ينام في خيمة ويصبح مهيأ للعمل والسير، ترى الإنسان الحضري الذي سيطرت عليه صنعة هذا العصر في حاجة إلى عدد مختلفة وعمل كثير؛ ليهيئ نفسه لاستقبال المعيشة صبحا، وناهيك بأدوات الزينة وأصناف الأزياء، ثم تتداوله أعمال معتادة كل يوم على نسق واحد أو أشكال متقاربة. إن شئت دليلا على تحكم الصناعة في الحضر فأبعد هذا الإنسان عن مسكنه وأدواته أياما ثم انظر كيف تغير وجهه وحاله وشكله، وتبدل زيه بما حرم صقل الأدوات وصبغ الزينات.
وأذكر هنا فكاهة: كنت في سفر من بغداد إلى دمشق في صحبة الشاعر علي بك الجارم رحمه الله، وكان معنا نساء أوروبيات وجوههن لامعة، وزينتهن ساحرة. فسرينا الليل كله، فلما أضاء النهار رأينا وجوها غير الوجوه، وأشكالا غير الأشكال. قلت لصاحبي رحمه الله: ما خطب صاحباتك الحضريات الأوروبيات، بدل السرى وجوههن، وذوب الغش ألوانهن! أرأيت الجمال كيف يمتحن بسرى ليلة فيحول ويزول؟! إنما الجمال الحق ما يثبت على سيارات الصحراء، إن ليلى وسلمى والرباب يسرن أياما على جمالهن لا يقيهن الشمس والريح شيء فلا يغيرهن سير النهار ولا سرى الليل.
الثلاثاء 1 ذي القعدة/15 أغسطس
حفلة باكستان
احتفلت باكستان بعيد استقلالها، وشاركت مصر في الاحتفال بهذا العيد، وجمع الاحتفال جماعة من المصريين والباكستانيين في دار الشبان بالقاهرة. وتكلم متكلمون عن باكستان ومكانتها بين الأقطار الإسلامية، وما يرجوه المسلمون لها وما يؤملون فيها، ونحو هذا مما يقال في مثل هذا الجمع.
وشهدت هذا الجمع وتكلمت، وذكرت القادة الذين جاهدوا حتى قامت دولة إسلامية اسمها باكستان، فذكرت الشاعر الفيلسوف محمد إقبال. حق أن الباكستان قامت على الإسلام ؛ إذ عزم المسلمون في الهند على أن يكون لهم سلطان حيث يكثرون الهنادك. ولكن هذه الدعوة بدأت غريبة مستغربة محجمة مترددة، وكان أول من صدع بها غير متردد ولا متلجلج محمد إقبال حين رأس اجتماع الرابطة السنوي وخطب في بمباي سنة 1930م. ولم تكن دعوة إقبال فكرة سياسي أوحتها إليه الأحوال، وساقتها إليه الحادثات، ولكنها نتاج فلسفته ورأيه في الإسلام ومقاصده العالية، ومذهبه في الذات الإنسانية والإنسان المؤمن أو الرجل الحر. فلسفة إقبال ترى أن المؤمن لا يحبسه الواقع، ولا يقيده المحسوس، بل يستوي في عزائمه الغائب والمشهود، والكائن وما لم يكن، مستقبله حاضر، وأمله واقع.
ليس دون الكفر إن لم
يك كفرا ذا البلاء!
أن يرى بالحاضر المش
هود للحر سباء
رأى إقبال باكستان حقيقة قريبة، فكأنه رآها قائمة، ولا تزال دعائم هذه الدولة في فلسفة إقبال أو في الإسلام كما فسره إقبال.
الأربعاء 2 ذي القعدة/16 أغسطس
تقدير الأشياء
يختلف تقدير الناس الأشياء وتقويمها اختلافا بينا، ولعل اختلافهم - على كثرة وجوهه - يرد في جملته إلى تقدير الظاهر والباطن أو الصور والحقائق. فأهل الظاهر يرون الصور والأشكال والأحجام، فما كان أكبر وأبلغ في اللون وأبين في الشكل كان أقرب إلى إكبارهم وإعجابهم. وكذلك شأنهم في تقدير الأعمال؛ أقواها وأكثرها جلبة أجدرها بإعجابهم. الضرب والقتل والهدم والشنق مثلا من مظاهر القوة الجسمية، يستأثر بهم أكثر من دقائق الأعمال وقوى الأنفس كالصبر والحلم والأناة والدأب. وكذلك تقديرهم الكلام؛ الشعر الأبين حركة في وزنه، والأشد جلبة في لفظه، والأكثر غلوا في معناه، والأجمع للمحسنات اللفظية أدنى إلى أنفسهم، وأظفر باستحسانهم. وقل على هذا القياس في الموسيقى والغناء، بل معجزات الأنبياء ما كان منها تفجيرا للماء من الحجر أو ابتلاع حية عصيا وحبالا أبين في فهمهم من معجزات تتجلى في إدراك أسرار العالم وسنن الأمم، وإصلاح النفوس، وتقويم الجماعات.
وأهل الحقائق لهم أقيسة أخرى وموازين غير هذه، فالتلوين الخافت المناسب، والعمل النفسي الخفي، والمعنى الشعري الدقيق، واللفظ السلس في غير ضوضاء، وآية من القرآن فيها نظر إلى العالم بعيد، أو كشف عن سنن بين ... وهلم جرا، كل أولئك أحرى بالإعجاب والتقدير عندهم. وهم كذلك في إعجابهم أقرب إلى الهدوء والسكون، على حين يصفق أهل الظاهر لما يعجبون به ويصيحون.
الخميس 3 ذي القعدة/17 أغسطس
وذروا ظاهر الإثم وباطنه
نقرأ هذه الآية ونقرأ آية:
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن
وآيات أخرى تشبهها، فما ظاهر الإثم وباطنه، وما الفواحش الظاهرة والفواحش الباطنة؟
أيراد بالظاهر والباطن ما أعلن به الناس وما أسروه؟ ما اقترفوه جهرة، وما ارتكبوه في خلواتهم؟ ما انتهكوا به الحرمات علانية، وما انتهكوا به الحرمات خفية؟
أم الظاهر والباطن؛ هذه المنكرات البينة التي بان للناس قبحها وشناعتها واجتمعوا على إنكارها، والمنكرات الأخرى التي تختلف فيها الظنون ويتفاوت فيها الإدراك، يحسبها بعض الناس صغيرة وهي كبيرة، ويستهين بها بعضهم وهي غير هينة، كما قال القرآن:
وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ، كالسكوت عن منكر، والإغضاء عن باطل، والقعود عن نصرة ضعيف ونجدة مظلوم وغير هذه مما يخل بنظام الجماعة، ولا يتمثل منكرا مجسما ظاهرا ولا تحده القوانين ... وهلم جرا؟
أم الإثم الظاهر أعمال الجوارح، والباطن مكنونات الصدور وخفايا السرائر مما يكنه الإنسان ولا يبوح به، وهو لا ريب مفسد نفسه مخل بصلاحه في خاصة أمره وفي أمور الجماعة.
خاطرات مرت بي وأنا أقرأ هذه الآية فقلت: كل هذا يراد، وجميع هؤلاء يعني، علينا أن نترك ظاهر الإثم وباطنه وما ظهر من الفواحش وما بطن على كل هذه المعاني، وإنها لمتواصلة يفضي بعضها إلى بعض. فلا تطهر النفس حتى يروضها الإنسان على ترك الإثم البين الذي يدركه الخاصة والعامة، والآثام التي تخفى مسالكها على بعض الناس، وحتى يترك الإثم في نفسه كما تكف عنه جوارحه، فيوافق ظاهره باطنه وعلانيته سره.
الجمعة 4 ذي القعدة/18 أغسطس
حزم لو قتلته وحييت!
قرأت في كتاب أدبي أن عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد الأشدق الأموي، وكان قد أمنه. ثم سأل أحد أصحابه ماذا ترى فيما فعلت؟ قال: حزم لو قتلته وحييت! قال: أولست بحي؟! قال: حياة من لا يوثق له بعهد ولا عقد.
قرأت هذه الكلمة ومضيت لم أبلغ غورها، ولا قدرتها قدرها. وكرت سنون، وتوالت أحداث، وزاد إدراكي الحقائق، وتأملي في أنفس الآحاد والجماعات، وتعرف ما يقومها ويقويها ويديمها. فعرفت أن الإنسان بقوة نفسه وعزتها، وأن قوة النفس والعزة باعتصامها بعقيدة، واتخاذها في الحياة طريقة، وثباتها بعقيدتها واستقامتها على طريقتها في الخطوب الشداد، والمحن السود.
وعرفت أن قوام الجماعة بهذه العقائد في آحادها، وهذه الاستقامة والثبات في أفرادها، وأن الحياة في الواحد والجماعة بغير هذه اضطراب ونفار، وصدام وقتال، وتخاذل وتنابذ، فهي ليست حياة حقا، ولا هي إنسانية صدقا. فقدرت حينئذ العهود قدرها، وعرفت للعقود خطرها. وقرأت ما في القرآن من آيات الوفاء بالعقود ورعاية العهود؛ ففهمت ما لم أفهم قبلا، وفقهت ما لم أفقه بدءا. واستقبلت كل كلمة في الوفاء والجوار، وكل قول في الغدر ونقض الذمة وكل شعر يشيد بالوفاء فخارا، وبالغدر سبة وعارا بمعنى جديد، وفقه مستأنف. وتذكرت حينئذ قصة عبد الملك وعمرو بن سعيد وذلك الحكيم الذي قال للخليفة: حزم لو قتلته وحييت! فقلت: صدق ثم صدق ... إن حياة من لا يوثق له بعهد ولا عقد، ليست إلا موت الإنسانية في صاحبها.
السبت 5 ذي القعدة/19 أغسطس
إذا لم تستح فاصنع ما شئت
الحياء خير كله، هو في جملته انقباض الإنسان عما لا يليق به، وإحجامه عنه، واستكبار النفس عما لا يلائمها والنفور منه، واشمئزاز الكريم من الدنايا، وأنف الحر من المخازي.
الحياء ليس جبنا ولا خوفا، بل هو في حقيقته أنفة واستكبار وتنزه ونفار. هو تقزز من الصغائر كما يتقزز الإنسان من الأنجاس، وتقذر المعايب كما يتقذر المرء من الأقذار، وعيف السفساف من الأمور كما يعاف الآكل طعاما غير طيب. هو شعور النفس بكرامتها، وترفعها عما ينال من هذه الكرامة. وهو إحساس الإنسان بقبح المعنوي من الأمور كما يستقبح الحسي من الأشياء. فهو ملاك الخلق، وقوام الكرم، وعماد التربية ، ووسيلة التهذيب.
ليس الحياء جبنا فلعل حييا يغض عينه حياء، وهو أشد إقداما على المخاوف، وأكثر استهانة بها، قالت ليلى:
وأحيا حياء من فتاة حيية
وأشجع من ليث بخفان خادر
وقال أبو الطيب يصف أصحابه:
وأوجه فتيان حياء تلثموا
عليهن لا خوفا من الحر والبرد
إذا لم تجزهم دار قوم مودة
أجاز القنا والخوف خير من الود
وليس حياء الوجه في الذئب شيمة
ولكنه من شيمة الأسد الورد
فإذا ذهب الحياء من الأحياء، فليس إلا وجه وقاح، لا يميز الحسان من القباح، وليس إلا نفس دنية لا تفرق بين التحليق والوقوع، وجلالة لا تستقذر شيئا ولا تتقزز من شيء.
إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
الأحد 6 ذي القعدة/20 أغسطس
وجوه ناطقة ووجوه صامتة
يبين على وجه الإنسان حالات نفسه من غضب ورضا، وفرح وحزن، فضلا عن حالات الجسم من صحة ومرض، وجوع وشبع ... وهلم جرا.
وكذلك تظهر على الوجه بعض الظهور السجايا والطبائع، فربما يتبين على الوجه ما في السجايا من إباء وذلة، وعفة وشره، ورحمة وقسوة، وهكذا كل سجايا الخير والشر والطيب والخبيث.
وقد بدا لي اليوم وأنا أسير في طريق آهل بالسابلة، تلقى السالك فيه ضروب الوجوه، وأنواع السحن، أن في وجوه الناس وجوها يسوغ أن نسميها وجوها معبرة كأنها تعبر عن معنى في نفسها، وكأنها تخاطب الناظر إليها. فترى وجها كأنه في دهشة مستمرة وحيرة دائمة، وكأنه يتأمل في العالم ويتحرى أمرا أذهله عما سواه. وترى وجها لا يعبر عن دهش ولكن في تقاسيمه ضربا من السؤال والاستفهام. وآخر كأنه مشفق على الناس أو مشفق منهم، فهو ساهم أو واجم. وأحيانا ترى وجها يخيل إليك أنه حزين، ووجها كأنه فرح ووجها تحسبه ساخرا وآخر تظنه ساخطا.
ووجوه لا تعبر عن شيء كالإنسان الذي يكتم سره ويخفي فرحه وترحه، فلا يعرف مخالطه ما يكتم في نفسه؛ ولكنها وجوه فيها وقار تعرف فيه الهيبة ولا تجرؤ على التطلع إلى ما وراءها.
ووجوه كأنها تماثيل لا تعبر عن معنى ولا توحي هيبة، ولا تعلم أنها حية إلا بالحركة.
الإثنين 7 ذي القعدة/21 أغسطس
قواعد السعادة
الناس يفقدون السعادة في طلبها، ويطرحونها ليطلبوها، ويتجاوزونها ليبلغوها، فهم كما قيل: من خوف الفقر في الفقر، ومن خوف الذل في الذل.
في الناس من تيسر له العافية فلا يعرفها، وتسبغ عليه النعمة فلا يشعر بها، ويبتغي العافية بترك العافية، ويسعى إلى النعمة بالغفلة عن النعمة. هذا الجامع المال يلهث في جمعه ليل نهار، ويحرم نفسه القوت بالادخار، ماذا وراء جمعه وادخاره، والكدح في ليله ونهاره؟ يطلب المال وهو في يديه، ويحرم النعمة وهي حواليه! وهذا الذي يطلب المنصب بالركوع، ويبتغي الجاه بالخنوع، ما غناء منصبه وجاهه وقد أضاع في طلبهما ما يبتغي بهما؟ «إذا أصبح المرء آمنا في سربه، معافى في بدنه، واجدا قوت يومه، فعلى الدنيا العفاء.» صدق رسول الله، أعظم النعم الأمن، وأفظع المكاره الخوف. فمن أمن فقد ظفر بأولى النعم، ومن حاز عافية البدن إلى الأمن؛ فقد أسبغت عليه النعماء، وزال عنه أوكد أسباب الشقاء، ولم يبق إلا أن يجد القوت يحفظ به البدن المعافى فينعم في ظلال الأمن.
ما عدا هذه الثلاث من متاع الدنيا نوافل، إن حصلها الإنسان فبها، وإلا فأحرى بالعاقل ألا يأسى عليها.
الثلاثاء 8 ذي القعدة/22 أغسطس
صفحات الأيام
قرأت هذا البيت في الشعر الفارسي:
ما ز آغاز وز انجام جهان بى خيريم
أول وآخر أين كهنه كتاب افتادست «لا ندري ما أول الدنيا ومنتهاها، قد سقط أول هذا الكتاب العتيق وآخره.»
ومعنى هذا أنا نقلب صفحات الأيام، أو تقلب الأيام لنا صفحاتها، ولا ندري الفصول الأولى التي سبقت هذه الصفحات ولا نعلم ما الفصول التي تزاد بعدنا في هذا الكتاب. جال فكري في هذا المعنى الرائع طويلا، ثم قلت: وما يضرنا ألا نعلم ما أول الكتاب وما آخره؟! إن علينا أن نحسن الكتابة في صفحات الزمان، ونحسن قراءة هذه الصفحات؛ نحسن كتابة ما نكتبه نحن، ونحسن قراءة ما تكتبه حادثات الدهر أو يكتبه غيرنا من الماضين والمعاصرين ، فإن أحسنا فما ينقص من إحساننا أنا لم نقرأ الفصول الأولى ولن نقرأ الفصول الأخيرة. إن علينا أن نحسن ابتكارا وإنشاء، فإن لم نقدر فلنحسن النسخ ولنجد الخط فإن هذا ضرب من الإحسان كذلك، ومن المشاركة في هذا الكتاب.
علينا أن نحسن القراءة، ونفقه ما نقرأ، وننتفع بما نفقه، وليس علينا بعد أن يفوتنا علم ما مضى وألا ندرك ما بقي.
من قصر في الكتابة والقراءة وقعد عن الإحسان فلبث يرثي لنفسه وللناس؛ لأن هذا الكتاب القديم سقط أوله وآخره، فلا يلومن إلا نفسه حين يتبين أن هذا الكتاب قد ضاع كله؛ أوله وآخره ووسطه، حجب الزمان عنه الطرفين، وحجب هو عن نفسه الوسط.
اقرأ ما أمامك واكتب، ودع لله علم الأمس والغد.
الأربعاء 9 ذي القعدة/23 أغسطس
سفسطة
من السفسطة التي كنا نعجب منها ونتندر بها ونتفكه في شبابنا، هذه القصة:
حكي أن سفسطائيا يونانيا - ولا أذكر اسمه اليوم - كان يعلم القانون فجاء إليه شاب يعلمه، واتفقا على أن يؤدي المتعلم أجر التعليم إلى أستاذه حينما يتخرج على يديه، فيعمل في المحاكم ويظفر بأول دعوى.
وبقي الشاب يتلقى عن أستاذه حتى أوفى على الغاية، فأجازه الأستاذ وانصرف ليعمل في المحاكم محاميا.
ولبث أستاذه يرقب عودته إليه ليوفيه حقه فلم يعد، ولقيه اتفاقا في الطريق فأمسك به وقاده إلى المحكمة وقص على القاضي قصته، وقال: فالآن وجب أن يؤدي التلميذ الأجر لا محالة. أنا أفرض أن هذه أول قضية يترافع فيها هذا التلميذ، وأتجاوز عما قبلها، فإن حكم عليه في هذه القضية فلن يكون الحكم إلا إلزاما له أن يؤدي إلي حقي، وإن حكم له فقد وجب عليه الأداء بالشرط الذي بيننا.
قال التلميذ السفسطائي الذي خرجه أستاذه في السفسطة: يا سيدي القاضي لا يجب علي الأداء على أية حال، فقد فرض أستاذي أن هذه أول قضية ... فإن حكم لي فهل يكون الحكم إلا رد ما يدعي وإعفائي من الأداء؟ وإن حكم له فلا أداء علي بالشرط الذي اتفقنا عليه.
أدع القارئ يتبين موضع المغالطة في كلام الأستاذ وتلميذه، ولكني أقول له: إن كثيرا من جدال الناس وحجاجهم وخلافهم ونزاعهم، قائم على مثل هذه السفسطة.
الخميس 10 ذي القعدة/24 أغسطس
الجماعة المثلى
هي الجماعة التي تربط عليها روابط الأسرة الصالحة؛ الكبار فيها آباء وأمهات، والصغار فيها أبناء وبنات، والمتساوون في الأسنان أخوة وأخوات. فيها عطف الوالدين وسيطرتهم وسلطانهم وتقويمهم وتأديبهم، وفيها طاعة الأولاد وبرهم وخدمتهم، وفيها المحبة والإيثار والتعاون والتعاضد والتآزر في السراء والضراء.
يلقى الكبير في الطريق أو المجمع الصغير فيحنو عليه ويعلمه ويرشده، ويبذل له ما يبذل لأولاده من وده ونصحه، ويلقى الصغير الكبير بما يلقى به والديه من الحياء والإجلال والبر والأدب. وإذا ركب الشبان في مركبة عامة مثلا ودخل كبير أفسحوا له فأجلسوه، أو قام أحدهم ليجلس الكبير مكانه، ثم جلسوا في حياء لا يجرءون على كلمة بذيئة أو إشارة قبيحة. فإن زل أحدهم زلة فنصحه الكبير لقي نصحه بالحياء والقبول والاستغفار والشكر.
وإذا نزلت بأحدهم نازلة في طريق أو دار أو حقل أو مدرسة، سارع من حوله إليه أنجادا يبذلون له من أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم، حتى يدفعوا عنه أو يخففوا أو يواسوا أو يعزوا. ويمر أحدهم بزرع أخيه أو حيوانه أو مصنعه أو متجره، فيسره صلاحه ويغمه فساده، وإن استطاع أن يزيد الصالح صلاحا أو يصلح الفاسد لم يبطئ ولم يتهاون ولم يدخر جهدا. يحب كل واحد لأخيه ما يحب لنفسه، خير واحدهم موفور له، ومصيبته مقسمة بينه وبين إخوانه وجيرانه.
ليت شعري! متى يتحقق أملنا في هداة الجماعة؟
الجمعة 11 ذي القعدة/25 أغسطس
الجماعة السوءى
جماعة متباغضة متنافرة، متقاطعة متدابرة، تتهادى سوء الظن، وتتبادل السباب. كل واحد فيها يمدح نفسه ويذم غيره، لا يجد لنفسه عيبا، ولا لغيره محمدة. هي كما قال القرآن في أهل النار:
كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون * وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون .
لا جرم أن الأمة المتلاعنة في نار في هذه الدنيا؛ نار الشقاق والخلاف والحقد والبغضاء والنزاع والعداء وما إلى هؤلاء من قتل وإفساد.
ترى قويها يعدو على ضعيفها، وكبيرها يقسو على صغيرها، فيجزي الضعيف والصغير بالعدوان والقسوة كرها وحقدا، وكيدا في السر وإيذاء بالغيب.
وترى الشبان لا يوقرون الشيب، بل الولدان لا يبرون الوالدين وهكذا.
هذا شأنها في الرخاء، فإن نزلت بها نازلة زادتها تباغضا وتنازعا، وتراميا بالتهم وتلاعنا، ونعوذ بالله من تنازع الجماعة وتباغضها؛ إنه الشقاء والشر كل الشر، وهو العذاب الأكبر الذي تؤخذ به الأمم:
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض .
السبت 12 ذي القعدة/26 أغسطس
ذرة من الشك
تقتحم الوحدان والجماعات عقباتها، وتهزم صعابها، وتمضي سبيلها على مقدار ما تتزود به من رأي محكم وعزم مصمم. وإحكام الرأي وتصميم العزم لا يلدهما إلا إيمان لا يشوبه ريب، وعقيدة لا يخالطها شك.
كلما اشتدت الأزمات، ولزبت اللزبات، واعترضت العقبات جاهدها عزم مصمم، وأمد العزم وأنجده وآزره وأيده إيمان قوي، لا يقهر واحدا أو جماعة مشقة، أو بعد شقة. والعزم حليف، ولا يفل العزم شدة، ولا يوهنه محنة، ما ظاهره الإيمان الثابت، والعقد الراسخ، فإن وهن الإيمان، وهن العزم فوهن الإنسان ووهنت الأمة فيما تلقى من الصعاب، وتقتحم من العقاب، وليس وراء الوهن إلا الخيبة.
ووهن الإيمان ذرة من الريب وخطرة من الشك، ربما لا يفطن لها أو لا يعتد بها، وهي كصدع صغير في سد كبير، أو كخلل يسير في سلك دقيق من جهاز كهربائي، أو عوج قليل في عجلة ضئيلة من آلة ضخمة. يوهن الصدع الصغير سده، والخلل اليسير جهازه، والعوج القليل آلته لا محالة.
فشر ما تلقى به جماعة كادحة أو أمة مجاهدة أن تشكك في إيمانها؛ فيهن عزمها فتضعف متتها. ومن أجل هذا كان المرتابون في أمة آفة كبيرة، والمترددون في كل جماعة فتنة عظيمة . فحسب أحدهم أن يسأل سؤالا يسري في إيمان الأمة ريبا، أو يدلي برأي يتسرب في يقينها تساؤلا. هؤلاء أعداء الأمم حاربوها بزعزعة إيمانها بالشك وفل عزمها بالارتياب، وردها عن غايتها بالتردد. فاعرفوا هذا واحذروه يا قادة الأمم ويا قواما على الشعوب.
الأحد 13 ذي القعدة/27 أغسطس
تآلف الجماعة وتنافرها
أسعد الجماعات، وأولاها بالفرح وأحراها بالظفر في جهاد الحياة، جماعة متآلفة متحابة متعاونة، يحب كل واحد فيها لأخيه ما يحبه لنفسه، ويكرمه ولا يبخسه حقه.
ولا تتيسر هذه الفضائل إلا لجماعة جمعتها شرعة الحق والعدل على التآخي والتحاب، جماعة أحلت العدل الجامع محل الأهواء المفرقة، والنصفة المؤلفة مكان الجور المنفر. وما تزال هذه الخلال تشيع فيها وتقوى حتى يصير رضاها بالقانون وغبطتها بالخير العام، وأنسها بأن تكون سواسية في الخير والشر والنفع والضر، وحتى تتجلى الألفة في كل مظاهرها؛ في طرقها ومجامعها، فترى حيثما رأيت وجوها متعارفة، وأيديا متآلفة حتى ليترك واحدها ما هو حل له إن رأى فيه ما يسوء أخاه، وترى ائتلاف باطنها وراء ائتلاف ظاهرها.
ومن يستهن بائتلاف الجماعة في مظاهرها فقد جهل نظام الجماعات، وما بين الباطن والظاهر من صلات.
لعل خير ما وصف به أهل الجنة في القرآن:
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا .
وأعوذ بالله من شقاء الجماعة حين تتنافر وتتباغض وتتحارب؛ فهي في شقاق دائم، وتنافر مستمر، تنطوي صدورها على عداوة تثيرها كلمة عابرة أو فعلة يسيرة، كما يشعل عود الثقاب النفط. والذي ترى وتسمع من حادثات كبيرة ثارت بأسباب صغيرة، هو من هذا التباغض المستكن، والتنافر الكامن. ترى هذه الجماعة في مجامعها وطرقها وحيثما تلاقى منها اثنان، قوى متصادمة، ووجوها متلاعنة، وأيديا للطام معدة. ولعل أسوأ ما قيل في صفة أهل النار ما في القرآن الكريم:
كلما دخلت أمة لعنت أختها .
الإثنين 14 ذي القعدة/28 أغسطس
الخير والشر
بدا لي رأي في الخير والشر: ما هما وما أصلهما؟ ولعلماء الأخلاق فيهما مذاهب؛ منهم من يرى أن الخير مرده إلى النفع ، والشر مرجعه إلى الضر ، ومنهم من يقول: إن في الإنسان حاسة تميز ما هو خير وما هو شر، دون نظر إلى المنفعة والمضرة، ولهم مذاهب أخرى.
والذي بدا لي أن الخير ائتلاف أو سبيل إلى الائتلاف، والشر تنافر أو وسيلة إلى التنافر. فعالم الطبيعة متجاذب، كل جسمين بينهما من الجذب ما يناسب كتلتهما والمسافة بينهما. وبهذا التناسب قامت السموات والأرض وسارت النجوم واتزنت الأشياء.
والأجسام الحية حياتها بالائتلاف وموتها بالتفرق، وكذلك جماعات الحيوان الأعجم والإنسان، باجتماعها وتعاونها تعيش وبتفرقها وتنازعها تهلك.
وكل ما يعده الناس خيرا هو ألفة حين تتأمل فيه أو وسيلة إلى ألفة، وكل شر هو فرقة أو سبيل إليها. فالكذب والسرقة والقتل والظلم وما إليها، كلها شقاق ونفور وافتراق، والعدل والأمانة والرحمة وأخواتها، اجتماع وائتلاف ومحبة.
وتستطيع أن تطرد هذا، ولعلي أفصل هذا في رسالة على حدة في الخير والشر.
الثلاثاء 15 ذي القعدة/29 أغسطس
نزعات الجسم وقوانين النفس
للجسم مطالب ينزع نحوها كلما احتاج إليها، وتشتد نزعته كلما اشتدت حاجته.
فهو يطلب الطعام إذا جاع، والماء إذا عطش، والنوم إذا نعس، والراحة إذا تعب ... وهكذا؛ نزعات متفرقة تختلف على الأوقات والحاجات. ولا يطلب الجسم الماء إذا لم يعطش، والطعام إذا لم يجع، والراحة إذا لم يتعب. فالأمر الواحد مطلوب في حين غير مطلوب في آخر، محبوب في وقت مكروه في غيره. ليس لهذه النزعات نظام، ولا لهذه المطالب عصام إلا الميل والنفور، والحاجة والاستغناء. فالإنسان بمطالب الجسم نزعات متعددة، وشهوات متفرقة لا تؤلف كيانا واحدا وقواما ثابتا، ونظاما دائما، ولكن للنفس قوانين تجمع نزعات الإنسان وتنظمها وتسيرها على سنن دائمة، فلا تبيح له الطعام إذا جاع إلا في حدود من صحة الجسم، وكرامة النفس، وحل القوت. تؤثر الجوع الطويل على الطعام المضر، بل الموت على مطعم الدني.
ولقد أبيت على الطوى وأظله
حتى أنال به كريم المأكل •••
وأستف ترب الأرض كيلا يرى له
علي من الطول امرؤ متطول
وهكذا القول في نزعات الجسم الأخرى. فالقوانين النفسية هي التي توجد الإنسان وتجعله ذاتا لها قوانينها وسننها توافق نزعات الجسم أحيانا وتخالفها أحيانا. وليس مرد هذه القوانين إلى العقل، فهو في أكثر حالاته مادي يوافق الجسم فيما يشتهي ويكره، ولكنه الوجدان الذي يهدي الإنسان ليرفعه على نزعات الحيوان، ويجعله نفسا وقواما ومذهبا ونظاما.
الأربعاء 16 ذي القعدة/30 أغسطس
أعز الناس
روي أن الكسائي مؤدب الأمين والمأمون ولدي هارون الرشيد، فرغ من مجلس التأديب يوما فتهيأ للخروج، فتنافس الأمين والمأمون في تقديم نعليه، وتسابقا.
وحضر الكسائي مجلس المأمون من بعد، فسأله الخليفة: من أعز الناس؟ قال: أنت يا أمير المؤمنين. قال المأمون: لا، أعز الناس من يستبق وليا عهد المسلمين إلى تقديم نعليه إليه. قال الكسائي: ما رضيت بهذا، ولقد نهيتهما يا أمير المؤمنين. قال المأمون: لو منعتهما لأسخطتني، حذار أن تصدهما عن مكرمة يتنافسان فيها.
ولقد رأيت في صباي طلبة الأزهر يتداولون أيدي شيوخهم بالتقبيل بعد كل درس، وشهدتهم يتنافسون في حمل نعال الشيوخ إلى باب المسجد. هكذا كان إكبار التلاميذ أساتذتهم، وكذلك كانت المحبة والحرمة بين الشيوخ والطلاب.
فماذا نرى اليوم؟ نرى شيوخا وطلابا ليس بينهم إلا أن الأولين يلقون كلمات يؤجرون عليها، وهم في هذا الأجر متنافسون متشاكسون، وأن الطلاب يستمعون إلى كلمات كأنهم مكرهون على الاستماع إليها، لا يبالونها إلا بمقدار ما تجوز بهم امتحانا وتؤدي بهم إلى شهادة فوظيفة. لا محبة ولا حرمة ولا أدب إلا قليلا. فلتنظر الأمة أين تسير، ولينظر القوم على التعليم ليحولوا هذه الجماعات المحشودة في المدارس، وهذه الأوراق المكدسة بينهم إلى شيوخ وتلاميذ، ومعلمين ومتعلمين، وآباء وأبناء، وليجتهدوا أن يخلقوا أرواحا في هذه الأشباح.
الخميس 17 ذي القعدة/31 أغسطس
أشبه من الغراب بالغراب
يرى الإنسان جماعة من أمة واحدة فيراهم متشابهين وبينهم في الحقيقة فروق كبيرة يدركها بنو جلدتهم، ويرى الرائي أخوة فيشتبه عليه أحدهم بالآخر؛ ولكن لا يشتبه أمرهم على أقربائهم.
ويرى الإنسان قطيعا من الغنم أو البقر فيعسر عليه أن يميز بعضها من بعض، فإذا عرضت عليه واحدة فتأملها ثم اختلطت بأخواتها، عسر عليه تمييزها، وهي عند راعيها معروفة لا يشتبه عليه بعضها ببعض.
وقد رأيت عجولا كثيرا أطلقت من حظيرتها لترضع أماتها، فجرى كل عجل إلى أمه لم يشتبه عليها ولم تشتبه عليه، وكانت العجول في رأي العين متشابهة والبقر متشابها.
ويرى الإنسان سربا من اليمام أو الغربان فلا يرى إلا أنها صورة واحدة مكررة ليس لواحدها شية تميزه، ولا سحنة تعرفه، حتى ضرب الناس المثل فقالوا: أشبه من الغراب بالغراب! ولا أحسب يمامة اشتبه عليها إلفها، ولا غرابا عسر عليه أن يعرف أليفه. وقل في النحل والنمل وغيرها.
ومعنى هذا أن في كل شيء دقائق، ولكل حيوان علامات تخفى على أنظار، وتدركها أنظار، وتنبهم على البعيد، ويدركها القريب، وأن المعرفة جلية وخفية. فعلى من لا يدرك أن يتثبت ولا ينكر، وعلى من ينظر ألا يثق بالنظرة الأولى، ويركن إلى الرأي الفطير. فوراء جلي العلم غامضه، ووراء ظاهر المعرفة باطنها، وفوق كل ذي علم عليم.
الجمعة 18 ذي القعدة/أول سبتمبر
السلطان بايزيد وأحد العلماء
بنى السلطان بايزيد العثماني، الملقب يلديرم؛ أي الصاعقة، مسجده الكبير في بروسه. هذا المسجد الجميل ذا القباب الكثيرة التي تتوسطها قبة زجاجية تلتقي تحتها أشعة الضوء وخيوط الماء المنبعث من النافورة.
4
ولما تم بناء المسجد ذهب السلطان ليراه، وكان معه الشيخ الصالح أمير بخارى، فطاف السلطان والشيخ معه بأرجاء المسجد وهو معجب بفخامته وجماله، فرح بما يسر الله له تشييده.
وقال السلطان للشيخ: ماذا ترى؟ وانتظر كلمة ثناء أو دعاء، ورجا أن يقول الشيخ: بارك الله في مولانا السلطان! لقد أرضى ربه ببناء مسجد عظيم. ولعله رجا أن يقول الشيخ: إن آباء السلطان من لدن جده عثمان، لم يشيدوا مسجدا كهذا على كثرة ما شادوا. ولكن الشيخ كان مشغولا بغير هذا، كان يفكر فيما يشاع عن السلطان بايزيد من شرب الخمر، فلم تصرفه أبهة الملك وجلال البناء عما أهمه من أمر السلطان، ووجدها فرصة لوعظ صاحبه وأداء واجبه، ولعله كان يردد في نفسه الآية الكريم :
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله
أو الآية:
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه .
قال الشيخ: مسجد فخم جميل؛ ولكن تنقصه حانة في إحدى زواياه ليغشاه السلطان بين الحين والحين.
سمعها السلطان فسكت، ولا أدري ماذا جال في نفسه؛ ولكن أحسب سورة الحق وجلال الدين وسطوة العلماء المخلصين أخذته من كل جانب فسكت صاغرا.
السبت 19 ذي القعدة/2 سبتمبر
ألم الخاطرات أو خاطرات الألم
يخطر للإنسان أحيانا خطرات من الاعتداد بنفسه واحتقار غيره، أو حب التزيد فيما له وبخس ما لغيره، أو تمني قهر الناس وإذلالهم أو الشماتة بهم.
ويخطر له أحيانا من مطامع لا توافق الحق، ولا تلائم الإباء والعفة، أو شهوات لا يحدها العدل ولا تنصرها المروءة.
ويسترسل الإنسان في أحاديث نفسه، ليبلغ بهذه الخطرات غايتها وينتهي بوساوسه نهايتها. ويشعر أحيانا شعور من يتمرس بهذه الأماني أو هذه المطامع والأحقاد، فيغضب ويرضى ويحزن ويفرح، مع ما بين الحقيقة والخيال من بون.
وهذه الأحاديث التي يتصرف فيها الخيال، وتؤثر في النفس بالانبساط والانقباض، والحب والبغض، والرضا والسخط، تاركة لا محالة في نفس صاحبها آثارا تستكن في السرائر وتخفى، ولكنها تعمل عملها. وكما يحدث الخيال المفرح فرحا، والخيال المحزن حزنا يحسهما المتخيل، كذلك يدع الخيال في قرارة النفس أثرا من الحب أو البغض والعدل أو البغي، والنور أو الظلمة، والطهر أو الدنس ... وهلم جرا.
فاجتهد أن تنفي عن نفسك أحاديث الهوى والجور، واحذر آثارها الخافية في النفس، وكن سليم الصدر، طاهر الخيال، عادل الفكر، طاهر المأرب، واذكر قول أبي العلاء:
الطاهر الآباء والأبناء والأ
ثواب والآراب والألاف
الأحد 20 ذي القعدة/3 سبتمبر
أبغض الإنسان وأحبه وأرثي له
أرى في الناس أشرارا لا يتورعون عن شر، ومفسدين لا يرعوون عن فساد، وأرى فيهم الفجرة الغدرة، والمنافقين المكرة. وأرى وجوها وقاحا، وألسنا بذيئة، وأيديا عادية. وأرى قسوة وظلما، وطمعا وجشعا، وحرصا وشحا. وأرى كذبا وزورا، وكبرا وغرورا. وأرى أشباه هذه من مآثم وجرائم، ومخازي ورذائل؛ فأبغض الإنسان وأحقد عليه وأزدريه .
ثم أنظر إلى أخيار بررة، يصلحون في الأرض ولا يفسدون، وأمناء حفظة، يرعون العهد ولا يغدرون، وإلى وجوه يحليها الحياء، وألسنة يصونها الأدب، وأيد تطهرها العفة. وأرى فضائل ومحامد، ومكارم ومآثر؛ فأحب الإنسان.
ثم أنظر إلى من أبغضت ومن عليه حقدت، فأرى بيئة فاسدة نشأتهم، وقوانين جائرة ربتهم، وأراهم حرموا الرعاية الصالحة، والقلوب الحانية، والأيدي الراحمة، والتعليم القويم؛ فأرثي للإنسان.
وأرى الإنسان في جهاد الطبيعة حرها وقرها، وطوفانها وعواصفها، وفي عناء من الكدح والكد، وبلاء من المرض في جسمه، والآفات في بهيمته وزرعه؛ فأرثي للإنسان.
إن الإنسان في حاجة إلى رعاية تنمي ما فيه من خير، وتبين عما في نفسه من صلاح، وتداوي ما به من شر، وتذود عنه ما يلقى من آفات.
إن الإنسان في حاجة إلى من يبغض إليه الشر ويحبب إليه الخير، ويرثي له مما يصيبه. وبين البغض والحب والرثاء يكون الإصلاح.
الإثنين 21 ذي القعدة/4 سبتمبر
وما أقرانها إلا الطعام
للإنسان مطالب جثمانية وأخرى روحانية، والسعيد من عادل بين مطالب الجسم والروح، فلم يخل بعضها ببعض.
يعمل لصحة جسمه وقوته ونشاطه لينيل الروح مقاصدها، وييسر لها مطالبها من العلم والفكر والرقي والسعي على الأرض بالحق والعدل وما إلى هذه المقاصد الخيرة.
فمن أخل بمطالب الروح أو نسيها ولم ير إلا مطالب جسمه، فهذا كما قال القرآن:
يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام . وفي الحديث النبوي: «إن المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء.» هذا يأكل ليقيم أوده فيؤدي في هذه الحياة عمله، وهذا يأكل وليس له هم إلا لذة الأكل وما يتصل بها.
وإذا لم يكن للروح على الجسم سلطان ولا لها في أعماله هداية، تمكنت البهيمية فغلا الإنسان في متعة جسمه. وفي هذا الغلو حتفه، فهو يأكل ما يلذ حتى لا يجد مساغا لطعام، وحتى تأخذه الكظة فيعالج جسمه حتى يفيق من تخمته، فيعاود لذة الطعام، وهكذا دواليك بين لذة الطعام وألمه، وانتظار المآكل، وانتظار الإفاقة منها.
وهذا المرض العارض بعد كل وجبة، ينشئ مرضا دائما يفيت لذة الطعام، وربما يفضي إلى الحمام. فبعض الناس في حرب من طعامه وشرابه، حتى يهوي قتيل شرهه في معترك فيه الأسنان سيف وسنان.
ورحم الله أبا الطيب، يقول في بعض أهل زمانه:
بأجسام يحر الطعن فيها
وما أقرانها إلا الطعام
الثلاثاء 22 ذي القعدة/5 سبتمبر
التقويم
نظرت في تاريخ اليوم بين الحساب القمري والحساب الشمسي ووجدته أول أيام النسيء بالتوقيت الشمسي المصري، فجال فكري في تقويم الأمم على اختلاف أزمانها وأوطانها واتفاقها واختلافها في التقويم والتوقيت. ثم ضيقت هذا المجال الواسع الذي لا قبل لي به إلى هذه المسألة الواحدة: الحساب القمري والحساب الشمسي أيهما أقرب إلى الناس وأيهما أسبق في التاريخ؟
قلت: التوقيت القمري كان أظهر وأيسر على الأمم قبل أن توغل في علم الهيئة وحساب الفلك، فالقمر يتغير كل يوم حتى يغيب بعد ثمانية وعشرين يوما، ثم يظهر جديدا بعد يوم أو يومين، فهو لا محالة أقرب إلى الإدراك، وأيسر في الحسبان. ومن أجل هذا لم يختلف الناس في حساب الشهور القمرية ما اختلفوا في تقسيم الشهور الشمسية. ولكن حساب السنة بالشمس أبين وأيسر من حسابها بالقمر، فتغير الفصول فيها واضح، وصلتها بالمقاييس أبين من السنة القمرية. وأداني إلى النظر فيما هو أقرب إلى الإدراك وأبعد، إلى التفكير في اليوم الزوالي واليوم الغروبي، فقلت: إن حساب اليوم بغروب الشمس أقرب الطبيعة، وأدنى إلى الحسبان، فالناس يرون غروب الشمس فاصلا بين ليل ونهار ولا يدركون اليوم الذي يبتدئ بزوال الشمس إلا بحساب ورصد. فالتوقيت بالغروب - ولا يزال شائعا في بعض البلاد - أقرب إلى الطبيعة وأيسر، فكل إنسان يستطيع أن يبصر الغروب ولكنه لا يدرك الزوال إلا بنظر وقياس، ولولا أن بلغ الناس في التوقيت مدى بعيدا، وعرفوا في الزوال أمدا محدودا، ما جاوزوا الطبيعة فجعلوا نصف الليل أول الصباح ونصف النهار أول العشي ومدوا العشي إلى نصف الليل فخلطوا بين الليل والنهار، وصار عدد الساعات لا يدل على ما مضى من الليل الطبيعي أو النهار الطبيعي.
الأربعاء 23 ذي القعدة/6 سبتمبر
أثرة وإيثار
في الناس أثر همه نفسه، لا يبالي غيره. ونفسه التي تهمه ضيقة الحدود، صغيرة الهمة، فهي مطامعه ومآربه، وشهواته أو أهواؤه. كل ما أدى إلى هؤلاء يحبه ويحرص عليه ويشح به.
وفي الناس من تتسع نفسه، وتبعد همته فيرتقي إلى رعاية القوانين ومراعاة الآخرين. فهو ينظر إلى نفسه وإلى غيره، يأخذ بالحق ويدع بالحق، ما كان له استأثر به، وما كان لغيره آثره به، فهو عادل بين نفسه وبين الناس، يأخذ ويعطي بالقسطاس. ونعم الإنسان هذا، ونعم خادم الجماعة هو!
وفي الناس من يعلو مستوى العدل إلى مستوى الفضل، فيحرم نفسه ما تستحق أحيانا ويعطي غيره ما لا يستحق أحيانا. تسمو نفسه وتعلو همته إلى درجة الإيثار كما وصف القرآن الكريم الأنصار فقال:
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .
هذه درجة لا يكلفها أحد، ولا يتطوع لها إلا القليل. وهي ربيبة الأسرة، وغذية الأبوة والأمومة، والبنوة والأخوة، تشيع في الأسر الصالحة، ويرضعها أولادها، فينشئون عليها، ويعملون بها في الأسرة الكبرى؛ الأمة.
تلكم درجة فوق الحق والعدل، تبلغها النفس العظيمة حين تشعر أنها أقدر على احتمال الضر وأصبر عليه، وأكثر استغناء عما يفتقر إليه الناس، وأعظم إدراكا للفضائل العالية، فهي تعد نفسها أحق بها، وأهلا للخير والجمال وأبصر بهما.
الخميس 24 ذي القعدة/7 سبتمبر
تقلب الأيام من أوراقها
يقول شاعر الترك الأكبر عبد الحق حامد:
ويسرع هذا الزمان المرور
إلى أن أرى أنه لا يمر
5
يعني أن الأيام تتوالى سراعا فيذكر الإنسان حدثا قريبا يخيل إليه أنه لم يمض بعده أيام، ثم ينظر فإذا أيام كثيرة مضت! أو يعزم على أمر ليفعله سريعا، ويتوهم أنه عند عزمه، ثم يتبين أن أياما عدة أسرعت قبل إنجاز ما عزم عليه. والبيت يوحي بصورة من يأخذ في يده جسما يديره مسرعا فيراه رأي العين ثابتا لا يتحرك.
ورأيت أن أحدنا يحمل مذكرة يسجل فيها ما وقع في يومه أو ما يريد أن يفعله في حينه، وينظر فإذا يوم مضى لم يسجل فيه حادثاته، وإذا آخر مر دون أن يفعل ما سجله له، فقلت:
تقلب الأيام من أوراقها
أسرع من تقليبنا أوراقنا
وهذا كلام يثبت على التجريب، ويتضح بالتأمل. ولكن تأمل في هذه الكلمة:
لا أذكر ما قال الفلاسفة القدماء والمحدثون في الزمان ما هو وكيف يمضي أو لا يمضي، ولكن أمرا واحدا يتبين لي: هو أن الإنسان إن نظر إلى جزئيات الحوادث وخضع لها، رأى نفسه كالذي يقوم في مجرى النهر تصدمه موجة بعد موجة، أو يقوم في طريق تزحمه السابلة يدفعه سائر بعد آخر. ولكنه إن نظر إلى القوانين العامة واستعلى على الحادثات، رأى ظهورا ما يسميه الناس مرورا، ووجد نفسه على الساحل لا يأخذه تيار النهر ولا تصدمه أمواجه، يثبت ثبات الساحل ويبصر النهر لا يبالي مرور مائه ولا تسلسل موجه، ولكنه يرى الحقيقة الثابتة التي وراء هذا التغير والمسير.
الجمعة 25 ذي القعدة/8 سبتمبر
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين
إنسان يفعل الخير حبا وجذلا، ويحسن إلى الناس تطوعا وتفضلا، مغرم بالمكارم فيها لذته، وإليها طمأنينته، طموح إلى المعالي فيها سعادته، وبها سكينته، محلق يكره الإسفاف، وجليل ينفر من السفساف، ينفر عن الشر وكل قبيح، ويعاف الدنية وكل منكر، ويولع بكل جميل طاهر، كالنحلة تأخذ من كل زهرة ثم تخرج شهدها.
وآخر كلف بالشر، مغرم بالمخازي، ترفعه فيهوي، وتحلق به فيسف. كلما رفعت إلى المعالي مناه، أخلد إلى الأرض واتبع هواه.
هذا تعب لخير الناس، مرزأ في سبيل الله، يجود بماله ونفسه لقومه ووطنه، وهو على كل مخوف مقدم، يمضي قدما غير محجم. وذاك يغتنم الفرصة لسرقة المال، حين تهيب أمته بالرجال، فيشتري لها سلاحا ليغنم، ويغشها في حومة الوغى ليربح، وإنه والله للخسار كل الخسار، والعار لا يدانيه عار، ولا يمحوه تقلب الليل والنهار، وكر الإعصار بعد الإعصار.
هذا أمين في كل ما اؤتمن عليه، يراقب نفسه في السر والعلانية، والرخاء والشدة، يرى الأرض وما عليها أهون من أن يخون ليملكها ويدنس نفسه ليحوزها.
وذاك لا يؤتمن إلا خان، ولا يتمكن إلا سرق، لا رقيب عليه إلا القانون والسجن، فإن أمنهما لم يأمنه أحد. ويرى كل هين من عرض الدنيا أعز من نفسه، وأغلى من قيمته، يبذل كرامته ليناله، ويبيع نفسه ليشتريه، صدق الله العظيم:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين .
السبت 26 ذي القعدة/9 سبتمبر
أين الوجوه؟
روي أن إمبراطور الألمان غليوم قال - وقد رأى الألمان صغيرهم وكبيرهم يضعون على عيونهم المناظر: إن وضع الألمان جميعا على عيونهم مناظر فمن منا يرى العالم على حقيقته؟!
وقد رأينا نساءنا يلونون الخدود والشفاه والعيون والحواجب بألوان لا تفارقها، ولا تفصل عنها حتى تجدد، فقلت: من يرى إذن وجه المرأة على حقيقته؟ أين وجوه النساء؟ إن الإنسان في هذه البيئة وأمثالها لا يرى وجه المرأة على طبيعته ولن يراه، فسيحرم معرفة الحقيقة وإبصار الطبيعة، كما يحرم جمالها، ووحيها وإلهامها.
إن معيشتنا غلبت عليها الصناعة، فأزياؤنا وأثاثنا وأدواتنا وأطعمتنا تتجلى فيها الصناعة والتقليد أكثر من الطبيعة والابتكار. ولكن شرا من هذا أن تطغى الصناعة على قسمات الوجوه وملامحها وأساريرها فتنكرها. ولست أعرض هنا للحسن والقبح؛ الحسن الذي فقدته النساء بهذا التصنع، والقبح الذي اكتسبته واكتسينه بتحريف الفطرة. ولا أعرض لما في هذا من إضرار بالصحة، وإضاعة للمال، وتضييع للوقت، وذهاب بالطمأنينة، وضجر بهذا الشغل الشاغل الذي تعمل فيه أيدي النساء صباح مساء وتتحمله وجوههن بكرة وعشيا. ولكن أقصر قولي على الفطرة والصنعة، واليسر والعسر، والطبع والتكلف، وحجب الطبيعة الجميلة عن أعين الناس أبدا وحرمان ما توحيه إلى الرائي من جمال وجلال، وإكبار وإعجاب. إنا ننظر فنرى حجبا لا وجوها، وتبرقعا لا سفورا، وتنكيرا لا تعريفا، فنقول: أين الوجوه؟ «شاهت الوجوه!»
الأحد 27 ذي القعدة/10 سبتمبر
النار وصورتها في الماء
يسمع الإنسان من أخبار الحرب كيف قتلت ودمرت وشردت، ورزأت والدين في أولادهم، أو أطفالا في والديهم، وأخرجت أناسا من ديارهم يهيمون في الأرض، قد بدلوا بالغنى فقرا، وبالشبع مسغبة، وبالعزة ذلة، وبالقرار اضطرابا، وبالطمأنينة قلقا.
نسمع أنباء هذه الكارثات أو نقرؤها ونحن في عافية من هذا البلاء، موفورون ناعمون فكهون، ونحسب أننا شعرنا بما يلاقي المرزءون. ولا أقول ليس الخبر كالعيان، بل أقول: أين من النار صورة النار في الماء؟!
وكذلكم كل ألم يصيب الإنسان في هذه الحياة، وكل مشقة يعانيها، وكل هم يكابده لا يقدره إلا من يحسه، ولا يعرفه إلا من يكابده. نسأل الله العافية.
وكذلكم كل ألم نفسي يصيب الإنسان، كل خيبة في أمل وكل حسرة على فائت، وكل ندم على مكرمة أفلتت، أو مخزاة وقعت، نقرأ أخبارها أو نسمع أنباءها فنرثي لأهلها، ونواسيهم أحيانا، ويخيل إلينا أننا شاركناهم ووجدنا ما وجدوا، والحق أننا أبصرنا أو لمسنا صورة النار في الماء.
هكذا كل أمر في هذه الدنيا، ليس سامعه كرائيه، ولا المخبر عنه كمن يعانيه، وقديما قال المتنبي:
لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
فليقدر ذلك من ينظر في أمور الناس، ومن يتعرف أحوالهم، ومن يستقرئ تاريخهم، ليذكر كل حين أنه شتان بين النار وبين صورة النار في الماء.
الإثنين 28 ذي القعدة/11 سبتمبر
الشهوات لا المروءات
نسمع بين الفينة والفينة عن حفل خيري ينظم، ويدعى إليه ويبالغ في الحديث عنه والنشر، وتشويق الناس إليه. حفل خيري يدعو إليه جماعة من الساعين في الخير لجمع المال لمدرسة أو مستشفى أو دار أيتام، وما إلى هذه من دور البر، ومهابط الرحمة، ومعالم الخير.
والذين يرتبون الحفلات الخيرية ويدعون إليها وينصبون من أجلها، مشكورون يقدر الله والناس حسن نيتهم، وجمال مقصدهم. ولكن هؤلاء الدعاة يعرفون أخلاق الناس في عصرنا ويقدرون مروءتهم وأريحيتهم، ويعلمون كيف يسخون في اللهو ويضنون في الجد، ويجودون في الشر، ويشحون في الخير، فيتوسلون إليهم بما يستخرج المال من نفوس شحيحة وأيد ضنينة؛ يجعلون الحفل مرقصا أو مشتملا على رقص، ويعنون بدعوة المتبرجات من أعلام الحفلات، والمبرزات في الزينات، ويحتلفون في هذا وذاك جهدهم. ويستعينون على الشح والبخل واللؤم بنساء يبعن للحضور زهورا أو أشياء أخرى بأكثر من قيمتها. هذه كلها رقى لإخراج المال في سبيل البر من النفوس الشحيحة، وإنباط الخير لأجل الصدقات من القلوب المتحجرة، ورد البخلاء بالحيلة أسخياء، واللؤماء بكل وسيلة كرماء.
فانظر كيف يستجيب الناس للشهوة أكثر مما يستجيبون للواجب والمروءة؟! وكيف تسيطر الشهوات وتضعف المروءات؟! وكان الظن بالإنسان أن يكون أريحيا في احتمال المغارم، ويكون كما قال الشاعر:
ذريني أطوف في البلاد لعلني
أصيب غنى فيه لذي الحق محمل
أليس عظيما أن تلم ملمة
وليس علينا في الحقوق معول؟
الثلاثاء 29 ذي القعدة/12 سبتمبر
مسجد من الروث، وروث مفضض
حدثنا الشاعر الكبير محمد عاكف رحمه الله أن أحد أدباء الترك - وقد شككت في اسمه - قال: إن هؤلاء الصوفية الذين يكنون عن معانيهم بالخمر والكأس والساقي والسكر وما يتصل بها، كمن يبني مسجدا من الروث، يعني أنهم يذكرون الأشياء الحسية الحقيرة ويريدون الأمور المعنوية العظيمة. ويكنون بالمحرمات من الشهوات عن الروحي من النزعات، كمن يبني مسجدا للصلاة، وهو مقصد جليل ومعنى جميل ولكن يجعل جدرانه من الروث، ويقيم دنس الصورة على طهارة المعنى.
قلت: عكس هذا أكثر وأشيع، وأفحش وأشنع؛ أن يشيد الإنسان صورا جميلة جوفاء ليس وراءها معان، أو يتجوز بها إلى معان قبيحة، كالذي يشيد مسجدا وهو لا يصلي، ويقرأ القرآن ولا يعمل به، ويدعو إلى مكارم الأخلاق ولا يتحلى بها، ويتحدث عن الأمانة وهو خائن، ويشيد بذكر العفة وهو شره، ويتجر بالدعوة الدينية أو الوطنية وهي أحبولة إلى مال أو جاه أو منصب. وكالذي يذكر الإباء على الدنايا والكبرياء على الصغائر، والتنزه عن الباطل، فإن وجد إلى مطامعه سبيلا، قبل كل دنية، وطأطأ رأسه لكل مخزية، وتوسل بكل باطل وارتكب كل منكر. الذين تكذب ظواهرهم على بواطنهم، وألسنتهم على قلوبهم، وأقوالهم على أفعالهم، وأخبارهم على تجاربهم.
هؤلاء لا يكنون بالصور القبيحة عن الحقائق الجميلة، ويبنون مساجد من الروث، ولكن يخفون الحقائق الفظيعة بالمظاهر الجميلة، ويبنون مواخير من الفضة. ولست أجد في مقابلة مسجد من الروث أحسن من قول الحريري: فهل مثلك في طلاوة علانيتك، وخبث نيتك، إلا كمثل روث مفضض، أو كنيف مبيض؟!
الأربعاء 1 ذي الحجة/13 سبتمبر
الهرم المضمر
إنسان في ريعان الشباب، ومقتبل الآمال، انفسح أمامه المجال، وهو محجم لا يقدم وهياب لا يعزم. يسكن إلى الدعة، ويؤثر العافية، يتدلى ولا يشرف، ويطرق ولا يستشرف. عليه من الهموم أوقار، ومن اليأس آصار، وله من الخوف قيود، وعليه من القنوع سدود.
هو في فتائه هرم، وفي نضارته ذابل، وفي قوته ضعيف، وفي إقباله متقهقر، وفي تقدمه مستأخر.
من يقطع عن هذا الفتى أغلاله، ويضع عنه أثقاله، ويرحض عن صدره الهموم، ويمسح عن محياه الوجوم، ويريه الحياة طموحا وإقداما، والشباب عزما واضطراما. يرفع بصره إلى المطلب الأسمى، والمقصد الأسنى، ويريه كوكب الأمل لماعا، وشعاع الرجاء وضاء. ويشعل في نفسه همة لا تقنع بما دون النجوم، وعزمة تمضي ثاقبة كالرجوم، ويشعره لذة الصعاب ومتعة المشقات، وعزة الجهاد، وفرحة الظفر والاستيلاء على الأمد.
إني لأكره هذا الشباب الخانع، والفتاء القانع، والهمة المكلومة، والعزيمة المثلومة، وأرى في الشباب الهرم موتا، وفي الحداثة العاجزة فناء.
وفدت نفسي فتى يبسم أبدا كالنجم في الظلام، ويقدم أبدا كالكوكب في الحباك. وكما قال أبو تمام في النجوم:
منها معالم للهدى ومصابح
تجلو الدجى والأخريات رجوم
أو كما قال أبو الطيب:
تهوي بمنجرد ليست مذاهبه
للبس ثوب ومأكول ومشروب
وقوله:
وأهوى من الفتيان كل سميدع
نجيب كصدر السمهري المقوم
خطت تحته العيس الفلاة وخالطت
به الخيل كبات الخميس العرمرم
الخميس 2 ذي الحجة/14 سبتمبر
الصور والحقائق
الصور من الحقائق كالألفاظ من المعاني، ينبغي أن تعطى حظها من العناية، ويعرف خطرها في الدلالة. المعنى يدل عليه اللفظ وبينهما من الصلة والتآلف ما يجعل التمييز بينهما عسيرا أو معضلا؛ فاللفظ لا يكون بغير معنى، والمعنى لا يكون في الكلام بعير لفظ، حتى أشكل على الناظرين في البلاغة التفريق بين المعاني والألفاظ، فقال فريق: بلاغة الكلام في ألفاظه، وقال آخرون: بل بلاغته في معانيه، وليس هذا من صددنا الآن.
ولكن قصدي إلى الصور وما تدل عليه، فالخشوع مثلا حقيقة في النفس لها صورة في أفعال الصلاة، فلا ينبغي أن تحقر الصلاة وتنظر إلى المعنى فحسب، فالصورة والمعنى لا ينفصلان. السجود مثلا صورة الخشوع، وإن شئت فقل: خشوع مجسم. وقس على هذا كل ما في أعمالنا من صور وحقائق، تجد الإخلال بالأولى يخل بالثانية، والإخلال بالثانية يخل بالأولى. فالطاعة والائتلاف والتعاون لها صور حسية في قيام أو اصطفاف أو تماسك بالأيدي أو سير متوازن أو اجتماع ... وهلم جرا. وكلها ذوات خطر.
والمحافظة على الحقيقة يحفظ الصورة، فخطأ وخطل ما يقوله بعض المضلين من أن القصد من العبادات ونحوها معانيها، فلا قيمة لصورها! أجل، لا قيمة لصورها إن كذبت، كالقول الكاذب، لا معنى وراءه، إن صارت الأعمال صورية لا حقائق لها، وهيئات ليس وراءها معان.
يشيع بين بعض المتشدقين تحقير الصور والمحسوسات، وأرى أن هذه الصور هي دلائل الحقائق والموحية بها، والمبينة لها. وخير الأمم من تحافظ على الحقائق والصور، على الحسي والمعنوي، على اللفظ والمعنى.
الجمعة 3 ذي الحجة/15 سبتمبر
نتعلم من غيرنا ولا ننسى أنفسنا
الناس منذ عرفوا أنفسهم في هذا العالم، وعقلوا الحياة على هذه الأرض في تفكير وتجريب، يجمعون بهما علما إلى علم، ويزيدون عملا إلى عمل، وكل لاحق آخذ عمن سبقه، وكل سابق معلم من لحقه.
وفي كل جيل مفكرون يدركون، وعلماء يرشدون وفلاسفة يبتكرون، وسواد الناس تبع، وجمهور الجماعات سائر على الأثر.
وأكثر المفكرين العالمين يفقهون أقوالا قيلت، ويعقلون آراء أثرت، ويذهبون مذاهب مهدت. إنما عملهم التأليف والتوضيح، والترتيب والتنظيم، وزيادات في الحواشي.
وقليل من المفكرين من يبتكر ويزيد أو ينقد وينقص، أو يمحو ويثبت، وأقل من هؤلاء من يأتي بمذهب محدث، وطريق مبدع، وفلسفة أنف.
ولم يبلغ أحد من هؤلاء ما بلغ إلا بعد أن علمه من سبقه، وهداه من سار قبله، ولكنه لم يقف على الغاية التي بلغها سابقوه، ولا قنع بالدرجة التي ارتقى إليها معلموه.
فليس يصح في الأذهان ما روي عن الفيلسوف الفرنسي ديكارت أنه قال: لا أريد أن أعرف أحدا قبل ديكارت. فلو لم يعرف أحدا قبله لبدأ الفكر الإنساني ولبث أحقابا ينظم فكرة إلى فكرة حتى مات حيث بدأ.
لا نستطيع أن نستقل بعقولنا وأفكارنا، ونتجاهل من تقدمنا. ولكنا نستطيع أن يكون لنا رأي ونقد، وتعديل وجرح، وهدم وبناء، وأن نقبل ونرد وننظر ونجتهد.
الطريقة المثلى أن نتعلم من غيرنا ولا نفقد أنفسنا.
السبت 4 ذي الحجة/16 سبتمبر
الضعيف أمير الرفقة
قرأت في صحيفة يومية أن متانة السلسلة على قدر أضعف حلقة فيها، وقفت على هذا الكلام معجبا به، متأملا فيه، قلت: أجل! هب سلسلة فيها عشرون حلقة، تسع عشرة منها متينة إن علقت في إحداها مائة قنطار لم تنفصم؛ ولكن الحلقة الباقية واهنة لا تحمل قنطارا فالسلسلة كلها واهية إن علقت بها قنطارا انقطعت.
وعلى هذا القياس الجماعة من الناس أو الأمة، لا تقدر قوتها بالأقوياء الأصحاء فحسب، بل تقدر بالضعفاء المرضى كذلك، بما كانت الجماعة المتعاونة سلسلة متماسكة.
وتذكرت وأنا أردد الفكر في هذا الكلام أني قرأت حديثا أو قولا مأثورا هو: الضعيف أمير الرفقة، فرأيت هذا الكلام وذاك متصلين، متقاربين على اختلاف ظاهرهما. فالرفاق المسافرون لا يسيرون بسير الأقوى والأصح بل بسير الأضعف والأمرض، فهم يرعون الضعيف في حلهم ورحيلهم وسيرهم، يتخيرون الوقت الملائم والطريق الميسرة والمنزل الموافق ... وهكذا. الضعيف أمير رفاقه يتبعونه ولا يتبعهم، ويسيرون كما يشاء لا كما يشاءون. وكذلك ينبغي أن يعنى الناس بجوانب الضعف فيهم فلن تجديهم معها قوة الجوانب القوية. ينبغي أن يعنى الفرد بالضعيف من أعضائه، والواهن من أخلاقه، وتعنى الأمة بالضعيف من فئاتها، والمختل من أحوالها. فمن خدعته القوة عن الضعف، وأنسته الصحة المرض، زاد على الأيام وهنا ومرضا، حتى يكون حرضا أو يكون من الهالكين.
الأحد 5 ذي الحجة/17 سبتمبر
خجل الكاسي من العاري
هبطت اليوم إلى سيف من أسياف الإسكندرية قاصدا إلى مقصورة هناك، وكنت كما ألبس عادة، ومعي واحد مثلي، فأخذتنا عيون العراة المتوقحين من نساء ورجال كأنهم يعجبون منا كيف لا نخجل حين نسير بينهم كاسين في زي الإنسان القديم.
وعجبت أن أرى المرأة الوقاح، عارية أو كالعارية، وهي لا تسبح في الماء ولا تقعد على الشاطئ تتهيأ لتسبح، ولكنها في مجلس يضم رجالا وفي طريق يمر به أصناف من الناس يحملقون في هذه الأجسام المعروضة!
ثم قلت لنفسي: لا عجب، هذه بيئة العراة يخجل فيها اللابس، وكل جماعة يغلب فيها حال يخجل فيها من ليس على هذه الحال، خيرا كانت الحال الغالبة أم شرا. فالأمين ذليل بين الخونة، والتقي ضعيف بين الفساق، والعفيف مغلوب بين الشرهين ... وهكذا.
ونعوذ بالله أن تغلب في أمة ضروب الشر فينقلب فيها المعروف منكرا، ويعد فيها الحسن قبيحا، ويذل أنصار الخير ورعاة الفضيلة حتى يبلسوا فيخرسوا، فإن دعوا لقيت دعوتهم السخرية والاستهزاء في كل مكان.
ربما يعتل جانب من الأمة فترجى الجوانب الصحيحة، ويؤمل برء المعتل. فإن اعتلت الجماعة كلها فغلب الخير فيها، وذلت الفضيلة، وانقلبت بيئاتها كلها فاسدة، فليس بعد هذا إلا اشتداد المرض واستفحال العلة، وليس وراء هذا إلا الموت.
الإثنين 6 ذي الحجة/18 سبتمبر
العقل والعشق
يكثر الصوفية من ذكر العقل والعشق، يجعلون الأول قاصرا ضيقا جبانا، لا يطمع إلى الحقائق العليا ولا هو أهل لها، ويعدون العشق شجاعا مقداما طماحا، أهلا لإدراك الحقائق الإلهية. فماذا يعنون بالعشق؟ لعلهم يعنون طموح الإنسان إلى الكمال ونزوعه إلى المعالي وتشوقه إلى المعرفة وسموه إلى الفضائل، ونحو هذا مما لا يوزن بميزان العقل ولا يقاس بمقياسه. يعنون هذا الطموح إلى الكمال والإقدام على العظائم دون مبالاة بالصعاب والأهوال، وهذا التحرق إلى الإدراك فيما يتصل بمعايش الناس وما لا يتصل.
ففي الأمور الروحية نرى العقل يتحدث عن الله تعالى أو الخير أو الشر أو الفضيلة والرزيلة أو الحسن والقبيح فيقيس ويزن ويرتب مقدماته ويستخرج نتائجه كما يتصرف في الجزئيات المحسوسات.
والعشق يقدم فيدرك فيطمئن فيوقن، لا يذرع المكان ولا يقيس الزمان.
ثم نضرب هذه الأمثال: العقل يرى في الموت دفاعا عن الوطن أو الأمة ضربا من التناقض؛ لأن الإنسان يدافع عن أرض أو أمة لأنه منها، فإذا مات لم تكن الأرض وطنه، ولا الأمة أمته، فقد خسر في دفاعه ما يدافع عنه، وكان كمن يدافع عن نفسه بقتلها. هذا حكم العقل، فما هذا السر الذي يقحم الإنسان على الموت غير هياب دفعا عن وطنه أو أمته؟!
ومثلا آخر: أن العقل يرى أن ينال الإنسان قوته ليحفظ حياته، فإذا اشتد به الجوع فسأل الناس فقد فعل ما وجب. فما هذا الذي يدفع الإنسان الأبي إلى احتمال الجوع والضر في نفسه وبدنه واجتناب ما فيه مذلة أو مهانة من سؤال وتملق؟!
ومثلا آخر: ما الذي يدعو الإنسان إلى طلب العلم وتعرف ما خفي عليه وإسقام بدنه في البحث والاستقراء وليس عيشه مقتضيا هذا الطلب، ولا صحته تلائمه ولا راحته فيه.
إنها الجذوة الإلهية التي أودعها الله الإنسان والتي يسميها الصوفية العشق، والله أعلم.
الثلاثاء 7 ذي الحجة/19 سبتمبر
الناس والتقليد
في الناس أئمة يفكرون ويجتهدون ويعملون بما يعقلون، ويدعون إليه وإن خالف ما يعرف الناس ويألفون، وبدا منكرا في العقول والأسماع والعيون، يخترعون ويبتكرون، لا يعبدهم الواقع، ولا يقيدهم العرف، ولا يحدهم زمان ولا مكان، وقليل هؤلاء. هم آحاد في الأجيال والأقطار، وأفراد تجود بهم في الندرة الأعصار.
وفي الناس ناقدون يختارون رأيا على رأي، وفعلا على فعل، لا يخترعون في أصول العقائد والمذاهب وقواعد العلوم والآداب، ولكن يستنبطون من أصول معروفة فروعا مجهولة. وهؤلاء على قلتهم كثيرون بالقياس إلى الأولين، وتلقاهم في كل عصر وفي كل إقليم.
هم كالذين يسميهم الفقهاء مجتهدي المذهب، يجتهدون في دائرة محدودة، ويجولون في أرض محجرة، كما يجتهد فقهاء الحنفية في مذهب أبي حنيفة وفقهاء الشافعية في مذهب الشافعي، وليس فيهم كالشافعي ولا كأبي حنيفة.
وعامة الناس وسوادهم ودهماؤهم وجمهورهم، يتبعون من يدعوهم، ويأتمون بمن يؤمهم ويسيرون وراء كل راية إلى كل غاية. هم أتباع كل ناعق، وقطعان كل سائق، وهم كانوا في كل عصر مطمع الساسة، وملاذ الدعاة. وهؤلاء الضعفاء الجهلاء عيال الله، ووديعته عند الأقوياء بعلمهم وعقلهم، والتبعة فيهم عظيمة، والمؤاخذة بهم شديدة. فمن أضلهم لينال بهم مأربه أو عرضهم للهلاك أو العنت ابتغاء مطامعه، فإثمه كبير، وعذابه أكبر.
الأربعاء 8 ذي الحجة/20 سبتمبر
صعوبة الرقي وبطؤه
يستطيع الإنسان أن يبدل زيه فورا، ويستطيع أن يغير داره وأثاث داره، وربما يرزق الغني فيغير ملبسه ومسكنه ومركبه وأصحابه.
ويسير أن تبني جماعة القصور والمساجد والمدارس، وتشق الطرق، وتستعمل سكك الحديد والسيارات والطائرات وآلات البرق والهاتف، وكل ما أخرجت الصناعة والعلم في هذا العصر، فيتبدل ظاهر المدن ومظاهر العمران.
يستطيع الوحدان أن يغيروا ظواهرهم فورا، وتستطيع الجماعات أن تغير مظاهرها سريعا. ولكن عسيرا بطيئا أن يغير الوحدان والجماعات أنفسها، وأن ترقى أو تتقدم في باطنها.
إن الترقي بطيء في الطبيعة. سل العلماء الطبيعيين وعلماء الحيوان عن آلاف السنين تمضي لتبدل الأرض طبقة بطبقة، أو يرتقي الحيوان من حال إلى حال! والترقي في نفس الإنسان الواحد ليس على هذه السنة، ولكنه صعب بطيء على كل حال. فربما يمضي الإنسان سنين وهو يحاول أن يكمل نفسه بخلق يكسبه أو أدب يتحلى به، أو عاطفة يهذبها. وربما تمضي الجماعات عشرات السنين، وهي تعالج داء من أدوائها، أو عيبا من عيوبها، لتخطو في سبيل الإصلاح خطوات، أو تسير إلى الكمال مراحل، ثم لا يتيسر لها ما تريد، وربما رجعت القهقرى واستشرى بها الداء وأعجزها الدواء.
إن للنفوس سرائر، وللجماعات أسرارا. وليس هينا أن تعرف السرائر والأسرار حق المعرفة، وليس هينا أن يكمل الفرد أو الجماعة وإن عرفت أسرارها وسرائرها. فليعرف هذا من لم يعرفه، ولينظر القوام على الأمم كيف يخطون للتقدم، ويصابرون حتى يظفروا به.
الخميس 9 ذي الحجة/21 سبتمبر
من استوى يوماه فهو مغبون
إن لم يكن هذا حديثا نبويا، فهو حديث إسلامي فيه دعوة الإسلام وتعليمه وأمله وطموحه، دعوة الإسلام إلى التعليم والتقدم والتكمل كل حين بكل وسيلة. ومن الأحاديث النبوية أو كلام المسلمين المأثور: لا بارك الله في يوم لا أزداد فيه علما.
إننا على هذه الأرض لنعمل ونسعى في عمرانها وإصلاحها، وفي إصلاح أنفسنا وتعليمها وتهذيبها، ودفعها كل يوم بالترغيب أو الترهيب خطوة أماما، أو شبرا أو إصبعا، فإن تعذر التقدم بالعمل والعلم، فينبغي ألا يحرم الإنسان الصالح تقدما في الفكر أو النية أو الأمل. إن جسم الإنسان في حركة دائمة وتغير مستمر، زيادة ونقصا وقوة وضعفا، فينبغي أن يساير نمو النفس والعقل نمو الجسد، وينبغي أن تتدارك قوتهما ضعفه ونموهما نقصه.
فمن طلعت عليه شمس يومه كما طلعت شمس أمسه لم يكسب لدنياه ولا آخرته، ولم يعمل لنفسه ولا لأمته، لم يستفد علما ولا فكرا، ولم يكسب خيرا في قول أو فعل أو نية؛ فقد غبن نفسه بما تقدم به العمر يوما ولم يتقدم، ومضى عليه الزمان حينا ولم يمض، وتحرك به الفلك ولم يتحرك.
من استوى يوماه فهو مغبون، فكيف بمن استوى شهراه، وكيف من استوت سنتاه، وكيف بمن استوى عيداه فهو اليوم كما كان في عيده الماضي لم يساير الزمن في هذه السنة؟
وراحمتاه للناس! كيف بمن لم يستو سنتاه ولا شهراه ولا يوماه، ولكنه تأخر ولم يتقدم، زاد شره على الأيام ونقص خيره، وازداد عقله وقوله وفعله فسادا على مر الزمان وكسادا، فهو اليوم شر مما كان عقلا وروحا وأملا ونية؟!
الجمعة 10 ذي الحجة/22 سبتمبر
أثر المحن في الأمم
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين .
المحن تؤلف بين الأمة القوية، وتفرق بين الأمة الضعيفة.
رأينا وسمعنا في المعاصرين، وقرأنا عن الغابرين، فإذا أمم تطيش عند الشدة، وتختلف حين المحنة؛ إذا كربتهم الخطوب، وأزمتهم الشدائد اختلفوا واتهم بعضهم بعضا، ولعن بعضهم بعضا، وتنافروا وتخاذلوا وتقطعت بينهم الأسباب، وصار ضعفهم في الحادثات قوة في تعاديهم وتفانيهم، وانقلب جبنهم عن العدو بأسا شديدا بينهم. تذكر ما أصاب الأمم المغلوبة في الحرب الأخيرة، وتعلم أن زلزلت إحداها فطاشت فثارت على قادتها وانتقمت من نفسها. وليس القارئ في حاجة إلى أن أذكر أمة باسمها، وأعرف أمة قتلت ملوكها أو خذلتهم حين نزل العدو بساحتها وغلبها على أمرها، وقع هذا في التاريخ القديم والوسط والحديث.
والأمم القوية تزيدها الشدائد تآلفا، والكوارث تماسكا، فيقوى تعاونها على قدر ما ينزل بها من المحن، وتلقى كل حادثة بكفايتها من الصبر والائتلاف والتعاون حتى تنجلي الغمرة وتزول الشدة وهي مجتمعة القلوب والألسن والأيدي، غالبة أو مغلوبة. إن غلبت اعترفت كل طائفة لأختها بغنائها وفضلها واستأنفت الأمة تاريخها مرزأة مجرحة ولكنها قوية الأنفس، عظيمة الآمال. وإن هزمت صبرت للمصيبة واتعظت بها، وعلمت أنها لم تؤت من تقصير أو تفريط، ولكن أدت واجبها ولم يواتها جدها، وقد غلب حاضرها ولن يغلب مستقبلها. اذكروا الحرب الأخيرة كذلك تجدوا برهان هذه الدعوى.
السبت 11 ذي الحجة/23 سبتمبر
المال واختلاف الهمم (1)
في الناس من لا همة له؛ إنما همه طعامه وشرابه والمال والمتاع، وكل أمر في سبيل هذه أمم، وكل خطب يسير. ليس لديه في وسائل هذه المطالب حلال وحرام ولا عزيز وذليل. (2)
وفي الناس من له همة ترفعه عن هذه المنزلة البهيمية، فيلتمس المال حلا، ويأبى الوسائل الدنيئة. ولكن المال والمتاع غاية قصده، ومنتهى جهده، يجد ليله ونهاره لجمع المال، ويؤرقه أن يفوته اليسير منها، ويكدر عليه عيشه أن تضطره الأحداث إلى الإنفاق مما جمع أو تغلبه على بعض ما ادخر. (3)
ومن الناس من يجمع المال حلا لا يسف لمطمع ولا يذل لمطلب، وينفق مما جمع غير مبال إلا أن ينال به المكارم، ويتمثل بقول القائل:
فهن إذا جمعتهن دراهم
وهن إذا فرقتهن مكارم
ولكنه يكد لجمع المال ويفرح به، ويجد في كسبه، ويستزيد منه، ويحدث نفسه بما جمع وما أعطى، وما نال وما أنفق، ونعم الرجل هو! (4)
ومن الناس من تسمو همته على المال، فلا يبالي إلا بما يقيم أوده ويسد خلته، ويستحي أن يعد في أصحاب الأموال، ويفر من أن يحسب من الأغنياء. همته فيما هو أعلى وأعظم من علم وتعليم، وصلاح وإصلاح. لا يحرم جمع المال وإنفاقه في الخير، ولكن في نفسه كبرا على الجمع والادخار، لا يتمنى المال الكثير ولو عرض عليه ما قبله، بل لو عرضت عليه الدنيا مالها وزينتها ومتاعها لأعرض عنها حاقرا، وصدف مستكبرا. هو في غنى من نفسه، وفي شغل بمطالبه العليا.
الأحد 12 ذي الحجة/24 سبتمبر
الكائن لا المكان والزمان
المكان والزمان لهما حكمهما في الكائن فيهما.
للمكان طبيعته من البرودة والحرارة والرطوبة واليبوسة، والسهولة والحزونة، والخصوبة والقحولة ... وغيرها. وله أحكامه الاجتماعية من العرف والعادات وما يتصل بها.
وللزمان كذلك صفاته الطبيعية تختلف اختلاف فصول السنة، وله أطواره وأحواله التي تسمى حكم الزمان، وطبيعة العصر.
كلا الكونين له حكمه وأثره، وحكم المكان أشد وأنفذ، بما كان أدخل في الطبيعة، وأشد اتصالا بها وأقل مطاوعة لفعل الإنسان، مما يسمى حكم الزمان. والناس يختلفون في الخضوع للزمان والمكان والاستسلام لأحكامهما، وهذا الاختلاف معيار العلوم والصناعات، والأخلاق والقوانين. فمن الناس مسيطر على مكانه، مسخر إياه بعزمه وجهاده، فترى بلدا هواؤه شديد، وماؤه بعيد، وأرضه كزة، يسلط الإنسان فيها عقله وعمله، فإذا هو جنة يطيب فيها المقام ويسعد بها القطان. ومن الناس من يقهرهم المكان فلا يزالون في بأسائه خانعين بين أرضه وسمائه.
والذين يغلبون الطبيعة فيردون البلد الماحل خصبا، والمقام الخبيث طيبا، كذلك يقهرون الزمان الطبيعي بل هم أقدر عليه، وأكثر احتيالا له.
وينبغ في الأمم القوية على مر العصور دعاة يقهرون عرف الزمان وحكم العصر، ويبدلونه كما يشاءون، وأحرار يستكبرون على قيود العصر ويستوي عندهم ما وقع وما لم يقع. إنما معيار الأمور لديهم ما ينبغي أن يكون وما ينبغي ألا يكون، أفكارهم وأعمالهم هي الزمان فكل واحد عصر نفسه، ومبدأ تاريخ أمته، ينشئ الجيل، ويبدع التاريخ.
فإنما الأمم بكائنيها، لا بحكم الزمان والمكان فيها، وإن تعلل العاجزون وكذب المتعللون.
الإثنين 13 ذي الحجة/25 سبتمبر
الحدس في الأدب
فكرت اليوم في ناشئة المتأدبين، ومدرسي الآداب عندنا، كيف يولعون بالنظريات، ويعجلون إلى النتائج والمقدمات. إذا قيل: إن شاعرا كان متشائما حزينا، تناولوا عصره فصبغوه بالسواد من الشر والسوء. وإذا قيل: إن شاعرا آخر كان مرحا فكها لاهيا ماجنا أسرعوا إلى العصر يصورون جوانب المرح واللهو فيه، ولعل الشاعرين قد نشأا في عصر واحد وبلدة واحدة!
وقد أولع بعض الباحثين بالفرض والتقدير والتخيل والحدس دون عناية بالأدب نفسه، فمنهم من يتكلم عن زهير ومدرسته، وأبي تمام وطريقته والمتنبي وشذوذه، وهو لم يستوعب شعر واحد منهم قراءة وفهما، بل لم يقرأ عدة قصائد، بل لم يفهم قصيدة واحدة حق الفهم. فكثرت النظريات واتسعت الخيالات بمعزل عن الحقائق، ومنأى من الشعراء والكتاب أنفسهم.
وعفا الله عن بعض أساتذة الأدب فقد أرخوا للطلاب العنان في هذه السبيل، وزينوا لهم الخرص والحدس والتأويل، حتى هاموا في كل واد، والأمر أعظم مما حسبوا، وأعوص مما توهموا. وليس يضيرنا أن نكثر دراسة الأدب، ونقل عن النظريات حتى نوفي على الغاية قراءة وفهما، ثم نقيس الأشباه والنظائر، ونجمع المؤتلف والمختلف، فيتضح لنا الرأي، وتستقيم بنا الطريقة.
كان أسلافنا يتقصون الأدب ولا يعنون بالتأريخ له والتعليل كثيرا، ونحن اليوم نولع بالتأريخ والتعليل ولا نعنى بالأدب. والطريقة المثلى أن نتوسع في درس الأدب ونعنى بتاريخه، وأن نقف على المقدمات متثبتين حتى نبلغ النتائج واثقين.
الثلاثاء 14 ذي الحجة/26 سبتمبر
البيان
الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان .
البيان موهبة الإنسان، هو إحدى آياته بل معجزاته. وإن البيان لخفي المسالك، لطيف المسارب، يحاوله عقل الإنسان فينال منه ثم يعجز عنه، والكلام فيه يسير عسير، وسهل صعب. ولا تتسع صفحتي لتناول البيان بالتفصيل ولو في إحدى جزئياته، ولكن خطرة خطرت، وفكرة عبرت، فقيدتها بهذه الأسطر:
كيف تنشأ المعاني في النفس فكرة أو شعورا أو وجدانا؟ وكيف تصور في حقيقة أو مجاز؟ وكيف تلبس الألفاظ، ثم كيف تركب الألفاظ في لغاتها وتتسق في عباراتها؟ وكيف تقدم وتؤخر، وتقلل أو تكثر؟ كل أولئك أمور خطيرة ومباحث عويصة؛ ولكني أراها صورة محكمة، ونغمة مؤتلفة بين سريانها في النفس إلى الإبانة عنها بالعبارات. فالمعنى الشعري مثلا وألفاظه المفردة، وعباراته وأبياته، كلها نظام واحد إن اختل جانب منه اختل كله، كالصوت ينبض به الوتر فتقطعه الصنعة وتؤلفه حتى يستوي لحنا مطربا. فإن كان المعنى تافها أو غامضا أو كان التصوير غير بين أو غير جميل، أو كان اللفظ حوشيا أو مبتذلا أو مبهما، أو كان التركيب منكرا في لغته مختلا في صناعته أو كان ركيكا أو سخيفا. إن كان شيء من هؤلاء اختل الوزن وشاهت الصورة، واضطربت النغمة، واعتل السياق. وجماع هذا كله أن تقول: اختل البيان.
وهذا سر ضياع المعنى السري بلفظ ناب أو حرف معتل، وأن شاعرا يخرج معنى في أروع صورة في لغة، ويخرج المعنى نفسه مضطربا في لغة أخرى لم يتمكن فيها تمكنه في الأولى.
الأربعاء 15 ذي الحجة/27 سبتمبر
عد الأمواج
كنت في مدينة مرسين صيف سنة 1937م وكان معي رفيق تركي من مهاجري البلقان، وقد قال هذا الرفيق في شجون من الحديث: يقال: إن رجلا رأى رجلا يعرفه قاعدا على شاطئ البحر فسأله: منذ كم أنت هنا؟ قال: من أول النهار. قال: ماذا تفعل؟ قال: أعد الموج. قال: كم عددت؟ فنظر إلى موجة آتية نحو الشاطئ وقال: هذه واحدة.
وكنا يوما في مجلس المجمع اللغوي نبحث في اللهجات العربية كيف تستقصى وكيف تدرس، وقد قدم إلى المجلس تقرير عن تتبع الكلمات ووضع مصورات وأطالس للهجات تبين مواطن الكلمة الواحدة، على اختلاف لهجاتها.
قلت: إن أمامنا أعمالا أجدى من هذا البحث وأوجب، وحدثت الأعضاء حديث الرجل الذي كان يعد الموج وقلت: ما أشبه تتبع هذه الكلمات بعد الأمواج، وربما يقال: إن لعد الموج فائدة؛ فلعل إحصاء الأمواج في ساعة أو يوم يعرف قصدا أو عفوا بقانون ينفع الناس. فإن قيل هذا فدرس اللهجات كعد الأمواج فائدته كفائدته، قليلة بعيدة لا ينبغي أن تصرفنا عما هو أنفع وألزم.
قال أحد الزملاء: إن عمل العلماء في كل حين هو عد الموج. وقلت: إن العلماء يعدون الموج حين يفرغون من كل عمل أنفع وأولى، فيكون عد الأمواج ابتغاء فائدة موهومة ضربا من النوافل يشغل به من فرغ من الفروض والواجبات، أو ضربا من اللهو يحاوله من يبغي إزجاء الوقت بما يلهيه، أو بالأحرى من يبغي قتل الوقت.
إذا فرغت الأمة من الفروض والواجبات فلها أن تشغل نفسها بالمندوبات أو تلهو، بما تشاء من المباحات. ولكن الذي نحذره أن تتنفل الأمة أو تلهو وعليها أعباء جسام وأعمال عظام لم توفها حقها من النظر والعمل.
الخميس 16 ذي الحجة/28 سبتمبر
الكليات لا الجزئيات
قال بعض الفلاسفة القدماء: إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات؛ لأنها متغيرة غير منتهية.
إنا لا نتعرض لعلم الله سبحانه، فهو أعلم بعلمه؛ ولكن أقول: إن البشر لا يستطيع أن يحيط علما بالجزئيات، ولا يجديه أن يحاول الإحاطة بها، فليكن قصدنا إلى الكليات نعرفها ونعرف كيف تنطبق على جزئياتها في العلم والأدب وسائر المعلومات.
المؤرخ - مثلا - يستطيع أن يقول: إن الأمور السياسية أو الاقتصادية مختلة في عصر أو في بلد ما، وكان من اختلالها أن وقع كذا وكذا، ويكتفي بذكر الأمثلة من الحوادث وليس يجديه أن يستقرئ كل الجزئيات التي أدى إليها هذا الاختلال.
وأذكر أنه كان لنا أستاذ في الجامعة المصرية الأولى تكلم يوما عن الوزارة أيام الخليفة المقتدر العباسي فعد زهاء خمس عشرة وزارة، وذكر كيف تولت كل واحدة الأمر وكيف تركته، فكتبت إليه في أدب ولم أذكر اسمي: حسبنا أن يبين اضطراب الأمور أيام هذا الخليفة وتكرر الوزارات، ونذكر بعضها تمثيلا.
ونرى في كتب الفقه الإسلامي المتأخرة جزئيات كثيرة تعني المتعلم ولا تفيده، وأجدى منها أن تذكر القاعدة التي ترجع إليها مسائل الباب ويترك للمتعلم التطبيق.
وينبغي أن يسلك في التعليم كله هذا المسلك؛ نعلم القاعدة ونعلم التفريع منها ونعد المتعلم أن يتصرف في مسائلها إلى غير نهاية.
كان سقراط يقول: إن عملي أن أولد الحقائق في النفوس لا أن ألقنها كما تفعل أمي - وكانت أمه قابلة - وتفسير قول سقراط فيما أرى أنه كان يوقظ العقول ويوجهها إلى النظر فتدرك المسائل واحدة بعد أخرى دون أن يلقنها مسألة إلخ.
الجمعة 17 ذي الحجة/29 سبتمبر
راية للخير أو للشر
كثيرا ما سمعت ناسا يرمون الأمة بالفساد، ويدعون أن الشر عليها غالب، والصلاح منها بعيد، ويقولون: انظر إلى فلان وفلان وكل ذي شأن في هذا الحين، فهل تعدهم من الأخيار أو الأشرار؟ لقد غلب الداء وعز الدواء.
وكان جوابي: لا يخدعنكم الفساد الظاهر والشر المستشري، ولا يهولنكم ذكر فلان وفلان من المفسدين، ففي الأمة أخيار أكثر ممن تعدون من الأشرار، ولكنها راية رفعت للشر فأوى إليها أشرارها، وهرع نحوها أنصارها، ونفر منها الأخيار فلم ينحازوا إليها، ولم تسمع أصواتهم حولها، ولو رفعت للخير راية لانحاز إليها الأخيار وحفوا بها وسكنت أمة الأشرار وقل جمعهم وخفت ذكرهم.
إن في الأمم خيرا وشرا، وفسادا وصلاحا، ومصلحين ومفسدين، فإن رفعت راية للخير انضوى إليها الأخيار في كل طائفة، وغلب بها الخير في الأنفس التي يغلب شرها خيرها ونبت خير في نفوس لا خير فيها. فإن الإنسان لا يخلو، وإن عظم شره واستشرى داؤه، من نزعة للحق كامنة، وعاطفة للخير مستسرة. وكذلك إذا رفعت راية للشر ظهر الأشرار في الجماعة، وقوي الشر في الأنفس، ونبت في القلوب. فاجتهدوا أن تكون للأمة أسوة في الخير لا في الشر، واعملوا على أن ترفع للصلاح راية لا للفساد، وأيقظوا دواعي الحق في النفوس لا أهواء الباطل، وظنوا بالأمة خيرا، وإن أظلمت أرجاؤها وأعضل داؤها. أنزلوا راية الشر وارفعوا راية الخير تجدوا تصديق ما أقول.
السبت 18 ذي الحجة/30 سبتمبر
الوصف والبيان
الوصف صعب في البيان، عسير على الألسن والأقلام، لا يبرز فيه إلا من استولى على الأمد من الشعراء والكتاب. ذلكم بأن الخيال فيه والعاطفة في قيد من حقائق الموصوف ودقائقه، وحكم من الصور الحسية والمسافات؛ لهذا لقي الناس بالإكبار والإعجاب القصائد التي تجلي حقائق الموصوف وصوره ولا تخل بالبيان واضحا، والبلاغة رائعة، كقصيدة البحتري في إيوان كسرى، والأرجاني في وصف شبديز.
وينبغي للواصف أن يبدأ بالصور المحسة فيصورها في بيانه، ويجليها ببراعته ، دون أن تأسره الحقائق الماثلة ، والصور الظاهرة، فتخرجه عن الأدب نثره أو نظمه، وتجعله كمهندس يذرع أرضا، أو يصف بناء.
فإذا فرغ الواصف من تصوير ما تراه العين وتلمسه اليد بعد أن يمسه بعاطفته وخياله، ساغ له أن يخلص من قيد الحس وضيق الرؤية واللمس إلى ما تنشئه هذه المحسوسات من معان في النفس؛ انقباض أو انبساط، وسرور أو حزن، وأمل أو يأس، ومن اتعاظ بمرور الزمان، وتقلب الحدثان، وسير البشر بين النعمى والبؤسى، والسعادة والشقاء.
على الواصف أن يصور للسامع أو القارئ ما يصفه كأنه يراه، ثم يبين له ما استتر وراء الصور المرئية، والألوان الماثلة من معان لا يدركها كل راء، ولا ينفذ إليها إلا من أوتي حظا من الكتاب والشعراء. يعرفه ما يشترك فيه بصر وبصر، ثم يرقى به إلى ما لا يدركه إلا قليل من الأفكار والقلوب.
الأحد 19 ذي الحجة/1 أكتوبر
كتب مفتقدة
بين الكتب وبعض أصحابها صلة الملك، وبينها وبين أصحاب آخرين صحبة، ولها أصحاب غير هؤلاء هم أصدقاؤها وخلانها وخلطاؤها وإخوانها وجلساؤها وندماؤها.
أعرف كتبي، موضوعاتها ومنازلها من هذه الموضوعات، وأعرف تاريخها منذ صحبتها، وأعرف أشكالها وألوانها وشياتها وحلياتها، وأعرف مواطنها من خزانتها. فإذا التمست واحدا منها، ذهبت إليه في مكانه ومددت يدي إليه غير مرتاب فيه. ويخيل إلي حين أدخل إلى الكتب أنها تنظر إلي وتهش لي وتكاد تكلمني، فأهم أحيانا بأن أحييها وأسألها ما حالها.
وأحيانا أذكر صديقا من هؤلاء الأصدقاء البررة الأوفياء الأسخياء فلا أجده مكانه، فأسأل عنه أشباهه وجيرانه فلا أجده، فألتمسه في مظانه فلا ألقاه. ماذا أصاب الكتاب؟ عهدي به هنا في صفه بين جماعته، فليت شعري ما خطبه؟ ليت شعري كيف عقني وخالف أمري؟
طفيلي متلصص أخذه، مترخصا في أخذ الكتب بغير إذن ولا يعد نفسه سارقا، أو مستعير أعرته إياه كارها، والذنب علي، ونسيه أو استهان به، أو رجا أن أنسى أنا وتحقق رجاؤه. ليت شعري ضلة أين هذا الصديق؟ ينبغي أن يحتاط الإنسان لكتبه فيحفظها غائبا ولا يعيرها حاضرا إلا لصديق كلف بالتزود من العلم، يقدر الكتب قدرها، ويشفق عليها إشفاق صاحبها. فهذا لا يضيع عنده الكتاب ولا يغترب ولا يعطل ولا يذال، ومثل هذا الصديق في عصرنا قليل.
الإثنين 20 ذي الحجة/2 أكتوبر
القراءة بالخيال
قلت يوما للصديق الشاعر محمد عاكف رحمه الله، ونحن في قطار حلوان: إن ناسا يقرءون الصحف بصوت عال كأنهم لا يستطيعون أن يقرءوا دون الجهر. قال: بل بعض الناس يفكر بصوت مرتفع، يعني يتحدث بما يفكر فيه حديثا مسموعا. فضحكت وقلت: إن الإنكليز يقولون: فكر فيه جهرا
think it aloud . وفكرت فيما بين الفكر والكلام من صلة وقول بعض الفلاسفة: إن الإنسان لا يستطيع التفكير بغير لغة، يعني أن الإنسان حين يفكر تمر بفكره الألفاظ الدالة على المعاني التي يفكر فيها. وتلكم مسألة عويصة لا أعرض لها هنا؛ ولكن أعرض ما جربته في نفسي، أني أتلو آيات من القرآن وأنشد أبياتا من الشعر سرا فأتخيل الصوت وأتتبع مخارج حروفه، يكاد ينبض به اللسان وأعضاء النطق، ولكنها لا تنبض. وأساير الألفاظ في مدها وغنتها كالذي يقرأ جهرا. وألبث في هذه المسايرة الزمن الذي ألبثه لو تلوت هذه الآيات أو أنشدت هذه الأبيات أو سمعتها من تال أو منشد.
فهذه درجة بين الفكر الذي تصحبه ألفاظه، وبين الإبانة عن الكلام بالصوت، يسوغ لنا أن نسميها تخيل الكلام، فهل قصد إلى هذا من قال:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
أو عنى الدرجة الأولى من درجات الكلام وهي التفكير؟
خطرات عنت فأثبتها، ليزيد فيها من يشاء ممن يعنون بمباحث اللغة أو علم النفس.
الثلاثاء 21 ذي الحجة/3 أكتوبر
الجرائد والكتب وأصحابها
تبعة الكاتبين للناس عظيمة، أجرهم إن أحسنوا القيادة وفير، وإثمهم إن حادوا عن الجادة كبير. وكلما علا الكاتب مقاما، وذاع صيتا زادت تبعته، وعظم ثوابه أو كبرت جريرته.
وفي عصرنا مؤلفون يخرجون للناس كتبا، وكتابا تنتشر مقالاتهم في الصحف السيارة، ولما يكتبون أثر في القراء بليغ، وتوجيه للناس إلى الخير أو الشر خطير .
وللكتب ناشرون يطلبون المال من نشرها، وللصحف أصحاب يبتغون المال والجاه بما يكتب فيها. فإذا اجتمع المؤلفون والناشرون، واتفق الكتاب والصحفيون على قدر التبعة التي ألزموها وإعظام الأمانة التي حملوها، فقصدوا الحق والإصلاح والتعليم، وجعلوا هذه أول المقاصد، ثم قصدوا المال من ورائها ليعيشوا به ويفرغوا لها، صلحوا وأصلحوا، وبارك الله قولهم وعملهم في الأمم. ولكن من المؤلفين والناشرين والكتاب والصحفيين من يجعلون من المال والصيت همهم الأول، فيقصدون قصدهما، ويتوسلون بكل الوسائل إليها، فيرون كثرة المال بكثرة القراء، وكثرة القراء على قدر ما تلذهم القراءة، وتستهويهم المطالعة، فترى العلماء والأدباء، أو من يحملون هذه الأسماء، يسايرون الجمهور وينزلون إليه ويتملقونه لتدر لهم الأموال وتذيع السمعة، فينقلب المتبوع تابعا والإمام مأموما، والقدوة مقتديا. وترى القراء يوجهون الكاتب، ويسيرونه على الطريقة التي هي أقرب إلى متعتهم، وأدنى إلى هواهم، وإن أصاب العقول والأخلاق الفساد، وهام القراء في كل واد. انظر تجد صدق الدعوى واستقامة الحجة.
فليتق الله قوم أوتوا نصيبا من المعرفة والبلاغة، لا يسخروهما للمال ويتبعوا بهما الجهال على كل حال.
الأربعاء 22 ذي الحجة/4 أكتوبر
المسدس وصدر غاندي
قرأنا وسمعنا عن الخير والشر في هذا العالم، والرحمة والقسوة على هذه الأرض، وعرفنا مما قال الفلاسفة في تغالب الخير والشر، وما علمه دين زردشت من تداولهما الظفر في آلاف السنين، وما وصف به الشعراء الناس من غلبة الشر عليهم، وسيطرة الباطل فيهم، وأنهم يلقون الخير بالشر، والنعمة بالكفور، والإحسان بالإساءة، والمودة بالعداوة.
وسمعنا وقرأنا من أحاديث المتفائلين والمتشائمين بين الناس، ومن أمثال الإساءة والإحسان في الجماعات، فما سمعنا ولا قرأنا أبلغ في الشر وأدل على القسوة، وأنطق بالكفران وأدخل في اللؤم، وأقتل للمروءة، وأفتك بالإنسانية، وأزرى بخلق الإنسان، وأنهض بحجة المتشائمين اليائسين، من مسدس يصوب إلى صدر غاندي فيفرغ فيه رصاصات قاتلات.
رأيت هذا الصدر العاري والأضلاع البارزة، والنفس الضعيف المتردد فيها، صدر الرجل الذي تجرد من الدنيا حتى ما يستره من لباسها، ودعا إلى السلام ونبذ العنف وقال: لا تقابل قسوة بقسوة، ولا شدة بشدة .
لقيت غاندي فسألته: هل استنبطت دواء لبؤس الناس في طول مخالطتك البائسين؟ قال: ما استنبطته ولكن أعدت استنباطه، وهو: «الحق وترك العنف»، وما كان أحد يحسب أن في البشر من يتقدم إلى هذا الرجل الهرم الداعي إلى السلم والمرحمة ليسفه رأيه أو يشتمه أو ينهره عن دعوته أو يضربه بيده، بله أن يصوب مسدسا فاتكا إلى الأضلاع الهزيلة في صدر داعية الرحمة والسلام. وما كان ذنب غاندي في رأي القاتل؟ ذنبه الذي سوغ تصويب المسدس إلى صدره أنه دعا إلى محاسنة المسلمين في الهند ومسالمتهم ورد مساجدهم إليهم، أنه خالف المخربين المدمرين القتلة السفاحين فدعاهم إلى الكف عن الشر، وإيثار العدل والمرحمة.
الخميس 23 ذي الحجة/5 أكتوبر
بالدقائق يمتاز الناس
في معاش الناس أشياء يدركونها جميعا، ويرتفقون بها. الضروريات والحاجيات لا يختلف فيها القادرون عليها، ولكن يمتاز بعضهم من بعض في طرائق استعمالها، ويمتازون في دقائق فيها. يستوي كثير من الناس في إطعام الضيفان، وفي ألوان الطعام، ويستوون في السفرة أو الخوان والصحون، ويختلفون في دقائق من الأدوات وأشكالها وترتيبها، وفي الماء وآنيته، وفي طريقة وضع المآكل ورفعها، وفي أدوات القهوة ونحوها. ويستوي كثير من الناس في الحلل التي يلبسونها ويختلفون في الألوان والتفصيل، وتسكن فئة من الناس دورا متشابهة ويتمايزون في ألوان الطلاء وفي حلى النوافذ والأبواب ونظافة الزجاج وفي دقائق الفرش واللطف.
6
للناس مكاتب وكتب وأوراق وأقلام، ولكن ليسوا سواء في وضع الكتب مواضعها وترتيب الأوراق وأدوات الكتابة. منهم من ترى على مكتبه أكداسا من الورق والكتب والدوي والأقلام، ومنهم من يصنف أوراقه، وينظم أدواته حتى تود أن تنظر إليها وتحب أن تجلس إليها لترتفق بها.
وهكذا لباس النساء وزينتهن؛ أعظم ما يفرق بين النساء فيها ألوانها وأشكالها ودقائقها، وقل في أمور أخرى يطرد القياس، وتستقم الدعوى.
وفي هذه الدقائق مقاييس للحضارة، وموازين للعلم والخلق والأدب، والصنعة في الأمم المختلفة، ومقاييس للعقول والآداب والأذواق في الأمة الواحدة، إنها وليدة دقة الإدراك والإتقان والكمال أو طلب الكمال، وفي هذه يتفاوت الناس، ويختلف فيهم القياس.
الجمعة 24 ذي الحجة/6 أكتوبر
موت عالم عامل
موت العالم العامل موت فكر فسيح، ورأي مدبر، وخفوت صوت مرشد ولسان مبين، وفقد يد عاملة، وزوال قدوة حسنة، وتعطيل كتب وأدوات، وإقفار مجمع درس وندوة علم، ووحشة أصحاب وتلاميذ، وفراغ واسع في أمور كثيرة يراه القريب إليه، وإن شغل البعيد عنه ضوضاء العيش، ودوي الباطل في هذه الحياة.
كل واحد يعرف هذا أو أكثر منه حين يذكر موت عالم عامل قد عرفه عن كثب، وما منا إلا من ابتلي بفقد أستاذ أو صاحب أو مؤلف أو كاتب اتصل به عقله وقلبه حينا، فشعر بما يحدثه فقد الرجل الكبير المجاهد في العلم والعمل.
أوحى إلي هذه الكلمة نعي الدكتور محمد خليل عبد الخالق، وما كان عملي متصلا بعمله ولا قريبا منه، ولكن رأيته في مؤتمرات ومجامع، وسمعت بآثاره في الطب والطفيليات، ولقيته أحيانا فما وجدته إلا مهتما بأمر من العلم والعمل، محدثا عن أمله وعمله، شاكيا كثرة الصعاب، وقلة الوسائل. وكان آخر لقاء في مدينة الإسكندرية منذ شهر أو أقل فحدثني عن الحج، واتقاء الهيضة وغيرها من الأوبئة في مجامع الحجيج، وعن رأيه في هذا، وناولني ما كتبه في هذا الشأن آملا أن أحدث فيه حكومة باكستان، وعلم أني ذاهب إلى باكستان عما قليل سفيرا لبلادنا. وكان رحمه الله إذا تحدث في أمر منحه عقله وهمته، ولم يبال بالتعب ولم يمل؛ إخلاصا لعمله ووفاء لحق العلم وحق أمته عليه، رحمه الله وجزاه أحسن ما عمل.
السبت 25 ذي الحجة/7 أكتوبر
الكلية في الإنسان
يضيق فكر الإنسان وهمته فإذا همته نفسه، وإذا همه من هذه النفس أضيق معانيها الطعام والشراب والمتاع. ويتسع فكره وهمته قليلا فإذا همه نفسه في منازعها العالية، ثم قرابته وأصحابه وإخوانه وجيرانه. ثم يتسع قليلا فيعم أهل محلته أو قريته، وهكذا حتى يضيق بالحدود والقيود فيكون همه خير الناس جميعا، وبغيته الحق حيثما كان، والعمل الطيب أيا كان فاعله وزمانه ومكانه.
هكذا تضيق الإنسانية فإذا هي الحيوانية ، وتتسع فإذا هي قوانين الله بين عباده لا يحدها زمان ولا مكان.
قرأت في كتاب «تذكرة الأولياء» لفريد الدين العطار أن أحد الصوفية قال: أحسب أني مأخوذ بذنوب الأولين والآخرين. وقال المؤلف في هذا: إنه دليل الكلية؛ يعني أنه دليل على أن الإنسان يتسع وجدانه، وتخلص روحه من الحدود، فإذا هو يمثل الإنسانية كلها، وإذا هو مأخوذ بما يقع فيها من سوء، مجزي بما يكسب فيها الناس من خير، كأن عليه أن يصلح الناس جميعا، بل كأنه الناس، فهو ليس لنفسه ولا لخاصته ولا لعشيرته ولا لأمته؛ ولكن للبشر. هو عامل لخيرهم، مكلف نفسه أن تسعى لما ينفع الناس جميعا وتجتنب ما يضر بأحد من الخلق. وعلى قدر سعة النفس وبعد الهمة تكون عظمة الإنسان وكفايته في هذه الحياة، فهو مرشد نفر قليل أو جماعة كثيرة، أو مصلح بلد، أو مربي أمة، أو إمام البشر أجمعين.
واعتبر هذا بماضي الناس حاضرهم، وقس عليه الكبراء في كل عصر وكل جيل، وكل شعب وقبيل، تتبين اطراد القياس، وصحة هذه الدعوى في الناس.
الأحد 26 ذي الحجة/8 أكتوبر
الشاي
يشرب الغربيون الشاي منذ عهد بعيد، يشربونه صباحا حين الإفطار، ويشربونه في العشي مع قليل من الطعام، ويشربه بعضهم بعد الغداء والعشاء. وقد انتفعوا به واقتصدو فيه حتى قيل: إن بعض كبار الإنكليز قال: إن الشاي له أثر في عظمة الإمبراطورية البريطانية. وعرف المصريون الشاي منذ زمن غير طويل، وكنا في حداثتنا نراه في القرى نادرا، وما سمعنا أحدا يدعو إلى شرب الشاي كما يدعى إلى شرب القهوة.
وكرت الأيام فإذا الشاي آفة عامة، وطامة شاملة، يشربه الصغير والكبير. ولا يشرب في مصر وبلاد عربية أخرى كما يشرب في الغرب في أوقات معلومة، بل يشرب كل حين، كلما جمع الناس مجلس في أية ساعة من النهار والليل. ويشربه الزارع في مزرعته يأخذ أدواته معه ولا يصبر ريثما يعود إلى داره.
ثم يشربونه رديئا أسود مرا شديد الأثر في الجسم، ولا يشربونه على طعام دسم مشبع بل على غذاء قليل، بل على جوع، ويستبدلونه بالغذاء إن عجزوا عن أداء ثمن الطعام والشاي معا. فصار الشاي آفة للفقير تعرفها في جسمه وماله وعمله، آفة جديرة باهتمام أولي الرأي في بلادنا والبلاد التي تشبهها، ليقوا الناس شره. وقد سمعت في الشاي قصصا كثيرة تجمع على سيطرته على النفوس وإفساده في الأجسام والأموال والأخلاق.
أكتب هذه الكلمة وقد ذهبت إلى إقليم الفيوم فمررت بعزبتين فقدم إلي الشاي، فسألت عن القهوة فلم يجد أحد عنده ولا عند جيرانه شيئا من البن؛ لأن الشاي غلبهم على ما عداه واستأثر بكل ما يستطيعون توفيره من مال.
الإثنين 27 ذي الحجة/9 أكتوبر
الأوزان
الوزن نظام سار في الكون كله، حسياته ومعنوياته، وأقصر الكلام على الأوزان الحسية في الشعر والغناء والموسيقى والرقص. فالكلام في الشعر وفي الغناء، والصوت في الموسيقى، والحركة في الرقص، تقطع بالحركات والسكنات أقساما متساوية متناسبة، أقساما موزونة. فإن اختل هذا التناسب اختل النظم في الشعر، واختلفت النغمة في الغناء والموسيقى، واختلت الحركة في الرقص.
هذا التتابع المتناسب في هذه الفنون جنس واحد تختلف أنواعه وضروبه، فالسامع يدرك التأليف في النظم وفي الشعر وفي نغمات الغناء والموسيقى، ويشعر في الخلل أن نظاما انفرط وتناسبا زال، وشذوذا اعترض السياق. يدرك هذا من طريق الأذن، وكذلك يدرك بالبصر انتظام الحركات في الرقص وكل حركة متناسبة بيد أو عصا، كما يدرك اضطرابها حين يختل هذا الانتظام.
ويتبين التجانس بين الأوزان في هذه الفنون بالجمع بينها بأن يغنى بالشعر ثم تزاد عليه الموسيقى ثم يساوق هذه الثلاثة حركات الرقص، فإن اختل واحد منها اختلت الأخرى إن سايرته في خلله، أو تخالفت وتنافرت إن لم تساير هذا الخلل.
ويمكن أن يزاد إلى هؤلاء الوزن في غير صوت ولا حركة، الوزن الذي يدرك في الصور الجميلة وكذلك الخلل الذي يكون في الصور القبيحة.
هذه الأوزان فيما أرى ترجع إلى تقسيم الزمان والمكان تقسيما ملائما، وتدرك بالفطرة لا العقل، والشعور لا الفكر، وهي مظاهر من النظم أو الوزن الذي قامت عليه هذه الخليقة في هذه السموات والأرض.
الثلاثاء 28 ذي الحجة/10 أكتوبر
الله والناس
الناس في ذكر الله مختلفون، منهم الغافلون الذين لا يذكرونه ليلا ولا نهارا، ولا يتقونه في صغيرة ولا كبيرة. وأولئك يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وهم المحجوبون.
وآخرون بين الذكر والغفلة، تضلهم أهواؤهم وتزين لهم منكراتهم ثم يذكرون فيندمون وينزعون إلى الخير ويستغفرون. وأولئك أكثر الناس، وكثير من هؤلاء يذكر فيفيق فيندم فما يزال بنفسه حتى يعد في الصالحين.
وجماعة في ذكر دائم، وتقى مستمر، ولكن تدرك أحدهم غفلة فيهفو، وتأخذه سنة فيغفو ثم يعود على نفسه باللوم، وعلى خطيئته بالندم والتوبة، فتكون الزلة وسيلة إلى علاج نفسه، وتقدمها في سبيل الخير. وأولئك هم التوابون، وإنهم لفي الدرجات العالية.
وآخرون مصطفون، هم في ذكر لا يفتر، ويقظة لا تدركها سنة، وهم في رقي دائم، وعروج مستمر، سائرون كل لمحة، عاملون للخير كل ساعة، قد خلصت سرائرهم لله، وفنيت إرادتهم فيه، فهم فيه يفكرون، وبه يريدون، وله يعملون. وهم في هذه الدنيا كالنجوم والشمس والقمر يسيرون بقوانين الله على سنة الله، لا يتخلفون ولا يحيدون. وأولئك هداة الله في خلقه، وأمناؤه في عباده، ورسله إلى الناس.
هؤلاء هم النبيون والصديقون والمقربون، وقليل ما هم.
الأربعاء 29 ذي الحجة/11 أكتوبر
مرتب الموظف ثمنه
هذا فلان في الدرجة الرابعة مرتبه في الشهر كذا، وهذا في الدرجة الثانية مرتبه كذا، وعلاوته كل سنتين كذا.
قد خطب فلان إلى فلان ابنته وهذا الخاطب في الدرجة الخامسة مرتبه كذا، وينتظر أن يرقى إلى الرابعة قريبا.
كيف يتطاول فلان على فلان وهو في الدرجة السادسة، وفلان هذا في الدرجة الرابعة؟ هم درجات عند الناس على قدر درجات الوظائف وعلى قدر مرتب كل درجة.
إن كان قدر الإنسان على قدر درجته، والدرجة مالية لها مبدأ ونهاية، فقد قدر الإنسان بمقدار ما يوظف له من المال، فماذا يفرق بين هذا وبين الثمن في تقويم المتاع والأنعام؟ فلان درجته في المال كذا فهو أكبر من فلان، وهذ الحصان ثمنه كذا فهو أغلى من ذاك الحصان، ولا أود أن أتجاوز الحصان إلى غيره.
قيل قديما: قيمة كل امرئ ما يحسنه، واليوم قيمة كل امرئ ما يقبضه.
إن المال غاد ورائح ومكسوب ومبذول، ورب تاجر أو صانع يربح في شهر مالا يناله موظف في سنة بل سنوات. وليس مال الوظيفة إلا بلاغا يفرغ الإنسان به للعمل، وقيمته عمله، قيمته الإحسان في عمله، وتأدية الواجب على خير الوجوه.
إن الإنسان أعظم من أن يقوم بالمال، وإنما يقوم الناس بالأعمال.
الخميس 30 ذي الحجة/12 أكتوبر
مكتب مهيأ
لي مكتب في خزانة كتبي أحرص على أن تنظم الأوراق عليه وترتب، ويضيق صدري إن تكدست عليه أوراق أو كتب أو وضعت على غير نظام، ولا أنتفع به حتى يكون كما أشاء. وأعود إلى داري خلال أسفاري المتوالية، فأقول: إن الوقت لا يتسع للعمل على المكتب، ولا أفرغ لتهيئته، وأخدع نفسي بأن إقامتي قصيرة وقد جئت من سفر ناويا سفرا آخر، فما الحاجة إلى المكتب، وما جدوى إعداده؟
وتعرض الأعمال، وقلما يخلو مثلي من كتابة وقراءة - كذلك نشأنا، وكذلك أمضينا ما مضى من العمر - فأقعد في موضع آخر فأكتب أو أقرأ. ولكني لا أتذكر الكتابة كثيرا، فإن تذكرتها لم أنشط لها نشاطي المعهود، وإن نشطت لم أستطع المضي فيها طويلا.
وبدا لي أمس أن أهيئ المكتب وأرتب عليه الأوراق التي أعمل فيها ففعلت، فأصبحت اليوم مشروح الصدر للعمل، مشوقا إلى المكتب، أسرع إليه لأكتب ما عن لي، أو للتفكير فيما عسى أن أكتب.
قلت لنفسي: قد اختلفت حالك واختلف عملك بإهمال المكتب وتهيئته، ورب أمر كبير جلي من أمر صغير خفي، وربما أنجح منجح وأخفق مخفق بمثل هذه الأمور التي نحقرها. إنها مداخل الخلل في الأعمال، والزلل في الأفكار. رب شاعر أو كاتب أو عالم أعانه على قصده حتى نبغ، دار هادئة وغرفة يسكن إليها وبيئة يستريح فيها. ورب نابغ ركد نبوغه في نفسه، مما فقد الدار المريحة والمجلس الخالي ، والحجرة المرغبة في العمل. دع البيئات الكبرى التي ينشأ فيها الناس من بلده وجماعته ومدرسته وحكومته، فالأمر في هؤلاء جد جلي.
الجمعة 1 محرم/13 أكتوبر
خاتم ذهبي في أصبع محتضر
قرأت في إحدى الصحف أن رجلا أو شيطانا ذهب يعود امرأته أو قريبة له مريضة فوجدها في الاحتضار وفي يدها خاتم ذهب، فنزعه وأخذه.
الموت المحتم، والفناء المجسم في هذه المرأة على فراش الموت، وسخرية الأصبع المائتة من حلي الدنيا وزينتها، والحجة القائمة على ذئاب البشر بهذا المنظر، كل أولئك لم يوقظ الإنسانية في هذا الرجل المستكلب، ولم ينبه الكرم في هذه النفس اللئيمة.
ثم الحزن على هذه المحتضرة، ووداع هذه الذاهبة، وذكرى الصلات التي تنقطع، والسيرة التي تنتهي، والمودة التي تبلى، والفراق الذي لا لقاء بعده، كل أولئك لم يشغل هذا الشره عن قطعة من الذهب في أصبع تموت.
وجلال الموت ورهبته، وضيق النفس وحشرجته، وبقايا النظر في هذه المائتة التي لا تطيق كلاما ولا خصاما، كل هؤلاء لم يشغل هذا الوحش عن اغتصاب خاتم من الذهب من يد الموت لينعم به في الدنيا التي تخليها له امرأته أو قريبته.
ينبش اللصوص القبور فيأخذون ما على الأموات من أكفان، وساء ذلك فعلا وشنع! ولكن فعل هذا الرجل أسوأ وأشنع وأوغل في دناءة النفس ولؤمها، وأدل على موت القلب وجمود الشعور.
إن ذرة من المروءة والشهامة ترد الإنسان عن هذا الخزي وتصده عن هذا الجشع الدنيء، ولكن زالت الشهامة والمروءة كثيرهما وقليلهما في كثير من الناس.
السبت 2 محرم/14 أكتوبر
الأسفار أمس واليوم
أعد عدتي للسفر إلى باكستان، وأنتظر باخرة تحملني وأثقالي، وأجم فيها أياما قبل بلوغي كراچي حيث أتولى السفارة المصرية.
وتحدثت بالسفر على باخرة فسئلت مرات: لم لا تسافر على طائرة؟ وسئلت: كم يوما تمضيها بين الإسكندرية وكراچي؟ فقلت: زهاء عشرة أيام، فتعجب السائل مستكثرا قائلا: عشرة أيام! قلت: أجل؛ عشرة أيام، والبحر رهو في هذا الفصل، والسفر فيه ممتع وناهيك بالسفن في عصرنا راحة ومتاعا ورفاهية. إن من أماني رجل مثلي أن يخلو بنفسه عشرة أيام في سفر كهذا.
وفكرت في السفر في العصور الغابرة، كيف كان ركوب السفينة في بحر القلزم وبحر العرب إلى الهند، كم يمضي المسافر في هذه السفرة وكم يلقى من الريح والموج، وكم ينصب ويعنت في طعامه ونومه وجلوسه، وكم تلقى السفينة من الريح المخالفة فترسي حتى تواتيها ريح تسيرها؟! شتان بين سفرنا وسفر أسلافنا في البحر، وإن ذكرنا سفر البر فقسنا الإبل بالقطار والسيارة فأي مجال للفكر وأي عجب للمفكر في هذا القياس! إن الطائرة تطير من القاهرة إلى البصرة في ثلاث ساعات ونصف، ومن البصرة إلى كراچي أربع ونصف، فقد زويت للإنسان أرجاء الأرض وأمن الضلال والعناء ووفر له وقته، وصار السفر متاعا بعد أن كان قطعة من العذاب. ولكن كم فات الإنسان من رياضة النفس والجسم والتجاريب والمعرفة بهذا السفر القصير المرفه!
الأحد 3 محرم/15 أكتوبر
خطب الرسول
فرضت صلاة الجمعة في السنة الثانية من الهجرة، وكان الرسول صلوات الله عليه وسلامه، يخطب في كل جمعة خطبتين بينهما جلسة قصيرة، إلا في الأسفار.
وقد عاش الرسول إلى السنة الحادية عشرة، فقد خطب للجمعة أكثر من ثماني حجج، وفي كل سنة خمسون أسبوعا، وأحسب أسفاره في هذه الحقبة لا تبلغ سنة، فخطبه في الجمعة لا تقل عن ثلاثمائة وخمسين خطبة، قالها على مشهد من المسلمين وهم حريصون على الاستماع إليه، كلفون بحفظ قوله والتحدث به، فأين خطب رسول الله؟
إن المروي منها على أنه خطب، قليل يروى في كتب الحديث والسيرة والتاريخ والأدب. ولا نشك في أن كثيرا مما قيل في هذه الخطب روي أحاديث قصيرة متفرقة؛ إذ كان القوم لا يكتبون الخطب فيفوتهم حفظها كاملة فيعون منها جملا. ولا نشك أيضا أن كثيرا منها نسيه السامعون وفات رواة الحديث.
هذا موضوع قيم طريف، يجدر أن يتناوله الباحثون في سيرة خاتم النبيين فيستقصوا ما أثر من خطبه ويحصوه ثم ينظروا كم مقداره وما قياسه إلى الخطب كلها كاملة كما يقدرها الباحث. ثم يتخذ هذا معيارا في الحديث كله ؛ الخطب وغير الخطب، ليعلم ماذا ضبط من أقوال الرسول بالقياس إلى ما لم يضبط.
ولعل لهذا البحث نتائج أكثر خطرا مما أقدر وأنا أكتب هذه السطور.
الإثنين 4 محرم/16 أكتوبر
عجائب الاتفاق
أردت اليوم الذهاب إلى سفارة باكستان في القاهرة ونسيت أنها نقلت من الزمالك إلى الدقي، ذهبت إلى مكانها الأول فصعدت فرأيت على غير المعتاد أبوابا مغلقة فصعدت طبقة أخرى فكذلك لم أجد بابا مفتوحا، وسمعت صوتا بالإنكليزية في الطبقة الأرضية خارجا من المصعد، فقلت: لعل واحدا من السفارة هناك، ثم نزلت لأسأل البواب: أين سفارة باكستان؟ فإذا عند المصعد القائم بأعمال السفارة الطيب حسين، وهو الذي سمعت صوته، قال: لم جئت هنا؟ قلت: لألقاك. قال: من أعلمك أني هنا؟ قلت: جئت لألقاك في السفارة. قال: السفارة انتقلت منذ مدة طويلة وإنما جئت هنا لشأن لي! فعجبنا كيف التقينا على غير موعد التقاء صوب غلطي في قصد هذا المكان، وقلت: إنها من عجائب الاتفاق.
وذهبت معه إلى دار السفارة في الدقي، فلما خرجت من عنده وجدت أخا لي وابن أخ في السيارة التي تنتظرني، قلت: كيف عرفتما أني هنا وكيف جئتما؟ قالا: جئنا من الجامعة وحادت الحافلة عن طريقها؛ لأن جسر الزمالك مفتوح، فمررنا بهذا الشارع فرأينا سيارتك فنزلنا. قلت: وهذه الثانية من الاتفاق، وسرنا معا فيسرت لهما بلوغ غايتهما.
وقلت لنفسي: إن كثيرا من الأمور تصيب وتخيب باتفاق عجيب أو غير عجيب، وكثيرا ما كان الاتفاق وسيلة إلى أمر له خطر في معيشة الانسان، فليست كل أمور الإنسان قوانين. وينبغي للإنسان أن يحسب للاتفاق حسابه، وأن ينتهز فرصته ليغتنم ما ييسره له وينتفع به جهد طاقته.
الثلاثاء 5 محرم/17 أكتوبر
سياسة الذئاب والكلاب
يقال: إن الذئاب إذا خرجت تلتمس قوتها وتبغي صيدها فأصيب واحد منها فسال دمه هجم عليه أصحابه فقتلوه وأكلوه.
وكم رأينا كلابا تهترش فتسرع إليها كلاب أخر، فإن وجدت كلبا مغلوبا مطروحا هجمت عليه وشاركت الغالب في عضه.
ذكرت هذا حينما غلبت فرنسا في الحرب العالمية الأخيرة ، ودخل الألمان باريس فآذن مسوليني فرنسا بالحرب.
قلت: هذا ديدن الكلاب لا الرجال، وطبع الذئاب لا البشر. كم سمعنا بنصرة المظلوم والانتصار للضعيف، والتصدي للقوي الظالم وصده عن ظلمه، وقرأنا هذا شعرا ونثرا وعرفنا مثلا في التاريخ؛ تاريخ الجماعات والآحاد. ولكن هذه السياسة الكلبية لم نسمع بها حين كان الناس ناسا لهم مروءات وفيهم حمية وإباء وأنفة من العار، ونفور من الصغار.
قرأنا في التاريخ أن جماعة من الترك هجرت بلادها مغاضبة التتار وسارت مغربة ترتاد منزلا فصادفت فئتين تقتتلان وإحداهما قوية غالبة، فانتصر الترك للفئة المغلوبة وهم لا يعرفون أن المعركة بين التتار والسلاجقة وأن السلاجقة هم المغلوبون. إن صدقت الرواية أو لم تصدق فليست بدعا من أخلاق الناس وعاداتهم في تلك العصور.
إلا أن المعتدي على الضعيف، والباطش بالمهزوم، له في الذئاب والكلاب مثل:
بجريح الذئاب تسطو الذئاب
وضعيف الكلاب تغزو الكلاب
فإذا حارب الضعيف قوي
فله في القبيلتين انتساب
الأربعاء 6 محرم/18 أكتوبر
مجد الضوضاء والغبار
يقول أبو الطيب:
فلا تحسبن المجد زقا وقينة
فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى
لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المجد أنمله العشر
وكثير من الناس تمنوا الهبوات والعسكر والدوي، وكثير نالوها وملئوا التاريخ دويا وغبارا.
ومن الناس من لا يطمح إلى الملك والقهر، ولكنه يبغي الضوضاء في جهات أخرى؛ يملأ الأسماع كلاما، ويثير حول نفسه غبارا ودخانا ليذيع ذكره ويبعد صيته ويقود الجماهير، ويغلب نظراءه بالحق والباطل.
لا يهدأ إن هدأت الأصوات حوله، ولا يقر إذا قر الغبار دونه. فإن كان من الساسة فالأمة والوطن، ومجد بلاده وسؤددها هجيراه، والكثرة والغلبة والثقة دعواه. وإن كان من الكتاب فالدعوى المدوية، والنشر في الصحف، وصياح أتباعه، وضوضاء المفتونين به ليلا ونهارا وسرا وجهارا، ولا يبالي أن يتزيد فيما له، ويبخس الناس أشياءهم. وكم نفق في هذه السوق زيف، وبار فيها جود، وانتصر المتخلفون وغلب المبرزون، وفرح الجهلاء ، وماتت بحسرتها الحكماء. وهذا كله ضوضاء تصمت، وغبار ينحط، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
إنما المجد كل المجد، والفخر كل الفخر علم نافع يسيل زلالا لا يسمع هدره، وعمل صالح ينبت في الأرض خيرا وبركة لا يحس له ضوضاء، وخلق كالطود الأشم في معترك الحياة، والماء النمير في أرجائها، والنور الهادي في ظلماتها.
الخميس 7 محرم/19 أكتوبر
الدعاوة
يحق لكل ذي مذهب أو رأي أن يدعو له ويبينه، ويدافع عنه، ويفضله على غيره بالحق والعدل.
ولكل مؤلف أو كاتب أو شاعر أن يبين مزايا عمله، ويجلو مواضع الإعجاب فيه غير متزيد ولا معتد.
ولكل صانع أو تاجر أن يشيد بصناعته وبضاعته في غير غش ولا تضليل، ودون بخس لصناعة غيره وتجارته.
لكل إنسان الحق في أن يعرض على الناس ما عنده في أحسن صوره وأجمل أشكاله غير كاذب ولا خادع، ولا باغ ولا عاد.
وعصرنا هذا عصر الدعوى والإذاعة، والنشر والصقل والعرض. ولا بأس بهذا في تنافس الحياة وتغالبها، ولكن إلى هذا تزييف وتمويه، وغش وخداع وافتراء وبغي وتلبيس وتضليل. فالدول لا تبالي أن تتزيد فيما لها وتبخس ما لغيرها، وكذلك الأحزاب والصحف. كذلك بعض المؤلفين والناشرين وأكثر الصناع والتجار. وضل الناس بين الدعاوى المتصادمة وبين الأضواء والأبواق والصور والتهاويل.
وحسب القارئ أن يقرأ صحيفتين متنازعتين، أو يتتبع جدال حزبين على الحكم متنافسين، أو يستقرئ أقوال رجلين عظيمين يتسابقان إلى رياسة دولة عظيمة كالولايات الأمريكية. إنه يرى الدعاوى تتهاتر، والتهم تتناثر، والحقائق تضل في غبار المعترك، كل خصم يشيد بحسناته ليس معها سيئات، ويسمع بسيئات خصمه ليس معها حسنات.
وقس على هؤلاء المتنافسين في كل مجال؛ تجد الناس يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وتجدهم كلفين بذم خصمهم بما لم يقترفوا. من لنا بأدب القرآن الكريم:
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين .
الجمعة 8 محرم/20 أكتوبر
كم الساعة؟
ما أكثر ما يختلف التعبير في بيان الوقت بحساب الساعات في اللغات المختلفة! وما أعجب ما يسير الكاتبون في العربية على غير هدى، ويضعون العبارة بعد العبارة دالة على الحيرة في هذا الأمر الواضح، والعجز في هذا الشأن اليسير. يقال: أقابلك الساعة تسعة مثلا، وإن أراد أحد القائلين أو الكاتبين أن يعرب هذه الجملة لم يهتد أيرفع الكلمتين أو ينصبهما؟! ويعدل بعض الناس عن هذه العبارة فيقولون: الساعة التاسعة بدل الساعة تسعة. ورأوا أن الساعة التاسعة تبتدئ حين انتهاء الساعة الثامنة، فقالوا: موعد كذا تمام الساعة التاسعة، أو يبدأ الاحتفال في تمام الساعة التاسعة أو في منتصف الساعة التاسعة وبقي الغلط في مثل أقابلك الساعة التاسعة. والاضطراب في هذا الأمر الهين دليل على أن الاتفاق صعب حتى في الأمور اليسيرة وأن ما يبدو هينا قد يعجز الجماعة إدراكه.
وكنت يسرت هذا الأمر بوضع واو الحال قبل التعبير عن الوقت، فيقال: والساعة تسع، أو تسع وربع، أو تسع إلا ربعا، وهكذا على اختلاف الأعداد.
وسرت على هذا الأمر وسار بعض الناس، ثم وجدت هذه الواو لا محل لها حين يكون التعبير عن الوقت بالإضافة مثل: أقابلك بعد الساعة تسع، أو قبل الساعة تسع، فاهتديت إلى عبارة تفي بكل الحالات فيمكن استعمالها في الأحوال كلها أو استعمالها مع الإضافة واستعمال الواو فيما عداها.
تلكم إضافة كلمة ساعة إلى العدد فتقول: أقابلك بعد ساعة تسع وربع أو أقابلك ساعة تسع وربع أو ساعة تسع وخمس وثلاثين، على معنى أن كل ساعة منسوبة إلى العدد الذي يليها.
فلعل الاستعمال يطرد على هذا النسق فنستريح من مشاكل الساعة.
السبت 9 محرم/21 أكتوبر
وا رحمتاه للنساء في هذا العصر!
المرأة جمال الخليقة، ونور الإنسانية، وملاك الشفقة، ومعدن الرحمة، وينبوع السعادة. هذه الحاملة الواضعة، الوالدة المرضعة، الساهرة الحانية، المربية العانية، المنشئة للأمة أولادها، المانحة لها أكبادها، البيت من يدها روض زاهر، ومعبد عامر، وجنة ونعيم، وسلام مقيم.
هل الأمة إلا من الأم، وهل غيرها يستطيع أن يؤم؟
7
إنها سر الحياة، ودليل النجاة، إن عرفت قدرها، ولم تخدع عن مكانتها.
إني لأرثي للمرأة حين أجدها عاملة في المصانع، صافقة في الأسواق، وأقول: إن هذا في نظام الأمم خلل، وفي كيانها علة من العلل.
وأرثي للمرأة حين تهجر دارها، وتهمل صغارها، وتقضي النهار سائمة وشطرا من الليل هائمة، وأقول: كيف يرجى للعش صلاح؟ ومن يبسط على الفراخ الجناح؟
وأرثي للمرأة حين أجدها في هم دائب، ونصب ناصب، بالصبغ والطلاء، صباح مساء، تعرض زينتها في الطريق، وتنافس بجمالها في السوق، وأقول: ضياع المال والوقت والراحة، والوقار والسعادة والصباحة.
وأرثي للمرأة وأغضب لها وأغار عليها وأحزن من أجلها حين أراها متعة المجامع وألهية الملاهي، وسلعة التاجر، وفريسة الفاجر. فهذه الملاهي الحاشدة بالليل والنهار والمعارض الصاخبة على أسياف التجار، وتجارة الرقيق في كل طريق، هذه المرأة المسكينة صيدها وسلعتها، وفريستها ومتعتها، تخدع عن نفسها حينا فتضحك، وتعرف أمرها حينا فتبكي، وهي بين الضحك والبكاء مفتونة مغلوبة، مخدوعة مسلوبة، لا تجد في السوق الصاخبة والفتنة الغاصبة وقتا لتفكير ولا نهزة لتدبير، والناس يعجبون ويضحكون ولا يبكون. إني والله لأرثي للنساء وحق لهن الرثاء.
الأحد 10 محرم/22 أكتوبر
قياس الزمان
يقيس الإنسان زمانه بالسنين والشهور، وبالأيام والساعات فيرى الزمان سريع المر شديد الجري، لا يكاد يجاريه حسابا وعدا. وهو في غم وكآبة من إسراع هذا الزمان وعدوه، وفي هم من نفسه بما يرى مر الزمان نقصا في عمره، ومضيا في حياته، واقترابا إلى أجله، كما قال طرفة:
أرى العمر كنزا ناقصا كل ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
وكما روي أن الحجاج أنشأ أو تمثل بهذا البيت حين بلغ الخمسين:
وإن امرأ قد سار خمسين حجة
إلى منهل، من ورده لقريب
وكم قال الشعراء في مضي الزمان، وسرعة الدوران؛ دوران الفلك والأعوام.
ذلك لمن وعى الزمان كنهر جار، أو قطار مسرع، يسيران إلى غاية قريبة أو بعيدة، والناس سائرون بسيرهما منتهون إلى غايتهما؛ ولكن من استطاع ثباتا في التيار وانحيازا إلى الشاطئ، واستقل بفكره وعمله، ولم يعد نفسه عودا في نهر يجري به غير مختار، فهذا الإنسان هو الزمان. وحساب الزمان بفكره وعمله هو لا يعد ساعات وأياما ولكن أفكارا وأعمالا، وهو لا يحسب سنين متوالية، ولكن آراء وأفعالا تؤرخ بها العصور ولا تحد هي بالعصور؛ إذ كانت أعماله قوانين يتبعها، وسننا يسير عليها، لا نزعات وقت وأهواء ساعة.
إن من ساير التيار واستسلم للزمن فإنما ينسج على نفسه شبكة الليل والنهار، فهو منها في إسار، ومن اعتد بنفسه واستقل بقوله وفعله، فهو شبكة الأيام وقيودها ومسافاتها وحدودها.
الإثنين 11 محرم/23 أكتوبر
الناس في الشدائد
الناس معادن، وإنما تفتنهم الشدائد. هم في الرخاء أشباه، وفي السعة أنداد، فإذا حزب الأمر وضاق، وأخذت الكربات بالخناق، تبين الصادق والكاذب، والكريم واللئيم:
ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين .
في الناس من يعرفك في الشدة فيواسيك، فإذا انفرجت الغمة لم يقصدك إلا لماما، ولم يرزأك شيئا. أولئك هم الكرام أعوان الشدائد وإخوان اللزبات وهم كما في الحديث: «يقلون عند الطمع ويكثرون عند الفزع.» وكما قال عنترة:
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وهؤلاء في الناس قليل، والزمان بهم جد بخيل. ثم هم إن حلت بهم المحنة صبروا ولم يطيشوا، ووقوا أعراضهم حتى تنفرج الكربة، وتنجلي الغمرة، ولقوا الحادثات كما قال الشاعر:
فما لينت منا قناة صليبة
ولا ذللتنا للذي ليس يجمل
ولكن رحلناها نفوسا كريمة
تحمل ما لا تستطيع فتحمل
ومن الناس من يزينون مجلسك ما دمت في عافية، يرجى خيرك ويخشى ضرك، كالشجرة المظلة المثمرة. فإن حلت النوب، واشتدت الكرب؛ تفرقوا شعاعا، وطاروا بغاثا، ولم تلق فيهم ذا مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع. وكثير في الناس هؤلاء؛ أصدقاء الرخاء.
ثم هم في خاصة أنفسهم كما قال القرآن الكريم:
إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا .
وأسعد الناس من لم تلجئه الأيام إلى الاستنجاد باللئام. نسأل الله أن يرزقنا العافية ولا يحوجنا إلى من سواه.
الثلاثاء 12محرم/24 أكتوبر
الفقه والحفظ
الجزئيات لا تحد، وإن حدت فما يحيط بها إنسان، وإن أحاط بها لم تكن فائدتها كفاء النصب في حفظها. هب فقيها قرأ كتابا في الفقه مبسوطا ، وكرر قراءته يريد الإحاطة بمسائله، فهو لا يحيط بها، وإن أحاط بها لم يحط بالفقه، وكثيرا ما تعرض له حادثات لا يجد حكمها فيما حفظ. ثم ليست جدوى حفظ ما يحفظ على قدر التعب في تحصيله ويبقى عقله بعد القراءة والتكرار والحفظ والإحاطة صفحات الكتاب، وسجل مسائل وجدول أحكام. فإن فكر الفقيه فعرف أصول الفقه، أعني القواعد القانونية وما يتصل بها من مقدمات عمرانية، وأمور نفسية وغيرها، فصار مجتهدا فقد أحاط بالفقه إحاطة، لم يحط بمسائله وأحكامه فعلا، ولكن أحاط بكل الأحكام قوة. فمهما تعرض له من حادثات ومهما يسأل فيه من أحكام، استطاع أن يفتي فيها من عقله وفقهه، لا من حفظه وكتابه، وكان إدراكه في كل مسألة إدراكا حيا، يعرف بواطن الأمور وظواهرها، والمصلحة والمفسدة بها، ومكانها من نظام الأمة التي تقع فيها.
كذلك ينبغي أن يعنى المعلمون والمتعلمون بفقه العلوم لا بمسائلها، ينبغي أن يقصد في التعليم إلى معرفة أصول العلم، والتمكن في هذه المعرفة حتى يستطيع المتعلم أن يفرع من هذه الأصول ما يشاء، وحتى تجده كل حين مدركا هذه الأصول، متصلا بها عقله وفكره ولا يعد مسائل حفظها ثم ينساها. كنت أقول وأنا طالب علم ومعلم: انظروا إلى طلبة العلم، لو إن أعيد امتحانهم بعد شهر فيما نجحوا فيه، لم ينجحوا؛ قد حفظوا ولم يفقهوا وحصلوا لينسوا، فأي علم هذا، وأي تعليم؟
الأربعاء 13 محرم/25 أكتوبر
صوفي في حلة مذهبة
قلت لنفسي وقد لبست حلة رسمية موشاة محلاة مزركشة: ما أبعد هذا مما تدعي من التصوف! أين من التصوف هذه الزينة، وهذه الأبهة وهذه الخيلاء؟ قالت: إنها زينة ومن حرم زينة الله التي أخرج لعباده؟ وليست خيلاء فما اختلت بها، ولا زهيت ولا داخلني العجب، وإن في لنفورا خفيا، وكراهية.
وذكرت ما قال الجنيد من قبل: «إنما الاعتبار بالحرقة، ليس الاعتبار بالخرقة.» وقلت: ربما تجد صوفيا تحت تاج ملك، وتعرف صوفيا في دست وزارة، وتلقى صوفيا بين آثار النعمة والغنى ، والثروة الواسعة، والجاه العريض. وربما تجد في ثياب الصوفية أبعد الخلق عن التصوف؛ ألبسه ثياب التصوف الفقر أو الرياء، ولو طالت يده الدنيا لملكته وأذلته وصرفته على هواها، وساقته في مفاسدها ومطامعها. إن الصوفي الحق من ينال من الدنيا مالا وجاها وسلطانا فيصرف ما نال بالعدل والحق والإحسان، لا يبطر ولا يطغى ولا يبغي ولا يختال ولا يغتر، يملك الدنيا ولا تملكه، وتصرفها يده ولا تتصرف هي في قلبه. إن الصوفي الحق من يسير في هذه الحياة مجاهدا كادحا كاسبا مسيطرا آخذا معطيا، محبا مبغضا مسالما معاديا مستمتعا متزينا، ولكن لا يعدو الحق والعدل وقصد الخير لنفسه وللناس ساعة، ولا يغفل عن الله سبحانه طرفة عين. فهو في جهاده ودأبه كأنه قانون من قوانين الله السارية في خليقته لا يفتر ولا يحيد، وهو من جهاده وكده في عبادة دائمة، لا تفارقها النية الصالحة، ولا تخلو من ذكر الله. إنما الصوفي الحق الذي يتصوف في المعترك بين الفتن والأهواء لا من يقبع في صومعته، لا يمتحن قلبه ولا يده بمال أو سلطان، ولا يفتن بمعاملة الناس، ولا تحيط به الشهوات. إن تصوفنا غني قوي عادل محسن، لا فقر ذليل ليس عنده ما يعدل فيه ولا ما يحسن به.
الخميس 14 محرم/26 أكتوبر
السفر ومواعيده
سمعت من الأمثال المصرية: الخروج من الدار نصف السفر. وفي أمثال العرب القدماء: السفر ميزان السفر. وكان الناس في مصر، إلى عهد قريب، إذا أزمعوا سفرا للحج برزوا إلى الساحات قبل السفر بيوم أو أكثر وأخرجوا أمتعتهم ليودعهم المودعون، وليتفقدوا أمتعتهم قبل دهشة الوداع والرحيل.
ومهما يتغير الزمان، وتتبدل الأحوال، ويوات الناس من وسائل السفر وأدواته، فلا بد للمسافر من إعداد وتهيؤ، واحتياط وحزم، ولا بد للمسافر من الأناة واحتمال المشقة وإعانة الرفيق والصبر على أذاه.
وكم يعرض للمسافر في الساعة الأخيرة من زيارة نسيها، أو رسالة لا بد أن يكتبها أو حساب يختمه، أو غير هذه مما يطرأ أو يفجأ. وخير ما يحتاط به المسافر أن يقدر أن موعد سفره قبل موعده المحدود بيوم أو يومين، ويجتهد أن ينجز كل شيء قبل الموعد المقدر، فإن ذكر نسيا، أو لقي طارئا أمكنه تداركه.
أكتب هذه الكلمة وأنا أذكر ما لقيت أمس واليوم في الإعداد للسفر إلى الإسكندرية فباكستان، وقد عجلت الباخرة سفرها يوما، فاضطربت أعمالي، وارتبكت مواعيدي، وضاق الوقت بالإعداد والتهيؤ. والمسافر الحازم لا يؤخر عدته حتى يضيق بتعجيل السفر يوما أو يومين! ولكن الإنسان يجرب ما عاش، ولا تنفعه التجارب إن لم تزده كل تجربة عزما وحيطة، وتفكيرا وتدبيرا.
الجمعة 15 محرم/27 أكتوبر
صديقان لا يتكلمان
سارت بنا باخرة أمريكية من الإسكندرية تؤم كراچي، ومعي بنيتي هالة، وكانت لا تعرف اللغة الإنكليزية. وكان في السفينة نفر من الأمريكان فيهن بنت صغيرة كهالة، فبدأت الألفة بينهما واستحكمت على مر الأيام، فكانتا تصطحبان أكثر الأوقات، وتلعبان وتتفاهمان وهالة لا تعرف الإنكليزية، وسوزان لا تعرف العربية.
قلت: تبين بهذا أن الصداقة تكون بغير لسان، والتعاون يمكن بغير كلام، والتفاهم لا يستحيل بغير لغة، وأن في النظرات والإشارات غنية في أمور كثيرة. وذكرت ما قال الشعراء في لغة العيون وقلة الكلام إذا اشتد الحب، وجاوزت هذا إلى الفكر في البهائم تتفاهم بأصوات قليلة، والطير تقل النبرات وتقصرها في الخطاب، وتكثرها وتطيلها في التغريد. وفكرت في أن أكثر الناس قولا أقلهم عملا، وأن العمل والثرثرة لا يجتمعان، والتفكير والتكلم مختلفان تنقص زيادة أحدهما من الآخر.
وأشفقت من استرسال الفكر في اللغات؛ ألفاظها وتراكيبها وأساليبها واختلافها بين الأمم، وفي الأمة الواحدة، بل اختلافها باختلاف المتكلمين قاطبة، ومن التفكير في أسرار الفصاحة والبلاغة. أشفقت من هذا المجال الفسيح الهائل فرجعت إلى الصديقتين الصغيرتين التي لا تكلم إحداهما الأخرى، ولكن تصاحبها وتلاعبها وتصادقها، فقلت: ما يدريك؟ لعل رجوعهما إلى الفطرة المتوحدة في العقل والعاطفة، وعجزهما عن اللغة التي تختلف فيها الأمم ويختلف فيها الناطقون، أدعى إلى الود بينهما! لقد أمكن التصادق بغير التكلم أياما، وأغنت الفطرة في حركاتها ونظراتها عن التعبير في هذا المجال. رأيت رأي العين صديقين لا يتكلمان.
السبت 16 محرم /28 أكتوبر
الأشخاص والقوانين
بدا لي وأنا أفكر في أحوال الأمم، أن معايير الفساد والصلاح فيها هذا المعيار: الأمة الصالحة ترى القوانين لا الآحاد، وتكبر السنن لا الأفراد، ويستوي في قانونها وفي إنفاذها القانون الصغار والكبار، والضعفاء والأقوياء، ديدنها ما قال الصديق: «الضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له، والقوي ضعيف حتى يؤخذ الحق منه.» كل واحد فيها، أو أكثر بنيها، يخضع للقانون، ويدعو إليه، ويعين على إنفاذه، شعارها الآية الكريمة:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، وقول الرسول الكريم لمن شفع عنده لسارقه: والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
والأمة الفاسدة قوانينها سطور معطلة، ودعاوى مبطلة، إلا قليلا. أهواء الأقوياء قوانين عندها، وشفاعات العظماء شرع لديها. كل محسن يرجو أن يثيبه واحد أو طائفة أكثر مما يرجو ثواب القانون. وكل مسيء يحذر فردا أو حزبا أكثر مما يحذر القانون، أو يرجو عظيما أو عظماء لينجوه من جزاء القوانين.
اعرض على نفسك من تعرف من الأمم، أو الجماعات في أمة واحدة، تجد تصديق هذا القول، وتعرف أن أبين مقاييس الصلاح والفساد في أمة أن يعلو الناس على الشرع أو يعلو الشرع على الناس، وإن شئت فقل: أن تحكم الأمة بشرع عادل جامع، أو بهوى جائر مفرق.
الأحد 17محرم/29 أكتوبر
العسر واليسر، أو البساطة والتعقيد والتركيب
كنت أقرأ اليوم كتاب «حضارة الهند» لجستاف لوبون، ترجمته العربية، فمررت بصور شتى هندوكية وإسلامية، فقلت لرفيق في السفينة: إني أميز بين الصور الإسلامية وغيرها بالنظرة الأولى، إن سألتني عن خصائص كل فن فلا علم لي، ولا خبرة؛ ولكن لا أتردد في أن أقول لصورة في هذا الكتاب وغيره من صور الآثار في الهند: هذه إسلامية وهذه هندوكية. في الأولى بساطة ويسر، وفي الأخرى تركيب وعسر، الأولى جمالها في مرآها الواضح تحيط به العين، وتسكن إليه النفس، والثانية تلقاك بنقوش متداخلة وصور متراكبة، وتزاحم الخطوط والهيئات وفيها تجهم لا جمال، وعبوس لا ابتسام، وهيبة لا أنس . الأولى قصيدة مطبوعة يهش لها الفكر والأخرى بديعية مصنعة متكلفة تشغل الفكر بمحسناتها ولا تثير العاطفة.
لا أقول هذا عصبية، ففي بعض الأبنية الهندية جمال، وفي بعض الأبنية الإسلامية تعقيد، وكذلك قلت حين رأيت الجوامع والكنائس: هذه يسيرة جميلة، وهذه صعبة معقدة متجهمة، ما اشتبه علي الأمر في آثار المسلمين وغير المسلمين في الهند وغيرها. وأما بيان هذا وتفصيله فعلمه عند الخبراء.
الإثنين 18 محرم/30 أكتوبر
نحن وهم
ركبت الباخرة من الإسكندرية إلى كراچي يوم الجمعة 15 المحرم/21 أكتوبر، وكان في الباخرة سيدات أمريكيات في سن الشباب والفتاء ذاهبات إلى الهند، جهات مختلفة فيها، ليقمن فيها خمس سنوات ونصف، معلمات عاملات ما تعمله بعثات التبشير المسيحية في البلاد التي تذهب إليها. قال رفيق في الباخرة: ونحن نتحدث عن الجو: سيعرف هؤلاء الحر حين يبلغن غايتهن. قلت: إن كل شيء ممهد أمامهن ميسر، فهؤلاء الناس الأوروبيون ومن نسل منهم يخلقون حيثما كانوا من أرجاء الأرض بيئة مريحة ميسرة، فيكفون بها هموم الحر والبرد، والنصب والحرمان، ويفرغون لأعمالهم ناعمين برفاهية كالتي ألفوها في بلادهم أو قريب منها، ولولا هذا ما صبروا في الأرجاء النائية التي يذهبون إليها وما استطاعوا أن يوفروا أفكارهم وأيديهم للعمل الذي يغتربون له. وقد رأيت المهندسين من أمريكا في نجد في مزارع الملك عبد العزيز في الخرج، فوجدت مسكنهم مرفها لا ينقصه شيء وقد كيف الهواء كما يشاءون، وهم متصلون بالظهران يذهب كل منهم إليها في نوبات موقوتة، والظهران يصلهم بأمريكا، فلا عجب أن يطول مكثهم هناك ويفر غيرهم.
وقلت: إن رأيت هؤلاء في الهند أو رأيت أشباهن، وما أحسبك إلا رأيت، فستعرف صدق قولي.
ثم قلت: ولست بعد هذا مماريا في جرأة القوم، وإقدامهم على الاغتراب، وكلفهم بالمعرفة وطواعيتهم للواجب، فهذا قبل الرفاهية يخرج هؤلاء النساء من ديارهم إلى بلاد لم يعرفنها ليمكثن بها خمس سنوات.
بهذه الهمم وهذه العزائم، وبهذه الأخلاق ساد القوم وسيطروا وتسلطوا على أرجاء الأرض والبحار.
الثلاثاء 19 محرم /31 أكتوبر
في بحر العرب
قاربنا نهاية البحر الأحمر وجاوزنا أكثر الساحل اليمني، ومررنا بجزر صخرية يخفق عليها منار في أوائل الليل، وقيل: نحن مقبلون على بحر العرب، نجاوز عدن ونعرج إلى الشمال فنسير في خليج عدن إلى بحر العرب.
قلت: لم يبق لنا في هذا البحر إلا الاسم؛ تسير السفن فيه عقول غير عقولنا وأيد غير أيدينا، والأمر في سواحله لغيرنا، وإنما لنا صور لا تملك شيئا. في هذا البحر سار العرب إلى الأرجاء، فنشروا تجارتهم وحضارتهم ودينهم ولغتهم في سواحل أفريقية الشرقية والجزر النائية منذ عصور بعيدة، وبلغوا سواحل الهند والملايو وسنغافورة وجاوه، لم تنقطع صلاتهم بهذه البلدان ولا وقف سفرهم إليها على اختلاف الأحوال، ولا يزالون اليوم على العلات يسافرون بين سواحل الجزيرة الجنوبية وتلك الأقطار. وكان حرس حيدر آباد إلى زمن قريب منهم، وكان سلطان حضرموت مقيما هناك أكثر الأحيان، وكان للعرب فيه السلطان حتى العصور الحديثة. كانت السفن المصرية حتى القرن العاشر الهجري تجول إلى سواحل الهند وتبني قلاعا هناك، وتنقل السلع بين مصر وتلك البلاد، ثم غلبنا في السياسة والتجارة فلم يبق في سلطاننا شيء.
شرعت الأحوال تتبدل والزمان يستدير فعسى أن يكون للعرب في بحرهم مجال وعلى شواطئه ولججه وجزره سلطان، عسى أن يكون لهم في أمور العالم رأي ليشاركوا في حضارة العالم، ويؤدوا نصيبهم في عمرانه وتدبيره.
أليس عظيما أن تلم ملمة
وليس علينا في الحقوق معول
الأربعاء 20 محرم/1 نوفمبر
ساحل حضرموت
نمر اليوم بساحل حضرموت، وكم تمنيت أن أزور البلاد، وتمنيت أن يزورها علماء باحثون يعرفون جبالها وأوديتها، وحيوانها ومعادنها، ثم يخطون الخطط الضامنة عيشا رغدا للحضارمة على قدر الطاقة. هذه الجماعات الذكية النشيطة التي شغلت البحار والشطآن منذ الأعصر الأولى، والتي لها في التجارة عقول مدبرة وأيد متصرفة. إننا لا نعلم عن حضرموت إلا قليلا، وحق علينا أن نعلم وأن نعمل، ولعل الله ييسر للعرب العلم والعمل.
ثم في حضرموت آثار جديرة بالعناية، وفي حضرموت مشاهد ينبغي أن يعنى بها لتعرف حقيقتها. هناك قبر يسمى «قبر هود»، فهل هو قبر النبي هود الذي ذكر في القرآن وسميت به إحدى السور؟ وهناك بئر ذكرت في الكتب الإسلامية باسم بئر برهوت، وقيل: إن أرواح الكفار تجتمع فيها، ما هذه البئر ولماذا قيل فيها هذا القول؟
أعرف أن دول العرب في شغلهم بأمورهم وأنهم كما قال شوقي:
أيها الصارخ من بحر الهموم
ما عسى يغني غريق عن غريق؟!
ولكن علينا التنبيه والدعوة حتى تواتي الفرص وتستيقظ الهمم.
أصاب حضرموت قحط منذ سنين فأسعف الإنكليز الجائعين ونقلوا الأطعمة بالطائرات، والعرب منهم من لا يعرف حضرموت، ومنهم من يعرف ولا يبالي، ومنهم يبالي ولا يقدر، ومنهم من يقدر ولا يفعل. لقد آن للعرب أن يتعرفوا بلادهم، ويصلوا إخوانهم. إن أسلافنا عرفوا حضرموت أكثر مما نعرفها على بعد المسافات، وانقطاع الوسائل.
فما بالنا اليوم؟!
الخميس 21 محرم/2 نوفمبر
الخوف من الطبيعة
ينشأ ولداننا على الخوف، تخوفهم الأمهات والحواضن من أشياء موهومة «كالغول والبعبع»، ومن أشياء طبيعية كالظلام؛ يقصد بهذا التخويف كف الأولاد عن فعل أو تحريضهم على فعل. ولهذه الأوهام المخيفة أثر في الأنفس ما بقي الإنسان.
ويخوف الوالدان من الطبيعة كالبحار والأنهار والجبال والصحارى، فيفزعون منها، ويبقى هذا الفزع طول العمر. وكان ينبغي أن يعود الناشئ إلف الطبيعة ويدرب على غشيانها والسكون إليها ويبصر بمواضع الحذر منها ليتقيها. ولا يكون هذا إلا بالمران والألف؛ يعود الناشئ اجتياز الصحارى وارتقاء الجبال وركوب السفن ... وهكذا، فيشب آلفا لها في جده ولعبه، وكده ورياضته فتكون منفعة له ومتعة طول حياته.
ذكرني بهذا ما رأيت من إشفاق بعض الرفاق في السفر إلى باكستان من ركوب البحر وخفق قلوبهم مع خفق الرياح، وفزعهم لصوت يسمعونه فجأة، على حين كان ركاب السفينة الآخرين في جذل دائم لا يرون خطرا حيث يرى هؤلاء الرفاق، ولا يخافون مما يخافون، بل يعجبون ويضحكون. وكان البحر رهوا أمس فسرنا ثم ماج قليلا بالليل ففزعنا ولم يفزع الآخرون.
ألا إننا في حاجة إلى تدريب ولداننا على الإقدام والجرأة على ما يحيط بهم في هذه الدنيا ، والسكون إليه، ففي هذا منفعة ولهو، وفيه الدعوة إلى تسخير الطبيعة وتذليلها واستخراج منافعها، والانتفاع بكل ماهو فيها.
أكتب هذا ونحن في بحر العرب.
الجمعة 22 محرم/3 نوفمبر
في بحر العرب والمحيط الهندي
سرنا منذ الأمس في بحر العرب، فرأينا سمكا يثب ورأى بعض المسافرين دلفينا ورأينا قروشا وسمكا طيارا وحيتانا وثعابين.
قلت: أكثر ما روى السائحون من عجائب، وما لفقه القصاصون من غرائب، كان موطنه هذا البحر؛ بحر العرب، والمحيط الهندي الذي يتصل بهذا البحر.
كان العرب يبحرون من سواحل الجزيرة العربية أو البصرة - وكانت تسمى ثغر الهند - إلى سواحل السند والهند فيرون من أهوال البحر وعجائبه ما يقصون على مواطنيهم حين يعودون، ويتزيدون ويغلون؛ إكبارا لأسفارهم وتهويلا لأخطارهم - كما قص جند الإسكندر المقدوني حينما رجعوا من غزوات إيران والهند.
والسندباد معناه بالفارسية «ريح السند» فهذه قصة موصولة بأسفار السند وما بعدها.
وفي هذا البحر؛ بحر العرب، صارت جيوش العرب أيام بني أمية لفتح السند، سارت جيوش في البر وأخرى في البحر، ونزلت الجيوش المبحرة قريبا من كراچي التي نؤمها اليوم على هذه السفينة، ويلتمس الباحثون اليوم آثار الديبل أول المدن التي فتحها العرب في السند، على مقربة من كراچي صوب المشرق.
والعرب القدماء الذين باسمهم سمي هذا البحر، انتشروا في جزره وسواحله وجاوزوه إلى شواطئ أفريقية وإلى جزر الملايو وأبعد منها، فتاجروا ونشروا الإسلام وقربوا بين الأمم والأوطان.
السبت 23 محرم/4 نوفمبر
القسوة والجهالة
ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة .
القسوة والجهل من معدن واحد، يصطحبان ويتعاونان. الطفل على ضعف جسمه ونفسه تشتد قسوته أحيانا على ضعاف الحيوان؛ بما جهل أثر فعله، وغفل عن سوء عمله. والجاهل من الرجال والنساء أقسى قلبا ويدا ممن أوتي نصيبا من العلم وحظا من المعرفة. المعرفة توقظ النفس من رقدتها، وتنبهها من غفلتها، فتشعر بما في أفعالها من حسن وقبح وقسوة ورحمة، ولا سيما المعرفة التي تتصل بالنفس تقويما وتأديبا وتهذيبا وترقيقا ، فيختلف الناس في هذا اختلاف درجاتهم في المعرفة، وأثر المعارف في نفوسهم.
واعتبر هذا بالبهيمة في يد فلاح جاهل، انظر كيف يقسو عليها ويحملها ما لا تطيق، فإن عجزت لم يألها ضربا وتعذيبا لتقدر! وليست القدرة بملكها، ولا القوة بإراداتها. ولا يشفق هذا القاسي على البهيمة إلا بمقدار ما يقومها بمال فيخاف أن يخسر هذا المال بعجزها أو نفوقها.
رأيت في إسطنبول رجالا اجتمعوا حول حمار واقع لينهضوه فأشعلوا ورقا وقربوه من بطنه لينهض. وقصصت ما رأيت على عالم ألماني هناك، فعجب كيف رضي الناس هذا ولم تأخذ السابلة على أيدي المجرمين! وقال: إننا في بلادنا لا نبيح لإنسان أن يحمل دجاجة آخذا برجليها منكسا رأسها، ينهره ويمنعه أول من يلقاه على الطريق.
قلت: لستم أرحم من هؤلاء طبعا، ولا أشفق منهم سجية، ولكنه فرق العلم والجهل، والخشونة والصقل.
الأحد 24 محرم/5 نوفمبر
مد التاريخ وجزره
بلغت اليوم مدينة كراچي على ساحل السند، فازدحمت في فكري حوادث الدهر وذكر التاريخ. ذكرت العرب المسلمين في دولة بني أمية يطوون الأرض شرقا وغربا، ويركبون المفاوز والبحار إلى أقصى الأقطار، فيأتون إلى السند ويفتحون وينشرون ألويتهم ودينهم في السند وبلاد وراءها في الهند. وتبقى هذه الأصقاع في سلطان الخلفاء الأمويين والعباسيين مائتي سنة، ثم يحسر عليها سلطان الخلفاء.
وامتد فكري إلى ما قبل الإسلام فذكرت دارا ملك الفرس يغزو الهند، وتذكرت إسكندر المقدوني يمتد به الفتح من مقدونية إلى هذه الأقاليم. ثم رجعت إلى تاريخ المسلمين أرى السلطان محمود الغزنوي يغزو الهند اثنتي عشرة مرة، فيفتح أقاليمها الشمالية والغربية. وذكرت ملوك الغور ومن خلفهم من الذين زحزحوا خلفاء محمود إلى الهند ثم لحقوهم فيها، وفكرت في الدول الإسلامية الصغيرة التي انتشرت في أرجاء الهند.
وقف فكري على هذا الداهية البطل محمد ظهير الدين بابر وكدت أسمع وغى الواقعة الحاطمة التي أدارها في پاني بات على السلطان إبراهيم اللودي فانجلت المعركة عن آلاف القتلى فيهم إبراهيم.
تقدم بابر إلى دهلي فأنشأ الدولة العظيمة التي سيطرت على الهند، وكانت أعظم دولها في الجاهلية والإسلام، حتى تحيف الإنكليز سلطانها ثم خلعوا بهادر شاه آخر ملوكها سنة 1274ه/1857م قبل نيف وتسعين سنة.
ثم قلت: ثار غبار المعارك، وصلصلت السيوف، وانجلت الوقائع عن قتلى وجرحى ونصر وهزيمة، وعزم وغنيمة، ورجع الفاتحون أدراجهم، ومحا الزمان آثارهم في هذه البلاد فلم يبق عينا ولا أثرا، إلا هؤلاء الذين حملوا إلى هذه البلاد رسالة التوحيد، والشريعة والفضيلة والأخوة الجامعة. هؤلاء بقيت آثارهم ونمت على مر الزمان، ومن آثارهم الدولة التي نشأت اليوم؛ باكستان، وهذه كراچي حاضرتها.
الإثنين 25 محرم/6 نوفمبر
آثار المسلمين ومركز حضارتهم في الهند
قدمت باكستان أمس، قدمت إلى السند في باكستان، حيث جاء العرب المسلمون يقودهم محمد بن القاسم الثقفي. وعبر فكري تاريخ الهند وأرجاءها، يتعقب تاريخ المسلمين وحضارتهم فيها. وتذكرت أعيان الآثار ومعالم الحضارة الإسلامية متشوفا إلى رؤيتها وإلى شهود الماضي حاضرا فيها. وتتبعت مآثر الدول الإسلامية، ومفاخر الفنون الإنسانية مما شاد ملوك المسلمين منذ انتشرت حضارة المسلمين في الهند إلى أن زالت آخر دولهم؛ فإذا هذه الآثار في الهند لا في باكستان؛ آثار دهلي الرائعة، وعمائر أجرا المدهشة، وما شيده جلال الدين أكبر في سكندرة وفتح پور سكرى، وما نظمته أيدي الإبداع، ونثرته في الأقطار والعصور. كل أولئك في الهند إلا قليلا. ومزارات السلاطين العظام، ومقابر ملوك المغول من همايون إلى أورنگزيب كلها في الهند، إلا قبر جهانگير في لاهور، وقبر بهادر آخر ملوك المغول البائس في رنكون.
لست أبالي أن تكون هذه الآثار المخلدة في باكستان أو الهند، فهي آثار البشر في أعلى درجاتها، ومآثر الإنسان في أبلغ عباراتها. وإن يكن المسلمون أهلا لتاريخهم شادوا أروع منها وأخلد، ووصلوا هذا المجد إلى الأبد. وفي الهند مسلمون يأنسون بما فيها من الآثار، ويذكرون بها ماضي الأعصار. وغير المسلمين في الهند حريون أن يكبروا هذه المآثر ويحفظوها ويحيوها ويخلدوها؛ فهي آثارهم، شادتها أيديهم وأيدي إخوانهم، وهي أمانة التاريخ عندهم، ووديعة الإنسانية لديهم، وهم أهل لحفظ الأمانة وصيانة الوديعة .
الثلاثاء 26 محرم/7 نوفمبر
الجمل
رأيت الجمال في كراچي تجر العربات، وقد علق في رقابها وحول أرجلها جلاجل، تسير الهوينى حينا، وتزجر أحيانا فتسرع وتضطرب أعناقها فتزيد جلاجلها رنينا.
خطر لي أن جر العربات والتحلي بالجلاجل لا يلائم وقار الجمل وكبرياءه، وذكرت ما كان للجمال من شأن أيام كانت تعبر الصحارى وتجوب المسافات البعيدة
وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، وكيف كانت الإبل في الحجاز عماد الحجاج في ركوبهم وحمل أمتعتهم. وذكرت كثيرا من الشئون التي كانت تغلي قيمة الجمل وتعلي قدره، وقلت: إن الجمل لا خطر له اليوم، والذي يرى الإبل في الجزيرة العربية تقطع المسافات القصيرة حائدة عن طريق السيارات، يعرف أنها ذلت وهانت، والذي يعلم كيف كانت عناية الناس بالنجائب والمهاري وكيف أغفلوها اليوم يعلم كيف هان أمر الإبل.
الجمل قد أعفي من الأحمال الشاقة والمسافات البعيدة واستراح من عناء طويل وسفر مديد، فهو اليوم أصلح حالا وأهدأ بالا؛ ولكن الراحة ليست كرامة، والاستغناء عن الجمل يريحه ويذله ويعفيه من الحمل والسير ويهينه. لن يكون للجمل بعد اليوم ما كان له من مكانة في الأدب، ولن يذكر في الأسفار ويشاد بصبره ووفائه وصحبته في الليل والنهار والحر والقر، ولن يتحدث إليه الراكب يصفه ويشبهه بالنعام والحمار الوحشي والثور كما كان يفعل شعراء الجاهلية ومن سار على نهجهم من شعراء الإسلام.
فكرت في الأمر كثيرا وقلبت الرأي في ماضي الجمل وحاضره وفي راحته اليوم وعنائه بالأمس، فلم تكف نفسي عن الرثاء للجمل والنفور من إهانته والاستخفاف به، وأن في جر العربات وحمل الجلاجل ما يذهب بوقاره وهيبته.
الأربعاء 27 محرم/8 نوفمبر
بين الاستقلال والتقليد
من أشق الأمور وأثقلها على النفس أن يرى الإنسان لنفسه، ويعمل برأيه، ويفكر مستقلا، ويتبع ما يهديه إليه تفكيره. كثيرا ما نرى أمرا عندنا ورثناه من تاريخنا أو اهتدينا إليه في حاضرنا، وهو صواب لا يرده عقل ولا يجتويه ذوق، ولكن ليس له قبول في الحضارة الغربية المحيطة بنا. فترى القليل يتمسك به غير مبال بالآداب الغربية وأنصارها، وترى قليلا يرونه حسنا ولا يعملون به؛ سيرا مع السابلة، وجريا مع التيار وعجزا عن الاستقلال، وخجلا من المخالفة. وترى أكثر الناس يهجرونه ويقبلون ما يخالفه من سنن الغرب ويستحسنونه ولا يقبلون فيه عيبا، ولا يدركون فيه نقصا؛ إذ كان ميزانهم فيما يأتون وما يذرون عمل الغرب وتركه. كل ما جاء عن الغربيين وصلوه بهذه الحضارة الباهرة، واحتجوا بها كلها، كأن الحضارة التي أخرجت هذه العلوم والصناعات لا تخطئ في الأمور الاجتماعية، ولا تنشأ فيها سنن سيئة، وكأن كل سنة تستحسن عندهم هي حسنة عندنا لا محالة. وكم عند الغربيين من مساوئ هم يعرفونها، وهم يعيبونها! وكم عندهم من آداب هي لهم حسنة وهي لغيرهم قبيحة!
إننا في فتنة عمياء من هذا العصر، وفي حيرة وقلق. والعاقل الشجاع الحر ذو الرأي، هو في جهاد دائم من القول والفعل، يسخر الناس منه وهو يسخر منهم، ويقول فلا يسمع له، ويعمل فلا يقتدى به، ولكن أخذ الله الميثاق على أولي العلم والرأي أن يصدعوا بالحق لا يبالون، وأن يتبعوه ولو كره المبطلون.
الخميس 28 محرم/9 نوفمبر
خلوة إلى النفس
ما أكثر ما يشغل الإنسان عن نفسه، تتوالى الأيام وهو في شغل من أعمال نافعة أو ضارة، جليلة أو حقيرة، لا يتلبث حينا ليسأل نفسه: فيم أنت، ولم نهجت هذا المنهج ولم آثرت هذا العمل؟ والذي يدركه في هذه الشواغل هو ما يخلص إلى عقله وقلبه من هذه الضوضاء المحيطة، والعجاج الثائر، لا يفرغ لتمحيصه ولا هو مستوح له قلبه وعقله، فهو يسمع ويقرأ ذاهبا مع التيار، ويسير ماضيا مع الركب.
وإذا خلا الإنسان إلى نفسه، ونفى عن سمعه وعينه حينا ما يشغلهما كل حين من الأصوات والمرائي، واستوحى ربه، وسمع قلبه في سكون الليل وهدأة السحر، فعسى أن يفقه في ساعة ما لا يفقه في أيام، بل يدرك في لمحة ما لم يدرك في سنين، وعسى أن تتنزل عليه في هذه الخلوة من المعاني ما لم يخطر له، وما يحسب أنه بعيد عنه، وعسى أن يفتح له في خلوته طريق في الحياة جديد، ويبين له رأي في نفسه سديد، فيعدل عن نهجه الأول، ويحيد عن عيشته الماضية. إن كان شاعرا أو كاتبا انثالت عليه الأفكار، وواتته الصور وحيا على القلم واللسان، لا ينصب له، ولا يتكلف. وأحسب أن كثيرا مما اخترع الناس، وكثيرا مما أبدع فيه المفكرون كان من بركة هذه الخلوات، وإلهام هذه الساعات.
ونحن في معيشتنا هذه، قل أن نظفر بخلوة نسكن إليها، ووقت نجمع فيه أنفسنا، فنمضي مع السابلة، ونقول على القائلين في قلق واضطراب وصخب، فليتلمس كل واحد خلوته، وليبعد عن الضوضاء جهده، وليتوجه إلى الله الملهم الهادي، وينصت إلى ما في سريرته، ويصرف سمعه وبصره عن الناس قليلا، ليتلقى عن ربه، ويأخذ عن قلبه، فهذه ساعات أجدى من السنوات، هي ساعات يهتدي بها الإنسان ما لا يهتدي في طويل الزمان.
الجمعة 29 محرم/10 نوفمبر
على ضريح القائد الأعظم
ما تزال عواطف أمة تجيش، وآمالها تطمح، وعزائمها تمضي حتى تجمع أو تكاد على مقصد تقصده، ومطلب عظيم تطلبه، وفيها المخالف والمتردد، والخائف واليائس ومن لا يبالي. ويقيض الله للأمة زعيما يدعوها وقائدا يقودها ويحدوها فتسلس القياد، وتستقيم على الطريقة وتشجع على المخاوف، وتقدم على الأهوال، وتمضي على كل حال، وينحاز إلى القافلة من المخالفين والمترددين والخائفين واليائسين وغير المبالين. ويبقى من هؤلاء جميعا من ينظر وينتظر ويقدم ويحجم حتى يرى الأمر جدا والسير قدما، والغاية قريبة، فيصحب الركب طوعا أو كرها.
وتوفي الأمة على الغاية، فتنظر إلى القائد شاكرة، وتجمع على إعظامه معترفة، ويبقى الزعيم قائد السلم كما كان قائد الحرب، ودليل الحضر كما كان دليل السفر. وبعض السلم أشد حاجة إلى القيادة من الحرب، وبعض الحضر أحوج إلى الدليل من السفر. فما تزال الأمة في كفالة زعيمها وقيادته وهدايته، فيجمع الكلمة، وينفي التخاذل ويدفع الشبهة، ويدير الأمور، حتى يوافيه الأجل والكلمة عليه مجتمعة، والنفوس له متطلعة. ويختم الموت الصحيفة المجيدة ويصونها ويقدسها، فإذا مجد الزعيم فوق كل خلاف، وإذا سيرته أعلى من كل ريب، وإذا الزعيم بعد موته أعظم قيادة، وأكبر في الأمة سيادة، وإذا سيرته التي ختم عليها الموت لا ينقص فيها خطب ولا يزيد، سنته للأمة لا تنقطع ولا تتبدل، وطريقته لا تخفى ولا تتحول. ذلكم ما جال في نفسي بعد زيارة الزعيم الكبير «القائد العظيم» محمد علي جناح رحمه الله.
السبت 1 صفر/11 نوفمبر
اللاجئون
هذه الملايين من البشر الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وهجروا مواطن الآباء والأجداد، وفقدوا من أهليهم كثيرا، واستبدلوا بالغنى والعزة، وبالطمأنينة والدعة، الفقر والذلة والقلق والنصب، هؤلاء المشردون الذين تلقاهم في كراچي حيثما توجهت، وأمثالهم في ديار العرب أخرجهم من فلسطين بغي اليهود ومن ناصرهم من أنصار البغي وعبدة المنافع والأموال، وغير هؤلاء من المشردين في أقطار أخرى؛ كل أولئك شهود على ظلم الإنسان وقسوة الإنسان وجهل الإنسان. إن في أرض الله متسعا لعباده، وإن في رزق الله كفالة لهم. وكانوا - لو اتسعت عقولهم وأخلاقهم - جديرين أن يعيشوا متحابين في أرجاء الأرض على اختلاف الأجناس والأديان.
إنا لا نلوم الغوغاء والدهماء في كل قبيل، فهم أقرب إلى البهائم، وأخضع للأهواء والغرائز؛ ولكن نلوم من يتزعم الأمم زاعما أنه عليم حكيم، قد تحلى بالإخلاق واعترف بحق الإنسان، وأدرك معاني الرحمة والبر والعدل. هؤلاء العامة المتزعمون ينفخون في الأمم نار العصبية والعداوة حتى يثيروها كالوحوش على جماعات أقل عددا وأضعف مددا، فيقتلونهم ويجترحون فيهم كل إثم، ويأتون كل منكر، فيخرج من أفلت من القتل هائما يبغي في الأرض وزرا حتى يلجأ إلى مأمن من جماعة تعطف عليه وتنصره وتؤويه جهد ما يستطيع الناس إيواء الألوف ومئات الألوف وألوف الألوف خرجوا لا يحملون مالا ولا زادا.
ولو وجدوا ما في ديارهم من طعام ودار، فأين الوطن ومعاني الوطن وأين ملاعب الصبا ومغاني الآباء؟
ألا إن الإنسان يشقي نفسه
والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
الأحد 2 صفر/12 نوفمبر
الاضطراب والقلق في هذا العالم
الحرب دائرة في كوريا تطحن النفوس، وتخرب الديار، وتهلك الحرث. فيها أمريكا ومن ناصرها سافرة، وفيها كوريا الشمالية ووراءها الصين الشيوعية، ووراء هذه روسيا محجبة. وزحفت جيوش الصين فاستولت على التبت. ولا ندري أي صلة بين هذه الحوادث وفرار ملك نيبال من وطنه إلى الهند! وكشمير يرابط فيها جيش باكستان وجيش الهند، والحق فيها أبلج، ولكن لا يعترف به الهنادك. والحرب في الهند الصينية قائمة بين الفرنسيين تؤيدهم أمريكا وبين ثائرين تمدهم روسيا وألفافها. وفي الملايو ثورة على الإنكليز شيوعية، للروس فيها إصبع. وكانت الحرب مشتعلة في برما منذ قليل، ولا تزال تدخن، وفي غير هذه البقاع من العالم خوف وقلق. أعرف لهذا أسبابا؛ أحدها: غلبة الجثمانيات على الروحانيات، وانطلاق الأهواء والمطامع إلى غير نهاية. فالروحانيات قوانين تجمع وتؤلف، والماديات نزعات متصادمة يدفعها جشع كل نفس، وشهوة كل جسم، فهؤلاء المسيطرون على العالم من غير الشيوعيين صاروا آلات مسخرة ومسخرة، تسخر الناس وتسخرها الأهواء والمطامع. وهؤلاء الشيوعيون دعاة المساواة لا الأخوة، لا يعرفون إلا التساوي في القوت، وأما الألفة والمحبة، والوئام بين الناس، والتسامي إلى عالم الروح، والاتصال بخالق الكون، وكل ما أدركته البشرية من معان عالية وقوانين سامية وأخلاق فاضلة، فليست عندهم شيئا مذكورا.
إن الناس أنعام همها الطعام، ونحن - معشر الشيوعيين - نسوي بينهم في المرعى أو نعدهم هذه التسوية، وليس وراء هذا شيء. فترى الشيوعيين يثيرون العداوة والحرب والدمار في الدعوة إلى مذهبهم، وليس وراء هذا - إن استقر الأمر لهم - إلا حرمان البشرية من أسمى منازعها وأعلى مطامعها. بئست الوسيلة والغاية!
الإثنين 3 صفر/13 نوفمبر
العجز والقدرة
من الجماعات جماعات عاجزة لا تعرف حاجاتها وكمالياتها، أو تعرف ولا تهتم بأن تفعل، أو تهتم ولا تعمل. ومنها جماعات قادرة تدرك فتعنى فتعمل، والماضي والحاضر شهيدان على ما أقول. الجماعة القادرة تطلب العلم وتبحث فيكشف لها عن كثير من حقائق الكون وأسراره، فتعلم أنها تستطيع أن تنتفع بحقيقة من الحقائق في مرفق من مرافق العيش، فتجد في أنفسها من الهمم ما يدعوها إلى العمل، ومن العزيمة ما يستجيب لهذه الدعوة، ومن الخلق والنظام ما يكفل التدبير والتوسل والإعداد والتعاون والدأب والصبر، حتى تبلغ الغاية، فليس بين إدراكها الأشياء وانتفاعها بها إلا سلسلة متصلة محكمة من الهمة والعزيمة والإعداد والعمل والدأب ... وهلم جرا. مقدمات متتابعة تفضي إلى نتائجها لا محالة؛ في العظائم والصغائر. والجماعات العاجزة جاهلة بحقائق الأشياء أنى تتوجه إليها، أو عالمة والنفوس هامدة، والهمم قاعدة، فلا يحركها العلم إلى الطلب، أو ليس لها من الهمم ما يجعلها تطمح وتهم وتعزم، أو ليس لها من الخلق ما يجمع كلمتها ويؤلف بين عقولها وأيديها لتعمل، أو ليس عندها من النظام ما يهيئ لها السير المتصل الدائم، أو ليس فيها من الدأب ما يوالي سيرها إلى الغاية أو يعوزها الصبر إذا طالت الطريق وبعدت الشقة وصعب المسير، فتراها تأخذ مقدمة فلا تثبت عليها أو لا تصلها بمقدمة أخرى، فتنقطع بها الأسباب بين علمها وعملها، وبين العمل ونتائجه.
وعمل زعماء الأمم والمصلحين فيها أن يعلموها ويصلوا العلم بالعمل، والعمل بالنتائج في سلسلة من الأخلاق وحلقات من الوسائل المحكمة والتدبير الصحيح. وليس هذا يسيرا، إنه بعث الأمم من رقدتها وإيقاظها من سباتها.
الثلاثاء 4 صفر/14 نوفمبر
الغفلة
الأفلاك متحركة، والأرض دائرة، والرياح لا تستقر، والأنهار والبحار لا تسكن، والليل والنهار لا يفتران، والنبات في نمو واهتزاز، والحيوان في حركة دائبة؛ حركة الأعضاء الظاهرة والباطنة وحركة الخلايا. بل ذرات الجماد في هياج وتقلب لا يسكنان.
فإن غفل الإنسان، وكل شيء حوله في حركة وعمل، فقد تخلف؛ تخلف عما ينبغي له من عمل وتخلف عما يجدر به من تقدم في الفكر والخلق والسعي، وخمد عقله، وضعف جسمه ولم يساير القوانين المحيطة به، فهو في الإنسانية دون منزلته، وهو في جماعته دون درجته، وهو في عمله مقصر، وهو في نفسه لا يبلغ ما ينبغي له من الكمال في العلم والفكر والعاطفة.
فالغفلة - نعوذ بالله منها - حجاب بين الإنسان وبين إدراكه وإلهامه والدعوة التي تبلغه من كل جانب؛ الدعوة إلى العمل والسعي والجد والدأب، وإلى الكف عن الفساد والأذى، وكل ما يهين النفس ويشينها. الغفلة درجة من الموت لو برئت من الإفساد والإضرار، وقد جاء في القرآن الكريم:
لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل
ثم جمع هذا كله في خاتمة الآية:
أولئك هم الغافلون . وفي آية أخرى جمع هذه الأحوال التي تحجب الإنسان عن الدعوة الإلهية المستمرة - الدعوة إلى التكمل والتقدم، والجهاد في الأرض بالحق - بقوله:
نسوا الله فأنساهم أنفسهم . فليستعن الإنسان ربه وليوقظ نفسه ويحركها دائما ويعرضها لتلقي معاني الجمال والحق والخير، ويسقها إلى العمل ويحببه إليها حتى تعشقه فتستقيم على الطريقة، مجتازة مراحل بعد أخرى إلى الغاية التي يعلمها الله.
الأربعاء 5 صفر/15 نوفمبر
سجلها واسترح
للإنسان أعمال كثيرة، وللأعمال أوقات لا ينبغي أن تقدم عليها ولا تؤخر. والعامل المجد البصير بوسائل النجح يقسم أعماله إلى أوقات، ويجعل لكل عمل موعدا، ويوقت لصلاته بالناس مواقيت يلقاهم فيها أو يكاتبهم أو يحدثهم بالهاتف.
ومن الناس كثير النسيان يغلب نسيانه على ذكره، ومنهم من يعدل ذكره نسيانه، ومنهم من لا يكاد ينسى. والفريقان الأول والثاني حتم عليهما أن يجعلا لأوقاتهما وأعمالهما سجلا يذكر بكل عمل في وقته، فإن لم يفعلا نسيا العمل في وقته، والموعد في حينه، واضطربت الأعمال والمواعيد.
والآخرون يثقون بتذكرهم، ويتحدثون بأنهم لا ينسون أعمالهم في مواقيتها، ويحسبون أنهم في غنية عن اتخاذ المذكرات ثقة بأنفسهم. ولهؤلاء أقول: إن الذاكرة مهما تكن قوية جديرة بالثقة، عرضة للنسيان، والورق أوثق منها لا محالة، ولو لم تكن عرضة للنسيان فالتذكر شغل يراقبه صاحبه بين الحين والحين ويبعد عنه النسيان ويخشى أن يطرأ عليه. فلماذا لا تريحون خواطركم، وتعفون عقولكم من القلق وتضعون الأحمال عنها في ورقة تكفل لكم الذكرى في غير مشقة ولا خوف، فإن ذكركم مهما قوي واستحكم، لا يسلم من الغلط والسهو، ولا يبلغ مبلغ التسجيل في ترتيب الأعمال وتقسيمها، ولا سيما حين تكثر الأعمال وتزدحم بها الأوقات. فعودوا أنفسكم التسجيل والترتيب، واتخذوا هذه الدفاتر المذكرة فهي أسلم عاقبة، وأخف حملا وأقرب إلى الطمأنينة والثقة. ولا يغرنكم ما عهدتم في أنفسكم من الذكر فإن اختلاف النهار والليل ينسي.
الخميس 6 صفر/16 نوفمبر
قسوة العقائد والعادات
ليست قسوة القوي على الضعيف، والقادر على العاجز شيئا لو قيست بقسوة العقائد والعادات في الجماعات. فالمرأة التي كانت تحرق نفسها حين يموت زوجها، والإنسان الذي يسلم نفسه لكل مذلة، ويقبل السخرة لكل دنية؛ رضا بما علم، واستسلاما لما أسلم إليه، قست عليهما عقائد فقبلا عذاب الموت وعذاب الحياة كأنهما راضيان يختاران الموت، والموت اضطرار كما يقول المتنبي.
والمرأة التي لا تخرج من دار أبيها إلا إلى دار زوجها أو القبر، ولا تخرج من دار زوجها إلا إلى القبر أو عائدة إلى دار أبيها، والتي يبطش بها زوجها أو أهلها فلا تشكو ولا تفر، قد قست عليها العادات، ولكنها فقدت من قسوتها الشعور بالألم: ما لجرح بميت إيلام!
وكثير من الناس في قهر العادات أو العقائد يتكلفون ما لا يطيقون، ويبذلون ما لا يملكون، كالولد الذي يلقى في بيئة فاسدة من قسوة أهله وحملهم إياه على ما يكره، وحملهم ما يكره عليه، والخادم في بيئة مستبدة يحمل من تسلط سيده وبطشه ما لا قبل له به، والذي يقترض المال ويلتمسه بكل وسيلة ليبذله في عرس أو مأتم.
فعلى مرشدي الأمم ومشرعيها أن ينظروا إلى ما تحت أثقال العادات والسنن السيئة من بائسين منكودين، وإلى ما وراء الرضا الكاذب الذي يشبه رضا الموتى من قتلى وجرحى، ويرحموا الناس من قسوة السنن والعادات، كما يرحمونهم من كلب الفقر والمرض، وكما يرحمونهم من قوي لا يرحم وسفاك لا يشفق ومجرم لا يبالي.
كم ذهب مع الأيام ممن لقوا عنت العقائد الفاسدة والسنن الباطلة في أنفسهم وأبدانهم وأموالهم! وكم في الناس اليوم من رازح تحت هذه الأثقال الباهظة، ولو عقل لرحم نفسه، ولو عقل الناس لرحموه!
الجمعة 7 صفر/17 نوفمبر
العقول محجوبة بالأهواء
ثار خلاف بين دولتين إسلاميتين: باكستان وأفغانستان، ولا أسمي المعتدي والمعتدى عليه، فليس هذا من قصدي في هذه الكلمة.
لقيت ناسا من هذه الدولة وناسا من تلك؛ فكل يدعي أن جماعته على حق وأنهم يرعون الأخوة الإسلامية والجوار، ولا يبغون إلا الخير، ولا يحبون أن يزيدوا شواغل إخوانهم ويكثروا معضلاتهم بهذا النزاع، وأنه رغم الأنف أن ثار هذا النزاع ورغم الأنف أن يدوم. وبعض هؤلاء مجادل متعصب تغلب عصبيته عليه غلبا بينا، وبعضهم يوحي إلى سامعه أنه مؤمن بما يقول، مخلص فيما يدعي.
قلت: العقول محجوبة بالأهواء والمطامع والعصبيات، لا يسلم منها إلا من هدى الله وعصم. وبعض هذه الآفات تختفي وتستتر في غيابات النفس حتى تخفى على صاحبها فيحسب نفسه مخلصا للحق، مؤثرا للصدق، ساعيا للخير ليس له فيما يقول مطمع ولا هوى. وهو في الحق منقاد لمطمع خفي أو مغلوب بهوى باطن. ولولا الأهواء ما اختلفت العقول هذا الاختلاف، ولما كان اختلافها باختلاف الجماعة، كل عاقل في هذه الجماعة يرى رأي العقلاء فيها، وكل عاقل في الجماعة الأخرى يرى رأي عقلائها. لو كان الأمر للعقل والحق لرأيت عقلاء من فريق ينصرون عقلاء من فريق آخر، ولكان الاختلاف في كل فريق، وما انحاز فريق كله إلى دعوى، وانحاز الفريق الآخر كله إلى دعوى، فإن الحق لا يتبع الحدود الجغرافية والجنسية. إنه الهوى الخفي، وهو أشد مراسا وأعظم ضررا من الهوى الظاهر. صاحب الهوى الظاهر مظنة أن يرجع إلى نفسه فيثوب إلى الحق ويؤثر العدل، وصاحب الهوى الباطن كالمريض الذي لا يعلم أنه مريض. وكما يحتاج الداء الخفي إلى طبيب يلتمسه في الجسم كله ويتقصى علاماته وأعراضه حتى يتبينه، كذلك صاحب الهوى الخفي يحتاج إلى من يتلطف له حتى يكشف عن دائه. ولكن المريض يسعى لمعرفة الداء فهو عون للطبيب، وصاحب الهوى يجادل عن هواه فهو عون للهوى على الناصح!
السبت 8 صفر/18 نوفمبر
ما وراء هذا الإسراع
سار بنا الحديث في مجلس إلى وسائل الانتقال وسرعتها في هذا العصر، فتحدثنا في سرعة الباخرات والسيارات والطائرات. وذكرنا أنواع الطائرات، وزيادة سرعتها كل حين، وأن طائرة تطوي المسافة بين لندن والقاهرة في خمس ساعات، وطائرة حربية تطوي ثمانمائة ميل أو ألفا في الساعة ... وهلم جرا.
فجأت المتحدثين بسؤالي: ما وراء هذا الإسراع؟ سكت بعض، وابتسم بعض، وعجب آخرون أن أسأل عن جدوى السرعة في عصر السرعة! ولكني كررت سؤالي: ماذا وراء هذا الإسراع؟
قال أحدهم: إن الإسراع يبلغ الإنسان مقصده في زمن قليل فهو يقرب المقاصد، ويوفر الوقت فيوسع العمر. قلت: إن كانت المقاصد التي نسرع إليها مقاصد نافعة، وحاجتنا إليها تلائم الإسراع في تحصيلها، فلا بد من الإسراع ولا ريب في فائدته. وأما إن كان المسرع يقصد السير والتنزه لا غير فليس في إسراعه نفع، وفيه تنغيص المسير والتعريض للهلاك. وإن كان يقصد إلى الجلوس الطويل في ندي أو مقهى فلماذا يسرع ليجلس ويجد ليبطل؟!
وإن كان المسرع مسافرا يقصد إلى مكان يستريح به ويستمتع بالإقامة فيه فلعل في الطريق متعة وراحة كذلك، ولعل في ركوب الباخرة ما يتصل بقصده أكثر من الطائرة. وإن كان الإسراع ليسبق تاجر تاجرا ببضاعته في الأسواق، وسواء عند الناس أن تسبق إليهم بضاعة هذا التاجر أو ذاك، فليس في هذا الإسراع نفع، ولكنه ينفع إنسانا أو جماعة ينافسون في جمع المال.
إن الإسراع قد ذهب بالسكينة والطمأنينة، ونال من أجسام الناس وعقولهم، فينبغي ألا يكون إلا لضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.
الأحد 9 صفر/19 نوفمبر
في السلك السياسي
هذا النظام ولد في أوروبا ونشأ وترعرع، فجمع كثيرا من سننهم وآثار تاريخهم. كان في أوروبا ملوك متنافسون يتحاربون ويتصالحون، وكان الملك يرسل رسولا إلى ملك آخر فيبالغ الرسول في أبهته والإعراب عن عظمة ملكه وقوة بلاده. وتنافس الرسل الذين يرسلون إلى ملك واحد في تقدم بعضهم على بعض، ومفاخرة بعضهم بعضا، فوضعت قوانين تنظم صلاتهم ودرجاتهم، واجتمعت على مر الزمان ضروب من المراسم عمل بها الممثلون السياسيون. ولكن حرية الأمم وتسلطها، وضعف سلطان الملوك وغلبة الشورى، وميل الناس إلى التحلل من القيود قللت من هذه المراسم، وحطت من شأنها. فالتمثيل اليوم قول وعمل في مصالح الدولتين، دولة الرسول والدولة المرسل إليها، وفي مصالح البشر. ولم يبق للدسائس والمكر والخداع، والقمر شأنها الأول.
وبقيت مراسم محببة إلى الناس من الزيارات والحفلات التي تجمع الرجال والنساء في زينتهن وفتنتهن، وما يتصل بهذه من آداب وضعوها وحرصوا عليها، وأكثرها رياء وسخافة. ولا يزال بعض الممثلين، ولا سيما الشبان يحسبون أن هذه الحفلات وما فيها من لهو ومتعة لها المكان الأول في أعمال الممثل، فإن أحسنها وشهدها فحسبه، وليست في الحقيقة إلا ضروبا من اللهو، أو وسائل إلى التعارف تقدر قدرها، وينبغي ألا يغالى في تقويمها. وترى كثيرا من أهل الشرق - ولا سيما المسلمين، وهم لم يتعودوا هذه الأمور في بلادهم - في خلاف وقلق وحيرة، منهم من يفعل ما يفعل الغربيون وزيادة، ومنهم من يقف على الحافة يشهد الحفلات ويدعو إليها ويتبع فيها رأيه. وقد آن أن يكون للمسلمين - وقد استقلوا بأمورهم - آداب في اجتماعهم وتزاورهم يخالفون غيرهم ويوافقونهم برأيهم، ويسيرون على سنن ملائم لعاداتهم وآدابهم وأفكارهم.
الإثنين 10 صفر/20 نوفمبر
المسلمون بين الماضي والحاضر
كان للمسلمين مجد على الأرض وسلطان، وقد صرفوا حينا صروف الزمان. وتاريخ المسلمين فصل عظيم في تاريخ العالم، ولا يزال هذا التاريخ العظيم يوحي إلى المسلم العظمة ويحدوه المجد، وسيبقى هذا التاريخ موحيا ملهما، نافخا في النفوس الخامدة، منيرا في الآفاق المظلمة.
وحتم على المسلم أن يذكر تاريخه ويعتز به، ويجهد أن يكون له في عصره تاريخ كتاريخه الأول أو أعظم. فإنما يتصل سير الأمم بتاريخها، وتقوى على السير بذكرى هذا التاريخ، تدوي في الأنفس دعاة العظائم حداء وصوى على الطريق ونورا وضاء.
ولكن ينبغي للمسلمين أن يذكروا كل حين أن عظمة الماضي إنما توصل بعظمة الحاضر وطموح المستقبل، فمن خذل حاضره ماضيه، وعق يومه أمسه، وصم عصره عن نداء الأعصر الخالية؛ فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل، وقد انقطع عن الموكب العظيم الذي يسير من التاريخ القديم إلى التاريخ الحديث، وحرم الحق في أن ينتمي إلى هذا التاريخ ويفخر به. فإنما التاريخ أعمال وسير، لا أرض وجبل وبحر، فرب إنسان يعيش بجسده حيث عاش آباؤه الأولون، ولكن لفكره وروحه، وهمته وعزمه مواطن غير مواطنهم، فهو غريب فيهم جنيب بينهم.
فليصل المسلمون تاريخهم قبل أن يفخروا بهذا التاريخ، ويبروه قبل أن يعتزوا إليه، وليعلموا أن صفحة الحاضر أوسع، وقلمه أكتب، ومعانيه أجل، وأن الزمان قد أفسح لهم ليخطوا كما خط آباؤهم ويزيدوا، ويمضوا في المجد طريقا جديدة ولا يعيدوا.
الثلاثاء 11 صفر/21 نوفمبر
تخويف الإنسان بالموت والآفات
مضى كثير من الوعاظ على تخويف الإنسان بالموت والآفات المحيطة به وتذكيره كل حين أنه ميت اليوم أو غدا، وأن ما يجمع بكده وحرصه ليس له، وأنه اليوم وارث وغدا موروث، وأنه محاط بآفات من المرض والحادثات وغيرها. يجتهد الوعاظ أن يفلوا غرام الإنسان، ويخففوا من غلوائه بهذا التخويف. ولا بد أن يوعظ الإنسان ما دام في حاجة إلى الموعظة، ولا بد أن يذكر الموت ويوعظ به. ولكن لا أرى أن يزعزع جلد الإنسان وثباته بهذه المخاوف، فلولا هذا الجلد وهذا الثبات والجرأة على أهوال الحياة وآفاتها ما استطاع الإنسان المضي في عمله. إن حقائق هذه الحياة مثبطة هائلة، ومن نعمة الله على الإنسان أن أمده بالجلد والصبر والاستهانة بالمصائب المحيطة، والأهوال المحدقة، فينبغي ألا يسلب الإنسان هذه الدرع، ويحرم هذه الجنة.
وأما أن يكف الإنسان عن الشر ويوزع عن الإفساد، فينبغي أن تتخذ له وسائل أخرى في التربية والتهذيب. ينبغي أن يربى الإنسان على النفور من الشر، والاشمئزاز منه والتنزه عنه والاستكبار عليه، حتى لا يميل إليه ولو ظن أنه مخلد على هذه الأرض مبرأ موفور من المحن والمصائب، ثم يترك الإنسان في سبيله ماضيا على العلات، سائرا على الأهوال مؤديا واجبه، هاجما على المشقات مستهينا بالعقبات.
إن من نعم الله على الإنسان أن جعله على ضعفه أقوى من المخاوف والمهالك المحيطة به، فلا يسلب الإنسان سلاحه، ولا يكف عن شجاعته، وليصلح بما في نفسه من الشجاعة والإقدام والطموح والعزم والكبرياء. وإلا لجأ الناس إلى الصوامع، وقعدوا باكين من ذكر الموت فزعين من نذره، وجلين من الآفات التي يعرضون لها في كدحهم للمعايش، وسيرهم إلى الغايات التي خلقهم الله لها ودعاهم إليها.
الأربعاء 12 صفر/22 نوفمبر
شتان ما بين إنسان وإنسان
سمعت في كراچي قائلا يقول: قد استأجرنا هذه الدار ورممناها، وكان هنا جدار بين دارنا والدار المجاورة، جدار قصير مائل خرب فهدمناه وأقمنا هذا الجدار السوي الذي ترى، قال: والعجب أن صاحبة الدار المجاورة جاءت تقول: لم هدمتم جداري؟ قلنا كذا وكذا، وهذه أنقاضه، فخذيها. فأخذت الأنقاض، وما كادت تقنع. قلت: وجار لنا في مصر أردنا أن نبني بالبلاط حجرة صغيرة واقتضى العمل أن نضع بلاطات فوق الجدار الذي بيننا، قال: جداري لا تضعوا عليه شيئا! فعجبنا وقلنا: إن من الناس من تحمل مروءته أن توضع هذه البلاطات على كتفه. ثم قال: اكتبوا أنه جداري وأن وضع أحجاركم عليه لا يكسبكم فيه حقا، فكتبنا. قال: لا بد من تسجيل الورقة، وهذا يحوج إلى مال. فعلمنا أنه يريد أجرا لوضع الأحجار على جداره، وكان جارنا غنيا واسع الغنى، قلنا: قبحك الله وقبح جدارك وجوارك ورفعنا أحجارنا واسترحنا!
ومن الناس من يأذن لك أن تهدم جداره لمنفعتك مروءة ورعاية للجوار، بل من يهدم جداره لك أو يعمل ما هو أعظم نفقة ومشقة من هدم جدار.
وهكذا يجد المتأمل فروقا بين إنسان وإنسان، أكثر ما يجد بين جنسين من الحيوان، نفس فيها شجاعة ومروءة ومودة وصدق، ينال نجدتها البعيد والقريب، ونفس شحيحة جبانة خداعة كذابة يحرم معروفها البعيد والقريب؛ بل تحرم هي معروفها فلا تنتفع بما تملك من مال، ولا تنعم بما أفيض عليها من نعمة. الأولى شجرة مظلة مثمرة في البرية يأكل منها الناس ويأوون إليها، والثانية شجرة جرداء شائكة لا ينال أحد ظلها ولا ثمرها، ولا يسلم من شوكها من اقترب منها.
يفر جبان القوم عن أم رأسه
ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
ويرزق معروف الجواد عدوه
ويحرم معروف البخيل أقاربه
الخميس13 صفر /23 نوفمبر
آفة الناس هذا التسلح
شهدنا - لشقائنا - في صبانا وكهولتنا حربين طاحنتين لأمد مرتين، عمت العالم نيرانهما وشملت الأقطار مصائبهما. والدول الكبرى اليوم في شغل شاغل من الإعداد للحرب بآلات فيها قنابل الذرة والهيدروجين وغيرها مما علمه إبليس، وحذقه أولاده. فعقول البشر وأيديهم، وأوقاتهم وآلاتهم ومصانعهم، كل أولئك في شغل بآلات الحرب، وتدبير خططها، واختيار مواطنها.
وهذه العقول والأيدي وما تصنع، إذا وقعت الواقعة، تدمر ما صنع البشر في الأوقات التي لا يشغلها الإعداد للحرب. فقوى الناس النفسية والجسمية متصادمة متقاتلة تصنع للحرب في جانب، وللعمران في جانب، ثم تسلط ما صنعته للحرب على ما صنعته من عمران فتدمره.
ولو أن الناس آمنوا واتقوا، وتحابوا وتآخوا، وعملوا جهد عقولهم وأيديهم، وجدهم ودأبهم، للسلم لا للحرب، والبناء لا للهدم، وللإحياء لا للقتل، ولأسو الجروح لا للجرح، لو أن هذا الشغل الشاغل، والجهد الجاهد، بالليل والنهار، والجهر والإسرار، قصدا إلى عمران الأرض، وإخراج زروعها وركازها، وإلى تشييد المدن وتعبيد الطرق وإلى التسلط على الطبيعة لتحصيل خيرها واتقاء شرها، وإلى إصلاح نفوس الناس وأجسامهم؛ لغلب الناس الشقاء والبؤس في هذا العالم أو كادوا.
ألا إن أصل البلاء ومطلع الشقاء التباغض والتنافر، وجعل العالم مصنعا للسلاح تعمل فيه الجماهير، ويدبره العلماء والساسة ليدمروا ما صنعوا حين يشاءون، فتراهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون.
الجمعة 14 صفر/24 نوفمبر
وباء في الأخلاق
يقع وباء في بلد فيفرض أولو الأمر ألا ينتقل أحد من بقعة إلى أخرى، ويحظروا أن ينقل طعام من مكان إلى مكان، ويلزموا الناس في طعامهم وتجارتهم حدودا يتقون بها العدوى. ويرى جماعة من الجهال أن يخلصوا من القيود، ويتجاوزوا الحدود، فيحتالون ويرشون الرقباء فيجوزون. ويجد تاجر شره أثر فرصة إلى ترويج سلعة ينقلها خفية، أو يخالف في بيعها الشروط المفروضة، فلا يبالي ما يصيب الناس من هلاك إن نال ربحا خسيسا وثمنا قليلا.
سمعت بحوادث من هذا القبيل في بلد موبوء فأنكرتها، ثم سمعتها فأكبرتها، ثم تواترت فصدقتها دهشا بعد أن كذبتها.
قلت لمن أنبأني بهذه المنكرات: إن صدقت مقالتك فليس الوباء في أجسام الناس، وليست جراثيمه في الطعام والشراب؛ ولكنه وباء في النفوس تظهر أعراضه عليها، وتبطن جراثيمه فيها. إنه وباء في الأخلاق، وإنه لمختلف الأعراض، كثير المظاهر. فابدءوا بإبراء النفوس وتطهيرها وتحصينها؛ يتيسر لكم كل دواء، ويذعن لطبكم كل داء. داووا النفوس وطهروها تغلبوا الآفات في الزرع، والأمراض في الماشية، والأدواء في الإنسان، والفساد في كل عمل.
وعبثا تحاولون أن تطبوا للداء الظاهر قبل أن تبرئوا النفوس من الداء الباطن.
السبت 15 صفر/25 نوفمبر
أثر البيئات في الأدباء
أولع الأدباء المعاصرون من كتاب الغرب - وسار على أثرهم كتاب الشرق - بالكلام عن البيئة، والإفاضة في بيان تأثيرها على أهلها. وكانت جدة هذا المذهب في بلادنا داعية إلى الإعجاب به والإفراط فيه، فحاول مؤلفون أن يشرحوا الشعراء بآثار البيئة كما تشرح قصيدة أو مقالة. وكان لهم في هذا مسالك عجيبة، فإذا قيل: إن المعري مثلا غلب عليه الانقباض والتشاؤم؛ رجعوا إلى البيئة يبينون مقدمات الحزن في نفس المعري. وإذا قيل: إن المتنبي كان ثائرا يحاول ملكا؛ التمسوا مقدمات هذه النزعة في البيئة. وإذا تكلموا عن كاتب قوي الأسلوب تعرفوا أسباب القوة في بيئته، فإذا عرض لهم ضعيف الأسلوب تحروا أسباب الضعف في البيئة نفسها! ولست آخذ عليهم الاهتمام بتأثير البيئة في الناشئ فيها، ولكن آخذ عليهم الغلو في هذا ومحاولة تعليل كل شيء بالبيئة، فالبيئة لها آثار ولكنها ليست كل المؤثرات. ولو كان مذهبهم حقا لأخرجت البيئة أشباها لا يختلفون من الكتاب والشعراء، ولكن البيئات تخرج متشابهين ومتخالفين.
ينبغي أن تقدر فطرة الإنسان كما تقدر البيئة أو أكثر، وينبغي أن تقدر المؤثرات التي تصل إلى الإنسان من وراء الأزمنة والأمكنة. فقد يقفو الناشئ آثار نابغ نبغ في غير عصره وغير أرضه فيوافق مذهبه مزاجه أو هواه فينطلق على آثاره مقلدا ويقفو خطاه مؤتما.
ثم يتهاون إخواننا حتى يصوروا البيئة الواحدة بصور مختلفة تبعا لصور الكتاب المختلفين الذي نشئوا فيها، فهم لا يعرفون البيئة حق المعرفة ثم ينظرون إلى الناشئ فيها؛ بل ينظرون إلى الناشئ ثم يتوهمون بيئة ملائمة لطباعه مؤثرة في مزاجه، وهذه مدحضة الآراء ومزلة المذاهب. فليتثبت الباحثون وليقتصد المبالغون.
الأحد 16 صفر/26 نوفمبر
في العالم مجال واسع للتعمير
تحدثت اليوم مع سفير أمريكا حينما زارني في السفارة عن الأنهار والأودية التي يضيع ماؤها في الصحاري والبحار، وعن الأرض الشاسعة التي تصلح للزرع وهي غير مزروعة، فذكرت ماء النيل ودجلة والفرات ونهر العاصي وأودية جزيرة العرب، إلى ما في بطن الأرض من مياه يمكن استخراجها. والحق أن كثيرا من الأقطار الغامرة يمكن زرعها بكثير من المياه الذاهبة سدى. وفي مصر من يفكر في سوق نهر النيل إلى الصحراء الغربية؛ يسقي الصحراء فيجعلها مزارع وبساتين، ويخفف عن البلاد خطر الفيضان حينما يطغى النهر.
وأذكر أن جماعة من المهندسين المصريين دعوا إلى سوريا للنظر في الانتفاع بمياهها لسقي أراضيها فقالوا: إن في سوريا مياها تكفي لزرع أرضها كلها.
وفي العراق مياه تكفي لسقي أضعاف الأرض المزروعة اليوم. فإذا توسلت هذه البلاد وأشباهها في أرجاء الأرض بالوسائل الحديثة، وما عرف العلم في هذا العصر؛ أمكن إحياء أرض واسعة وإنشاء الحقول والجنات في القفار التي لا يعيش فيها إنسان ولا بهيمة. والناس جادون في إحياء الأرض، ماضون في تكثير الغلات، ولكن كثيرا من جدهم وكدهم ضائع في صناعة الحرب وإعداد الجيوش، وكثير مما يزرعون ويصنعون ويبنون ويمهدون ويسوون، تدمره صواعق الحرب، وتصادم الجيوش بين الحين والحين، فما أشقى الإنسان بنفسه! ألم يأن للناس أن يتعاونوا وينعموا بخيرات الأرض وبركات السماء ويكونوا أعوانا على الآفات الطبيعية لا أعوانا لها كما قال أبو الطيب:
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا؟
الإثنين 17 صفر/27 نوفمبر
اللغة العربية لغة المسلمين عامة
زارني اليوم في السفارة أحد نواب البنغال، وحدثني في اتخاذ العربية لسانا رسميا لدولة باكستان، وأعطاني صفحات مرموقة فيها رأيه وحجته، وقد قدمها إلى مجلس باكستان النيابي، وقال: إن في باكستان لغات عدة، وباكستان الشرقية - وفيها أكثر المسلمين - تتكلم البنغالية ، فلماذا تفضل الأردية عليها؟ إن قوما يدعون إلى جعل الأردية لسان الدولة، وقوما يقولون: بل البنغالية، وجماعة يقولون: العربية. وفي اتخاذ العربية قضاء على هذا الخلاف وبلوغ مقاصد عظيمة، وتقديم لغة القرآن.
فكرت في هذا وسألت نفسي: أيمكن أن تكون العربية لسان الدولة في باكستان؟ ثم قلت: نعم! فقد كانت العربية لسان الدولة المسيطرة على الأقطار الإسلامية كلها، ثم صارت لسان الدول التي نشأت في أطراف العالم الإسلامي في بلاد غير عربية، وكانت لسان العلم في كل البلاد الإسلامية أعصرا طويلة، ولا تزال لسان علم في البلاد الإسلامية غير العربية على ضعف شأنها. ثم هذه اللغات الإسلامية غير العربية مكتوبة بالحروف العربية وفيها آلاف الكلمات العربية، بل الكلمات العربية تكثر غيرها في كثير من الموضوعات، وكل اصطلاحات العلوم والآداب عربية، فهؤلاء المسلمون حين يشرعون في تعلم العربية، يجدون أنفسهم عارفين نصف اللغة. ولست أزعم أن العربية تكون لغة العامة في كل البلاد الإسلامية، فإنها حين انتشارها وتسلطها لم تكن لغة العامة في كثير من بلاد المسلمين، ولكن تكون لغة التعليم العالي ولغة الدواوين؛ كما أن الإنكليزية الآن لغة التعليم ولغة الدواوين وكثير من الصحف في باكستان والهند، وكما أن الأردية تعد لغة للحكومة والعلم في باكستان، وليست لغة العامة إلا في بعض الأقاليم. حبذا أن يتخذ المسلمون جميعا العربية لغتهم المشتركة في العلم والتخاطب بين المثقفين منهم، إنها وسيلة عظيمة إلى تآخيهم وتعاضدهم.
الثلاثاء 18 صفر/28 نوفمبر
التصوف في القرآن
كم قرأنا في كتب الصوفية عن الذكر والدعاء بالصباح والمساء، وعن إخلاص العبادة لله والتوجه إليه وحده، لا يريد العابد إلا وجهه، وعن أدب السالك وصبره ومضيه على الطريق لا تشغله الشواغل، ولا تفتنه الفتن، ولا تحيد به الشهوات.
وكم قرأنا عن الغفلة وآفاتها، وشؤمها على السالك ومضراتها، وقرأنا عن الإخلاص والقصد، وتبرئة النفس من أهوائها وحبسها على مكروهها، حتى لا يشوب العمل ذرة من رياء أو سمعة، وحتى لا يكون للنفس فيما تعمل نصيب إلا الحق والخير اللذين يعمان الناس جميعا.
قرأنا عن الذكر والفكر، والرياضة والجهاد، وتذليل النفس ودعوتها إلى الخير وسوقها إليه وحملها عليه واجتناب الهوى، والحذر من الأطماع الخفية، والشهوات المحجبة، ومداخل الغرور والهوى إلى الأنفس، ومسالك الخداع إلى القلب.
وقد قرأنا القرآن وحفظناه، وعرفنا من آياته وعظاته. ولكنا لم نسبر غوره ولم ندرك قراره، ولم نعطه حقه من التأمل والتدبر، فبدا لنا بعضه وخفي أكثره. وسمعت قارئا يقرأ من سورة الكهف الآية:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .
فتأملت فإذا هي جماع ما قرأنا في التصوف ووعينا، وإذا هي ملاك ما سمعنا عن الصوفية وأدركنا. وكأني لم أقرأ الآية من قبل ولا حفظتها ولا سمعتها مرات! قلت: إن في القرآن آيات نمر عليها غافلين؛ ونقرؤها معرضين، وإن القراءة لا تغني بغير تدبر، والقرآن لا يجدي بغير قلب واع وفؤاد يقظان،
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ،
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون .
الأربعاء 19 صفر/29 نوفمبر
التأويل المضحك
لقيت الليلة الشيخ حسن نظامي من ذرية الشيخ نظام الدين أوليا؛ وهو أحد الصوفية والأولياء الكبار، يقصد ضريحه الزوار من أرجاء الهند، ويشارك في زيارته غير المسلمين كذلك. وقد زرته وذكرت زيارته في رحلتي إلى الهند من الرحلات الثانية. والشيخ حسن رجل طويل أشيب طويل اللحية يلبس على رأسه كوفية خضراء - أي طاقية بلغة مصر. لقيته في دار وزير الصناعة نذير أحمد؛ دعينا للعشاء عنده معا، وكانت هناك حفيدة للشاعر أكبر الله آبادي فقلت: رأيت حفيدي شاعر معروف وصوفي مبجل، فما أسعدني بلقائهما! سلمت على الشيخ حسن فشرع يكلمني بالأردية عن ترجمته القرآن ثم أراني مجلدا فيه النصف الأول، وأهداني إياه فله شكري. واسترسل يتكلم بالأردية وأنا أتبعه يفوتني كلام وأدرك كلاما، فكان مما قال: إن نهرو هو من ذرية فرعون؛ وأول لهذا آيات من القرآن، فسر:
تبت يدا أبي لهب وتب
فجعل لها علاقة بالتبت وحوادثها الحاضرة، وقال فيما قال: إن أبا لهب هو نهرو، وامرأته الهند، في كلام ضحكنا له.
ثم قلت لنفسي: نحن نضحك من تأويل الشيخ حسن، وقد ابتلي الإسلام بمثل هذا التأويل من قبل فضحكنا له وبكينا، فقد سار الباطنية وبعض الصوفية على طريق تجعل تفسير القرآن تبعا للأوهام والأهواء لا صلة لها بألفاظه، فأضلوا الناس بهذا وأبطلوا الاحتكام إلى القرآن فيما يشجر بين المسلمين.
وأذكر أني سمعت في حداثتي رجلا أزهريا يقول في تفسير الآية:
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ؛ أي نسي غيرنا ولم نجد له عزما على مخالفتنا، قلت: سبحان الله! فلو أراد القرآن أن آدم نسي العهد ولم يستطع الصبر عليه، فما عسى أن يقول في هذا، وقد أولت ألفاظ هذا المعنى على ضده؟! كثير من الناس أرادوا أن يلعبوا بالقرآن ويبطلوا دلالته ويسيروه مع أهوائهم فضلوا وأضلوا، وإن تأويل حسن نظامي المضحك ليذكرنا بالمضحكات المبكيات في تاريخنا.
الخميس 20 صفر/30 نوفمبر
الإنسان المدمر
قال لي ثقة من عظماء العرب: كنا في حرب مع الطليان في طرابلس فاستولينا على مصنع كبير، فهم بعض المحاربين أن يأخذوا ما في المصنع من آلات خفيفة، ويهدموه ويأخذوا أنقاضه؛ فنهيتهم ونهاهم العقلاء من قومهم، وقالوا: هذا المصنع نصونه ونصنع فيه، فيغل لنا ما لا يذكر بجانبه المغنم القليل القريب الذي تبغونه. قال: وارعوى الناس أياما، ثم صاح فيهم صائح: هلم ننقض المصنع! وقال لمن نهاه عن الإخراب: أين آباؤنا وآباؤكم؟ قد هلكوا جميعا، وربكم لا يريد لهذا العالم العمران، وتبعه الناس وهدموا المصنع.
قلت: وهذا القائل كان في ظاهر أمره مازحا، ولكن فعل هو ومن معه ما يوافق المزاح.
وفي الشعر الفارسي، وأظنه من «الشاهنامة» ما يشبه قالة هذا الرجل:
جهان راخداوند خواهد خراب
بهانه است خسرو وآفر اسياب (يريد الإله العالم خرابا، وإنما خسروا وآفر اسياب تعلة) يعني الحروب المتمادية التي وقعت بين خسرو ملك إيران وآفر اسياب ملك ثوران.
معاذ الله! لا يريد الله إخراب العالم، ولكن في الناس نزوعا إلى الهدم والإخراب فهم يلتمسون العلل لما ينزعون إليه. ماذا يقول المفكر في هذه الحروب الماحقة التي تثور في العالم بين الحين والحين، ولا يشبها الإنسان الهمجي ولا الجهلة من القبائل، ولا الأمم التي تغلب عليها الوحشية، ولكن تشبها، فيصلى بها من ليس جناتها، وتعم الأرض ويلاتها، رجال عظام أوتوا نصيبا من التعليم والتثقيف والتهذيب في أمم بلغت في الفلسفة والعلم وكل نتائج الحضارة شأوا بعيدا؟!
ليت شعري أفي طمع الإنسان التدمير؟ أيسوغ أن نسميه الإنسان المدمر؟
الجمعة 21 صفر/1 ديسمبر
تاجر فلسفة وعلم
إذا رأيت الإنسان يطلب العلم ويعلمه، لا يبغي بسعيه إصلاح نفسه ولا إصلاح الناس، ولكن يجمع صيتا ومالا، فاعلم أنه تاجر علم، مثله مثل من يبغي المال والصيت بتجارة أو صناعة أو منصب.
وآية هذا، أن يكون الإنسان طالبا للعلم لا يرجو صلاحا لنفسه ولا للناس، أن تجد حجابا بين علمه وعقله، وبين عقله وقلبه، فهو يسمع ويقرأ ويجمع؛ ولكن عقله عقل عامي لم يوسعه العلم ولم ينره، أو وسعه ولم يصل بهذه السعة إلى رياضة نفسه وحكم هواه، فتراه عالما كذابا خداعا، أو جشعا حريصا، أو ساعيا للجاه والسمعة غير مبال بما يطأ في سبيله من حق، وما يدنس في مسعاه من خلق، فهو كما قال القرآن الكريم في اليهود:
كمثل الحمار يحمل أسفارا ، وكما قال الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظماء
والماء فوق ظهورها محمول
وقول الآخر:
زوامل للأشعار لا علم عندهم
يجيدها إلا كعلم الأباعر
ربما تجد إنسانا مجتهدا محصلا يقرأ ويجمع ويؤلف ويخرج كتابا في العلم أو الفلسفة وتتداوله الأسواق، ثم تنظر فإذا هو حريص على المال يكد له ويذل، وتنظر فإذا هو كلف بالشهرة يتكلف لها ما يؤمن به وما يكفر، ثم تنظر فإذا هو غير مأمون على التعليم لا يسوي بين تلاميذه، بل يفرق بينهم بهواه، ولا يعدل فيما اؤتمن عليه من أمورهم ويحابي ويظلم بشهوته. إن هذا ليس فيلسوفا ولا متفلسفا ولا عالما ولا متعلما؛ ولكن تاجر فلسفة وعلم.
السبت 22 صفر/2 ديسمبر
دستور إسلامي
جمعني مجلس اليوم بصاحبين؛ مصري وباكستاني، فتحدثنا في وضع دستور إسلامي، وهذا أحد مقاصد المؤتمر الإسلامي الذي اجتمع في كراچي العام الماضي، وهذا الباكستاني من أعضائه. قال الباكستاني: إن علماء باكستان متشددون، يرون أن يكون كل شيء في عصرنا كما كان أيام الخلفاء الراشدين؛ ومن أجل هذا كان الخلاف بينهم وبين غيرهم. وقال: لا بد من اجتماع علماء من بلاد إسلامية مختلفة لينظروا في هذا الشأن، والعلماء في البلاد الأخرى أوسع فكرا وصدرا فعسى أن يغلبوا علماءنا المتشددين ويفسحوا لنا الطريق.
قلت: ينبغي أن تنظر إلى مقاصد الإسلام، لا إلى ما شرعه علماؤنا أو خلفاؤنا في أعصر غير أعصرنا، فإن فعلنا اتسع المجال ووجدنا في سعة الإسلام ما يخرجنا من ضيق عقولنا وصدورنا. والأمر ليس عسيرا، فكل دستور وضعه المسلمون لمصالحهم لا يخالف أصلا من الأصول التي أجمع عليها المسلمون في كل العصور، يسوغ أن يسمى دستورا إسلاميا، ولا يكلفنا قبول الإسلام إياه إلا أن نصله بمقاصد الإسلام، ونبين ما بينهما من صلات، وندخله في سعة الإسلام وسماحته، وننفي عنه كل نص يبعده من مقاصد الإسلام. وقد وضع علماؤنا من القواعد ما يعترف باختلاف الأحكام باختلاف الأزمان والأوطان، وهذا إمامنا الشافعي هاجر من الحجاز إلى العراق فمصر، فكتب في مصر مذهبه الجديد. وكثير من مجتهدينا رجعوا عن آراء لهم حيثما انتقلوا من مكان إلى مكان أو من حال إلى حال. فإن أراد المسلمون أن يبينوا عن سعة الإسلام ويؤلفوا النافرين ويوحوا الأمل إلى اليائسين، فهذه سبلهم، وإلا أفلت من أيديهم الزمام وخلفتهم وراءها الأيام.
الأحد 23 صفر/3 ديسمبر
من آفات هذه المدنية
لا أنقص هذه المدنية قيمتها، ولا أبخسها حقها، ولست في حاجة إلى الإبانة عما يسرت للبشر وذللت، وفتحت من كنوز الأرض وأسرار الكون، وما رفهت عن المرضى، ووقت الإنسان من مصائب كثيرة. ولكني أقول: إن مع الخير شرا، وإن هذه المدنية فتحت على الناس أبواب القلق والضجر وأمدت لهم في الشره، وزينت لهم من الشهوات والأهواء، وأتاحت لهم من أسباب العذاب والخراب ما أحاط بهم من فوقهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
وأدع المصائب الكبيرة التي جلبتها هذه الحضارة التي يتحدث الناس عنها كل حين، وأقول في أمور تبدو صغيرة، ولكن لها في حياة الإنسان آثار كبيرة؛ هذه الضوضاء المحيطة بالناس في ليلهم ونهارهم، من القطارات والسيارات وأشباهها، ومن السينما والإذاعة والمجاهر وأشباهها.
وأخرى أذكر بها: كان الإنسان في العصور الخالية لا يعرف إلا حوادث بلده، ولا يهتم بغيرها، فإن دامت حرب خمسين سنة في الصين فعسى أن لا يسمع بها أهل مصر، وإن سمعوا بها لم يعرفوا إلا قليلا من أخبارها، والذين يعرفون لا يهمهم منها كثير ولا قليل. بل تقع الحادثات في جانب من مملكة فلا يسمع بها أهل الجانب الآخر إلا بعد أيام كثيرة، ولا يهمهم أمرها كثيرا. واليوم تقع حرب في الصين أو يفيض نهر أو تهتز أرض أو ينزل وباء فيسمعه الناس في أرجاء الأرض يوم وقوعه، فلا تخفى على الإنسان مصيبة على هذه الأرض، وكل ما يصيب البشر يهم الإنسان أو يحزنه أو يقلقه.
لقد طويت المسافات فصار ما يقع في جانب من الأرض يصيب من في أقصى الأرض بقليل أو كثير، جمعت على الإنسان مصائب الأرض كلها خيرها وشرها، وكان من قبل لا يهمه إلا مصيبة نفسه وجيرانه الأدنين.
الإثنين 24 صفر/4 ديسمبر
التقدير في شرائع الإسلام
في الإسلام تقدير للأعمال والأوقات يتجلى في كل شرائعه، كل شيء فيه بقدر، وكل عمل سائر فيه على سنن، حتى العبادة، وهي مظنة البعد عن تقدير الحركات والسكنات، شملها تقدير الإسلام فأحكم أشكالها ونظم أفعالها. انظر إلى الصلاة: تبتدئ بتكبيرة ترفع معها اليدان؛ إيذانا بالدخول في العبادة. ثم تقرأ الفاتحة في كل ركعاتها، وتزاد في الركعتين الأولى والثانية آيات من القرآن. ثم يكون الركوع على هيئة مبينة، ويسبح فيه تسبيحات معدودات ، ثم يرفع الراكع رأسه للتحميد ... إلخ. ثم لا تنتهي الصلاة بالسجود آخر أفعالها، بل يجلس المصلي جلسة محدودة للتشهد. ثم لا يقوم بعد التشهد فيخرج من الصلاة إلا بعد حركة وكلمة مؤذنة بانتهاء الصلاة؛ وهما الالتفات والتسليم، ثم التكبير فاصل بين الحركة والحركة، وأعداد الركعات مبينة لكل وقت.
وتأمل في الأذان للإيذان بالصلاة، ثم صلاة الجماعة كيف يصطف المؤتمون في نظام ويتقدم الإمام يقرأ وهم يسمعون، ويتابعونه في كل حركاته وأقواله. ثم لا تنس صلاة الجمعة في كل أسبوع، وما فيها من شعائر، وصلاة العيدين كل سنة وهلم جرا.
هذا هو التقدير المحكم، والترتيب المتقن، والنظام المستحكم. وهو لمن يتأمل، ديدن الإسلام في كل عمل من العبادات والمعاملات، وفي معيشة الوحدان والجماعات.
إن النظام الذي يتجلى في العالم إتقانا وإحكاما، وجمالا وكمالا، يتجلى في شرائع الإسلام كلها. فما أجدر المسلمين أن يكونوا أئمة الأمم في النظام والإتقان والإحكام!
الثلاثاء 25 صفر/5 ديسمبر
من تردد تردى
التردد والتردي من مادة في اللغة واحدة، تكرر تضعيف الدال فاعتلت. وما أشد الصلة بين التضعيف والعلة، وهما في الأعمال قريبان، وفي الشدائد حليفان، وقديما قيل:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
الإنسان يفكر ويدبر، ويعد عدته، فإذا تهيأت الأسباب عزم فمضى فبلغ غايته، فإن فكر فلم يجزم، ولبث ككفتي الميزان بين الخفة والرجحان؛ لم يتجاوز الفكر إلى الفعل.
وإن جزم، ثم ثقلت عليه الكلفة، وبعدت الشقة، فبقي يرنو إلى المقصود مشتاقا، وينظر إلى الوسيلة إشفاقا؛ تبلد بين الإقدام والإحجام، ولم يتلبث له الزمان.
وإن فكر وقدر، وأعد ودبر، وتردد بين يومه وغده، وتعجيله وتأجيله، فهو حري أن تفوته الفرصة، فتعقبه غصة.
وجماع هذا الأمر قول القرآن الكريم:
وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين . والتوكل في لغة الإسلام أن تستمد من الله القوة والقدرة، وتطمح إلى الغاية لا تبالي بعد المسافات، واعتراض العقبات، كأنك نجم في حباكه أو قمر في أفلاكه، لا يقف ولا يبطئ، ولا يصده شيء.
ألا إن قوام كل أمر، فكر وجزم، وهمة وعزم، وليس بعد هؤلاء إلا سبل مذللة، وغاية مكثبة، وصلة المقدمات والنتائج، والغايات والوسائل. وآفة الأمور عقل نائم، وفكر غير حازم، وهمة كليلة، وعزيمة عليلة، وتردد ينقض كل فكر، ويحل كل عزم، ويعطل المقدمات، ويحول بين الوسائل والغايات.
الأربعاء 26 صفر/6 ديسمبر
الفكر والذوق في اللغة
يتعلم الإنسان لغة، فيحفظ من ألفاظها، ويعرف من تراكيبها، فيستطيع أن يفهمها حين يسمعها أو يقرؤها، ثم يمرن على التكلم بها، وربما يقرأ اللغة ولا يستطيع أن يتكلم بها. رأينا كثيرا من المستشرقين يقرءون اللغة العربية نظمها ونثرها ولا يقدرون على النطق بجمل منها، ورأينا من علماء المسلمين من يقرأ القرآن ويفهمه ويعرف نحو العربية وصرفها، ولا يستطيع التكلم بها. وقد سمعت من بعض أهل إندونيسيا تسمية هذا الضرب من معرفة اللغة
قاصرا.
فهذا في اللغة طور الفكر؛ يحفظ الإنسان مفردات وتركيبات فيذكرها حين يحتاج إليها والفكر فيها غالب على الصنعة.
وطور آخر في اللغة أن يمرن الإنسان عليها كلاما وكتابة، فتواتيه ألفاظها وجملها حين يتكلم أو يكتب دون عناء في التفكير والتذكر، فتنتقل اللغة من طور الفكر إلى طور الصنعة ومن العقل إلى العادة، وهذا الطور درجات.
والطور الثالث في اللغة طور الذوق، يميز الإنسان بين كلمة وكلمة في الجملة، وموضع وموضع للكلمة، وبين جملة وجملة في السياق، فيؤثر واحدة على أخرى وكلتاهما جائزة في اللغة؛ متنها وقواعدها. فلا يكون الإيثار بالرجوع إلى القواعد، ولكن بالذوق. وربما يعرف الإنسان لغة ويدرب عليها كلاما وكتابة، ويمرن فيها سنين كثيرة ولا يبلغ هذا الطور، يكتب لغة صحيحة فيقول أهل الذوق في اللغة: دع هذه الكلمة وضع هذه مكانها، بل يضحكون من كلمة وضعها وهو لا يدرك مكان الضحك فيها، وهم لا يعرفونه إن سألهم، ولكنه الذوق.
بل أهل اللغة الذين ولدوا فيها ونشئوا عليها يختلفون في تذوقها، فبعضهم في هذا يفضل بعضا درجات من الفضل لا تنتهي، وفي هذا سر البلاغة الخفي وميزانها السحري .
الخميس 27 صفر/7 ديسمبر
الشاعر في لغتين
قرأت لشعراء من الفرس شعرا عربيا: قرأت لهم قصائد وأبياتا مفردة وأشطارا في ثنايا قصائد فارسية، فإذا شعرهم العربي وسط أو دون الوسط، وهم من الشعراء العظام في لغتهم. قرأت لحافظ الشيرازي أبياتا متفرقة ولجلال الدين الرومي وغيرهما، وقرأت قصائد عربية للشيخ سعدي الشيرازي، وهو من هو مكانة بين شعراء الفارسية، إنه يعد من أنبياء الشعر الثلاثة.
قلت: هذه قضية تتصل بالقضية الكبرى التي ثار فيها الجدال بين نقاد الأدب العربي: آلبلاغة في المعاني أم في الألفاظ؟ ولا تتسع كلمتي هذه للدخول في هذه القضية، وتحرير موضع النزاع فيها، كما يقال في أدب المناظرة. ولكني أقول هنا: إن المعاني التي تجول في نفس الشيخ سعدي لا تنقسم بين معان عربية ومعان فارسية، وقدرته على ابتكار المعاني أو جمعها واحدة، ولكنه حين يعبر بالفارسية شاعر مبرز، وحين يعبر بالعربية شاعر من سواد الشعراء، فلولا أن البلاغة كلها أو بعضها ترجع إلى الصوغ والتعبير، وكان أمرها كله يرجع إلى المعاني، ما اختلف كلام الشيخ سعدي بين العربية والفارسية. لقائل أن يقول: إن البلاغة في المعاني ولكن لها موسيقى لا تتم إلا بلفظ شعري مألوف في اللغة التي يعبر بها، كما يختلف تأثير النظم والنثر لمعنى واحد في لغة واحدة. وهذا لا يفصل في القضية، فلا يزال أمامنا معنى يعبر عنه تعبيرا بليغا في لغة، وغير بليغ في لغة أخرى؛ لاختلاف مهارة الشاعر وذوقه في اللغتين، وسواء أسميت هذا الذي يشترط في اللفظ ليكون الكلام بليغا، بلاغة أو موسيقى البلاغة، أو شرطا من شروط البلاغة.
قضية أعرضها على الأدباء وعسى أن أتناولها في غير هذه الخواطر.
الجمعة 28 صفر/8 ديسمبر
أمل الإنسان وعمله
أمل الإنسان يذهب مع خياله غير محدود بالحقائق، أو يسير مع شهواته غير موقوف بالعوائق. والعمل رهين بقوة الإنسان وقدرته، وعرضة للعقبات والعوائق من الطبيعة والبيئة التي يعمل فيها. ثم الأمل يتصل بالأمور البعيدة التي لا تستبين أحوالها، ولا توزن مقاديرها فيخالها الإنسان ممكنة، بل يحسبها يسيرة، فإذا حاول العمل وجد ما يتصل بهذه الأمور من أحوال وما تحتاج إليه من كد، وما لا بد منه من وسائل وسبل، فبانت مسافة الخلف بين التفكير والتجربة، بين الحسبان البعيد والحسبان القريب، بين الأمل والعمل. وكثيرا ما يكون إخلاف الوعد من هذا، يعد الإنسان صادقا يريد أن يفي بوعده، فإذا حان الإنجاز بدا له ما لم يحتسب؛ تضن نفسه، أو يجبن قلبه، أو يخور عزمه، أو يتعسر عليه الفعل.
وكثير من شقاء الناس يرجع إلى بعد المسافة بين الأمل والحقيقة، فيأمل الإنسان الكثير والبعيد والشاق، ثم لا يحصل إلا القليل القريب اليسير. لا بأس على الإنسان أن يطمح إلى البعيد ويأمل الصعب في غير غلو ولا غفلة عن الأحوال والشروط، وعليه ألا يبتئس إذا قصر العمل وخاب الأمل، ما لم يكن التقصير والخيبة إهمالا أو تهاونا أو تضييعا للفرص، أو حيدا عن السبل الواضحة، والمنهاج القويم.
السبت 29 صفر/9 ديسمبر
حقوق الإنسان
دعيت اليوم إلى حفل في كراچي في فندق مثربول، ذكرى لاتفاق الأمم على حقوق الإنسان منذ سنتين. وكان رئيس الحفل الأستاذ عبد الحليم وكيل جامعة السند، فتكلم عن حقوق الإنسان كما نادت بها هيئة الأمم، وقال: إننا معشر المسلمين نعرف حقوق الإنسان وقد نادينا بها من قبل. وذكر قصتين: قصة عمر مع عبد له نصراني جادل الخليفة في الدين وبقي على دينه، ولم يسلم حتى مات عمر، والثانية قصة الخليفة في ذهابه إلى بيت المقدس وتعاقبه هو وخادمه على جمل، ثم إباء الخليفة للصلاة في الكنيسة؛ لئلا يأخذها المسلمون من بعد. وتكلم عن الآية:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي . وتكلم المندوب السامي لسيلان الدكتور جايا، فذكر تأييد المسلمين لحقوق الإنسان كذلك. وتكلم سفير فرنسا وكانت كلمته مكتوبة بالإنكليزية، فأكثر الكلام عن حقوق الإنسان في فرنسا. وتكلم المدعي العمومي في باكستان فلم ينس أن يذكر تأييد الإسلام لحقوق الإنسان، وتلا الآية:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .
قلت: هنا أمران؛ الأول: عناية أهل باكستان بالإسلام وذكره في المجامع الدولية غير خائفين ولا خجلين كما يخاف ويخجل غيرهم من المسلمين، وهي شجاعة يحمدون عليها، ثم هم على اختلاف أعمالهم يتكلمون عن الإسلام تكلم العارف الدارس.
والثاني: أن حقوق الإنسان معروفة نصرها الإسلام، وأقرتها شرائع كثيرة، ولكن أغفلت أو نسيت أو جهلت في الأعمال، أو خفيت في خداع الساسة، أو غلبت في طغيان المسيطرين. وإنما جهاد الناس اليوم لتنفيذ ما اعترفت به الشرائع، وتوضيحه وتحديده، وكفالته وحمايته، وتلكم أمور عظيمة يود كل إنسان أن توفق هيئة الأمم إليها.
الأحد 30 صفر/10 ديسمبر
العافية
كلمة جامعة محبوبة مباركة، من ظفر بها فقد ظفر بالحظ الأوفر. بها يطيب كل شيء لمن ذكرها وقدرها، ويهون كل ما عداها. في قصص الحجاج أنه دعا في برية أعرابيا إلى طعامه فقال أنه صائم، فقال: إنه طعام طيب، فقال: ما طيبه خبازك ولا طباخك؛ ولكن طيبته العافية. وسمعت من الكلام المأثور: نعم الإدام العافية؛ أي أن الإنسان المعافى لا يحتاج إلى إدام الخبز، بل يلذ أكله حافا بالعافية. وأشمل العافية ما جاءت في الكلمة الجامعة: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
والناس لا يقدرون العافية ما داموا فيها، كالماء لا يقدره إلا فاقده، فهو كما قيل: أعز مفقود وأهون موجود. فمن رزق العافية الشاملة فما سواها لعب في الحياة ولهو، إن ناله لها به ولعب، وإن لم ينله لم يكن حريا أن يأسى عليه. واعتبر هذا بالمريض يهون عليه كل شيء إلا الصحة، وكل ما يعده متاعا في المعيشة أو جاها أو سلطانا، قليل حقير في جانب صحته، وما الصحة إلا بعض العافية.
العافية هي براءة الإنسان من كل ما يكره، وعلى الحقيقة براءة الإنسان من كل ما يكره العقلاء. فإن أسى بعض الناس على ما فاته من كنز الأموال وسعة السلطان فأخل هذا بعافيته لم يخل هذا بعافية العاقل، إنما يخل بالعافية فوات الصحة في البدن أو الكفاف في القوت أو الأمن في الجماعة أو السلامة في الخلق، أو فوات أحد هذه في الأهل والولد والأقرباء، فمن رزق العافية في هؤلاء لم يكن أساه بعد إلا نقصا في عقله، ولم تختل عافيته إلا بهذا النقص، فهو في حاجة إلى أن يعافى منه.
فكرت فيما يحيط بالإنسان من آلام وآمال، وما يغريه من سمعة وبسطة في الرزق وسعة في الجاه، ومررت على مطامع الناس وأهوائهم وما يعبدهم من الأحقاد والشهوات، فاستعذت بالله. فوجدت أمنع ما أمتنع به وأعز ما ألوذ به وأعوذ، أن أسأل الله العافية في الدين والدنيا والآخرة، والعافية من كل ما ينقص هذه العافية من آفة في الرأي وخلل في الفكر.
الإثنين 1 ربيع الأول/11 ديسمبر
عارية
كثيرا ما قلبت كتبا مخطوطة عليها أسماء من ملكها جيلا بعد جيل؛ تدخل في ملك إنسان فتخرج إلى ملك غيره، حتى لتجد الأسماء المتوالية تاريخا للكتاب، أو عبرة للمعتبر، أو رثاء للبشر. وكنت أجد هذه الكلمة على كتب فارسية وتركية قديمة فتبلغ من نفسي، ويطول فيها تأملي. كثيرا وجدت أصحاب الكتب يتورعون عن أن يسموا أنفسهم مالكين، ويدركون حقيقة الملك في هذه الدنيا، فيكتبون: «نوبت عاريت بما رسيد»؛ أي بلغتنا: نوبة العارية، يعنون أن الكتاب، ككل شيء في هذه الدنيا عارية مستردة. كان الكتاب عارية في يد من سبق وتداوله المستعيرون واحدا بعد واحد، حتى جاءت نوبة العارية إلى فلان، وهي حقيقة لا ريب فيها.
كثيرا ما أفكر في الأرض يملكها الإنسان والدور يقتنيها، فأقول: إنها أبقى من الإنسان وأقدم، كانت قبله وتبقى بعده، ويمر بها هو ويزول، فكيف يملك الإنسان ما هو أثبت معه على الحادثات وأبقى؟ إنها عوار يبتلى الإنسان بحيازتها والتصرف فيها، فليجتهد أن يتخذها وسيلة إلى الإصلاح والعمران، والمواساة والإحسان، فهي أمانة يسأل عنها وابتلاء يجزى به. إنه مستعير لا مالك، فليس مخيرا في الإساءة والإحسان والجد والكسل والرعاية والإهمال، فليتخذها فرصة لعمارة يجدها، أو مبرة يصطنعها، أو يد يتخذها عند من يستحقها من الناس. إنه لا يملكها فليحذر من أن تملكه هي فتستعبده، وليذكر الآية الكريمة:
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه
والآية
هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه ، وليذكر الحديث: «ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأمضيت»، والله ولي الهدى والتوفيق.
الثلاثاء 2 ربيع الأول/12 ديسمبر
تاريخ البشر
حدثتني نفسي عن تاريخ البشر؛ سياستهم وعمرانهم ونتاج أفكارهم في العلوم والآداب: كيف يحاط به فيكتب مجملا أو مفصلا إذا امتدت العصور وتوالت الأجيال؟ نحن نقرأ تاريخ العرب مثلا، وهو تاريخ عصور لا تبلغ ألفي سنة، ولم يكن للناس في هذه العصور من وسائل الضبط والتسجيل ما لهم اليوم، نقرأ هذا التاريخ فإذا هو طويل متشعب، فكيف إذا مضت آلاف السنين والناس على دراستهم وتسجيلهم وازديادهم من النظر والعلم؟ قلت: لعل وسائل التسجيل والترتيب التي نراها اليوم أو خيرا منها، تيسر للناس الاطلاع على ما يرغبون، وتعفي الإنسان من مشاق الحفظ والذكر، وتقليب الصحف والدرس! ولكني لبثت بعد مشفقا من التفكير في ميراث الأمم من العلم والأدب والصناعة، كيف تحفظ إذا استمر العمران وطالت العصور.
وحدثت مرة كبيرا من أدبائنا في هذا، فضحك وقال: لا تخف لن يخلو تاريخ العالم من الغزاة المخربين المدمرين الذين يعفون على الحضارة وآثارها فيعفون الناس من طول العناء في التحصيل والبحث. قلت: رحم الله المتنبي:
أشد من السقم الذي أذهب السقما
وحسبت قول أستاذنا الأديب فكاهة حينئذ، ولكني أنظر اليوم فأرى ثمرات الحضارة تهدمها، ونتائج العلوم تمحو ما شادته العلوم، والعالم يقتل بعضه بعضا، ويدمر بعضه بعضا، فليس بعيدا أن تفنى هذه الحضارة أو يزول كثير من نتائجها في العلم والأدب، فلا يشق على الناس طول البحث والضبط والتسجيل. أفزعني هذا التفكير وأضحكني، فقد ذكرت قول أستاذنا وهو يخفف عني الهم بأن الحضارة زائلة فلا يرعك التفكير في حفظها. قلت: ليتها تدوم وتتسع حتى يعجز البشر عن الإحاطة بها، فلن يضيرهم هذا العجز.
الأربعاء 3 ربيع الأول/13 ديسمبر
حركة الجسم وحركة الفكر
الإنسان في حركة لا تفتر، الحياة حركة لا سكون فيها؛ حركة في الفكر ظاهرة أو خفية، وحركة في الجسم مرئية وغير مرئية. فالفكر إما في حقيقة أو خيال، وإما في جد أو هزل، لا يفتر عن العمل. والجسم كذلك يعمل ويسكن، ولكن دمه وعروقه وقلبه ورئته لا تستقر إلا بالموت.
وأحيانا يشغل الجسم بالفكر فتسكن جوارحه، وأحيانا تشغله حركات الجوارح عن التفكير في غيرها فلا يذهب بعيدا عنها، وإذا تركنا جانبا الحركات الباطنة، وقصرنا النظر على الحركات الفكرية المدركة، وحركات الجوارح الظاهرة، رأينا أن الفكر لا يعمل في أمرين معا. وقد قيل في المثل: صاحب بالين كاذب، ولا يجمع الجسم بين حركتين مختلفتين في وقت واحد. ولا يجمع الإنسان بين حركة الفكر وحركة الجسم كذلك، إلا أن تكون حركة الجسم عادية آلية، كالمشي وترديد اللسان ما يحفظه، حينئذ تجتمع هذه الحركة وحركة أخرى جسمية أو عقلية. والإنسان يفكر وهو يمشي، ويدخن وهو يسير، وكذلك يفكر أو يعمل وهو يتلو ما يحفظ، وربما سار الإنسان قارئا وهو يحرك يديه أو يفكر؛ إذ كان المشي والقراءة حركتين آليتين لا تشغلان الجسم ولا العقل عن غيرها.
هكذا إذا عمل الفكر سكن الجسم؛ وإذا تحرك الجسم حركات غير آلية لم يشغل الفكر بغيرها. لا أقول سكن الفكر فإن الفكر لا يسكن، فكثير التفكير قليل الحركة، وكثير الحركة قليل التفكير، واعتبر هذا في الأطفال والكبار؛ الأولون يتحركون دائما، والآخرون يسكنون على قدر ما يفكرون، وقس على هذا ما ترى من ثرثرة في الكلام وقلة، وطيش في الحركات وتؤدة.
الخميس 4 ربيع الأول/14 ديسمبر
العلماء والمناصب
كان من سنن المسلمين الأولين أن طالب الولاية لا يولى، رأوا أن الولاية واجب خطير، وعبء كبير، لا يرغب فيه الإنسان ابتغاء منفعته، ولكن يقبله قياما بالواجب، وتأدية للأمانة. ثم الولاية سلطان وجاه، وتمكين من المال والدنيا لمن أرادهما، فإن طلب الإنسان ولاية لنفسه فهو مظنة أن يريد منفعته بها، وأن ينظر إلى الجانب السيئ منها، فلا يمكن مما يريد.
ومن العلماء الأولين من رغب عن الولاية، ومنهم من حمل عليها كرها ، ومنهم من ردها فأوذي فيها فأصر على إبائه.
وكان العلماء ينفعون الناس بعلمهم وينفعون أنفسهم بعمل يعيشون به، فما كان العلم وسيلة إلى منصب، أو لم يكن المنصب مطمح أولي العلم. لم يكن التعليم في مدارس لها سنون يفضي بعضها إلى بعض، ولكل مدرسة شهادة ولكل شهادة قيمة من المال، وكل داخل مدرسة يبغي الشهادة وما عداها أمم، فكل متعلم طامع في منصب، وكل عالم صاحب منصب أو طالبه.
لما أنشأ نظام الملك المدارس قامت قيامة العلماء وخشوا أن يكون ما فيها من رزق داعيا أن يطلب العلم ابتغاء المال. فقد طلب العلم للمناصب، وأريد للمال، فقدر بقدره، وهم الطالب أن ينال الشهادة فالمنصب، فما أدى إليهما من العلم فهو حسبه، بل لا يبالي أن ينال شهادة بغير ما تشهد به من العلم، إلا قليلا يطمحون إلى العلم، ويشغفون به، فلا يقفون فيه عند غاية، ولا يقيسونه بمال أو ولاية.
لا حرج أن يتولى الإنسان ولاية بعلمه، بل لا ضير أن يطمع فيها ويسعى بالحق لها؛ ولكن الحرج كل الحرج والضير كل الضير أن يكون المنصب غاية علمه، ونهاية أمله، ومنتهى سعيه، وآخر همته.
الجمعة 5 ربيع الأول/15 ديسمبر
أخرجنا على خير
سمعت امرأة تذكر آفات الحياة وتنازع الناس وتقاتلهم، وما ينذر الناس من الحرب والدمار، وختمت كلامها قائلة: ربنا يخرجنا منها على خير. قلت: لماذا لا تدعين أن يبقينا فيها على خير، إن الدعاء بصلاح الناس وطيب العيش في هذه الدنيا خير من الدعاء بخروجنا منها، إننا هنا للجد والكدح، والإصلاح والتعمير، ونصرة الخير جهد الطاقة، ودفع الشر وسع النفس، لا لننتظر الخروج، وفي هذا الجهاد سعادة على ما فيه من نصب. والحياة لولا الجهاد لا لذة فيها؛ انتظار لا متعة فيه، وركود ممل، وخمود أشبه بالموت. لولا الأمل والعمل ما رغب الناس في الحياة، ولا طاب لهم العيش. فهذا الجهاد عبادة وأي عبادة، وإن فيه لخير الآخرة والأولى. فلنأمل ولنعمل، ونبسم لعبوس الدنيا، ونرض لسخطها، وننشط للكفاح فيها. إن آفات الطبيعة كثيرة، وقد زادها الإنسان لشقائه، ورحم الله أبا الطيب:
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
ومراد النفوس أصغر من أن
نتعادى فيه وأن نتفانى
ولو تعاون الناس على دفع الآفات، واقتحام العقبات، لذللوا كثيرا من صعاب الحياة، ويسروا كثيرا من عسرها، ولكنهم يزيدون عليها حتى ليشفق الناس اليوم من أفعال البشر أكثر مما يشفقون من الآفات الطبيعية، وحتى يتمنى بعض الناس أن يخرج من الدنيا على خير، يرى الموت أهون عليه من هذه الحياة، والفناء أسلم من هذا البقاء، لا لا فلنرقب الخير ولنعمل له، ولنكدح في الحياة طالبين خيرها دافعين شرها غير يائسين من روح الله؛ فعسى أن يهتدي الناس إلى الحق والخير ويتعاونوا على الصلاح والبر، ويعمروا الأرض ليسعدوا بعمرانها.
السبت 6 ربيع الأول/16 ديسمبر
أصحاب الأيادي المغمورون
كثير من الأشياء كانت نعمة على الحضارة، وخيرا للإنسان، ولا يقدرها الناس قدرها، ولا يعرفون منشئها. تبدو هذه الأشياء يسيرة هينة، يسرها الإلف وهونها ابتذالها، فلم يفكر الناس في اختراعها. والاختراع صعب حتى في الأمور السهلة، من اخترع للناس المغزل فهداهم إلى الغزل والنسج؟ ومن صنع لهم الإبرة وعلمهم الخياطة؟ مثل هذه الأمور الضرورية للبشر، هدي إليها في بلاد كثيرة بالوجدان، بالإلهام الهادي للناس في كل العصور والأوطان، ولكن ناسا كان لهم فضل البدء أو فضل الإتقان والإحسان وهم لا يعرفون ولا يذكرون. ومن هذا الذي صنع إبرة المغناطيس فذلل البحار للناس ويسر للبشر الاتصال والانتقال على سطح البحر بين الأمكنة المتنائية؟ قس على هذه أمورا كثيرة يحسبها الناس هينة وهي عظيمة.
فكرت في هذا حين رأيت ورقة مسطرة توضع تحت الصفحات غير المسطرة فتبين سطورها فتغني عن تسطير الصفحات، قلت: لا ريب أننا عشنا زمانا؛ نفضل أن نكتب على ورق غير مسطر، ولكن نخشى اعوجاج الأسطر فنكتب على ورق مسطر أو نرضى باعوجاج يسير في الكتابة، ونظر بعض الوراقين فاهتدى إلى أن يصنع ورقة سميكة مسطرة تحت الصحف، فيسر صعبا وأراح الناس، ولكن هذا يبدو للناس أمرا أمما أو تافها لا يستحق أن يذكر، وهو عمل نافع لا يلده إلا فكر ونظر. وقس على هذا كثيرا مما ترى من نتائج الصناعة التي يخفى خطرها ليسرها وسهولة تداولها. لو حرم الناس الإبرة سنة لقدروها قدرها، ولو حرموا الأزرار والدبابيس حينا لجهدوا في طلبها وتحصيلها وغالوا في أثمانها.
إن هذه الأشياء كالماء هينة حين توجد، عزيزة حين تفقد.
الأحد 7 ربيع الأول/17 ديسمبر
إن كنا على الطريق
قال أحد الصوفية لصاحب له: «إن الذين قبلنا مضوا على خيل بلق، وبقينا على حمير عرج.» فأجابه: يا أبا عبد الله إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بهم. نعم، إن عرف الإنسان الغاية، واستقام على الطريقة، فهو بالغ غايته لا محالة، بل بالغ غايته سريعا إن دأب على المسير، ولم يحد عن الطريق. إنما يعوق الناس عن مقاصدهم، اضتلال الطريق، أو القعود عن السير، أو الانقطاع عنه، فمن عرف غايته وسبيله وسار ولم يقطع فما أقرب غايته وإن نأت، وما أسهل طريقه وإن صعبت.
لو أن نسرا ونملة عزما على أن يبلغا قمة جبل عال، وتحركا معا، لبلغ النسر في بضع دقائق ولحقت به النملة بعد ساعات، وإن تلبث النسر في الطريق، ولها عن قصده، فعسى أن تبلغ النملة قبله. ولعلك تذكر قصة السلحفاة والأرنب، وتعلم لأيهما كان الغلب، الإبطاء الدائب أسرع من الإسراع المتقطع، وفي الأثر: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل. إن الذي يكتب عشرة أسطر كل يوم دأبا، أفعل من الذي يكتب يوما مائة سطر، ويفصل الإهمال والنسيان كتابته.
ثم نعود إلى الخيل البلق، والحمير العرج، الخيل أقوى وأعلى وأجمل، ولكنها ليست أسرع على طول السير ولا أصبر. وهب أن حصانا سار طريقه كلها عدوا فبلغ، وحمار أعرج في أول الطريق، فإن دأب الحمار وصبر أدرك الحصان بعد قليل.
الغاية والطريق والمسير، هي حياة الإنسان على هذه الأرض، ومن عرف غايته وطريقه وسار أفضى به السير إلى مقصوده، لا فرق بين قريبه وبعيده.
الإثنين 8 ربيع الأول /18 ديسمبر
مدرسة صغيرة
دعيت اليوم إلى زيارة مدرسة للأطفال في كراچي تشرف عليها جماعة صغيرة وتديرها سيدة من مهاجرات حيدر آباد، فوجدت بناء غير مسور: ثلاث حجرات تقابلها مثلها. وقرأت على أبواب الفصول ألفاظا وضعتها المديرة، مثل القسم الأول من المملكة، والقسم الثاني ... إلخ. وقرأت على فصل: قواد المملكة؛ وهو فصل الأطفال الكبار، ورأيت حجرة يجلس تلاميذها على بسطة نظيفة لا على كراسي، وحجرا فيها مقاعد عالية للأطفال، والطلبة نظاف، أصحاء، والإناث أكثر من الذكور، وأسماؤهم عربية وبعضها فارسي، تلوح عليهم سيما الذكاء. وأنشد بعض الأطفال نشيدا بالأردية وآخر بالعربية؛ هو الأبيات: طلع البدر علينا، من ثنيات الوداع ... إلخ. وقلت حين سمعت النشيد العربي بعد الأردية: إنكم لم تبعدوا من لغتكم كثيرا حين أنشدتم العربية، فالأردية مملوءة بألفاظ عربية، والعربية لغتكم الأولى أو الثانية.
ودعينا إلى شاهي وفاكهة، وكان معي وزيرا المملكة السعودية وسوريا عبد الحميد الخطيب وعمر الأميري، وتكلم أحد قوام المدرسة عن الأخوة الإسلامية، وعن المدرسة، وقال: إنها صغيرة كما ترون. قلت: يا صاحبي لا يرعك الصغر، فما أحد يولد كبيرا وإن عظماء الناس كانوا أطفالا، والنخلة السحوق كانت نواة، والمسلمون كانوا نفرا قليلا أول عهد الناس بالإسلام، وإني لأتفاءل للعمل يبدأ صغيرا فأراه يسير على سنن الطبيعة. يا صاحبي لا يهمك أن يكون عملك صغيرا ولكن اهتم أن تجعل فيه بذور الكبر، أن تجعله صحيحا ناميا كالجسم الصحيح، فإنه لا محالة يكبر ويعظم. اجعل الكبر والعظم مضمرين في مدرستك ومقصودين في محلك، ثم انتظر كبرها وعظمتها، بل لا يضير مدرستك أن تبقى على صغر بنائها وقلة تلاميذها ما كانت كبيرة في معناها، مؤدية العمل الذي يراد بها خير أداء، فذلك هو الكبر لا ضخامة البناء.
الثلاثاء 9 ربيع الأول/19 ديسمبر
المادة والروح
تكلم الفلاسفة والباحثون منذ القدم في المادة والروح، فمال فريق إلى إنكار الروح وقالوا: العالم مادة ومظاهرها لا شيء فيه غيرها. وقال آخرون: بل في العالم روح مستقلة عن المادة تتصل بها فتدبرها كما يتصل روح الإنسان بجسمه فيصرفه، والروح غير الجسم لا محالة. ومن الناظرين في هذا الأمر من قالوا: إن الروح والمادة متصلان لا يفترق أحدهما عن الآخر، وهم القائلون بوحدة الوجود، فالمادة كانت أمرا مجمعا عليه، وكان الاختلاف في الروح؛ وجودها وعدمها، وانفصالها واتصالها.
وقد بحث العلماء المحدثون في المادة فانتهوا إلى ذرات وكهارب تتجاذب ويدور بعضها حول بعض، وانتهى تحليل المادة إلى قوة، فقد انتهت المادة إلى الروح. وقد ألهم هذا بعض الصوفية المتقدمين فقالوا: إن في الذرة شمسا، إن الذرات في اضطراب وحنين مستمر إلى مكونها.
فإن قال قائل اليوم: إن العالم روح كله، وإن المادة كما أدركها القدماء لا توجد، لم يكن بعيدا من تجارب العلم. ولا ندري ماذا يكشف عنه العلم والفكر من بعد، ولعل يكشف عن البشر فيروا عيانا أو اعتقادا ما كفروا به من قبل، ولكن سنة الله في العقول أن تطلب فتدرك، فتطلب فلا تقف عند غاية، ويقول الشاعر الفيلسوف محمد إقبال:
فإن يكشف عن الأسرار ستر
رجعت إلى لعل وليت شعري
الأربعاء 10 ربيع الأول/20 ديسمبر
صناعة الكلام
كثيرا ما أرى أناسا يحضرون محافل، ويكلفون بالتكلم فيها ويطيلون إذا تكلموا، ويعرفون بين الناس، فيدعوهم أصحاب الحفلات الخطابية إليها، كما يدعى قارئ أو مغن، ويفرحون هم بهذا، ويستجيبون للدعوة، ويزهون بالصيت فيزيدون كلامهم طولا، ويصير الكلام صناعة لهم، والخطابة عادة عندهم فهم متأهبون للكلام في كل أمر، والانتصار لكل رأي إذا دعوا إلى الكلام فيه.
وهؤلاء جماعة انقطعت الصلة بين قلوبهم وألسنتهم، وبين الحق وأقوالهم، يصيبون الحق أحيانا كما يقولون الباطل لا انتصارا له؛ ولكن لأن المقام يقتضيه.
وآفة الناس، وآفتنا نحن خاصة، إرباء الكلام على الفعل وانقطاع الصلة بين القلب واللسان، ومن غفلة الأقوال عن الأفعال عاش ثرثارا لا يوازن كلامه، يضل الأغرار ولا يهدي أحدا.
شهدت محافل كثيرة تكلم فيها الخطباء عن الإسلام ودعوته إلى الحرية والإباء وسموه بالنفس عن الدنايا، ثم نظرت فإذا أعمالهم لا توافق أقوالهم ولا تقاومها. وسمعت ناسا يذكرون الأخلاق ويشيدون بها، ويرثون للمفرطين فيها ثم لم أجد أخلاقهم تشبه كلامهم. وسمعت من ينتصر لحزب أو حكومة ابتغاء منفعته أو احتفاظا على منفعته، ثم يسلقون من نصروهم بألسنة حداد حين تزول المنفعة في نصرهم، أو تلوح من يد آخرين منفعة أربى منها. والذين تكذب أفعالهم أقوالهم، لا يصدق أقوالهم أحد، ولا يعمل بها أحد، ثم يبقون مثلا للنفاق، ودعوة إلى سوء الظن بالأخلاق، فيجنون على الأخيار الذين تصف أقوالهم أفعالهم، وتصدق أفعالهم أخلاقهم.
الخميس 11 ربيع الأول/21 ديسمبر
الإنسان لا يعرف صوته
قرأت في لطائف عبيد الزكاني الشاعر الفارسي الهجاء الفكه، أن رجلا رؤي يؤذن وهو يعدو، فقيل له في هذا فقال: يقال إن صوتي من بعيد حسن؛ فأنا أعدو لأسمعه من بعيد.
وقد تحقق للناس سماع أصواتهم من بعيد اليوم بتسجيل الصوت، وقد تبين لكل من سمع صوته أنه غير الصوت الذي يسمعه من فمه، ولكن غيره يعرفون أنه صوته الذي يسمعونه. وتبين من هذا أن الإنسان لا يسمع صوته كما يسمعه الناس؛ أي لا يعرف صوته، أي أنه لا يسمعه من بعيد. ويمكن على هذا القياس أن يتبين للإنسان بإحدى الوسائل أنه لا يرى الأشياء على حقيقتها، أو لا يلمسها على حقيقتها. ربما يكشف الغطاء عن أمور كثيرة فتبدو على خلاف ما يحسبها الإنسان، كما كشف العلم عن حقائق كثيرة تخالف ما ظن الإنسان أو توهم. وكما اخترع وسائل للسمع والرؤية أسمعت الإنسان ما لم يكن يسمع، وأرته ما لم يكن يرى، وربما يكشف الغطاء عن درجات من العلم أعلى مما يسعه عقل الإنسان. وكما يتدرج العقل من الغبي الجاهل إلى الذكي الفيلسوف يتوالى الدرج بعد الفيلسوف إلى غاية بعيدة أو إلى غير غاية.
ينبغي للإنسان ألا يهجم على النفي، وأن يتثبت بالإثبات، وأن يتواضع في طلب المعرفة ويستمد المعلم الأعلى سبحانه وتعالى، ويتوجه إليه، ويتعرض لفيضه.
إن من آفات الجاهل أن يحسب نفسه عالما؛ إذا كان العالم في فكره ضيقا لا يحاط به. ومن آيات العالم أن يدرك أن ما علم لا يقاس بما لم يعلم فيذكر دائما
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، ويتلو:
وقل رب زدني علما ،
وفوق كل ذي علم عليم ،
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله . نسأل الله العليم الحكيم أن يزكي عقولنا ويطهر نفوسنا، ويعدنا للعلم ويعلمنا، ويهدينا إلى العمل بما نعلم والنفع بما نعمل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الجمعة 12 ربيع الأول/22 ديسمبر
ذكرى المولد النبوي
عني المسلمون في باكستان بإحياء ذكرى الرسول الكريم منذ أهل ربيع الأول، فدعت الجماعات والوحدان إلى احتفال في المساجد والمدارس والدور والحدائق. وتلقيت دعوات إلى هذه الحفلات كثيرة، وأجبت ما تيسرت إجابته. ودعيت إلى حيدر أباد السند؛ دعاني طلبة كلية هناك، فلم يتسع الوقت للسفر. وشهدت يوم الخميس حفلا في كلية التجارة، ويوم الجمعة رأست حفلا في كلية السند الإسلامية. وشهدت اجتماعا في حديقة جهانگير، شهده الحاكم العام ناظم الدين والوزراء. وقد أعجبني اليسر والتواضع في هذا المجمع؛ جلسنا على بسط وجلس الحاكم العام على بساط فوق منصة تداول الوافدون عليها القيام المنشدون والخطباء.
وأذعت أمس حديثا بالعربية، وأذعت خلاصته بالأردية من مذياع كراچي، وأذاع الناس كثيرا في تاريخ الرسول
صلى الله عليه وسلم .
قلت: إن جمع ما في هذه الحفلات، وضم إليه ما قيل في حفلات أخر في بلاد أخرى، وزيد عليه ما نشر في الصحف وما أذيع، ثم اختير [من] هؤلاء ما يجدر أن ينشر في كتاب، لخلص للمسلمين كتاب ضخم في سيرة الرسول خاصة، والتاريخ الإسلامي، وأحوال المسلمين عامة. فليت بعض الناشرين يتصدون لهذا! وقلت: لو عمل كل متكلم بعشر ما دعا إليه، ولو عمل السامعون والقارئون بجزء من مائة مما قبلوه وأعجبوا به وتحمسوا له لكان حالنا خيرا من هذه الحال. ولكن الأقوال يسيرة والأفعال عسيرة، والأقوال رخيصة لا تكلف قائلها مالا ولا عملا، بل تكسبه سمعة إن لم تكسبه نفعا، والأعمال غالية شاقة.
ومهما يكن فلا ريب أن المسلمين يحسنون بالإشادة بذكرى الرسول الكريم، ولا ريب أن لهذه الأقوال أثرا ما في العقول والأخلاق، وأنه لا بد من تعهد النفوس بهذه الذكرى، وأن لهذه الذكرى آثار في الأعمال لا محالة
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين .
السبت 13 ربيع الأول/23 ديسمبر
الساعة
هذه الآلة الصغيرة، هذه الأداة الخفيفة، هذا الوجه الأنيق، صديق لا يمل، ورفيق لا يفارق، وصاحب لا يغدر. تمنحه رعايتك لحظات، فيرعاك يوما أو أياما، يدلك وينبهك ويذكرك. إن غفلت لم يغفل، وإن أخطأت لم يخطئ. تنام وهو يقظان، وترقد وهو ساهر، تسمع حين تدنيه دقاته بل خفقاته، دالات على عمله لك، شاهدات بمسيره من أجلك، لا أدري ما هذا الصاحب الصغير، والرفيق الأمين، الذي يقيس لي الزمان ليل نهار، ويذكرني به صباح مساء، ويفطني كل حين بمرور الساعات، وتغيير الأوقات، ويصحبني كل حين في جيبي أو على يدي، أو تحت وسادتي، أو على مقربة مني؟ أسمع وسوسته في الظلام، فإن سألته أجاب، وإن استدللته دل، رقيب يقظ، ومذكر ذاكر.
ثم هو لا يكلفني طعاما ولا شرابا، ولا قولا ولا فعلا؛ إلا إدارة مفتاحه مرات في لمحات.
إني ليطول تأملي أحيانا في هذا الصاحب، أنظر في وجهه فيعرفني أين أنا من سير الزمان، وكر الأيام، ودوران الفلك. آلة تدور دوائرها، دون خلل ولا ملل، وتشير عقاربها إلى الوقت دون غلط ولا نسيان. هذا صغير يدور دورته في دقيقة، وهذا آخر يتم دورته في ساعة، والثالث يدور في اثنتي عشرة ساعة. ومن هذه الآلات ما يزيد فيعرفك يومك من الأسبوع، وتاريخه من الشهر، ويبين لك أوجه القمر على اختلاف الليالي.
إني ليخيل إلي أحيانا أن بينها وبين الفلك صلة، فهي قلب خافق بحركاته يدل كل حين على دوراته، ويبين كل ساعاته وما مضى من الليل وما بقي، وما عبر من النهار وما غبر، إلى دلالات أخر، ويبين لك دون نظر إلى الخليقة أين الشمس وأين القمر في حبك السماء.
آلة في النظر جميلة عجيبة، وفي الفكر دقيقة حسيسة، وفي الخيال فلك مصور، وزمان ممثل ووقت مجسم، ودهر يكر، وعمر يمر، وذكر وعبر، تكاد تعرض عليك تاريخ البشر.
الأحد 14 ربيع الأول/24 ديسمبر
من ذكريات الطفولة
ذكرت ما كنا نرى في الكتاتيب أيام الطفولة، ذكرته ذكرى الأمور التافهة المضحكة، كان الأطفال يقطعون أعوادا من نبات يسمى الهيش فيصنعون أقلاما، ومنهم من كان يحمصه حتى يكمت لونه فيصنعون أقلاما تسمى أقلام البسط - وهذا النوع كان يباع في الأسواق وتتخذ منه أحسن الأقلام - وتذكرت أن الأطفال كانوا يقطعون القصب (الغاب) فيشقونه ويتخذون منه أقلاما.
وتذكرت أن كبار الأطفال كانوا يصعدون على شجر الطلح (ويسمى في مصر السنط) فيأتون بثمر يسمى العفص فيصنعون منه حبرا، وأحيانا يشترون مادة حمراء تسمى اللعل (واللعل: العقيق بالفارسية) وأخرى تسمى النفتة فيصنعون مدادا أحمر.
وذكرت أن الصبي كان إذا ختم القرآن بدأ أو عودا احتفل به صبيان الكتاب وشيخهم، وطافوا في دروب القرية ينشدون رافعين أعلاما من الحرير ملونة، هي عصائب أمهاتهم، ويمرون على الدور فيعطيهم أهلها ما يتيسر لهم من نقد أو غيره، ويكون في القرية يوم بهيج. ذكرت هذه الأمور وفي نفسي الحنين إلى الصبا، وضحك السخرية. ثم تنبهت كما يتنبه النائم أو الغافل أقول: ليس في هذا ما يضحك، ولكنها على صغرها تذكرنا بما فقدنا من عاداتنا وصناعاتنا، كنا نصنع أقلامنا ومدادنا من شجرنا بأيدينا، فاليوم يأتينا كل شيء مصنوعا مهيئا، فأي حالينا أولى بالسخرية؟! كنا نحتفل بما عندنا احتفالا نابعا من أنفسنا وبيئاتنا، كنا نسير في قرانا ومناديل النساء على جريد النخل احتفاء بختم القرآن، وكل مواكبنا اليوم وما نتخذ فيها مستعار؛ مقاصدها وصورها. ليس لنا اليوم رياضة ولا لعب ولا موكب للجد أو الهزل إلا استعارة من أوروبا، فأي الحالين أولى بالرثاء؟!
عاداتنا وألعابنا الصالحة تموت بين أيدينا لا تجد من يبقي عليها أو يدافع عنها؛ لأنها ميراثنا وكل شيء لنا حقير عندنا، ولأنها ليست من أوروبا، وليس لنا مقياس للخير والشر، وما يحسن وما يقبح، وما يهجر وما يحفظ إلا ما صنعته أوروبا.
الإثنين 15 ربيع الأول /25 ديسمبر
لقد ذل من بالت عليه الثعالب
في أمثال العرب: لو ذات سوار لطمتني! وفيها أيضا: لقد ذل من بالت عليه الثعالب، وفي شعرهم:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر
ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب •••
ولو أني بليت بهاشمي
خئولته بني عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن
تعالوا فانظروا بمن ابتلاني؟!
هؤلاء اليهود نحن آويناهم وحميناهم ورعيناهم، كانت أورشليم دار الذل والصغار لهم، وكانت معابدهم مزابل في عهد الروم، فجئنا - نحن العرب المسلمين - فطهرنا المعبد، وقدسناه وجعلناه ثالث مساجد الإسلام حرمة، ورفعنا عن اليهود الأغلال، وحللنا عنهم القيود، فعاشوا في أكنافنا مغتبطين حيثما كنا من المشرق إلى المغرب. فتحنا إسبانيا فدخلوا في آثارنا وعاشوا في ظلالنا ورتعوا في حمانا، فلما خرجنا منها أخرجوا صاغرين وطردوا منها غير آيبين، وهكذا كنا وكانوا.
وقد لقوا العسف وسيموا الخسف حيثما كانوا من أوروبا، فلما دار الزمان وتغير الحدثان أقبلوا مع من أذلوهم إلى من رحموهم، يقولون: أرضنا وتاريخنا وميراثنا! اخرجوا أيها العرب. قلنا: عيشوا في كنفنا، بل عيشوا في أوطاننا كما كنتم من قبل ولكم علينا ما عهدتم من العدل والنصفة والبر والمرحمة. قالوا: ديارنا وميراثنا، وديننا وتراثنا، فاخرجوا أيها العرب، فأنتم اليوم ضعفاء ونحن بالمال والكيد، وأوروبا وأمريكا أغنياء. وكان ما كان مما لست أذكره، ولكنها ذلة لا يقبلها عربي، ودنية لا يغض عليها كريم، ونحن وهم والزمان، وسيعلمون أنه لا يزال في قلوب العرب من الإيمان والعزة ما هو أعظم من كل ما جمعت أوروبا وادعت، وكل ما كادت إسرائيل وبغت، وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون!
الثلاثاء 16 ربيع الأول/26 ديسمبر
في جامعة السند
شهدت اليوم حفلا في جامعة السند لمنح رئيس وزراء الباكستان لياقت علي خان درجة دكتور في القانون. وكان رئيس الحفل مدير الجامعة دين محمد حاكم السند، وقد شهد الحفل أعضاء السلك السياسي وكثير من الوزراء ورجال الدولة وأساتذة الجامعة وطلابها.
وكان حفلا قصيرا منظما تسيطر عليه ألسن الإنكليزية ، وفيه مسحة من الاستقلال؛ فقد فتح الحفل بتلاوة القرآن، وكانت الأقبية (الأرواب) ذات ألوان خاصة وكان أعضاء الجامعة يلبسون طرابيش لها أزرار بيضاء مشربة بصفرة. حمدت أن كان للقوم بعض الاجتهاد في أمورهم، ولم أذمم محاكاتهم جامعة الإنكليز بعد طول عهدهم بالسيطرة الإنكليزية. على أن المحاكاة ليست عيبا ما لم تكن لمذلة في النفس، أو جهل، وأما من أخذ عن غيره فخارا مؤثرا فهو شريك المبتدع، على اختلاف الانطباع في الشركة. وآية الاختيار أن تجد الجامعة تأخذ وتعطي وتقبل وترد. لا ريب أني آمل أن تكون جامعات باكستان وجامعات البلاد الإسلامية من بعد أكثر استقلالا وابتكارا، توافق غيرها برأيها لا بالمحاكاة وتخالف برأيها لا بالمعاداة.
إن محنة الأحرار أن يجدوا قومهم عاجزين عن الاجتهاد في المعقولات والمحسوسات، وربما تجد أكبر الناس دعوى في العلم أصغرهم نفسا في هذا. دعوت مرة إلى أن توضع كلمات عربية معروفة في تاريخنا لتقدير نجاح الطلاب في الجامعة، فأبى إخواننا إلا الكلمات المترجمة عن الفرنسية وهي نائية عن لغتنا وتاريخنا. ودعوت إلى أن يلبس أساتذة الجامعة في الحفلات عباء مختلفة الأشكال بإشارات، فلم يأبه أحد بهذه الدعوى وآثروا أن يلبسوا أثواب الكهان محاكاة لجامعات أوروبا.
الأربعاء 17 ربيع الأول/27 ديسمبر
العالم الهائل
الفكر لا يسكن ولا يفتر، ولا يرضى بمجال ولا يؤمن بمحال، فهو دائم الطيران في الزمان والمكان، مستمر في الانتزاء بين الأرض والسماء.
يصعد الفكر محلقا، خافقا ومرنقا، يخترق الأفلاك، ويجاوز السموات، فيروعه المنظر الرافع، والمجال الهائل، والعالم المنبهم، والسر المستعجم. ويرى غاية ولا نهاية، فيهبط مرتاعا عييا مجهودا، يلوذ بالزمان المحدود والمكان المرود، كما يفزع الطائر إلى عشه حيث تعصف به الريح أو يغلبه المطر ويلقى ما يهوله من حادثات الجو، أو آفات الأرض.
فإذا استردت النفس فكرها الطائر، كما يسترد الصائد صقره المعلم فاستراح حينا واستجم قليلا، عاد يحاول المجال الفسيح ويطير على متن الريح، ثم يصعد إلى حيث أعيا وارتاع، وخفق فأخفق فيهبط إلى عالمه ويأوي إلى عشه، مفكرا في نفسه فيؤديه التفكير في النفس إلى عالم واسع هائل يصله بالعوالم التي راعت، بل يجد هذه العوالم مطوية فيه. هكذا إقدام وإحجام وطيران ووقوع وتحليق وإسفاف.
لا حرج على الفكر أن يطير ويحوم ويعلو ويسفل ما لم يهجم على ظنن كما لم تهيأ أمور وسائله، أو يخاطر باعتقاد لم تستوف مقدماته. وليذكر كل حين أنه لا يعرف ما في حجرة لم يدخلها على قربها منه ودخول أمثالها ومعرفة ما يتصل بها.
إن طيران الفكر على غير هدى ركم على العقول أخيلة من الفلسفة وأوهاما، وإن طيران الفكر المرتاد المتأمل المتثبت، هدى للناس إلى عوالم العلم والعمل.
الخميس 18 ربيع الأول/28 ديسمبر
الله يكفيه شر الناس
في حديقة تجاور دار السفارة المصرية في كراتشي، سدرة تشرف على هذه الدار وتتدلى فروعها عليها، وتمتد بعض الأغصان إلى نافذة مسكن فيها.
كثيرا ما نعمت برؤية حيوان يسمى گلهري يشبه السنجاب، ولكنه أصغر جسما وأقصر ذيلا، وهو حسن المرأى سريع الحركة كثير التصويت كأن صوته شقشقة عصافير.
وأنا أفرح لمرأى هذا الحيوان ناعما على غصون السدرة، آكلا من ثمرها يمد يده فيقتطف الثمرة ويقفي فيأكلها، وأضحك لسرعتة ونشاطه، واختلاف أفراده عدوا وهبوطا وصعودا.
قلت يوما: دابة لنعمة، وجدت مأوى ومأمنا ورزقا على هذه الشجرة، وما أحسبها في حاجة إلى الماء فإن احتاجت فهو قريب من أصل الشجرة في الحديقة، فقد وجدت الطعام والأمن والعافية. قال رفيق يسمع كلامي: الله يكفيها شر الناس. قلت: أجل، هذا هو الشر الأكبر، فما أرى على هذه الدابة بأسا إلا من الناس، فهي على الشجرة بمنجى من الكلاب والقطط، وأراها تقارب الغربان فلا تؤذيها ولا هي تخاف منها. ولكن الإنسان لا يبعد شره عن الحيوان، فلعل طفلا يرمي إحداها بحجر، ولعل رجلا يستمتع برميها بالبندق ليعجب بمهارته في الرمي، ولعل أحد المولعين بصيد الحيوان وحبسه، أو قتله وحفظه محنطا، ينزل الهلاك والفزع بهذا السرب الآمن، ولعل بعض التجار والصناع لهم أرب في شعره أو جلده، ولعل آفات أخرى في يد الإنسان كامنة.
أجل، إنه حيوان ناعم آمن إن كفاه الله شر الإنسان.
الجمعة 19 ربيع الأول/29 ديسمبر
برهان قاطع
معجم في الفارسية معروف له صيت بين عارفيها ذائع، ترجم إلى التركية، وطبع في إسطنبول منذ دهر. ألفيت نسخة منه فارسية مكتوبة في إسطنبول فأخذتها، فكان رجوعي إلى النسخة التركية المطبوعة حينا، وإلى الفارسية المخطوطة حينا. وكنت لا أرجع إليه إلا مضطرا أجد فيه مشقة، فأوثر معجما من الفارسية إلى الإنكليزية. ثم طبع الكتاب في إيران وألحق به ألفاظ وضعها مجمع إيران (فريسنكستان إيران)، وتفضلت وزارة معارف إيران فأهدت إلي منه نسخة، فوجدت ورقا ثقيلا وجلدا نقيا، ولكن بقيت في نفسي نفرة من الكتاب لسابق عهدي به. وأنشطت للرجوع إليه أول الأمر، ثم رجعت إليه فرغبت فيه وحرصت على الرجوع إليه، بل رغبت في تصفحه كلما فرغت له في غير حاجة. سألت نفسي: ماذا حدث في الكتاب، هل غير ترتيبه؟ فنظرت فإذا الترتيب كما كان! ما الذي يسر الكتاب للبحث وحبب إلي النظر فيه ...؟ لم يحدث في الكتاب شيء إلا أنه طبع على الطريقة الحديثة؛ كل كلمة تبدأ سطرا، فأمكن عبر المادة الطويلة بنظرة عاجلة وبلوغ المقصد منها بطلب يسير.
قلت: ليت «القاموس المحيط» و«لسان العرب» ينشران على هذا النسق! وقلت ما قلت قبلا: إن نصف المعارف في هذا العصر ترتيب وتنظيم، كان الباحث في «الأغاني» عن أخبار رجل لا يستوعبها إلا أن يقرأ الكتاب كله، والباحث اليوم ينظر في كشاف يحيط بالصفحات التي ذكر فيها الرجل فيقلبها سريعا. فانظر الفرق بين دقائق يقلب فيها صفحات من «الأغاني» وأشهر يقلب فيها الكتاب كله، وقس على هذا المعارف في العصور القديمة وفي هذا العصر.
السبت 20 ربيع الأول/30 ديسمبر
العلماء في زماننا
كان الملوك والأمراء والكبراء في العصور الخالية، لهم الأمر والنهي وبأيديهم النفع والضر، بل الحياة والموت، وكانوا يعظمون العلماء ويجلونهم. وكان العلماء يغشون مجالسهم - ومنهم من يتورع عن غشيان تلك المجالس - فيتكلمون في علم وأدب أو يعظون. وكان الملوك وأشباههم يبالغون في إجلال العلماء وتكريمهم حتى أثر عن هارون الرشيد أنه صب الماء على يد عالم ضرير وهو يغسل يده بعد الطعام.
ونحن حين نقرأ التاريخ اليوم نشتد في نقد عالم تملق خليفة، ونشتط في مؤاخذة أديب آثر رضاء ملك، على شدة الحاجة إلى ما في أيدي الرؤساء وشدة الخوف منهم في تلك العصور.
ونحن نعيش اليوم في عالم لا يستطيع ملك فيه أن يأمر بقتل، ولا يهب فيه أصحاب السلطان مالا لعالم أو أديب، ولا يملكون التصرف في خزائن الدول. فما بال ناس من أولي العلم والأدب يتبرعون بالتملق، ويتطوعون بالغلو في المدح والتعظيم؟! إنا لنقرأ ونسمع في الحين بعد الحين مديحة من النظم والنثر ألقيت بين يدي وزير أو رئيس وزراء أو أمير أو ملك، لو أنا قرأنا مثلها لعالم في العصور الغابرة لاشمئزت نفوسنا وحقرنا القائل واستغفرنا الله، وقلنا: عصور الاستبداد والاستعباد والذلة والنفاق. ولو ساغ التماس العذر في هذه المقامات فالسابقون أوضح عذرا وأقرب إلى العفو. ألا إن امتحان الأقوال الطليقة والدعاوى المرسلة إنما يكون حين تقارنها الحقائق وتصحبها الحادثات ويبتليها الاختبار. إننا نسمع من كبار العلماء كل حين مدحا بغير حساب، ولا نسمع حينا موعظة بحساب، فليت شعري! أنحن مثل أسلافنا أم هم كانوا أصدق قولا وأصلح عملا على اختلاف الزمان وتفاوت الأحوال؟
الأحد 21 ربيع الأول/31 ديسمبر
مرور عام
تم أمس عام وولد اليوم عام، من أعوام كثيرة ماضية وآتية لا يعلمها إلا الله.
والإنسان يفكر كلما انتهى عام، ويصحو من غفلته فيتذكر ويعتبر، ثم يغفل فتمضي به الأيام وتمر الخطوب، وتشغله الأشغال والضوضاء، حتى ينتهي عام آخر فيصحو ويذكر ويعتبر ثم تمضي الأيام وتمر الخطوب.
وما أسرع دورة الأيام وما أقصرها! وما أضيع العمر فيها إن عد الإنسان السنين كما تعد الدراهم، وأحصى ما مضى وفكر فيما يأتي كما يفكر فيما أنفق وما عسى أن ينفق!
فإن اتخذ الإنسان زمانه ظرفا للعمل، ومجالا للجد ولم يهمه منه إلا اتساعه لعمله، وامتلاؤه باجتهاده، ولم يشغل نفسه بذاهبه وآتيه، يجد زمانه أوسع وعمره أكثر بركة، وعسى أن ينجو من دور الزمان، ودوار الأيام.
نحن لا ندري ما وراء الزمان وكم قال فيه الفلاسفة واختلفوا، ولكن لم يختلف الناس في العمل والجد جهد الطاقة ووسع المقدرة، فإنما الزمان بالأعمال فإن يكن ظرفا فهو رقيق شفاف لا يرى، ولكن يرى ما فيه. والسعيد من جعل عمله فيه صافيا رائقا جميل الرواء، ليس طعمه دون مظهره، ولا مخبره أقل من منظره، ولا فائدته أدنى من رونقه، ولا لذته أضعف من لألائه.
السعيد من ملأ الزمان أملا وعملا وطهرا وصفوا، وخيرا ونفعا.
الإثنين 22 ربيع الأول/1 يناير 1951
أهل الظاهر وأهل الباطن
حججت سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة (سنة 1948م) وكنت وزير مصر في المملكة العربية السعودية، وقد عنيت بسلامة حجيج مصر وراحتهم، فلقيتهم وخالطتهم، وتعرفت شئونهم. وكان في حجيج مصر مترفون لم يخبروا الشدائد، ولا خبرتهم المشاق، وليس للدين في قرارة نفوسهم سلطان، فهم سياح لا حجاج كما قال أمير الحج تلك السنة. قال قائل منهم شاكيا مشقة المناسك سائلا عما وراء هذه المظاهر، قال: ما حسبت أن الحج جلوس في عرفات معظم النهار ووقفة قصيرة آخر! وسمعت من هذا الضرب أسئلة، قلت لأحدهم، وهو يحسب أنه من أهل الحقائق المتضلعين إلى الأسرار: أنتم من أهل الظاهر ترون الأمور في ظاهرها وأشكالها وتقدرونها على قدر الأشكال من الفخامة والمتانة والصنعة والرونق، وما ألفتم من رواء الحضارة، وعرفتم من ألوانها.
وأهل الباطن تنفذ بصائرهم حيث تنتهي الأبصار، ويرون وراء كل مرأى وكل حركة هنا معنى جليلا وقصدا عظيما، كما يقرأ الأديب الأسطر البليغة فيشغل بمعناها عن خطها وسطورها وورقها، فلا تحسبوا أنفسكم أهل الحقائق الذين لا يرضون بهذه المرائي الصغيرة والحركات القليلة، فلو كنتم منهم لنفذتم إلى معنى الحج وحكمته، ورأيتم وراء الوجوه والأشكال أضعاف ما عليها من الجمال والجلال.
الثلاثاء 23 ربيع الأول/2 يناير
من الفروق بين المرأة والرجل
مما يفرق بين المرأة والرجل أن المرأة تقوم بجمال صورتها، بصباحة وجهها ورشاقة قدها، ونصوع لونها، وتقدر بما يزين جمالها من لباس وحلية. والرجل يقوم بغير هؤلاء أكثر الأحيان.
فالمرأة في اهتمام دائم بجسمها وثوبها، كاهتمام الرجل بعمله وأدبه وصناعته وماله وجاهه ... وهلم جرا. والمرأة - ولا ريب - تهتم كذلك بهذه الأمور التي تهم الرجل، ولكن اهتمامها بصورتها له المكان الأول. والمرأة في هم من منافسة غيرها من النساء في الجمال والزينة، ومن التحبب إلى الرجال بهما. وهذا الهم يزداد كلما غشيت المرأة المجامع العامة والحفلات التي يختلط فيها الرجال والنساء، حتى ينقلب همها غما إن قصرت في صورتها أو حليتها، والأزواج مرهقون بمطالب أزواجهم من نفقات اللباس والزينة. وزاد المرأة غما وعناء وإرهاقا أن المحافل الأوروبية ومحافلنا التي تحاكيها أذنت بالتحدث عن جمال فلانة وحلي فلانة وثياب فلانة، وعنيت الصحف بنشر أحاديث وصور عن النساء الجميلات الحاليات، بل جاوزت هذا إلى تقويم جسد المرأة عاريا وتلقيبها ألقاب الملوك. فقد صارت المرأة في معرض دائم يعرض فيه جسمها وثيابها وحلاها، وفي منافسة مستمرة بصبغ وجهها وبذل الأموال في تلوينه، وفي تحصيل أنفس الثياب وأثمن الحلي. وصارت المرأة تعاني غما وعناء، يعلم ظاهرهما من يغشى المحافل ويتأمل فيها، وتعلم هي من حقيقتهما أكثر.
أقسم أني لأشفق على المرأة وأرثي لها، ولا أغضب عليها وأنقم كلما رأيتها في هذه المعارض وفي هذه العناء. وكم في هذه المحافل من مناظر مضحكة مبكية! فربما ترى العجوز التي تستطيع أن تغنى بكرامتها ووقارها فقبل يدها كما كنا نرى في بيوتنا، تراها مصبغة محلاة بما يذهب بهيئتها وسمتها ووقارها ويؤذن بحسرتها ويدل على ما تعانيه في ظاهرها وباطنها.
الأربعاء 24 ربيع الأول/3 يناير
الحر عزام بلا يمين
عزمت وأنا في الحجاز على ترك التدخين شهرا، فلما عرض علي أحد الأصدقاء سجارة قلت: أتركه شهرا. قال: هل أقسمت؟ فقلت فورا:
الحر عزام بلا يمين
وعزمة الأحرار كاليمين
وقلت قبلا في منظومة لي اسمها «اللمعات»:
إن عزم الحر فيه قسم
مضمر يعلمه من يعلم
والحق أن اليمين يحتاج إليها ذو العزم الضعيف ليشد من عزمه، وقل أن تشد اليمين عزما خائرا، وللمتنبي قصيدة مطلعها :
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم
ماذا يزيدك في إقدامك القسم؟
وفي اليمين على ما أنت واعده
ما دل أنك في الميعاد متهم
وكان أحد قواد الروم أقسم عند الملك لينتصرن على سيف الدولة.
إن من الناس من يعزم فيمضي فلا يثنيه شيء وإن لم يقسم، ومنهم من يقسم ويؤكد القسم ثم يخور عزمه وتنثني همته لأولى العقبات، ولعل القسم شعور خفي بضعف العزيمة، بل لعله أحيانا خداع من لا يثق بنيته أو إحجام من لا يريد أن يفعل، وقد قيل قبلا:
وأكذب ما يكون أبو المثنى
إذا آلى يمينا بالطلاق
وقال المتنبي:
ويكون أكذب ما يكون ويقسم
فإن قيل: إن الأيمان تعلة العزائم الضعيفة، وضماد الهمم الجريحة، وإن المعتد بنفسه المعتز بعزيمته لا يقسم، لم يكن هذا في جملته بعيدا من الحق. ومن أعجب الأمور عندي أن يقسم الموظف حين يتولى عملا أن يكون فيه أمينا مؤديا واجبه، فإن تولي العمل هو تعهد بالقيام به على خير الوجوه، فإن لم يكن الموظف ممن يفون بالعهود لم يخلق القسم فيهم وفاء. ولولا ضعف النفوس وفقد الثقة ما احتاج القاضي إلى تحليف الخصوم والشهود، ولو فقهوا العهد المأخوذ عليهم في دينهم وشريعتهم وقوانين بلادهم، ما أحوجوا القضاة إلى التحليف ولكن ...
الخميس 25 ربيع الأول/4 يناير
لا يموت أبدا من حي قلبه بالعشق
هركز نميرد آنكه دلش زنده شد بعشق
ثبت است بر جريده عالم دوام ما
لا يموت أبدا من حي قلبه بالعشق
إن بقاءنا مثبت في صفحات العالم
كذلك يقول الشاعر الفارسي الصوفي حافظ الشيرازي، فما معناه؟ إن العشق عند الصوفية هو الاتصال بالله أو الفناء فيه، ويبدو لي أن قول حافظ ليس ضربا من خيال الشعر، فالإنسان فان سريع الفناء حين تضيق حياته في جزء من المادة ووقت من الزمن؛ كلما اتصلت نفسه بالمادة وتعلقت بالمحسات سجن فيها وتقلب معها وفني بفنائها، فهو يموت بموت الجسم، ويموت بعض الموت بزوال ما تعلق به قلبه من مال أو منصب أو دار أو حيوان أو إنسان، فإن اتسعت حياة الإنسان وجاوز كونه الحدود الحسية اتصل بالمعاني العامة وبالعالم الروحي؛ عالم الحقائق غير المحدودة، واتصلت به من هذه الحقائق معاني البقاء والسعة والسمو على الحدود والقيود، وكلما رقي في هذا العالم زاد حظه من الاتصال بالحقائق الباقية والمعاني الخالدة التي لا تفنى بفناء الأوقات ولا تضيق بضيق الأمكنة؛ حتى يصير الإنسان في إدراكه وآماله وقوله وعمله خارجا على حدود الزمان والمكان متصلا بالحقائق، فيكون فيما يدرك وما يعمل كأنه قانون من قوانين الله تعالى التي يسير بها الكون وهي قوانين لا تموت.
هكذا يضيق الإنسان ويتسع، ويحبس وينطلق، ويقيد ويرسل، ويعلو ويسفل، وينقل في المادة ويتحرك بحركاتها ويعيش بها ويموت، أو ينطلق ويخلد مع الحقائق ويحيا مع المعاني العامة والقوانين الشاملة، فلا يعرف موتا ولا فناء.
لعل حافظا الشيرازي أراد هذا المعنى في بيته، فهذا يلائم ما تدل عليه عبارات كثير من شعراء التصوف، وتوحي به إشاراتهم فيما يبلغه علمي وفهمي. فاللهم أحي قلوبنا بالعشق ونجنا من الحدود والقيود وارزقنا الخلود.
الجمعة 26 ربيع الأول/5 يناير
قصة للصاحب ابن عباد
قرأت في كتاب «معجم الأدباء» لياقوت الحموي، أن الصاحب إسماعيل بن عباد كان في بغداد يطلب العلم في شبابه، وكان في المدينة حينئذ متصوف معروف اسمه ابن سمعون يتحدث في التصوف على طريقة الشبلي الصوفي المعروف.
قال الصاحب: ذهبت إلى مجلس ابن سمعون في زي طلبة العلم، فوضع له كرسي من الساج وخرج على الناس فجلس على كرسيه وتكلم فسألته: ما تقول في سيكونيات العلم إذا وقعت قبل التوهم؟ - أراد الصاحب أن يسأل سؤالا لا معنى له ليرى كيف يجيب الشيخ - قال: فورد عليه ما لم يخطر على باله، فأطرق قليلا ثم أخذ يتكلم فأطال، فقلت له: هذا إذا وقعت بعد التوهم وأنا أسأل عنها إذا وقعت قبل التوهم.
قال الصاحب: وما زلت به حتى أضجرته.
أقول: إن هذا المتصوف إما أن يكون قد عرف أن الصاحب يهزل معه فمضى في كلامه ليرى الناس قدرته على التكلم ويرى الصاحب أن هذا الذي حسبه هزلا هو عند العلماء جد، وإما أن يكون قد توهم أن في العلم أشياء تسمى سيكونيات وأشفق أن يعترف بجهله بها فانطلق في كلام يموه به على الناس، ويغرب به على الصاحب، ولو قال لا أدري لسلم واستراح.
إن كثيرا من الناس يتكلمون على غير هدى؛ رئاء الناس، وهجوما على ما يجهلون، واجتراء على الحق، وسخرية بالعقول، واستكبارا أن يقولوا: لا نعلم. وكثير من السامعين والقارئين يقسرون عقولهم على قبول ما لا يعقلون، ويتوهمون أن هذا المكتوب أو ذاك المسموع وراءه معان جليلة غامضة، فلا يعدمون وهما يسيرهم في كلام ويفضي إلى أوهام. وكم كتب الكاتبون وشرح الشارحون كلاما كسؤال الصاحب وجواب ابن سمعون، وهو من الكلام الذي قال فيه أبو العلاء:
وأقسم أن ابن المعلم هازل
بأصحابه والباقلاني أهزل
السبت 27 ربيع الأول/6 يناير
بين منفعة الواحد ومنفعة الجماعة
الجماعة آحاد اجتمعت، خير الآحاد في خير الجماعة وخير الجماعة في خير الآحاد.
ولست أعرض هنا للمذاهب المختلفة في النظر إلى الجماعة والواحد أيهما أولى بالرعاية، ولكني أقول: إن الناس ليسوا قطعانا من الغنم، وأعظم ما في الإنسان إرادته وحريته، فلا أحسب نظاما للجماعة تبطل فيه إرادة الفرد وتضيع قيمته، وأرى أن مقصد الجماعة إسعاد كل واحد فيها، وعملها تمكينه من أن يبلغ أبعد ما تستطيع مواهبه أن تبلغه. وأما أن يعيش الناس قطيعا ليس لواحد فيها إرادة ولا مقصد ولا كرامة ولا قيمة فهذه معيشة الحيوان، وطريقة القطعان.
وبعد فالواحد الحر المكرم المقوم في جماعته الذي يسمو على معيشة الحيوان، تطمع نفسه إلى القوانين العامة، والمعاني الشاملة، فيعمل للجماعة وهو يعمل لنفسه، ويهجر الجزئيات إيثارا للكليات، وهو أقرب إلى الحرية والرقي الروحي.
وأسعد الناس من رفع نفسه إلى هذه الدرجة، الدرجة التي تتفق فيها منفعته ومنفعة جماعته، يعمل لنفسه فإذا هو عامل للجماعة، ويقصد خير الجماعة فإذا هو عامل لنفسه .
إذا اتسع عقل الإنسان، وصفا وجدانه، علت نفسه، وعظمت همته، فلا يجد اختلافا بين المطالب العالية التي تطمح إليها نفسه العالية، والمعاني الواسعة التي تطلبها نفسه الواسعة، وبين خير الجماعة ونفعها وسعادتها. وأما من صغرت نفسه وضاقت وأسفت، فهو يرى الاختلاف بين مطلبه ومطلب جماعته بل أسرته، بل بين مطالب نفسه في أوقات مختلفة وأحوال متباينة.
الأحد 28 ربيع الأول/7 يناير
ترجمة النظم بالنظم
الشعر خفي المسالك في النفس، لطيف المآخذ في المعاني، دقيق التصرف في الألفاظ. والكلام يسهل نقله من لغة إلى لغة إن كان عماده معاني تسهل الإبانة عنها في اللغات المختلفة، كالأخبار والأحاديث، وكلما اشتدت صلة الكلام بالعاطفة، والشعور والذوق وطرق الأداء، وأساليب التصوير عسر نقله من لغة إلى أخرى على قدر ما بين اللغتين من تقارب وتباعد وما بين الأمتين من تشابه وتخالف، وما بين البيئتين من تآلف وتنافر.
والشعر أكثر اتصالا بعاطفة الأمة وذوقها، وطبع الشاعر ومزاجه، وطرائق التعبير والتجوز والتصوير في اللغات، فهو حري أن يكون أشد الكلام استعصاء على النقل من لغة إلى لغة. ويزيده عسرا أنه مقيد في لغته وفي اللغة التي تتبناه بالأوزان والقوافي، وعلى المترجم أن ينقل المعاني والصور والدقائق في مسافة محدودة من البيت، على وزن معلوم، وقافية مألوفة، وفي هذا امتحان الطبع والملكة، واختبار العلم باللغة، والبصر بدقائقها، وابتلاء الذوق كيف يخرج من هذه المآزق كلها سليما صحيحا. ولا بأس أن يتصرف المترجم بالإطناب والإيجاز، وتغيير الألفاظ والأوزان والقوافي في غير حرج. أمور لا يدركها إلا من اختبرها ولا يقدرها إلا من رازها.
وقد وقعت في هذه المضايق، وجربت من هذه المصاعب وأنشدت كثيرا قول أبي الطيب:
وضاقت خطة فخلصت منها
خلاص الخمر من نسج الفدام
الإثنين 29 ربيع الأول/8 يناير
المرء حيث يضع نفسه
قرأت في كتاب أدبي، أحسبه «البيان والتبين»، أن أديبا رأى فرسا يحمل عليه الماء، فقال: المرء حيث يضع نفسه، لو هملج هذا ما حمل عليه الماء.
في الناس طموح، آماله في اللوح، يكاد يحلق بغير جناح، على الرياح، بعيد الأمل، دائب العمل، أبي عيوف، يأبى الدنايا ، ويكلف بالصعب البعيد. وفيهم من لا يرفع بصرا إلى قمة، ولا تطير به همة، ولكن بصره في الحضيض وهمته في الرغام، كهوام الأرض لا يأنف من دنس، [ولا] يضيق بهوان. وبين هذين درجات تضع الناس فيها هممهم وعزائمهم وأخلاقهم.
لا أقول: إن كل من طمح نجح، ولا كل من أمل حصل، ولكن هذه السنة القائمة في هذه الحياة.
وليس هذا في المال والجاه والمنصب، والعلم والعمل فحسب، بل هو أكثر ما يكون في الأخلاق. فهذا فقير ولكنه عفيف فهو مكرم مهيب، وهذا غني ولكنه شره، فهو حقير مهين، وهذا عزيز بنفسه لا يطأطئ رأسه لضيم، ولا يستعبده مطمع، فهو كذلك عزيز عند الناس، لا يسومه أحد دنية، ولا يطمع أحد في مذلته. وهذا ذليل في نفسه يكلف بالمذلة في غير حاجة إليها، ويسعى إلى الدنايا غير محمول عليها، لا يغنيه منصب ولا مال، فهو كذلك عند الناس ذليل.
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
تأمل في الناس تجد تصديق هذا، وتعرف أن الإنسان هو يدعو الناس إلى إكرامه أو إهانته، وإلى إعزازه أو إذلاله. أكرم نفسك تكرم، وأهنها تهن، ولا تلومن إلا نفسك.
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها
وحقك لم تكرم على أحد بعدي
الثلاثاء 1 ربيع الثاني/9 يناير
الرجل بعد سن الوظيفة
في مصر وكثير من البلاد، يعفى الموظف من العمل بعد سن الستين ويمنح راتبا لعيشته يختلف باختلاف راتب وظيفته ومدتها، يسمى في مصر المعاش وفي البلاد العربية الأخرى التقاعد. وكثير من الناس يقدرون أنفسهم، ويقدرهم قومهم بالمنصب الذي يتولونه، فإذا أعفي الموظف من العمل - والإعفاء فيه مكافأة وتقدير كما فيه استغناء - لم يبق للرجل قدر عند نفسه وعند الناس إن لم يكن له غير الوظيفة وزن، فترى كثيرا ممن يعفون من العمل؛ أي يحالون إلى المعاش في اصطلاح الناس، يحزنون، وتفتر هممهم، وتهن أجسامهم. ومنهم من يسرع إليه الموت، يرى أن عمره مضى أو قدره نقص، ولم يبق له سلطان ولا جاه بعدما كان الناس يتقربون إليه ويتملقونه . ولو كان للناس أقدار في أنفسهم، وهمم أكبر من وظائفهم لعدوا الإعفاء من الوظيفة حقا لهم ومكافأة على أعمالهم، وإطلاقا من القيد، وتمكينا من العمل؛ فقويت أجسامهم وشرحت صدورهم، وعملوا ما لم يستطيعوا ما أمدتهم القوة والصحة. وكثير من أولي العلم والأدب زادهم اعتزال الوظيفة عملا وقدرا.
فينبغي أن يقل الناس من تقديرهم الوظائف ليعتزوا بغيرها ويكملوا أنفسهم بدونها، فإذا زالت لم تزل معها كل شيء، وينبغي كذلك أن يروضوا أنفسهم على أعمال يمارسونها على قدر ما يأذن به العمل الرسمي، فإذا فرغوا من هذا العمل يجدون عملا.
قد جنت الوظائف على كثير من الناس وإن نفعتهم، وحرمتهم أنفسهم وإن أكسبتهم مالا وجاها.
الأربعاء 2 ربيع الثاني/10 يناير
الشمعة في أدبنا
نحن في هذا العصر لا نشعر بما كان يشعر به آباؤنا في العصور الخالية، ففي المدن اتخذ الناس من الليل نهارا صناعيا تغني مصابيحه عن ضوء النهار؛ فيستمر العمل، ويطول السهر، وتدوم الضوضاء فيحرم الناس نعمة السكون والهدوء. وفي القرى حيث لا كهرباء، لا يعدم الناس وسائل للتنوير تمكن الصانع من السهر على صنعته، والقارئ والكاتب من إطالة القراءة والكتابة ما شاء في غير عناء.
وكان أسلافنا يستصبحون بسراج خافت تبص فيه فتيلة تستمد الزيت لنورها، وكان أعيانهم يوقدون الشمع. وكم سهر علماؤنا وأدباؤنا وشعراؤنا على نور الشمع، فكانوا إذا هود الليل وخفتت الأصوات أنسوا إلى الصاحب الأنيس، والرفيق المسعد، ونظروا إلى الشمعة ولها لسان من اللهيب يميس أحيانا ويخفق أحيانا ويطول ويقصر، ورأوا ذوب الشمع يسيل تخيلوه دموعا وتحدثوا في حنين الشمع وحرقته ودموعه. ورأوا الشمعة تذوب والناس يستمتعون بضوئها فتكلموا في الإيثار وقالوا: كالشمعة تضيء للناس وتحترق. ورأوا الشمعة يقط رأسها فيزيد نورها فتكلموا في الإقدام على الشدائد ومعاناة الآلام كيف تزيد الإنسان حياة وقوة، وافتن في هذا شعراء الصوفية.
وإن جمع ما قيل في الشمعة من الشعر العربي اجتمع ديوان كبير يخلد ذكرى الشمعة، ويصور شعور آبائنا وهم يسهرون لفرح أو ترح، أو لكتابة وقراءة.
لعل أحد أدبائنا ينتدب لتتبع ما قال شعراؤنا في الشمع ويرتبه على الزمان فيخلص لنا أدب، هو وحي الخلوة والسهر أيام كان للناس ليل يسكنون فيه، وخلوات يعرفون فيها أنفسهم.
الخميس 3 ربيع الثاني/11 يناير
في المسجد الحقائق
تأملت في المسجد اليوم حين صلاة الجمعة - وأنا أصلي في مسجد صغير يملؤه المصلون السابقون، فأحمل معي مصلى أبسطه في منتهى الصف الأول تحت ظلة خارج المسجد - تأملت فقلت: الناس في غير المسجد غني وفقير وعزيز وذليل، وعظيم وحقير، وراكب وماش، ومنتعل وحاف، ومتكبر ومتواضع، وصاخب وساكت، هذا كله في الدنيا، دنيا المجاز والباطل والزخرف، حتى إذا انتهوا إلى هذه البقعة خلعوا مع النعال هذه المجازات ونبذوا هذه الاستعارات، فتجلت الحقيقة التي لا مراء فيها:
الناس كلهم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم.
أنظر فإذا الناس سواسية يتنافسون في التقوى، ولا يتفاخرون بالزي والمنظر، فأحسنهم في العين أعظمهم خشوعا وأكثرهم دعاء وأحسنهم سمتا.
درويش وغنى بنده اين خاك درند
آنانكه غنى ترند محتاج ترند
الفقير والغني عبد هذه السدة وأغناهم أحوجهم.
وتعم الناس هذه المساواة وهذه الألفة وقد زالت المرائي المفرقة، والمنازع المتنافرة، والمعاني المتلاعنة، فيفسح كل لأخيه، ويتواضع له ويؤثره.
إن المصلي المخلص ليستحي من أثر الغنى عليه، ويود أن يخفي جاهه ومنصبه، يرى أنه دخل المسجد في غير زيه ولم يعد للقنوت عدته، ويحرص المسلمون على سد الفرج بين المصلين، وتقويم الصفوف ملاءمة بين الألفة الباطنة والالتئام الظاهر.
إن ساعات المسجد جلاء للقلب والعقل، وانفتاح في البصر والسمع، تزول فيها حجب عن القلوب، وغلف عن العقول، وغشاوة عن الأعين، ووقر عن السمع.
إن في هذه الساعات لزادا من الحقيقة يثبتنا في معترك المجاز، وذكرى من الحق تمنعنا أن نستجيب للأباطيل.
الجمعة 4 ربيع الثاني/12 يناير
راقصات إسبانيات في الجامعة
قرأنا في صحف مصر وغيرها أن راقصات إسبانيات كن في القاهرة، فذهبن إلى الجامعة فرقصن في حفل هناك، فلما انقضى الحفل زحمهن الطلاب، وكان اضطراب وهرج.
قلت: اللوم على من دعا الراقصات إلى الجامعة، يكرمهن ويشيد برقصهن في معاهد العلم، المعاهد التي لها في تاريخ المسلمين طهارة وحرمة، فهي المساجد أو أخواتها. واللوم على من عرض على الشبان سربا من الراقصات يفتن بأجسامهن وغنائهن وحركاتهن ونظراتهن.
ثم قلت: وتلام أمة نشأت شبابها هذه النشأة التي نعرفها، فيها العرام، والوقاحة، والهزل، وليس فيها الأدب والحياء والجد. وإن شبابنا ينشأ اليوم في الملاهي بين فتن لا يثبت لها خلق، ومهالك لا يسلم فيها فكر.
لا تمكن تنشئة الشباب السليم والبيت والمدرسة كما نرى، ولا يستطيع البيت والمدرسة تربية النفوس والأجسام ما دامت الطرق ما نبصر والملاهي كما نعرف.
يا قومنا إن للسلامة طريقها، وللتهلكة طريقها، وإن الصلاح له سنة، والفساد له سنة، فمن سلك طريق التهلكة فلا يرج سلامة، ومن سار على سنة الفساد فلا يبغ صلاحا.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
لا بد للتربية الصالحة من دار صالحة ومدرسة رشيدة، وبيئة قويمة، فأين هؤلاء مما نحن فيه؟ بل أين هذا السفه مما نبتغيه؟!
السبت 5 ربيع الثاني/13 يناير
طلبة عند وزارة الخارجية
قرأت في صحف اليوم أن زهاء ألفي طالب اجتمعوا في القاهرة واتخذوا قرارات، وساروا إلى وزارة الخارجية ليبلغوها ما قرروا. ومما قرروا أن تقطع المفاوضات بين مصر وبريطانيا، وألا يقبل الاشتراك في الدفاع عن قناة السويس على أية حال. وقرأت أن وزير الخارجية قال لهم فيما قال: إن سياسة البلاد الخارجية لا تكون موضع جدال مع الطلبة.
وأرى أن كل مظاهرة كهذه وراءها معان كثيرة؛ أولها: أننا نعيش في فوضى توحي لصغار الشبان أن يملوا على الحكومة ما يشاءون في أمر لا يعرفون عنه شيئا، وكم في تاريخنا الحديث من هذه المساوئ!
والثاني: أن بعض الناس يوحون إلى بعض الطلبة ما يريدون، فيوحي هؤلاء إلى طلاب مخلصين غافلين فينطلقون لا يصدهم تفكير ولا حياء. والثالث: أن من طلبتنا من يستجيبون لكل ناعق؛ رغبة فيما ألفوا من الهرج والمرج ورغبة عن الدراسة، وكم شهدت في هذا مضحكات مبكيات !
كان لنا أن نتخذ هذه الوسائل حينما كنا ننازع الإنكليز وهم مسيطرون على بلادنا، وليس لنا حول ولا قوة، فلم يكن إلا الصياح وإشاعة الفوضى، والهجوم على الإنكليز وعلى النظام الذي يسألون عنه، لم يكن لنا غير هذا حيلة. أما وقد ترك الإنكليز البلاد إلا بقعة القناة، وقامت لنا حكومة منا، هي أدرى بمطالب مصر وأبصر بالتوسل إليها فليس هذا التجمهر إلا عدوانا على الحكومة، وطغيانا على النظام، وليس وراءه إلا المعاني التي ذكرت، أو ما هو شر منها. والله المستعان.
الأحد 6 ربيع الثاني/14 يناير
الترجمة والإنشاء
محمد إقبال شاعر فيلسوف نظم دواوين تسعة ضمنها شعره وفلسفته، وأنا من أشد الناس إعجابا به واتباعا له، وكنت ترجمت من شعره نظما ونثرا ونشرت منذ سنين، ثم ترجمت رباعيات من ديوان «پيام مشرق» وأنا في كراچي. وكنت بدأت منذ سنين منظومة سميتها «لمعات» جعلتها جوابا لبعض دواوين إقبال، وما زلت على العلات أعود إليها فأزيد فيها ولما تكمل.
وعرضت أول من أمس على الأخ الأديب عمر بهاء الأميري وزير سوريا في باكستان بعض ما ترجمت من شعر إقبال وبعض ما أنشأت من شعر جوابا له، فقال لما أنشأت: هذا أجود من شعر إقبال! قلت فورا: هذا فرق ما بين الترجمة والإنشاء، لست أدعي أن أسامي إقبالا الشاعر الفياض الفيلسوف، ولا يدعي أحد أن ترجمتي شعره ركيكة، ولكن الكلمة التي قلتها فتحت في نفسي سبيلا إلى معان كثيرة، منها أن المترجم لا يشعر شعور المنشئ وإن اجتهد أن يضع نفسه موضعه، فلا يكون في الكلام أحيانا حرقة العاطفة وروعة الفطرة، كالأب والمتبني أو المربي، فربما كان من يتبنى ولدا أو يربيه شفيقا بصيرا بالتربية حفيا بمن يربيه كثير التعهد له، وربما بز الأب في كل هذه المعاني ولكن تنقصه الأبوة وشفقتها، والفطرة وأصالتها، فلا تؤثر عينه وبره كعين الوالد وبره. إن لم يكن هذا ما شعر به الأخ عمر فيما سمع من ترجمة وإنشاء فلعله شعر به في إنشادي، لعلي كنت أنشد ما أنشأت كما ينظر الوالد إلى ولده ويحدث عنه، وأنشد ما ترجمت كما ينظر المربي ويتحدث. وفلسفة إقبال تدور في معظمها حول الفطرة واستكناه ما فيها، والحذر من المحاكاة، والنظر إلى ما عند الناس، وهي الفلسفة التي سماها «أسرار خودي» وأبان عنها في صور شتى من شعره، ولا ريب أن هذه الفلسفة تؤثر الإنشاء على الترجمة.
الإثنين 7 ربيع الثاني/15 يناير
نجدة
سمعت الساعة في إذاعة محطة الشرق الأدنى أن أحد الإنكليز، من ولاة القدس فيما سبق، دعا في صحيفة التيمس اليوم إلى إغاثة البائسين مشردي فلسطين. ووصف ما يعانيه هؤلاء المنكوبون من شدائد، فلم تمض أربع ساعات حتى كان المتصدقون مزدحمين على الصليب الأحمر في لندرة يحملون ما يتبرعون به من ملابس قديمة وأغطية، حتى وقف النساء صفوفا كدأب الإنكليز إذا ازدحموا على شيء، وكل امرأة تحمل نجدتها للمساكين من مشردي فلسطين.
قلت: لو دعا داع في بلاد العرب مثل هذه الدعوة ما رعاها الناس كما رعاها أهل لندرة، ولو وعوها ما سارعو إلى التبرع، ولو سارعوا إليه ما ذهبوا بأنفسهم يقدمون ما تبرعوا به، ولو ذهبوا بأنفسهم ما أطاقوا الانتظار مصطفين حتى تأتي لكل نوبته. ولا ريب أن العرب أكثر اهتماما بأهل فلسطين وأرحم بهم، والإنكليز هم نكبوا أهل فلسطين وأسلموهم إلى اليهود بكيدهم ونفاقهم ودورانهم مع المنافع وتنكرهم للحق، ولكني أنوه هنا بما عند القوم من أخلاق أخرى. هذا الذي يفرق بيننا وبين هؤلاء الناس، هم يسمعون فيهتمون فيعزمون فيبادرون فيفعلون، ونحن في كل خطوة من هذه الخطا تخذلنا النفوس، وتعوزنا النجدة، وينقصنا العزم، ويفوتنا النظام. إن هذه الدعوة وهذه الاستجابة عنوان لكتاب في حياة الأمم وأخلاقها ونظامها، ويستطيع باحث أن يصلهما بكل ما في الأمم من أسباب تقدم وأسباب تأخر. وربما يراهما الغافل أمرا أمما، وحدثا ليس ذا خطر، ولكن الخطر كل الخطر في هذا الحدث لمن وعى ونفذ فكره إلى بواطن الأمور، وبصر بالسنن الخفية التي تحيا بها الأمم وتقوى، أو تهن وتموت.
إن في ذلك لعبرة فاعتبروا يا أولي الأبصار.
الثلاثاء 8 ربيع الثاني/16 يناير
السرقات الشعرية
كم قرأنا في كتب الأدب عن السرقات الشعرية، وكم قرأنا وسمعنا لخصوم شاعر أقوالا في رد معانيه النابهة إلى شعراء آخرين، وكم اجتهد الأدباء أن يفصلوا في دعاوى السرقات واختلفت آراؤهم فيها.
ويبدو لي أنه ينبغي التسليم بهاتين المسألتين: الأولى أن بعض المعاني يعد عجيبا مخترعا لا يظفر به الشعراء إلا قليلا، ويعرف صاحبه الذي اخترعه وينبه به، فهذا المعنى هو ينبغي أن يكون موضوع النظر في دعوى السرقات.
والثاني أن المعاني العامة، بل المعاني السرية، التي لا تبلغ درجة الإبداع والتي تكثر في كلام كبار الشعراء، ينبغي ألا يعنى فيها بهذه الدعوى؛ دعوى السرقة، فإن الشاعر الكبير يقرأ لغيره وتختلط معان كثيرة في نفسه، منها ما سمع ومنها ما اخترع، وتصير هذه وتلك ملكا له، غير متميز بعضه من بعض، إن كان الشاعر في منزلة من الشعر تيسر له اختراع مثل ما اخترع غيره وترفعه إلى مكانة الشعراء المبرزين. وآية هذا أن تجد الشاعر فيما لا تدعى السرقة فيه، ليس أدنى مكانة ولا أقل خطرا منه فيما ادعي فيه السرقة. فإن كان الشاعر فيما يسلم له أدنى درجة، وأقل بلاغة منه فيما ادعي فيه السرقة، وكانت المسروقات في شعره لمعا تتميز عن سائر شعره، حق لمدعي السرقة أن يقول له: إنه أقل خطرا وأبلد طبعا من أن يقول مثل هذه المعاني وإنه سرقها من فلان، فيوزن شعره بالغالب عليه لا بهذه المعاني القليلة التي سيقت إليه. إن الشاعر الفحل المخترع لا يليق به أن يحاسب فيقال له: أخذت وأخذت، ولا يضيره أن يسلب ما يدعى عليه أخذه ما دام له من طبعه وثروته ما لا يخل به أن يسلب هذا المقدار أو أكثر منه.
الأربعاء 9 ربيع الثاني/17 يناير
الإنسان والحيوان
يعلم العلماء المختصون فرق ما بين الإنسان والبهائم في الجسم والنفس، وليس هذا قصدي في هذه الكلمة، إنما يعنيني هنا فرق واحد، ما بين الإنسان والبهيمة في تفاوت الآحاد ، وتفاوت النفس الواحدة في حالات.
فالنوع من البهائم لا تفترق آحاده، ولا يمتاز بعضها من بعض إلا افتراقا قليلا، وإلا امتيازا قريبا. فالفرق بين عنز وعنز، أو حمار وحمار، أو كلب وكلب، هين ولا سيما بين آحاد النوع الواحد. وكذلك البهيمة على اختلاف أسنانها وبيئاتها لا تختلف أحوالها كثيرا، فالحمار في القرية والمدينة وفي البدو والحضر يتشابه إدراكه، وتتقارب نزعاته. ولكن الإنسان، هذا الخلق العجيب، يختلف بين أمة وأمة، ويختلف في الأمة الواحدة، ويختلف واحده في أطوار عدة اختلافا بينا. فنجد في أمة بل في أسرة، اثنين: ذكيا وغبيا، وفصيحا وعييا، وخيرا وشريرا، حتى لنجد مسافة الخلف بينهما أبعد مما تجد بين نوعين من الحيوان.
ثم تجد الإنسان عينه يترقى في الفكر والعلم درجات لا تحصى، ويتقدم في الفن تقدما يكاد يقطع الصلة بين مبدئه ومنتهاه، ويسير في التأدب والتكمل، والتزود من الأخلاق والفضائل إلى غير نهاية، فانفسح للإنسان مجال العمل، وامتدت له السبيل، واتسعت له الحياة على قصرها، بهذه الأطوار المختلفة، والشئون المتعددة، والأحوال المتباعدة، والطرق المترامية. فليجهد الناس للكمال وليدأبوا في التقدم، وليستبقوا الخيرات، فلا حد للفضيلة ولا نهاية للكمال.
الخميس 10 ربيع الثاني/18 يناير
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كان لي صديق أيام الشباب فصلينا معا مرة فاقتصر على الفرض ولم يصل السنة، فأنشدته بيت المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
فكان يقول لي من بعد: كلما هممت بترك السنة تذكرت بيت صاحبك فصليتها.
وإنها لحكمة لأبي الطيب لو وعاها الناس! إنما يقصر الناس؛ لأنهم يرضون ما دون الكمال في أعمالهم، تقف بهم الهمم دون الغاية، أو يصدهم الكسل أو الإشفاق، أو عقبات أخر. ولو أن كل إنسان طمح إلى الدرجة التي فيها كماله، ثم بلغ بكل عمله الكمال جهد طاقته؛ لنال الكمال الذي يبغيه غير منقوص. ولو أن الأمم عملت بحكمة أبي الطيب؛ لتقدمت الإنسانية جماعاتها ووحدانها أكثر مما تقدمت .
حق أن أكبر العيوب، عيوب الناس جميعا، أن يرضى الإنسان النقص في قول أو فعل أو فكر وهو قادر على أن يبلغ به التمام، ذلكم أعظم العيب؛ لأنه عيب كلي يرضي الإنسان بما دون الغاية في كل أموره، ويرضي الجماعة بما دون الغاية في كل شئونها، وما الجماعة إلا وحدانها. والإنسان مدعو في هذه الحياة إلى العمل؛ ليزيد في نفسه وفي جماعته حتى يبلغ التمام أو يقاربه جهده. والكمال لا ينال إلا بمحاولته والسعي إليه والكد له والصبر في طلبه.
تعترض الإنسان عقبات لا حيلة له فيها، وهو إن ثابر وصبر اقتحمها اليوم أو غدا. فأما إن وقف مختارا وكف عن المسير قادرا، فلا سبيل إلى بلوغ الغاية ولن تتم الأعمال التي يتم الإنسان بتمامها في هذه الحياة.
الجمعة 21 ربيع الثاني/19 يناير
عربي مكسر
زارني منذ بضعة أيام في دار السفارة شيخ ربعة قوي، أشمط اللحية طويلها، وتكلم بالعربية معربا فصيحا، سلس الكلام، لا يتردد ولا يتوقف، وعرفني أنه يعلم اللغة العربية، وذكرني أنه قابلني في جدة. وتحدثنا عن اللغة العربية فأقسم مرات أنها أسهل اللغات، وقال: لي دليلان الأول ديني؛ وهو أن الله اختارها لشرعه، قال: والثاني فني، وأفاض في بيان خصائص العربية. وقال: إن التجربة شاهدة، وإنه يكفل أن يعلم من يشاء، فيتكلم بالعربية بما علم منها بعد ثلاثة أيام. قلت: يا شيخ إن الناس يبالغون في وصف العربية بالصعوبة وأنا أدري أنها لغة كاملة دقيقة ومن كمالها صعوبتها. فعارضني يقسم أنها ليست صعبة. قلت: إني فرح بسماع هذا منك فالذي لا ريب فيه أنك شيخ نشأت في غير بلاد العرب، وصناعتك تعليم العربية، وأنت تقسم بعد الممارسة والمعاناة والتجريب أنها ليست صعبة فهذه شهادة قيمة لا مراء فيها.
وقال إن اسمه خليل الأنصاري وإنه يمني الأصل خزرجي وإنه تعلم العربية من والده وصهره في الهند، ولم يقم في بلاد العرب. قلت: إنك جدير أن تسمى الخليل بن أحمد، فاستغفر.
خرج الشيخ على أن يعود إلي الحين بعد الحين. وللشيخ بنت سمعت أنها تتكلم العربية فصيحة معربة، وقرأت رسالة لها عربية بينة.
جاء الشيخ اليوم ليزورني على غير موعد وفي غير وقت الزيارة، فعرفه الخادم أنه ليس حين الزيارة وأن عليه أن يعود كرة أخرى. ثم جاء الخادم عشية يقول: إن شيخا جاء ليزورك «يتكلم عربي مكسر» وعرفت أنه يصف الشيخ خليلا، قلت ضاحكا:
وكم من عائب قولا صحيحا
وآفته من الفهم السقيم
وقلت سبحان الله! ماذا يلقى العالم من الجاهل، والعاقل من الأحمق، والطيب من الخبيث، والمهتدي من الضال، إن خميسا الذي لا يبين يقول للشيخ خليل: إن عربيته مكسرة!
السبت 12 ربيع الثاني/20 يناير
عش حدأة
في حديقة الدار المجاورة شجرة مطلة على حديقة الدار التي ننزلها، وعلى فرع غليظ عال من فروعها عش حدأة، يطير هذا الطائر محلقا يلتمس رزقه في أجواز الفضاء، وعلى الأرض والشجر، مقدما على الخطر، واثقا بالظفر، ويعود بما قسم له، باسطا جناحيه، حتى يقارب العش فينحط بجانبه ويطعم فرخه بما نال جناحه ومنقاره ومخلبه بعد تحليق وإسفاف، وصف وقبض. ولا يخلو العش من أحد الزوجين: الذكر والأنثى، يحلق واحد في طلب الرزق ويحرس آخر العش، دواليك حتى يجمعها الليل. رأيت الزوجين وأنست بالنظر إليهما قلت: سبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى! من علم هذا الطائر أن يجمع الأعواد من كل جانب فيضعها ممهدا لبيضه؟ ومن علمه أن يحضن البيض حتى يفرخ؟ ومن ملأه حنانا على أفراخ لم يرها من قبل؟! بل من عرفه هذه الأفراخ وأوصاه بها؟ ومن ألزمه أن يتقلب في الجو يحرث ببصره الحديد الأرض والهواء، مفتشا عن رزق هذه الأفراخ؟ ومن أوحى إليه أن ينسر اللحم لييسر للصغار طعمتها، ويؤثرها بقوته الذي جهد له؟
وذكرت الدجاجة كيف تعكف على بيضها فإذا حان الإفراخ قلبته ونقرته لتفرج عن الفروج، وكيف تهجر الطعام وتضوى وتبقى أياما طوالا صابرة راضية حتى تظفر بفراخها، فتسير لاقطة لهن باسطة جناحيها عليهن، مخاطرة بنفسها دونهن. وذكرت الحمامة تلقط الحب بين الخوف والنصب وبعد طول تحر والتماس، ثم ترجع إلى فرخيها فتزقهما بما في جوفها، تلقطه لتحفظه لهما، فإذا رجعت إليهما أخرجته من حوصلتها، وهي في حاجة إليه وقد نصبت له وجهدت. وذكرت من الوحش والأنيس، والدابة والطير، ما ينطق بإلهام خفي وحكمة مدبرة، وتدبير يعجز عقولنا إدراكه، قلت: ربنا أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
الأحد 13 ربيع الثاني/21 يناير
مشاعرة
قرأت منذ شهر أن صحيفة الفجر الباكستانية دعت إلى مشاعرة في كراچي يوم السادس من كانون الثاني، فحرصت على أن أشهدها ولكن عاقني المرض. وكنت سمعت عن المشاعرات في الهند من قبل، وهي أن يجتمع شعراء فينشد كل واحد من شعره في حفل من الناس، فلبثت أرتقب مشاعرة من هذه المشاعرات حتى دعاني السيد خليق الزمان رئيس الرابطة الإسلامية قبلا إلى مشاعرة في داره اليوم فسنحت الفرصة. وذهبت إلى الدار فتناولنا الشاي في الحديقة، ثم جلسنا بعد صلاة المغرب في بهو كبير على بسط، والجلوس على البسط مألوف هناك. وجلس الشعراء صفين متقابلين والناس حولهم، وأنشد كل شعره يتغنى به في غير مبالغة في مد الصوت والتطريب، والإنشاد هو هذا. وما سمعت شعرا أرديا إلا يتغنى به صاحبه. وكان الحضور يظهرون استحسانهم - كلما استحسنوا - بكلمات للتعجب أكثرها: وه وه! فيشير الشاعر بيده إلى جبهته شاكرا. وكان الشعر بالأردية فلم أعرف كل كلمة ولكن أدركت كثيرا مما أنشد، وعلق بنفسي معنيان؛ قال أحد الشعراء: فيك جمال وعندي دموع، فمنك الورد ومني الندى. وقد نظمته:
لديك الجمال وعندي الدموع
فمنك الورود ومني الندى
والثاني هذا الشطر:
كاسه مفلس كو جام جم بنا سكتاهون مين
يعني أني أستطيع أن أجعل كاس المفلس جام جمشيد، وهي كاس خرافية كان جمشيد الملك يرى فيها الأقاليم كلها.
والمشاعرة سنة قديمة بين مسلمي الهند، سمعت أن المغول سنوها فاستمرت. وهي سنة حسنة، تيسر للناس الاستماع إلى إنشاد الشعراء وتيسر للشعراء إنشاد أشعارهم في محافل؛ ولهذين أثرهما في إتقان الشعر وبثه في الناس وإثارته في الطباع المستعدة له. وبلاد العرب جديرة أن تسير على هذه السنة، وهي ما هي في الشعر وتاريخه.
الإثنين 14 ربيع الثاني/22 يناير
الديبل
بلد يذكر كثيرا في فتح العرب إقليم السند، وكان فيها معبد لصنم من كبار الأصنام، قال المؤرخون: كان عليه راية عالية كبيرة إذا ضربتها الريح دارت على المدينة كلها.
وقد عني مسلمو الهند بتاريخ الإسلام فيها، ولا سيما فاتحة هذا التاريخ؛ فتح العرب، يقودهم محمد بن القاسم الثقفي، أول الأقاليم من جهة الغرب والجنوب، إقليم السند.
وزاد المسلمون عناية بتاريخ السند وفتح العرب إياها، وانتشار الإسلام بها منذ نشأت دولة باكستان، واتخذت دار ملكها كراچي في السند على بحر العرب.
وشرعوا يبحثون عن آثار المسلمين الأولى في هذه البقاع وهم يعلمون أن العرب حين قدموا على سفنهم نزلوا قريبا من هذه المدينة التي صارت حاضرة دولتهم الحديثة.
والديبل ليس بعيدا من كراچي، فالسند يفيض في البحر، بحر العرب على ستين ميلا إلى الشرق منها، والديبل كانت على مقربة من ملتقى النهر بالبحر.
وعندهم أخبار وعلامات تهدي إلى أرض يظن أنها مكان الديبل، فهم اليوم يحفرون وينقبون ليجدوا أثرا من بناء أو أثارة من كتابة تبين أن الديبل كانت هنا، ولعل آثارا تكشف فتبين عن علم بأحوال المسلمين الأولين في أرض السند.
وإن هدى البحث إلى الديبل استطاع الباحث أن يعرف مواطن أخرى قريبة منها، وأن يعلم أين أرست سفن فرسان الصحراء من هذه الأرض.
إن تاريخ العرب والمسلمين في السند لجدير بالمعرفة، وليست معرفته عسيرة على الباحث الدائب.
الثلاثاء 15 ربيع الثاني/23 يناير
سائق الموتى أو قائد الأحياء
كثيرا ما يفكر الإنسان في سنه، ويفكر في أترابه فيرى الزمان قد أودى بكثير منهم، ويفكر فيمن سبقوه إلى الحياة قريبا فإذا هم وردوا شرعة الحمام متتابعين ومن تأخر منهم فهو قارب.
يفكر الإنسان في نفسه وأترابه ومن كبروه سنا فيخيل إليه أنه يسوق ركبا من الموتى، تأخر عنه قليلا وهو لاحقه، بل هو منه؛ لأنه سائقه، فيحزن ويجزع وينتظر الموت.
والخير لهذا الذي يحدو قافلة الموتى أن ينظر في السائرين وراءه على نهج الحياة، اللاحقين به في طريقها، فيرى نفسه في طليعة ركب من الأحياء وراءه يسير، وبه يهتدي. إنه إن استسلم للأوهام والوساوس فهو سائق الموتى يعد نفسه فيهم وهو حي. وإن رأى الحياة قبل الموت، والرجاء قبل اليأس، ونظر إلى القدرة لا العجز، والحركة لا السكون، وجد لنفسه في الحياة أمدا مديدا، وسبحا طويلا، ومجالا واسعا، وإذا هو قائد الأحياء.
فلينظر الإنسان إلى الحياة ومواكبها قبل أن ينظر إلى الممات وجنازاته، وليجهد أن يمد عينه إلى الجوانب المضيئة، ويصرفها عن الجوانب المظلمة، وليسر مؤملا في الله الذي بعثه إلى هذه الحياة، متوكلا عليه، قابسا منه الأمل، مستوحيا منه الفكر الصالح والرأي الصائب عاملا ما استطاع، جاهدا ما قدر، راجيا الضوء في الظلمة، والفرج في الشدة، والنجاة في الخطر.
فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا .
الأربعاء 16 ربيع الثاني/24 يناير
جرس القافلة
سمعت في جوف الليل رنين جرس من الأجراس التي تعلق هنا في أعناق إبل سائرة بأعمالها أو جارة مراكبها، فذكرت أني حين دخلت أصفهان سمعت بالليل صلصلة لم أدر ما هي، ثم أبصرت في النهار في أعناق الإبل والبقر أجراسا ينبعث منها هذا الصوت.
وتبع الخيال رنين الأجراس فذكرت جرس القافلة، الجرس الذي يؤذن بالرحيل وتوالت أبيات من الشعر الفارسي والأردي كأنها أصداء هذه الأجراس من الغيب، من وراء العصور والأقطار.
تذكرت قول حافظ الشيرازي كما ترجمته:
وكيف يطيب العيش في منزل المنى
وأجراس هذا الركب للبين تقرع
8
وقول الشيخ سعدي كما ترجمته:
ما عن المنزل عندي خبر
غير أن أسمع صوت الجرس
9
وذكرت أن الشاعر الفيلسوف إقبالا سمى أول دواوينه بانگ درا «صلصلة الجرس».
قلت: ما أجمله منبع شعر هذا الجرس الذي يؤذن بالرحيل ويهدي الركب إلى السبيل! ما أشبه الناس في هذه الحياة بالقافلة، منزلها بعيد، وسيرها وئيد، يسير بها الأمل، ويثبتها الصبر، وينبهها الجرس، ويحثها الحداء.
وجهدت أن أذكر بيتا في الشعر العربي يذكر فيه جرس القافلة فلم أذكر، أكثر شعراؤنا من ذكر الحادي ولم يذكروا الجرس، وما أحسب القوافل العربية اتخذت في المهامه أجراسا.
والحداء له في الشعر صدى، وقد ذكرت قول المعري على لسان حادي الحاج: دنياك تحدو بالمسافر والمقيم جمالها ... إلخ، وذكرت نغمة حادي الحجاز في شعر إقبال وقد ترجمتها في «رسالة المشرق»، ولم تتسع الصفحة لاتباع الحداء على صفحات الصحراء، فأمسكت القلم.
الخميس 17 ربيع الثاني/25 يناير
كل يطلب حقه
طلب علماء الأزهر زيادة رواتبهم وتغيير قواعدها ليساووا غيرهم من المدرسين، وتكلموا في الحق والكرامة، وقال قائل منهم فيما قرأت في الصحف: إن لم تجب مطالب الأزهريين أهدرت كرامة الإنسانية، وقد امتنع العلماء عن التدريس حتى تجاب المطالب، فذكرت اختلاف الأحوال والأزمنة وقول علماء السلف حينما أنشئت في البلاد الإسلامية مدارس يأوي إليها الطلاب وتجري عليهم الأرزاق، فقد رثى علماؤنا حينئذ للعلم وأشفقوا أن يأتي طلابه إلى المدارس ابتغاء الرزق.
ثم ذكرت سلسلة من المطالب في بلادنا: مطالب المهندسين والمعلمين والشرطة، كل يطلب حقه ويلح على الحكومة أن تزيد راتبه. وذكرت أساتذة الجامعة يأتمرون ويتحمسون ويطلبون مساواتهم بالقضاة أو يكفون عن التعليم، قلت: إنها والله بلية وراءها بلايا، وإن البصير ليرى فيها أمورا. إن الجماعة على اختلاف طوائفها ترى المال همها الأول، فهي لا تطلب إصلاحا ولا تسعى إلى مكرمة تتحمس لها تحمسها للمال. وما سمعنا أن طائفة من موظفي الأمة اجتمعت فنظرت فخطت خطة لمصلحة ثم ألحت فيها وكفت عن العمل من أجلها، والثاني أن حكوماتنا مدت للناس في المطامع، وضربت لهم المثل السوءى في محاباة الوحدان والجماعات، فانطلقت النفوس من عقالها ومات الحياء، وتوهم الموظفون أنهم في سوق أسعد أهلها من كان أكثر ربحا، وكيف لا يكونون في سوق وقد وضعت الحكومة أسعارا للدرجات العلمية؟ وكم رأيت موظفين لبثوا في الوظائف خمسة عشر عاما فأكثر ثم جاءوا إلى الجامعة يطلبون العلم حينما وضعت أسعار الشهادات. وقد قال خبير إنكليزي كلفته حكومتنا أخيرا أن ينظر في نظام الموظفين: إنهم أكثر مما يقتضي العمل، وقال : إن حكومة تنفق ثلث دخلها على موظفيها لا تستطيع الاضطلاع بالخطط العظيمة لإصلاح البلاد.
كل يقول: حقي، فهل من يقول: واجبي؟
الجمعة 18 ربيع الثاني/26 يناير
قرطبة
أذعت اليوم من كراچي كلمة عن مدينة قرطبة، فيها أنه كان في الربض الشرقي من هذه المدينة العظيمة مائة وسبعون امرأة يكتبن المصاحف بالخط الكوفي. فإن يكن المؤرخ الذي ذكر هذا بالغ وكان عدد النساء ثلث هذا العدد فهو أمر له دلالته، فلا يختص في مدينة خمسون امرأة بكتابة المصاحف بالخط الكوفي إلا أن يكون الكاتبات من النساء عشرات الألوف، ولا يكون هذا العدد من الكواتب إلا في جماعة شاعت فيها الكتابة حتى عمت أو كادت. فإن خمسين كاتبة للمصاحف بالخط الكوفي هن بعض من يكتبن المصاحف، وأولئك خيار ممن يحسن الكتابة، ومن يحسن الكتابة خيار ممن يكتبن، ومن يكتبن قليل بالقياس إلى من يكتبون، فاطرد القياس وتأمل واعتبر.
وأمر آخر هو وضع الأمور في نصابها، فإن كتابة المصاحف وشبهها من الأمور اليسيرة الطويلة يلائم النساء أكثر مما يلائم الرجال.
ولله ما أجمل المرأة في العمل الصالح! تصور امرأة قعدت في ثياب نظيفة مطهرة ووجه مشرق بالتقوى تكتب كتاب الله، وتصور عشرات أمثالها في ربض واحد من مدينة واحدة لتتصور مدينة عالمة فاضلة.
إن بعض الناس يجنحون إلى تكذيب ما يروى في تاريخ العرب والمسلمين من مثل هذه الرواية، ولو لم يكن عندهم من البراهين إلا ما في كتب المؤرخين لعذرنا القوم في تكذيبهم بعض العذر. ولكن الآثار الباقية المحسة فيها من العجائب مثل ما روي في الكتب، ولو لم ترها الأعين في عصرنا هذا لأنكرت إنكار أخبار النساء كاتبات المصاحف. ولو قيل: إن بني أمية شادوا مسجدا في قرطبة على الصفة التي عرفها التاريخ لجامع قرطبة ولم يبق من هذا المسجد بقية يدعمها ثمانمائة وستون سارية، لكذب القوم أن يكون للعرب مثل هذه الآثار. إن مدنية هذه آثارها المحسة وهذه روايات المؤرخين عنها، لا ينكر العقل فيها هذه الروايات الناطقة باستبحار العمران والعلم .
السبت 19 ربيع الثاني/27 يناير
لغة التعليم
دعيت إلى زيارة كلية تشرف عليها انجمن ترفي أردو (جمعية ترقية الأردية) واستمعت إلى دروس في موضوعات علمية وأدبية تلقى باللغة الأردية، ورأيت كتبا منشأة أو مترجمة في الطب والهندسة والاقتصاد وغيرها. وقيل: إن هذه الكلية وحدها تتخذ الأردية لسان تعليم. قلت: إن اللغة لا تتسع ولا تكون لغة الأمة حقا حتى تستوعب معارفها ويدرس بها ويقرأ فيها، وإن تعليم علم بلغة أجنبية هو نقل فئة من الأمة إلى هذا العلم، والتعليم بلغة الأمة والتأليف فيها نقل للعلوم إلى الأمة. وقلت: إننا حين أنشأنا كلية الطب في مصر منذ مائة وعشرين سنة لم نلبث أن ألفنا بالعربية وترجمنا إليها كتبا في الطب، ولا تزال هذه الكتب في خزائن كتبنا شاهدة بفضل سلفنا، واحتمالهم المشقة في نقل العلم إلى العربية. ثم جاء الإنكليز فوقفت العربية أو ضاقت، حتى أخذنا أمورنا بيدنا فرجعنا نعلم بالعربية ونتوسع في التعليم بها والتأليف فيها.
وقلت لمن حدثتهم في الكلية: سرني أن اتخذتم الأردية لغة تعليم وألفتم بها كتبا في العلوم، ولا ريب أن العربية مرجعكم في كثير من الاصطلاحات العلمية، وإنكم تعانون ما تعاني البلاد العربية في وضع كلمات عربية في اصطلاحات العلوم. فينبغي التعاون بين البلاد الإسلامية في هذا على أن تكون العربية بين المسلمين كاللاتينية بين الأوروبيين، حق أن الناظر في كشاف الاصطلاحات الملحق بكل كتاب رأيته اليوم يجد كثيرا من الاصطلاحات العربية فضلا عن الكلمات العربية غير الاصطلاحية في متون الكتب.
إن العربية كانت لغة العلم والأدب بين المسلمين دهرا طويلا ثم شاركتها لغات أخرى ثم أخذت مكانها، ولكن بقيت العربية غالبة في اصطلاحات العلم والأدب. فعلى المسلمين أن يحافظوا على هذا الميراث ويزيدوا فيه ويضعوا له الخطط التي تجعل العربية حقا لاتينية المسلمين إن لم تكن لغة للعلم مشتركة بينهم.
الأحد 20 ربيع الثاني/28 يناير
هل الشيوعية دواء؟
يبث دعاة الشيوعية دعوتهم، ويلتمسون فريستهم بين الساخطين في الأمم؛ الساخطين على نظام الحكم، أو نظام الثروة، أو حكم الدين. ويوهمون كل هؤلاء أن الشيوعية لهم دواء فيطلبها بعض الناس دواء، ويبغيها بعض الناس انتقاما باسم الدواء، وهدما يسمى البناء، ويرجوها غيرهم انتحارا ليبرأ من الداء.
ومن الجاهلين من يحسبها لبنا وعسلا يفيضان على الناس، بل ينالهما الفقراء قبل الأغنياء. ويظنها تسوية تغني كل الناس وتضعهم جميعا في مناصب، وتنيل بغيته كل طالب.
وينطلق بعضهم في الجدال، وينطلق بما حفظ من الأقوال، ويغضون عن الحقائق الماثلة والوقائع الشاهدة.
ليس كل الناس سواء في الخلق ولا يمكن أن يكونوا سواسية في العمل والمنصب والجاه، فلو صار العالم كله شيوعيا لبقي في العالم ذكي وغبي، وقوي وضعيف، وعالم وجاهل، ولبقي في العالم وزراء وكناسون، وأساتذة في الجامعات وحراثون، وقواد في الجيش وجند، وسادة في الدور وخدم. وكذلك بلاد الروس اليوم، والبلاد التي ابتليت بآفات الشيوعية، وكذلك ستكون.
ويحسب ناس أن في الشيوعية وحدها سعادة الإنسان، ويعمون عن الواقع في سائر البلدان، فالفلاح الإنكليزي والعامل الأمريكي هما لا محالة أسعد في نفوسهم ومعايشهم من الفلاح والعامل في بلاد الروس، وهؤلاء أحرار مكرمون تكفل لهم أممهم العيش جهد الطاقة وتكفل لهم الصحة والثقافة، فإن لم يرضوا شكوا فلقوا آذانا مصغية وقلوبا مشفقة وأيديا لهم عاملة. والآخرون يعملون ولا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيشكون، فأمامهم المرعى جديبا أو خصيبا، والراعي وعصاه، ولا إله، والإنسان حيوان أعجم سلط عليه راع حطم، وأمور أخرى يضيق المجال عن عدها وحدها.
الإثنين 21 ربيع الثاني/29 يناير
مأساة
قرأت في الصحف المصرية أن الشرطة قبضت منذ أيام على عصابة من الأنذال تسخر مائة من الصبيان والصبايا في السرقة، وتتجر فيهم للاستمتاع. ونشرت الصحف صورا لرجال ضخام هم رءوس العصابة وتجار الإثم. ولو أحصى القارئ ما ينشر في الصحف من هذه المخازي في سنة لعد مئات كل عام، وليس الذي ينشر في الصحف إلا ما ظهر للشرطة، وما خفي أكثر وأشنع.
تستطيع الشرطة أن تراقب وتفتش وتمسك، وتقدم إلى المحاكم فتحكم بعقوبة خفيفة أو شديدة، وليس هذا كله إلا جهدا خائبا. إنما مثل حكومتنا في هذا مثل زارع كثر في أرضه النبات المضر بزرعه من النجيل والحلفاء وأشباههما، فهو يقلعها كل يوم جهده فينبت مكانها مثلها أو أكثر، ولا يقي زرعه هذه الآفات إلا أن يبحث في الأرض فيجتث جذورها. ومثل الحكومة مثل إنسان تكثر الدمامل على جسمه فيدهنها فتزول ويظهر على جسمه غيرها، مرض في باطنه ينبت هذه الدمامل فلا بد من علاج الباطن. إن في القاهرة - وفي مدن أخرى - مغارس للجرائم لن تفتأ تنبتها، ولن تقضي الحكومة على المآثم ما بقيت هذه المغارس. إن في طريقنا ومجامعنا ودورنا منابت للجرائم ولن تفلح الحكومة في منعها بالتفتيش والأخذ والسجن، ولا مناص من تعرف منابت الجرائم وإصلاحها كما يصلح الزارع أرضه بالبحث والحرث ونفي الأعشاب المضرة واستئصال جذورها وبذورها. عليكم بالإحصاء وتحري الأسباب، وتتبع الجرائم في مغارسها من النفوس والدور والطرق والملاهي. وأما ما أنتم فيه فهو عبث أو شبيه بالعبث، وهو جهد خائب، وعمل يذهب سدى وتبقى الجرائم والمجرمون، ويخيب الإصلاح والمصلحون، والعقاب والمعاقبون.
الثلاثاء 22 ربيع الثاني/30 يناير
مخزاة
لقيت اليوم وزيرا فاضلا أديبا من وزراء باكستان فتحدثنا، كدأبنا حين نلتقي، عن الشاعر إقبال. وحديث إقبال يفضي إلى ذكر الإسلام وسمو مثله وقوته في نفس المسلم، وهلم جرا. قال: إني سمعت أن الإنكيز يذكرون طريقتهم في الحياة ويعتزون بها. قلت: نعم يذكرها الناس في أوروبا وأمريكا حين يتكلمون عن الشيوعية فيقولون: إن لنا الحق في أن نسير على طريقنا في الحياة وندافع عنها ... قال محدثي: فهل لنا معشر المسلمين طريقة في الحياة ...؟ قلت: للإسلام طريقته لا ريب؛ ولكنا بين جاهل بالطريقة، وبين عارف بها بعض المعرفة، وبين عارف كل المعرفة ولكنه يخاف أن يدعو إليها أو يخجل. وإن علينا أن ننظر فنعرف طريقنا في الحياة فنسير عليها ونعتز بها وندافع عنها، ولعل ما في العالم اليوم من قلق وخصام ييسر لنا أن نسلك طريقا وسطا لنكون كما قال القرآن أمة وسطا.
قال محدثي: إن مصيبتنا أن علماءنا لا ينظرون إلى طريقنا في الحياة، ولا يعنون بعظائم الأمور ولكن يهتمون بصغائرها . وقال: لقد قرأت أمس بعض ما اتفق عليه جماعة من العلماء فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، كان فيما قرره العلماء أن تهتم الحكومة بمراقبة الدور وتحويل بيوت الخلاء عن جهة القبلة.
قلت أنا: وا سوءتاه! أليس في خطوب العالم وأحوال المسلمين ما يشغل علماءنا عن هذه ...؟! إن هذا أبلغ مثل في العناية بصغائر الأمور، ومن عني بصغائر الأمور شغلته عن عظائمها. إن من الناس من لا ترقى همته إلى الدرجات العالية، ولا يمتد أمله إلى الغايات البعيدة ولكني ما كنت أحسب أن من الناس من يشغل نفسه بمثل هذا، ولا سيما حين يحزب المسلمين من عظام الخطوب ما يحزبهم اليوم.
أيها المسلمون دينكم وعقولكم وهممكم وطموحكم وجدكم وتعاونكم؛ وإلا ذهبت ريحكم!
الأربعاء 23 ربيع الثاني/31 يناير
أئمة وأنبياء وآلهة
حدثني اليوم رجل أديب مهاجر من لكهنو، أن رجلا من بلدة كذا ادعى الإمامة، وقال لامرأته: صدقيني، فقد رأيت في المنام أني أقول لك: أنا إمام فصدقيني. قالت: لو رأيت أنا في المنام أنك إمام ما صدقت. وماتت امرأته فخطب صبية صغيرة فأبى أبوها تزويجها، قال الإمام: هي زوجتي كتب الله زواجي بها على العرش. وخاف أبو الصبية من هذه الإمامة فجاء إلى كراچي. قال محدثي: وجاء الإمام ونزل قريبا مني، وبلغني أنه أبرق إلى كبار الحكام هنا يرفع ظلامته ويطلب زوجه. وقال المحدث: وقد جاءني أحد أقرباء الصبية مضطربا يقص القصة ويبدي خوفه مما عسى أن يقع بين أقرباء الصبية وأنصار الإمام.
ومن حجج هذا الإمام على إمامته أنه يكتب سورة الإخلاص على حبة أرز!
قال محدثي: وفي البنجاب كثير من أمثال هذا الإمام، قلت: ما نعق ناعق بين العامة إلا أصغت إليه طائفة، والجهل يلد أمثال هؤلاء الأئمة وأمثال هؤلاء التابعين، ورحم الله المعري يقول:
لو قال سيد غضا بعثت بشرعة
من عند ربي، قال بعضهم: نعم!
وبعضهم هذا الذي يستجيب للذيب هم العامة يصدقون ما يقال لهم وتخيل عليهم الأباطيل. والذنب على هؤلاء الذئاب الذين يدعون على العامة ما يدعون، والذنب بعد على الجماعة التي تستطيع هذه الذئاب أن تعيش فيها وتعبث، فلو كانت جماعة رشيدة ما عبث فيها الذئاب. والذنب من بعد على من يملك عقلا وبيانا ولا يعلم الناس ويهديهم ويطب لأدوائهم، فإنما العامة أطفال على الراشدين تعليمهم، أو سوام على الرعاة هدايتهم. ولو جمعت أخبار هؤلاء المدعين ونوادرهم وشعوذتهم لكان منها كتاب للفكاهة ولدارسي النفس ولعلماء الاجتماع. وقد جمع سلفنا من هذه الأخبار طائفة، وإن في أخبار زماننا لوفرة لمن يجمع.
الخميس 24 ربيع الثاني/1 فبراير
أمة وسط
حدثت اليوم أحد الزعماء المسلمين القادمين إلى كراچي للمشاركة في المؤتمر الإسلامي فقال: إن هذا المؤتمر ينظر إليه العدو والصديق وينتظر ما يفضي إليه، وعلينا أن نزن كلامنا وأن ننتهي إلى آراء سديدة بينة نتفق عليها ونعمل لها. قلت: تكلمنا كثيرا فعسى أن نفعل، والقول الطائش الثائر يضرنا ولا ينفعنا، وينبغي أن تكون في المؤتمر لجنة للنظر في الأقوال قبل إلقائها. قال: إننا في حرب فلسطين كنا نتكلم فيأخذ اليهود كلامنا حجة عند من يمدونهم بالأموال والسلاح فينقلب كلامنا عملا في أيدي اليهود، ويبقى في أفواهنا كلاما. ثم قلت: إن العالم اليوم فريقان يختصمان وكل يتطلع إلى المسلمين يحسبهم الجماعة الجاهلة الضعيفة، يطمع فيها ويرجو أن تنحاز إليه، ونحن أمة وسط نبغي خير أنفسنا وصلاح الناس جميعا، فالذي علينا اليوم أن نبين للناس أننا لا نضمر شرا لأحد، وأننا لنا ديننا وحضارتنا وآدابنا وسنتنا وسنمضي سبيلنا غير معادين أحدا إلا من بغى علينا فغصبنا حقنا أو صدنا عن سبيلنا. إن الفريقين المتخاصمين اليوم يرضون من المسلمين بهذه الحيدة، يرضون أن يكون المسلمون أمة وحدها ما لم يطمع فريق في انحيازها إليه، فعلينا أن نؤيسهم من تحيزنا إلى فريق منهم ثم ننتهز الفرصة لنجمع كلمتنا ونبين غايتنا ووسائلنا وننادي في الناس جميعا أن لنا طريقة فيها خيرنا ولا تضر غيرنا. قال: ألا ريب أن شعارنا السلام، وما عرف دين جعل تحيته سلاما وختم الصلاة سلاما إلا الإسلام.
والحق أن الإسلام في عقائده وعباداته وفي سننه وفي مقاصده، دين وسط لا غلو فيه ولا إغراق، ولا تفريط ولا إفراط؛ ولكن ما جدوى خير القوانين عند حكومة جاهلة أو باغية، أو قاض جاهل أو جائر.
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا .
الجمعة 25 ربيع الثاني/2 فبراير
من للعيال
عرفت كثيرا من ممثلي الدول، أعضاء السلك الدبلوماسي، ورأيت الرجال والنساء حراصا على شهود الحفلات، وتلبية الدعوات، وبعضهم لا يرد دعوة، ولا يتخلف عن حفل، وربما يشهد حفلين أو ثلاثة في يوم واحد. ولهؤلاء أولاد يخلفون في الدور كل مساء، ويطول صبرهم فلا يظفرون بوالديهم.
وكان لنا جاران لهما طفل واحد، فشهدت هذا الطفل مرات وحيدا يجلس مع خادم أو يودع عند الجيران أو الأصدقاء حتى يعود الوالدان، ولا يعودان إلا بعد ساعات كثيرة من الليل، يغلب فيها الطفل على صبره وسهره فينام. ولا ريب أن الساعات التي تمضيها الأمهات في السهرات لها مقدمات من اللبس والتحلي والتهيؤ، فلا يفرغن لأطفالهن في العشي ولا في الليل، والطفل في المدرسة نهاره.
وكنت أرقب عشا لزوجين من الحدأ على دوحة قريبة مني فلا أراه يخلو من أحد الزوجين ما دام فيه بيض أو فراخ، وأرى حفاوة الطائرين بفرخيهما يحفانهما ويطعمانهما، ويقضيان الليل والنهار في رعايتهما.
إن فرخ هذا الطائر أسعد من طفل هذا الإنسان، عليه عين أمه وأبيه وجناحهما، وله خفقهما وسعيهما. قلت لنفسي: إن للإنسان عملا أكثر من عمل الطائر وشغلا شاغلا. قالت: أليست رعاية الأطفال من عمله وشغله، فما أطلب أن يعكف على أطفاله مفرطا في أعماله، ولكن أطلب أن ينال طفله حقه من رعاية وصيانة، بل أطلب ألا يشغله اللهو عنه، وتسلبه الحفلات منه.
إن دامت هذه الحال فمن يا صاحبي للعيال؟!
السبت 26 ربيع الثاني/3 فبراير
أرثي للمرأة
للمرأة عندي عليا المنازل، ولها في نفسي الحب والإكبار والرحمة والإشفاق؛ بما حملت من أعباء عظام، وكلفت في هذه الحياة من تكاليف جسام، وبما تفيض الحب والحنان والرأفة والإيثار على الناس، وبما تنشئ الأمة على هذه الفضائل، وتظلها من هذه العواطف بظل غير زائل.
وإني لأجد نبعا من البيان صافيا، وفيضا من الشعر عدا في المرأة؛ خلقها وخلقها وعملها ومحنتها.
هي ملك في البيت مثواه، وملك في الدار سلطانه، وسيدة على الأسرة عينها ويدها، وروضة أزهارها الأطفال، ودوحة عصافيرها العيال، وطائر يبسط بالرحمة جناحه، ويمد بالرزق منقاره. وإن شئت فقل غير مفند: سر الحياة ومادتها، وماؤها ورونقها.
فكيف لا أرحم المرأة وأرثي لها حين أراها مستعبدة في الدور، أو مبتذلة في الأسواق، أو مهينة في المصانع؟! وكيف لا أغضب لها حين أراها ألهية في الملاهي وسلعة في أسواق المخازي؟!
وكيف لا أبكي عليها حين أراها في شغل دائب، وهم ناصب بالتزين للمحافل، والتلون للمجامع، غافلة عن مكانتها، ناسية جمال طبيعتها، متصنعة متكلفة مزبئرة متنفشة؟!
كيف لا أشفق على الأم والأمة حين أرى المرأة - شعاع الجمال والخير - في شغل بالسوق والمصنع والملهى والمحفل، عن معبدها وروضتها ومملكتها ورعيتها، وعن دارها؟!
يا قومنا هذه أدواء صناعية عارضة، لا طبيعية أصيلة، فأبرئوا الأمة من دائها، وردوا إلى المرأة كرامتها وقداستها.
الأحد 27 ربيع الثاني/4 فبراير
قتل سبعة من سود أمريكا
قرأت أن محكمة أمريكية قضت بقتل سبعة من السودان، الزنج الأمريكيين؛ جزاء بما اعتدوا على امرأة بيضاء.
فكرت في الأمر مليا فطال تعجبي من هذا القضاء وإنكاري إياه.
قلت: لو اعتدى واحد أبيض على هذه المرأة البيضاء ما قتل بعدوانه، ولو اعتدى أبيض أو زنجي على زنجية ما قتل بها، فالأمر يختلف باختلاف المعتدي واختلاف المعتدى عليه. والذي عرفنا من قضائنا في العصور الخالية وفي هذا العصر أنه لا يختلف باختلاف الألوان، وأن العدوان ليس فيه أبيض وأسود، وأن الإثم لا يقدر بلون من وقع عليه.
كما عرفنا التسوية بين الناس في الدماء والأموال؛ فقضينا بقتل الحر قصاصا بقتل العبد، وقتل المسلم جزاء بقتل غير المسلم. وكبر عقلنا وعدلنا أن نفرق بين الألوان فلم يدر بخلدنا قط أن نقول: يقتل الأبيض بالأسود؛ إذ كان الأمر أبين من أن يقال، وكان القول فيه لا يعد إلا هزلا وعبثا.
فما بال الأمم وقد غرقت في فيض العلم، وبرقت أبصارها بنور الحضارة، وامتلأت صحفها وأفواهها بالكلام في الحرية والعدل، والمساواة والمواساة، ما بالها تقول أبيض وأسود، وأوربي وزنجي؟! فيقضي قضاتها بقتل سبعة في عدوان على امرأة أن كان السبعة العادون سودا، وكانت المرأة المعتدى عليها بيضاء.
الإثنين 28 ربيع الثاني/5 فبراير
يعبدون المال وينكرونه
يطلب أناس المال، ويغلون في طلبه، ويجمعونه ويحرصون عليه، ويشحون به ويفدونه براحتهم ومتعتهم، بل يقيه بعضهم بدينه وعرضه.
وإن تكلم أحدهم عن المال قال: لا يهمني المال ولكنه حقي، أو لا أبالي بإنفاق المال ولكني لا أقبل أن يؤخذ مني كرها.
وكثيرا ما رأيت من يشتط في طلب زيادة في الوظيفة (المرتب) أو يسلك لها كل سبيل، ويتوسل إليها بكل وسيلة وهو يقول: المادة لا تهمني ولكن ... ويذكر علة كاذبة وحجة واهية.
ورأيت من يقول ويكرر القول: إنه لا يبالي بالمال، فلما امتحن به وطولب بما للحكومة عليه لم يتورع أن يحرف الحقيقة، ويلبس فيها ليفر من مال لزمه وحق وجب عليه.
وكم رأينا من يتحدث عن إنفاق المال وبذله وإهانته، والاستكبار من قبوله بغير حق بل الاستكبار عنه وهو حق له، فلما امتحناه بقليل، بطلب للنجدة، ولعاعة من الدنيا تبذل في سبيل الله، كذب خبره دعواه، وأدبر وتولى أو أعطى قليلا وأكدى، ثم لم يستح وجهه أن يحرك في التعذير لسانا كاذبا، ويطيل في الباطل حجة قصيرة.
وهكذا رأينا أعاجيب، وسمعنا أكاذيب، رأينا اختلاف القول والفعل، وتباعد الدعوى والحق.
وليس عارا على المرء أن يطلب المال ويجد في جمعه، ويحسن تدبيره وتوفيره ليبذل في وجوهه. ولكن العار كل العار أن يملكه المال ويستعبده، فلا يقضي به حقا ولا يسد به خلة، وألا يقي نفسه وخلقه بالمال بل يقيه بهما، وأن يدعي السخاء ويبخل، ويتكلم في الجود ويشح، وأن يعبد المال في أعماله وينكره في أقواله.
الثلاثاء 29 ربيع الثاني/6 فبراير
أصنام البشر
رحم الله إقبالا! يقول للمسلم:
كرهت سيادة الإفرنج لكن
سجودك للقباب وللقبور
ألفت عبادة السادات حتى
لتنحت سادة لك من صخور
ذكرت هذا حين ذكرت بعض القادة والأئمة يقدسهم الناس ويكادون يعبدونهم من دون الله، وتلقى واحدهم فلا تجد فيه ما يستحق به أن يعبد أو يقدس أو يعظم، بل لا تجد ما ينجو به من اللعن. وتجد الأنصار أو العبيد من حوله يدفعون عن سيئاته، بل يبدلونها حسنات، ويزيدون إلى الحسنة الواحدة مئات، وهم بين ذكي له منفعة في هذا التعظيم، وله رزق في سدانة الصنم، وآخر غبي يخيل عليه الخداع ويقصر عقله عن النقد، وقد أشرب قلبه من الهيبة والرهبة ما يبعد به عن التمحيص والريبة. إن بعض هؤلاء الأئمة لا يلقون تابعيهم إلا جابين أو مصدقين، ولا يعرفهم العاقل إلا مضلين مخادعين، وإنهم كما قال القرآن الكريم
وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار .
رأيت البارحة أحد هؤلاء الأئمة فإذا الناس وقوف خاشعون، وإذا الأبهة والنعمة والترف، وإذا الضيوف على مائدته لا يقطع عليهم حديثهم على المائدة إلا أنغام الموسيقى، وإلا رقص نساء كاسيات عاريات في الحين بعد الحين، ثم كانت الرقصة الجفلى فقام لها السفهاء وأصحاب الحلوم من الضيفان. قلت: كان الإمام يستطيع أن يخدع أعوانه ويكرم ضيفانه بالخدم والحشم أو الطعام والشراب، ولكنه زاد ألوان الخمر، وكان يسعه أن ينزه حضرته عن العبث وإن استحله، والرقص وإن أعجب به، ولكنه أرقص الناس في مجلسه، ولم يوقر نفسه. وعلى هذا كله قد انتهى الحفل وهو إمام، كما بدأ وهو إمام.
الأربعاء 1 جمادى الأولى/7 فبراير
ملك الدول وملك الآحاد
يحرم الشيوعيون الملك؛ ملك الآحاد، لا يملك أحد أرضا ولا دارا ولا حيوانا ولا مالا عينا، وإنما الملك للدولة. وحجتهم في هذا التسوية بين الناس ... إلى حجج أخر.
ولكنهم لا يحترمون، فيما تؤذن به أعمالهم، ملك دولة ولا أمة، فلا حرج على الروس مثلا أن يسيطروا على أمم ودول في آسيا وأوروبا ويتصرفوا في أمورها، ويستغلوا أرضها ومعادنها وكل ما يطوع للاستغلال.
أمة الروس تملك أرضها، وتملك أمة الترك في تركستان، فلماذا تملكها حرثها ونسلها والملك عندهم محرم؟ يدعون أنهم حرروا الآحاد من عبودية الآحاد فرفعوا عن الفلاحين والعاملين إصر أصحاب الأرض وأصحاب المال، فهل يدعون أنهم حرروا الأمم من عبودية الأمم، أو أزاحوا عن الدول استرقاق الدول؟
إن ادعوا هذا فما خطب أمم لا تملك من أمرها شيئا، ويملك الروس فيها الأمر كله؟
وملكهم أفظع ملك، ورقهم أشنع رق. ألا ترى الأمم التي ابتليت بسيطرة المستغلين تجادل عن نفسها، منها من تحرر ومنها من يطلب الحرية ويجاهد فيها؟ ولكن الذين شقوا بتسلط الروس لا تسمع لهم شكوى، ولا تحس لهم ركزا، فليس لهم في مسامع الأمم شكوى، ولا في مجامع الدول قضية! كل الأمم التي عبدتها أمم أخرى جاهدت فخلصت وهي تجاهد لتخلص، والناس يرون ويسمعون جهادهم وصياحهم وأنينهم. ولكن صرعى الروس لا يسمع أحد شكواهم ولا يرق لبلواهم؛ لأن الأرض ضربت عليهم بالأسداد، فحيل بينهم وبين العباد.
الخميس 2 جمادى الأولى/8 فبراير
لا يتسع وقتنا للكلام القصير
شهدت الجلسة الأولى للمؤتمر الإسلامي في كراچي، وتكلم متكلمون فأطنبوا، ولم يكن بد من أن يتكلم كثير من الوفود، ولم يكن من الإطالة مناص، ولكن بعض من تكلموا بلغت بهم الأثرة أن أطالوا في غير ضرورة وقد أمروا بالإيجاز ليتسع الوقت لغيرهم.
وكان بجانبي شاب من سفارة أوروبية، فلما طال الوقت قلت له: المتكلمون كثير والكلام طويل. قال: إن بعض الكبراء قال: لا يتسع وقتنا للكلام القصير. فوقعت الكلمة من نفسي موقع القبول والدهشة، وعددتها غنيمة من الحكمة التي يلتمسها الإنسان فلا يظفر بها إلا قليلا. فسرت هذا الكلام بأن الكلام الموجز المرتب يحتاج إلى تفكير وترتيب، والكلام الطويل المضطرب لا يحوج صاحبه إلى التروي وإمعان النظر؛ بل هو نتيجة ترك التروي، ينثر الكلام لا يضبطه فكر، كالحب الذي لا ينظمه سلك. وقد لقيت بهذه الكلمة بعض أصحابنا فقال أحدهم: يقال في اللغة التركية: يچنون أوزون سويليور سكز؟ قيصه سويلمكه وقتم بوقدر . وهو معنى الكلمة السابقة، وترجمته: - لماذا تتكلم طويلا؟ - لا وقت عندي للكلام القصير.
وهذا حق عند التأمل، ولو قيل: إننا نتكلم كثيرا؛ لأنا لا نقدر الوقت حق قدره ولا نبالي بإمضائه فيما لا يجدي لم يكن بعيدا من الصواب. والحق أن تطويل الكلام يدل على أمور: أنا لا نفكر في كلامنا فنزنه فنحذف منه الفضول، وأنا لا نبالي بالوقت، وأنا لا نتجنب العبث، وأنا لا نشفق على السامعين؛ فتدفعنا الأثرة إلى أن نتكلم وإن شق الكلام عليهم، ومعنى هذا أنا لا نشفق على أنفسنا أيضا ولا نضن بها أن تقوم مقاما تبوء بمذمته وخسارته.
الجمعة 3 جمادى الأولى/9 فبراير
طول الكلام وقصر العمل
أشكو إلى الله طول الكلام وقصر العمل، وأشكو إليه تفاوت القول والفعل، وأشكو إليه تخلف الأعمال عن الآمال.
في الناس من يأمل فيقول فيعمل، فإذا قوله كفاء أمله، وإذا عمله كفاء قوله، وإذا كل أقواله وأفعاله تأتلف ائتلاف النظم، لا تفاوت بينها ولا خلل فيها.
ومنهم من عيشه آمال، وشغله أماني يعجز عن إدراكها فكره أو تقعد عن السعي لها همته، أو يتخلف عن السير إليها عزمه، أو ينفذ دونها صبره ...
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .
نرى أمما تدرك عقولها فتأمل فتعمل فتبلغ، فإذا الآمال حقائق، وإذا الفكر عمل. ومن الأمم من تقصر عقولها عن إدراك العيش الأرغد، والوجه الأصلح، والنظام الأكمل في الحياة، فهي في قيد الحاضر وأسر الواقع، ومنها ما تدرك الأحوال، وتأمل الآمال فلا تستطيع أن تخط الخطط إلى ما أدركت، ومنها ما تخط الخطط فلا تجمع لها من العزم والدأب والصبر ونشاط الأيدي وتعاونها ما يسير بها إلى آمالها، ويبلغ بها غاياتها.
وكذلكم الوحدان في الأمة الواحدة يختلفون هذا الاختلاف ويتفاوتون هذا التفاوت.
والكلام والعمل ينال كل منهما من صاحبه، فمن طال كلامه من الأمم والآحاد قصر عمله، ومن طال عمله قل كلامه. ما أحسن بلاغة القول تصحبها بلاغة العمل! سئل أعرابي: ما البلاغة؟ قال حذف الفضول وإصابة المعنى. فمن حذف فضول القول وأصاب المعنى، فهو حري أن يحذف فضول العمل ويصيب القصد. والإنسان الثرثار كالريح الهوجاء تثير غبارا وحصى، ولا تهدي إلى غاية، ولا تسير إلى مقصد.
السبت 4 جمادى الأولى/10 فبراير
بين مصر وباكستان
احتفلنا اليوم بذكرى ميلاد جلالة الملك. وكنا دعونا فيمن دعونا حاكم باكستان العام ناظم الدين ورئيس الوزراء لياقت علي خان، واتفقنا أن يتكلم الحاكم إجابة لكلامي، فأرسلت كلمتي قبل الاحتفال فكتب الحاكم جوابها. وتكلمنا في الجمع على خطة معروفة. وقد أعجبني وسرني أن الحاكم أجاب كلمتي بأضعاف ما فيها من شعور الأخوة الإسلامية، والدعوة إلى التعاون بين مصر وباكستان، فكان كلامه بيانا لكلامي، واستجابة مؤكدة لشعوري، وأخذا بأحسن ما في الآية:
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها .
والحق أن مصر وباكستان دعامتا الإسلام في هذا العصر، مصر بمكانها ومكانتها وتاريخها وحاضرها، وأنها من العرب كالأخ الأكبر، وباكستان بمكانها كذلك وعددها ووصلها بين المسلمين في الوسط والمسلمين في أقصى الشرق، وبأنها دولة قامت للمسلمين بالإسلام، تبغي أن تعيش به وتحقق مقاصده وتمضي على سنته.
إن تعاونت باكستان ومصر لم تبعد البلاد العربية عن هذا التعاون، ولم تنأ عنه إندونيسيا، ولم تجد إيران والأفغان في وسط هذا التعاون منه بدا. فهذه دول الإسلام إلا تركيا، وربما تضطرها الحادثات إلى أن تمد لهذا التعاون يدها.
أرى أن سيرة الدول الإسلامية في الأمور السياسية والاجتماعية يوجهها اتفاق مصر وباكستان، فإن تعاونتا على السيرة الوسطى والطريقة المثلى، فعرفتا العالم سعة الإسلام وسماحته، وحبه التعلم والتقدم، ودعوته إلى أخوة الناس؛ تبعتهما البلاد الإسلامية الأخرى وصار للمسلمين في هذا العالم علم وعمل، وفي قضايا البشر فكر ورأي، وكلمة بين الأمم مسموعة وراية للخير مرفوعة.
الأحد 5 جمادى الأولى/11 فبراير
اللغة العربية
اللغة العربية، غنية بمفرداتها، واسعة بمركباتها، طيعة بصرفها، مبينة بنحوها.
وقد قدر لها أن تحوي بلاغة القرآن، وتشمل شريعة الإسلام ، وتساير حضارته، وتضطلع بعلومه وآدابه.
واتخذها المسلمون العرب والعجم، لغة علم وأدب دهرا طويلا، ثم انحسر عبابها عن غير البلاد العربية، وبقيت غدرانها ورياضها، كما كان بعد السيل مجراه مرتعا.
فقد اشتملت لغات المسلمين على كثير من ألفاظ العربية ومجازاتها مكسوة بألفاظ غير عربية، وما زالت العربية تمد هذه اللغات على مر العصور حتى يومنا هذا باصطلاحات العلوم والآداب.
ولم ينقطع التأليف فيها على العلات، وعلى اختلاف الحالات في الأقطار الإسلامية.
وإن العربية لحرية أن تكون صلة الحضارة الإسلامية ووسيلة التعارف والتعاون بين المسلمين.
ينبغي أن يكون أولو العلم في كل أمة إسلامية عارفين العربية قادرين على القراءة فيها والتكلم بها، فإذا التقى مسلمان مثقفان من بلدين مختلفين استطاعا أن يتحدثا بالعربية أو يتعارفا بها.
لقد تقطعت الصلات بين المسلمين فإذا المسلمان يلتقيان في بلد إسلامي، بل في مكة والمدينة فيتخاطبان بالإنكليزية أو لغة أوروبية أو يعجزان عن التخاطب. فما أحوجهم إلى لغة عامة، إلى لغاتهم الخاصة، وما أحرى العربية أن تكون هذه اللغة!
الإثنين 6 جمادى الأولى/12 فبراير
أخوة مجسمة
لقيت في المؤتمر الإسلامي الذي يجتمع في كراچي هذا الأسبوع شيخا هرما، كبير العمامة، أبيض اللحية، اسمه الشيخ عبد الله رشيد.
قال إن أصله حجازي، وقد ساح في الهند وبلاد أخر، واستقر به المقام في جزيرة موريس من جزر المحيط الهندي، وهو إمام المسلمين هناك يعلمهم الدين واللغة العربية.
وهو يعرف العربية والفارسية والأردية والإنكليزية، ولعله يعرف لغات أخرى. قام الشيخ يتكلم في المؤتمر بالعربية ويذكر مصر ويشيد بفضلها على بلاد المسلمين.
قلت: رجل حجازي يقيم في جزيرة قاصية في المحيط الهندي ويقوم خطيبا بالعربية في مدينة كراچي فيتكلم عن مصر، إنه الأخوة الإسلامية المجسمة! وقلت: إنه بقية السلف، وذكرى التاريخ. كان آباؤنا على بعد الشقة، وصعوبة السفر، وبطء المطايا والسفن، يسيحون في البلاد لا يبالون باغتراب، ولا يعبئون بمشقة. تتداولهم البلاد، ويسلمهم صقع إلى صقع، فإذا الحجازي في أقصى الشرق أو أقصى الغرب، وإذا المغربي - كابن بطوطة - في الصين ، وإذا البغدادي - كأبي علي القالي - في قرطبة.
وكان المسلمون أكثر تخالطا وتعارفا وتواصلا مما هم اليوم وقد طويت المسافات، واتصلت الأفكار بالبرق والهاتف والمذياع، وصار ما بين القاهرة وبغداد ثلاث ساعات، وما بين النيل والسند ثماني ساعات.
إن هذا أمر جدير بإنعام النظر، وإمعان الفكر. وإن الشيخ رشيد لحجة في الأمر قاطعة، وما أحسبه إلا مثلا من آبائنا الأولين.
الثلاثاء 7 جمادى الأولى/13 فبراير
ماذا تغني القوانين في أمة لا تطيعها
كثرة القوانين، وزيادتها بين حين وحين لا يدلان على صلاح الجماعة، وربما يعدان من علامات فسادها.
خير الأمم ما قامت فيها المعرفة مقام القانون، حسبها أن تعلم أن هذا خير وذاك شر، وهذا عدل وذاك جور، وهذا حق وذاك باطل، وأن هذا صلاح وذلك فساد.
جمع تاريخنا فتاوى كثيرة في بلاد مختلفة وأزمان متطاولة، وليست الفتاوى إلا إجابة لسؤال الناس عن الأحكام دون ترافع إلى القضاء، لا يحتاجون إلى من يقضي عليهم باتباع القانون؛ بل يريدون أن يعرفوا القانون لينفذوه هم طوعا ورضا واحتسابا واقترابا.
فإن فسدت الأمة واعتلت، كانت القوانين فيها أدوية ظاهرة لداء باطن، وأضمدة على دماميل يمدها الجسم العليل كل حين، وتلقت الأمة القوانين كارهة، وعملت للخلاص منها جاهدة، وحسبتها قيدا كريها وسجنا بغيضا، وضاعفت الحكومة قوانينها، وزادت في صرامتها، وراقبت الجماعة شرطتها، ليلا ونهارا وسرا وعلانية، والجماعة في فسادها ماضية والقوانين غير مجدية.
إن القوانين الصالحة ما تنبع من النفوس، فيتلقاها الناس بالقبول والطاعة، فكل إنسان لها ناصر، وعليها ساهر، وإلى طاعتها مسارع، إن أنصف الناس استراح القاضي.
نرى أمما إذا اجتمع فيها جماعة نظمتهم المعرفة والطاعة، فأخذ كل مكانه وأنفذ كل واجبه، فتجتمع الآلاف على نظام وتفترق على وئام. وأمم لا يجتمع منها قليل أو كثير إلا ثار بينهم الخلاف والضوضاء ولم يكن لهم بد من قانون وشرطة، وقلما يجدي القانون والشرطة في جماعة لا تطيع القانون راضية.
لا تصلح الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
الأربعاء 8 جمادى الأولى/14 فبراير
ما نحقر من أعمالنا
روي أن رسول الله صلوات الله عليه وسلامه قال في خطبة الوداع: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
هذه الأعمال التي نحقرها هي موضع الزلل ومداخل الخلل، هي خدع الشيطان، ليس في الحياة عمل حقير، إن بعض ما نحسه حقيرا هو في الحق عظيم، وبعضه ليس عظيما في نفسه ولكنه موصول بالأعمال العظيمة. أعمالنا كبناء عال فيه عمد وقباب وأركان وغيرها، وبعض هذه ينهد البناء بزوالها أو يكاد، وبعضها يؤدي الخلل فيه إلى خلل ظاهر أو خفي في البناء الشامخ، وليس في البناء حجر واحد لا يحتاج إليه.
يترخص بعض الناس في التأخر عن مواعيده قليلا، وفي تأخير الأعمال عن مواقيتها بعض التأخير، ونحسب هذا هينا، ومن يفكر يعلم أن أكثر الخلل في أعمالنا من هذا التأخر القليل. إن من الفروق الكبيرة بين الأمم تأدية الأعمال في أوقاتها، والعجز عن أداء العمل في وقته خلل وعلامة على خلل آخر؛ يخل بالعمل بتأديته في غير وقته الملائم له الذي استوفى شرائط أدائه. وقل أن يكمل العمل المؤدى بعد وقته؛ بل لا يؤدى العمل بعد وقته ولكن يقضى كما يقول الفقهاء. وهو علامة على خلل نفسي؛ هو عجز النفس عن إنفاذ ما تشاء حين تشاء وضعف العزم عن الإقدام والإمضاء.
ثم تأخير عمل عن وقته لا يخل بهذا العمل وحده، ولكنه يؤدي إلى سلسلة متصلة من الخلل، فالعمل الذي يؤخر عن حينه يجور على عمل آخر فيؤخره، وهكذا حتى تكاد تتأخر أعمال الإنسان كلها عن أوقاتها. والله سبحانه خلق للعالم نظاما محكما، وأعمالا موقوتة، لا تخلف فيها ولا تأخر، فكل إخلال بالنظام في العمل وتوقيته شذوذ في هذا النظام العام؛ حري أن يؤدي إلى الإخفاق قريبا أو بعيدا.
الخميس 9 جمادى الأولى/15 فبراير
أمس الدابر لا يعود
كان ينبغي أن أكتب هذه الصفحة في وقتها يوم الجمعة، ونظرت يوم السبت فإذا هي بيضاء ولكنه بياض لا بياض له، هو أشد سوادا من الظلم، كما قال أبو الطيب.
قلت لنفسي: لماذا لم تكتبها في وقتها؟ قالت: المرض الذي لا ينشط له قلم، وشواغل في أوقات النشاط القليلة إن كان للمريض نشاط. قلت: سواء أقام عذرك بذنبك أم لم يقم، قد كان ما كان ومضى أمس وصفحته بيضاء، وإن اجتمعت الإنس والجن على أن يكتبوا هذه الصفحة في وقتها لم يستطيعوا، فانظري هذا اليسير القريب كيف صار مستحيلا! انظري قد انقلب ما كان في قدرتك معجزا كل قدرة. إن هذا الماضي الذي لا يقدر عليه أحد، كان حاضرا يتصرف فيه كل واحد وإن في هذا لعبرة، إن الإنسان يتمنى أمورا لا ينالها، ويرى السعادة الكبرى أحيانا في أن ينال أمانيه، فليؤد عمله في وقته وليذكر أنه أمنية بعيدة حين تفوته، وليقدر أن المستحيل واتاه فتمكن مما فاته، وليغتبط بهذا ليغتبط بتأدية الممكن قبل أن يستحيل، وليجعل كل ما فات في أمسه عبرة لغده، وليقارب ما استطاع.
إن الإنسان يضعف ويعجز وليس بمستطيع أن يبلغ كل ما يريد ويفعل كل ما يشاء، فليعمل جهده وليستعن الله وليحرص على ألا يفوته عمل في وقته وأن يتدارك ما يفوته في أول أوقات الاستطاعة، فإن وفق فليغتبط بالتوفيق.
إن الإنسان ليعد كل حين أمورا فاتته، وكان يستطيع أن يدركها، وإنها لحسرة أو خيبة وخسران، فليعود نفسه استقبال الأوقات لا استدبارها، وأداء الأعمال في أوقاتها حتى يعتاده وينبسط له ويسعد به.
الجمعة 10 جمادى الأولى/16 فبراير
المؤتمر الإسلامي
اجتمع يوم الجمعة الماضي المؤتمر الإسلامي في مدينة كراچي وقد جاءت إليه وفود المسلمين من كل أقطارهم، واستمعت إلى كلام قيم في مجامع المؤتمر العامة والخاصة، وسمعت صرخات المكلومين من الأقطار الإسلامية التي لا تزال تجادل عن نفسها وتجاهد لحريتها كأهل المغرب وتركستان، ورأيت من أمارات الأخوة الإسلامية والتعارف والتعاطف ما نفى كل ريبة في متانة الأواصر التي تجمع المسلمين. وقد رأى بعض الوفود ألا يشغل المؤتمر نفسه بالأمور السياسية فلم يستطع أحد أن يمنع هؤلاء الجرحى من الأنين والشكوى، ولم يكن من العدل والرحمة ألا يواسوا بكلمة من المؤتمر يصبرون بها في البلاء ويثبتون في اللأواء. فقرر المؤتمر أن يعمل المسلمون جميعا لتحرير من لا يزال في الأسر منهم، ثم خص كل بلد إسلامي في سيطرة الأجانب بكلمة.
والذي أخشاه ألا ينفذ المسلمون وصايا المؤتمر كما ينبغي أن تنفذ؛ لأن الدول الإسلامية لم تشارك فيه، ولأن معظم البلاد الإسلامية ليس فيها من الجماعات ذات النظم المحكمة والقوة والثراء ما يجعل المسلمين يستقلون بهذه الأعباء دون عون الحكومات.
وأرى أن نجاح المؤتمر في دعوته رهن بلجنة من الكبراء أولي الرأي تتولى إنفاذ ما قرر المؤتمر. وأرى أن تعمل جاهدة حتى تنجح في إنفاذ قرار واحد مهم، فسيلد هذا النجاح في الأمر الواحد نجاحا في أمور كثيرة، ولا شيء يؤدي إلى النجاح مثل النجاح، ولا شيء يؤدي إلى الخيبة مثل الخيبة. فإن بدأت اللجنة المنفذة بأقرب الأمور إلى النجاح وأبعدها عن مشاكل السياسة فجعلته مثلا لنجاح المؤتمر، فنجاحها في الأمور الأخرى قريب، وإلا فكم اجتمعنا وتفرقنا لنجتمع فنتفرق!
السبت 11 جمادى الأولى/17 فبراير
العصبيات
رأيت في المؤتمر الإسلامي وفودا يجمعهم الإسلام ويأتمرون بخير المسلمين كافة، ورأيت في بعضهم عصبيات كأنهم جاءوا ليتكلموا عن أممهم، لا ليشاركوا المسلمين في أمور جامعة، جديرة بأن تنبذ فيها العصبيات. ولكن المقصد الذي اجتمعت له الوفود الإسلامية لا يدرك إلا باجتياز ضيق العصبيات إلى سعة الأخوة الإسلامية التي تؤلف بينهم. وقد تكلمت مرة فقلت: إن النائب في أمة ينتخبه بلده أو محله، فإذا دخل مجلس النواب كان ممثلا الأمة كلها، لا البلد الذي انتخبه. فكل وفد إسلامي في المؤتمر لا يمثل أمته وحدها ولكن العالم الإسلامي.
إن محو العصبيات من الأنفس متعسر أو متعذر؛ فينبغي أن يؤلف الإنسان بين العصبيات المختلفة فيكون لكل موضعه وزمانه، فلا تصادم عصبية أخرى أو تطغى عليها، فهو يستطيع أن يؤلف بين عصبيته لأسرته وعصبيته لقريته ثم إقليمه ثم وطنه العام ثم جنسه ثم ما هو أوسع من الجنس . وهذا لا يكون إلا بأن ينتصر للحق فلا تغلبه العصبية في نفسه، ثم بأن يقدر الصلات المختلفة قدرها فيضع كلا موضعها، ويجعل لها أمورها الخاصة. والإنسان تضعف عصبيته على قدر سعة علمه وخلقه، وبصره بالحقائق وتحيزه للحق. ولا يزال الإنسان عبد العصبيات تثيره وتسخره وتسيره، أكثر مما يسيره العقل والحق والخير، إلا قليلا. وقد رأيت العصبيات تطغى بوحدان وجماعات حتى تغشى العقول والأسماع والأبصار، وحتى يفتخر الواحد بماض قديم ويعتز بأمته ويرفعها على الناس جميعا، وليس لقومه ماض إلا الجهالة والفوضى، ولكنها العصبيات التي تفرق وتعمي وتصم وتحيد بصاحبها عن سواء الصراط.
الأحد 12 جمادى الأولى/18 فبراير
إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا
يقول إقبال في «رسالة المشرق»:
وأرى الحبة تحت الترب من قبل نبات
ذات أصل وفروع وثمار يانعات
وأرى الأطواد ريشا في رياح قلقات
وأرى الريش ثباتا كجبال راسخات
يعني أن الحكيم البصير بسنن الكائنات، المحرر من حجاب الواقع وقيد الحاضر يرى المستقبل الذي ينبغي أن يكون، كائنا، ويرى البعيد قريبا، ويرى ممكنا ما يحسبه الناس مستحيلا، ويكاد يبصر الحادثات المقبلة، كما يبصر الحادثات الحاضرة، وكما أبصر الحادثات الماضية. وهذا فرق ما بين صاحب الفكر الثاقب، والعزم الماضي والنفس الأبية الذي لا يقهره الزمان ولا يقيده، وبين الذي تغبى عليه العواقب أو يراها ويعيا دونها، ولا يستطيع الانطلاق من قيد الزمان وعرف الناس.
ذكرت هذا حين تأملت في باكستان كيف نشأت: كان بعض الناس يحسبون قيام دولة للمسلمين في الهند محالا، وبعضهم يعده أمرا عضالا، ومنهم من يحسبه عسيرا، وكان من مسلمي الهند من يدعو إليه، ولا دعوة محمد إقبال الفيلسوف الشاعر الهمام، الذي يدعو إلى التحرر من الحادثات، وإلى الهزء بالمشقات، وإلى تسخير الكائنات، يكاد لا يرى في الأرض مستحيلا، ويكاد يجعل الإنسان على الأرض خلاقا. يقول: إن الحر على القضاء مشير، وإنه يبلغ به الأمر أن يسأله الخلاق ماذا تريد، وأن يقول له: إن لم يرضك هذا العالم فاهدمه.
إن الاستحالة والإمكان في أنظار الناس وعزائمهم أكثر مما هما في عالم الماديات ودنيا الحادثات.
الإثنين 13 جمادى الأولى/19 فبراير
التيسير والتعسير
العسر واليسر في الخليقة حزنها وسهلها، وجبلها وصحرائها، وبرها وبحرها وفي أمور الحياة عظيمها وحقيرها، وبعيدها وقريبها ... وهلم جرا، ولكن أكثر ما يكون العسر واليسر في نفس الإنسان.
ففي الناس نفوس عسيرة كزة، خشنة ضيقة، تعدي بعسرها كل ما يتصل بها، يعنتك طالبا أو مطلوبا، وسائلا أو مسئولا، ومعلما أو متعلما، وآخذا أو معطيا، إن طالبته تجده سمحا سهلا، وإن طلبك وجدته شديدا عنيفا، وإن سألته في علم عقد محلوله وصعب سهله، وعسر يسيره، وإن سألك ألحف في المسألة ولقي كل كلمة بمشكلة، وكل جواب بسؤال، وإن استغثت به خيب رجاءك، أو كدر صفاءك كالذي قال فيه الشاعر:
رافعا كفه ليرى فما
أحسبه جاءني بغير اللطام
والذي قال فيه آخر:
ووجه ليس يعرف من عبوس
بأوجههم أوعد أم وعيد؟
القريب عنده بعيد، والهين لديه صعب، واللين شديد. ومن الناس من تلقى منه وجها طليقا، ولفظا رقيقا، ويسر السؤال، ولطف الإجابة، لا تستنجده في ملمة إلا حل عقدتها، وخفف كربتها، ولا تسأله في مشكلة إلا ردها واضحة المسالك، نيرة الجوانب، ولا تسأله عونا من مال أو عمل إلا بذل الكثير مستقلا، وعمل الصعب مستسهلا. من الذين وصفهم الحديث النبوي بأنهم: الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون.
وكثيرا ما ترى هؤلاء الغلاظ الشداد، المتجهمين المعسرين، تلين جوانبهم، وتسهل خلائقهم، إذا أزمتهم التجارب، وعضتهم المحن، فلا يصبرون لها ولا يثبتون ولا يشتد بأسهم ولا يخشنون.
وكثيرا ما ترى اللين الهين السمح الكريم، شديد المراس، قوي البأس، خشن الملمس، حزن الجانب، إن سيم هوانا، أو كلف دنية أو عركته النائبات، وجدته الحادثات، كما يقول أبو الطيب:
كرم خشن الجوانب فيهم
فهو كالماء في السيوف الرقاق
الثلاثاء 14 جمادى الأولى/20 فبراير
الأدب بين العرب
للعرب منذ عصر الجاهلية ولوع بالكلام البليغ المأثور من نثر وشعر، وبهذا الكلام كانوا يؤدبون أولادهم، وينشئونهم على ما فيه من مكارم الأخلاق.
ومن أجل هذا سمي هذا الكلام المأثور أدبا ، وهذه السنة العربية دامت على تقلب الزمان، وتغير الحدثان حتى يومنا هذا، على تغير فيها، وقلة في العناية بها.
عرفت اثنين من الأعيان في طرابلس الغرب، لقيتهما في إسطنبول فكانا ينشدان بين الحين والحين من المعلقات، ويسأل أحدهما الآخر عما نسيه منها. وهكذا نجد في البلاد العربية هذا الكلف بقراءة الأدب وحفظه. ولا تتسع هذه الصفحة للقول في شيوع الشعر في بادية العرب في كل العصور، وأنه حتى اليوم على ألسنة الشعراء وغير الشعراء فيهم، وأنك تجد في كل قبيلة جماعة تنطقهم الحادثات بالشعر وليسوا معدودين في شعرائها.
لقيت منذ أيام قليلة عربيا من بيوت الإمارة في شرقي الجزيرة وتحدثنا في دار أحد الوزراء العرب المفوضين في كراچي، فكان يتمثل في كثير من كلامه بشعر لكبار شعراء العرب، فأنشد قول الأرجاني:
سيرى إليكم في الحقيقة والذي
تجدونه مني فسير الدهر بي
وأنشد لغيره. وأفضى الحديث إلى ذكر شعراء الجزيرة العربية المعاصرين الذين ينظمون بلغة العامة فروى قصيدة لشاعر اسمه: محمد العوني من القصيم، منها:
تقولون: الأيام فينا تغيرت؟
تغيرتم أنتم ما تغير مرورها
الأيام هي الأيام في حد عدها
هذي لياليها وهذي شهورها
وهكذا روى من الشعر القديم والحديث، وأبان عن اتصال سنن العرب في إنشاد الشعر وروايته وحفظه والتمثل به في المجامع والحوادث.
الأربعاء 15 جمادى الأولى/21 فبراير
ذل الرضا
الإنسان بخير ما أنف من الذل وثار به وتمرد عليه، وهو كذلك بخير إن صبر عليه ساخطا، وسكت عنه محنقا، يلتمس الوسيلة إلى الخلاص منه، ويبغي العدة للخروج عليه.
والناس في النفور من الذل والإباء على الضيم، والاستكبار على الهوان، درجات مختلفة، وهمم متفاوتة، ولكنهم أحياء، وآية حياتهم الغضب لكرامتهم، والتذمر لإنسانيتهم.
والذل الذي لا يرجى برؤه، ولا يؤمل محوه، هو ذل النفوس التي ترضى الذل وتسكن إليه، وتعيش عليه، ولا تشمئز منه، ولا تستنكف عنه، بل لا تشعر به ولا تحس ألمه. وأعوذ بالله من أن يكون الإنسان كما قال أبو الطيب:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش أخف منه الحمام
الإنسان بفطرته نفور من الذل، آب على الحيف؛ ولكن تحيط بالناس أحوال، وتتوالى عليهم حادثات، فيراضون على الخضوع حينا بعد حين، ويسكنون إلى الخنوع حالا بعد حال حتى يدربوا عليه كما يستأنس السبع، ويؤلف الوحش. ولكن يبقى في النفس ذرات من الكرامة وفي الدماء شذرات من الجمر، فإذا دعا الداعي إلى العزة، وأذن بالحرية، وأيقظ الوجدان النائم، وحرك الشعور الهاجد، نبضت الكرامة في النفس، وبصت الجمرة في الرماد، وأفاقت في الإنسان إنسانيته، فأبى وجاهد، ورأى كل ما يلقى أهون من العبودية وأحسن من هذه البهيمية.
كل ذل يصيب الإنسان من غيره، ويناله من ظاهره، قريب شفاؤه، ويسير إزالته. فإذا نبع الذل من النفس، وانبثق من القلب؛ فهو الداء الدوي والموت الخفي.
ولذلك عمد الطغاة المستعبدون إلى أن يشربوا الناس الذل بالتعليم الذليل والتأديب المهين، وتنشئة الناشئة عليه بوسائل شتى؛ ليميتوا الهمة، ويخمدوا الحمية، فإذا الناس سوام، وإذا بيدهم العصا والزمام.
الخميس 16 جمادى الأولى/22 فبراير
الأمة التي تقف بإرادتها تسير بإرادتها
حدثني أصحاب لي في سير الأمم ووقوفها، وإقدامها وإحجامها، وإسراعها وإبطائها، وسبقها وتخلفها، وقال قائل منهم: إن شكوانا من جماعة منا، يصدوننا أحيانا عن الإقدام، ويخذلون الناس حين يتأهبون للمضي. قلت: ليس كل حركة بركة، ولا كل إقدام إحكام، ولا كل مضي إلى الخير.
ولست أكره أن يكون في الأمة ناهون عن السير، كما لا أكره أن يكون فيها داعون إلى السير، فلا بد للناس من أمر ونهي، ومن تبشير وإنذار، ومن دعوة إلى الإقدام وأخرى إلى الإحجام.
وإنما ملاك هذا كله وقوامه أن نحيط قادة الأمة بالأمور علما وخبرا، ويقدروا كل شيء قدره وأن يخلصوا الفكر والعمل لأمتهم، وأن يدعوا حين يدعون لا يبغون لأنفسهم نفعا إلا نفعا تشترك فيه الأمة كلها.
فإن كانوا كذلك فدعوة الإقدام منهم جديرة بالإجابة، ودعوة الإحجام حرية أن تجاب.
لا يضير أمة تعمل على علم وهدى وإخلاص أن تقف حينا للتروي والتثبت، بل يضيرها ألا تقف هذا الحين. وكثير من الأمم لا تملك أن تقف لتنظر فتوقن. وعيب الأمة في إقدامها على غير بينة كعيبها في إحجامها وقد تبين لها الإقدام.
ومرد هذا الأمر إلى أن تكون الأمة رشيدة مريدة تقف بمشيئتها وتسير بمشيئتها، لا مسيرة بعصا السادة، أو بهوى قاهر أو بشهوة ثائرة، أو جهل بما أمامها، ولا واقفة ضعفا أو عجزا أو جهلا أو تبلدا.
فلا تحزننك الدعوة إلى الوقوف والإحجام والتلبث، ولا يسخطنك الوقوف والأمة رشيدة والدعاة عاملون مخلصون.
فإن أمة تقف بإرادتها حرية أن تسير بإرادتها.
الجمعة 17 جمادى الأولى/23 فبراير
عظمة الإنسان
انظر ماذا يعمل الإنسان في هذا العالم، ينظر فيفكر فيعمل ويصنع، وهو دائب النظر والفكر والعمل والصنعة ليل نهار، على مر العصور واختلاف الأحوال.
يخطئ ويصيب حتى يتبين الحقيقة، ويرفق ويخرق حتى يستقيم على الطريقة. طموح إلى السماء وما وراء السماء، سياح في البر والبحر، بحاث فيما تحت الثرى، غواص إلى قيعان البحار، ضاقت الصحراء عنه والدأماء، فركب الهواء وطار في الجواء.
كل يوم يحدث فكرا، ويجد علما، ويهتدي إلى طريقة، ويبتكر صناعة، دائم السفر لا يقف على منزل ولا ينتهي إلى غاية.
إن هذا الإنسان الضعيف الضئيل بجسمه، قوي عظيم بروحه، بل هو لا يحد ولا ينتهي، ولا يحب الحد والنهاية.
وكلما ذكت نفسه وخلصت من حدود المادة زاد عظما وسعة وبقاء حتى ليتصل بالله فيشعر أنه صلة الأزل بالأبد وأنه لا يفنى.
وهذا الإنسان الذي يعظم ويخلد ويصل إلى الله ويحاول تسخير ما في السموات والأرض، إن استكان للشهوات وهوى مع المادة؛ هبط إلى مستوى البهيمية. ولكنه بهيمة عاقلة، مدبرة كائدة فهي أقوى على الشر وأقدر على الضر، وقل ما شئت فيما تجني على الناس وتفسد في الأرض.
لا حد لرفعة الإنسان ولا حد لهويه، ولا نهاية لبره ولا نهاية لفجوره.
فليعمل المعلمون والمربون، وقادة الأمم وساسة الجماعات على أن ينبهوا الإنسان للمعالي، ويدعوه إلى السمو، ويحببوه إليه، ويدربوه عليه.
وليحذروا مقالات السوء ، والقدوة المفسدة، ويذكروا أبدا أن الإنسان يعلو جاهدا ويهبط وادعا. فليحذروا ثم ليحذروا!
السبت 18 جمادى الأولى/24 فبراير
موت متصدقة
نعت الأنباء خيرة من خيرات المسلمين، مقرونا ذكرها بالدعاء في حياتها ومماتها. هي أميرة من أسرة ملكية، ولكنا كنا نسمع أخبارها في مشاعر الحج وفي مجامع البر وعلى ذكر الصدقات، ونرى برها على الوجوه والألسن في أمكنة كثيرة. كانت جارتنا في حلوان فكنا نرى الفقراء يتلقون برها كل يوم على طول السنة، وكنا لا نسمع عنها إلا الأحدوثة الجميلة، ولا نسمع عليها إلا الثناء والدعاء.
سيفتقدها كثير من الناس، ولكن أشد الناس افتقادا لها الفقراء، ومن يهتمون بالفقراء من الساعين في الخير.
لقد حد لوفاتها القصر الملكي في مصر وأمرت مصالح الحكومة بالحداد. ولكن هذا الحداد الرسمي ليس شيئا بجانب الحداد عليها في بيوت المساكين ومن يرحمون المساكين.
إنها كانت أميرة، ولكن إمارتها قد وهبتها إمارة أعظم وأبقى تعرفها القلوب ويعترف بها المساكين. إن الناس لا يقولون ماتت الأميرة بنت فلان وأخت فلان وحفيدة فلان، ولكن يقولون: رحمها الله لقد كانت خيرة بارة متصدقة مصلية متعبدة حجاجة.
ما أجمل الخير! وهو في النساء أجمل؛ إنه جمال الخلق إلى جمال الخلقة. ما أعظم البر! ولكنه في الكبراء والأمراء أعظم؛ لم تحجب ضوضاء الدنيا وزخرفها أعينهم عن الحقائق، ولم تفتن قلوبهم عن الرحمة. وما أحسن الصدقات! ولكنها من الدين التقي أحسن؛ إذ كانت لونا ملائما لألوانه، ونغمة متصلة بنغمات كلها جميل مطرب.
لا يذهب العرف بين الله والناس، ولا تموت ذكرى الخير ولا يبلى البر. لعل خيراتها تتصل بعد موتها بمن واستهم في حياتها! وما أظن القلب الذي ذكر الله وعباده هذه السنين الطويلة ينسى عياله.
سيفقد الناس أميرة طيبة، وسيفقد الفقراء يدا راحمة وقلبا رءوفا، وسيفقد أهل حلوان سيدة مؤمنة كانت خيرة، كانت جمالا لبلدهم يعرفونه ولا يرونه، ويبصرون آثاره على المساكين ولا يحسون له ضوضاء ولا ركزا.
وسيبقى في حلوان عبق من الثناء الجميل والذكرى الطيبة، بل أحسب برها لن ينقطع ، وقديما قال الشاعر:
فتى عيش في معروفه بعد موته
كما كان بعد السيل مجراه ممرعا
الأحد 19 جمادى الأولى/25 فبراير
المال أمانة
لا أقول للموظفين كونوا كما كان عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز في التصرف بمال الدولة، أو مال الأمة، ولكن أدعو إلى أن يكون حرص الموظف على ما في يده من مال ومتاع كحرصه على مال نفسه، يصونه جهده، ويقتصد فيه، غير ناس أنه يستطيع أن يسرف في ماله أو يهمل رعايته ولا يجوز له هذا في مال الأمة، فهو أمانة في يده وليس للأمين إسراف أو إهمال.
رأيت من الموظفين من يكتب أسطرا قليلا في ورقة كبيرة، أو يستعمل ورق الكتابة لفافة، أو يأخذ منه لنفسه ليكتب فيه ما لا صلة له بعمله في الحكومة.
ورأيت من يؤذن له باشتراء أثاث في مصلحة من المصالح فيشتري شيئا بمائة مبالغا في التجمل وملتمسا الأبهة، وهو يستطيع أن يشتري بخمسين ما يغني غناء هذا الشيء، ولكنه يشتري الأبهة لنفسه من مال غيره.
ولا أذكر من يسرق أو يغش فليس حديثي عن المجرمين، وكثيرا ما أسمع هذه الكلمة العجيبة: يا أخي توفر للحكومة؟ نعم أوفر للحكومة، وإن لم أوفر لها وأنا قادرة على التوفير فقد خنت الأمانة وخالفت ما يجب.
ينبغي أن يرعى كل موظف أمانته ولا يستهين بشيء منها ولا يحقر صغيرا فيها، فإن القليل إلى القليل كثير. وإن عمل كل موظف على أن يوفر عشر ما يستعمل أو ينفق توفر للأمة مال كثير، وإلى توفير المال، أداء الواجب وتأدية الأمانة، وهما المال الأقوم والثروة العظمى.
إن الناس كثيرا ما يفصلون بين الدين والأخلاق، وبين الاقتصاد فيما ائتمنوا عليه من مال الدولة وأعمالها. وليت شعري! فيم يراعى الدين والخلق إن لم يراع في إتقان العمل وحفظ الأمانة والمحافظة على الواجب والعمل للخير العام؟
إن الموظف لا يبعد عن الحق إذا تمثل نفسه في عبادة حين يعمل للأمة، فكل عمل يتقنه، وكل إصلاح يقترفه، وكل درهم يوفره، حسنة يرجى خيرها لنفسه، وثوابها عند الله. وكل تفريط وتضييع وإسراف وإفساد عليه ضرره في نفسه، وجزاؤه عند الله.
ولا يفرق من يحاسب نفسه ويتقي الله بين تضييع درهم بغير حق وتضييع ألف؛ فإن الفساد فساد في الصغير والكبير، والتفريط تفريط في القليل والكثير. فليتق الله من عمل للناس فيما دق وجل، وحسابه على الله.
الإثنين 20 جمادى الأولى/26 فبراير
إقبال في مسجد قرطبة
رأيت صورة الشاعر النابغة الفيلسوف محمد إقبال خاشعا يصلي في مسجد قرطبة.
إن مرأى مسلم خاشع يصلي في مسجد لها جمالها وروعتها، وهو أجمل وأروع حين تكون الصلاة في مسجد قرطبة كما هو اليوم، مسجد من التاريخ شاده مجد الإسلام وعظمة المسلمين وتوالت عليه الحادثات، فاحتملت عمده ملء القرون من المصائب، وملء التاريخ من الأحزان، ولم تخر. فهي صبر المحروب الأبي، وقرار المؤمن الصابر، على رغم الزمان وعلى رغم المكان.
فإن كان المصلي الخاشع في مسجد قرطبة اليوم هو محمد إقبال، فأي جلال وأي عبرة وأي شعر وأي فلسفة!
إن فلسفة إقبال الحية القوية، وإن شعره الجميل الرائع الذي يهدر بالحياة والعزة والجهاد، ويفيض بالأمل والعمل والإقدام ويبين عن المعالي في مقاصد الإسلام وفي تاريخ المسلمين، إن فلسفة إقبال وشعره - وهما عقل الإنسان وقلبه وحياته وجهاده - ليتمثلا لمن يعرف إقبالا في مرأى إقبال خاشعا يصلي في مسجد بني أمية الذي شادوه في الأندلس، وبقي حتى اليوم أسيرا في إسبانيا. تمنيت أني سمعت قراءة إقبال في هذا المسجد وتسبيحه، وتمنيت أن عرفت ما ثار في نفسه من الذكر والعبر والفلسفة والشعر حين دخل مسجد قرطبة، وحين سرح طرفه في أرجائه، وحين قرأ الآيات على جدره وحين صف للصلاة.
لقد ظفرت بإحدى هذه الأماني، عرفت ما اضطرب في نفسه من فكر وشعر في المسجد؛ عرفته من قصيدته «جامع قرطبة». إنها لصورة هذا المسجد والتاريخ الذي شيده، والأمة التي أنشأت هذا التاريخ في مرآة من الشعر. إن قصيدة إقبال في جامع قرطبة لو صورت بناء، وفسرت مآثر وحوادث، لكانت جامع قرطبة في عهد بني أمية في مجد الإسلام اللألاء، قد نظم هذا الجامع وهذا التاريخ وهذا المجد فإذا هو قصيدة إقبال الشاعر العظيم في جامع قرطبة.
الثلاثاء 21 جمادى الأولى/27 فبراير
من معالي الإسلام
زارني أمس رجل طيب صاحب مجلة تنشر باللغة الأردية، وهو من جماعة علماء الإسلام، وحدثني عن الانتخاب في ولاية بنجاب، فبين مكانة الرابطة الإسلامية والأحزاب الناشئة المنافسة لها. ثم خص بحديثه جماعة العلماء، قال: إنا نشترك في الانتخاب، ولكن لا نرشح أحدا بادئ بدء، فليس من سنن الإسلام أن يطلب الإنسان لنفسه ولاية. قلت: نعم، ومن قواعدنا: طالب الولاية لا يولى. قال: وكذلك لا يجوز لإنسان أن يزكي نفسه. قلت: وفي القرآن:
فلا تزكوا أنفسكم . قال: وإنما نمر على الناس في دورهم ومجامعهم فإذا اتفقوا على واحد ممن يصلح لجماعتنا؛ أي مرضي الدين والخلق وافقناهم على أن يذهبوا يوم الانتخاب لينتخبوه. قلت: ويلي على الناس عامة والمسلمين خاصة! أين ذهبوا من هذه الأخلاق العالية: لا يطلب أحد الولاية، ولا يزك أحد نفسه؟ إن طلب الولاية، والمنافسة فيها، والتزاحم عليها والتشفع إليها من سنن البلاد الإسلامية اليوم، فأين نحن مما يريد الإسلام؟ وإن تزكية النفس والطعن في الخصم، وتمدح الإنسان بما لم يفعل، وبخس الناس حقهم، من مذاهب المسلمين في هذا العصر، فأين هم مما يريد الإسلام؟
سمعنا في تاريخنا بمن يدعى إلى تولي القضاء فلا يقبل، وسمعنا بمن يأباه ويكره عليه، وعلماء المسلمين في الأزهر وطلابه في هذه الساعة التي أكتب فيها ثائرون ممتنعون من التعليم والتعلم حتى تجاب مطالبهم وليس فيها إلا المال. وكان علماؤنا من قبل يختلفون أيجوز للمسلم أن يأخذ أجرا على التعليم؟
أعرف أن الزمان تغير والناس تغيروا، وحدثت شئون ونشأت أمور، فلا أكلف المسلمين أن يلتزموا هذه الطريقة المثلى، ولكن أدعوهم ألا يبعدوا عنها، ويذهبوا إلى أضدادها. فإن طلبوا الولاية فليطلبوها بالحق ولينفعوا الناس، وإن زكوا أنفسهم فليزكوها بما فيها لا يتزيدون ولا يكذبون، وإن أخذوا أجرا على التعليم فلا يجعلوا الأجر أكبر همهم ، بل يعدوه بلاغا يعيشون به حتى يفرغوا لعملهم، من كان غنيا رضي بما أعطي قليلا أو كثيرا، ومن كان فقيرا طالب بما يستحق لا يشره على المال، ولا يجعله أكبر همه. لا نطمع أن يكون المسلمون كما كان سلفهم، ولكنا ندعوهم أن يكونوا كغير المسلمين.
وإلى الله المشتكى!
الأربعاء 22 جمادى الأولى/28 فبراير
حياة لا تستحق الانتحار
قال لي صاحب مصري، ونحن في لندن قبل سنين كثيرة: ماذا ترى؟ إني أريد أن أنتحر! ولم يكن الرجل مريضا أو فقيرا أو مظلوما أو مرهقا بأمر من أمور المعيشة، بل كان شابا موسعا عليه في الرزق، ذا منصب يشرئب إليه أمثاله. قلت: إن هذه الحياة لا تستحق الانتحار. فنظر إلي متعجبا من هذا الجواب العجيب، كان ينتظر أن أجيبه بما يقبح الانتحار ويفظعه، وينفره منه، وبما يحبب إليه الحياة، ويبصره بلذاتها ومحاسنها، ويجلو له جوانبها الناضرة، وأوجهها الباسمة، وما ارتقب أن أقول له: إن الحياة التي تبغضها وتبرم بها لا تستحق أن تنتحر من أجلها!
وتفسير هذا الجواب لهذا وأشباهه ممن يتحدثون عن الانتحار صادقين أو كاذبين، جادين في أنفسهم أو هازلين، أن هذه الحياة عندهم حقيرة دنية يبرم بها الإنسان أو هي شقية أليمة لا يطيقها الإنسان. فإن تكن هينة حقيرة مملة فليست تستحق أن يبخع الإنسان نفسه من أجلها. وإن قالوا: إنها شقية أليمة فأجدر بالإنسان أن يلقاها بصبر يهون شقاءها، وبحيلة تبدل أحوالها. أجدر به أن يكون آملا راجيا، مقدما على الصعاب، مقتحما العقاب. وأجدر به أن يكون حولا قلبا كما يقول تأبط شرا:
إذا سد منه منخر جاش منخر
إن الحياة تضيق على الإنسان، إذا حدها بجسمه الضئيل فهي محدودة اللذات مملة، ضيقة المجال مسئمة، لا تفي لذاتها بآلامها، ولا سعادتها بشقائها.
فإذا عرف الإنسان نفسه ووصلها بالعالم غير المحدود، ثم بالله رب الوجود، وجد فيها أملا وعملا، وفجاجا سبلا، ورقيا دائما وعروجا دائبا، ورأى أنه الكون وأنه لا يحد ولا ينتهي؛ فتهون عنده الآلام، بل تضيع في الآمال العظيمة، وتمحي في الحياة الروحية التي تسمو على كل صغائر هذه الدنيا،
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب .
الخميس 22 جمادى الأولى/أول مارس
الرفق خير كله
صليت اليوم صلاة الجمعة في المسجد الذي أصلي فيه، وهو مسجد صغير وراءه ظلة يجتمع فيها من لا يسعهم المسجد، وأنا أوثر الصلاة تحت هذه الظلة في نهاية صفوفها إيثارا للهواء ورغبة عن الزحام.
وجاءت هريرة فمرت أمام المصلين قبل أن تقام الصلاة، فنهرها رجل ودفعها فعادت، فدعها بعنف، فرجعت. فما زال ينهرها ويدعها فتعود، حتى شغل الحضور عن الخطبة وأبرمهم بعمله ونفرهم من قسوته.
ومد يده رجل آخر فمسح الهريرة حتى سكنت إليه فدعا صبيا حسبته ابنه فناوله الهريرة بعيدا، فحملها الصبي وبعد بها قليلا ووضعها وأشار عليه أن ضعها، فمضت سبيلها ولم تعد إلينا.
قلت: هذا فرق ما بين الرفيق والأخرق، هذا يتناول السهل فيصعبه، وذاك يتناول الصعب فيسهله، هذا يعمل قوته، وذاك يعمل حيلته. إن العسر واليسر في نفوس الناس وتصرفهم أكثر مما هو في الأمور التي يتصرفون فيها، إنك لترى الأمر تحسبه معضلا فإذا هو يسير عند الحكماء، وترى القضية تظنها فوق فطنة الفطن وحلم الحليم، فيتناولها الحليم رفيقا كيسا مفكرا فما يزال بها تفكيرا وتلطفا حتى يجلو غامضها ويسكن نافرها ويقضي فيها برأي عدل، وقول فصل. فيفض الخصام ويفضي إلى الوئام، ويدفع شرا ويمهد لخير.
الرفق خير كله فليرفق الإنسان بنفسه وعشيرته وبالناس، وليرفق بالحيوان ولو كان هرة صغيرة تؤذي المصلين.
الجمعة 23 جمادى الأولى/2 مارس
الحياة غير القانونية خير من الموت القانوني
كثيرا ما شهدت مجالس، أو لجانا، فتأخر العمل إلى يوم آخر أو تأخر ساعة عن وقته؛ لأن عدد الحاضرين دون النصاب. وكثيرا ما دعوت إلى التحلل من النصاب جهد الطاقة بأية وسيلة وبأية حيلة؛ رغبة في العمل وكراهة لضياع الوقت. كنت أقول، فيضحك أصحابي: أنا لا أؤمن بالنصاب فلنعمل!
وكان لنا جماعة اجتمع بعض أعضائها فعملوا فجاء آخرون من الأعضاء يدعون أن الانتخاب الذي وقع باطل، وأن الجماعة لا قانون لها، وأنه يبغي التمهل حتى يوضع القانون ثم يكون انتخاب غير الذي كان.
وحكمت في الأمر أنا وقليل من الأصحاب، فاجتمعنا فتحدثنا فقلت: يا إخواني دعوا الذين يعملون في عملهم، ولا تقولوا للانتخاب الذي كان إنه باطل، وضعوا قانونكم ثم أنفذوه على الجماعة، واستأنفوا انتخابا على هذا القانون. استجيبوا لي فكفوا عن الشقاق، وبادروا إلى العمل، ثم تجتمعون على قانون جامع. قال المخالفون: هؤلاء العاملون دعوا إلى انتخاب بغير حق، فوقع الانتخاب باطلا، ولا بد أن يكفوا عن العمل، فنحن لا نقر عملا باطلا. قلت: يا إخواني إن الجماعة كانت معطلة منذ زمن طويل فأحياها هؤلاء وعملوا فدعوهم على الرأي الذي أشرت به فإني أرى أن الحياة على خلاف القانون خير من الموت بالقانون.
السبت 24 جمادى الأولى/3 مارس
مناجاة
تجلى عن جمال الصبح ستر الظلام، وهبت من مهاجعها الناس والأنعام، وملأت الآفاق من الطير الأنغام، موسيقى تملأ الأرض والسماء، كأن أوتارها أشعة الضياء، ومضرابها خفقات الهواء، تسمعها في حفيف الأشجار، ونشيد الأطيار، وتبصرها مكتوبة في أمواج البحار وألوان الأزهار.
استيقظت القلوب في الأشعة الصافية، والنسمات الهافية، والنغمات الشادية، فتجاوبت النغمات بينها وبين الأرض والسموات، وإذا قلبي ينشد هذه الأبيات:
فالق الإصباح رب المشرقين
باسط الليل ورب المغربين
أنت في الصبح ضياء وجمال
أنت في الليل ضياء وجلال
ناشر الشمس خضما من ضياء
طاوي الذرة شمسا في خفاء
يا جليا في دجى أستاره
يا خفيا في ضحى أنواره
ناظم الكون البليغ المبدعا
محسنا مطلعه والمقطعا
كل لفظ فيه نظار إليك
كل معنى فيه برهان عليك
منك هذا العقل، هذا الثائر
طالب إياك ساع حائر
جاوز الأفلاك يسعى نحوكا
يكشف الأستار يبغي وجهكا
منك هذا القلب هذا الخافق
في الدياجي منك نور خافق
ذاكر إياك راج كل حين
خفقه ذكر وشوق وحنين
اجعلن عقلي شهابا ثاقبا
يصدع الباطل حقا صائبا
واملأن قلبي بحب وصفاء
واجنبنه كل بغض ومراء
اجعلن وجهك قصدي لا سواه
هونن في عين قلبي ما عداه
الأحد 25 جمادى الأولى/4 مارس
الجمال يقاس ويباع
مما ابتلينا به من مادية هذا العصر ونذالته، أن صارت المرأة التي تؤتى حظا من الجمال مغنما للتجار، ومتجرا لعباد المال من هذا البشر. فهي تجلب المشترين إلى الحوانيت، والمتفرجين إلى الملاهي، ولها وراء هذين تجارة ونحارة.
ومما ابتلينا به أن اخترع تجار الفنادق والملاهي تمليك امرأة على النساء تسمى ملكة الجمال، فإذا ملكوا امرأة ذاع صيتها، وشهرت صورتها، فتنافس فيها أصحاب الخيالات، وناشرو الصحف والمجلات، وقوام الفنادق فاتخذوها وسيلة إلى السمعة، وأحبولة للرواج، وخدعة لكنز المال.
كذلك هانت النساء، ولؤم الرجال، وضاع الإباء، واتضعت الهمم وفقدت المروءات حتى ليس إلا المال والسمعة والمتعة، سواء في هذه الورد الذليل، والورد العزيز، والمطعم الحلال والمطعم الحرام.
وكذلك عرف بعض الناس الجمال، وقدروا الحسن، وأنزلوا المعاني الروحية السامية من سمائها، وهبطوا بها من عليائها، وحبسوها في ضيق أنفسهم، وحدوها بحدودهم، وقدروها بدناءة أخلاقهم. ومن أجل هذا قاسوا الجمال طولا وعرضا، ووزنوه وزن السلع، وحسبوه حساب الذهب والفضة، ثم قالوا: هذه جميلة وهذه أجمل، وهذه ملكة الجمال! وما قاسوا إلا مآربهم، وما حسبوا إلا متاجرهم، وما قدروا إلا شهواتهم. وما ظنك بناس جعلوا الشعر تفعيلات، والموسيقى آلات، والحسن قياسا وحدا، والجمال نقدا وعدا.
الإثنين 27 جمادى الأولى/5 مارس
شر السرقات
تكلم الأدباء في السرقات الأدبية، وبينوا حدودها، وذكروا صغيرها وكبيرها، وأقوالهم في هذا كثيرة في كتب الأدب، ولا سيما كتب النقد.
ومن شر ما علمت من السرقة، وأقبحها وأخفاها وألأمها سرقة يستهين بها بعض المؤلفين وهي في الحق عظيمة، ويستصغرها بعض السراق وهي في شرعة الإنصاف كبيرة.
يتناول مؤلف كتاب موضوعا بالنظر والبحث والاستقراء ويعثر بعد طول بحث ومراجعة واستعانة بما علم وجرب وقرأ وسمع، على كلمة قيمة، وسند قوي من كتاب أو أثر فيعزز به رأيه ويؤيد به دعواه. والظفر بهذا السند أعظم في رأيه مما قال ابتكارا، وبين اختراعا في هذا الشأن، وهو أبعد منالا وأعظم شقة.
ثم يأتي مؤلف كسول مرفه، أو غبي أو جاهل يقصر غباؤه أو جهله دون إدراك المراجع، والاستفادة من قديم الكتب والآثار، فيأخذ النص الذي أضنى فيه المؤلف نفسه فيضعه في كتابه، ويسمي الكتاب ويبين الباب والصفحة كما وجدهما في كتاب المؤلف الباحث الجاهد، ويتخطى المؤلف الذي دله وهداه، فلا يذكره كأنه هو بحث واستقصى وعلم وجرب فاهتدى إلى هذا الدليل في مظنته. فهذه السرقة اليسيرة الظالمة تذكرني بما حكي عن أعرابي كان له شأن في محكمة فدخل فأخذ منه رسم، فلما خرج سأله من يعرفه: ماذا فعلت؟ قال: أخذوا مالي. قيل من؟ قال: هؤلاء، لصوص الفي؛ يعني الذين يجلسون في الظل فيسرقون لا يحتملون سير الهجيرة، ولا سرى الليل.
الثلاثاء 28 جمادى الأولى/6 مارس
المسلمون في روسيا
قرأت بيانا نشره خليق الزمان الزعيم المسلم ورئيس الرابطة الإسلامية قبلا، وهو يجادل في بيانه الروس في دعواهم العمل لتحرير الناس، قال: ماذا فعلتم بالمسلمين في بلادكم؟ أهم أحرر فيما يقولون ويفعلون؟ أم هم أحرار في أن يختاروا لأنفسهم الاستقلال عنكم أو البقاء معكم؟
وقد أثار بيان خليق الزمان في نفسي أفكارا كثيرة، قلت: هؤلاء المسلمون في روسيا لا يسمع لهم شكوى، أهم راضون بما هم فيه مغتبطون؟ أم هم لا يجسرون على الشكوى ولا يقدرون على الأنين وقد ضرب عليهم الروس سورا قطعهم عن الناس؟ فالأمم لها شكاوى وقضايا، والمسلمون في أرجاء الأرض ظفروا بحريتهم أو هم يجادلون ويجاهدون للظفر بها، إلا هؤلاء البائسين الذين يعيشون في أرض الإخاء والحرية، لا تسمع شكواهم ولا تعرف بلواهم، حتى كدنا ننساهم. وقليل منهم فروا من هذا السجن فقصوا على الناس ما هم فيه، وليس حالهم من الإنسانية في شيء، ومنهم من خرجوا إلى الحج بإذن، ولا يؤذن إلا لمن يوثق به، فمروا ببلاد المسلمين لا ينطقون وإذا سئلوا لا يجيبون، يتهم كل واحد صاحبه، والتهم قاعدة القول والعمل في روسيا.
وقلت: إن كانت هذه الشيوعية نعمة على الناس وسعادة للبشر وقد فرح بها أهلها وحرصوا عليها فلماذا يضرب الروس بين رعاياهم وبين الناس بالأسداد، ويمنعون الخروج من بلادهم والدخول إليها؟! هل يأذن الروس أن يسأل المسلمون الذين تحت كابوسهم أيريدون الاستقلال أم البقاء في دولة الروس؟ أيختارون أن يكونوا شيوعيين أم يختارون أن يعيشوا كما يعيش الناس في البلاد التي تسير على نظام من العدل والمساواة والحرية؟
إن لم يقبل الروس هذا فقد كذب كل ما يدعون من حرية وما يزعمون من اغتباط الناس بقوانينهم، وسعادتهم بشريعتهم.
إن الناس في روسيا من الرضيع إلى من بلغ الخمسين من عمره، ولدوا أو نشئوا في سيطرة الشيوعيين، فلم يبق ممن عاشوا في النظام القديم إلا الشيوخ، فإن لم تكن تربيتهم أثمرت في هذه الأجيال وقد ملكوا الأمور فيها كما يشاءون فليعترفوا بأنهم خابوا وأنهم ساموا الناس شرعا لا تقبله الطباع، ولا تقره الإنسانية، وأن الخير أن يفيئوا إلى الرشد ويثوبوا إلى الحق.
الأربعاء 29 جمادى الأولى/7 مارس
ضربة مجنون يشقى بها العقلاء
سمعت في أمثال الإنكليز أن الحجر الذي يلقيه مجنون في بئر لا يستطيع إخراجه مائة عاقل.
وأوحى إلي تسطير هذه السطور تفكيري في حادثات وقعت في أرجاء الأرض وفي عصور التاريخ، عدا فيها شرير على خير، ومفسد على مصلح، فأصاب الناس مصيبة لا يطب لها الأخيار، ولا يشفى منها العقلاء، ودها الأمم بصدع لا يرأب ومزق لا يرفأ، وجرح على الزمان سيال، وقرح تنكؤه الأجيال بعد الأجيال. وكم حادثة أيقظ فيها جاهل فتنة نائمة، أو فرق شملا مجتمعا، أو أثار حربا طاحنة! وعي العقلاء عن جمع ما فرق، وتسكين ما أثار، وبناء ما هدم، وأسو ما جرح، وشقيت وحدان وجماعات بما أحدث الجاهلون، وأيقظ الغافلون، وأثار العابثون.
ما أعسر البناء وما أيسر الهدم، وما أسهل الإفساد وما أصعب الإصلاح! إن قتل النفس هين وإحياءها محال، والنار يشعلها طفل، فإذا اضطرمت واحتدمت وتلقفت البلاد أو استعرت في الزروع؛ عي عنها التفكير والتدبير والجمع الكثير.
هذا كله يعرفه العقلاء، ولا يستعصي إدراكه على الدهماء. فعلى ساسة الجماعات وقادة الأمم أن يذكروا هذا فيما يقولون ويفعلون، وأن يحذروا شرر الكلام في شرار الأنام، وأن يتعاونوا على تهدئة المجانين لا إثارتهم، وعلى تسكين الجهلاء لا تحريشهم، وعلى رياضة الدهماء لا إهاجتهم. وينبغي أن يتعاونوا على تمكين الوئام وإشاعة السلام، ويأخذوا على الفتنة سبيلها، وعلى الثورات طرقها، ويذكروا دائما أن ضربة مجنون يشقى بها عقلاء.
الخميس 30 جمادى الأولى/8 مارس
أي الفريقين أجدر بالرثاء
شهدت مجامع كثيرة يتكلم فيها خطباء، وفي الناس من يحب إطالة القول، وينسيه الزهو والأثرة ما يعاني الناس من ضيق الزمان أو المكان أو ثقل الكلام.
وبعض المجامع يحضرها طوائف لا تتفق على لغة واحدة فيخطب الخطيب ويترجم كلامه فيضاعف للسامعين العذاب، ويخطب خطيب فلا يترجم كلامه، وربما يعتذر خطيب لمن لا يفهمون لغته ويستغفرهم لتكلمه طويلا بلغة لا يفهمونها.
حضرت مجمعا أطال فيه خطيب ثرثار ثم اعتذر لمن لا يعرفون اللغة التي خطب بها، قلت لصاحب بجانبي: إن الذين فهموا الخطبة أولى بأن يعتذر إليهم وأجدر بالرثاء؛ استراح من جهلوا اللغة وشقي من عرفوها.
ورأيت بعض الخطباء في مثل هذا المجمع يعنون المترجم، يقول أحدهم قولا فيه ما لا يفهم وفيه ما يغمض وفيه ما لا وزن له وهو في حجاب من لغة لا يعرفها جمهور الحاضرين. ويحاول المترجم المسكين وهو يرتجل الترجمة أن يفهم ما لا يفهم، ويوضح ما غمض ويزن ما ليس له وزن. وقد عرفت في هذا لباقة بعض المترجمين وحسن تصرفهم بالحذف والشرح والتبديل، فأعجبت بالمترجم وأشفقت عليه، وعجبت لخطيب عيي، ومترجم بليغ، ومتكلم غبي وناقل ذكي.
إن من يرقب الخطباء في المجامع يستطيع أن يكتب المضحك المبكي، ويعرف من أخلاق الناس وآدابهم ما لا يعرف في مقام آخر.
الجمعة 30 جمادى الأولى/9 مارس
الواحد والجماعة
الجماعة آحاد اجتمعت، والأمة أفراد تضامت، اجتمع جسم وجسم، وانضم فكر إلى فكر، وائتلفت إرادة وإرادة، فكانت الأمم على اختلافها، والجماعات على تفاوت ما بينها.
كل جماعة فيها صفات آحادها؛ مزاياهم وعيوبهم، وفضائلهم ورذائلهم، ومحامدهم ومساوئهم، وجهلهم وعلمهم، ورفقهم وخرقهم، وما شئت من صفات محمودة ومذمومة. ولكن الواحد حين يأتلف في الجماعة، تحد حريته، وتقيد إرادته، وتنشأ له حقوق وعليه واجبات، وتتسع حياته وتعظم مقاصده وآماله. وكذلك الجماعة يكون لها من القوة والنظام والخطط والسير ما يخالف بين معيشتها ومعيشة الواحد، كما يأتلف اللفظ المفرد في الكلام المركب فترى فرق ما بين المفرد مفردا وبينه مؤلفا مع غيره في نظام من الكلم.
وليس هينا تآلف الجماعة وانتظامها وسيرها. وكثيرا ما تعجز الأفراد عن الائتلاف، وتقصر الجماعة عن التآلف. وأكثر شقاء الناس من خلل التآلف في الجماعة وفساد التركيب. بل الإنسان، باديا متوحدا على قلة حوله وطوله، أسعد حالا منه في جماعة متأخرة متخاذلة.
ونعود إلى التشبيه باللفظ مفردا ومركبا في النظم، إن حسن تأليف الكلام، واستقام الوزن وتلاءمت القافية كان للفظ دلالة ومكانة وحياة ونغمة ليست له وهو مفرد، وإن ساء التأليف واختل الوزن وتخاذلت القافية، فتنافرت الألفاظ وتلاعنت، اكتسب اللفظ في التركيب عيوبا ونقائص لا يوصف بها وهو مفرد. وكذلك الجماعة في الأمة كالبيت في القصيدة ... وهلم جرا. البيت وحدة يسلم من عيوب تعرض له في القصيدة، يقول المعري:
كالبيت أفرد لا إيطاء يلحقه
ولا سناد ولا في اللفظ إقواء
السبت 1 جمادى الثانية/10 مارس
ذئاب من البشر
في الناس ذئاب لا يرحمون إذا ظفروا، كما لا يرحم الذئب فريسته إن تمكن منها، ولا يستحون أن يدبوا في الظلام إلى الآثام كما يفعل الذئب إذا جن الليل، ويرون في الضعف نهزة للهجوم، وفي الجرح فرصة للقتل، كما يقال عن الذئاب: تصول بنابها على الجريح من أصحابها.
فكنت كذئب السوء لما رأى دما
بصاحبه يوما، أحال على الدم
ولا يستنكف أن يلغ في الدماء، وينهب الأموال، وينتهك الحرمات، كما يعبث الذئب في الغنم، لا يحلل ولا يحرم. بل في الناس شر من الذئاب، الذئب يصول به الجوع وترمي به المسغبة، فهو يدفع الجوع الذي يقاتله، والضر الذي ينازله، وذئب البشر يصول به البطر ويطغيه الأشر.
لا أقول هذا تحقيرا للإنسان، فكم في الناس من بر كريم وآس رحيم، والإنسان للخير خلق، وللبر هيئ، وللسمو إلى أعلى درجات الخير أهل. ولكن لا ريب أن في البشر ذئابا يعملون ظفرا ونابا، وأن على الجماعة أن تطب لهذا الداء وتلتمس له الدواء.
الأحد 2 جمادى الثانية/11 مارس
الإنسانية في تقدم مستمر
خلق الإنسان مريدا فعالا، شاعرا بالكمال، طامحا إليه، عاملا له. وحضارة الإنسان، في اختلاف حالاتها، وتفاوت درجاتها، شاهدة بإرادة الإنسان وشعوره بالكمال، وتشوقه إلى التكمل وجده في بلوغه.
تجد الإنسان يخترع الشيء الضروري طالبا أولى درجاته، ثم يطلب بعد كل درجة ما بعدها، ثم يطلب الأمر الحاجي أولى درجاته، يرتقي فيه درجة بعد أخرى، ثم يطلب الكمالي ويرتقي فيها درجات، فإذا بلغ عليا درجاته طمح إلى غيره من الكماليات ... دواليك إلى غير نهاية.
أضرب مثلا مراكب الإنسان: استأنس حيوانا فركبه فلما ذل له طلب الرفاهية بالسروج والأكف، ثم افتن في زينتها، وعلم الحمير والخيل والإبل فنونا من السير وأساهيج من الجري. واخترع المركب في البحر وقنع أول الأمر بالرمث ثم طمح إلى الشراع فالبخار، وانتهى في صناعة السفن وتسييرها إلى ما نرى اليوم. وكذلك قل في القطر والطائرات، وقس أول قطار اخترع، وأول طائرة صنعت بما تبصر اليوم.
يخترع الإنسان جنس الشيء ثم يرقيه أنواعا وضروبا فإذا بلغ نهايته طمح إلى جنس آخر وتفنن في أنواعه وضروبه ... وهكذا، في كل جنس ضرورياته وحاجياته وكمالياته.
هذا في الحق فرق ما بين الإنسان والبهائم والطير؛ البهيمة والطائر تهديان إلى ضرورات العيش وحاجاته بل كمالاته أحيانا. ولكن ما يخترعه الحيوان الأعجم يبقى أبد الدهر على حاله، فعش الحدأة اليوم هو فيما أحسب كعشها قبل آلاف السنين.
الإنسانية ابتكار فإتقان فإحسان، فابتكار فإتقان فإحسان، لا وقوف ولا غاية، فإن عجزت أمة عن هذه أو ونت فيها كان نقص الإنسانية فيها على قدر عجزها أو وناها. فليعرف الإنسان سيره على هذه الأرض وسبيله في هذه الحياة.
الإثنين 3 جمادى الثانية/12 مارس
الذئب الذي لا تخشاه الغنم
كنت في حفل يجمع رجالا ونساء، ومعي صاحب فكه، يكثر الحديث والضحك، ويتكلم في كل ما يرى جدا وهزلا ، ورشدا وغيا.
ورأى شيخا من الحضور تحف به نساء جميلات، قال: كيف ترى ألا تغبطه وترجو أن تكون مكانه؟ قلت ضاحكا: أمنه الغانيات فاقتربن، ويل للذئب الذي لا تخشاه الغنم! ضحكنا ومضينا في شجون الأحاديث، ثم عاودت التفكير في الذئب الذي لا تخشاه الغنم، فتوالت علي أفكار وتتابعت معان.
قلت: كل ما من شأنه أن يخشى، يضعف كيانه، ويتغير جوهره حين تزول خشيته، ولا تخاف سطوته. السلطان الذي لا يخشاه المفسدون، والشرطي الذي لا يهابه المجرمون، والرئيس الذي لا يرهبه في الحق المرءوسون، أولئك كالذئب لا تخشاه الغنم، ليس فيهم سلطان ولا سطوة ولا رياسة. وفي المثل العامي «الثعبان الذي لا ينهش خير منه الحبل.» قلت: وكذلك يقال في الرجاء، كل من يرجى لجلب نفع أو دفع ضر، يضعف كيانه بل يتغير جوهره، إن لم يكن موضع الرجاء، وأهل التأميل.
ويسير أن يوسع القول ويطرد القياس في كل الخليقة؛ حيوانها ونباتها وجمادها. كل ما حالت صفته التي تجلى فيها وعرف بها، هو عن كيانه حائل وعن جوهره زائل. الحديد اللين والحجر الرخو والنخل غير المثمر، والعضاء غير الشائك، والبقرة التي لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، ولا تدر اللبن، والإنسان الذي لا يرجى ولا يخشى.
الثلاثاء 4 جمادى الثانية/13 مارس
الحرية المكذوبة
كذب الحرية يتبين في فريقين من مدعيها أو أدعيائها: فريق يعذر لضعف إرادته ووهن عزيمته، وعجزه عن تصريف نفسه فيما تأتي وما تذر، وما يحسن وما يقبح، فيسيب نفسه في مآربها، ويسيمها في أهوائها، زاعما أنها الحرية تمد له في شهواته، وترخي له الطول في نزغاته، ويقول: لماذا أعبد نفسي وهي حرة، وأقيدها وهي طليقة؟ وتلكم العبودية في أقبح صورها.
وفريق آخر يأخذ عليه عقله، ويملك عليه إرادته، إكبار أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات أو واحد من الوحدان، فيقلده ويتملقه، ويسلك سبيله في أموره كلها أو بعضها. وهو في هذا يخالف سنته في أمته، أو يخرج على أدب في جماعته، أو ينتهك حرمة في شريعته، ويرفع صوته بادعاء الحرية، والخروج على السنن العتيقة، والسير مع الزمان، ومتابعة الحدثان. ولا تعوزه حجج يسوقها، وأدلة يزوقها. فإن تأملت في أمره، وكشفت دعواه عن حقيقته، وفضحت ظاهره عن باطنه، علمته أسيرا مقيدا، وذليلا مستعبدا، يتبع جماعة لا يملك خلافها، ويساير سادة لا يستطيع التخلف عنهم، وأنه لم يقطع قيده في أمته ليتحرر ولم يحد عن سنن عتيقة برأيه واختياره.
تبصر في كثير من مدعي الحرية وتعرف أحوالهم تجدهم مقلدين تابعين، وأسارى مقيدين تبعوا أوامر المسيطرين وآثروا قيود الغالبين. وآية هذا أنهم لا يخالفون أمتهم في أمر إلا وافقوا غيرها فيما يخالفه، ولا يتحللون من أدب أو عادة في بلادهم إلا آخذين غيره من بلاد أخرى.
إن الحرية أن تملك عقلك ورأيك وخيرتك فتقبل وترد، وتستحسن وتستقبح، وإنما يفعل هذا الأحرار حقا، لا من أرهقوا رقا، وأين أين الأحرار؟
الأربعاء 5 جمادى الثانية/14 مارس
يوم المغرب في باكستان
اجتمع الناس هنا في يوم سموه يوم المغرب؛ اجتمعوا انتصارا لأهل المغرب تونس والجزائر ومراكش، وتأييدا لهؤلاء المنكوبين ومواساة لهم في شكواهم، وجهادهم لدفع البغاة، وإجلاء المسيطرين عن بلادهم.
اجتمع الناس فاستمعوا إلى خطباء عرب وغير عرب، جمعهم الإسلام بأقوى من عصية الأقوام، فأبانوا عن آراء متوافقة، وعواطف متشابهة، وبينوا كيف ابتلي المسلمون أهل المغرب بدولة غاشمة يهتف بالحرية لسانها ويكفر بها قلبها، وتدعي أنها أول من دعا إليها، ويشهد الناس أنها اليوم أول منكر لها، ولن تكون إلا آخر المعترفين بها، ولن يكون اعترافها إلا إكراها، ولن يكون إيمانها إلا نفاقا.
إن دول العالم جميعها قد قبلت راضية أو كارهة أن تجلو عن كل أرض لها حضارة وفيها ناس يطلبون الحرية، ويعملون لها ويجاهدون في سبيلها، حتى الإنجليز خرجوا من الهند وتركوا أمورها بأيدي أهلها. ولكن فرنسا التي تفخر بأنها أول من حرر الإنسان - وإن كذبها الزمان - لا تدخل فيما دخل فيه الناس، ولا تسلم لأمة بحقها ما دامت قادرة عليها، ولا تؤمن بأن لأهل المغرب - هؤلاء المسلمين العرب - كرامة، وأن لهم حقا أن يطمحوا إلى مساواة الفرنج، ويقولوا: بلادنا وحقوقنا وحريتنا وسيادتنا.
إن الفرنج دعوا إلى الحرية والإخاء والمساواة في بلادهم، وجعلوها شعار ثورتهم. وما فكروا في العرب وأشباه العرب حين هتفوا بالحرية والإخاء والمساواة. إنهم يقولون في أنفسهم مقالة اليهود من قبلهم: ليس علينا في الأميين سبيل. فليقولوها حتى توقظهم الحادثات وحتى يذكرهم العرب أنهم أمة دار عليها الزمان، ولكن لم يمح إيمانها، ولم يذهب عزمها، ولا ذهب بعزتها ولا نقص من كرامتها.
الخميس 6 جمادى الثانية/15 مارس
الكلام المأثور
لحكماء الأمم، وأئمتها وقادتها كلام مأثور ترثه الأجيال وتتداوله الأعصار، وهو في عيونها نور، وفي قلوبها نار، وفي عزائمها قوة، وفي أخلاقها فتوة.
ولن تخلد الكلمة على الأجيال إلا إن اتصلت بالحق والخير، وكان لها من قوانين الله في خلقه سند، ومن إلهامه لعباده مدد. ورب كلمة بارقة يرمي بها سلطان مسلط أو صنم مشهور، فتدوي حينا وتتألق زمانا ثم تصمت وتنطفئ وتكون كالشهاب يحور رمادا بعد التهاب؛ بما كان دويها من صوت الباطل لا الحق، وائتلاقها من زخرف الكذب لا الصدق.
ولا ينطق بكلمة الحق الخالدة إلا عقل مدرك، وقلب سليم، إلا قائل يعتد بنفسه ويثق برأيه، فيرسل الكلام أمثالا سائرة، وبينات في الحياة باقية. لا يصف وقتا محدودا ولا أمرا موقوتا ولا إنسانا فردا ولا حدثا واحدا؛ ولكنه يعم الأجيال والأعصار، والبلدان والأقطار.
وعلى قدر عظم القائل تجد هذا العموم في قوله، يبغي أن يجعل كلماته للناس منهاجا، وفي ظلمات الحياة سراجا وهاجا. تجد هذا الضرب في كلام قادة الأمم، وتجده في كلام كبار الشعراء أمثال المتنبي، وفي كلام الكتاب أمثال الجاحظ وبديع الزمان وأبي حيان. ويبلغ هذا الضرب من الكلام الذروة، وينال نهاية الروعة في كلام محمد رسول الله؛ إذ كان للأمم معلما، وبسنن الله عالما، وعن الوحي ناطقا، وهذا معنى قوله: «أتيت جوامع الكلم،
صلى الله عليه وسلم .»
الجمعة 7 جمادى الثانية/16 مارس
ما أصعب البناء وما أيسر الهدم!
في الناس بناءون، وفي الناس هدامون. فيهم من يبنون أبنية حسية من الدور والقصور والمساجد والقناطر والسدود ... وغيرها، ومنهم من يبنون أمة أو جيلا أو جماعة، أو يبنون دينا أو سنة في الخير أو خلقا أو مكرمة أو مأثرة. وفيهم من يبني علما أو أدبا، وهلم جرا. هؤلاء ينامون في الآفاق والأنفس.
وفي الناس من يخربون ما بنى الإنسان من مدن، وما شادوا من قناطر وسدود. ومنهم يهدمون أمة أو جماعة بتفريق الكلمة بينها، وبث العداوة فيها، أو توهين أخلاقها أو تحريف سننها. ومنهم من يزلزل دينا أو يطفئ نوره بما يبث في النفوس من شبه وما يضل به من تأويل، ويبطل به الأحكام من حيل. ومنهم من يأتي إلى ما اهتدى البشر إليه بالوجدان والعقل والتجربة، من أخلاق وآداب تمسكهم عن الهوي، وتعصمهم من التهافت فيلقاها بالسخرية والتشكيك، ويقابلها بالمطامع والشهوات ليحل في النفوس عقدتها، ويفصم في الأعمال عروتها.
وعسير أن يبني الإنسان في الأنفس والآفاق، ويشيد ما يبقى على الأعصار ويربط على الجماعة وعلى النفس برباط من الخلق الحميد والسنة القويمة. وكذلك شأن البناء في العلوم والآداب وما إليها.
ويسير أن يعمد مضلل مفسد وغوي مخرب إلى ما شاد الإنسان، فيعمل فيه معولا من الحديد، أو معولا من الأباطيل، أو معولا من الرفاهية والترف والركون إلى الشهوات والاستسلام للحادثات.
شتان من يحمل النفس على مكروهها لتسمو وتحلق، ومن يزين لها شهواتها فتهبط وتخلد إلى الأرض.
ما أشق الصعود وما أسهل الانحدار، وما أصعب البناء وما أيسر الهدم!
السبت 8 جمادى الثانية/17 مارس
بستاني يقطف زهرا
رأيت في حديقة السفارة بستانيها يقطف زهورا يؤلف بينها وينظمها باقات يزين بها الحجرات.
فخطر في نفسي خاطر هو شهرة اليوم، وطرفة العصر، أن هذا البستاني يتعب في جمع الزهر وتنضيده لغيره فلا يستمتع هو بعمل يده.
ثم فكرت فقلت: إنه في الحديقة رب الحديقة؛ إنه يستمتع بها أغصانا مائسة، وزهورا حية، وثغورا ضاحكة، بينما يستمتع غيره بزهور على غير أغصان، تذبل فيها المعاني والألوان. إنه يستمتع بها عملا وأملا، يغرس ويرجو نمو غرسه ، وينع زهره، ويفرح كلما رأى عمل يده قد انقلب أغصانا وأزهارا، وحياة وجمالا، فهو كل حين في أمل باسم وعمل ناضر.
إن هذا البستاني سعيد ما وجد قوته في عمله، وما شعر بقيمة سعيه، وما أدركت نفسه جمال الأشجار والأزهار، وترقرق الماء، وصفاء الهواء.
وكذلك كل زارع وصانع، الزارع سعيد بثمرات زرعه، وسعيد بعمله وأمله بين الحرث والبذر والسقي والتعهد والحصاد، سعيد ما أخذ نصيبه من كده، واستيقظت نفسه لعمله، فعرف أنه خير وجمال وعبادة لا تنقطع. ولا يدرك من أكل خبزه من السوق باللذة التي يجدها الزارع في صحبة زرعه من الحبة في الثرى إلى اللقمة في فمه.
وكم يلذ الصانع مهارة يده، ويطرب لإتقان صنعه، ويجد سعادة في تقليب المصنوع في يده حتى يبلغ كماله ويستوفي جماله.
إن كل هؤلاء سعيد، ما وفر له القوت، ولقي جزاء عمله، وقدر الناس ثمرات كده، وقدر هو ما يعمل لنفسه وللناس.
إنهم كالعلماء والأدباء في كد دائم، وجهد مستمر، ولذة لا تنقطع، ومتعة لا تفتر.
الأحد 9 جمادى الثانية/18 مارس
الروح والجسم
رأى الناس منذ عقلوا هذا الكون وفكروا فيه وتأملوا أشياء محسة تدركها الحواس، ينالها اللمس أو السمع أو البصر. ورأوا أشياء أخرى يدركها الفكر ولا تنالها اليد ولا تدركها الحواس الأخرى.
رأوا جسم الإنسان محسا محدودا موزونا، وأدركوا مع الجسم شيئا يدبره ويصرفه، له عقل وفكر وإرادة ولا تناله الحواس؛ وهو الروح.
ثم اختلفوا مذاهبهم في الروح وصلتها بالجسم، وورثت الأجيال هذا الاختلاف.
فمن الناس في القديم والحديث من أنكر الروح، وعجز عن إدراك شيء لا يعده ولا يزنه ولا يدركه بحاسة من حواسه. ومنهم من قال: إن الروح والجسم مفهومان للمادة لا ينفصلان. وهذا الرأي الذي نشأ منه مذهب وحدة الوجود في عرف الفلاسفة القدماء، غير وحدة الوجود في رأي الفلاسفة المسلمين والصوفية.
وطغت المادة على كل شيء في أوائل عصرنا حين ثار الناس على الدين، وعلى كل ما ليس طعاما وشرابا ولذة وأمرا تناله العيون والأيدي. ثم ساروا في إعظام المادة والتأمل فيها والبحث في خصائصها ثم البحث في كنهها، فانتهى بهم البحث إلى أن المادة تنطوي على حركة، وتنتهي إلى قوة ... إلى آخر ما قال علماء المادة، وإلى أن الذرة تنطوي على شمس كما قال بعض الصوفية قبلا.
ومعنى هذا الذي انتهوا إليه، أو بلغوه في بحثهم وعسى أن يجاوزوه، أن العالم كله روح لا مادة فيه. إن وحدة الوجود تفسر اليوم بأن العالم روح في حقيقته لا مادة كما حسب الباحثون من قبل.
فقد انتهت التجارب الحسية إلى ما أدركه البشر من قبل بالوجدان والإلهام إلى ما قاله الأنبياء والصوفية وكثير من الفلاسفة، أن الروح حق لا ريب فيها. فمن شاء فليشك في غيرها، في المادة التي وقفت عندها نفوس هي في ضيقها وعجزها كالحواس التي لا تدرك إلا المحسوسات.
صدق الله العظيم
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .
الإثنين 10 جمادى الثانية/19 مارس
حرمة العلم والمعلم
العلم في الإسلام عبادة، مدارسه مساجد ومعلموه أئمة. اقترنت حرمة العلم بحرمة الدين، وقداسة المدرسة بقداسة المسجد، ومكانة المعلم بمكانة الإمام.
كنا نسمع في طفولتنا صبية الكتاتيب ينشدون: سيدنا غفر الله له، أبواب الجنة مفتوحة له. ويدعون للوالدين والمعلم، حتى «العصاية التي ضربتني، والفلقة التي مدتني.»
في ديننا وسننا تعظيم العلم والمعلم، وتوكيد الحرمة بين التلميذ والأستاذ، وتوثيق المودة بينهما. كان التلميذ يصحب معلمه ويجلس في داره وفي مسجده يأخذ عنه علمه وطريقته وأدبه وخلقه؛ فإذا الأستاذ ممثل في تلميذه، والإمام مصور في المؤتمين به. فإن نبغ في الأمة أستاذ في فن خرج تلاميذ قليلين نابغين في فنه، هم أجدى على الأمة من أعداد ليس فيها نابغ، وإبل مائة لا تجد فيها راحلة.
10
واليوم لا تجد بين أستاذ وتلميذه صلة روح، وآصرة محبة، وحرمة تعليم، إن هي إلا أبنية وحجرات، ودروس مرتبة على أوقات، ثم الامتحان والشهادة كما جرت العادة، وتنقطع الصلة، وتنسى الصحبة . وقل أن يذكر تلميذ أستاذه، أو يعرف أستاذ تلميذه وإن كان ذكر أو معرفة فقل أن تصحبها مودة أو تقترن بها محبة، أو يدوم بها تعاون على المعرفة، وتناصر على الحق. ونحن في فرح بالأبنية المشيدة، والجموع المعددة وفي غفلة عن الحرمة المفقودة، والمودة المفتقدة والروح والقلب وما فيها من صلة وحب، وعن تنشئة الأخلاق القويمة والآداب الكريمة.
الثلاثاء 11 جمادى الثانية/20 مارس
صيد السمك
مررت في مسيري عشية اليوم على ساحل البحر بصيادين يخرجون من شباكهم سمكا، فرحين نشطين، فقلت: فرح الصيادين من ترح السمك. وفتحت أبواب في هذه المعنى، وفكرت فيما أفكر فيه كثيرا من قتل الناس الحيوان في البر والبحر والهواء، وافتنانهم في صيده وقتله والاغتذاء به. وطاولني هذا الفكر حتى رأيت سربا من الطير على الشاطئ رآني فطار فأسف على وجه الماء، قلت لصاحبي: إنها تلتمس سمكا تخطفه فما أحسب هذه الطير تغتذي إلا بحيوان البحر. وقلت: إن الإنسان الذي يصيد السمك لا يزيد على ما تفعله هذه الطير وغيرها من السباع والجوارح، فخطر لي أن هذه الطير والسباع لا بد لها من أكل الحيوان؛ إذ كانت لا تأكل النبات، وللإنسان مندوحة عن أكل الحيوان بأكل الحب والثمر وسائر ما أنبتت الأرض، فعاد فكري يقول: إن كان في الخلقة سباع وجوارح تعيش على لحم الأحياء فليس الإنسان متعديا حدود الله، وحائدا عن سنته إن اصطاد الحيوان واغتذى به.
وبدا لي أن العالم بجملته آكل ومأكول، وذكرت فصلا من «المثنوي» ترجمته ونشرته في كتابي «فصول من المثنوي» بين فيه جلال الدين أكل الحيوان الحيوان، بل أكل النبات النبات، بل أكل الأفكار الأفكار.
وذكرت المجادلة الطويلة بين داعي الدعاة الفاطمي وأبي العلاء المعري حين أنشأ المعري قصيدته التي مطلعها:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتخبر أنباء الأمور الصحائح
فأجأبه داعي الدعاة الفاطمي، وكانت بينهما مراسلة أثبت خلاصتها صاحب «معجم الأدباء» في ترجمة المعري.
وأشفقت من التمادي في هذا التفكير ففررت من هذا العناء إلى الاستمتاع بالماء والهواء.
الأربعاء 12 جمادى الثانية/21 مارس
الصحة والجرائم
أرى بين الأخلاق والصحة صلة وثيقة؛ أعني صحة الجسم وصحة العقل. فالعقل الصحيح ينفر من اقتراف الآثام، وينزع إلى التزام الشرائع، والوقوف عند الحدود، وصحة الجسم موصولة بصحة العقل. وقد قيل: العقل السليم في الجسم السليم.
وللعقل علل وللجسم علل، وبعض علل العقل أقرب إلى الرزائل تزينها أو تهونها، وبعض علل الجسم كذلك ينزع إلى الخروج على الشريعة والنكوب عن الصراط، والحيد عن الجادة.
وينبغي أن يتعاون الأطباء وعلماء النفس، على تتبع العلل كلها الجسمانية والنفسية، الظاهر منها والباطن، والتماس الدواء لها، والجد في إبرائها.
وعسى أن يكون اهتمام الحكومات والأمم باستقصاء العلل عامة، والعلل المتصلة بالإجرام خاصة، أجدى من كثير من الوسائل التي يتوسل بها إلى منع الجرائم. وإن توسعنا في معنى العلة، فانتقلنا إلى علل الجماعة، العلل التي تنشأ من الجور؛ جور الحكومات أو جور القوانين أو جور العادات أو جور الآحاد، إن نظرنا إلى هذه العلل فهي منبت الجرائم، ومصدر الآفات، وهي ليست بعيدة من العلل الأولى؛ علل الجسم وعلل النفس التي تصيب الوحدان من الأمة.
إن بعض أحوال الجماعة تؤدي إلى ارتكاب الجرائم، واستحلال المآثم لا محالة، وضائع في هذه الأحوال جهد الشرطة والقضاة والمشرعين. فليعرف القوام على الأمم عللها ويلتمسوا أدويتها ليبرئوها من أدوائها التي تتمثل في ضروب من المفاسد وشكول من الجرائم.
الخميس 13 جمادى الثانية/22 مارس
كلب الشرطة
في الحيوان الأعجم غرائز وقوى خفية يدرك بها ما لا يدرك الإنسان، بل ما لا يصدقه الناس لبعده عن قدرتهم، وغرابته عن الفهم، كالحمام الذي يؤخذ من داره في قفص، ويسافر به مسافة شاسعة، وهو محجوب لا يرى الطريق، فإذا أطلق عاد إلى داره على بعد الشقة لا يضل ولا يكل.
وكالنحلة تخرج من خليتها، وللخلية نظائر ومشابه، وتنطلق أميالا كثيرة ثم تعود إلى دارها من مدينة آهلة وإلى خليتها من خلايا كثيرة. وقد قيل: إن بين كل نحلة وخليتها موجة من الكهرباء متميزة تصل النحلة ببيتها وتهديها إليه حيثما طارت وأينما سقطت.
وكذلك ضروب من الحيوان يحار الإنسان في خلائقها، ويتعجب من غرائزها. وهذا كلب الشرطة فيه من رهافة الحس، وحدة الشم وقوة الإدراك ما تسمع منها وتقرأ العجب العاجب. ولولا أنه أمر مشهور، يراه كثير من الناس، ويستطيع أن يشهده كل إنسان، ما صدقه السامع، ولا قبله الناقد.
يؤتى بجمع من المتهمين بجريمة، ويؤتى بأثر خلفه المجرم حين اجترح سيئته، ويشم الكلب هذا الأثر، وقد بعد من صاحبه، وطال بعده عنه، ثم يعرض عليه أهل الريبة فيمر بهم يشمهم واحدا بعد واحد وقد تقاربت أجسامهم، واختلطت روائحهم وتشابهت، فيميز صاحب الأثر الذي شمه ويخرجه من بين أشباهه، ويكرر هذا ويصر عليه إصرارا يلجئ الجاني إلى الاعتراف.
ولو شم هذا الأثر وصاحبه ألف إنسان ما اهتدى واحد بالريح إلى صلة الأثر بصاحبه. ومعنى هذا أن لكل واحد منا ريحا تفعم الجو ولكن لا نشمها، وقل مثل هذا في حدة البصر والسمع في بعض البهائم، وقل في اهتداء الطير والبهائم إلى مواطنها بالإلهام، تعلم أن وراء حواسنا حواس، وفوق إلهامنا إلهاما، وأن أمر العالم ليس في حدود حسنا، وقيود عقولنا، وأحكام أوهامنا.
الجمعة 14 جمادى الثانية/23 مارس
القرابة والتنافس
القرابة داعية التناظر، والتناظر داعية التنافس. القرابة في النسب أو الدار أو البلد تؤدي إلى أن ينظر كل إنسان إلى نفسه وإلى من يقاربه فيكون التناظر بينهما، فالتنافس والتفاخر.
تجد هذا بين أبناء العم في الأسرة، وبين الأسر في القرية، وبين القريتين المتجاورتين، وبين الولايتين في دولة واحدة ... وهكذا.
وكذلك كان بين العرب والعجم لما جمعهما من جوار ومشاركة في أخوة الإسلام وحضارته. وكذلك نجده بين قبيلتين من العرب، وبين مدينتين من العجم حتى يومنا هذا.
كذلك نرى التنافس والتفاخر وشيئا من التهاجي بين أهل صعيد مصر وأهل مصر السفلى، وبين أهل حمص وحماة في بلاد الشام، وبين الإنجليز والأسكوت في جزيرة برطانية.
هذا التنافس والتفاخر والتهاجي ينبغي ألا يخلط بالتباغض والتعادي، وينبغي ألا يؤول به. ينبغي الحذر من أن ينقلب التنافس الذي تبعثه القرابة عداوة وبغضاء، كما ينبغي الاحتراس من أن يفسر بالعداوة ما أثر من تنافس وتفاخر ومهاجاة بين قبيلتين من أمة أو أمتين متجاورتين أو متشاركتين في جامعة من الدين مثلا، وإن أدى هذا التناظر والتنافس إلى العداوة والحرب أحيانا.
على المؤرخ أن يحذر مواضع الذلل فيما يؤثر من هذا التنافس. وعلى أهل كل عصر أن يتجنبوا التعادي في التنافس، ويذكروا القرابة التي أدت إليه قبل أن يروا المنافرة التي تنشأ منه، وعليهم أن يجعلوه تنافسا في الخير، ويغلبوا جانب الفكاهة فيما يؤثر في هذا التنافس من تفاخر أو مهاجاة، فهما كذلك حين ينعم النظر، ويحد البصر.
السبت 15 جمادى الثانية/24 مارس
بلبل وغربان
رأيت اليوم طويرا، حسبته بلبلا، يحسو من ماء في الحديقة. حسا حسوات وطار فرأيت في جناحيه ريشات بيضاء، ووقع على سلك للكهرباء، ومسح منقاره بالسلك سريعا وصفر قليلا فصمت، ولبثت أرقبه آملا أن يعود إلى صفيره.
وجاء غراب فوقع على السلك قريبا منه وتلاه غراب فغراب، فنفر الطوير إلى شجرة قريبة فاختفى ولم أسمع له ركزا. ولم يفارق أذني نعيب الغربان، وما أكثرها هنا! وقلما يصمت نعيبها، وإني لأسمعها وأنا أخط هذه الكلمات.
قلت: سبحان الله، بلبل واحد وأغربة كثيرة، وتغريد لمحة ونعيب متواصل، وذكرت قول المعري: إن الخير قليل والشر كثير، والشوك ينبت وحده، ولا ينبت الشجر المثمر والزرع المغل إلا بمعاناة.
ثم قلت: هذا قول يسوغ في الشعر للتمثيل ولا يقبله عقل مفكر، نحن نقول: إن الشوك شر، والثمر خير، ونحن نتشاءم بالغراب، ونطرب للبلبل، ونستقل ما نحتاج إليه ونستكثر ما لا نرغب فيه، هذا زعمنا ووهمنا لا خلق الله.
ثم خطر لي أننا إذا تركنا التشاؤم والتفاؤل والرغبة والنفور حينا وتأملنا، وجدنا الجيد أقل من الرديء، ووجدنا العقلاء أقل من الحمقى، والعلماء أقل من الجهلاء، والفاره في كل حيوان أقل من غيره، وأن الكمال في العالم لا يكون إلا قليلا. ومضيت في التفكير فقلت: حق أن الغربان أكثر من العنادل، وعظماء الرجل آحاد، والكثرة في السواد، وقديما قيل:
بغاث الطير أكثرها فراخا
وأم الصقر مقلات نزور
وقلت: إن الكمال في جنس أو نوع أو واحد أطول مقدمات، وأصعب شروطا في الطبيعة أو الصنعة، فليس عجيبا أن يقل الكامل ويندر الفائق. وذكرت قول الشاعر الصوفي سنائي: إن قرونا تمضي ليصير حجر جوهرا، ويظفر العالم بإنسان عظيم. وقلت: هذا حق، ولعل كثرة الأغربة، وقلة العنادل على هذا القياس.
وبدا لي كذلك أن الندرة من أسباب التقويم، والكثرة تؤدي إلى الرخص، فينبغي أن يعتبر هذا أيضا في هذه القضية التي نفكر فيها.
الأحد 16 جمادى الثانية/25 مارس
معان خفية
يقول محمد إقبال:
دل ياران زنواهاي پريشانم سوخت
من ازان نغمة طپبدم كه سرودن نثوان
نغماتي الضعاف أحرقن صحبي
حرقتي نغمة أبت أن تحاكا
ويقول سنائي:
باز كشتم زانكه كفتم زانكه نيست
ذر سخن معنى ودر معنى سخن
رجعت عما قلت إذ لم أجد في اللفظ معنى، ولا للمعنى لفظا.
وكذلك يقول شعراء آخرون، وصوفية وحكماء، معربين عن عجز العبارة أحيانا عن الإبانة عما في الضمير كاملا، وقصور الألفاظ عن تصوير ما في النفس بينا. ولعل الألفاظ قاصرة كل حين عن الدلالة على ما يشعر به المتكلم؛ إن لم يكن السامع في مثل حاله، إن لم يكن يشعر شعوره بغير دلالة الألفاظ. إن الإحساس يختلف والحال واحدة فكيف إحساس المريض والصحيح، والشجي والخلي، والمحتاج والغني؟ كما قال أبو الطيب:
لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
ولكن نتجاوز هذه الدقائق في اختلاف الدلالة، على الشعور المعتاد، والإحساس المألوف، ونتأمل في شكوى كبار الشعراء والصوفية من عجزهم عن الإبانة، واستعصاء المعاني التي يشعرون بها على الألفاظ المتداولة، المعاني النابعة من القلب، والمتنزلة من عالم الغيب.
إن نبعا خفيا في النفوس الصافية ولحنا خفيا في القلوب الشاعرة، وشعاعا خافقا في أعماق الضمائر، يلهمه الإنسان من منبع الإلهام، فيحاول الإبانة عنه فعجزه، ولا سبيل إلى نقله إلى النفوس الأخرى إلا بأن يثير فيها هذا الإلهام حتى تشعر هذا الشعور الذي قصرت عن بيانه الألفاظ. إن ما نعلمه بالألفاظ ضئيل في جانب ما نلهمه ويوحى إلينا، وتمدنا به الفطرة، ويفيض به الوجدان، وإن هذا كذلك مما يعجز عنه البيان.
الإثنين 17 جمادى الثانية/26 مارس
بين البر والبحر
خطرت خاطرات شتى، وأنا أسير على الشاطئ أداول النظر بين البر والبحر، أرى البحر الزاخر، والبر الصامت، والماء المائج، والرمل الساكن، واللج المخيف، والساحل الأليف.
وجال الفكر فيما تحت الأمواج، من أغوار ونجاد، ونبات وحيوان، ووحوش وحيتان، وما لا يدركه الخيال من أحياء الماء وعجائبها، ومعروفها ومجهولها. وجال الفكر في حيوان البر؛ ناسه وبهائمه، وآنسه ووحشيه. قلت: في البحر الخليقة المائجة المجهولة الرهيبة، وفي البر الخليقة الساكنة التي ذللها الإنسان، وبلغ منها كل مكان. كلا كلا! قد ذلل الإنسان البحار، ركب أثباجها وقهر أمواجها، واستخرج حبها ومواتها، وغاص في أغوارها وأعماقها، ما أعجب هذا الإنسان وما أقدره، وما أعظمه!
وذكرت حينئذ قصيدة فكتور هوكو «ما يسمع على الجبل»
11
التي يقول فيها عن الصوتين اللذين سمعهما من البحر والبر: «أحدهما يأتي من البحر غناء المجد، ونشيد السعادة؛ ذلك صوت الأمواج التي تتناجى. والآخر يأتي من الأرض التي نعيش عليها، صوت حزين، هو همهمة الإنسان في هذه الموسيقى العازفة ليل نهار، لكل لجة زخيرها، ولكل إنسان ضوضاؤه.»
قلت: إن يكن صوت الإنسان على الأرض حزينا، فليسعد بهذا النشيد الطروب المنبعث من البحر، من هذه الخليقة غير المحدودة. ليجهد الإنسان أن يجد نفسه كلما أسنت، ويصلحها كلما فسدت، بالاستماع إلى أناشيد الخليقة، واستلهام عظمتها وسعتها وحريتها، وجلالها وجمالها وطربها وفرحها.
إن الإنسان في حضارته، بين جدره وسقوفه، وحدوده وقيوده، واحترابه واضطغانه، وفي حكم القوانين الجائرة، والنظم الفاسدة، لفي حاجة إلى أن يرجع إلى الطبيعة كل حين، يأخذ منها لجسمه وعقله وقلبه، ويستمد منها العافية والصحة والغبطة ونضارة الأمل، وحرقة العمل.
أيها البحر: إن في لجك الزاخر، وموجك الشاعر، واضطرابك الدائب، وقلقك الصاخب، لآيات الحياة، وأمارات القوة والإقدام. فليرجع الإنسان إليك كلما رانت على قلبه، وغامت على عقله علل الحضارة ومفاسدها.
الثلاثاء 18 جمادى الثانية/27 مارس
أسد في قفص
رأيت أسدا في حديقة حيوان، قائما متبرما، أو هاجعا مستسلما، ينظر ويغضي ويمشي ما وسع محبسه ويقف. والنظارة على مقربة منه لا توجل، وتسير إليه لا تفرق، وفي حديث عنه بين العجب والسخرية.
ليس هذا غضنفرا، ولا أحسبه هزبرا، ولا هو الليث ولا أسامة، ولا الرئبال ولا الضرغامة.
هذه صورة أسد في محبس، تردد فيها حركة ونفس. إن الأسد قوة تصول، وهيبة تهول ومتن مجدول، ولبدة كأنها غيل، وعينان تبصان في الظلام، وترميان من الشرر بسهام، وعدو ووثوب، لا ينالهما فتور ولا لغوب، وزئير في الأرجاء، يزلزل أجواز الفضاء، ورعب يجول ويصول، وإقدام لا يحجم ولا يحول، وإنه قهر الآفاق، وفرس الأعناق.
إنما الأسد أبو الأشبال، طليقا بين السهول والأغيال، متوثبا للفرس والصيال. هناك حقيقته، وهنا صورته، هناك عزته وهنا ذلته، هناك حياته وهنا موته.
إن كل معنى في الأسد قد امحى في الإسار، وكل حرف فيه قد حرف في المحبس، فليس هذا أسدا ولكنه مسخ، وليست هذه حقيقة الأسد ولكنها نسخ.
كذلكم كل من يحول عن حقائقه، ويزول عن خلائقه، يستوي في هذا الإنسان والحيوان.
الإنسان الذي لا يسمو إلى مكارم الإنسانية ومآثرها، ولا يدين بأخلاقها وعواطفها، ليس إنسانا، وإن حمل صورة إنسان. والذي لا يصلح ولا يعدل، ولا يرحم ولا يشفق، ولا يعين على الخير ولا يعاون على البر، يهبط من مستوى الإنسانية إلى درك البهمية أو إلى مستوى دونه. وفي القرآن الكريم:
أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون .
الأربعاء 19 جمادى الثانية/28 مارس
تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد
يقول أبو العلاء المعري في أول قصيدة من اللزوميات:
تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد
فأعدى وما أعدتني الثؤباء
والتثاؤب يعدي، وقد ضرب بعدواه المثل فقيل: أعدى من الثؤباء. وهو من التراخي والكسل، وقد كرهه المسلمون، ونهوا عنه في الصلاة، وما أجدر التثاؤب وما إليه من دواعي الكسل وأماراته أن يعدي، كما يعدي المرض.
إن عدوى المعالي قليلة، أن كانت تكاليفها ثقيلة، أن كانت مسيرا شاقا، ومصعدا مرهقا، وزجر النفس عما ترغب، وكبحها عما إليه تذهب، وحملها على مكروهها، وهمزها إلى مخوفها.
وإن عدوى الدنايا كثيرة، أن كانت إسامة النفس في مراتعها، وتسييبها في مرابعها، وأن يملى لها في الرغبات، ويمد لها في الملذات، وتترك للدعة، ويخلى بينها وبين الراحة. وأن كانت انحدارا لا صعودا، واستفالا لا اعتلاء.
إن النفس تميل إلى الإسفاف، وتخلد إلى الراحة، وتهوى الهين من كل أمر. ولكن في النفس، على هذا، نزوعا إلى العلاء، وشغفا بالارتقاء، وحنينا إلى المكارم، وشوقا إلى العظائم. إن فيها لجمرة يغطيها الرماد، وشرارة يقدحها الزناد، فإن وجدت نافخا في جمرها، وقادحا لشرارها، استيقظت وتحفزت، وعملت وصعدت. وكلما ذاقت لذة العمل والرقي زادت حبا له، وهياما به.
وإن تركت في غفوتها، ووكلت إلى غفلتها، ولم يشعل جمرها، ولم تقدح نارها، وإن دعيت إلى الهوى، وزين لها الإخلاد إلى الأرض بالكلمة الداعرة، والأنشودة الفاجرة، والفعل الذميم، والخلق الرجيم؛ بلغت قرارة الهاوية.
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين .
الخميس 20 جمادى الثانية/29 مارس
تاريخنا لا يخص الملوك والدول
سمعت مرات من بعض النابهين من علمائنا، وكثير من هؤلاء ليسوا من ذوي التحقيق، ولا يكلفون أنفسهم التدقيق، وهم يخدعون أنفسهم فيصدقون ما يتوهمون، كما يصدقهم الناس فيما يقولون ويكتبون. سمعتهم يقولون: إن تاريخنا - تاريخ الإسلام - ليس فيه إلا سير الملوك ووقائعهم، وإنه ليس للأمم نصيب فيه، أو نصيبها فيه قليل.
فكرت في هذه الدعوى فوجدتها بمنأى عن الحق، ووجدت أقدم مؤرخينا محمد بن جرير الطبري يسم كتابه «تاريخ الأمم والملوك»، ووجدت كتابه وكثيرا من كتب تاريخنا تسجل الحادثات في أيامها، وترتبها على أوقاتها، تسجل ما يتصل بالملوك وما يتصل بالسوقة، تكتب ما يقع في مجالس الملوك، وما يقع في الأسواق بين العامة، وما يكون من غلاء ورخاء، وما يقع من قحط ووباء، وهكذا لا تدع حدثا كبيرا إلا سجلته، ولا خبرا عجيبا إلا أثبتته، فهي صورة لمعايش الناس على اختلاف الحالات ، وتباين الصفات.
ثم كتب الطبقات والتراجم، وهي سجل حضارتنا، ومرآة تاريخنا ، لا تخص الملوك بل حظهم منها قليل أي قليل. كتب الطبقات تسجل سير جماعة من العلماء يجمعهم مذهب أو صناعة كالمحدثين والفقهاء والأطباء والأدباء والحكماء، فأين الملوك في هؤلاء؟ وكتب التراجم ك «وفيات الأعيان» تذكر الملوك وغيرهم، وما أقل الأولين في جنب الآخرين.
وتواريخ البلاد ك «تاريخ بغداد» للخطيب، و«تاريخ دمشق» لابن عساكر، و«تاريخ مصر والقاهرة» للسيوطي، تذكر كل من عاش في البلد أو طرأ عليه من العلماء والأدباء على اختلاف أصنافهم، وتباين طبقاتهم، وليس للملوك والأمراء فيها نصيب.
وقل في كتب الأدب والمحاضرة التي تثبت كل نادرة، وتذكر الخاصة والعامة، والملوك والسوقة.
فكيف ادعى إخواننا هذه الدعوى، وكيف غفلوا عن هذه الحقائق.
الجمعة 21 جمادى الثانية/30 مارس
علم الغيب
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ... الآية.
لست من المولعين بعلم الكلام، ولا من الرامين في الغيب بسهام، ومذهبي الإيمان والأمل، والعزم والعمل، والسير إلى المدى السحيق، دون تعريج على بنيات الطريق. وخطر لي اليوم خاطر فأثبته: بدا لي أن المستقبل معين، وخطر لي في الاستدلال أن زيدا في ساعة يعينها من المستقبل، يكون على حالة واحدة من حالات محتملة، فإذا جاءت الساعة تبينت هذه الحال. فقد تبين أن هذه الحال قبل حلول هذه الساعة كانت واقعة، وبرهان هذا أنها وقعت، وما وقع كان لا محالة واقعا.
بهذا يفسر إخبار الملهمين بالمستقبل، وتحديثهم عن الغيب.
وبدا لي أنه إن جاز أن ينقل هذا الدليل إلى علم الكلام، جاز أن نقول: إن الحادثات المقبلة واقعة قبل وقوعها، فالله تعالى عالم بها، وعلمه إياها قبل أن تقع لا يصلح حجة على أنه قدرها واضطر الإنسان إليها، بل علم أن هذا الواقع المعين سيقع، وربما يقع اختيارا من الإنسان واضطرارا، قصدا أو اتفاقا، فهو لم يعينه ويحتمه ويدفع الإنسان إليه، ولكن علم أنه واقع بسبب أو باتفاق كما يوقن الإنسان أحيانا أن أمرا واقع غدا أو بعد غد. وليس علمه هذا موجبا وقوعه، بل وقوعه أوجب هذا العلم.
وأشفقت من إطالة الكلام في علم الكلام، فأمسكت القلم وقلت: الله أعلم.
السبت 22 جمادى الثانية/31 مارس
كذبة أبريل
اعتاد الأوروبيون - لسبب لديهم - أن يمزحوا بالكذب أول يوم من شهر نيسان (أبريل) وقد افتنوا في هذا الكذب، وابتكروا فيه المضحك المعجب.
وجرى ناس منا على محاكاة الأوروبيين في هذا كما حاكوهم في غيره. وليت كل ما أخذنا من مساوئ أوروبا كان هينا كهذه الفكاهة! وللناس مباحات يفرحون بها ولا حرج عليهم ما عرفوا الحدود بين المباح والمحظور، والفواصل بين الهزل والجد. ولكن ناسا جاوزوا في هذا المزاح الحد، وجعلوه شرا من سيئ الجد. منهم من كثف شعوره، وغلظ إحساسه فلم يعرف مواضع الجد والهزل، وحدود المباح والمحرم. ومنهم من يتعمد الإيذاء ويقصد إلى الإساءة؛ ليداوي غيظا، ويشفي غلة، فيجد فيما اعتاد الناس في أول أبريل، سترا لمقصده، وتعلة لإساءته؛ فينتهز الفرصة عدوا كصديق، وجادا كمازح.
حدثت وأنا في الحجاز أن رجلا قال لآخر في مدينة جدة: إن أخاك فلانا مات، وكان للرجل أخ في أمريكا عزيز عليه، فخر الرجل صريعا، ينوح ويصيح. فقال المخبر الكاذب: لا تصدق، فاليوم أول أبريل.
ولو أن الرجل ضرب من أخبره أو قتله لم يكن بعيدا من مساوئ هذه العادة القبيحة، ولم يكن معتديا على هذا المازح الفظ.
الأحد 23 جمادى الثانية/أول نيسان (أبريل)
اختلاف الأحرار خير من اتفاق العبيد
كتبت مرات أني أرى الخير في هذه الحياة وفاقا أو وسيلة إلى وفاق، والشر شقاقا أو وسيلة إلى شقاق، وهذه دعوة لها بيناتها في الأنفس والآفاق، وتضيق هذه الكلمة عن بيانها. ثم بدا لي أنه ليس كل اختلاف شقاقا، وليس كل اجتماع وفاقا، فاختلاف الأخيار في آرائهم ومذهبهم، وهم مجتمعون على طلب الحق ونصرة العدل، وعلى أن لكل منهم الحق في النظر والاستدلال واعتقاد ما يؤدي إليه نظره، ويجلبه استدلاله، والعمل بما يرى أنه السداد، هذا الاختلاف وفاق لا شقاق فيه، واجتماع لا تنافر معه.
واجتماع من لا حرية لهم ولا كرامة، ولا رأي لهم ولا اختيار، على قول أو فعل، ليس اتفاقا، ولكنه موت يجمهم على السكون، وذلة تؤلف بينهم على الخضوع. إنما الوفاق وفاق أنفس حية مفكرة مخيرة، تتفق وهي قادرة على أن تختلف، وتختلف وفي مكنتها أن تأتلف.
فاختلاف المجتهدين وفاق في الحقيقة، وهو - كما قيل - رحمة لا عذاب. واتفاق المقلدين لا يقام له وزن، ولا يؤبه له؛ بما كان اتفاقا على غير رأي، وإجماعا دون دليل، واجتماعا بغير اختيار.
وقد طردت القول في هذا المجال وضربت الأمثال حتى قلت الكلمة التي جعلتها عنوان هذا المقال: اختلاف الأحرار خير من اتفاق العبيد.
الإثنين 24 جمادى الثانية/2 نيسان (أبريل)
الوعاظ وحياة الإنسان
دأب الواعظون على أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويتخذوا وسائل شتى؛ ليبلغ الوعظ من النفوس قرارتها فيدعوها إلى الخير ويصدوها عن الشر.
ومن أساليبهم في الوعظ أن ينفروا الإنسان من الحياة، مفتنين في الإبانة عن قصرها وقلتها، ومصائبها وآفاتها، وكدرها ودنسها وأنها سراب في سراب، أو جيفة طلابها الكلاب ... وهلم جرا.
يريدون بهذا أن يحقر الإنسان هذه الحياة ويزدريها فيكرهها فلا يتعلق بها، ويخلص من شهواتها، وينجو من فتنها ويصد عن رغباتها.
فالإنسان عندهم حيوان شره شرس مستكلب على الدنيا مستميت فيها، فلا تنزع الدنيا من أظافره وأسنانه إلا بأن تكون سما وكدرا ونتنا، ومتاعا حائلا، وظلا زائلا.
وأرى أن خيرا من هذا الأسلوب أن يكبروا الإنسان، ويعظموه، ويثيروا في نفسه الكرامة والإباء والكبرياء، والعلو على الدنايا، والاستنكاف من الشهوات المحرمة والمطالب الخسيسة، ويقولوا له: أكرم نفسك عن المورد الذليل، والمطلب اللئيم، ولا ترض لنفسك بغير الحق والعدل. ولو كانت هذه الدنيا ملكا لا يبلى، ونعيما لا يفنى، لم يخلق بك أن تأخذها بغير حق، وأن تعتدي في سبيلها على أحد.
هذا ونحوه أجدر بكرامة الإنسان، وأقمن أن يصلح النفوس ويبلغ بالواعظ ما يريد.
الثلاثاء 25 جمادى الثانية/3 نيسان (أبريل)
غرابة النظم
الأمة التي تضع نظمها بأيديها، متصلة بحاجاتها وتاريخها وأحوالها، تجد هذه النظم يسيرة مألوفة واضحة كأنها عادات تعودتها وألفتها وسكنت إليها.
والأمة التي تستجدي نظمها من غيرها، وتبني أمورها على التقليد والمحاكاة، ولا تنشئها من حاجاتها وتاريخها وأحوالها، تجد هذه النظم غريبة منكرة، لا تألفها على مر الزمان، وعلى كثرة المراس إلا قليلا، ولا يزيد العمل هذه النظم إلا تعقيدا.
كذلك نجد قوانيننا ومحاكمنا في كثير من شرائعها ونظمها، بقيت على طول الزمن غريبة في الأمة، غير متصلة بعقائدها وشرائعها وعاداتها، وصارت في كثير من أعمالها أشكالا وصورا يعرفها الناس، ويحفظونها أحيانا، ولكن لا تخالطها نفوسهم، ولا تطمئن إليها قلوبهم ولا تحلها سرائرهم.
وكذلك رأيت بعض أعيان البلاد، وشيوخ البادية يرأسون المجامع الحاشدة، ويقضون في القضايا المعضلة، بحكم عدل، وقول فصل. فإذا انتخب واحد منهم لمجلس الشيوخ أو النواب، أخذته هيبة فيها واستشعر الغربة في نواديها، فقال رأيه وانعقد لسانه، وضاعت تجاريبه؛ لأنه رأى أمرا غريبا، ونظاما عجيبا، نقلناه عن غيرنا، وضربناه على بلادنا. ولو يسر هذا النظام للناس، وعرفوه كجمع من مجامعهم ومجلس من مجالسهم؛ لكان فيه مقال ومجال.
هذا كلمة مجملة يضيق المقام عن تفصيلها، ورب لمحة دالة، وإشارة مغنية.
الأربعاء 26 جمادى الثانية/4 نيسان (أبريل)
ختم «بيام مشرق»
يسر الله اليوم ختم «رسالة المشرق»، اليوم تمت ترجمة ديوان الشاعر محمد إقبال الذي سماه «رسالة المشرق»، وجعله جوابا ل «ديوان المغرب» الذي نظمه الشاعر الألماني كوته.
وكانت ترجمة ديوان لإقبال أمنية طال عليها الأمد، وحالت دونها الحوائل. هممت بديوانه «جاويد نامه» فلم أمض فيه، ثم عزمت على ترجمة ديوان المشرق حين قدمت باكستان فصدق العزم، وتيسرت السبيل، واطرد النجاح، فترجمته في أشهر ثلاثة شعرا عربيا مبينا على بعد ما بين اللغتين، وعلى غرابة كثير من معاني الديوان وصوره في لغة العرب.
وقد وكد هذا في نفسي أمورا وكدتها تجارب الناس من قبل: أن الدأب يكفل بلوغ الغاية وإن بعدت، وبطؤ السير إليها، وكثرت العقبات في سبيلها، وصدق رسول الله: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.» وأن النجاح يفضي إلى النجاح، والظفر يؤدي نحو الظفر. وأن اقتحام العقبات الأولى يذلل ما بعدها، وأن أكبر عقبة هي الإحجام، وأن الأمر الصعب يسهله الأمل والعمل، وأن أصعب الصعاب اليأس، وأكأد العقاب التردد في الأمر والتمريض فيه.
لا يعرف اليأس ولا يعترف بالصعاب، ولا يشك في بلوغ الغاية من أمل فعمل فصبر، وإن مع العسر يسرا، والله مع الصابرين.
الخميس 27 جمادى الثانية/5 نيسان (أبريل)
الاقتصاد الإسلامي
دعت حكومة باكستان إلى مؤتمر اقتصادي إسلامي، واجتمع المؤتمرون في كراچي سنة 1949م، وألفوا هيئة تشرف على إنفاذ ما قرروه، وهي تصدر مجلة اسمها «الهيئة الاقتصادية» وتجعل شعارها مصحفا مفتوحا عن الآيات:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ... إلخ.
سمعت قائلا: ما معنى الاقتصاد الإسلامي؟ هل في الاقتصاد إسلامي وغير إسلامي؟ إن الاقتصاد قواعد وطرائق لا يدخل فيها المذهب أو الدين.
قلت: بل في الاقتصاد إسلامي وغير إسلامي، فهذه القواعد والطرائق التي ذكرتها فيها الجائز والممنوع والحرام في شرع الإسلام.
فإذا حكمنا في الاقتصاد شريعة الإسلام، فحرمنا الربا وفرضنا الزكاة - مثلا - وسيرنا البيع والشركة على الفقه الإسلامي، وحكمنا أخوة الإسلام ورحمته وبره في الاقتصاد كله، كان اقتصادنا إسلاميا.
على أن الداعين إلى المؤتمر والقائمين عليه يعنون اليوم بالبلاد الإسلامية، لا بالشريعة الإسلامية، يرون هذه البلاد متشابهة في أحوال كثيرة، متواصلة بوشائج شتى، فيقولون: إن هذه البلاد في حاجة إلى التعاون، وتعاونها يسير بما بينها من المشابه والأواصر.
فالمؤتمر إسلامي بمعنين، وتسميته سائغة بوجهين.
الجمعة 28 جمادى الثانية/6 نيسان (أبريل)
تعاون الأمم
الأمم في ريب دائم، تخاف كل واحدة على نفسها، أو تتربص الدوائر بغيرها، فكل أمة في شغل شاغل، وهم مقيم مقعد، أو كما قال الشاعر:
هموم لا تنام ولا تنيم
وأبين ما في العقول، وأقوى ما في الصناعة، وأشد ما في الأيدي، كل هؤلاء مبذول للدفاع أو الغارة، كل أمة تنفق دخلها أو أكثر أو أقل، لتعد عدتها، وتأخذ أهبتها.
والعقول والأفكار والعلوم والصناعات والأعمال كلها أو جلها مرصودة لاختراع آلات الحرب، ووسائل الإخراب والتدمير.
ثم هذا الجهد الهائل، والجد المتواصل، الذي يصرف الأمم عن العمل لمعايشها، ومحاربة آفاتها، يعد لإخراب ما شادته الأمم في بقية الوقت والجهد التي بقيت من التأهب للحرب.
هب الأمم اطمأن بعضها إلى بعض، وتعاونت وعملت للمعايش ما تعمل للحرب، وانظر كم من الأموال والعقول والعلوم والصناعات والأيدي تتوفر للعمل على تعمير الأرض وإطعام الإنسان وإسعاده.
إن عقول الأمم متصادمة، وقواها متحاطمة، وقد بقيت بقية من العقول والقوى لإنشاء هذه الحضارة الرائعة، فكيف لو اجتمعت الأمم كلها على الخير، وتعاونت على البر والتقوى.
فما للناس لا يعقلون وتراهم
يساقون إلى الموت وهم ينظرون .
السبت 29 جمادى الثانية/7 نيسان (أبريل)
رحم آدم
قرأت في كتاب أدبي أن رجلا ذهب إلى معاوية رضي الله عنه فسأله بالرحم التي بينهما، فقال معاوية: أي رحم تصلني بك؟! قال السائل: رجل من أولاد آدم، قال معاوية: «والله لأكونن أول من وصلها.» هذا السائل قد أدرك أن الإنسانية رحم حقها أن توصل، ولله در معاوية! قد عرف هذه الرحم، واعترف بحقها وبادر إلى وصلها، وسره أن يكون أول من وصلها.
لقد أبان هذا السائل عن حقيقة كبيرة، حقيقة شاملة عامة هي ما بين الإنسان من رحم، وما ينبغي أن يكون بين الناس جميعا من تراحم. إن الرحم تبدأ ضيقة في الأسرة، ثم تتسع فتعم القرية فالإقليم فالأمة. فما يمنعها أن تجوز الحدود، وتخلص من القيود فتعم الناس جميعا، وتجمعهم على الحب والود، والتعاون والتعاضد؟ إن المصائب الطبيعية كثيرة، وكم شقي الإنسان بها وعجز عن درئها، فلم لا يتعاون الناس على دفعها، والتوقي منها؟ لم يخلق الناس لشقائهم مصائب هي أشد إضرارا، وأعظم نكاية من مصائب الطبيعة؟ إن بين الناس رحما راحمة لو عقلوا، وبينهم - لولا شقاؤهم - من الأواصر ما ينبغي أن يؤلف بينهم.
رحم الله أبا الطيب:
وكأنا لم يرض فينا بريب ال
دهر، حتى أعانه من أعانا
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
الأحد أول رجب/8 نيسان (أبريل)
الثبات والقلق
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
الحق في أمر من الأمور واحد، والباطل فيه لا يحد ولا يعد. إن فعل إنسان فعلا فالحق أنه فعله، والباطل أن زيدا أو عمرا أو من شئت من البشر قد فعله، وهي دعوى لا تعد، وحزر لا يحد.
وكذلك العدل في قضية واحد، والجور لا يحصيه عقل ولا يضبطه حساب، فإن استحق إنسان أن يعطى ألف دينار، فالعدل إعطاؤه الألف، والجور ألا تعطيه شيئا أو تعطيه ما شاء الجور مما لا يعدل ألفا.
هكذا النظام والفوضى، والحسن والقبح. النظام في الأمور صورة واحدة أو صور معدودة، والفوضى الفوضى. والحسن في شيء له صورة أو صور قليلة حسية أو معنوية، والقبح ما خالف هذه الصور، وهذا نفي لا يحصى ولا يستقصى.
فالمحق والعادل، والمؤثر للنظام، والآخد بالحسن أو الأحسن، يسيرون على محجة واضحة لا ضلال فيها ولا حيد ولا قلق، ولا اضطراب ولا حيرة، كأنهم على هذه الأرض قوانين الله التي تسير خليقته.
وأعوذ بالله من شتات الفكر والقول والفعل الذي يلده الباطل وما اتصل به واشتق منه. وأعوذ بالله من حيرة النفس وقلق البال، واضطراب العمل، والشقاق والفوضى، والهرج والمرج التي يؤدي إليها الجور. إن أس الحياة الثبات، ولا يثبت إلا الحق والعدل، وما مت إليهما واتصل بهما، فثبت نفسك بالإيمان والحق، وأقرها بالعدل والخير.
الإثنين 2 رجب/9 نيسان (أبريل)
الخاتمة
هذه الكلمة يتم بها الحول في هذه الخاطرات، يتم بها الحول الشمسي. كتبت الكلمة الأولى في مدينة جدة يوم الثلاثاء لثلاث وعشرين خلت من جمادى الثانية سنة تسع وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة (11 نيسان (أبريل) سنة 1950م).
كتبت في الحجاز زهاء أربعة أشهر، وفي مصر نحو ثمانين يوما، وفي البحر بين مصر وباكستان عشرة أيام، وأتممت العام في كراچي.
حرصت على أن أكتب كل يوم فكرة تعن لي فيسر الله الكتابة أكثر الأيام، وفاتني تسطير الصحائف أياما؛ ولكن لم يفتني تسجيل الفكرة في رأس الصفحة إلى أن أفرغ للكتابة إلا قليلا .
هذا العام الماضي من خير أعوامي توفيقا وعملا؛ فقد تيسر - على العلات - تسجيل هذه الكلمات، وتيسر لي تحقيق أمل قديم إذ ترجمت ديوان «المشرق» للشاعر الفيلسوف محمد إقبال، وهو يطبع اليوم في كراچي قد أوفى على التمام، ويسر الله معه إتمام منظومتي «اللمعات». وقد واتى النظم في الديوان وفي اللمعات في ثلاثة أشهر بتوفيق الله الملهم، وكنت أخلس أوقاتا للنظم بين شواغل متوالية وأعمال ملحفة.
إن العمل يؤدي إلى العمل، والنجاح يفضي إلى النجاح، ونعوذ بالله من بطالة تسلم إلى بطالة، وإخفاق يتصل بإخفاق.
وإذا عزم الإنسان فبدأ فسار، انقلب العمل لذة، والمشقة يسرا، والكره حبا، وبدا للإنسان من مراحل الطريق ومنازله، ومن معارفه ومجاهله ما لم يحتسب من قبل.
والله نسأل الإلهام والتعليم والتوفيق والتسديد.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .
الثلاثاء 3 رجب/10 نيسان (أبريل)
অজানা পৃষ্ঠা