يضيق فكر الإنسان وهمته فإذا همته نفسه، وإذا همه من هذه النفس أضيق معانيها الطعام والشراب والمتاع. ويتسع فكره وهمته قليلا فإذا همه نفسه في منازعها العالية، ثم قرابته وأصحابه وإخوانه وجيرانه. ثم يتسع قليلا فيعم أهل محلته أو قريته، وهكذا حتى يضيق بالحدود والقيود فيكون همه خير الناس جميعا، وبغيته الحق حيثما كان، والعمل الطيب أيا كان فاعله وزمانه ومكانه.
هكذا تضيق الإنسانية فإذا هي الحيوانية ، وتتسع فإذا هي قوانين الله بين عباده لا يحدها زمان ولا مكان.
قرأت في كتاب «تذكرة الأولياء» لفريد الدين العطار أن أحد الصوفية قال: أحسب أني مأخوذ بذنوب الأولين والآخرين. وقال المؤلف في هذا: إنه دليل الكلية؛ يعني أنه دليل على أن الإنسان يتسع وجدانه، وتخلص روحه من الحدود، فإذا هو يمثل الإنسانية كلها، وإذا هو مأخوذ بما يقع فيها من سوء، مجزي بما يكسب فيها الناس من خير، كأن عليه أن يصلح الناس جميعا، بل كأنه الناس، فهو ليس لنفسه ولا لخاصته ولا لعشيرته ولا لأمته؛ ولكن للبشر. هو عامل لخيرهم، مكلف نفسه أن تسعى لما ينفع الناس جميعا وتجتنب ما يضر بأحد من الخلق. وعلى قدر سعة النفس وبعد الهمة تكون عظمة الإنسان وكفايته في هذه الحياة، فهو مرشد نفر قليل أو جماعة كثيرة، أو مصلح بلد، أو مربي أمة، أو إمام البشر أجمعين.
واعتبر هذا بماضي الناس حاضرهم، وقس عليه الكبراء في كل عصر وكل جيل، وكل شعب وقبيل، تتبين اطراد القياس، وصحة هذه الدعوى في الناس.
الأحد 26 ذي الحجة/8 أكتوبر
الشاي
يشرب الغربيون الشاي منذ عهد بعيد، يشربونه صباحا حين الإفطار، ويشربونه في العشي مع قليل من الطعام، ويشربه بعضهم بعد الغداء والعشاء. وقد انتفعوا به واقتصدو فيه حتى قيل: إن بعض كبار الإنكليز قال: إن الشاي له أثر في عظمة الإمبراطورية البريطانية. وعرف المصريون الشاي منذ زمن غير طويل، وكنا في حداثتنا نراه في القرى نادرا، وما سمعنا أحدا يدعو إلى شرب الشاي كما يدعى إلى شرب القهوة.
وكرت الأيام فإذا الشاي آفة عامة، وطامة شاملة، يشربه الصغير والكبير. ولا يشرب في مصر وبلاد عربية أخرى كما يشرب في الغرب في أوقات معلومة، بل يشرب كل حين، كلما جمع الناس مجلس في أية ساعة من النهار والليل. ويشربه الزارع في مزرعته يأخذ أدواته معه ولا يصبر ريثما يعود إلى داره.
ثم يشربونه رديئا أسود مرا شديد الأثر في الجسم، ولا يشربونه على طعام دسم مشبع بل على غذاء قليل، بل على جوع، ويستبدلونه بالغذاء إن عجزوا عن أداء ثمن الطعام والشاي معا. فصار الشاي آفة للفقير تعرفها في جسمه وماله وعمله، آفة جديرة باهتمام أولي الرأي في بلادنا والبلاد التي تشبهها، ليقوا الناس شره. وقد سمعت في الشاي قصصا كثيرة تجمع على سيطرته على النفوس وإفساده في الأجسام والأموال والأخلاق.
أكتب هذه الكلمة وقد ذهبت إلى إقليم الفيوم فمررت بعزبتين فقدم إلي الشاي، فسألت عن القهوة فلم يجد أحد عنده ولا عند جيرانه شيئا من البن؛ لأن الشاي غلبهم على ما عداه واستأثر بكل ما يستطيعون توفيره من مال.
অজানা পৃষ্ঠা