والتفت سيرانو فرأى كرستيان واقفا وراءه مطرقا جامدا، وقد انتشرت على وجهه غبرة سوداء من الحزن، فتقدم نحوه وقال له: أخائف أنت يا كرستيان؟ قال: لا، بل حزين لأني سأفارقها، فانتفض سيرانو عند سماع كلمة الفراق، ووضع يده على قلبه، ورفع عينيه إلى السماء، ولكنه لم يستطع أن يقول شيئا، وصمت هنيهة ثم قال له: هون عليك الأمر يا صديقي، فرحمة الله أوسع من أن تضيق بنا. فقال: كنت أريد على الأقل أن أكتب لها كتاب وداع أبثها فيه خواطر نفسي ولواعجها في ساعتي الأخيرة. قال: لقد حدثتني نفسي ليلة الأمس - ولا أعلم كيف كان ذلك - بهذا المصير الذي سنصير إليه الآن، وأن هذا اليوم هو آخر أيامنا على وجه الأرض، فكتبت إليها على لسانك الكتاب الذي تريده، وسأبعث به إليها الآن. قال: أرنيه. قال: ها هو ذا، وأخرج الكتاب من جيبه فأعطاه إياه، فأخذ يقرؤه حتى وصل إلى سطر من سطوره الأخيرة، فتوقف ذاهلا مدهوشا وقال: غريب جدا! ما هذا الذي أرى؟ قال: ماذا؟ قال: نقطة بيضاء على الورق كأنها دمعة! فاختطف سيرانو الكتاب من يده وقال: أرني، وظل يتأمل فيه مصعدا منحدرا كأنه يفتش عن النقطة فلا يراها. فقال له كرستيان: إنها دمعة يا سيرانو ما في ذلك ريب ولا شك، فهل كنت تبكي؟ فانتفض، إلا أنه تجلد وتماسك وقال: نعم! قال: وما الذي أبكاك؟ قال: ذلك شأن الشعراء دائما، لا يتناولون موضوعا من الموضوعات المحزنة للكتابة فيه عن لسان غيرهم، حتى يتأثروا به كأنهم أبطاله، وأصحاب الشأن فيه، ولقد بدأت في كتابة هذا الكتاب، وأنت ماثل في ذهني لا تفارقه، فما زال يمتد بي الخيال ويطير بي في أجوائه، حتى تمثل لي أنني أنا الحزين المتألم والمفارق المفجوع، وأن الذي أصفه إنما هي هموم نفسي وآلامها، فانحدرت من عيني بالرغم مني هذه الدمعة التي تراها! فنظر إليه كرستيان نظرة غريبة، واختطف الكتاب من يده، وقال له: دعه معي الآن! ثم طواه ووضعه في ثنايا قميصه وانصرف.
جواز المرور
وقامت في هذه اللحظة ضجة في المعسكر، وسمعت أجراس مركبة قادمة من بعيد، وصائح يصيح من رجال الحرس بصوت غليظ أجش: من القادم؟ فصعد سيرانو وكرستيان وبعض رجال الحرس إلى التل لينظروا ماذا جرى، فرأوا مركبة مقفلة جميلة تحمل شارة من شارات الشرف، ويجلس بجانب حوذيها غلامان حسنا الزي والهندام، فما شك الجميع في أنها قادمة من باريس، وأن راكبها رسول من قبل الملك يحمل أمرا من أوامره؛ فاصطفوا صفين متقابلين، وسكنوا سكونا عميقا لا حس فيه ولا حركة، حتى وقفت المركبة على مقربة منهم، فأتلعوا إليها أعناقهم وشخصوا بأبصارهم لينظروا من القادم، ثم فتح بابها فإذا سيدة باهرة الجمال مشرقة الطلعة قد وثبت منها وثبة الجؤذر من خميلته؛ فصاح سيرانو وكرستيان معا بصوت واحد: روكسان! وكانت كما يقولون، فصعدت إلى التل بخفة ورشاقة حتى بلغت قمته، وقالت: صباح الخير أيها الأصدقاء، لعلكم جميعا بخير! فرفع الجنود قبعاتهم وأحنوا رءوسهم وعقدوا حولها نطاقا منهم ومن أنظارهم، وظلوا باهتين لمرآها ذاهلين، وكأنما أدركهم الخجل منها لرثاثة ملابسهم وتشعث هيئاتهم، فظلوا يمسحون لحاهم، ويفتلون شواربهم ويقلبون النظر في أعطافهم؛ ليروا هل لصق بها أو خالطها ما تقذى به عيون السيدات الجميلات، ومرت بهم روكسان في مواقفهم تحييهم واحدا فواحدا بابتساماتها اللامعة المتلألئة، وكلماتها العذبة الجميلة، حتى بلغت موقف كرستيان، فألقت نفسها بين ذراعيه. فقال لها وهو ذاهل مدهوش: ما الذي جاء بك يا روكسان؟ قالت: أنت الذي جئت بي يا زوجي العزيز.
وكان سيرانو واقفا مذ رآها وراء إحدى الربوات موقف الذاهل المشدوه، يرعد ويضطرب ويغالب في نفسه ثورة هائلة تتوثب نارها بين أضالعه، ثم ما لبث أن سمع صوتها تناديه، فانتبه من غشيته وتقدم نحوها، وانحنى بين يديها، فابتسمت له وصافحته مصافحة طويلة وقالت له: لعلك بخير يا ابن عمي! قال: نعم، وأشكر لك تفضلك بزيارتنا، وإن كنت أرجو أن تكون زيارة قصيرة! قالت: لماذا؟ قال: لأننا في ميدان حرب وأخشى أن يصيبك من شرها شيء! قالت: بل سأبقى معكم أطول مما تظنون، فأعدوا لي مقعدا أجلس عليه، فابتدر الجنود تلبية أمرها، ولم يبق بينهم حامل طبل أو صاحب صندوق إلا قدمه إليها، فجلست وهي تقول: ما أطول المسافة بين باريس وأراس، لقد كنت أظنها أقصر من ذلك، ولقد مررت في طريقي ببلاد شملها الخراب والدمار، ورأيت بعيني منظر الجائعين والمتألمين والصارخين، وما كنت أحب الحرب تنال من الإنسانية هذا المنال العظيم، والحق أقول يا أصدقائي: إن العاطفة التي جاءت بي إلى هنا أجمل وأرق من العاطفة التي جاءت بكم، فكم بين من يأتي ليقبل حبيبه، ومن يأتي ليقتل عدوه؟! والتفتت إلى كرستيان، وقالت له: أليس كذلك يا زوجي العزيز؟ قال: بلى. فقال لها سيرانو: ولكن كيف استطعت اختراق خطوط العدو، وتجشم هذه المخاطر كلها، قالت: لقد كان ذلك سهلا جدا يا ابن عمي، واسمحوا لي أيها الأصدقاء أن أقول لكم: إن أعداءكم الإسبانيين قوم ظرفاء أرقاء، لم تسمح لهم شهامتهم وشرف نفوسهم أن يطلقوا النار على امرأة عزلاء، فلقد كنت كلما مررت بحارس من حراسهم فتحت نافذة مركبتي وأشرفت عليه، وابتسمت في وجهه ابتسامة لطيفة، فلا يلبث أن يستقبلني بمثلها، ويتنحى لي عن طريقي، فأمضي في سبيلي، فكانت الابتسامة هي «جواز المرور» الذي فتح لي جميع الأبواب الموصدة أمامي، حتى وصلت إلى هنا. قال: ألم يسألك أحد عن وجهتك التي تقصدينها؟ قالت: كان إذا سألني أحدهم قلت له: إنني ذاهبة لرؤية عشيقي! فتقع هذه الكلمة العذبة الجميلة من نفسه موقع الماء من مهجة الظامئ الهيمان، فيبش في وجهي ويحييني بإحناء رأسه ويتركني وشأني، فقاطعها كرستيان وقال لها: ولكنني لست بعشيقك يا سيدتي، بل زوجك. قالت: ما ارتبت في ذلك قط يا زوجي العزيز، ولكن كلمة العشيق تنال من نفس العاشق المفارق - وكلكم ذلك الرجل - ما لا تنال منها كلمة الزوج، فسامحني واغفر لي ذنبي.
وهنا دخل الكونت دي جيش رئيس أركان حرب الجيش، فرأى روكسان واقفة موقفها هذا بين الجنود، فدهش دهشة عظيمة إذ رآها، ودنا منها فحياها وقال لها: ما الذي جاء بك إلى هنا يا سيدتي؟ قالت: جئت لأرى زوجي؛ لأنني لم أتمتع برؤيته بعد زواجي منه إلا تلك اللحظة القصيرة التي تعلمها، فاربد وجهه غيظا وقال لها: لقد أخطأت بعملك هذا خطأ عظيما، وليس من الرأي أن تلبثي هنا بعد الآن لحظة واحدة، فأعدي عدتك للرجوع من حيث أتيت، قالت: لماذا؟ قال: لأن المعركة ستدور بعد ساعة أو ساعتين، ولا مكان للنساء في ميادين الحروب. فقال كرستيان: وسنموت في تلك المعركة يا سيدتي عن آخرنا؛ لأن الكونت أراد ذلك، فذعرت روكسان واصفر وجهها، والتفتت إلى الكونت وقالت له: أصحيح ما يقول يا سيدي؟ إنك إذن تريد أن أصبح أرملة. قال: لا، وأقسم لك. قالت: ألا تعلم أنه إذا قدر لي هذا المصير كان ذلك آخر عهدي بالدنيا ونعيمها، واستحال على عين الشمس أن تراني بعد اليوم، إلا إذا استطاعت أن تخترق بأشعتها صفائح القبور! قال: أقسم لك يا سيدتي أنني ... فقاطعته وقالت: كيفما كان الأمر فمحال أن أغادر هذا المكان؛ لأنني أريد أن أموت مع أبناء وطني، فهتف سيرانو بصوت عال: لقد نطقت بكلمة الأبطال يا سيدتي فأهنئك، فابتسمت وقالت: ذلك لأنني ابنة عمك يا سيرانو، فصاح الجنود جميعا بصوت واحد: سندافع عنك يا سيدتي إلى الموت. قالت: شكرا لكم يا أصدقائي، ذلك أملي فيكم، وفي الدم الجاسكوني الذي يجري في عروقكم، فتقدم نحوها «كاربون» قائد الفرقة وانحنى بين يديها، وقال لها: أما وقد أصبحت شريكتنا في حظنا ومصيرنا فائذني لي أن ألجأ إليك في طلبة واحدة. قالت: وما هي؟ قال: أن تفتحي يدك القابضة على هذا المنديل الحريري الجميل . فلم تفهم ما يريد، ولكنها فتحت يدها فسقط المنديل على الأرض، فالتقطه وقال لها: إن فرقتي يا سيدتي ليست لها راية، وسيكون منديلك هذا رايتها التي تقاتل في ظلها، واعلمي أن جنودي سيموتون جميعا دفاعا عن الراية التي قدمتها لهم أجمل فتاة في فرنسا! ثم عقد المنديل بسنان رمحه الطويل، وركزه على قمة التل؛ فظلت الريح تعبث به، وظل الجنود ينظرون إليه نظر السائر إلى نجمة القطب الخافقة في كبد السماء.
الوليمة
فالتفتت روكسان إلى الجنود باسمة وقالت: ألا تقدمون لي شيئا من طعامكم وشرابكم أيها الإخوان، فإني أكاد أموت جوعا! فنظر القوم بعضهم إلى بعض، وقد مشت في وجوههم صفرة الموت، ودهمهم من الأمر ما لم يكن يخطر لهم ببال، فشعرت روكسان بحيرتهم واضطرابهم، فابتسمت وقالت: أو قوموا بنا جميعا إلى مطعم «راجنو»؛ لنتناول عنده من الطعام ما نريد، فقال لها أحدهم: إنك تهزئين بنا يا سيدتي، فأين نحن من راجنو ومطعمه؟ قالت: إذن لا أستطيع أن أتصور كيف يكون سروركم واغتباطكم، إذا علمتم أنني قد نقلت لكم هذا المطعم وصاحبه من باريس إلى هنا؟
وتركتهم ذاهلين مدهوشين لكلامها، وصعدت إلى التل وصاحت: راجنو! راجنو! هات لنا غداءنا، فما أتمت كلمتها حتى أقبل راجنو، والغلامان الخادمان يحملون على أيديهم سلال الخبز، وصناديق الخمر، وأفخاذ اللحم الناضجة، وأنواع الفطائر والحلوى، فهتف الجنود: راجنو، راجنو! وداروا به يحيونه ويعتنقونه، ويجاذبونه أثوابه، فصاح فيهم: دعوني أيها الكسالى، واذهبوا إلى المركبة واحملوا الطعام الذي جئناكم به بأنفسكم، فحسبنا ما حملنا لكم، فهرعوا إلى المركبة وعادوا بما بقي فيها من لحم وخمر وحلوى وفاكهة، فرحين مغتبطين، وهم يقولون: كيف غفلت عيون الأعداء يا راجنو عن هذا الطعام الشهي؟ قال: لأن عيون روكسان الجميلة كانت أشهى إليهم منه.
وما هي إلا هنيهة حتى استداروا حلقات واسعة وأنشئوا يأكلون ويقصفون، وروكسان قائمة في خدمتهم؛ تقدم لهذا كأسا، ولهذا رغيفا، ولهذا سكينا، ومدامعها تتلألأ في عينيها رحمة بهم وإشفاقا عليهم، وسيرانو واقف ناحية ينظر إليها نظرة السرور والغبطة، ويردد بينه وبين نفسه: يا ملاك الرحمة والإحسان! يا أجمل نسمة طاهرة على وجه الأرض! يا نفسا نفية صافية لم يخلق الله لها مثالا بين نفوس البشر! حسبي منك أن أراك، وأن ينفذ شعاع من أشعة جمالك إلى قلبي المظلم الحالم، فيضيء ظلمته ويشرق في جوانبه.
وإنهم لكذلك إذ سمعوا صوت الكونت دي جيش مقبلا من بعيد. فقال بعضهم لبعض: محال أن ينال هذا الرجل البغيض لقمة واحدة من طعامنا، فلنطو عنه كل شيء حتى ينصرف لشأنه! وما هي إلا كرة الطرف حتى اختفى كل شيء في ثنايا معاطفهم وفروج أكمامهم، ووراء صناديقهم، ثم دخل الكونت وهو يقول: ما هذه الرائحة الجديدة؟ فصمت الجنود ولم يقولوا شيئا، فظل يقلب النظر في وجوههم فيرى الحمرة التي سرت فيها من حرارة الغذاء ونشوة الشراب، فيعجب لها عجبا شديدا؛ ثم قال: ما لي أراكم منتعشين متهللين، وعهدي بكم قبل هذه اللحظة تتهافتون جوعا، وتتساقطون ضعفا وإعياء! فقال له سيرانو: إنها صحوة الموت يا سيدي! فأشاح بوجهه عنه، والتفت إلى روكسان، وقال لها: أباقية أنت هنا حتى الآن يا سيدتي؟ قالت: نعم، وما أنا ببارحة هذا المكان حتى أعود بكم أو أموت معكم! فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه وهتف بكاربون، فلباه ووقف بين يديه. فقال له: إنك ستدير المعركة المقبلة بالنيابة عني يا حضرة القائد. قال: وأنت يا سيدي؟ قال: أما أنا فباق هنا لأدافع عن روكسان بنفسي؛ لأني لا أستطيع أن أترك امرأة في خطر، فأكبر القوم جميعا هذه الشهامة الكبرى والعظمة النفسية، وهمس بعضهم في أذن بعض: إن الرجل لا يزال يجري في عروقه الدم الجاسكوني! فقال لهم سيرانو: إذن يمكننا أن نقدم إليه شيئا من طعامنا وشرابنا، فاندفعوا جميعا نحوه ومدوا إليه إيديهم بما معهم من الطعام والشراب، فألقى عليهم نظرة عالية مترفعة، وقال لهم: نعم، إنني أموت جوعا وسغبا، ولكن الجاسكوني الشريف لا يأكل فضلات طعام غيره، فصاح سيرانو: شهامة أخرى أيها الأصدقاء لا تنسوها له! وهتف: ليحي الكونت دي جيش! فهتف الجند بهتافه، فشكرهم الكونت بإيماءة رأسه، ثم أنشأ يخطب فيهم خطبة الحرب، ويلقي عليهم الأوامر العسكرية، حتى قال لهم، وهو يشير إلى مدفع جاثم بين يديه: إنكم ما تعودتم إطلاق المدافع قبل اليوم، فاعلموا أن المدفع يتراجع بشدة عند خروج القذيفة منه، فكونوا على بينة من ذلك واحذروه، فصاح أحدهم بصوت عال: إن مدفع الجاسكونيين مثلهم يا سيدي لا يتراجع أبدا! فابتسم له وشكره، وقال: لا يخيبن أملي فيكم يا أبناء وطني، ثم التفت إلى روكسان وقال لها: تعالي معي يا سيدتي لتشاهدي منظر استعراض الجيش، فأعطته يدها فصعدا معا إلى قمة التل.
অজানা পৃষ্ঠা