سنوات العمر وحصاد الهشيم
إهداء
مقدمة
حوار بين التقليد والتجديد
الفعل/الفكر العربي ولغز النهضة1
توماس كون .. ونسبية المعرفة
جيدنز: سيرة فكر في سياق كوكبي
ليس بالبلاغة وحدها تبنى الحضارات
غربة العلم والمستقبل في حياتنا
الأيديولوجيا والتاريخ البديل
অজানা পৃষ্ঠা
الأيديولوجيا والوعي التاريخي الزائف
القرن الأمريكي: البداية والنهاية
سنوات العمر وحصاد الهشيم
إهداء
مقدمة
حوار بين التقليد والتجديد
الفعل/الفكر العربي ولغز النهضة1
توماس كون .. ونسبية المعرفة
جيدنز: سيرة فكر في سياق كوكبي
ليس بالبلاغة وحدها تبنى الحضارات
অজানা পৃষ্ঠা
غربة العلم والمستقبل في حياتنا
الأيديولوجيا والتاريخ البديل
الأيديولوجيا والوعي التاريخي الزائف
القرن الأمريكي: البداية والنهاية
الشك الخلاق
الشك الخلاق
في حوار مع السلف
تأليف
شوقي جلال
سنوات العمر وحصاد الهشيم
অজানা পৃষ্ঠা
نشأت في أحضان الحركة الوطنية لاستقلال ونهضة مصر، التي استعانت بالكفاح المسلح حينا، واستطاعت على مدى قرن من الزمان وحتى منتصف القرن العشرين أن تعيد لمصر وعيها بذاتها بعد غياب امتد قرونا بفعل قوى الكولورونالية والأمبريالية ابتداء من الفرس ومرورا بالرومان والعرب والمماليك والأتراك.
ومع انتصاف القرن العشرين شهدت مصر تحولا سياسيا قسريا يحمل ظاهريا بعض شعارات الحركة الوطنية، وإن أنكرها واستنكرها في الممارسة العملية بدلا من أن يكون امتدادا لإيجابياتها بشأن الديمقراطية ونظام حكم المؤسسات والفصل بين السلطات، وترسخ مطلب الحريات وحقوق وواجب الإنسان المصري العام في المشاركة المنظمة مؤسسيا لإدارة شئون مجتمعه وبناء مستقبله.
البداية لي مع عام 1931م .. مصر في وعي جيلي إرادة وعزم صادقان على النهوض/التحرر من الاستعمار/العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والفساد والحفاء/التحديث الاجتماعي واللحاق بالحداثة الأوروبية فنا وأدبا وعلما وإنجازات مادية (تكنولوجيا) .. ومصر قوة إنتاجية واعدة يحفظها حلم مؤسس على تاريخ حضاري سالف وواقع واعد وإن ضاقت ساحته بصراع المتناقضات، ورؤى مبشرة في المستقبل يليق بمكانة مصر .. مصر فجر الضمير والمجد الحضاري التليد.
نشأت في واقع حضاري ثوري أسهم في تأسيسه نضال أجيال ثلاث قبل جيلي، استيقظت بداية على ضوء مدافع الغرب وأفاقت وتململت تدعو وتحفز، تبشر وتنذر، واستهلت مشروع التحديث إلى أن خطت أول الطريق في عهد «محمد علي» الذي أشرت في كتبي إلى أنه كان مناسبة لا سببا .. ومن هنا مصر ثقافة جديدة .. مصر الوطن والمواطنة تستوعب الموروث بعقل نقدي جديد .. ثقافة الوعي بالذاتية التاريخية بعد جهود متوالية من الغزاة على مدى أكثر من ألفي عام لطمس هذه الذاتية والانسلاخ عنها .. استعادت مصر اسمها وتاريخها على يدي الأزهري رفاعة الطهطاوي، واستعادت ذاتيتها الوطنية على أيدي فلاحي مصر العسكريين أحمد عرابي ورفاقه.
تربيت مثل ما تربى جيلي على قيم الحرية والتحرير والتغيير .. ثقافة التسامح مع المذاهب الفكرية والعقائد الدينية .. كتب من كتب «لماذا أنا ملحد» مثل أدهم، أو لماذا أنا مسلم؟ مثل عبد المتعال الصعيدي. وانتقدهما من انتقدهما دون أن يفسد النقد للود قضية .. وكانت مصر قبلة المتعطشين إلى الحداثة من المثقفين العرب .. ولم يكن الجوار بعد ناهضا ولا مناهضا أو مزاحما .. مصر هي الكلمة ومصر هي الفعل.
وشهدت مصر التي عشتها وملأت علي وجداني وعقلي الكثير من أعلام الفكر والأدب والعلوم والفنون والرياضة .. كانوا النجوم الهادية مثل: مشرفة، الذي ذاع عنه باعتزاز مصري أنه نظير أينشتاين، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وطه حسين، وسلامة موسى، ومختار النحات العظيم، ورءوف صروف، وشبلي شميل، وجورجي زيدان، وروز اليوسف، وهدى شعراوي، ومي، وسيد درويش، وداود حسني، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم .. ولمعت أسماء رياضيين دوليين في السباحة وكرة القدم والشيش .. هؤلاء وغيرهم نجوم سواطع تهدينا إلى الطريق، وتحفزنا للاقتداء بهم باسم مصر ومن أجل مصر ..
وتعلمت في مدرسة ثانوية خيرية؛ أي للفقراء، ولكن استمعت فيها لأول مرة إلى فاجنر معزوفا على شاشة مسرح المدرسة، وتربيت كما تربى أقراني على كتب مثل تاريخ الأديان في العالم دون حساسية أو انحياز ومجلات ثقافية مثل: مجلتي، الرسالة، الثقافة، الكتاب، الكاتب، المقتطف، والفصول .. ولن أنسى مجلة تنويرية أسبوعية ساخرة هي البعكوكة، واسعة الانتشار وأحد شخصياتها الأسبوعية الناقدة الشيخ بعجر الذي نقرأ على لسانه نقدا ساخرا للمتنطعين باسم الدين.
وشاهدت مصر الغنية بالمتاحف العلمية نهضة مواكبة من المدارس الفكرية والعلمية. جاءت نشأة جامعة القاهرة بعضا من الجهد النضالي والتحدي ضد الاستعمار، وضمت الجامعة أسماء أعلام أسهموا بجهد متميز وتاريخي: شفيق غربال، وإبراهيم حسن، وأحمد أمين، في الأدب والتراث: يوسف مراد مؤسس مدرسة علم النفس التكاملي، مصطفى زيور مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي، وعبد العزيز القوصي في علم النفس التربوي .. وغيرهم وغيرهم في العلوم والفنون والآداب.
ونشطت في مصر حركة الترجمة العلمية المرتبطة بالهدف القومي واستيعاب علوم وفكر العصر، وتوظيف ذلك لبناء مصر الجديدة، وإذا كانت جهود الترجمة في العصر الحديث بدأت على يدي رفاعة الطهطاوي ومدرسة الألسن، فحري أن نذكر بقدر كبير من الزهو لجنة التأليف والترجمة والنشر التي رأسها أحمد أمين وقدمت ثروة من الإنجازات بالغة الأهمية بمقاييس العصر، وكانت نموذجا احتذته مجتمعات عربية أخرى. وكم شعرت بالفخار عند زيارتي للجنة التأليف والترجمة والنشر في الرباط بالمغرب، وقال لي رئيسها: إننا هنا نقتدي بمصر.
تحدد طموحي، مثل أقراني وأبناء جيلي في النضال من أجل مصر الحرة .. الواعية في اعتزاز بتاريخها .. الجادة في سعيها لبناء مجدها الحضاري العصري اعتمادا على سواعد وعقول أبنائها والعمل على إنتاج وجودها الحديث المادي والفكري إبداعا ذاتيا، وانتماء نقديا إلى العالم المتقدم .. وكان طموحي أن أكون مثل من أشربت نفسي بعلمهم وثقافتهم وقيمهم وأن أسهم إيجابيا في بناء مصر الحرة/المستقلة/المنتجة ..
অজানা পৃষ্ঠা
وسعيت على الرغم من تعدد السبل إلى أن أكون إيجابيا في جهدي لذلك بمداومة الفكر والتفكير دون قيود غير العقل الناقد، والاطلاع على كل جديد من غير انحياز أو عقد، وأن أتابع فكر وجهود الساعين إلى ذلك من خلال التنظيمات والأحزاب .. واستطعت الانتصار على قيود ومحاذير الفقر بالاعتماد على نفسي. ولكن العقبة الأخطر في الطريق هي سنوات الاعتقال السياسي المتقطعة على فترات دون محاكمة وبلغ مجموعها اثنتي عشرة سنة، بدأت عام 1948م وحتى نهايتها 1965م. وحاولت أن أنتصر على قسوة وآلام التعذيب في السجون والمعتقلات من السجن الحربي إلى ليمان أبي زعبل حيث كنا نعيش حفاة الأقدام، شبه عراة الأبدان، نشقى في عمل تكسير الزلط تحت وطأة الشمس الحارقة، والسياط اللاهبة، والسباب المقذع والشتائم المهينة الجارحة، ولما أتخل عن طموحي وجهدي من أجل مصر .. مصر العقل الجديد ..
وبدأت الكتابة أول الأمر وأنا طالب بالجامعة، في سلسلة «كتابي» التي يصدرها حلمي مراد .. وأول موضوع كتبته عام 1953م بعنوان «مذكرات الولد الشقي» وهو تلخيص لمذكرات شارلس داروين. ولكنني لم أره بسبب الاعتقال.
ورأيت لكي أتجنب خيوط المنع والحظر أن أتكلم بلسان غيري مع إضافة رأيي في مقدمة وهوامش. ومن هنا اتخذت الترجمة وسيلة لكي أبدأ مشروعي «تغيير العقل المصري العربي». وصدر لي عام 1957م عن دار النديم كتابان هما: «السفر بين الكواكب» وهو أول كتاب علمي مترجم عن علوم ورحلات الفضاء، والذي صدر بمناسبة إطلاق الكلبة لايكا إلى الفضاء. والكتاب الثاني «بافلوف، حياته وأعماله» وهو أيضا أول كتاب علمي مترجم عن هذا العالم الروسي الفذ الذي كنت أعتزم أن أرصد له جهدي في دراستي الجامعية العليا. ثم انقطعت عن الكتابة والترجمة الثانية سنوات سبع بسبب الاعتقالات السياسية، وعلى الرغم من كل ما عانيته في المعتقلات تطوعت وأنا المستقل سياسيا غير المنخرط في أي تنظيم، بعد هزيمة 1967م لكي أحمل السلاح دفاعا عن بلدي مصر، ولكن جهات الأمن السياسي استدعتني وحذرتني وطالبتني صراحة: «إنت لأ .. تقعد في البيت».
وواصلت جهدي في التحدث بلسان الآخرين. وقدمت ترجمة لرواية «المسيح يصلب من جديد» تأليف نيقوس كازانتزاكيس، الذي عشقت كتاباته وشعرت بنوع من التماهي معه. وتوالت الترجمات التي لا يعنيني كميتها التي تجاوزت الستين، ولكن يعنيني أنها مختاراتي من بين قراءاتي وملتزمة جميعها بمشروعي من الانتقال إلى العقل العلمي والتحول عن ثقافة الكلمة إلى ثقافة الفعل.
وبدأت التأليف في تكامل مع مشروع الترجمة. وصدر لي أول كتاب عام 1990م بعنوان «نهاية الماركسية!» وهدفي منه نقد الثقافة العربية في تعامل النص الشلاتي أو الأرثوذكسي مع الفكر العالمي، متخذا الحديث المتواتر عن سقوط الماركسية مثالا، مع فصل بعنوان «هل سقطت الليبرالية؟» وأتبعت هذا بكتاب عنوانه «التراث والتاريخ» وهو رؤيا نقدية لأخطاء ثقافية شائعة في حياتنا وحاكمة لنا عن العقيدة والموروث الثقافي وفهم التاريخ.
وصدر كتابي الثالث بعنوان «العقل الأمريكي يفكر: من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات»، وهو دراسة أكاديمية تعطي بانوراما لتطور العقل الأمريكي السائد على مدى 160 عاما ابتداء من الآباء المؤسسين لتصحيح صورة أمريكا المدعاة في حياتنا، ومجابهة الحقيقة، وأؤكد فيه العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع العملي نشأة وتطورا؛ وأن الفكر هو منتج الفعل الاجتماعي في تطور جدلي مطرد، مستشهدا بتطور الفكر/الفعل الأمريكيين في مجالات الفلسفة/العلم/الآداب والفنون موثقا بنصوص لأئمة الفكر الأمريكيين.
وبلغ مجموع مؤلفاتي أربعة عشر عنوانا، آخرها «الشك الخلاق في حوار مع السلف»، وأعكف منذ سنوات على إصدار دراسة عن انتحار الحضارات .. كيف سقطت بفعل أبنائها وأولهم رجال الدين، حين تكون لهم السلطة دون العقل؛ أي لأسباب داخلية أولا وليست خارجية فقط. وذلك في ضوء ما نشاهده اليوم من جماعات تدمر وتنتحر وتنحر من حولها باسم إحياء حضارة تفككت وسقطت وتأخر تأبينها قرونا.
قضايانا الملحة عديدة ومتكاملة؛ ومن هذه القضايا التي عرضتها في كتبي:
أولا:
إعادة بناء الإنسان المصري الذي تعمد الغزاة والحكام المستبدون سلخه عن تاريخه وعن هويته. ولذلك لا تتوفر نظرية جدلية متكاملة لتاريخ مصر منذ القدم، والتي حولها صبحي وحيدة والدكتور حسين فوزي سندباد مصري، ومحمد العزب. ويلزم الإجابة على سؤال: ماذا أصاب الإنسان المصري على مدى التاريخ حتى أصبح على هذه الحال من السلبية واللامبالاة؟ حتى لا نردد ما قاله المقريزي وغيره: «قال الرخاء أنا ذاهب إلى مصر، فقال الذل وأنا معك.»
অজানা পৃষ্ঠা
ثم إننا نعيش الآن في عصر أو حضارة الإنسان العام المشارك إيجابيا، عن علم وقدره في إدارة شئون أمته مع مسئوليته عن الإنسان والبيئة في العالم. ويتناقص هذا مع الظروف التاريخية وحياة الاستبداد والقهر التي صاغت الإنسان المصري وباتت موروثا اجتماعيا وثقافة نافذة.
وحري أن نتخلى عن الالتزام بإنجاز ما أسميه المعادلة المستحيلة؛ ألا وهي نزعة المواءمة أو الجمع بين حضارة العلم والتكنولوجيا والعقل العلمي النقدي وبين الموروث الثقافي المتحجر الذي انتهى عصره . وإن أولى معالم الطريق إلى النهضة الحضارية إنما تتجلى بداية في سقوط هيبة السلف والفكر السلفي وعبادة السلف في أذهان العامة؛ ومن ثم إحلال ثقافة التغيير والتطوير باعتماد العقل العلمي النقدي؛ لذلك نؤكد دائما أن لا نهضة لمصر إلا بنهضة الفلاح المصري في قرى ونجوع الشمال والجنوب. هذا الفلاح هو مصر، الذي ظل يحمل على فوديه رسما نزعم سخرية أنه عصفور .. وهو حورس الحامي.
ثانيا:
اتساقا مع هذا نحن بحاجة إلى دراسة العلاقة العكسية بين الاستبداد والإبداع .. الاستبداد يصنع روبوتا فضيلته الطاعة دون حق السؤال، والحرية هي صانعة الإنسان .. الحرية كما يقول فيلسوف العلم دانييل دنيت هي القوة الحافزة للتطور الخلاق للحياة منذ نشأتها حتى بلغت مرحليا أعلى صورها في صورة الجهاز العصبي للإنسان.
ثالثا:
المثقفون المصريون مسئولون أولا وأساسا عن واقع حال مصر الراهن؛ إذ بدأ المثقف الحديث موظفا تابعا للسلطة الحاكمة وقد نشأ وتربى على ثقافة الطاعة، بينما المثقف المستنير هو من يحافظ على مسافة نقدية فاصلة بينه وبين ذوي السلطان - أي سلطة دينية أو سياسية أو عقائدية - لكي تتهيأ له فرصة الرؤى في عقل نقدي ينير بها الطريق إلى المستقبل.
رابعا:
سبق أن ذكرت في كتابي «أركيولوجيا العقل العربي» أن التراث الثقافي الذي عاش ممتدا في الزمان التاريخي الاجتماعي، وإن أخذ مسميات دينية لاحقة هو التراث الهرمي في مصر .. تراث هرمي مثلث المعظمات؛ لا يزال يقسم باسمه المصريون معظما ثلاثا، ويحمل هذا التراث صفات وخصائص البيئة والذهنية المصرية، وأراه تراث تحوت أو توت رب الحكمة والقلم في الديانة المصرية وإن حمل حينا اسما إغريقيا .. وأرى أن هذا التراث الحاكم للثقافة الشعبية السائدة التي امتدت مع حالة الركود الاجتماعي قرونا. وهذه الثقافة التي تصوغ ذهنية المصري هي التي تجهض إرادة وفعالية الإنسان لحساب قوة مفارقة لها القدسية والفعالية.
ويستلزم هذا تحولا حقيقيا وموضوعيا من ثقافة الكلمة والثبات إلى ثقافة الفعل والتغيير .. من ثقافة اللسان إلى ثقافة اليد والأداة. وهذا هو ما سينقلنا طبيعيا إلى ثقافة التناقض والحركة كشرط وجودي .. الحركة مع التناقض .. الفعالية بين النحن والآخر .. الانتقال من ثقافة الإقصاء المفضية إلى الانشقاق والانقسام؛ دائنا التاريخي؟ إلى ثقافة التناقض أو تلازم النقيضين؛ إذ إن ثقافة الحركة الفكرية والمادية في جدل مشترك مطرد لا تنشأ ولا تكون إلا بين نقيضين «نحن والآخر»، ووجود كل طرف رهن وجود الآخر؛ ولهذا نشأ الحوار الذي هو صراع في إطار الوحدة، أو حركة في إطار التناقض .. إن الصورة لا تكتمل ولا نفهمها إلا في دلالاتها الحركية؛ أي وجود النقيضين وإلا بدت مواتا .. وهل الحياة إلا حركة بين نقائض؟
ويكتمل ما سبق بالحديث عما اصطلحنا على تسميته أزمة الترجمة في العالم العربي. وسبق أن تناولت هذا تفصيلا في ضوء إحصاءات ذات دلالة سواء في كتابي «الترجمة في العالم العربي» أو في تقرير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة 2003م. وتؤكد الدراسة أن الترجمة متدنية أشد التدني، وطالبنا بما سبق أن طالب به عميد الأدب العربي طه حسين من إنشاء مؤسسة عربية للترجمة. ولكن على الرغم من محاولات الإنقاذ وستر العورة وإنشاء مراكز ترجمة في عدد من البلاد العربية، مع رصد أموال ضخمة في بلدان الخليج إلا أنها تؤكد جميعا تشتت الجهود دون هدف استراتيجي جامع واضح مشترك.
অজানা পৃষ্ঠা
وهذا ما أكده أيضا التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية؛ إذ أوضح تقرير عام 2007م أن المناخ السياسي المتسم بالاستبداد والقهر وغياب الحريات أدى إلى انتعاش الظلامية والفكر الأصولي السلفي المتطرف. وأشار إلى أن هذا المناخ هو المسئول عن انصراف الإنسان العربي عن ثقافة تحصيل العلم وعن الاهتمام بالقراءة وبالبحث.
والرأي عندي أن واقع حال الترجمة، بعيدا عن الشكليات والأرقام الصماء، ليس أزمة بل هو موقف ثقافي اجتماعي من المعرفة والإبداع. والتجديد قرين الفعالية المجتمعية لإنتاج الوجود الذاتي. ولا يستقيم الحديث عن الترجمة دون الحديث عن الفعل الإبداعي المجتمعي والفضول المعرفي .. الفعل والفكر الاجتماعيان في اقتران جدلي تطوري .. وهذا غير وارد في ثقافتنا، ثقافة الإقصاء والاكتفاء الذاتي بالموروث .. ولا يستقيم كذلك دون الحديث عن الإنسان، وتغيير الواقع بإرادة ذاتية، وبالانخراط كقوة فاعلة إيجابيا في الفعل والفكر العالميين؛ أي الانخراط في الحداثة إبداعا ذاتيا تكامليا في تطور مرحلي .. أعني الوحدة مع الصراع في العالم الحديث؛ فهذا شرط التغيير الجذري الحضاري نحو واقع مصري يبدعه الإنسان المصري ..
والآن وقد تجاوزت التسعين من العمر أنظر إلى الحياة نظرة مودع، أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحو غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث. مصر لم تعد مجتمعا بل تجمعا سكنيا. وقد أضيف ما أضافه لي الصديق الأجل أنور عبد الملك وهو أنها باتت تجمعا سكنيا لغرائز منفلتة .. أفتقد مصر الحلم الحافز/مصر الوعي الموحد تاريخيا/مصر الوطن والمواطنة/مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية .. مصر المستقبل .. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب ..
ولكن تحت الرماد جذوة نار قد تتأجج ويشتد لهيبها .. ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل .. هكذا علمنا التاريخ .. ومياه النيل لا ترتد أبدا إلى وراء.
شوقي جلال
إهداء
إلى كل من تؤرقهم هموم واقع مهيض، وغربة الزمان، وخوف من ضياع الوطن ..
وإلى كل من يسوءهم العيش في زمان بلا تاريخ؛ فالتاريخ فعالية التغيير بإرادة الذات الجمعية وليس بالوكالة ..
وإلى من يؤمنون بأن الهوية الثقافية فعالية إبداعية متجددة دوما، ويحفزهم الطموح إلى التساؤل والشك والبحث العقلاني عن طريق النهوض إبداعا وتجديدا ذاتيا للفكر والعمل، وإيمانا بشمولية حضارة الإنسان على صعيد كوكبي ..
إلى من لا يقنعون بالبقاء؛ وإنما ينشدون الوجود؛ فالبقاء اطراد عشوائي، والوجود مشروع إرادي ذاتي، وإنجاز عملا وفكرا ..
অজানা পৃষ্ঠা
شوقي جلال
القاهرة 2013م
مقدمة
«اليقين وسادة الكسالى.»
مونتيني: مفكر فرنسي 1650م «اليقين وسادة الكسالى» مقولة المفكر الفرنسي مونتيني في القرن ال 16 التي بشر بها وأطلقها دعوة لإفاقة أوروبا من سباتها الذي عاشته قرونا أسيرة يقين برعاية الكنيسة ورجال الدين .. يقين أقال العقل، وأعاق الحركة نحو التغيير؛ إذ اليقين استسلام. ومن ثم فقد كانت مقولته أشبه بنوبة صحيان عند الجيش؛ أو لنقل دعوة للاستيقاظ والعمل الجاد والتفكير النقدي في واقع الحال لعقد العزم على الخطو قدما إلى مستقبل جديد يبنيه أبناء أوروبا بفكرهم وإرادتهم وتفاعلهم بعد قطيعة معرفية مع فترة الجمود واليقين.. أي دعوة إلى تفعيل إرادة التغيير .. لكي يستعيد الأوروبي إنسانيته كائنا فاعلا مبدعا يعيش لحاضره ومستقبله لا لماض ولى.
ذلك أن الإنسان العاقل المبدع والمجدد هو من يشك ويتساءل ويعمل. ولهذا ليس غريبا أن نقرأ للفيلسوف والعالم «دانييل دانيت» قوله: «النوع الإنساني هو من اكتشف الشك؛ يتساءل عن المستقبل .. يراجع تقديراته وحساباته .. ويدفعنا الشك إلى البحث عن علاج .. عن التماس وسيلة للحقيقة .. لهذا اخترعنا الثقافة.»
والإنسان الحكيم هو من لا يعتبر موروثه التاريخي معطى مسلما به لا يأتيه الباطل أبدا؛ وذخيرته إلى الأبد أيا كان الزمان والمكان؛ بل يراه خطابا لأهل زمانه، قابلا للنقد والتصويب والإضافة الإبداعية؛ ليكون عونا ودعما للحركة على طريق المستقبل، ولا يعتبر أمر حاضره موكولا لإرادة خارجة عن ذاته. والإنسان الحكيم هو من يعتبر الحاضر والمستقبل شأنه هو، صناعته هو، بإرادته الفاعلة وفكره النقدي المبرأ من كل صور الانحياز لأية سلطة خارج سلطة العقل العلمي.
نعم إنه يعود إلى ذاته التي هي امتداد تاريخي جدلي، يعود بفكره النقدي إلى أعماق الذات والتاريخ لا لكي يستقر مع الماضي، ولا لكي يناجي السلف؛ وإنما لأن الرؤية النقدية للماضي استزادة معرفية تعزز مع معرفة الحاضر الحركة إلى المستقبل واستكشاف كيف آل حاله إلى ما هو عليه إيجابا وسلبا؛ إذ خبرات الماضي دالة على الفعل والفكر في التطبيق وجودا وعدما.
ومن ثم فإن الدراسة العلمية النقدية لمسيرة التاريخ مرورا إلى الحاضر واستشرافا للمستقبل هي شك وبحث وتساؤل عن كيف نبني عقلا جديدا يدعم المسيرة الحضارية، ويحفز إلى النهوض تأسيسا على منطق الواقع دون تهويم أو تخبيل نحلق معه في الفراغ .. حتى لا تمضي القرون كما هي حالنا الآن، ونحن ندور في حلقة مفرغة.
هذه الدائرة الخبيثة المفرغة، التي يشهد عليها واقع تحجر مع الفشل والتأزم هي التي توجب على الإنسان الحكيم أن يحاسب نفسه، وأداته الشك فيما اطمأن إليه خطأ، وبالسؤال عن نفسه وعن قومه وموروثه الفكري؛ أعني مسئولية هذا كله عن حالة الركود والفشل: لماذا غاب العقل والإرادة والفعل المجتمعي عن الإنجاز والمنافسة حتى أصبحنا فريسة سهلة لكل طامع؟
অজানা পৃষ্ঠা
عشنا قرونا أسرى يقين عزز الكسل والتواكل، وشل الفكر إلا عن ترديد أقوال السلف، أو ثرثرة في ترهات وخزعبلات، وغياب مشترك لكل من العقل أو الفعل والواقع والفكر. عقلنا الذي نحتكم إليه هو عقل الماضي بينما الواقع الذي نعيشه تجاوز الماضي وفارق عقل السلف.
إن قوام الوجود الاجتماعي الناهض هو تزامن هذه العناصر الأربعة: العقل، الفعل، الفكر، الواقع؛ أي أن يجري تفاعلها الجدلي معا في إطار زماني مشترك ودينامي لضمان أهلية الحركة إلى المستقبل. ومع نظرة الشك المنهجي لفاعلية هذه العناصر يتجه العقل إلى نقد الموروث؛ أي نقد ذاته أو لنقل نقد محتواه أو برنامجه «السوفت وير» الذي اغتذى عليه في نشأته، واكتشاف نقاط الخلل والاختلال والمفارقة، واستبيان أسباب وعوامل القصور والاغتراب والعجز. عن تفسير ظواهر الواقع ظنا - والظن هنا إثم - أن التفسير كامن في خطاب السلف.
إذا تأملنا حياة الأشخاص والمجتمعات نجد أنها عند التهيؤ للتغيير أو النهضة يعود الإنسان/المجتمع إلى الاستعانة بالشك، يراجع جهده وواقعه الفكري والعملي ويرده الشك إلى الواقع إذا كان يفكر في ضوء مقالات طواها التاريخ، ويبين له أن السابق قد مضى زمانه معرفيا وأن ارتباطنا به نسب تاريخي، أن السابق الموسوم بالجاهلية، ليس عماء مطلقا وإنما فقد صلاحيته المرحلية؛ إذ لا شيء أبدي مطلق.
تتلمذت البشرية عصورا على أيادي عرافين وكهنة ورجال دين يلقنون الناس ما سموه الفضائل الذهبية: اليقين أم الفضائل والشك رذيلة، الطاعة فضيلة بينما الخروج عن السياق العام رذيلة، والإبداع من أشر الأمور؛ فالمحدث بدعة .. وتعطل الفكر والفعل على السواء .. وكما يقول ابن خلدون: «حيث لا يتقدم العلم، ولا تتقدم المعرفة فإنهما يتراجعان حكما.» ولم نصنع تاريخا إلا غيرنا واقعنا بإرادتنا؛ لأن التاريخ ليس امتدادا زمنيا فارغا، بل التاريخ تغيير وتجديد .. وبقي لنا الموروث المتراجع، اكتفينا به وانكفأنا عليه . وظننا البقاء على قيد الحياة هو الوجود المنشود حتى وإن عشنا عالة على الآخر، بينما الوجود مشروع يتحقق بفضل الإرادة والفعل والفكر.
ويعيش مجتمع اليقين على التلقين، تلقين واستظهار الموروث، ويؤكد أن الحاكم هو الأمير الراعي، له الأمر، والناس رعية عليها الطاعة، ولا يعرف معنى الشعب مصدرا للسلطات وله حق المشاركة في إدارة شئون البلاد .. إنه المجتمع الأبوي. ثم إن اليقين قناعة بكلمة الراعي وبالموروث؛ فهما مصدر العلم النافع؛ ومن ثم الكف عن السعي إلى معرفة وإبداع جديدين، وتسود قاعدة العزوف عن المعرفة المستحدثة. ومجتمع اليقين والتلقين والطاعة لا يعرف «رذيلة» الحرية والديمقراطية وهما أساس الدولة العصرية؛ ولهذا لا غرابة في أن يردد البعض أن الدولة المدنية كفر صريح.
إذا تأملنا شعوب العالم عند عقد العزم على النهوض من كبوتها كيف استهلت مسيرتها بالشك/النقد/التنوير، مع قراءة كتاب الحاضر وتحدياته. وحشد الجهود فكرا وعملا لإنجاز طموحاتها .. الشك المنهجي الخلاق في الموروث؛ أي عدة العقل وأداته، واستعادة إبداعية لما يدعم حركة المجتمع. هكذا أوروبا في عصر التنوير الذي هو عصر الخروج من جاهلية العصور الوسطى وتجاوز موروث فقد صلاحيته، وتمهيد الطريق للعقل العلمي. وهكذا اليابان والصين وغيرهما، نجد في اليابان مفكرا مثل «توميتاجا-ناكاموتو» يطبق منهج النزعة النقدية التاريخية في دراسة الدين، وكشف عن جوهر الصراع على السلطة باسم الدين. وهناك من قال: «محاولة شفاء الروماتيزم بقرع الطبل، سيهلك الطبل دون أن يشفى المريض» وقال «ميورا باين»: «المعرفة الصحيحة مصدرها الطبيعة لا كتب السلف.» وشهدت اليابان مثلما شهدت الصين صراعا بين سلفيين ومحدثين وانتهوا إلى ما سموه «عصر العقل والواقع».
فهل آن الأوان ونحن نتطلع إلى العالم الذي سبقنا بمراحل، ونأمل في الانتماء إلى حضارة العصر بجهدنا وفكرنا أن نعيد للشك اعتباره، وللعقل العلمي الناقد دوره، وللعقل الحضاري قدره وأولويته .. قد يستلزم التنوير المنشود مراجعة المفاهيم السائدة في ثقافتنا التي تصوغ منهجنا وسلوكنا في الحياة وثبت انتهاء فترة صلاحيتها لعجزها عن حل مشكلاتنا. وطبيعي أن يمتد نطاق البحث ليشمل مفاهيم أو منهج التدين لا الدين؛ أعني الطريقة التي اعتاد عليها البعض لإظهار أنهم سدنة الدين فقتلوا الدين بمعناه الحضاري وأحيوا التخلف؛ ومن ثم ندرك أن التدين غير الدين في براءته وصفائه وشفافيته. ولكن المتنطعين غرقوا من المظاهر والادعاء بأنهم أفهم للدين .. وليس من حق أحد أن يقول أنا الدين. إن مشكلات الحياة تقتضي إعمال عقل واجتهاد إبداعيين حتى لا تكون كارثة باسم الدين.
حوار بين التقليد والتجديد
«اعرف حكمة القدماء وعايش العصر، بذا تغدو حكيما.»
كونفوشيوس: الحكيم الصيني الأبرز في القرن السادس ق.م.
অজানা পৃষ্ঠা
الحوار مع الآخر يعني في نظرنا حوارا مع آخر مغاير قوميا وثقافيا واجتماعيا وفكريا .. إلخ، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون كذلك دائما؛ إذ قد يكون الآخر هو الذات نفسها، تاريخا وثقافة وأداء .. ذلك أن الذات المجتمعية عملية لها وجودها التاريخي متعدد المراحل، في تفاعل حيوي مع الواقع والسياق المحلي والإقليمي والعالمي، تفاعل بين ثقافات واقتصاد وعلاقات، بل وقوى قسر وهيمنة. إنها الذات كامتداد تاريخي فاعل أو كما نسميه امتدادا أو فعلا حضاريا وليست هي كامتداد معرفي ثقافي، ذلك لأن الثقافة والمعرفة كلتيهما منتج العقل الحضاري المتطور زمانا ومكانا. ومن هنا يمكن وصف الذات المجتمعية بأنها موقف وخطاب أو محصلة موقف.
لذلك فإن الذات المجتمعية في وضعها الأمثل فاعلة مؤثرة ومتفاعلة؛ ومن ثم متغيرة في تطور تكاملي. ويجري الحوار دائما كنوع من المونولوج بين واقع راهن له مقتضياته من حيث الفعل الإبداعي والمنتج المعرفي والثقافي وبين الذات المجتمعية في حاضرها وموروثها، بين ضرورات الانطلاق من قيود ومحددات حضارة الماضي إلى قيود ومحددات حضارة جديدة. إنه حوار بين السابق والراهن وصولا إلى مستقبل لاحق رهن الوعي والإدراك والإنجاز الإبداعي. إنه فعل التكيف والمواكبة حفاظا على البقاء وتأكيدا لدينامية الوجود، وخوفا من الجمود والركود الذي يعني العيش بغير زمن أو تاريخ؛ حيث الزمن والتاريخ هما الفعالية المجتمعية الإبداعية.
هنا تواجه الذات نفسها وتدخل في توتر بين السكون والتغيير، بين إيثار الحاضر المألوف أو تأكيد قوة الدفع للتجديد في مواكبة وتحد ومنافسة مع ماضيها وواقعها ومع سياقها الإقليمي والعالمي، وهو سياق متغير أبدا ويفرض تحديات جديدة باطراد.
ويتلخص هذا المشهد في عبارة التفاعل الثقافي المتوتر على أصعدة متباينة ومحتويات متنوعة، حوار بين ثقافة الماضي التي ترسخت مرحليا ولفترة من الزمن ونسميها التقليد، وثقافة جديدة هي وليدة فعل مجتمعي ابتكاري جديد، ووعي بتحديات السياق الإقليمي والعالمي. وأن ما نشير إليه باعتباره حوارا مع الذات ماضيها وحاضرها ورؤيتها للمستقبل هو ما نعنيه بالحوار بين التقليد والتجديد، وهو حوار مطرد ومتصل أبدا مع اطراد فعالية المجتمع، ولا ينقطع ويتوقف إلا حين يصاب المجتمع بداء الركود ومن ثم التخلف. ويعني الحوار بين التقليد والتجديد أيضا مراجعة الذات لنفسها، لحصادها ومتاعها الموروث ومدى ملاءمته ليكون قوة دفع على طريق التغيير والتكيف الحضاري والبناء في ضوء فهم عقلاني نقدي للذات. إذن الموروث من حيث هو وعاء ثقافي يشبه المياه الجوفية المتجددة أبدا بفضل الفعل الإبداعي المتجدد أبدا، وليس ينبوعا محدودا جف عطاؤه مع جمود أصحابه.
لذلك فإن الحوار بين التقليد والتجديد ليس قاصرا على مرحلة تاريخية بعينها ولا ثقافة تقليدية بذاتها، وإنما هو مبدأ مطرد. وليس غريبا أن تنبه الفقهاء والحكماء من السلف في عصور النهضة والتغيير الإبداعي إلى هذه الحقيقة وعمدوا إلى تأكيدها وإن نسيها الخلف في عصور الردة والتخلف. مثال ذلك أن قال الفقهاء قديما: «النص متناه، وقضايا الحياة نهر دافق غير متناه»، وهو ما يعني توترا مطردا بين حرفية النص ودينامية الحياة. وتتمثل حكمة هذا القول في استحالة حصر الحياة وقضاياها داخل إطار نص نظنه قابلا للصدق في كل زمان ومكان. وبديهي أن حصر قضايا الحياة في نص مضى زمانه، أو نص غريب عن مكانه، ينطوي على تناقض مع طبيعة الحياة، ويمثل محاولة عقيمة لفرض الجمود على الحركة. وطبيعي أن الجمود أو الالتزام بحرفية الموروث وأبديته في سياق التفاعل داخل المجتمع وفيما بين المجتمعات إنما يعني شللا محليا .. شلل في الفكر وشلل لفعالية الإنسان/المجتمع؛ وبالتالي العجز الكامل عن التكيف وعن مواكبة التغيير ؛ مما يفضي بالمجتمع إلى تسليم أو لنقل الاستسلام للآخر القادر على التطوير المطرد.
ولعل من المفيد أن أوضح قبل الاستطراد أن فكرة العودة إلى الموروث الأصيل لها ما يبررها أثناء الاستعمار ومعركة الاستقلال؛ إذ إن الغازي عادة يسعى إلى تجريد المجتمع من ثقافته/هويته؛ لذا فإن دعامة المقاومة كردة فعل هي الحفاظ على الأصل والتشبث به وتأكيد الذات المستقلة .. إنه الأنا القومي الوطني الثقافي .. وثقافة الاستعمار هي الآخر العدو. ولكن ثقافة الاستعمار تحمل ضمنا دلالة مكانة وامتياز؛ لأنها ثقافة التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يفتقر إليه البلد الثائر. وهنا نجد الموقف من ثقافة الاستعمار موقفا ينطوي على نقيضين: رفض وقبول؛ ولهذا يخطئ البلد الذي يقف عند غاية قوامها الرفض فقط والعودة إلى الأصل، وإنما يتكامل مع الرفض موقف هو حشد القوى المعنوية والمادية للمجتمع من أجل التطوير والنهضة والتقدم واستيعاب روح العصر، وهي اليوم العلم والتكنولوجيا.
لذلك نقول: اتصف عصر الاستعمار وما بعد الاستعمار بأنه عصر المواجهات الثقافية بين الموروث والوافد، وعصر المراجعة النقدية المنهجية للموروث والمستحدث محليا وعالميا في ضوء مقتضيات التطوير. وتباينت مواقف الشعوب في تعاملها مع الجانبين. تولدت لدى بعض البلدان روح المراجعة النقدية قبولا ورفضا إزاء الوافد والموروث لتأكيد الذات في سعيها لإعادة بناء نفسها وتعبئة قواها لمواجهة تحديات النهضة والتقدم، ورأى هذا الفريق أن الهوية عملية أو فعل تاريخي يكتمل مرحليا بفضل الفعالية. وتولدت لدى البعض الآخر روح الانطواء والانكفاء أو لنقل الانتصار للموروث عبر الهرب من المواجهة .. والانتصار للماضي عبر الهرب من المستقبل أو على حساب المستقبل. ونلحظ أن هذه الشعوب أكدت ذاتها بالابتعاد عن فعل التحدي القائم على النهضة والتطوير وتوطين روح وأسس وقواعد وإمكانات العلم والتكنولوجيا وإن قنعت بالتحدي كلاما ومفاخرة انطلاقا وتأسيسا على إنجازات ومفاخر الماضي. ورأى هذا الفريق أن الهوية جوهر كامل، اكتمل في مرحلة ما هي مرحلة أيديولوجية تعود إلى الماضي. وينطوي هذا المذهب على نفي للفعالية ، فعالية الإنسان المطردة والمتصلة في تطور ارتقائي على مدى مراحل التاريخ، وينطوي على نفي لمؤثرات السياق الاجتماعي أو البيئة المحلية أو العالمية.
ويزداد توتر الجدل بين الموروث والمستحدث حدة وخطرا حين يحمل الموروث - اعتسافا - صفة المقدس لفرض الالتزام القسري بالنص وتعميم تأويلاته في شئون وقضايا الحياة المتغيرة بطبيعتها. ويسود وهم المطابقة أو الخلط بين ما هو من شئون الدين (العبادات) وما هو من شئون الفعل الحياتي المنوط بالعقل العلماني؛ أي التفكير عقلا في شئون الدنيا.
ولقد عاشت شعوب في ثقافة لها قوة دمج طاغية ومتماهية مع الدلالة الدينية والقيم الأخلاقية باسم التراث الديني الذي يتسع خطأ ليشمل السياسي والاقتصادي .. إلخ، ويمثل محتوى الوعي الاجتماعي أو أيديولوجيا معنى الحياة. وهذا هو حال الشعوب التي تعثرت خطاها على طريق النهضة وإن علا صوتها باسم المقدس، فظلموا المقدس وظلموا أنفسهم وعاشوا خارج الزمان، بل وبغير مكان؛ إذ أصبحت بلادهم قسمة بين أصحاب القوة والنفوذ.
نجد هذا واضحا جليا في تجارب الشعوب شرقا وغربا، حاضرا وماضيا .. هكذا كانت أوروبا على مدى مرحلة امتدت بضع قرون.
অজানা পৃষ্ঠা
وجدير بالذكر أن الصراع بين التقليد والتجديد امتد طويلا باسم المقدس في أوروبا قبل النهضة وما بعدها. ومن ذلك مثلا الصراع حول استثمار المال بالوكالة؛ أي حق إيداع مال بفائدة الاستثمار لصالح صاحبه، وهي الفائدة التي اصطلح فقهاء المسيحية على أنها ربا وأن الربا حرام. وهذه قضية تشبه تماما الصراع السجالي داخل المجتمعات الإسلامية على مدى أكثر من قرنين دون حسم. أصر كبار رجال الكنيسة في تحالف مع رجال الإقطاع وملاك الأراضي في أوروبا على تحريم استثمار المال بالوكالة مقابل فائدة باعتبارها ربا. وحدث هذا وقت ذروة النشاط التجاري بين آسيا وأوروبا عبر المنطقة الإسلامية. ونشط اليهود وأصبحوا هم ملوك الصيارفة واستثمروا التحريم المسيحي واستحوذوا على الأموال والتمويل. وأحس نشطاء المسيحيين بالخطر، وأن موقف الحرفيين الجامدين من فقهاء الكنيسة ورجال الإقطاع إنما يستهدف مصالحهم هم المالية ويعيق أوروبا عن التقدم على طريق النهضة البازغة. وانبثق عن الصراع ورواد العلمانية رجال دين تطهيريون هم قادة المذهب البروتستانتي، وتقدموا بتأويل جديد يجيز استثمار المال بالوكالة وقرنوا ذلك بتفسيرات جديدة عن علاقة المال بالعمل والزمن مما يبيح لصاحب المال حق الاستثمار بفائدة. ومن عجب أنهم اعتمدوا هنا على تفسير إسلامي سبق أن قدمه ابن رشد في الأندلس في فصل «القراض» من كتابه «بداية المجتهد»؛ بما يعني أن العلمانية التي قرنها بعض الإسلامويين خطأ بالكفر إنما عادت على أيدي رجال دين تطهريين متشددين وأن مرجعيتها إسلامية.
وشهدت اليابان كما شهدت الصين من بعدها صراعا وسجالا نظريا، كاد أن يصل إلى حد الاقتتال بين التقليد والتجديد. وحفز إليه في كل مرة، مثلما حدث في أوروبا، توفر مقتضيات تطوير المجتمع على طريق الرأسمالية الصناعية. وصل الصراع إلى حد تكفير من يخالف النص في أبسط شئون الحياة الدنيا؛ كأن يتناول طعامه بغير العصى التقليدية.
وظهر من قال: «لقد جفت ينابيع التقليد.» وقال المصلح الاجتماعي «طاي تشن» في القرن 18 في الصين مثلا: «كتب التقليد لا طائل منها ما لم تعالج أمراض المجتمع.» وراج تساؤل: «أيهما أحب إليك، كونفوشيوس أم الحقيقة؟» واصطلحوا أخيرا على إجابة مشتركة: «كان كونفوشيوس محبا للحقيقة ساعيا إليها؛ ومن ثم حيث الحقيقة يكون كونفوشيوس.» وأعادوا إلى الحياة مقولة كونفوشيوس: «اعرف حكمة القدماء وعايش العصر، بذا تغدو حكيما.» وأخذت اليابان - كما أخذت الصين - سبيلها إلى النهوض في إطار تجديد للفكر التقليدي، وظهرت تأويلات جديدة مناسبة للعصر ودافعة لحركة التقدم.
وطبيعي أننا لسنا استثناء من القاعدة، فإن الحوار بين التقليد والتجديد مستمر أبدا يجري عنيفا صاخبا حينا خاصة في فترات عقد العزم على النهوض؛ ونراه يصمت أحيانا أو تخرسه قوى التقليد بحكم سطوة تحالف السياسة والموروث معا وغياب العقل النقدي قرين قوة الدفع الاجتماعي للنهوض. وتدافع قوى التقليد عن مكانها ومكانتها بإدانة محاولات النهوض محتمية زيفا بعباءة النص والإجماع والتزام الأصولية ورفض الآخر .. تعلن قدسية النص ووجوب الالتزام بما اصطلح على تسميته إجماع الفقهاء.
وينبري بين الحين والآخر من يتحدث باسم الإسلام كأن يقول: أنت تسأل والإسلام يجيب. ونسي هؤلاء أو تناسوا: أولا، ليس من حق أحد أبدا أن يقول: «أنا الإسلام»؛ ذلك أن الوحيد صاحب هذا الحق تاريخيا كان الرسول. ولتكن لهؤلاء أسوة في «علي بن أبي طالب» الذي قال: «القرآن حمال أوجه.» لذلك أحرى بهم أن يقول كل منهم «أفهم الإسلام هكذا».
والفهم له قواعده وقوانينه وحدوده وملابساته .. وحيث المصلحة مصلحة المجتمع، فثم شرع الله .. والمصالح متباينة ومتطورة. ثانيا، حجة الإجماع صحيحة في زمانها ومكانها. إن الإجماع إجماع بشر هم فقهاء عصرهم، لهم قضاياهم ومشكلاتهم، اجتهدوا لها سواء أصابوا أم أخطئوا. وليس صحيحا أبدا أن ينسحب إجماع زمان ما أو مكان ما ليفرض صدقه زيفا على كل زمان ومكان؛ فهذا نقيض منطق الحياة. وأحرى بنا أن نقول: «نحن فقهاء عصرنا». إن الاحتماء بالمقدس دفاعا عن مصالح أنانية لطائفة أو شريحة دون المجتمع ظلم للدين وللمجتمع. ومثل هؤلاء يتحملون وزر إعاقة حركة تطوير المجتمع وتعطيل قدرته على التحدي. وإن واقع حياتنا شاهد على ذلك.
الدين وحق المجتمع في التطوير
نحن نؤمن بأن الأديان نشأت لخير البشرية، بمعنى تنظيم المجتمعات في عصرها تأسيسا على قيم تشكل قاعدة ثقافية للسلوك الإنساني على نحو يكفل تماسك النسيج الاجتماعي ويؤمن حركة المجتمع واطراد بقائه. ونؤمن كذلك بأن النص الديني، كما يقول الفقهاء، نص متناه، وأن نص الحياة، أو لنقل نهر أحداث ووقائع الحياة، غير متناه؛ فهناك الجديد والمتنوع والمتعدد دائما الذي يقتضي وجوبا إعمال العقل العصري فيما يختص بشئون الدنيا دون إخلال بقيم إنسانية راسخة ومتعارف عليها بين جميع الأديان.
ويتجلى هذا الجديد المتنوع والمتعدد في العلاقات والتنظيمات الاجتماعية وفي المؤسسات ومحتوى وشروط ونطاق مصطلحات متطورة مثل العدالة والحكم والولاية والسلطة والمرجعية الحاكمة والإنسان ودوره، وطبيعة التنظيم الاقتصادي والسياسي والعلمي .. إلخ، وأن هذا الجديد كله يلتقي مع الأديان في الهدف تأسيسا على القيم الإنسانية، وهي خير الناس وخير المجتمع؛ مما يكفل لهم - حسب منطق كل عصر - إمكانية الترقي والنهضة والانتصار على التحديات وبناء مجتمع عادل تنتفي فيه المظالم.
والنص الديني لا يصادر حق المجتمع في تطوير نفسه وإبداع إطاره الفكري، وانتخاب آلياته ، واختيار الشكل الأمثل والأنسب لتنظيم العلاقات بين الناس وتحديد معنى الإنسان وهويته ودوره، وهي معان وأدوار متغيرة متطورة دوما.
অজানা পৃষ্ঠা
حق المواطنة
قديما كانت العشيرة أو الأسرة الكبيرة أو القبيلة هي الأمة ووحدة البناء الاجتماعي، وكان بقاؤها يعتمد على التجانس والتلاحم على أساس رابطة الدم أو العرق أو العقيدة؛ ولهذا يصدعها ويفسد وجودها خروج الفرد على رأي الجماعة؛ ومن ثم تعتبره فاسقا مارقا، وتنظر إلى التمايز والتنوع نظرة تجريم وتحريم. ومثل هذه البنية الصغيرة تتلاءم من حيث شكل السلطة الفردية والعلاقات الاجتماعية مع طبيعة الإنتاج في العصور القديمة. ولكن المجتمعات تطورت وتغيرت وانتقلت عبر مراحل من القبيلة إلى الأمة المدنية ثم إلى الأمة القومية، إلى الوطن الذي ضم جماعات متباينة ربما في العرق أو الدين أو الجنس .. إلخ. وأضحت بنية الأمة القومية؛ الدولة في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، وحدة ضمن وجود شبكي عالمي شديد التعقد والتداخل من حيث طبيعة النظم والمؤسسات والاعتمادية المتبادلة، واقتضى هذا إطارا فكريا جديدا تتعامل الإنسانية على هديه ويختلف جذريا عن جميع الأطر الفكرية التي سادت منذ نصف قرن ناهيك عن أطر فكرية مضت عليها قرون.
وأصبح الناس جميعا سواء من حيث المواطنة القومية والعالمية، ومن حيث الدور والواجب والمسئولية. وتجد المساواة تعبيرها الواضح في مشاركة الجميع دون تفرقة على أساس من دين أو عرق أو جنس في الإسهام الحضاري في تنظيم المجتمع والانتماء إلى مؤسساته على اختلاف التراتيبات الهرمية في المجتمع، وأيضا في تحمل مسئولية هذا التنظيم. والناس جميعا، على قدم المساواة، شركاء في السعي العقلاني لتأكيد الذاتية الاجتماعية الواحدة والمتلاحمة في إطار التنافس على الصعيد القومي والإقليمي والعالمي، وفي إطار استثمار مصادر الطبيعة وبناء الثروة الاجتماعية والانتفاع بها.. وإن هذا واجب وحق مشترك للجميع كمواطنين دون تفرقة على أساس غير أساس صدق المواطنة وكفاءة الأداء. وحق/واجب المواطنة يعني أن الناس جميعا على قدم المساواة في الاختيار الحر للسلطات دون تمييز أو تفرقة، وأنهم بحريتهم واختيارهم شركاء ورقباء؛ فاختيارهم ليس بيعة وإنما عهد ومسئولية ورقابة ومحاسبة.
ولكن نسمع من يتحدث عن الدين الإسلامي والمساواة بين المصريين أو أبناء المجتمع مسلمين ومسيحيين.. إلخ، ونراه يلجأ أولا إلى كلمات وعبارات قالها العرب عند دخولهم غزاة لبلدان حضارات وأديان أخرى؛ إذ اعتادوا وصف أبناء هذه المجتمعات ممن لم يدينوا بالإسلام بأنهم ذميون. وينسى أن المواطنة ليست منحة أو منة يتكرم فريق من أبناء المجتمع أو فريق وافد إلى المجتمع، بمنحها أو إغداقها على فريق آخر، وينسى أن مقولة «أهل الذمة» أضحت في ذمة التاريخ بإيجابياتها - إن وجدت - وسلبياتها أو مبرراتها. ويتناسى أن أحد قادة الإسلامويين أعلن صراحة منذ عهد قريب أن أقباط مصر - وهم مصريون أصلاء وليسوا وافدين - ليس لهم مكان داخل جيش مصر!
ويتناسى المتحدث أن عديدين من المصريين الأكفاء لا يجدون سبيلا لشغل مناصب قيادية بسبب الانتماء الديني! فهل يستقيم هذا مثلا مع مقولة: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» التي يسوقها البعض للإشارة إلى الموقف الديمقراطي للإسلامويين؟ وهل تعني أن المواطنين أمام القانون سواء .. وإن كانت قد صدرت في زمن وفي مجتمع لا يعرف الدستور والقانون؟! أي هل يستقيم المعنى التاريخي بظروفه مع حق المواطنة بالمعنى العلمي والذي لا يمس قواعد وقيم الدين، بل يؤسس قاعدة دينية هي أن يكون المجتمع بنية متراصة متماسكة لخير المجموع ولمواجهة عدو مشترك هو التخلف الذي جعل أرضنا مستباحة لإسرائيل، وجعل بلدنا ذليلة في يد طاغية مستبد، وأفضى إلى الحال التي نعاني منها حتى أصبحت «أمة الإسلام» أمثولة للتخلف بين شعوب العالم بسبب الإصرار على مقولات مثل تلك التي يرددها البعض باسم الدين، والدين الحق منها براء.
وهل يقبل مثل هذا المتحدث أن يعامل المسلمون في فرنسا أو إنجلترا أو غيرها على أساس منهج التعامل مع أهل الذمة؟ إنه سيدافع وسيدفع بحجج علمانية يرفض هو وإخوانه سماعها على ألسنتنا هنا! وإذا شاء الإسلامويون أن يضعوا معنى عصريا لهذه العبارة فأجدر بهم أولا أن ينتقدوا تطبيقها في العصور السابقة، وأن يقتدوا بالإسلامويين المقيمين في الغرب إذ يدافعون عن العلمانية نهجا صحيحا للحياة وأن يقرءوا رأي المفكر الإسلامي الأكبر محمد خاتمي إذ يقرر: «تجوز ولاية غير المسلم على المسلم بأسلوب ديمقراطي»، وهذه ثورة في الفكر الإسلامي.
شعار «الإسلام هو الحل»
ونجد من يردد أن شعار «الإسلام هو الحل» يشتمل على البرنامج الأمثل، وإن بدا مجتزأ .. ولست أدري كيف لشعار مجتزأ مبتور أن يكون برنامجا يرسم خطوات حركة المجتمع ورؤيته المستقبلية؟ أو كيف يكون لجماعة تطمح إلى الحكم برنامج غير معلن ومجهول للجماهير؟ ثم إن الحديث عن برنامج عمل لنظام حكم يطرح نفسه بديلا لا يستقيم إلا إذا اقترن بدراسة علمية تحليلية عن الواقع المحلي والعالمي، وبنظرة علمية نقدية لنظم الحكم التي وصفت نفسها بأنها إسلامية، الآن وفي الماضي، وبيان أسباب فشلها، وأن يطرح البرنامج رؤيته التصحيحية البديلة مع بيان معالم الطريق. وهذه للأمانة أزمة جميع الأحزاب والتنظيمات.
إن العديد من المجتمعات الإسلامية على تباينها وعلى مدى قرون التخلف عرفت العديد من الحكام والولاة والسلاطين الذين نصبوا أنفسهم خلفاء وأمراء للمؤمنين ودفعوا ببلادهم إلى مهاوي الانحطاط والتفكك. وتعج بلدان العالم الإسلامي الآن بحكام يعلن كل منهم أنه أمير المؤمنين وراعي المسلمين والحرمين. ويقتضي واجب كل من يتصدى للمساهمة في إدارة شئون البلاد أن يقدم رؤية نقدية تكشف حقيقة الوضع وأسباب الفشل، ويعرض الجديد الذي يجدد الأمل في النهضة.
قضايا الاقتصاد
অজানা পৃষ্ঠা
إننا مع احترامنا وتقديسنا للدين الإسلامي، بل للأديان جميعها، نسأل كيف يمثل الشعار المجتزأ حلا لقضايا مجتمع تعقدت بنيته وعلاقاته مع التطور الحضاري للمجتمعات؟ الاقتصاد مثلا .. يقال إن هناك زكاة الركاز! ولم يسأل أحد سؤالا بسيطا: لماذا لم يطبق أحد من حكام المسلمين على مدى قرون طويلة هذا النص؟ هل هذا خروج منهم عن قواعد الإسلام، وحرصوا على الاستئثار بأموال الركاز «مثل النفط وكل ما في باطن الأرض» لصالحهم ولتكون أمواله بعض الذمة المالية للحاكم وأسرته دون المجتمع؟ وهل تبقى المجتمعات أسيرة تخلفها ومظالمها إلى حين يقتنع الحكام بهذه القاعدة وهم في حماية قاعدة أخرى ترى أن الحاكم الظالم خير من الفتنة والانقلاب عليه؟ وهل اقتصاد المجتمعات الآن بنفس بساطة مجتمعات القبيلة قديما بحيث تصلحه وتنظمه قاعدة زكاة الركاز؟ وإن رفض الوالي أو عصى فأمره موكول إلى الله يحاسبه في الآخرة.
إن القول بأن زكاة الركاز، والزكاة عموما، هي الحل الإسلامي لأزمتنا الاقتصادية يشبه القول بأن الحل الإسلامي للفقراء والمحتاجين هو أن يقدم الأغنياء الصدقات بدلا من التنمية وحق المواطن في نصيب عادل من ثروة أمته التي يسهم في إنتاجها. وطبيعي أن مسئولية توفير موارد تنمية المجتمع وتحديد مصارفها، التي أصبحت علما متكاملا له علماؤه ونظرياته، ليست مقصورة على المسلمين وحدهم وإنما على المواطنين جميعا دون اعتبار لدين أو جنس وإلا ظهر من يطالب بنظام الجزية، وهذه ردة وتخلف.
ثم إن الحديث المرسل المطلق عن زكاة الركاز يعني أن قضية المجتمع تنحصر في نقص السيولة وفاء بحاجات المعيشة وليست مسألة تعبئة موارد وتحديد علاقات التعامل وتنظيم المصارف وتوفير الفائض وفاء بحاجات التنمية وفقا لاختيار جمهور المواطنين بعامة وعلى مسئوليتهم وليس اختيار ومسئولية ولي الأمر وبطانته. ولم يعد الاقتصاد القومي محليا بل طرفا ضمن شبكة عالمية عناصرها الشركات المتعدية للقوميات، وهذه بينها صراع الجبابرة وخطط لاحتكار براءات الاختراع وإلغاء الحدود والقيود القومية .. وهذه شئون دنيوية خالصة لم يرد بها نص. ولم يعد الاقتصاد اقتصاد ركاز ونعم الله في الأرض، بل الاقتصاد إنتاج المجتمع للثروة وخلق الثروة.
إن فرض الزكاة جاء باعتباره حقا معلوما للسائل والمحروم، يقدمه الموسرون إلى من يرونهم مستحقين لها. وكان هذا في مجتمع بسيط غير معقد لا يعرف نظام الدولة الحديثة ومؤسساتها ووظائفها من جمع ضرائب وتحصيل جمارك وتحمل مسئوليات تنمية اجتماعية وإقامة بنية أساسية وطرق وكبار ومؤسسات تعليمية وصحية .. إلخ، ولهذا ينصب حديثنا لا على حق السائل والمحروم؛ فهذا واجب، وإنما ينصب على آلية إنجاز الهدف. إن تعبئة موارد الدولة المالية تجري عبر آلية توجه المال إلى مصارفه الاجتماعية لا على سبيل الصدقات وبشكل شخصي، وإنما آلية اجتماعية خاضعة للرقابة والمحاسبة لبناء خدمات تعليمية ومؤسسات وغيرها. ومن ثم نسأل : هل الأفضل أن نعطي السائل صدقة؟ أم نهيئ له عملا وخدمات تعليمية وصحية .. إلخ، كمصارف لما تحصله الدولة من أموال؟ وبعبارة أخرى: هل نعطيه سمكة أم نعلمه الصيد؟ .. الغرض قائم واجب النفاذ وإن اختلفت آلية الإنجاز.
الإسلام والعلم والتعليم والثورة المعلوماتية
وتقتضي أمانة الحوار أن نعترف بأن قضية المجتمع ليست اقتصادا فحسب على الرغم من قصور فهم الإسلامويين لمعناه ونطاقه. ولكن ما الحل الذي نص عليه الإسلام لقضية التعليم وبرامجه بمراحله المختلفة ومناخ وأسس تربية الإبداع وإحداث ثورة تعليمية تفي بمقتضيات حضارة العصر؟ وما الحل الذي نص عليه الإسلام العقيدة لقضية البحث العلمي والتطوير وإنشاء قاعدة بحث وتشجيع حرية الابتكار والتطبيق وإنشاء قاعدة معلومات وشحذ روح النهم المعرفي؟ لم يرد نص ديني يحدثنا عن كل هذا أو عن كيفية بناء مجتمع المؤسسات العلمية أو ما يسميه الباحثون الآن مجتمع العلم الكبير كمؤسسة متشابكة محليا وعالميا ومتطورة وملتزمة وملزمة. لم يحدثنا نص عن إنشاء منظمة علم وثقافة في المجتمع تكون أداته لتحويل طاقات المجتمع وقدراته العلمية والتقانية إلى مخرجات ثقافية وتعليمية وحربية واقتصادية .. إلخ، والعمل في ترابط بالشبكة العالمية.
لم يعرف عصر صدر الإسلام مسألة تنظيم البحث العلمي أو بناء مجتمع العلم الكبير كمؤسسات وحرية الإبداع العلمي والفكري والمنافسة والسبق الإبداعي على الصعيد العالمي. ونظلم أنفسنا ونظلم الدين (العقيدة) إذا ألزمناه بأن يقدم نصا نعيد على هديه بناء مجتمعنا ليكون مجتمع مؤسسات علمية ومراكز بحث وأن يكفل حرية الإبداع واستيعاب علوم العصر على أساس عقلاني نقدي دون قيود حظر أو تحريم.
إن هذا الزعم يشبه رطان من يفسرون «ما فرطنا في الكتاب من شيء» بأنها تعني أن القرآن حوى كل الاكتشافات العلمية التي عرفتها وسوف تعرفها البشرية إلى أبد الآبدين .. وهذا هراء ليس من الدين. لقد اجتاز العالم عتبة عصر جديد هو عصر الثورة المعلوماتية الذي يقتضي ثورة في التعليم والبحث العلمي والعلاقات الاجتماعية وهيكل المجتمعات ومؤسساته وبناء الإنسان ووضع صيغة لنظرة تاريخية مستقبلية علمية. وهو ما لم يرد به نص موروث منذ عصر صدر الإسلام، وليس هناك حل إسلامي لجميع البلدان يوضح لها كيفية تجاوز مراحل التطور الاجتماعي وصولا إلى حضارة العصر. وليس في هذا الإنجاز نقض لدين ما من حيث هو خطاب روحي، أو قيمي داعم للنهوض.
رطان أسلمة العلوم
ونسمع من يقول: الإسلام هو الحل .. في قضية الصحة والطب، ولكنني أذكر الإسلامويين بمقولة عالم الاجتماع المسلم ابن خلدون الذي قال: جاء الإسلام ليعلم الناس الدين وليس الطب والزراعة. إننا نجترئ على الحقيقة والواقع إذا قلنا إن الإسلام هو الحل لعلاج أمراض القلب والذبحة واضطراب الهرمونات والكبد .. إلخ، إلا إذا ذهبنا مذهب البعض، وكما يشيع على ألسنة العامة، أن نطرح العلم جانبا ونلتزم العلاج بالقرآن ونغلق المستشفيات وكليات الطب والمعامل.
অজানা পৃষ্ঠা
وقد يكون المقصود هو كما يريد الإسلامويون الدعوة إلى أسلمة العلوم، وهذه دعوة يائسة وغوغائية؛ إذ كيف نؤسلم علم الرياضيات؟! وهل نعود إلى الخوارزمي والبيروني؟ وكيف نؤسلم نظريتي النسبية العامة والخاصة، أو نظرية الكم أو نظرية التطور أو أركيولوجيا الحضارات؟
إننا لو قضينا عشرات القرون في ظل شعارات مبهمة وملتوية لن نحصد غير الوهم .. حصادنا منذ قرون. أفهم أن نتنافس من أجل صياغة القضية، قضية تخلفنا ومظالمنا، على نحو علمي موضوعي صحيح، وتكون لنا نظريتنا عن تطور مجتمعاتنا وفكرنا وتراثنا .. إلخ. حري أن تواتينا الجرأة ونقرر أن المجتمعات الإسلامية على اختلاف مواقعها الجغرافية هي مجتمعات متخلفة، وبينها وبين حضارة العصر هوة مهولة ومروعة. وليس مطلوبا أسلمة العلوم، بل علمية عقل المسلمين؛ أن يلتزم المسلمون بالفكر العلمي ثقافة، وبالعلم منهج بحث وتطبيق في شئون الحياة، وأن تكون لنا مراكز علمية وإبداعات علمية وعلماء.
إن الدين؛ القيم والأخلاق دون الشكليات الفارغة والرطان الأجوف، ليس ضد العلم الذي هو إعمال العقل والفهم المنهجي النسقي للظواهر .. ظواهر الطبيعة والمجتمع. ولكن الشعارات المعماة والمبتسرة ابتغاء مصالح سياسية «دنيوية» هي ضرب من التجهيل والتضليل للعامة، وتخليد لواقع متخلف، ونعرف أن الدين الإسلامي ضد الجهل والجاهلية وضد الضلال والضالين المغضوب عليهم.
أجدر بنا أن نكف عن شعار مبتسر مثل «الإسلام هو الحل» أو عن شعار غوغائي مثل «أسلمة العلوم»، وأن ندعو إلى نهضة المجتمعات الإسلامية في مجال العلوم المختلفة .. الدين فطرة .. قواعده بسيطة يلتزم بها العامة والخاصة، وإن الأخذ بأسباب النهضة العلمية ليس خروجا عنها، وإنما العلم والإبداع العلمي والتكنولوجي سبيلنا لامتلاك ناصية حضارة العصر أو اللحاق بركب التقدم. إذا تحقق لنا هذا سوف يشير علماء العصر إلى علماء المجتمعات الإسلامية ويقولون هؤلاء قوة دفع حضاري ومصدر زاد علمي ننهل منه.
الديمقراطية والشورى
ونظلم أنفسنا والإسلام والفكر العلمي حين نزعم أن الشورى هي الحل الإسلامي العصري شأن الديمقراطية؛ ذلك لأن الديمقراطية عملية تطويرية تاريخية بدأت قرينة مجتمع نشأ حديثا مع حضارة عصر التصنيع وآخذة في التطور ليغتني محتواها مع مر العقود والثراء الحضاري. ولقد كانت الشورى آلية ملائمة لإدارة شئون المجتمع في عصر مضى يحكمه الشيخ أو الولي ومعه من يختارهم هو من أهل الحل والعقد دون حق الإلزام. ولكن التنظيم الديمقراطي آلية مستحدثة ومتطورة وإن تعددت صورها وفقا لظروف كل مجتمع.
ونظلم الدين إذا زعمنا أنه نظم ونص على - وأعود لأقول نظم ونص على - حقوق المواطنين من العامة وواجباتهم دون تمييز إزاء المشاركة في صنع القرار والمحاسبة وإقالة أو تنصيب الحاكم وتنظيم شئون إدارة المجتمع، وتشكيل الأحزاب والنقابات وتوصيف السلطات والمؤسسات الاجتماعية وأساليب حسم الخلافات والتزام المستويات الاجتماعية المختلفة بهذا كله .. إلخ؛ أي ما نسميه الديمقراطية وهي نظام أو آلية متطورة أبدا وليست وصفة كاملة منتهية. هذا عن الواقع المحلي ناهيك عن المنظمات الدولية وعلاقاتها والمنظمات غير الحكومية وما قد يستجد من تشكيلات غير مسبوقة.
الافتراء على الدين باسم الدين
الفكر الإنساني يرفض الآن كل مقولة عن وجود نسق فكري كامل وتام وناجز يحسم كل مشكلات البشر على اختلاف الزمان والمكان، ومغلق دون أي فكر جديد. وإن الإسلامويين بادعاءاتهم هذه يورطون الإسلام الدين في غير ما تطرق إليه، ويتجاوزونه من حيث لا يدرون، بل يضعون الفكر الإسلامي، لا الدين، في موضع التقصير؛ لأن الدين القيم أجل وأعظم من مزاعمهم حين نلتزم به قيما هادية. وأجدر بنا لكي نكون صادقين مع شعبنا الذي عانى الكثير وعرف مذلة التخلف بسبب المقولات الساذجة، ولا أقول المغرضة، أن نتخلى عن أخلاقيات المراوغة في الحوار، وأن نكون على مستوى المسئولية ولا ننطق في شئون الدنيا إلا حقا وعلى هدى فكر علمي موضوعي رصين وأصيل.
المجتمع العلمي هو الحل
অজানা পৃষ্ঠা
مأساتنا ليست أننا ابتعدنا عن الإسلام. وإنما أن مجتمعاتنا عزفت عن المعرفة العلمية والبحث العلمي، وعاطلة عن العمل والإنتاج، وتعيش عيالا على الآخرين، ينتجون العلم والتكنولوجيا، ويتطورون ونحن غارقون في نشوة الاستهلاك السفيه الذي لا يشبع ولا يغني .. والإنتاج لا يكون إلا بامتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا وحرية الإبداع .. نحن عاطلون عن العمل الاجتماعي الذي يفي بمقتضيات الظرف الوجودي لعصرنا الراهن، عصر العلم والتكنولوجيا وثورة المعلومات والمشحون بالتحديات على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي تعزيزا لحق البقاء. إن العمل والإنتاج على مستوى حضارة العصر؛ أي العلم والتكنولوجيا، هو سبيلنا لتحقيق الذاتية الاجتماعية، هويتنا، التي نبحث عنها عبثا في كتب الأقدمين، وهو سبيلنا لبناء الإنسان وتغيير المجتمع وحسم حالة اختلال الأنا القومية واختلال التوازن الحضاري بيننا وبين المجتمعات المتقدمة. وهو ما لا يتعارض مع قواعد كل الديانات .. هذا وإلا سنقضي قرونا أخرى أسرى أوهام من يحرثون البحر.
الفعل/الفكر العربي ولغز النهضة1
في البدء كان الفعل .. وانبثق عنه الفكر.
حين صدر لي عام 2002م كتاب «الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل» ظن كثيرون أنني اخترت عنوانا يعبر عن نزعة تشاؤمية. بيد أنني كنت ولا أزال، أرى أنه عنوان متفائل؛ ذلك لأن التفاؤل عندي ليس كما يرى المتطيرون منحة تنبني على مبررات طوباوية، وإنما أرى التفاؤل أملا ينبني على جهد إنساني وليد إرادة وسعي نضالي منهجي واضح المقصد والهدف، أعني أنه ثمرة فعل إنساني مجتمعي عقلاني وليس شيئا مجانيا.
لهذا فإن عبارة سوسيولوجيا الفشل تعني أن الفشل راجع لأسباب اجتماعية تدخل في نطاق مسئولية الإنسان /المجتمع؛ وأن الإنسان قادر بإرادته وفعله وفكره، ومنهجه العلمي في الفعل والفكر، أن يصحح الخطأ ويزيل الأسباب إذا عرف نفسه كوجود تاريخي؛ أي وجود له امتداد في الزمان، وعرف عصره، ومقتضيات هذا العصر وتحدياته؛ وتكيف اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا .. إلخ للاستجابة نحوها .. ويصبح البحث عن الأسباب أكثر إلحاحا حين يتواتر الفشل بينما الآخرون انعقدت لهم وبجهدهم أسباب السبق والنجاح دون أن نقارن أو نسأل كيف ولماذا؟ ورضينا بالبقاء قانعين بالاكتفاء والانكفاء على الذات ثقافة وتراثا.
ويعني الفشل أن المجتمع عاطل من المعرفة الكاملة والصحيحة نسبيا ومرحليا لتوجيه مسارات حركته وطاقاته وأنشطته الاجتماعية بصورة فعالة في الاتجاه الصحيح للتطوير .. أي للتكيف مع حضارة العصر بهدف البقاء والعطاء والارتقاء والمنافسة. وطبيعي أنه في حالة غياب هذه المعرفة/الفكر في صورة نسقية شاملة، وغياب التكامل بين الفعل المجتمعي وثيق الصلة بالنهضة ومن ثم غياب الفكر النهضوي. هنا يغدو واقع المجتمع أو نشاطه ضربا من الشواش/المحاولة والخطأ مع نسبة عالية من الإخفاق، وحركة غير مطردة، وغير سوية ولا مستوية مختلة التوازن، عاجزة عن كفالة أسباب البقاء ناهيك عن المنافسة والتطوير ..
قضيتنا المحورية هي أزمة الفكر الاجتماعي العربي التي هي في جوهرها أزمة فعل التحول الاجتماعي الحضاري، أو أزمة إنتاج المجتمع لوجوده على مستوى منافس لحضارة العصر. والقضية ليست جديدة بل قديمة معادة ومكررة تواترت على ألسنة المصلحين الاجتماعيين: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ ولكنني استكمالا وتوضيحا للرؤية، أطرح مع السؤال أسئلة أخرى: كيف تقدم غيرنا وقد كانوا في السابق أسوأ حالا؟ وكيف نتقدم نحن؟ ما هي شروط وآلية ومعايير التقدم؟ ثم كيف تكون ثقافتنا الاجتماعية حافزة لفعل التقدم والتحدي والمنافسة، حافزة لفعل الإبداع والتجديد والتغيير؟ وما هو الخطأ في أسلوب تناولنا للقضية بحيث مضت قرون وتعاقبت أجيال وتفاقمت الحال، وأزمن الفشل، وضاعت من أقدامنا الطريق وبقي السؤال مجرد سؤال ولا فعل؟
أحاول الخروج من السياق التقليدي في النظر إلى عصر ذهبي مضى، والزعم أن الفشل مرجعه أننا تنكبنا طريق السلف. فالحضارات أطوار تراكمية صاعدة ، وليست امتدادا متجانسا. والحضارة فعل ذاتي بالأصالة وليس بالنيابة .. وإن ما صنعه السلف لا يغني عن جهد الخلف، وليس السلف بإنجازاتهم قدوة للمحاكاة بل قدوة لمنهج وثقافة الفعل وصناعة الوجود ومواجهة التحدي.
وأحاول الخروج أيضا عن مقولة التحديث محاكاة للغرب فإن الحداثة معيار متجدد، والتحديث متعدد الآليات، وفعل ذاتي أصيل، والتحديث ثقافة حافزة للفعل والمنافسة نتعلم أسسه ومنهجه، ونستوعب خبراته على صعيد عالمي ولا نستورده .. إنه صناعة لا حيازة، وفعل ابتكاري متجدد وليس مظهرا للمحاكاة .. والتحديث ثقافة تغيير وتكييف.
القضية هي التطوير .. تطوير الإنسان/المجتمع .. تحول حضاري ومشاركة؛ أي فكر وفعل إبداعيان وليس تنمية. التحول الحضاري امتداد وتعزيز رأسي صاعد أو كيفي يفضي إلى نشوء أنماط وأشكال جديدة، ويحقق إنجازات وفق معايير المنافسة لحضارة العصر، كما يفضي إلى نشوء فكر ورؤية جديدين. والحضارة عندي هي عملية تاريخية قوامها إبداع الأدوات المادية والإطار الفكري-القيمي في تكامل، استجابة لتحديات وجودية يفرضها الواقع المتجدد والطبيعة بتفاعلهما مع الإنسان/المجتمع.
অজানা পৃষ্ঠা
وهذا تعريف يتسم بالدينامية إذ يدمج الإنسان كأحد مكونات البيئة الحضارية بسلوكه وفكره وقيمه، ويتسق مع التعددية والتطور في الزمان والتنوع في المكان.
تطوير المجتمع موقف من الحياة ونمط سلوكي في الاستجابة لتحديات الوجود، وفهم للذات ولدورها واستحقاقاتها الوجودية والمعرفية بشأن الواقع الراهن والمستقبل المنشود الذي يصنعه المجتمع بإرادته. وقد تكون التحديات رؤى وتخيلات من ثقافة موروثة حال انفصال الكلمة/الفكر عن الواقع، وقد تكون التحديات واقعا ماديا نشطا محليا وعالميا مثل واقع العلم والتكنولوجيا.
والتطوير الاجتماعي، أو النهضة، نمط من أنماط التكيف الذي هو آلية بقاء وتعزيز الوجود والهوية في إطار المنافسة وصراع الوجود. ويمثل التكيف هنا حلقة في سلسلة تاريخية ممتدة تجسد قدرة بشرية تتميز بالمرونة بدينامية الاستجابة إزاء التحديات الداخلية والخارجية مما يكفل للمجتمع مرونة ومناعة على الصعيدين الفكري والمادي، وقدرة على البقاء والعطاء.
والتطوير الاجتماعي، حركة هادفة وصاعدة للمجتمع من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى وأغنى للطاقة والفعالية والكيف أو الحالة الإنتاجية والتعقد والفهم والإبداع وفرص الاختيار والسيطرة والاستمتاع والإنجاز في إطار معايير حضارة العصر.
ويقتضي تطوير المجتمع في ضوء حضارة عصر الصناعة والمعلوماتية إطلاق وتوجيه مسارات طاقات جميع أبناء المجتمع عبر مزيد من التنظيم الاجتماعي المعقد بهدف تعزيز الطاقة الإنتاجية وتعظيم المخرجات؛ ولهذا تمثل عملية التطوير فكرا نقديا للموروث ومستقبلي التوجه والمسار، وتمثل أيضا إبداعا اجتماعيا ذاتي المنطق؛ وبذا لا تكون عملية التطوير محصلة عوامل خارجية محضة، وإن أفادت بها، وإنما تحمل خصوصيات ثقافة وتاريخ المجتمع، وتحمل طبيعة الوعي الاجتماعي بالتحديات وقبول لهذه التحديات والصراع ضدها.
ويمثل العلم، روح حضارة العصر، إنجازا فكريا نظريا وإنجازا ماديا ثقافيا في تلاحم وتطور مطرد. وأصبح العلم والتكنولوجيا هما قصبا السبق وفرس الرهان، وأساس التغيير والإنجاز والتمايز أو التفاضل بين المجتمعات وعماد البقاء والصراع. ولعل من أهم أدوات التطوير الاجتماعي مع العلم والتكنولوجيا رأس المال الموظف اجتماعيا نحو الهدف، والتنظيم المؤسسي لأنشطة المجتمع وما تتمتع به من حريات، والبنية الأساسية والسياسية والاجتماعية والتعليم والمهارات أو الخبرات الفنية ووقت الفراغ .. إلخ.
وجميع هذه الأدوات غايتها بناء الإنسان؛ أي تعظيم رأس المال البشري للمجتمع؛ كما وأنها ثمرة المجتمع. أعني أنها تشكل عملية مجتمعية مطردة في سياق صراع الوجود. وحتى لا نقع في خطيئة الشكليات والمظهريات يتعين النظر إلى ما وراء أدوات التطوير؛ أي إلى الإنسان/المجتمع المبدع لهذه الأدوات وخالق التكنولوجيا والفكر، مع التماس الشروط اللازمة للنجاح .. النجاح في بناء إنسان جديد.
وأعود إلى سؤالي الأساسي: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ المشكلة المأساة أننا عند محاولة الإجابة ظللنا أسرى التأمل النظري المجرد للمجتمع والواقع العالمي، وبقي السؤال سؤالا دون إجابة. لم ننظر إلى واقع حال المجتمع، والمجتمعات في وجودها التاريخي، ولم نقارن بين الوجود الحركي الدينامي المتغير وبين البقاء الساكن الراكد ونعرف أو نفكر في أسباب هذا وذاك ونصوغ فكرا علميا عن تطور المجتمعات وعن دور الإنسان العام صاحب الإرادة والمشاركة الفعالة وفق مقتضى حضارة العصر ونحدد معنى الفعالية .. فعالية الإنسان/المجتمع .. ولم نفكر في قانون صراع الوجود وأسبابه الطبيعية وأن المنافسة/الصراع هما قانون الوجود .. وغاب عن الأذهان معنى وضرورة التكيف كفعالية وإنتاج اجتماعي، وإنما قنعنا بالنظر المجرد في إطار الموروث المفارق زمانا ومكانا .. وحين يقع المجتمع أسير النظر المجرد، مع تعطل الفعل الإنتاجي الإبداعي الاجتماعي فإنه عمليا يقع أسير الفكر التقليدي الموروث، ويكون الوجود الاجتماعي عنده مجرد امتداد سكوني نمطي للماضي.
هذا على عكس تأمل الواقع في تغيره بفعل الإنسان نشأة وتكوينا وصيرورة، وتأمل الممارسة العملية والعمل الاجتماعي في مواجهة التحديات. ذلك لأن هذا الواقع الحي المتغير بفعالية الذات هو أساس ومعين التفكير الإبداعي .. تجديد الفكر وأدوات وأسلوب ممارسات العمل إزاء ظواهر الوجود؛ ولهذا السبب ترانا دائما نبدأ فكريا من جديد .. تمضي العقود وربما القرون، ونعيد الأسئلة ذاتها، ونعيد تأملها من خلال إطار فكري تقليدي. يحدث هذا مرارا لا لشيء إلا لأننا لم نتغير؛ أعني لأننا لا نعمل؛ إذ العمل الاجتماعي هو القوة الدافعة للتغيير، وقوة لتركيز الانتباه والفهم واستخلاص الفكر الجديد أي الإبداع.
وعشنا قرونا بغير مشروع وجودي، وقنعنا بالبقاء. والوجود غير البقاء .. البقاء اطراد عشوائي بينما الوجود مشروع راهن ومستقبلي، وفعل إرادي عقلاني، والفعل المجتمعي؛ أي العمل الاجتماعي هو أساس توليد الفكر المجتمعي المتجدد .. فكر جديد لصناعة مشروع الوجود .. ولكن الشعور أو الظن بأننا خير الأمم بمعايير الحياة الدنيا وتجلياتها وأنشطتها الحضارية يعني نهاية الفعل المجتمعي الذي هو قوة التغيير الهادف، ومن ثم نهاية لعملية توليد فكر جديد.
অজানা পৃষ্ঠা
ولكن النشاط الإنتاجي للمجتمع ارتقاء مطرد، إنه عمل اجتماعي هادف متوحد بالفكر، حيث الفعل والفكر وجهان متلازمان للعمل الاجتماعي وبينهما تغذية متبادلة تحفز نحو مزيد من التطور. وإذا تعطل الفعل تعطل وانحسر الفكر، ويظل النشاط الفكري حدثا فارغا لأنه غير ذي محتوى؛ أي بغير رصيد واقعي، وبغير معنى علمي. صفوة القول: «قضيتنا فعل حضاري جديد، يولد فكرا عصريا، يضع أقدامنا على طريق النهضة العربية.»
توماس كون .. ونسبية المعرفة
فلسفة العلم بدون تاريخ العلم خواء،
وتاريخ العلم بدون فلسفة العلم عماء. «كانط»
القرن العشرون الذي أفل منذ عقد، هو بمعنى من المعاني الوجه المقابل للقرن التاسع عشر، على نحو يؤذن بعالم جديد تماما في فكر وفلسفة إنسان القرن الحادي والعشرين. كان القرن التاسع عشر قرن العقل واليقين؛ أما القرن العشرون فهو قرن الشك والاحتمال. وكان القرن التاسع عشر قرن الإيمان بالنظريات والمذاهب، بل وواحدية النظرية أو المذهب، أما القرن العشرون فهو قرن التمرد والثورة التعددية. وكان القرن التاسع عشر قرن الثقة في الاستقرار وانتصار الإنسان، أما القرن العشرون فهو قرن الأزمات والصدمات. وكان القرن التاسع عشر قرن الذات-الجوهر الفاعلة المتعالية على السياق والتاريخ؛ أما القرن العشرون فهو قرن الذات-الموضوع رهن السياق ووليد التاريخ. بدا القرن التاسع عشر تتويجا لفكر التنوير، عصر العقل وتأكيد الذات واستقلال الأنا عن الموضوع؛ وهو ما لخصه شعار فلسفة «ديكارت» أنا أفكر، لينطلق من الأنا الديكارتي والإيمان بالوجود. ومن ثم كان القرن التاسع عشر قرن استقلال الفكر والعقل والثقافة والحقيقة؛ أما القرن العشرون فهو قرن تاريخ وسوسيولوجية الفكر والعقل والثقافة، الحقيقة أنه قرن البنية التي تشكل فيها الذات والموضوع نسيجا واحدا في بعدي التاريخ والمجتمع.
وأهل القرن العشرون بأزمة عصفت بكل دعائم الثقة، وبكل أركان اليقين، وبكل مبررات استقلال الذات أو الموضوع. وثار العقل على نفسه في سياق من الأحداث الاجتماعية المأساوية وبقوة دفع التطورات والإنجازات العلمية الطبيعية منها والإنسانية. وتغيرت مقومات الفكر بل وأسس الثقافة ذاتها.
وفي ضوء الثورة الكاسحة التي شملت الفيزياء الكلاسيكية امتدت إلى علوم طبيعية أخرى وانعكست على الفكر الفلسفي والعلوم الاجتماعية، بات مشروعا أن يسأل عالم مثل «هيزنبرج»: ما هو محتوى الحقيقة أو الصدق للفيزياء الكلاسيكية أو الحديثة؟ لقد غيرت نظرية النسبية صورة الكون بعد أن غيرت مفهوم الزمان والخصائص الهندسية للمكان. وأثبتت النظرية النسبية أن أساس العلوم المضبوطة الذي كان يعتبر أمرا بديهيا يمكن أن يتغير بعد أن أحاطت الشكوك بجوهر الفيزياء الكلاسيكية. لقد انتفى الاعتقاد بأن مسار الحدث موضوعي ومستقل عن المشاهد.
ولوحظ كما يقول هيزنبرج أن النظريات الحديثة لن تأتي وليدة أفكار ثورية أضيفت من خارج العلوم المضبوطة، بل على العكس لقد شقت طريقها عنوة في البحوث التي كانت تحاول في دأب إنجاز برنامج الفيزياء الكلاسيكية؛ أي إن هذه النظريات نبعت من داخل طبيعتها هي. ومن ثم برز السؤال كيف حدث ويحدث التحول الثوري من الداخل؟ وكيف يتطور العلم في التاريخ؟ أو ما هي الدينامية الباطنية لحركات العلم في التاريخ؟ وما معنى فهم العالم أو الطبيعة ومعنى الحقيقة العلمية؟ وماذا عن العلوم لو نظرنا إليها تاريخيا؟
1
والعلاقة بين المعرفة العلمية والثقافية. ما معايير العلم وكيف نمايز بين العلم واللاعلم؟ كيف نشأت المعرفة العلمية وما وظيفتها في المجتمع وحركتها في التاريخ؟
অজানা পৃষ্ঠা
هكذا فرضت إشكالية الأسس الأبستمولوجية للعلم نفسها في ضوء جديد حددته، وألقت أضواء على أزمة العلوم الطبيعية وما انطوت عليه من مشكلات فلسفية معرفية ومنطقية. هذا علاوة على الأضواء الكاشفة لإنجازات العلوم بعامة بما في ذلك العلوم الإنسانية مثل علوم اللغات والأنثروبولوجيا وسيكولوجيا الإدراك وسوسيولوجيا المعرفة ودراسات الثقافات المقارنة. وقد أسهمت جميعا في تفسير العديد من المفاهيم السائدة وتوضيح العملية المعرفية، وعدلت من أسلوب تناول الظواهر، وغيرت صورة العالم تغيرا جذريا. نضيف إلى هذا الحوار المضطرم بين هذه العلوم جميعا حول محور العملية المعرفية والذات والموضوع. وعلاقة المعرفة العملية بنسق الموضوعات والمناظرة.
واحتلت مشكلة تطور العلم في التاريخ مكان الصدارة منذ مطلع القرن العشرين ولا تزال. وبرزت أسماء لعلماء مرموقين؛ وتعددت أو تضاربت الآراء، وانعقدت مؤتمرات دولية لمناقشة القضايا المتعقلة بتطور العلم في التاريخ. وتضافرت جهود علماء الطبيعة ومؤرخي العلم لصوغ اتجاه جديد للبحث النظري التاريخي يمكن أن نسميه منطق التطور العلمي، وموضوعه دراسة ميكانيزمات إنتاج وحركة العلم، وتحليل تطور بنية العلم، ومناهج تحصيل المعارف الجديدة، واكتشاف قوانين التقدم العلمي ومعاييره، وأشكال وصيغ التقدم، وعلاقة العلم بالتراث الثقافي ونسق الفكر المشترك «الأبسيتمي» وعلاقة التقدم العلمي بالتقدم الاجتماعي والارتقاء الحضاري، والعلم والتنبؤ بالمستقبل؛ والعلم والسياسات القومية؛ والعلم والإبداع في ضوء العلوم المختلفة، والعلم والتعليم .. إلخ، والعلم وما قبل العلم أي معايير الحكم على معرفة بأنها علمية ولاعلمية. وحين بدا أن العلم أو إنجازات العلم تشكل خطرا يتهدد الإنسان بل والوجود الحضاري فرض السؤال نفسه: هل مسيرة العلم عشوائية أم يمكن للإنسان أن يحكم قبضته على مسيرة العلم تخطيطا وتوجيها ضمانا لسداد وصواب تطوره؟ وبرزت أهمية فهم قوانين العلم كعملية تاريخية ممتدة وكقوة اجتماعية فاعلة، سواء من زاوية معرفية أو من زاوية التوجيه العملي لمسار العلم.
وتعددت مدارس الفكر، وتعقدت مناهج التناول مع تعقد فروع المعرفة واتساع نطاقها وازدياد تخصصها وغزارة إنجازاتها وعمق إشكالياتها. ومؤرخ العلم لا بد وأن يضع في الحسبان كل فروع المعرفة، ويبحث العلاقات المتداخلة بينها، المتواترة والمركبة. هل يدرس العلم كفرع معرفي، أم العلم كظاهرة اجتماعية ونشاط له تاريخ؟ وهل هناك علم عام ينصب عليه البحث وتستقى منه معطياتنا؟ وهل يدرس العالم الفرد أم العلماء كقوة اجتماعية؟ وماذا عن الجوانب النفسية للعلماء المبدعين وأسباب تميزهم؟ وكيف عبروا عن أنفسهم، ودور البيئة والتراث في هذا كله؟ وهل يدرس التسلسل المنطقي لحركة العلم وترابط الوقائع العلمية وتقديم تفسير منطقي للاكتشافات؟
وشاعت مع الحرب العالمية عبارة
Big Science
أو النشاط العلمي المكثف والمنظم والجمعي. وظهر اتجاه جديد متميز لدراسة مظاهر اطراد التقدم العلمي وأدائه كمحاولة للإجابة عن هذه الأسئلة وحسم تلك الإشكاليات. وعرف هذا الاتجاه باسم علم العلم
Scientology or Science of Science
ويسميه البعض حكمة العلم
Scientosophy
أو الدراسة التسجيلية للعلم
অজানা পৃষ্ঠা
Scien togoraphy
وكانت قد توافرت مادة دراسية وافية عن العلم وتاريخه وحركته وتنظيمه وتخطيطه تصلح أساسا لموضوع علم العلم الذي وضع لبناته الأولى العالم البريطاني المبرز جون برنال في كتابه «الوظيفة الاجتماعية للعلم» ثم كتاب «العلم في التاريخ». وهذا لا ينفي محاولات سابقة منذ القرن السابع عشر، حاولت أن تلقي نظرة شاملة إلى العلم ولكنها تأملية خالصة.
ويعتبر علم العلم نسقا مركبا يتألف من أفرع وجوانب كثيرة: البنية المنطقية للعلم، منطق تطور العلم، وسوسيولوجيا العلم، تنظيم العلم، اقتصاد العلم وطبيعة الإبداع وسيكولوجيا النشاط العلمي، ونظرية تنظيم العلم أو إدارة العلم باعتباره مؤسسة اجتماعية .. إلخ. وتجري دراسة هذه الجوانب جميعها في وحدة متكاملة مع بيان تأثير كل منها في الآخر . ويهدف هذا المنهج في البحث إلى الكشف عن أداء وتطور العلم كنسق خاص والإفادة بهذه النتائج في النظرية والتطبيق.
وعلى الرغم من أن الاهتمام ببحث موضوع المعرفة بعامة، والمعرفة العلمية بخاصة باعتبارها ظاهرة متطورة تاريخيا ليس بالبحث الجديد، فإن الجديد هو تباين وجهات النظر، وتعدد مناهج البحث والنشاط المحموم إلى حد الصراع والتطاحن في هذا الصدد؛ مما يكشف عن اهتمام وحاجة ملحة، وإدراك لأهمية دراسة هذه الظاهرة في إطارها الثقافي الاجتماعي التاريخي مع الاستفادة بإنجازات العلوم الإنسانية التي دفعت إلى تغيير مسار التفكير الفلسفي والدخول في مواجهة مع فلسفة اتخذت لنفسها اسم «الفلسفة العلمية» ونعني بها الوضعية المنطقية.
فقد شهد العلم تطورات دفعت مفكرين عديدين إلى أن ينحوا نحوا آخر جديدا غير وضعي في تناول فلسفة العلم. والجدير بالذكر هنا أن الفلسفة الوضعية نزعت إلى إغفال تاريخ العلم باعتباره غير ذي صلة بفلسفة العلم، وبناء على الاعتقاد بأنه «لا منطق للاكتشاف» وأن عمليات ملاءمة الاكتشاف العلمي والتقدم العلمي هي موضوع تختص بدراسته علوم أخرى مثل علم النفس أو علم الاجتماع أو غيرهما، حيث إن فلسفة العلم مقتصرة على منطق البحث فحسب، وأن عالم المنطق مهمته تحديد اللغة ضمانا لدقة وتطابق الاصطلاحات، وأن ما يعنيه هو البنية المنطقية لكل القضايا الممكنة التي تزعم أنها قوانين علمية.
واعتاد فلاسفة التجريبية المنطقية النظر إلى تاريخ العلم باعتباره أساسا مسجلا لعمليات إزاحة تدريجية للخرافة والهوى وغير ذلك من معوقات التقدم العلمي. وتتمثل عمليات الإزاحة في إضافات متزايدة باطراد وتوليف للمعارف لتندرج كل فئة من المعارف العلمية الجديدة في إطار البحث العلمي الخاص بها .. وهذا هو التفسير المألوف لتاريخ العلم، والذي أطلق عليه توماس كون وغيره «مفهوم التطور عن طريق التراكم» الذي يتصدى له في كتابه هذا.
وبرزت خلال حركة التمرد على فلسفة العلم هذه آراء زعمت أنها جديدة وراديكالية ليس فقط من حيث مذهبها بشأن العلم وتطوره وبنيته بل وأيضا من حيث تصوراتها للطرق الملائمة لحل مشكلات فلسفة العلم وبيان هذه المشكلات ذاتها.
ومن هذه الدراسات المتمردة كتاب «بنية الثورات العلمية» تأليف «توماس كون» العالم الأمريكي الذي تخصص في تاريخ العلم. وصادف كتابه استجابة واسعة، وأثار جدلا ساخنا لم يهدأ بعد، واحتل الصدارة في جداول عدة مؤتمرات دولية معنية بتاريخ العلم. وصدرت دراسات عديدة تركزت على نظريته ما بين تأييد أو معارضة لها أو توضيح لآثارها وانعكاساتها على مناهج بحث لفروع علمية متباينة وبخاصة العلوم الاجتماعية.
لب نظرية «كون» فكرة النموذج الإرشادي
. وقد أخذ المصطلح عنده أكثر من معنى؛ إذ اضطر إلى تحديده بدقة أكبر عند الرد على منتقديه. والنموذج الإرشادي أو الإطار الفكري هو تلك النظريات المعتمدة كنموذج لدى مجتمع من الباحثين العلميين في عصر بذاته، علاوة على طرق البحث المميزة لتحديد وحل المشكلات العلمية وأساليب فهم الوقائع التجريبية. ويركز «كون» على الطبيعة الجمعية للنشاط العلمي مؤكدا أن العالم الفرد لا يمكن اعتباره ذاتا كافية للنشاط العلمي. وانتهى «كون» إلى نتائج بعيدة المدى ذات طبيعة أبستمولوجية ومنهجية. ولا يرى «كون» أن هناك نقلات منطقية بين النماذج الإرشادية المنفصلة إذ يشبهها بعوالم مختلفة يعيش فيها الباحثون.
অজানা পৃষ্ঠা
والنماذج الإرشادية غير قياسية؛ إذ ثمة انقطاع أو قطيعة بين المفاهيم النظرية الأساسية المختلفة في العلم. ومن ثم فإن حركة العلم، أو لنقل النظريات العلمية أو النماذج الإرشادية الجديدة، ليست نتيجة منطقية ولا تجريبية للنظريات السابقة عليها.. إنها لا قياسية وحقائقها نسبية، وفي كل حقبة علمية أو مع كل ثورة علمية تكون السيادة لنموذج إرشادي له الغلبة. والنماذج الإرشادية في تاريخ العلم الواحد مختلفة عن بعضها اختلافا أساسيا، وتحل محل بعضها البعض على مدى مسار التطور التاريخي للمعرفة العلمية.
ويرفض «كون» رأي الوضعية المنطقية في اعتبار بنية النظريات العلمية نسقا من العلاقات الشكلية الخالصة لأبنية لغوية؛ إذ يرى أن نسق النظرية غارق أو منغمس في مخططات معرفية هادفة تحدد كلا من طابع ومسارات كل تطور جديد للنظرية، وكذا أسلوب تحديد التجارب وتفسيرها. وهو هنا متأثر بفكر وفلسفة «وورف» الذي استخلص بالاشتراك مع «إدوار سابير» من نتائج دراساتهما للغات ، مجموعة من القوانين على أساس عرقي، وانتهيا إلى ما يعرف باسم فرض النسبية اللغوية.
وحسب هذا الفرض فإن العالم الذي ندركه ونفسره قائم لاشعوريا على أساس معايير لغوية محددة. ونحن نحلل أو نجزئ الواقع إلى عناصر وفقا لقواعد تصنيف «وهي قواعد مجسدة في وحدات قاموسية أي مفردات اللغة» ووفقا للأبنية النحوية الأصيلة في اللغة موضوع البحث. وحيث إنه لا توجد لغتان متماثلتان فإن بالإمكان القول إن المجتمعات المختلفة موجودة في عوالم مختلفة. فنحن نحلل الطبيعة وفق خطوط حددتها لنا لغتنا الوطنية وهو ما يعني أساسا أن تنظيمها يتم على أساس أنساق اللغة الموجودة في الأذهان. وهكذا ندخل في مبدأ جديد من النسبية يقضي بأن جميع المشاهدين لا يسترشدون بنفس الدلائل أو الشواهد الفيزيقية وصولا إلى نفس صورة الكون ما لم تكن خلفياتهم اللغوية متماثلة. وحسب فرض النسبية اللغوية فإن الصور اللغوية المختلفة عن العالم يمكن أن تصنع أبنية فئوية مختلفة؛ ومن ثم تؤثر على معايير التفكير، كما تؤثر بالوساطة على معايير سلوك مجتمع معين.
ولقد استطاع «كون» أن يلفت الأنظار في دراسته عن نظرية العلم وتاريخه ومناهج بحثه إلى سلسلة كاملة من المشكلات التي كانت في الظل، ولكنها واقعية وجوهرية لفهم بنية ووظائف المعرفة العلمية التاريخية الفعلية لتطوير العلم.
ولكن «كون» بقدر ما أثار من اهتمام ودوي، أثار شكوكا وانتقادات. وانصب اتهامه بالذاتية أو النسبية الذاتية بسبب مشكلة الانتقال من نموذج إرشادي إلى آخر؛ أي الثورة العلمية التي تعني في رأيه الانتقال إلى عالم مغاير إدراكيا ومفاهيميا غير العالم الذي يعمل فيه الباحث. لقد تغير العالم لمجرد إبدال النموذج الإرشادي. إن الباحث العلمي عقب إبدال النموذج الإرشادي؛ أي عقب الثورة العلمية، يرى العالم في صورة مختلفة؛ بل إن ما كان بديهيا لم يعد جزءا من خبرته حتى وإن استخدم ذات المصطلحات القديمة. ذلك أن الصيغ والقواعد والمصطلحات تأخذ معنى كيفيا جديدا في إطار الصورة الكلية الجديدة ذات الدلالة المغايرة. معنى هذا أن الإبدال أو التحول أو الثورة ليست لها أسباب منطقية أو تجريبية. ويرى «كون» في هذا دليلا على وجود عناصر لا عقلية في تاريخ العلم.
وإذا كانت الانتقادات تركزت أساسا على مفهوم «كون» لمعنى الثورة العلمية؛ أي الانتقال من إطار فكري أو نموذج إرشادي إلى آخر، وما ينطوي عليه هذا الفهم من إيحاء بوجود عناصر لاعقلية ونفي للارتقاء الحضاري العلمي على نحو متتابع، فإننا سنجد من بين منتقديه من يحاول أن يدفع بهذا الجانب اللاعقلي إلى أبعد مما ذهب إليه «كون».
وناقش كتاب كثيرون المشكلات الفلسفية لفكرة تغيير النماذج الإرشادية، ودلالة ذلك بالنسبة لجدوى الحوار بين المجتمعات العلمية التي تلتزم بنماذج إرشادية متباينة، وأيضا إمكانية فهمنا نحن المعاصرين للمجتمعات البدائية. وعني هؤلاء المفكرون أساسا بفكرة «النسبية» المترتبة على رأي «كون» من أن النماذج الإرشادية يمكن النظر إليها باعتبارها تستجيب إلى عوالم مختلفة ومن ثم يتعذر التفاهم بينهم، ويستحيل حسم الخلاف باللجوء إلى أية لغة خارج النموذج الإرشادي، بمعنى أن الحوار بين الثقافات هو حوار طرشان.
يلزم عن هذا أن لا سبيل للوقوف خارج الحوار بين أنصار نموذجين إرشاديين والاهتداء إلى حجج «عقلانية» ومعايير برهانية تجريبية تكشف عن صواب صورة ما للعالم وخطأ الأخرى؛ إذ لكي يكون الحوار مجديا بين طرفين لا بد وأن يدور داخل ذات الإطار بلغته ومفاهيمه. وواقع الحال أننا مع إيماننا بالدور الحاكم للإطار الفكري في الحياة العامة إلا أنه ليس دورا حاكما أبديا داخل الحياة العلمية، وليس قدرا إلا إذا كان ذلك استنادا إلى أحكام قيمية على نحو ما نجد في ظل الجمود العقائدي الذي يخرجنا من دائرة العلم. وإذا كان الخلاف ينشب داخل المجموعة العلمية إزاء ظواهر معينة تشذ عن الإطار الحاكم، فإنها ظواهر طبيعية أو واقعية ليست مبتدعة ولا مصطنعة، ومصدرها العالم أو الطبيعة؛ ومن ثم فإنه لا بد - استطرادا مع نظرية «كون»، ولكن التزاما بنهج مغاير - أن يكون المرجع والحكم هنا الإشارة إلى العالم الخارجي، مصدر الظاهرة، وإقامة البرهان التجريبي لحسم الخلاف.
ولكن هذا لا يمنع أن نشاهد في الحياة العامة من يرفض الإقرار بالظاهرة الجديدة، ويستعصي عليه بحثها، ويسعى إلى تطويعها قسرا لإطار فكري موروث أو قياس انعقد عليه الإجماع، حسب ما يرى «كون»، بيد أن الأمر هنا لا يتعلق بظاهرة طبيعية يختص ببحثها العلم الطبيعي بمنهجه البرهاني التجريبي، بل ظاهرة إنسانية اجتماعية أو ثقافية لها منطق متميز. وهذا لا يعني أيضا الاحتفاظ بالإطار الفكري أو النموذج الإرشادي القديم له ذات القدر من الصواب والإنتاجية أو الفعالية العلمية بشأن النموذج الإرشادي الجديد .. ذلك أن من شاء أن يظل على إيمانه بأن الأرض مسطحة له حقه في هذا، ولكن اعتقاده لن يكون ندا ولا كفؤا لنظرية كروية الأرض. ثم إن الأمر هنا ليس اعتسافا، ولا اختيارا إراديا بل رهن بمرجع تحتكم إليه وتدعمه أجهزة البحث التي هي جزء لا يتجزأ من عناصر البرهان التجريبي.
ولهذا نقول إن نظرية «كون» كانت مؤثرة، ولها صداها في مجال العلوم الاجتماعية الثقافية، على عكس الحال بالنسبة للعلوم الطبيعية. فإن زاوية رؤية الإنسان للعالم من حوله نتاج ثقافي اجتماعي موروث. وتظل هذه الرؤية باقية في جوار مع رؤية علمية مغايرة. وتتألف هذه الرؤية في شمولها من عناصر تضم اللغة وقواعدها ودورها في صياغة صورة العالم وبنيته، ولبنات هذه البنية؛ ولهذا أثار بعض النقاد موضوع العلاقة بين لغة الحياة اليومية ولغة العلم في الحياه وتجاور الاثنين معا. ويقرر هؤلاء أن إطار ما نشهده في التجربة العلمية يحدده محتوى النظرية، غير أن أبنية الإدراك الأساسية مثل تفسير العالم في ضوء اللغة الطبيعية للحياة اليومية، تتشكل عند المستوى قبل العلمي. فالإنسان العام لا يزال من الوجهة الاجتماعية هو الإنسان بمكوناته الإدراكية ووسائل تعبيره؛ إذ لا يزال يدرك حسيا أن الشمس تدور حوله، ولا يزال يقول، وتفرض عليه لغته قول: أشرقت الشمس، وإن كانت لغة العلم وصورة العالم في العلم غير ذلك. وهذا من شأنه أن يثير قضية التواصل بين العلم ولغة العلم والعلماء وبين الحياة اليومية واللغة الطبيعية والإنسان العام أو الحس المشترك .. أو حدود التواصل بين العلمي في الحياة العامة.
অজানা পৃষ্ঠা