نشأت في أحضان الحركة الوطنية لاستقلال ونهضة مصر، التي استعانت بالكفاح المسلح حينا، واستطاعت على مدى قرن من الزمان وحتى منتصف القرن العشرين أن تعيد لمصر وعيها بذاتها بعد غياب امتد قرونا بفعل قوى الكولورونالية والأمبريالية ابتداء من الفرس ومرورا بالرومان والعرب والمماليك والأتراك.
ومع انتصاف القرن العشرين شهدت مصر تحولا سياسيا قسريا يحمل ظاهريا بعض شعارات الحركة الوطنية، وإن أنكرها واستنكرها في الممارسة العملية بدلا من أن يكون امتدادا لإيجابياتها بشأن الديمقراطية ونظام حكم المؤسسات والفصل بين السلطات، وترسخ مطلب الحريات وحقوق وواجب الإنسان المصري العام في المشاركة المنظمة مؤسسيا لإدارة شئون مجتمعه وبناء مستقبله.
البداية لي مع عام 1931م .. مصر في وعي جيلي إرادة وعزم صادقان على النهوض/التحرر من الاستعمار/العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والفساد والحفاء/التحديث الاجتماعي واللحاق بالحداثة الأوروبية فنا وأدبا وعلما وإنجازات مادية (تكنولوجيا) .. ومصر قوة إنتاجية واعدة يحفظها حلم مؤسس على تاريخ حضاري سالف وواقع واعد وإن ضاقت ساحته بصراع المتناقضات، ورؤى مبشرة في المستقبل يليق بمكانة مصر .. مصر فجر الضمير والمجد الحضاري التليد.
نشأت في واقع حضاري ثوري أسهم في تأسيسه نضال أجيال ثلاث قبل جيلي، استيقظت بداية على ضوء مدافع الغرب وأفاقت وتململت تدعو وتحفز، تبشر وتنذر، واستهلت مشروع التحديث إلى أن خطت أول الطريق في عهد «محمد علي» الذي أشرت في كتبي إلى أنه كان مناسبة لا سببا .. ومن هنا مصر ثقافة جديدة .. مصر الوطن والمواطنة تستوعب الموروث بعقل نقدي جديد .. ثقافة الوعي بالذاتية التاريخية بعد جهود متوالية من الغزاة على مدى أكثر من ألفي عام لطمس هذه الذاتية والانسلاخ عنها .. استعادت مصر اسمها وتاريخها على يدي الأزهري رفاعة الطهطاوي، واستعادت ذاتيتها الوطنية على أيدي فلاحي مصر العسكريين أحمد عرابي ورفاقه.
تربيت مثل ما تربى جيلي على قيم الحرية والتحرير والتغيير .. ثقافة التسامح مع المذاهب الفكرية والعقائد الدينية .. كتب من كتب «لماذا أنا ملحد» مثل أدهم، أو لماذا أنا مسلم؟ مثل عبد المتعال الصعيدي. وانتقدهما من انتقدهما دون أن يفسد النقد للود قضية .. وكانت مصر قبلة المتعطشين إلى الحداثة من المثقفين العرب .. ولم يكن الجوار بعد ناهضا ولا مناهضا أو مزاحما .. مصر هي الكلمة ومصر هي الفعل.
وشهدت مصر التي عشتها وملأت علي وجداني وعقلي الكثير من أعلام الفكر والأدب والعلوم والفنون والرياضة .. كانوا النجوم الهادية مثل: مشرفة، الذي ذاع عنه باعتزاز مصري أنه نظير أينشتاين، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وطه حسين، وسلامة موسى، ومختار النحات العظيم، ورءوف صروف، وشبلي شميل، وجورجي زيدان، وروز اليوسف، وهدى شعراوي، ومي، وسيد درويش، وداود حسني، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم .. ولمعت أسماء رياضيين دوليين في السباحة وكرة القدم والشيش .. هؤلاء وغيرهم نجوم سواطع تهدينا إلى الطريق، وتحفزنا للاقتداء بهم باسم مصر ومن أجل مصر ..
وتعلمت في مدرسة ثانوية خيرية؛ أي للفقراء، ولكن استمعت فيها لأول مرة إلى فاجنر معزوفا على شاشة مسرح المدرسة، وتربيت كما تربى أقراني على كتب مثل تاريخ الأديان في العالم دون حساسية أو انحياز ومجلات ثقافية مثل: مجلتي، الرسالة، الثقافة، الكتاب، الكاتب، المقتطف، والفصول .. ولن أنسى مجلة تنويرية أسبوعية ساخرة هي البعكوكة، واسعة الانتشار وأحد شخصياتها الأسبوعية الناقدة الشيخ بعجر الذي نقرأ على لسانه نقدا ساخرا للمتنطعين باسم الدين.
وشاهدت مصر الغنية بالمتاحف العلمية نهضة مواكبة من المدارس الفكرية والعلمية. جاءت نشأة جامعة القاهرة بعضا من الجهد النضالي والتحدي ضد الاستعمار، وضمت الجامعة أسماء أعلام أسهموا بجهد متميز وتاريخي: شفيق غربال، وإبراهيم حسن، وأحمد أمين، في الأدب والتراث: يوسف مراد مؤسس مدرسة علم النفس التكاملي، مصطفى زيور مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي، وعبد العزيز القوصي في علم النفس التربوي .. وغيرهم وغيرهم في العلوم والفنون والآداب.
ونشطت في مصر حركة الترجمة العلمية المرتبطة بالهدف القومي واستيعاب علوم وفكر العصر، وتوظيف ذلك لبناء مصر الجديدة، وإذا كانت جهود الترجمة في العصر الحديث بدأت على يدي رفاعة الطهطاوي ومدرسة الألسن، فحري أن نذكر بقدر كبير من الزهو لجنة التأليف والترجمة والنشر التي رأسها أحمد أمين وقدمت ثروة من الإنجازات بالغة الأهمية بمقاييس العصر، وكانت نموذجا احتذته مجتمعات عربية أخرى. وكم شعرت بالفخار عند زيارتي للجنة التأليف والترجمة والنشر في الرباط بالمغرب، وقال لي رئيسها: إننا هنا نقتدي بمصر.
تحدد طموحي، مثل أقراني وأبناء جيلي في النضال من أجل مصر الحرة .. الواعية في اعتزاز بتاريخها .. الجادة في سعيها لبناء مجدها الحضاري العصري اعتمادا على سواعد وعقول أبنائها والعمل على إنتاج وجودها الحديث المادي والفكري إبداعا ذاتيا، وانتماء نقديا إلى العالم المتقدم .. وكان طموحي أن أكون مثل من أشربت نفسي بعلمهم وثقافتهم وقيمهم وأن أسهم إيجابيا في بناء مصر الحرة/المستقلة/المنتجة ..
অজানা পৃষ্ঠা