إهداء الرواية
أشخاص الرواية
1 - حانة بوروجونيا
2 - المتشاعرون
3 - حرفة الأدب
4 - الميدان
5 - بعد خمسة عشر عاما
إهداء الرواية
أشخاص الرواية
1 - حانة بوروجونيا
অজানা পৃষ্ঠা
2 - المتشاعرون
3 - حرفة الأدب
4 - الميدان
5 - بعد خمسة عشر عاما
الشاعر
الشاعر
تعريب
مصطفى لطفي المنفلوطي
إهداء الرواية
إلى الشعراء
অজানা পৃষ্ঠা
مؤلف هذه الرواية شاعر، وبطلها شاعر، وأكثر أشخاصها شعراء، وموضوعها الشعر والأدب، وعبرتها أن النفس الشعرية هي أجمل شيء في العالم، وأبدع صورة رسمتها ريشة المصور الأعظم في لوح الكائنات، وأنها هي التي يهيم بها الهائمون، ويتوله المتولهون، حين يظنون أنهم يعشقون الصور ويستهيمون بمحاسن الوجوه.
لذلك أقدمها هدية إلى الشعراء، فهم رجالها وأبطالها وأصحاب الشأن فيها، ولا أطلب عندهم جزاء عليها أكثر من أن أراهم جميعا في حياتهم الأدبية والاجتماعية سيرانو دي بيرجراك.
أول مايو سنة 1921
مصطفى لطفي المنفلوطي
المقدمة
أطلعني حضرة الصديق الكريم الدكتور محمد عبد السلام الجندي على هذه الرواية التي عربها عن اللغة الفرنسية تعريبا حرفيا، حافظ فيه على الأصل محافظة دقيقة، وطلب إلي أن أهذب عبارتها ليقدمها إلى فرقة تمثيلية تقوم بتمثيلها ففعلت، واستطعت في أثناء ذلك أن أقرأ الرواية قراءة دقيقة، وأن أستشف أغراضها ومغازيها التي أراد المؤلف أن يضمنها إياها، فأعجبني منها الشيء الكثير، وأفضل ما أعجبني منها أنها صورت التضحية تصويرا بديعا، وهي الفضيلة التي أعتقد أنها مصدر جميع الفضائل الإنسانية ونقطة دائرتها، فرأيت أن أحولها من القالب التمثيلي إلى القالب القصصي؛ ليستطيع القارئ أن يراها على صفحات القرطاس كما يستطيع المشاهد أن يراها على مسرح التمثيل.
وقد حافظت على روح الأصل بتمامه، وقيدت نفسي به تقييدا شديدا، فلم أتجوز إلا في حذف بعض جمل لا أهمية لها، وزيادة بعض عبارات اضطرتني إليها ضرورة النقل والتحويل، واتساق الأغراض والمقاصد، بدون إخلال بالأصل أو خروج عن دائرته، فمن قرأ التعريب قرأ الأصل الفرنسي بعينه، إلا ما كان من الفرق بين بلاغة القلمين ومقدرة الكاتبين، وما لا بد من عروضه على كل منقول من لغة إلى أخرى، وخاصة إذا قيد المعرب نفسه، وحبس قلمه عن التصرف والافتنان.
مصطفى لطفي المنفلوطي
أشخاص الرواية
سيرانو دي بيرجراك
অজানা পৃষ্ঠা
شاعر فرنسي من شعراء القرن السابع عشر، نشأ غريبا في أطواره وأخلاقه، منفردا بصفات قل أن تجتمع لأحد من معاصريه؛ فكان جامعا بين الشجاعة إلى درجة التهور، والخجل إلى درجة الضعف؛ وبين القسوة إلى معاقبة أعدائه على أصغر الهفوات، والرقة إلى البكاء على بؤس البائسين من أصدقائه وأبناء حرفته، وكان كريما متلافا، لا يبقي على شيء مما في يده، وعفيفا لا يمد يده إلى مخلوق كائنا من كان، وصريحا لا يتردد لحظة واحدة في مجابهة صاحب العيب بعيبه كيفما كان شأنه، وكيفما كانت النتيجة المترتبة على ذلك، فكان عدو الكاذبين والمرائين، والمغرورين، والسفلة والمتملقين، أي إنه كان عدوا للهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها تقريبا، كما كانت عدوة له كذلك، لا تهدأ عن مشاكسته ومناوأته وابتغاء الغوائل به.
ولم يكن له من الأصدقاء إلا أفراد قلائل جدا، هم الذين يفهمون حقيقة نفسه وجوهرها، ويقدرونه قدره وقدر صفاته الكريمة التي كان يتصف بها.
وكان الخلق الغالب عليه من بين جميع أخلاقه خلق العزة والأنفة، فكان شديد الاحتفاظ بكرامته، والضن بعرضه أن ينال منهما نائل، أو يعبث بهما عابث، وكان لا يرى في أكثر أوقاته إلا مبارزا أو مناضلا، أو ثائرا أو مهتاجا، أو واضعا يده على مقبض سيفه، أو ملقيا قفازه على وجه خصمه، شأن الفوارس الأبطال في ذلك العصر.
وكانت بليته العظمى في حياته، ومنبع شقائه وبلائه أنه كان دميم الوجه، كبير الأنف جدا إلى درجة تلفت النظر وتستثير الدهشة، وكان يعلم ذلك من نفسه حق العلم، ويتألم بسببه تألما كثيرا؛ لأنه كان عاشقا لابنة عمه «روكسان» الشهيرة بجمالها النادر، وذكائها الخارق، وكان يعتقد أن المرأة مهما سمت أخلاقها وجلت صفاتها لا يمكن أن تقع في أحبولة غرامية غير أحبولة الجمال، ولا تعنى بحسن غير حسن الوجوه والصور، فكان - وهو أشجع الناس وأجرؤهم وأعظمهم مخاطرة وإقداما - لا يجسر أن يفاتح حبيبته هذه في شأن حبه، حياء من نفسه وخجلا.
فكان أنفه سبب شقائه من جهتين؛ أنه وقف عقبة بينه وبين غرامه، وأنه كان المنفذ العظيم الذي ينحدر منه أعداؤه وخصومه إلى السخرية به والتهكم عليه، وهو لا يطيق ذلك ولا يحتمله، فكان النزاع بينه وبينهم دائبا لا ينقطع، وكان لا ينتهي غالبا إلا بمبارزة يخرج منها في الغالب فائزا منتصرا، ولكن كان كثير الخصوم والأعداء.
وكان جنديا في فصيلة شبان الحرس من الجيش الفرنسي، وكان أفراد تلك الفصيلة جميعهم من الجاسكونيين مثله، وهم قوم معروفون بخشونة الأخلاق ووعورتها، وبكثرة التبجح والادعاء والغرور والكذب، ولهم مع ذلك فضيلة الشجاعة والصبر، والقناعة والشرف وعزة النفس، وكان سيرانو متصفا بحسناتهم، مترفعا عن سيئاتهم، فكان له في نفوسهم أسمى منزلة من الإجلال والإعظام، وكانوا يحبونه حبا شديدا ويذعنون لرأيه، ويستطرفون أحاديثه ودعاباته، ويفاخرون به وبنبوغه وشجاعته، وجراءته وصراحته، كما كان يفخر بهم وبعصبيتهم، وكان من أسوأ الشعراء حظا في حياته، فقد قضى عمره كله خاملا مغمورا؛ يجهل الدهماء قدره لأنهم لا يفهمونه، وينكر الأدباء فضله لأنهم يبغضونه ويجدون عليه وينقمون منه خشونته وشدته في مؤاخذتهم ونقدهم، فلم يكن يحفل بذلك كثيرا؛ لأنه كان مخلصا لا يهمه إلا أن يكون عظيما في عين نفسه ثم لا يبالي بعد ذلك بما يكون.
وكثيرا ما كان ينظم الرواية الجليلة ذات المغزى العظيم والأسلوب الرائق، فلا يفكر في إهدائها إلى أحد من العظماء - ليتوسل بذلك إلى نشرها وترويجها، وحمل الفرق التمثيلية على تمثيلها - كما كان يفعل الشعراء في عصره، أنفة وإباء، وضنا بنفسه أن يقف موقف الذل والضراعة على أي باب من الأبواب كيفما كان شأنه، وربما سرق بعض الروائيين قطعا من رواياته فضمنوها رواياتهم وانتفعوا بها، فلا يغضبه ذلك ولا يزعجه، وكل ما كان يفكر فيه أو يسأل عنه في هذا الموقف: ماذا كان وقع تلك القطعة في نفوس الجماهير حينما سمعوها؟
ولقد أخلص في حبه لابنة عمه «روكسان» إخلاصا لم يسمع بمثله في تاريخ الحب، فأحبها وهي لا تعلم بحبه، وتألم في سبيل ذلك الحب ألما شديدا، وهي لا تشعر بألمه، وأحبت غيره فلم يحقد ولم ينتقم، بل كان أكبر عون لها في غرامها الذي اختارته لنفسها، ولم يلبث أن اتخذ حبيبها الذي آثرته صديقا له، وأخلص في مودته إخلاصا عظيما، وأعانه على استمرار صلته بها، وبقاء حبه في قلبها؛ لأنه ما كان يهمه شيء في العالم سوى أن يراها سعيدة في حياتها، مغتبطة بعيشها، وهذا كل حظه في الحياة.
ولم يزل هذا شأنه طول حياته، حتى خرج من دنياه، ولم تعلم روكسان بسريرة نفسه إلا في الساعة الأخيرة التي لا يغني عندها العلم شيئا.
روكسان
অজানা পৃষ্ঠা
ابنة عم سيرانو دي بيرجراك، وهي فتاة شريفة متعلمة، وافرة الفضل والذكاء، عالية الهمة، عفيفة الذيل، مولعة بالشعر والأدب؛ إلا أنها كانت تذهب في ذوقها الأدبي مذهب النساء المتحذلقات في ذلك العصر، أي إنها كانت كثيرة التكلف في أحاديثها وإشاراتها، وكان لا يعجبها من الكلام إلا ذلك النوع الذي يسمونه بالصناعة اللفظية، ولا من المعاني إلا تلك الخيالات الطائرة الهائمة على وجهها التي لا أساس لها في الحياة، ولا وجود لها في فطرة النفس وطبيعتها.
وقد نشأت يتيمة منقطعة، لا أهل لها ولا أقرباء إلا ابن عمها سيرانو، إلا أنها كانت تعيش عيشا رغدا هنيئا بفضل الثروة الواسعة التي ورثتها عن أبويها، فأحبها كثير من النبلاء والأشراف، وعرضوا عليها الزواج فلم تحفل بهم، وأحبها «الكونت دي جيش» - وهو أحد قواد الجيش الفرنسي، وكان متزوجا بابنة أخت الكردينال دي ريشلييه - فأراد أن يستخدم نفوذه وجاهه في حملها على الزواج من فتى من أشياعه اسمه الفيكونت فالفير، على الطريقة المعروفة في ذلك العهد عند الملوك والنبلاء، فدفعته عنها برفق وحكمة، خوفا على نفسها منه، وظلت تماطله زمنا طويلا، حتى أحبها البارون كرستيان دي نوفييت، فأحبته وأخلصت له إخلاصا عظيما، ولم يكن في الحقيقة متصفا بصفات الفطنة والذكاء والنبوغ التي كانت تظنها مجتمعة فيه، لولا الحيلة الغريبة التي احتالها عليها سيرانو حتى أوهمها ذلك، وهنا نكتة الرواية وبيت قصيدها، ثم تزوجت منه بعد ذلك زواجا سريا، ولكنها لم تكد تضع شفتها على الكأس حتى انتزعت منها، وكان هذا آخر عهدها بسعادة الحياة وهنائها.
كرستيان دي نوفييت
نبيل من نبلاء الريف، وفد إلى باريس ليلتحق بفرقة الحرس من الجيش الفرنسي - كما كانت عادة الأشراف في ذلك العهد - وهي الفرقة التي كان يعمل فيها سيرانو، وكان فتى جميل الصورة، شريف النفس، طيب القلب، إلا أنه كان أقرب إلى البلادة منه إلى الذكاء؛ فوقع نظره على روكسان في حانة بوروجونيا، فأحبها وأحبته على البعد، وكان قد علم من أمرها أنها فتاة قديرة متفوقة، ذكية الفؤاد، غزيرة العلم، قوية الإرادة، لا يعجبها من الرجال إلا الأذكياء المتفوقون، فهاب الدنو منها، ومفاتحتها في شأن حبه، وخشي أن يسقط من عينها سقطة لا قيام له من بعدها، ولم يزل هذا شأنه حتى أدركه سيرانو، واحتال له تلك الحيلة الغريبة المدهشة، التي جعلت روكسان تعتقد أنها قد أحبت أذكى الناس وأسماهم عقلا، وأبعدهم غورا، وأطلقهم لسانا، وأبلغهم قلما، لا يريد بذلك إلا سعادتها وهناءها، وهو يتهالك بينه وبين نفسه غما وكمدا؛ لأنه وهو ظامئ هيمان يقدم الكأس بيده للشاربين ولا يذوق منها قطرة واحدة.
الكونت دي جيش
أحد قواد الجيش الفرنسي، وهو من أصل جاسكوني كسيرانو وروكسان، إلا أنه كان يذهب في حياته مذهبا غير مذهب أبناء جلدته الجاسكونيين، في قناعتهم وخشونتهم وبساطة عيشهم، بل كان رجلا واسع المطامع، شغوفا بالمعالي، متطلعا إلى المناصب العليا والمراتب الكبرى، وقد تم له ما أراد من ذلك بجده واجتهاده، فأصبح قائدا من قواد الجيش الفرنسي، وصهرا للكردينال دي ريشلييه.
وقد رأى روكسان في طريقه مرة فشغف بها شغفا عظيما، وأراد أن يضمها إليه من طريق تزويجها من أحد صنائعه، فاحتالت للخروج من ذلك المأزق بحيلة لطيفة جدا، وتزوجت من الرجل الذي أحبته بمعونة ابن عمها سيرانو، فعاداها الكونت من أجل ذلك، وانتقم منها ومن زوجها ومن سيرانو انتقاما هائلا.
لينيير
شاعر مسكين من أصدقاء سيرانو، نظم قصيدة طويلة هجا بها الكونت دي جيش، وعرض فيها بقصته مع روكسان، وفضح جريمته التي أراد أن يقترفها معها، فحقد عليه الكونت حقدا شديدا، ودس كمينا مؤلفا من مائة رجل ليقتلوه عند رجوعه إلى منزله ليلا، لولا أن أدركه سيرانو، وأعانه على أعدائه فنجا.
لبريه
অজানা পৃষ্ঠা
أحد أصدقاء سيرانو المخلصين، وكان ينصحه دائما بالهدوء والسكينة، وينعى عليه شدته وصرامته في أخلاقه وطباعه، وينصح له باتخاذ خطة في الحياة تناسب البيئة التي يعيش فيها، رحمة بنفسه، وإبقاء على راحته وسكونه، فلا يحفل بنصحه؛ لأن له رأيا في الحياة غير رأيه ومذهبا غير مذهبه، ولم يكن اختلافهما هذا في المشرب والخطة مانعا لهما من الصداقة والإخلاص، ووفاء كل منهما لصاحبه، حتى ما كانا يستطيعان الافتراق ساعة واحدة.
مونفلوري
أحد الممثلين في حانة بوروجونيا، وكان مشهورا بحسن إلقائه لرواية «كلوريز» تأليف الروائي الشهير «بارو»، وكان سيرانو يبغضه، ويستثقل حركاته التمثيلية، وينقم عليه إعجابه بنفسه على قبحه ودمامته، ويأخذ عليه كثرة ترديده نظره أثناء التمثيل في مخادع السيدات، يحاول افتتانهن واجتذاب قلوبهن، وقد رآه مرة ينظر إلى روكسان نظرة مريبة، فتعلل عليه ببعض العلل، وأمره أن ينقطع عن التمثيل شهرا كاملا، فحاول الامتناع عليه وعصيان أمره، فأنزله من المسرح بالقوة وطرده برغم دفاع الكثيرين من الأشراف والنبلاء عنه، وخاصة الكونت دي جيش.
راجنو
طباخ مشهور، يبيع في حانوته الكبير أفخر أنواع المطاعم، من شواء وفطائر وحلوى، وكان محبا للشعر والأدب والتمثيل، عطوفا على البؤساء من الشعراء والممثلين، وكان يستقبلهم في حانوته استقبالا حافلا، ويقدم لهم على حسابه ما يقترحون من طعام وشراب، وكان كل حظه منهم أن يجلس إليهم، ويسمع محاوراتهم الأدبية، ويلتقط ما يتناثر حولهم من مسودات أشعارهم وفصولهم، ويسمعهم ما ينظمه من الشعر الضعيف التافه، فيتظاهرون باستحسانه والإعجاب به، إبقاء على مودته، حتى أدركته حرفة الأدب فأفلس وأغلق حانوته، فأعانه سيرانو على شئون حياته - وكان من أكبر أنصاره والمتشيعين له - ولكن الحظ كان قد فارقه، فلم ينجح في عمل من الأعمال التي اشتغل بها، وظل البؤس ملازما له طول حياته.
ليز
زوجة راجنو، وهي امرأة فاسدة الأخلاق خبيثة النفس، كانت تهزأ بزوجها وتسخر منه، وتنعى عليه اشتغاله بالشعر والأدب واهتمامه بالشعراء والأدباء وعنايته بهم، وكانت تفضل أن تقدم هي بنفسها الحانوت كله لضابط من ضباط الجيش تعجب به، على أن يقدم زوجها راجنو لقمة واحدة منه لأديب من الأدباء، ولما رأت تضعضع حاله وانتكاث أمره، فرت مع أحد ضباط الجيش، ولم يرها بعد ذلك.
كاربون دي كاستل
قائد فصيلة شبان الحرس، وكان كل أفرادها من الجاسكونيين، وهو جاسكوني مثلهم، فكان يحبهم حبا شديدا، ويعطف عليهم، وكان يعتمد في أعماله على سيرانو، ويعده خير جنوده، والتاريخ يذكر له دفاعه العظيم بفصيلته في ميدان أراس عن الموقع الذي اختار جيش العدو مهاجمته، حتى تم النصر للراية الفرنسية على الراية الإسبانية.
الفصل الأول
অজানা পৃষ্ঠা
حانة بوروجونيا
في ليلة من ليالي سنة 1640، بدأ الناس يفدون إلى حانة بوروجونيا في باريس، لمشاهدة رواية «كلوريز» - وهي إحدى روايات الشاعر المشهور «بلتازار بارو» - ولم يكن للتمثيل في ذلك العصر دور خاصة به، وإنما كانوا يمثلون في الحانات أو المطاعم الكبيرة، على مسارح خاصة يعدونها لذلك.
وكان جمهور المشاهدين في تلك الليلة - كما هو شأنهم في جميع الليالي - خليطا من العمال والجنود، واللصوص والخدم، والأشراف والعلماء والكتاب، وأعضاء المجمع العلمي الفرنسي، قد اختلط بعضهم ببعض، وجلس أخيارهم بجانب أشرارهم، فبينما العلماء يتناقشون في مباحثهم العلمية والأدباء يتحدثون في شئونهم الأدبية، إذا فريق من الخدم قد ألصقوا شمعة بالأرض، واستداروا من حولها حلقة واسعة، وأخذوا يقامرون بالمال الذي سرقوه من أسيادهم في ساعات لهوهم واستهتارهم، وآخرون من أبناء الأشراف قد تماسكوا بأيديهم، وظلوا يدورون حول أنفسهم راقصين مترنحين، وآخرون من الغوغاء يأكلون ويقصفون ويتسابون ويتلاكمون، ويجئرون بأصوات عالية متنوعة كأنهم في سوق من أسواق المزايدة، وجماعة من الجند يتلهون بالمبارزة والملاكمة، لا يبالون من يطئون بأقدامهم، أو يصيبون بشفرات سيوفهم، وفئة من الصعاليك قد اصطفوا صفا واحدا بين يدي لص من دهاة اللصوص ومناكيرهم، يعلمهم كيف يسرقون الساعات من الصدور، ويمزقون الجيوب عن الأكياس، وكيف يتغفلون صاحب المعطف عن معطفه، والقبعة عن قبعته، والعصا عن عصاه، كأنه قائد يدرب جنوده على الحركات العسكرية، وفتى من المتأنقين المتظرفين يطارد فتاة المقصف من ركن إلى ركن يحاول إمساكها والعبث بها، وهي تتمنع عليه، وتتأبى تأبيا أشبه بالإغراء منه بالامتناع، وجندي من جنود الحرس قد تغفل البواب عند دخوله واملس من يده دون أن يدفع إليه شيئا، والبواب يطارده ويلاحيه ويأخذ بتلابيبه، فيجادل عن نفسه بأنه حارس الملك، وحراس الملك أحرار يدخلون من الأمكنة ما يشاءون، وزمرة من المتأدبين قد انتبذوا ناحية من القاعة، وأخذوا يندبون الأدب وحظه وشقاء أهليه وبلاءهم، ويقول بعضهم لبعض: أليس من مصائب الدهر ورزاياه أن يقف موقف الممثل بين هذا الجمهور الساقط أمثال «مونفلوري» و«بلروز» و«بويريه» و«جودليه»، وأن تمثل على مثل هذا المسرح الحقير المتبذل روايات أكابر الشعراء الروائيين أمثال «روترو» و«كورني» و«بارو»؟
ولم يكن يضيء تلك القاعة على كبرها واتساعها إلا بضعة مصابيح ضئيلة، تتراءى تلك الجماهير على نورها كأنها الأشباح المتحركة، أو الأرواح الهائمة، وقد يسمع السامع فيها من حين إلى حين في وسط هذه الضوضاء صوت فتاة المقصف، وهي تصيح خلف مقصفها بصوتها الرقيق الرنان: «اللبن»، «الحلوى»، «عصير البرتقال»، «عصير الرمان»، «الشواء»، «الفطير»، «النبيذ»، أو صوت شيخ هرم يسب ويحتدم ويضرب الأرض بقدميه، وهو عاري الرأس منقلب السحنة؛ لأن أحد الجالسين في الطبقة العليا من الملعب قد أرسل على شعر رأسه المستعار شصا فاجتذبه به، وظل معلقا في الفضاء على مرأى من الجماهير الضاحكين، أو صارخا متألما قد وضع يده على عينه وظل يصيح: وا غوثاه! وا ويلتاه! لأن بعض المتفرجين صوب إليها حصاة صغيرة أو نواة فأصابها بها، إلى أمثال ذلك من صراخ الصارخين، وهتاف الهاتفين من جميع جوانب القاعة: أشعلوا الأنوار، ارفعوا الستار.
ولم يزل هذا شأنهم حتى دقت الساعة العاشرة من الليل، وقرب ميعاد التمثيل، فدخل جماعة من الأشراف المتأنقين يجررون أذيالهم، ويشمخون بأنوفهم، ويتأففون لضعف الأنوار وضوضاء الجماهير ، ويصيحون: الطريق الطريق أيها الصعاليك، فتنفرج الصفوف لهم انفراجا، حتى بلغوا مكان المسرح فصعدوا عليه، وجلسوا فيه على مقاعد متفرقة في أنحائه جلسة باردة وقحة لا أدب فيها ولا احتشام، وكانت المقاصير في ذلك التاريخ خاصة بالنساء، لا يجلس فيها غيرهن، إلا مقصورة واحدة بجانب المسرح كان يجلس فيها الكردينال إذا حضر، أو من ينزل منزلته من عظماء المملكة ووجوهها.
طاهي الشعراء
جلس في ركن من أركان القاعة في تلك الساعة شخصان منفردان، أحدهما الشاعر «لينيير»، وهو رجل بائس مسكين، مغرم بالشراب ومعاقرته، لا تكاد تفارق يده الكأس ليله ونهاره، وثانيهما البارون «كرستيان دي نوفييت»، وهو فتى من أشراف الريف، جميل الطلعة، حسن الزي والثياب، إلا أن هندامه على الطراز القديم، حضر من «تورين» إلى باريس منذ عشرين يوما ليلتحق بفرقة الحرس من الجيش الفرنسي، فلم يدخلها إلى صباح اليوم. فقال الشاعر للبارون: إن صاحبتك لم تحضر حتى الساعة، وها هي ذي مقصورتها التي أشرت لي إليها لا تزال خالية، وقد اشتد ظمئي، فأذن لي بالذهاب إلى إحدى الحانات القريبة لأتناول قليلا من الشراب ثم أعود إليك، فاضطرب كرستيان وتشبث بثوبه وقال له: إنك إن ذهبت لن تعود يا لينيير، وأنا في أشد الحاجة إليك، فإني أريد أن أعرف من هي؟ وما منبت دوحتها؟ وربما بدا لي أن أزورها الليلة في مقصورتها، وأتعرف إليها، وليس في استطاعتي أن أقدم على ذلك وحدي، فأنت تعلم أنني رجل جندي ساذج، حديث عهد بهذا البلد وأهليه وآدابه ومصطلحاته، ويخيل إلي - وإن لم أكن قد حادثتها أو جلست إليها - أنها فتاة ذكية متوقدة، بارعة في أساليب الحديث ومناهجه، وأخاف إن أنا لقيتها وحدي أن أضعف أمامها وأضطرب، أو أرتبك في حركة من الحركات بين يديها، فأسقط من عينيها سقطة لا مقيل لي منها أبد الدهر، فابق معي وكن عونا لي عليها لتتم بذلك يدك عندي.
وهنا مرت فتاة المقصف حاملة على يدها صينية بيضاء، وهي تتغنى بصوتها الرقيق الشجي، فناداها لينيير فدنت منه، فسألها عما عندها، فظلت تسرد عليه أسماء فطائرها وقدائدها وأشربتها وحلواها، وهو لا يأبه لشيء من ذلك، حتى ذكرت له نبيذ «بوردو» فتهلل وجهه وتحلب فوه، وطلب إليها أن تأتيه بالجيد منه، فأتت له بما أراد، فملأ كأسه، وبدأ يشرب ويتغنى، وما هي إلا لحظة حتى قال لكرستيان: الآن أستطيع أن أبقى معك قليلا أيها الصديق الكريم.
وفي تلك اللحظة دخل القاعة رجل قصير، ضخم الجثة غريب الهيئة، في ملابس الطهاة وشمائلهم، فصرخ الجماهير حين رأوه: راجنو! راجنو! فلم يأبه لهم، ولم يلتفت إليهم، واندفع مسرعا إلى لينيير، وقال له بصوت متهدج مضطرب دون أن يحييه أو يحيي جليسه: ألم تر صديقنا سيرانو يا لينيير؟ قال: لا، وما لي أراك مضطربا هكذا، كأنك هارب من معركة أو مأخوذ بجريمة؟ قال: ما أحسب إلا أنه سيحدث الليلة في هذه القاعة حادث عظيم لا يعلم إلا الله كيف تكون عاقبته! فانزعج لينيير، وقال: أي حادث تريد؟ قال: قد علمت الساعة أن سيرانو كان وجد على الممثل مونفلوري منذ أيام في شأن من الشئون لا أعلمه، فحكم عليه بأن ينقطع عن التمثيل شهرا كاملا، وهدده بالموت إن هو خالف أمره، وكنت أظن أن الرجل قد أذعن لهذا الحكم ضنا بنفسه وبحياته، ولكنني رأيته الساعة واقفا في حجرة الممثلين، يترنم بقطعة تمثيلية، وأظن أنه سيقوم بتمثيل دوره الذي اعتاد أن يمثله في رواية «كلوريز» وهو دور «فيدين»، فإن فعل فقد وقعت الكارثة العظمى التي لا حيلة لنا ولا لأحد من الناس في دفعها، وسيرانو كما تعلم رجل مخاطر جريء، لا يبالي بعواقب الأمور، ولا يفكر في نتائجها! فقهقه لينيير ضاحكا وقال: يا له من قاض غريب! ويا له من حكم عجيب! هدئ روعك يا صديقي، فالأمر أهون مما تظن، فربما لا يحضر سيرانو، أو لا يمثل مونفلوري، فلا يقع شيء من المكروه الذي تتوقعه، ثم التفت إلى مرستيان وقال له: أقدم إليك المسيو راجنو، طاهي الشعراء والممثلين، وهو اللقب الذي اختاره لنفسه، وعرف به بين الناس جميعا؛ لأنه صديقهم المخلص الذي يحبهم ويكرمهم ويذود عنهم، ويفتح لهم باب مطعمه على مصراعيه يأكلون منه ما يشتهون، ويشربون ما يقترحون، لا يتقاضاهم على ذلك أجرا سوى قصيدة من الشعر يملونها عليه، أو قطعة تمثيلية يمثلونها بين يديه، أي أنه يملأ لهم أفواههم طعاما فيملئون له أذنيه كلاما، والأذن كما تعلم ليست طريقا إلى المعدة كالفم، وهو فوق ذلك شاعر متفنن مطبوع، ينظم أكثر شعره في وصف فطائره وحلواه! فانحنى راجنو بين يدي كرستيان وقال: نعم يا سيدي، إنني صديق الشعراء والممثلين، بل عبدهم ومولاهم، وصنيعة فضلهم وإحسانهم، وإن ساعة أقضيها في حضرتهم أسمع طرائف أشعارهم، وبدائع فصولهم لهي عندي ساعة الحياة التي لا أعدل بها ساعة غيرها، فشكر له كرستيان فضله وأدبه، وأثنى خيرا على شرف عواطفه واكتمال مروءته، وما هي إلا كرة الطرف حتى عاد إلى راجنو قلقه واضطرابه، وأخذ يدور بعينيه في الجماهير يفتش عن سيرانو، فقال له لينيير: إنه لم يحضر حتى الآن، وها هو ذا الوقاد قد بدأ في إشعال المصابيح، وها هو ذا الستار قد أوشك أن يرتفع، وما أظنه حاضرا بعد ذلك.
سيرانو
অজানা পৃষ্ঠা
وكان رجل من الأشراف اسمه المركيز دي جيجي جالسا على مقربة منهم يسمع حديثهم وينصت لحوارهم، فوضع يده على كتف راجنو، فالتفت راجنو إليه. فقال له: أتستطيع أن تخبرنى من هو سيرانو هذا الذي تتحدثون عنه؟ فهز راجنو رأسه كالمستغرب، وقال له: إني لأعجب لأمرك يا سيدي، فهي أول مرة سمعت فيها أن إنسانا في العالم لا يعرف السيد سيرانو! قال: إني أعرف عنه شيئا قليلا، وأريد أن أعلم أنبيل هو أم صعلوك؟ قال: إن كنت تريد من النبل شيئا غير الشرائط والأوسمة والذهب والفضة والحرير والديباج، فهو أنبل النبلاء وأشرفهم؛ لأنه جندي شجاع، جريء في مواقفه ومشاهده، صادق في قوله وفعله، لا يحابي ولا يجامل، ولا يتذلل ولا يتزلف، ولا يخضع في شأن من شئون حياته إلا للحق الذي يعبده ويدين له، ولو عرفته يا سيدي لعرفت أفضل الناس خلقا، وأشرفهم نفسا، وأطيبهم قلبا، وأشدهم عطفا على البؤساء والمنكوبين، وهو فوق ذلك شاعر مجيد، وعالم فاضل، وناقد بارع، أما شكله فمن أغرب الأشكال وأعجبها، حتى لو أراد مصورنا العظيم «فيليب دي شامبيني» أن يرسمه كما هو لعجز عن ذلك أو كاد، فإن الناظر إليه ليعجب كل العجب لمنظر قبعته المحلاة بالريشات الثلاث، وردائه الملون الجميل، وقبائه الواسع المسدس الأطراف، الذي يرفع مؤخره بطرف سيفه، ثم يمشي به مختالا كأنه طاووس يجر ذنبه وراءه، وله أنف هائل جدا، لا يراه الرائي حتى يذعر ويرتاع، ويقف أمامه مدهوشا منذهلا، يعجب لصاحبه كيف استطاع أن يحمله في رقعة وجهه، وكيف لا يلتمس السبيل إلى الخلاص منه، أما هو فراض عنه كل الرضا، لا يشعر بثقله، ولا يفكر في الخلاص منه بحال من الأحوال، والويل كل الويل لمن يرفع نظره إليه، أو تختلج شفتاه بابتسامة العجب منه أو السخرية به، فإن رأسه يطير بضربة واحدة من حد سيفه. فقال له المركيز: كيفما كان الأمر فإنني أستطيع أن أقول لك - وأنا على ثقة مما أقول، إنه أعجز من أن يمنع مونفلوري عن التمثيل؛ بل هو لا يحضر الحفلة الليلة فرارا من وعيده الكاذب. فقال راجنو: وأنا أراهن على حضوره بدجاجة مشوية من مطعم «راجنو» الشهير، ولا أرزؤك دانقا واحدا إن أنا ربحت الرهان! ثم أدار ظهره إليه، وجلس يتحدث إلى لينيير وكرستيان.
وإنه لكذلك إذ لمح رجلا مقبلا على البعد. فقال لصاحبه: ها هو ذا المسيو «لبريه» صديق السيد سيرانو الحميم، فأذنا لي بالذهاب إليه، لعلي أستطيع أن أعلم من شأنه شيئا، ثم تركهما وذهب إليه، فرآه يقلب نظره في الجماهير، ويلتفت يمنة ويسرة، فقال له: لعلك تفتش عن سيرانو أيها الصديق؟ قال: نعم، وإني قلق من أجله جدا. قال: قد فتشت عنه قبلك فلم أجده، ثم انتحى به ناحية من القاعة، وجلسا معا يتحدثان.
روكسان
وهنا ظهرت روكسان في مقصورتها، فضج الجمهور حين رآها ضجيج السرور والابتهاج، وصاح أحد الأشراف الجالسين على المسرح: آه يا إلهي! إن جمالها فوق ما يتصور العقل البشري! وقال آخر: إنها زهرة تبتسم في أشعة الشمس، وقال آخر: إنها روضة يانعة يحمل النسيم رياها العطر إلى القلوب فينعشها، وكان كرستيان مشغولا بأداء ثمن الشراب الذي شربه لينيير، فلم ينتبه إليها؛ ثم التفت فرآها، فارتعد واصفر وجهه وأخذ بيد لينيير وقال له: ها هي ذي، فقل لي من هي؟ إنني خائف جدا يا صديقي، فضع يدك على قلبي فما أحسب إلا أنه يحاول الفرار من مكانه رهبة وجزعا، حدثني عنها واذكر لي كل ما تعلم من أمرها، وارفق بي في حديثك، حتى لا تقضي على الأمل الوحيد الباقي لي من حياتي.
فقهقه لينيير ضاحكا وقال له: بخ بخ لك يا كرستيان! لقد أحسنت الاختيار لنفسك كل الإحسان، وما أحببت إلا أجمل فتاة في فرنسا، فإن كان صحيحا ما تقول من أنها تمنحك من ودها مثل ما تمنحها، وأنها تنظر إليك بمثل العين التي تنظر بها إليها، فأنت أحسن الناس حظا، وأسعدهم طالعا، إنها السيدة مادلين روبان، الشهيرة بروكسان، وهي فتاة عذراء يتيمة، لا أهل لها ولا أقرباء سوى ابن عمها سيرانو دي بيرجراك، الذي كانوا يتحدثون عنه الآن، وهي على فرط جمالها وكثرة محاسنها، عفيفة طاهرة الذيل، عاقلة رزينة، تجلس إلى أذكياء الرجال وتحادثهم، وتفتتن بتصوراتهم وأفكارهم، وتخوض معهم في كل شأن من شئون الحياة حتى شأن الحب، ولكنها لا تأذن لأحد أن يحبها أو أن يعبث بقلبها، فإن حاول ذلك منهم محاول دافعته عنها برقة وأدب، ورفق وحكمة، فسلم لها شرفها وكرمها، ولا عيب فيها إلا أنها من فريق الأديبات المتحذلقات اللواتي أفسد الأدباء المتحذلقون أذواقهن الأدبية، فذهبن مذهب التكلف والتعمل في أحاديثهن وحوارهن، فلا ينطقن بكلمة صريحة خالية من التشابيه والمجازات والإشارات والكنايات، ولا يواجهن المعاني التي يردن الإفضاء بها إلى السامعين مواجهة، بل يدرن حولها دورات كثيرة حتى يصلن إليها، فإذا أردن أن يقلن في أحاديثهن العادية: أشرقت الشمس، قلن: «ذر قرن الغزالة»، أو أقبل الليل، قلن: «هجم جيش الظلام» أو: طلعت النجوم، قلن: «تجلت عروس الزنج في قلائدها الدرية»، أو: ها هو ذا الكرسي فاجلس عليه، قلن: «ها هو ذا الكرسي يفتح ذراعيه لاستقبالك فتفضل بإلقاء نفسك بين أحضانه»، أي إنهن لا يعجبهن من الألفاظ إلا المتكلف المصنوع، ولا من المعاني إلا المجلوب المختصر، ولا من الشعراء والكتاب إلا المتكلفون المتشدقون في أساليبهم وتصوراتهم، وهي سعيدة في عيشها، مغتبطة بحياتها، لا ينغص عليها صفوها غير هذا الرجل الهمجي المتوحش الذي تراه واقفا بجانبها الآن.
فالتفت كرستيان، فرأى رجلا رشيقا متأنقا حسن الزي والهندام، متشحا بوشاح حريري أزرق، متقلدا سيفا عسكريا مرصعا، قد أسند ذراعه إلى ظهر كرسيها كأنه يحتضنها، وظل يحادثها بصوت منخفض كأنه يسارها ويناجيها؛ فقال له وهو يرتجف غيظا وحنقا: من هذا الرجل؟ وكان لينيير قد ثقل، وبدأ يتمتم ويتلعثم. فقال بنغمة الفأفأة: إنه الكونت دي جيش، أحد قواد الجيش الفرنسي، وصهر الكردينال دي ريشلييه وزير فرنسا العظيم، وقد أحب روكسان وأغرم بها غراما شديدا، ولما رأى أن لا سبيل له إليها من طريق المخالة؛ لأنها شريفة مترفعة، ولا من طريق الزواج؛ لأنه متزوج بابنة أخت الكردينال، أراد أن يزوجها من رجل ساقط من أشياعه، لا تحبه ولا تأبه له اسمه الفيكونت «فالفير»، طمعا في أن ينال منها من طريقه ما لم ينل من طريق آخر، فهالها الأمر وتعاظمها، وأبت أن تذعن لرأيه أو تنزل على حكمه، ولكنه لا يزال يلح عليها ويضايقها، وهي تدافعه عنها بلطف وأدب، وحذر واحتياط، وأخاف إن استمرت هذه الحال أن ينتهي بها الأمر إلى الخضوع والإذعان؛ لأن الرجل قوي جريء مدل بمكانه من قيادة الجيش، وبحظوته عند الكردينال، وليس في أنحاء المملكة جميعها من يجرؤ على التفكير في مشادته أو الخلاف عليه، ولقد أثرت هذه الحادثة في نفسي تأثيرا شديدا، وأشفقت على تلك الفتاة المسكينة أن يستبد بها وبمستقبلها رجل حائر متوحش كهذا الرجل، فنظمت قصيدة رنانة شرحت فيها قصته معها، وهجوته فيها هجاء مرا لا أحسب أنه يغتفره لي مدى الدهر، وإن شئت أن تسمع هذه القصيدة فهاكها.
وكان الشراب قد نال منه أقصى مناله، فنهض قائما على قدميه، وأخذ يصوب إلى الكونت نظرة هائلة مخيفة، ورفع الكأس بيده، وحاول أن يتغنى بقصيدته، فأسكته كرستيان وقال له: لا تفعل فإني ذاهب. قال: إلى أين؟ قال: أفتش عن فالفير. قال: ماذا تريد منه؟ قال: أقتله! قال: إني أخاف عليك منه؛ لأنه أقوى منك وربما قتلك. قال: لا أبالي بالموت في سبيلها. قال: انظر، ها هي ذي تنظر إليك، وتحدق فيك تحديقا شديدا، فلا يشغلك شاغل عنها، أما أنا فإني ذاهب لشأني، فإن أصدقائي ينتظرونني في الحان، ولا خير لي في الكأس من دونهم، فأذن لي بالذهاب، فأذن له فانصرف، وظل هو شاخصا إلى مقصورة روكسان، يبادلها نظرات الحب والشغف، ويفضي إليها من طريق الصمت والسكون بما عجز عن الإفضاء به من طريق الكلام.
وكان الكونت دي جيش قد نزل من مقصورتها، ومشى في القاعة يحف به جمع عظيم من حاشيته وأصدقائه، يتملقونه ويداهنونه، وحساده ومنافسوه من نبلاء القوم وأشرافهم يتغامزون فيما بينهم، ويرمونه بنظرات الحقد والحرد، ويسمونه القائد المغرور مرة، والجاسكوني الكذاب أخرى، حتى إذا مر بين أيديهم نهضوا له إعظاما وإجلالا، وانحنوا بين يديه وداروا به يصانعونه ويماسحونه، حتى بلغ مكان المسرح، فصعد إليه هو وأتباعه، وجلس على كرسيه المعد له، ثم التفت حوله وقال: أين الفيكونت فالفير؟ فأجابه: هأنذا يا سيدي. قال: تعال بجانبي لأحدثك قليلا.
وكان كرستيان واقفا مكانه ينظر إليه على البعد نظرات الحقد والموجدة، فما سمع اسم فالفير حتى ثار ثائره، وغلى دمه في رأسه، وعلم أنه قد وجد خصمه، فوثب من مكانه وثبة قوية، وصاح: ها قد عرفته، وسألطمه بقفازي على وجهه لطمة هائلة! ووضع يده في جيبه ليخرج قفازه منه، فدهش حين عثرت يده فيه بيد أخرى غريبة، فقبض عليها بشدة والتفت وراءه، فإذا لص قبيح المنظر، زري الهيئة، يحاول سرقته، فصاح فيه: من أنت؟ وماذا تريد؟ فتضعضع الرجل واستخزى، واستطير عقله خوفا ورعبا، ثم ما لبث أن عاد إلى نفسه واستجمع قواه، وقال له: عفوا يا سيدي، فإني ما أردت سرقتك، وإنما هو تمرين بسيط، فقد تلقيت الساعة أول درس من دروس اللصوصية على أستاذي «بوار»، وقد بعثني إليك كما بعث غيري إلى غيرك، لا لنسرقكم أو نحول بينكم وبين أموالكم، بل لنستوثق من أنفسنا أننا قد حذقنا دروسنا واستظهرناها، فاعف عني واغتفر لي هذه الزلة، واعلم أن في صدري سرا هائلا جدا ينفعك نفعا عظيما إن أفضي به إليك، وهو خير لك مني ألف مرة! فضحك كرستيان طويلا، وقال: أي سر تريد؟ قال: إن صديقك الذي كان جالسا معك منذ هنيهة - وقد نسيت اسمه الآن - هو في الساعة الأخيرة من ساعات حياته، وإن لم تسرع إلى نجدته! قال: أتريد لينيير؟ قال: نعم، فدهش كرستيان، وقال: لم أفهم ما تريد. قال: إنه كان قد هجا منذ أيام عظيما من عظماء هذا البلد بقصيدة مقذعة، فحقدها عليه حقدا شديدا، ورأى أن ينتقم لنفسه منه، فأعد له مائة رجل يكمنون له الليلة في جنح الظلام عند باب «نيل»، في طريقه إلى منزله ليقتلوه، وأنا أحد أولئك الرجال، فاخرج الآن واطلبه في الحانات التي يجلس فيها، وهي المضغط الذهبي، والتفاحة الخشبية، والحزام الممزق، والمشاعل، والأقماع الثلاثة، واترك له بطاقة في كل واحدة منها لتنذره بهذا الخطر الداهم. قال: ومن هو ذلك العظيم الذي دبر له هذه المكيدة؟ قال ذلك سر المهنة لا أستطيع أن أبوح به! فضحك كرستيان وقال: لا حاجة بي إليك فقد عرفته، ثم خلى سبيله فذهب لشأنه، والتفت هو إلى مقصورة روكسان، فرآها متلفتة إليه لا تكاد ترفع نظرها عنه، فألقى عليها نظرة حزينة، وقال في نفسه: وا أسفاه! لا بد لي أن أتركها الآن، ثم ألقى على الفيكونت نظرة ملتهبة، وقال: وأن أتركه أيضا؛ لأني أريد إنقاذ لينيير، ثم ترك الملعب وانصرف ليفتش عن صديقه في تلك الحانات الخمس.
البطل
অজানা পৃষ্ঠা
بدأ الموسيقيون يوقعون على نغماتهم الرقيقة الشجية، وسكنت الجماهير تنتظر رفع الستار، فهمس لبريه في أذن راجنو: ترى هل يظهر مونفلوري على المسرح الآن؟ قال: نعم، ما من ذلك بد؛ لأنه صاحب الدور الأول في الرواية، ولأنه قد علم أن سيرانو لا يحضر بعد الآن، وأظن أني قد خسرت الرهان! قال: فليكن، فقد كنت أتوقع من حضوره شرا عظيما.
وهنا دق الجرس ثلاث دقات ثم ارتفع الستار، فظهر مونفلوري على المسرح لابسا ملابس راع، وعلى رأسه قبعة محلاة بالورود مائلة إلى أذنه، وفي يده أرغول طويل ينفخ فيه، فصفق له الجمهور تصفيقا كثيرا، فشكرهم بإيماءة رأسه، ثم أنشأ يمثل دور فيدين، ويتغنى بهذه القطعة:
هنيئا للذين يبتعدون عن قصور الملوك جهدهم، بل يعتزلون العالم بأسره، ويفرون منه إلى مكان ناء في منقطع العمران، لا يرون فيه غير وجه الطبيعة الجميل ...
وهنا رن صوت عظيم في جوانب القاعة يقول: «ألم أحرم عليك التمثيل شهرا كاملا يا مونفلوري؟»
فدهش الجمهور، وجمد مونفلوري في مكانه، والتفت الناس يمنة ويسرة يفتشون عن صاحب الصوت أين مكانه، ووقف النساء في المقاصير ينظرن ماذا جرى، وهمس راجنو في أذن لبريه، قد ربحت الرهان يا صديقي، فها هو ذا سيرانو قد حضر. فقال لبريه: ليته لم يحضر، وليتك خسرت كل شيء! وما هي إلا لحظة حتى ظهر سيرانو يتخطى الرقاب، ويدفع المقاعد بين يديه دفعا، ويزمجر زمجرة الرعد، حتى وصل إلى كرسي أمام المسرح فاعتلاه، وهز عصاه الطويلة في وجه الممثل وقال له: اترك المسرح حالا يا أحقر الممثلين، وإلا فأنت أعلم بما يكون، فسخط جمهور من الناس سخطا شديدا، وضجوا من كل ناحية: مثل يا مونفلوري، مثل ولا تخف، فتشجع مونفلوري وعاد إلى التغني بقطعته: «هنيئا للذين يبتعدون عن قصور الملوك جهدهم، بل يعتزلون العالم بأسره ...» فقاطعه سيرانو وصاح وهو يزأر زئير الليث: كأنك تأبى أيها الغبي الأحمق إلا أن أجعل ظهرك مزرعة لعصاي هذه، فاترك المسرح حالا، فقد أوشكت أن أغضب. فاحتدم الجمهور غيظا، وأخذوا يصيحون: صه أيها المجنون، مثل يا مونفلوري، إنه فضول غريب، إنها سماجة نادرة، فعاد إلى الممثل هدوءه وسكونه، وعاد إلى التغني بقطعته: «هنيئا للذين ...» فما نطق بأول حرف منها حتى وثب سيرانو من كرسيه الذي كان واقفا عليه إلى أقرب كرسي إلى المسرح، وهز عصاه في وجهه وصاح: لا تمثل أيها الدب الهائل ولا تنطق بحرف واحد، فإن فعلت ضربتك بعصاي هذه على وجهك ضربة لا تعرف من بعدها أين مكان أنفك منك، قد أمرتك وليس في العالم قوة تستطيع أن تعترض أمري، فطاش عقل مونفلوري وتلجلج لسانه، والتفت إلى الأشراف الجالسين على المسرح من حوله وقال: النجدة يا سادتي! فنظر أحدهم إلى سيرانو نظرة عظمة وكبرياء، وقال له: كفى هذيانا أيها الفضولي الثرثار، فقد أزعجتنا بضوضائك، وكدرت صفونا، والتفت آخر إلى الممثل وقال له: مثل يا رجل ولا تحفل بشيء فأنا أحميك، وقال آخر: لقد تجاوز الحد هذا الوقح حتى كاد يفرغ صبرنا.
فاتجه إليهم سيرانو وأنشأ يخاطبهم بهدوء وسكون، ويقول: يجب على حضرات السادة الأشراف أن يلزموا أماكنهم ويحافظوا على حيدتهم، فإني أشعر أن عصاي تتلهف شوقا إلى التهام شرائطهم وأوسمتهم.
فانتفض الأشراف غيظا وتناهضوا للقيام، وهاج الجمهور هياجا شديدا، وأحاط جمع عظيم منهم بكرسي سيرانو وأخذوا يصيحون في وجهه ويولولون، ويقلدون أصوات الحيوان: كالديك والهر والكلب والحمار، فاستدار نحوهم سيرانو وألقى عليهم نظرة هائلة مخيفة فتراجعوا قليلا، إلا أنهم ظلوا مستمرين في هياجهم وضوضائهم، وأخذوا يغنون بصوت واحد أنشودة هزلية يقولون فيها: «برغمك يا سيرانو ستمثل رواية كلوريز، برغمك يا سيرانو سيمثل مونفلوري!» يكررونها مرارا، فاستدار إليهم ثانية وزمجر في وجوههم، وصرخ فيهم صرخة هائلة، وقال: ألا تستطيعون أيها السفلة الأوغاد أن تتركوا سيفي هادئا في غمده ساعة واحدة؟ لا أحب أن أسمع منكم هذه الأنشودة مرة أخرى، وإلا حطمتكم جميعا! فقال له أحدهم: إنك لست بشمشون الجبار الذي ضرب جمعا عظيما من الناس بفك كلب فقتلهم، فالتفت إليه وقال: أستطيع أن أكون مثله لو أنك أعرتني فكك يا هذا! ثم التفت إلى مونفلوري، فرآه لا يزال واقفا في مكانه. فقال: يا للعجب! إنه لم ينفذ أمري حتى الآن، إنه يأبى إلا أن أجعل هذا المسرح مائدة أشرح عليها لحمه تشريحا، فعاد مونفلوري إلى استنجاده واستصراخه، وظل يقول: النجدة النجدة! الغوث الغوث! فازداد غضب الجمهور وهياجهم، وأحاطوا بكرسي سيرانو من كل ناحية، وأخذوا يهددونه وينذرونه بالويل والثبور، وعادوا إلى الترنم بأنشودتهم الأولى، وتقليد أصوات الحيوان، فاستدار إليهم فجأة، ثم وثب من كرسيه إلى الأرض، وتقدم نحوهم بعصاه، فتقهقروا بين يديه، حتى اتسعت الدائرة من حوله اتساعا عظيما، فصاح فيهم: إني آمركم جميعا أن تسكتوا، لا ينطق أحد منكم بحرف واحد بعد الآن، إني أعرف صور وجوهكم جميعها، فليس في استطاعة واحد منكم أن يفلت من يدي، من ذا الذي يريد أن يكون أول ناطق ليكون أول قتيل؟ ثم مر بهم يتصفح وجوههم واحدا فواحدا ويقول: من ذا الذي يريد؟ أأنت أيها الفتى؟ أم أنت أيها الكهل؟ أم أنت أيها الشيخ الهرم؟ من منكم يحب أن يكون اسمه أول اسم في جريدة الأموات؟ لم يجبني أحد بحرف واحد! ما سكوتكم؟ أجبنتم؟ ما لكم تفرون من وجهي؟ قلدوا أصوات الحيوان، غنوا الأنشودة الباردة! أرى صمتا عميقا وسكونا سائدا، لا حركة ولا إشارة! أظنهم قد ماتوا من شدة الخوف، الآن أستطيع أن أستمر في عملي! ثم اتجه إلى المسرح، وأنشأ يقول بصوت خشن أجش: أيها الأشراف، أيها الغوغاء، أيها الرجال، أيتها النساء، لا أريد أن أرى على جسم المسرح هذا الدمل القذر الخبيث، فإن لم ينفجر من نفسه فجرته بهذا المبضع القاتل، ولا أحب أن يعترض أحد منكم إرادتي، أو أخذت البريء بذنب المجرم، والجار بذنب الجار! ثم وضع يده على مقبض سيفه، وقد استحالت صورته إلى صورة وحش هائل قد كشر عن أنيابه للفتك بكل من يدنو منه.
فسكن الجمهور سكونا عميقا لا نأمة فيه ولا حركة. فقال مونفلوري بصوت خافت متقطع: إنك بإهانتك إياي يا سيدي قد أهنت الإلهة «تالي»! فقال: لا شأن لك بتلك الإلهة أيها الأحمق المأفون؛ لأنها إلهة التمثيل لا إلهة السخافات، ولو أنها شاهدت موقفك هذا وأنت تمثل بهذا الجسم الضخم الغليظ، وهذه الحركات الباردة الثقيلة، لتناولت مني عصاي هذه، وضربتك بها على أحقر عضو في جسمك، وهأنذا أصفق ثلاث مرات، وعند التصفيقة الثالثة لا بد أن تتلاشى من المسرح يا رأس الثور، أسمعت؟ فحاول مونفلوري أن يتكلم، فصفق سيرانو التصفيقة الأولى، فطار قلب الممثل فرقا ورعبا، وظل يقلب نظره في الجماهير، فلم يجد بينهم معينا ولا ناصرا، فأنشأ يقول بصوت مرتعد: سادتي! سادتي! أيرضيكم أن أهان في حضرتكم، وأن يهان الفن على مرأى منكم ومسمع؟! فصفق سيرانو التصفيقة الثانية، فاشتد اهتمام الجماهير، وتطاولت أعناقهم، وتحولوا من الهياج والغضب إلى الاهتمام بمعرفة النتيجة، وأخذ بعضهم يهمس في أذن بعض بأمثال هذه الكلمات: سيبقى، سيخرج، سيجبن، سيقاوم، لا يستطيع البقاء، لا يليق به الفرار، فحاول مونفلوري أن يقول شيئا آخر، ولكنه سمع التصفيقة الثالثة، فاختفى من المسرح كأنما غاص في مهوى عميق!
فهتف الجمهور لسيرانو هتافا عظيما، إلا بضعة أفراد قلائل، لا، بل أخذ الكثير منهم يسب الممثل ويشتمه ويسخر منه، وجلس سيرانو على كرسيه جلسة الفائز المنتصر، فتقدم نحوه فتى من المتفرجين وقال له: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك: ما السبب في بغضك مونفلوري؟ فصمت سيرانو لحظة، ثم ألقى عليه نظرة باسمة هادئة وقال له: عندي لذلك سببان: أولهما قبح تمثيله ورداءة حركاته، وأنه يغني الشعر العذب الرقيق بصوت مأخوذ مختنق فيفسده على صاحبه، وينغصه على الناس، أما السبب الثاني فهو سري الخاص الذي لا يمكنني أن أبوح به لأحد، فتقدم نحوه فتى آخر وقال له: ولكنك حرمتنا على كل حال مشاهدة رواية «كلوريز»، وما كنا نؤثر ذلك ولا نرضاه! قال: أظن أني لم أحرمك شيئا نفيسا أيها الفتى، فإن نظم «بارو» كنثره: كلاهما بارد غث لا يساوي شيئا؛ ولذلك قد كفيتكم وكفيت نفسي مئونة سماع روايته السخيفة غير آسف عليها! فصاحت فتاة في المقاصير: من ذا الذي يعيب شاعرنا بارو؟ أيستطيع أحد أن يجرؤ على ذلك؟ وتكلمت فتيات أخريات بمثل كلامها، فرفع سيرانو نظره إلى المقاصير، وأنشأ يخاطبهن ويقول: لكن يا سيداتي أن تكن جميلات رائعات كما تشأن، ولكن أن تختلبن الألباب، وتستلبن العقول بحسنكن ودلالكن، ولكن أن تبتسمن الابتسامات اللامعة البديعة التي تضيء بنورها ظلمات هذه الحياة، ولكن أن تبعثن السعادة والغبطة والسرور والبهجة في نفوس الناس جميعا، فيحيوا بفضلكن في هذا العالم حياة المسرة والهناء، ولكن أن توحين روح الشعر إلى الشعراء، وتملينها عليهم بسحركن وفتنتكن فيستطيعوا أن يطيروا بأجنحتهم في أجواء السموات العلا، ويشرقوا منها على الدنيا ومن فيها شموسا وأقمارا، لكن كل هذا ولكن ليس لكن أن تجلسن في محكمة الشعر لتحكمن في قضية الشعراء!
وكان «بلروز» صاحب الحان واقفا على مقربة منه. فقال له: وما رأيك يا سيدي في المال الذي خسرته الليلة بسببك؟ قال: هذه هي الكلمة الوحيدة المعقولة التي سمعتها الليلة في هذا المكان، ثم ضرب يده في جيبه، وأخرج منه كيسا مملوءا فضة، ورمى به إليه، فتهلل «بلروز» فرحا وابتهاجا، وقال له: بمثل هذا الثمن آذن لك يا سيدي بالحضور كل ليلة، وبتعطيل ما تشاء من الروايات! ثم التفت إلى المتفرجين وقال لهم: قد انتهى التمثيل يا سادتي، فهيا جميعا إلى الباب لتستردوا نقودكم.
অজানা পৃষ্ঠা
الأنفيات
وهنا تقدم رجل زري الهيئة قذر المنظر، تلوح على وجهه سمات المهانة والضعة، ممزوجة بالوقاحة والسماجة، وقال له بصوت خشن أجش: لا يقف موقفك هذا يا سيدي ولا يجرؤ على مثل ما جرؤت عليه إلا أحد رجلين: إما عظيم، أو صنيعة رجل عظيم، فهل لك أن تخبرني من هو مولاك الذي أنت صنيعته؟ فعجب سيرانو لأمره، وظل يردد نظره فيه ساعة، ثم قال له: ما أنا بصنيعة أحد أيها الرجل. قال: أليس لك سيد يحميك ويرعاك؟ قال: لا! قال: ألا تلجأ في ساعات شدتك وحرجك إلى نبيل من نبلاء هذا البلد أو أمير من أمرائه يسبل عليك ستر حمايته؟ قال: قلت لك: «لا» مرتين، فهل ترى حتما لازما أن أقولها لك مائة مرة لتفهمها؟ ثم وضع يده على مقبض سيفه، وقال: ليس لي حام ولا سيد غير هذا! فقال: إذن لا تطلع عليك شمس الغد حتى تكون قد شددت رحلك وتزودت زادك، وغادرت باريس إلى بلد ناء لا رجعة لك منه أبد الدهر! قال: لماذا؟ قال: لأن مونفلوري الذي أهنته الليلة، صنيعة رجل عظيم هو الدوق «دي كندال»، وذراع هذا الرجل طويلة جدا تتناول أبعد الأشياء، ولو كانت في قرن الشمس. قال: ولكنها ليست أطول من ذراعي حين أصلها بسيفي! قال: إنك لا تستطيع أن تزعم في نفسك أنك ... فقاطعه سيرانو وصاح: أستطيع أن أزعم كل شيء أيها الفضولي الثرثار، فاغرب عن وجهي، واطلب لنفسك طريق الخلاص مني! فظل الرجل جامدا مكانه يحدق فيه تحديقا شديدا، لا يطرف ولا يتحرك، فانفجر سيرانو غيظا، وانقض عليه وأخذ بتلابيبه وقال له: اخرج من هنا حالا أو حدثني ما لي أراك تنظر إلى أنفي هذه النظرة المريبة؟ فصعق الرجل في مكانه، وظل يرتعد بين يديه، وكان يعلم الناس جميعا أن سيرانو لا يغضب لشيء من الأشياء غضبه لأنفه، ولا ينتقم لشيء انتقامه له، وقال: أنا يا سيدي! قال: نعم أنت، فما الذي تراه غريبا فيه؟ قال: إنك واهم يا سيدي، فإنني - وأقسم لك - ما فكرت قط في شيء مما تقول. قال: أتراه رخوا متهدلا كخرطوم الفيل؟ قال: لا يا سيدي. قال: أو محدودبا كمنقار البومة؟ قال: لا يا سيدي. قال: أويخيل إليك أن أرنبته دمل كبير يزعجك منظره؟ قال: أبدا يا سيدي، وما فكرت في ذلك قط.
قال: أويتراءى لك أن الذباب يمشي متزلقا فوق تضاريسه؟
قال: لا يا سيدي، لم يخطر ببالي شيء من ذلك، وأقسم لك.
قال: أتراه أعجوبة من أعاجيب الدهر أو فلتة من فلتات الطبيعة؟
قال: لا يا سيدي، لا هذا ولا ذاك. قال: أترى لونه مضرا بالنظر، أو وضعه خارجا عن الحد، أو شكله مخالفا للآداب العامة؟ قال: آه يا إلهي! إنني لم أسمح لنفسي بالنظر إليه مطلقا. قال: ولم لا تسمح لنفسك بالنظر إليه، أتشمئز منه؟ قال: أبدا يا سيدي وأقسم لك. قال: أهو في نظرك كبير جدا إلى هذا الحد؟ قال: لا، بل صغير جدا لا أكاد أشعر به. قال: أتهزأ بي أيها الرجل؟ قال: عفوا يا سيدي فإني لا أدري ما أقول. قال: وهل تظن أيها الغبي الأحمق أن الأنف الصغير مفخرة من المفاخر التي يعتز بها صاحبها؟ نعم إن أنفي كبير جدا؛ لا يكبره أنف في هذا البلد، وذلك ما أفخر به كل الفخر؛ لأن الأنف الكبير عنوان الكرم والشرف، والشجاعة والشمم، وأنا ذلك الذي اجتمعت له هذه الصفات جميعها، أما الوجه الكروي الأملس المجرد من هذا العنوان الشريف - كوجهك هذا - فلا يستحق غير اللطم، ولطمه على وجهه لطمة هائلة، ثم وكزه برجله، ففر الرجل هاربا من بين يديه وهو يصيح: النجدة النجدة! فعاد سيرانو إلى مكانه، وجلس على كرسيه مفتخرا معتزا، وظل يقول: هذا إنذار مني لجميع الفضوليين الثرثارين الذين يحاولون أن يهزءوا بهذا الموضع الناتئ في وجهي ألا يفعلوا، فإن حدثتهم نفوسهم بشيء من ذلك - سواء أكانوا من الغوغاء أم من النبلاء - فليعلموا أنني لا أسمح لهم بالفرار من يدي كما سمحت لهذا الجبان الرعديد، قبل أن أغرس ذباب سيفي في سويداء قلوبهم.
فانتفض الأشراف غيظا وثاروا من أماكنهم، وقال الكونت دي جيش: يخيل إلي أن الرجل قد بدأ يضايقنا، ثم انحدر من المسرح تتبعه حاشيته، حتى دنا من سيرانو، والتفت إلى أصحابه وقال لهم: ألا يوجد بينكم من يصلح لمقارعة هذا الرجل؟ فقال الكونت فالفير: أنا صاحبه يا سيدي فانتظر قليلا، فإني سأفوق إليه سهما لا قبل له بالنجاة منه، ثم تقدم نحو سيرانو وهو جالس على كرسيه جلسة العظمة والكبرياء، وظل يردد النظر في وجهه طويلا، ثم قال له: إن أنفك أيها الرجل قبيح جدا! فرفع سيرانو نظره إليه بهدوء وسكون، ثم قهقه قهقهة طويلة، وقال: ثم ماذا؟ قال: لا شيء سوى أن أقول لك مرة أخرى: إن أنفك أعجوبة من أعاجيب الزمان! فنهض سيرانو عن كرسيه متثاقلا، وتقدم نحوه خطوة، وألقى عليه نظرة من تلكم النظرات الهائلة التي اعتاد أن يصرع بها خصومه حين يلقيها عليهم، وقال له: ثم ماذا؟ فاضطرب الفيكونت وشعر بدبيب الخوف في قلبه، وقال: لا شيء! قال: أهذا هو السهم القاتل الذي أردت أن ترميني به؟ لقد كنت أظن أنك أذكى من ذلك، فازداد اضطراب الفيكونت وقال: وماذا تريد؟ قال: أريد أن أقول لك: إن مجال القول في الآناف ذو سعة، ولو كان عندك ذرة واحدة من الفطنة والذكاء، أو أن لك بعض العلم بأساليب الخطاب ومناهجه، لاستطعت أن تقول لي في هذا الموضوع شيئا كثيرا، كأن تقول لي مثلا بلهجة «المتنطعين»: لو كان لي أيها الرجل أنف مثل أنفك هذا لأرحت نفسي والعالم منه بضربة واحدة من حد سيفي.
وبلهجة «المتلطفين»: حبذا لو صنعت يا سيدي لأنفك هذا كأسا خاصة به، فإني أراه يشرب معك من كأسك التي تشرب منها.
وبأسلوب «الواصفين»: ما أرى أنفك إلا صخرة عاتية، أو قمة عالية، أو هضبة مشرفة، أو روشنا مطلا، أو رأسا ناتئا، أو لسانا ممتدا.
وبنغمة «الفضوليين»: ما هذا الشيء الناتئ في وجهك يا سيدي؟ أمحارة مستطيلة، أم دواة للكتابة، أم صندوق للأمواس، أو علبة للمقاريض؟
অজানা পৃষ্ঠা
وبلهجة «الماجنين»: أبلغ بك غرامك بالطيور يا سيدي أن تبني لها في وجهك برجا خاصا بها؛ لتقع عليه كلما قطعت شوطا من أشواطها؟
وبأسلوب «المداهنين»: هنيئا لك يا سيدي هذا القصر الفخم الذي بنيته لنفسك على هذه الربوة البديعة.
وباللهجة الشعرية: أأنفك القيثارة التي توقع عليها إلهة الشعر أنغامها الشجية؟
وبروح السذاجة: في أي ساعة تفتح أبواب هذا الهيكل يا سيدي الحارس؟
وبالبساطة الريفية: ما هذا يا سيدي، أأنف ضخم، أم لفتة كبيرة، أم شمامة صغيرة؟
وباللهجة العسكرية: صوب هذا المدفع نحو فرقة الفرسان أيها الجندي.
وباللغة المالية: أتريد أن تضع أنفك هذا في «اليانصيب»؟ إنه يكون بلا شك النمرة الكبرى!
وباللغة التمثيلية: أهذا هو الأنف الذي أفسد تخطيط وجه صاحبه فسادا عظيما؟ يا له من مجرم أثيم، ومعتد زنيم!
ويمكنك أن تقول لي «متعجرفا»: ألا تخاف أيها الرجل وأنت تنفث دخان لفافتك من هذه المدخنة الضخمة أن يصيح الناس حين يرونك: الحريق الحريق!
و«متأدبا»: لقد أخل هذا النتوء البارز في وجهك يا سيدي بتوازن جسمك فاحترس من السقوط.
অজানা পৃষ্ঠা
و«متأنقا»: ألا يجمل بك يا سيدي أن تضع لأنفك هذا مظلة خاصة به حتى لا يتغير لونه من تأثير حرارة الشمس؟
و«متحذلقا»: إن الحيوان الضخم الذي سماه الفيلسوف أرستوفان «تيتلخر تيفيلو جملوس» هو الحيوان الوحيد، الذي يمكنه أن يحمل في وجهه كمية من اللحم توازن الكمية التي تحملها في وجهك.
و«مازحا»: ما أجمله مشجبا لتعليق القلانس والطيالس!
و«مغاليا»: ليس في استطاعة أي ريح مهما اشتد هبوبها أن تجلب لأنفك الزكام، غير ريح السموم!
و«متهكما»: ما أجمله إعلانا لو وضع على واجهة حانوت من حوانيت الروائح العطرية!
و«متفجعا»: ما البحر الأحمر إلا الدم الذي فصد من أنفك!
ذلك ما كان يجب أن تقوله لي لو كان في رأسك ذرة واحدة من الفطنة والذكاء، على أنك لو استطعت لحال بينك وبين ذلك الخوف والرعب؛ لأنك تعلم أنني إن سمحت لنفسي بالسخرية من نفسي أحيانا، فإنني لا أسمح لأحد بالسخرية مني مطلقا، فلقد جمعت في نفسك بين الغباوة والجهل، والجبن والخور، حتى لأحسب أنك لا تحسن هجاء كلمة في اللغة غير كلمة الحماقة، ولا تحمل في رأسك معنى غير معناها!
فجن الكونت دي جيش غيظا، وقال للفيكونت: من رأيي أن نترك هذا المجنون وشأنه، فإننا ممتحنون الليلة برجل لا بد أن يكون قد أفلت الساعة من يد حارس المارستان. فقال الفيكونت: إن الذي يغيظني ويؤلمني أن تصدر أمثال هذه الكلمات المملوءة كبرا وعظمة من حقير مفلوك لا يملك من متاع الدنيا شيئا، حتى قفازا في يده، ولا يحمل على ثوبه أي علامة من علامات الشرف! فارتعش سيرانو غيظا، ولكنه تجلد واستمسك، وأنشأ يقول بصوت هادئ رزين: نعم أعترف لك يا سيدي بأنني رجل فقير مفلوك، لا أملك من متاع الدنيا شيئا، وأنني لا أحمل على صدري أي هنة من تلك الهنات التي تسمونها شارات الشرف، ولكن ائذن لي أن أقول لك كلمة واحدة، ثم أنت وشأنك بعد ذلك: إنني لا أحفل يا سيدي بالصور والرسوم والأزياء والألوان، ولا يعنيني جمال الصورة وحسنها، ولا برقشة الثياب ونمنمتها، وحسبي من الجمال أنني رجل شريف مستقيم، لا أكذب ولا أتلون، ولا أداهن ولا أتملق، وأن نفسي نقية بيضاء غير ملوثة بأدران الرذائل والمفاسد، فلئن فاتني الوجه الجميل، والثوب المفوف، والوسام اللامع، والجوهر الساطع، فلم يفتني شرف المبدأ، ولا عزة النفس، ولا إباء الضيم، ولا نقاء الضمير.
إن الجبهة العالية يا سيدي لا تحتاج إلى تاج يزينها، وإن الصدر المملوء بالشرف والفضيلة لا يحتاج إلى وسام يتلألأ فوقه، فليفخر الفاخرون بما شاءوا من فضتهم وذهبهم، وألقابهم ومناصبهم، أما أنا فحسبي من الفخر أنني أستطيع أن أمشي بين الناس برأس عال، وجبهة مرتفعة، ونفس مطمئنة، وثوب نقي أبيض، لم تعلق به ذرة من غبار العار، ولم تلوثه شائبة من شوائب السفالة والدناءة، لا أهاب شيئا، ولا أغضي لشيء ولا أخجل من شيء.
نعم، إنني لا أملك قفازا في يدي كما تقول، ولكن أتدري ما السبب في ذلك؟ السبب فيه أنني قطعت جميع قفازاتي على وجوه السفهاء والفضوليين الذين يعترضون طريقي مثلك، عقابا لهم على وقاحتهم وفضولهم، ولم يكن باقيا لي منها حتى ليلة أمس إلا زوج عتيق جدا، احتجت إليه في موقف كموقفي هذا معك، فرميت به وجه أحد السفهاء، فلصق بخده، فتركته وانصرفت.
অজানা পৃষ্ঠা
فجن الفيكونت غيظا، وأخذ يهذي ويقول: صعلوك، بائس، وقح، حقير، سافل! فانحنى سيرانو بين يديه رافعا قبعته عن رأسه وقال له: تشرفت بمعرفة اسمك يا سيدي، أما أنا فاسمي سيرانو سافينيان هركيل دي بيرجراك الجاسكوني!
فصاح الفيكونت: صه أيها النذل الساقط!
فجمد سيرانو لحظة، ثم انحنى على نفسه وأخذ يتلوى ويصيح، كأنما أصيب بألم شديد في بعض أعضائه، فظن الفيكونت أن قد عرض له عارض مميت، فحنا عليه وقال له: ماذا أصابك؟ فلم يجب، وظل يصيح ويتأوه. فقال له: ما شكاتك أيها المسكين؟ قال: خدر شديد يؤلمني جدا. قال: في قدمك؟ قال: لا. قال: في فخذك؟ قال: لا. قال: إذن في ذراعك؟ قال: ليته كان كذلك. قال: قل لي في أي مكان هو؟ قال: في سيفي! فدهش الفيكونت وقال: ماذا تريد؟ قال: لقد طال لبثه في غمده زمنا طويلا، فأصابه هذا التنميل الشديد، ولا علاج له غير الامتشاق!
المبارزة الشعرية
ففطن الفيكونت لما أراد، وعلم أنها المبارزة ما من ذلك بد، فتشجع وقال: فليكن ما تريد! قال: أتعلم أنني سأضربك ضربة غريبة لم ير الراءون مثلها؟ قال: خيال شاعر كذاب. قال: إن الشاعر لا يكذب، ولكنه يقول ما لا يفهمه الأغبياء فيظنونه كاذبا، وفي استطاعتي أن أرتجل في أثناء القتال الذي يدور بيني وبينك موشحا لا أقول فيه شيئا إلا فعلته، وسيكون مركبا من خمس قطع، يبتدئ أولها بابتداء المبارزة، وينتهي آخرها بانتهائها، أي بانتهاء حياتك يا فيكونت! فصاح الفيكونت: كذبت، وإنك لأعجز من ذلك! قال: لم أكذب في حياتي قط، وها هو ذا عنوان موشحي الجديد.
وأخذ يلقي العنوان مادا به صوته، كأنما يمثل على مسرح، ويقول: «موشح القتال الذي دار بين السيد سيرانو دي بيرجراك، وبين صعلوك من الصعاليك المتنبلين اسمه الفيكونت فالفير، في حانة بوروجونيا.»
ثم جرد سيفه، وبدأ يقاتل ويلقي موشحه، ويوقع ضرباته على نغماته ويقول:
إنني أرمي بهدوء قبعتي، وأخلع عن منكبي ردائي، ثم أجرد من غمده سيفي، ثم أتقدم نحوك رشيقا كسيلادون، وشجاعا كإسكاريوس، ولا بد أني في المقطع الأخير أصيب! •••
وكان جديرا بك أن تضن بنفسك على الموت، إن الموت لا بد آت إليك، لا أدري أين أضع ذباب سيفي من جسمك؟ أو جنبك تحت ثديك؟ أم في قلبك تحت وسامك؟ وعلى كل حال ففي المقطع الأخير أصيب! •••
ترسك يرن تحت ضربات سيفي، ذباب سيفي يلتهب التهابا، قلبك يخفق من الرعب والخوف، فرائصك ترتعد وتضطرب، فلا بد أني في المقطع الأخير أصيب! •••
অজানা পৃষ্ঠা
هأنتذا قد بدأت تتقهقر؛ لأنني قد أفسدت عليك الضربة الوحيدة التي تعرفها، أوسعت لك المجال فاغتررت وهجمت، فلم تلبث أن فشلت وخذلت، ويل لك من المستقبل المظلم؛ فإني في المقطع الأخير أصيب! •••
اسأل الله رحمته وإحسانه، فها هو ذا الموت يرفرف فوق رأسك، قد سددت عليك جميع الأبواب، ولم تبق لك حيلة في دفع القضاء، قد وعدت ولا بد أن أفي بوعدي، أنني في الكلمة الأخيرة من المقطع الأخير أصيب!
وهنا ضربه ضربة هائلة اخترقت صدره، فسقط يترنح من وقع الضربة، وضجت القاعة بالتصفيق والتهليل، وأحاط القوم بسيرانو يباركونه ويمسحونه، وأخذت النساء تنثر عليه الورود والأزهار، وكانت روكسان أكثرهن اهتماما بالمبارزة وأشدهن سرورا بنتيجتها.
وظل الجماهير يصيحون بأصوات مختلفة: ما أشجعه! ما أشعره! إنه بطل عظيم، حادث بديع، منظر جميل، شاعر وبطل معا، لا يقول إلا ما يفعل، وقد أصابه في الكلمة الأخيرة من المقطع الأخير كما قال.
وتقدم نحوه السيد دارتنيان رئيس حراس الملك، ومد إليه يده وقال له: ائذن لي يا سيدي أن أشكرك وأصافحك، وأقول لك: إنك أفضل مبارز رأيته في حياتي! فلم يزد سيرانو على أن ألقى عليه نظرة هادئة ساكنة، ومد يده إليه فصافحه بسكون، ثم أخذ الناس ينصرفون من القاعة تباعا، وكان الممثل مونفلوري لا يزال واقفا في الطريق العام، فظلوا يسبونه ويشتمونه كلما مروا به، ويعيرونه بالجبن والفرار، حتى إذا لم يبق في الحانة أحد قال لبريه لسيرانو: هل لك في أن نتخلف هنا قليلا أيها الصديق؛ لأني أريد أن أتحدث إليك في بعض الشئون؟ فقال سيرانو لصاحب الحانة: أتأذن لنا أن نبقى هنا هنيهة أنا وصديقي لبريه؟ قال: نعم كما تشاء يا سيدي، وسأخرج أنا وجماعة الممثلين لنتناول طعام العشاء ونتنزه قليلا، ثم نعود بعد ساعة لتهيئة الرواية المقبلة، وصاح بالخدم: أغلقوا الأبواب وأبقوا الأنوار كما هي حتى نعود، ثم انصرف هو وسائر الممثلين.
سريرة سيرانو
قال لبريه لسيرانو: وأنت، ألا تريد أن تتعشى أيضا؟ قال: لا. قال: لماذا؟ قال: لأني لا أملك نقودا! فقهقه لبريه ضاحكا، فدهش سيرانو والتفت إليه وقال له: مم تضحك؟ قال: تذكرت ذلك الموقف الجميل وأنت تخرج كيسك من جيبك وترمي به بكل قواك إلى بلروز وتقول له: خذ هذا أيها الرجل فهو لك. قال: ألا ترى أنها كانت حركة بديعة؟ قال: نعم، ولكنها لا تغني عن العشاء شيئا، ولا أدري ماذا تصنع بعد اليوم وأنت لا تزال في الأسبوع الأول من الشهر، ولا أحسب أن أباك يرسل إليك النفقة الشهرية مرة أخرى.
وكانت فتاة المقصف واقفة على مقربة تسمع حديثهما دون أن ينتبها إليها، فتحركت حركة مسموعة، فالتفت إليها سيرانو، فمشت نحوه ووضعت يدها على كتفه، وألقت عليه نظرة عطف وحنو لو أنها ألقتها على وجه غير وجهه لظنها الناس لجمالها ورقتها نظرة حب وغرام، وقالت له: أنت ضيفي الليلة يا سيدي، وها هو ذا الطعام بين يديك، فادن من المائدة، وتناول منها ما تشاء. فقال: شكرا لك يا صديقتي، وبالرغم من أن عظمتي الجاسكونية لا تسمح لي أن أمد يدي لتناول أي شيء من أي إنسان، فإني ألبي دعوتك إبقاء على صداقتك وودك! ثم تقدم نحو المائدة، وتناول ثلاث حبات من العنب، وقرصا صغيرا، وكأسا من الماء، وقال: هذا يكفيني. قالت له: خذ شيئا آخر. قال: لا حاجة بي إلى شيء بعد ذلك إلا إلى قبلة من يدك الجميلة، فاسمحي لي بها! وتناول يدها فقبلها، ووجهها يتلهب حياء وخجلا، ثم وضع الطعام بين يديه، وهو يتمتم بصوت ضعيف ويقول: «لقمة صغيرة لا تملأ معدة طفل، وثلاث حبات من العنب لا تملأ الفم، آه ما أشد جوعي!»
ثم التفت إلى لبريه، وقال له: ماذا كنت تريد أن تقول لي يا لبريه؟ تكلم فإني مصغ إليك. قال: كنت أريد أن أقول لك: إن هؤلاء الطائشين المغرورين الذين لا حديث لهم ليلهم ونهارهم إلا حديث الطعن والضرب والمغالبة والمصارعة سيفسدون عليك عقلك ، ويهدمون نظام حياتك، ولو أنك جريت معهم في هذا المضمار طويلا لكانت عاقبتك أوخم العواقب وأردأها، سل العقلاء أصحاب العقول الراجحة، والآراء المستحصدة ماذا كان وقع حادث الليلة في نفوسهم، وخاصة في نفس رجل عاقل كيس كنيافة الكردينال؟ فقال له وكان قد انتهى من طعامه: أكان الكردينال هنا؟ قال: نعم، ولا بد أن يكون رأيه فيك سيئا جدا. قال: لا، بالعكس؛ لأنه شاعر، والشاعر يعجبه دائما أن يرى بعينيه منظر سقوط رواية ينظمها شاعر آخر. قال: ولكنك قد اتخذت لك الليلة أعداء كثيرين لا أدري ماذا يكون شأنك معهم غدا. قال: كم تظنهم على وجه التقريب؟ قال: أربعين غير النساء. قال: اذكر لي بعضهم مثلا. قال: مونفلوري، دي جيش، دي جيجي، فالفير، باور مؤلف الرواية، الممثلون، أعضاء المجمع العلمي ... قال: كفى كفى، قد فهمت، إنها نتيجة جميلة جدا، كنت أظن أن أعدائي أصغر شأنا من ذلك! فعجب لبريه لأمره، وقال له: أعترف لك يا سيرانو أنني قد عييت بأمرك إعياء شديدا، وأصبحت لا أدري إلى أين تصل بك هذه الحالة الغريبة، وتلك الأساليب الشاذة، ولا أفهم ما هي حقيقة رأيك في الحياة؟ ولا ما هي خطتك التي انتهجتها لنفسك فيها؟ فأطرق سيرانو لحظة ثم رفع رأسه وقال له: اسمع يا لبريه إن الخطط في الحياة كثيرة جدا، ومتشعبة تشعبا يحار فيه العقل، ولقد ضللت في مسالكها برهة من الزمان لا أعرف ماذا آخذ منها، وماذا أدع، حتى اهتديت أخيرا إلى أبسطها وأسهلها. قال: وما هو؟ قال: هو أن أكون موضع الإعجاب في كل شيء ومن كل إنسان. قال: فليكن ما تريد، ولكن على شرط أن تكون أفعالك أشبه بأفعال العقلاء منها بأفعال المجانين. قال: لا أستطيع أن أعرف الحد الفاصل بين العقل والجنون.
قال: هل لك أن تخبرني لم تضمر في نفسك هذا البغض الشديد لمونفلوري، وما أذكر أن الرجل أساء إليك في حياته قط؟ قال: أبغضه لأنه - وهو ذلك العتل البطين الذي لا تستطيع يده أن تصل إلى سرته - يظن نفسه رشيقا جميلا يستطيع أن يخلب قلوب النساء، ويستهوي ألبابهن بخفته ورشاقته، فإذا وقف في المسرح للتمثيل ألقى عليهن في مقاصيرهن نظرات كنظرات الضفادع، بصورة تعافها الأنفس، وتندى لها الوجوه، ولقد أضمرت له في نفسي تلك الموجدة منذ الليلة التي رأيته يجترئ فيها على أن يوجه إليها نظراته الخنفسائية البشعة، فلقد خيل إلي في تلك الساعة أن دودة قذرة سوداء قد دبت من مكانها إلى وردة نضرة ناعمة فلصقت بها، فأزعجني هذا المنظر المؤلم إزعاجا شديدا، ولم أر بدا من معاقبته على جهله وغباوته، فحكمت عليه بالانقطاع عن التمثيل شهرا كاملا. فقال لبريه: ومن هي تلك التي تريد؟ ويخيل إلي أنك عاشق يا سيرانو، فابتسم ابتسامة الممتعض المتألم، ثم تنفس تنفسة طويلة كادت تتساقط لها جوانب نفسه، وقال: نعم يا لبريه! إنني أحب حبا قاتلا لا بد أن يسوقني إلى القبر.
অজানা পৃষ্ঠা
قال: وهل يمكنني أن أعرف من هي تلك التي تحبها؟ فإنك لم تحدثني عنها قبل اليوم. قال: أي فائدة لي من ذكرها وهي لا تحبني؟ قال: وكيف عرفت ذلك، هل فاتحتها في شيء؟ قال: وكيف يمكنني أن أفاتحها وأنا أعلم أن هذا الأنف البشع القبيح الذي أحمله يتقدمني حيثما ذهبت، وأنى سلكت، فلا يسمح لي بالطمع في قلب امرأة قبيحة شوهاء فضلا عن جميلة حسناء. قال: ألا يمكنني أن أعرف من هي؟ قال: إذا عرفت أن سيرانو لا يمكن أن يحب إلا أجمل امرأة في العالم أمكنك أن تعرف من هي؟ فصمت لبريه هنيهة وهو يفكر حتى عجز، فقال: لم أستطع أن أفهم شيئا، فهل لك أن تصفها لي؟
قال: أما هذه فنعم، هي الخطر العظيم الذي يحيط بالمرء من جميع نواحيه فلا يعرف له سبيلا إلى الخلاص منه، هي المغناطيس الجذاب الذي يستهوي قلب الناظر إليه وعقله، وجميع حواسه ومشاعره، هي الوردة النضرة الناعمة التي تكمن حية الحب السامة بين أوراقها، من رأى ابتساماتها رأى الكمال الإنساني كله، ومن رأى نظراتها رأى الدعة واللطف والرقة والعذوبة، وجميع معاني الحياة الطيبة اللذيذة في كل حركة من حركاتها، وإشارة من إشاراتها، ولفتة من لفتاتها، إنها شمس تضيء الكون وتنير ظلماته، ليس في استطاعة «الزهرة» ربة الجمال، وهي جالسة فوق علياء عرشها العظيم أن تضارعها في بهائها وجلالها، ولا في استطاعة «ديانا» إلهة الحب حين تسير بخفة ورشاقة وسط الرياض الناضرة أن تحاكيها في مشيتها، وهي سائرة على قدميها الصغيرتين في مماشي بستانها. فقال لبريه: حسبك يا سيرانو، فإنك تحب ابنة عمك روكسان، ولكن لا أدري لم لا تفضي إليها بذات نفسك ما دمت تمت إليها بصلة القربى التي بينك وبينها؟ قال: ذلك ما أعجز عنه يا صديقي، فإنني رجل بائس مسكين، قضى الله علي أن أعيش في هذا العالم بلا أمل ولا رجاء، تأمل في وجهي قليلا، وانظر: هل يستطيع صاحب مثل هذا الوجهه البشع الدميم أن يحيا في العالم حياة الحب والغرام؟ أو أن يكون له أمل في اختلاب الأفئدة واجتذاب القلوب؟ لقد تمر بي في بعض أيامي ساعات أشعر فيها بحاجة قلبي إلى تلك الحياة الحلوة اللذيذة التي يحياها الناس جميعا، حياة الحب والغرام، فأدخل إحدى الحدائق العامة، وأمشي بين رياضها وأزهارها، وأتنسم روائحها وأنفاسها، فأنسى نفسي، ويخيل إلي أني أسبح في جو رائق صاف من العواطف والوجدانات، فإذا رأيت في ضوء أشعة القمر الفضية امرأة جميلة تمشي وحدها خيل إلي أني أستطيع أن أكون رفيقها الآخذ بذراعها، وإذا رأيت فتى وفتاة سائرين على مهل يتهامسان ويتناجيان، وتتموج أنوار الحب بينهما خيل إلي أن بجانبي رفيقة حسناء ترفرف علي وعليها هذه الأجنحة البيضاء التي ترفرف عليهما، ثم أستسلم لهذا التصورات والأفكار، وأستغرق فيها ساعة طويلة، حتى إذا وقع نظري فجأة على خيال وجهي في حائط الحديقة في ضوء القمر، عدت إلى صوابي وأفقت من غيبوبتي، ورجعت أدراجي إلى منزلي وبي من الحزن ما الله به عليم!
ثم نكس رأسه مليا وصمت صمتا عميقا كأنما يعالج في نفسه ألما ممضا، فحنا عليه لبريه وقال له: رحمة بنفسك يا صديقي! فرفع رأسه وقال: نعم، إن آلامي عظيمة جدا لا يحتملها بشر، فليت الله إذ خلقني على هذه الصورة الدميمة البشعة لم يخلق لي قلبا خفاقا، أو ليته إذ خلق لي هذا القلب الخفاق خلق له أجنحة يستطيع أن يطير بها في جو الحب كما تطير القلوب الخوافق، أما الآن فإنني أشعر أني وحيد في هذه الدنيا، لا سند لي فيها ولا عضد، ولا أنيس ولا عشير، ولا زوجة ولا ولد!
ثم عاد إلى إطراقه مرة أخرى، وأخذ يبكي ويذرف دموعا غزارا في صمت وسكون، فانزعج لبريه وأخذ بيده وقال له: أتبكي يا سيرانو؟ فانتفض ورفع رأسه وقال: لا يا لبريه، إن البكاء قبيح بمثلي، ولا يوجد في العالم منظر أقبح ولا أسمج من منظر الدمعة الجميلة، وهي سائلة على مثل هذا الأنف الضخم الطويل، لا شيء في العالم أبدع ولا أرق ولا أجمل من الدموع، وإني أضن بها أن أهينها، وأكدر صفوها وأشوه جمالها. فتأثر لبريه لمنظره تأثرا شديدا، وكاد يبكي لبكائه، ولكنه تجلد واستمسك وقال له: لا تحزن يا صديقي ولا تستسلم لهذه الأوهام، فما الحب في الدنيا إلا حظوظ وجدود، وقد يأتيك عفوا ما تظن أنه أبعد الأشياء منالا منك. قال: لا، أنت مخطئ يا لبريه، فإنه لا يجوز لي أن أطمع في حب «كليوباترة» إلا إذا كنت «قيصر»، ولا في حب «بيرنيس» إلا إذا كنت، «تيتوس».
وقال: إن الله قد وهبك من العقل والذكاء والصفات الكريمة النادرة ما يقوم لك مقام الجمال، ألم تر تلك الفتاة بائعة الحلوى، وهي تنظر إليك نظرات الحب والشغف على أثر تلك المبارزة الغريبة، التي انتصرت فيها على الفيكونت الليلة؟ كذلك كان شأن روكسان، فقد شاهدتها وهي تتبع حركاتك أثناء المبارزة باهتمام عظيم، وقلقها عليك ظاهر في اضطراب أعضائها، واكفهرار وجهها، حتى إذا انتصرت على خصمك كانت هي أعظم الناس سرورا بانتصارك، فانتعش سيرانو وهدأت نفسه قليلا، وقال: أصحيح ما تقول يا لبريه؟ قال: نعم، ولا بد أن تكون تلك الحادثة قد تركت في قلبها أثرا عظيما، فانتهز هذه الفرصة وفاتحها في شأن حبك. قال: أخاف أن تسخر مني، وهو الأمر الذي أخشاه أكثر من كل شيء في العالم.
وهنا ظهرت وصيفة روكسان داخلة من الباب الكبير، ولم تزل سائرة حتى وقفت أمام سيرانو، فدهش لرؤيتها دهشة عظيمة، وخفق قلبه خفقا متداركا، وقال: آه يا إلهي! إنها وصيفتها! وظل يرتعد ويضطرب، فانحنت الوصيفة بين يديه محيية وقالت له: إن سيدتي روكسان تسأل ابن عمها البطل الشجاع سيرانو دي بيرجراك: متى يمكنها أن تراه غدا على انفراد؛ لتحادثه في بعض الشئون؟ وأين يكون مكان الاجتماع؟ فازداد اضطرابه وارتعاده، وقال: تراني أنا؟ قالت: نعم، في المكان الذي تريده، وفي الساعة التي تراها. قال: آه يا إلهي! كيف يمكنني أن أصدق ذلك؟ قالت: إنها ستذهب غدا عند تفتح زهرات الصباح لسماع خطبة الوعظ في كنيسة «سان روك»، ففي أي مكان تحب أن تقابلها بعد خروجها من الكنيسة؟ فأرتج عليه وظل يهمهم ويتمتم، وانتشر عليه رأيه فلم يعرف ماذا يقول. فقالت له: ما لي أراك مضطربا هكذا؟ أسرع بالجواب فإنها تنتظرني. فقال بصوت خافت متقطع: إني أنتظرها في الساعة السابعة من صباح الغد في مطعم راجنو. قالت: وأين مكان هذا المطعم؟ قال: في رأس شارع سان أنريه. قالت: سأبلغها ذلك، وانحنت ثانية بين يديه وانصرفت، فظل شاخصا ببصره إلى السماء كالذاهل المشدوه، وهو يردد بينه وبين نفسه: آه يا إلهي! كيف يمكنني أن أصدق ذلك؟ إنها أرسلت إلي وصيفتها تسألني أن أقابلها على انفراد، فليت شعري ماذا تريد أن تقول لي؟ فقال له لبريه: تريد أن تقول لك: إنها تحبك، ما في ذلك ريب، ولقد تنبأت لك بذلك من قبل فلم تصدقني. قال: كيفما كان الأمر فحسبي منها أني خطرت ببالها، وأنها تعلم أن في العالم إنسانا اسمه سيرانو! قال: ما أحسبك إلا راضيا عن نفسك الآن، ولا بد أن تكون قد هدأت تلك الثورة التي كانت قائمة في نفسك. قال: لا، ما هدأت ولا فترت، بل أصبحت ثائرا جدا، وأشعر أن قوتي قد ازدادت أضعافا مضاعفة، فلو لقيت الآن جيشا كامل العدة والعدد لقهرته وحدي، ويخيل إلي أن بين جنبي عشرة قلوب، وأن في منطقتي عشرة سيوف أستطيع أن أقاتل بها جميعا في آن واحد، ولا يكفيني أن أحارب الأقزام والضاوين والجبناء، كذلك المسخ الذي حاربته الليلة، بل لا بد لي من جبابرة وعمالقة أفخر بقتالهم والفلج عليهم.
باب نيل
وكان يتكلم بصوت عال رنان، ويصرخ صرخات هائلة مزعجة تدوي بها أرجاء القاعة، كأنما خيل إليه أنه في ميدان حرب، وأنه يقاتل أولئك العمالقة والجبابرة الذين ذكرهم.
وكان الممثلون قد عادوا من نزهتهم، وأخذوا يهيئون على المسرح الرواية المقبلة، فأزعجهم صوت سيرانو وهو يصرخ، فصاح به أحدهم: ألا تزال باقيا هنا حتى الآن يا سيرانو؟ لقد أزعجتنا بضوضائك وصخبك، فاهدأ قليلا لنستطيع أن نأخذ في عملنا، فابتسم سيرانو وقال: عفوا يا سادتي، فسأترك لكم المكان مسرورا مغتبطا، وهم بالخروج، فما راعه إلا جماعة من الجنود والضباط قد دخلوا الحانة يحيطون برجل يترنح سكرا، فتأمله فإذا هو لينيير، فهرع إليه مذعورا وقال: ما بك يا صديقي؟ قال بلهجة متثاقلة: خذ هذه الورقة واقرأها، فإنها تنذرني بأن مائة رجل يكمنون لي الليلة في طريقي إلى منزلي عند «باب نيل»؛ ليقتلوني بسبب تلك القصيدة التي تعلمها، فأذن لي بالذهاب إلى منزلك لأنام فيه الليلة، فأطرق سيرانو هنيهة، وهو يهمهم قائلا: مائة رجل على رجل واحد؟ ما أجبنهم وأسفل نفوسهم! ثم رفع رأسه، وألقى على لينيير نظرة عالية مترفعة، وقال له بهدوء وسكون: لينيير! إنك ستنام الليلة في بيتك! فلم يفهم غرضه، وقال له وهو يترنح ويتمطق: ولكنك تعلم يا سيدي أنني رجل ضعيف مسكين، لا أقوى على مقاتلة هر، فمن لي بلقاء مائة رجل وحدي؟ قال: إنني أنا الذي سألقاهم وأنا الذي سأقاتلهم، فخذ المصباح من يد البواب وسر أمامي، وأقسم لك أنك ستنام الليلة في بيتك، وأنني سأمهد لك فراشك بيدي، لقد كنت أتمنى منذ هنيهة أن أقاتل جيشا كامل العدة والعدد، وها هو ذا الجيش الذي كنت أتمناه قد وافاني وحده، إنني في هذه الليلة بل في هذه الساعة على الأخص، لا يجمل بي أن أقاتل أقل من هذا العدد! فتقدم نحوه لبريه، ووضع يده على كتفه وأسر في أذنه: ألا يستطيع هذا الرجل أن ينام الليلة في غير بيته؟ وهل ترى من اللازم الحتم أن تخاطر بنفسك دفاعا عن مثل هذا الأبله المأفون!
وكان الممثلون قد نزلوا من المسرح، وأقبلوا يشاهدون الحادثة، فوضع سيرانو يده على كتف لبريه، وقال له وهو يبتسم ابتساما هادئا لطيفا: إن هذا السكير الذي لا يفيق، بل الزق الذي لا ينفد، هو أرق الناس قلبا، وأجملهم حسا، وأشرفهم شعورا، رأيته مرة وقد خرج من الكنيسة يوم الأحد، فرأى المرأة التي يحبها تتناول بيدها اللطيفة قليلا من الماء المقدس، فظل يرقبها حتى انصرفت، فهجم على الحوض الذي وضعت يدها فيه - وما على وجه الأرض شيء أبغض إليه من الماء القراح - فما زال يكرع منه حتى أتى عليه، فصاحت إحدى الممثلات: ما أجمل هذه الحادثة، وما أرق هذا الشعور! فالتفت إليها سيرانو وقال لها: أليس كذلك أيتها الفتاة؟ قالت: وا رحمتاه لهذا الرجل المسكين! كيف يسمح مائة رجل لأنفسهم أن يتفقوا عليه؟ ألا تعلم ما السبب في ذلك يا سيدي؟ فلم يجبها سيرانو، والتفت إلى جماعة الجند الذين دخلوا مع لينيير، وقال لهم: هأنذا ذاهب إلى المعركة الليلية، فإن شئتم أن تكونوا معي فأنتم وشأنكم، غير أن لي عليكم شرطا واحدا فقط، هو أنكم مهما رأيتم من الخطر المحدق بي فلا يتقدم أحد منكم لمساعدتي، وليكن مكانكم مني مكان مراسلي الصحف ومندوبيها في المعارك: يشاهدونها ولا يقربونها. فقالت الممثلة: هل تأذن لي يا سيدي أن أذهب معكم حيث تذهبون؟ قال: نعم آذن لك، ولكل من أراد الذهاب منكم، فصاح الممثلون والموسيقيون جميعا: كلنا نذهب معك، فابتهج سيرانو وتهلل وجهه، وقال: يا له من موكب شائق بديع! ثم جرد سيفه من غمده وضرب به الهواء، وصاح صيحة القائد في جنده: ليتقدم الضباط، ثم الجند، ثم الممثلون، ثم الممثلات، ثم الموسيقيون وهم يعزفون بألحانهم الحماسية، وليأخذ كل منكم في يده شمعة أو مصباحا، أما أنا فإني قائدكم العام، وها هي ذي الريشة التي ناولتني إياها يد المجد والفخار ترفرف فوق قبعتي!
অজানা পৃষ্ঠা
فأخذوا يصطفون كما أمرهم وهم يمجنون ويضحكون، كأنهم ذاهبون إلى مرقص، وهنا التفت سيرانو إلى الممثلة التي أعجبتها قصة لينيير، وقال لها: قد كنت سألتني أيتها الفتاة منذ هنيهة لم يتفق مائة رجل على رجل واحد مسكين؟ فأقول لك جوابا على ذلك: إنهم ما فعلوا ذلك من أجله، بل من أجلي؛ لأنهم يعلمون أني صديقه الذي لا يخذله، ثم أمر البواب أن يفتح الباب الكبير على مصراعيه ففعل، فتجلى أمامه منظر باريس العام في ضوء القمر الساطع، فوقف هنيهة يتأمل هذا المنظر البديع ويقول: آه! لقد طلع البدر وتلألأت أشعته، فاختفت باريس المظلمة، وحلت محلها باريس المنيرة، ها هي ذي النجوم اللامعة تسطع في سمائها، وها هي ذي أشعة القمر تسيل على منحدرات سطوحها، وها هو ذا نهر السين يرتجف تحت أبخرته البيضاء ارتجاف المرآة السحرية.
إن الطبيعة تهيئ لنا ميدانا جميلا للقتال الرهيب، فهيا بنا جميعا إلى «باب نيل».
ثم مشى، فمشى الجميع وراءه ينقلون خطواتهم على نغم الموسيقى.
الفصل الثاني
المتشاعرون
فتح راجنو طاهي الشعراء والممثلين مطعمه مبكرا كعادته، والطيور لا تزال جاثمة في أوكارها، فجلس بين يدي منضدته ينظم على ضوء المصباح قطعة شعرية في وصف «اللوزينج»، فكان يكب على أوراقه مرة ليقيد ما حضره من الأبيات، ويرفع عينيه إلى السماء أخرى ليستمد من إلهة الشعر روحها، ويستلهمها وحيها، ولم يزل على ذلك ساعة حتى بدأت الشمس ترسل أشعتها الأولى من خلال النوافذ والكوى، ودوت في المطبخ جلبة العمال وضوضاؤهم، وصلصلة الآنية والقدور، فألقى قلمه واعتدل في جلسته وتأوه آهة طويلة، ثم قال مخاطبا إلهة الشعر: وداعا أيتها الإلهة القوية القادرة، قد انقضى الليل وانقضى سكونه وهدوءه، وجاء النهار بجلبته وضوضائه، فدعيني الآن، واذهبي لشأنك غير مقلية ولا مجتواة، وموعدنا الليلة القابلة.
ثم مشى إلى المطبخ، فرأى في مدخله إناء من النحاس الأصفر قد ألقت الشمس عليه أشعتها الصفراء، فاشتد وميضه ولألاؤه، فوقف أمامه لحظة يتأمله ويقول: ها هي ذي الشمس قد استطاعت أن تصنع ما لا يصنعه الكيميائي الماهر، فقد حولت النحاس الأصفر بشعاع واحد من أشعتها إلى عسجد وهاج، ثم قال: ما أجمل هذا المعنى وأبدعه! لا بد لي من تقييده حتى لا يفلت من يدي إذا احتجت إليه، وأخرج دفتره من جيبه فقيده.
ثم وقف بأحد الغلمان وهو يشق بمدية في يده رغيفا إلى شقين. فقال له: لقد أخطأت القسمة أيها الغلام؟ فالمصراعان غير متوازنين، ورأى آخر يشوي في نصل واحد ديكا كبيرا وعصفورا صغيرا. فقال له: إنها طريقة الشاعر «مالرب» وهي لا تعجبني، فإما أن يكون البيت تاما كله، أو مجزوءا كله.
ومر بطباخ يطبخ مرقا في قدر، فتناول الملعقة وأدارها فيه ثم قال له: ما أرق هذا الحساء! إنه كالشعر المهلهل، وأنا لا يعجبني إلا الجزل المتين.
ووقف أحد العمال بين يديه وسأله: كم قيراطا تحب أن يكون ارتفاع قبة الفالوذج اليوم؟ قال: ثلاثة تفاعيل!
অজানা পৃষ্ঠা
وتقدم بين يديه آخر حاملا على يديه صينية مغطاة بنسيج رقيق، وقال له: لقد اخترعت اليوم هذا الشكل يا سيدي، فلعله يعجبك، ثم رفع النسيج، فإذا قيثارة مصنوعة من الحلوى مغشاة بدقيق السكر الأبيض، فتهلل وجهه فرحا وصاح: فكرة شعرية جميلة لم يسبقك إليها أحد، وقد أعفيتك اليوم من العمل مكافأة لك على حسن تصورك وسمو خيالك، فاذهب لشأنك وخذ هذه القطعة الفضية واشرب بها نخب الفنون الجميلة.
دواوين الشعراء
ولم يزل يطوف بالعمال ويخاطبهم بهذا الأسلوب المضحك الغريب، وهم يتغامزون عليه ويتضاحكون من ورائه، حتى خرج فمشى إلى قاعة الطعام، فرأى زوجته «ليز» تصفف على المائدة أنواع الحلوى والفطائر والقدائد والرشارش والرقائق، وقد اتخذت أوعيتها وأكياسها من صحائف الكتب الأدبية ودواوين الشعراء التي كانت تبتاعها من الوراقين لهذا الغرض، فألقى على الأكياس نظرة حزينة مكتئبة، وقال: أهكذا تصنعين بدواوين أصدقائي الشعراء المجيدين! لقد كنت أتمنى أن أرى وجه الموت قبل أن أرى تلك الأعلاق النفيسة والجواهر المنتقاة أوعية للفطائر والحلوى في حوانيت الطهاة والحلويين؛ فوا رحمتاه للأدب! ووا أسفا عليه وعلى عهده الزاهر النضير! فألقت عليه نظرة ازدراء واحتقار، وقالت له: إننا ما أردنا إهانة دواوين أصدقائك ولا الزراية بها، ولكننا علمنا أنها لم تخلق إلا للعثة والأرضة، وأن شعاع الشمس لن يصل إلى مكامنها أبد الدهر، فأردنا أن نحتال على الناس في أمرها، فنشرناها من قبورها وقدمناها إليهم لفائف للفطائر والحلوى، علهم يلمحونها عرضا فيقرءونها، فليشكر لنا أصدقاؤك منتنا عليهم ويدنا عندهم! فاحتدم راجنو غيظا وقال لها: أيتها النملة الضعيفة، لا تهيني الثور العظيم فيصرعك بحافره صرعة لا قيامة لك من بعدها! فقالت: لعنة الله عليك وعلى جميع ثيرانك من عهد هومير إلى عهدك وتركته وانصرفت.
وما هي إلا هنيهة حتى دخل المطعم غلام صغير يطلب قرصا من الحلوى، فتناول راجنو أحد الأكياس وتأمله قبل أن يعطيه إياه، فوقع نظره على هذه الكلمة: «ولما فارق عولس بينيلوب ...» فأعاده إلى مكانه، وقال: شعر بديع لا أستطيع أن أسمح به، وتناول كيسا آخر فقرأ عليه هذا العنوان: «إلى أبولون». فقال: ولا هذا، ووضعه في مكانه، وتناول كيسا ثالثا فقرأ عليه: «إلى فيلبس». فقال: ولا هذا أيضا، وأراد أن يعيده إلى مكانه، فالتفتت إليه زوجته فخافها وأعطاه الغلام فأخذه وانصرف.
ولم يلبث أن تغفل زوجته وعدا وراء الغلام حتى أدركه في الطريق، فضرع إليه أن يرد له الكيس فارغا، فأبى الغلام إلا إذا أخذ في مقابله قرصا آخر أو أخذ القرص بلا ثمن، فرد إليه راجنو الثمن وعاد بالصحيفة فرحا مغتبطا يمسح عنها الدهن، الذي غمرها ويضمها إلى صدره ويترنم بأبياتها!
الموعد
وإنه لكذلك إذ فتح الباب فجأة ودخل سيرانو وهو مصفر الوجه شاحب اللون على أثر تلك المعركة الليلية، التي دارت بينه وبين أعداء لينيير، فسأل راجنو: كم الساعة الآن؟ قال: السادسة يا سيدي، وقدم له كرسيا فجلس عليه، ثم وقف بين يديه متأدبا متخشعا وقال له: أهنئك يا سيدي بانتصارك العظيم الذي انتصرته ليلة أمس، فلقد كانت تلك المعركة أجمل معركة حضرتها في حياتي، وسيمر بي زمن طويل قبل أن أنساها وأنسى حسنها وجمالها، فالتفت إليه سيرانو وقال: أي معركة تريد؟ قال: معركة «بوروجونيا». قال: لعلك تريد المبارزة؟ قال: نعم، أريد تلك المبارزة الغريبة التي ألفت فيها بين نغمات سيفك ونغمات شعرك تأليفا بديعا كأحسن ما يصنع الموسيقار الماهر، وارتجلت فيها ذلك الموشح الجميل الذي لم يسبقك إليه شاعر من قبلك، كأن إلهة الشعر كانت مرفرفة فوق رأسك تمدك بروحها وقوتها. فقالت ليز وهي تشير إلى زوجها: نعم يا سيدي، إنه ما زال يلهج بتلك الحادثة مذ رآها حتى الساعة، لا يفارق خيالها يقظته ولا منامه، حتى ليخيل إلي أنه قد أصابه مس من الشيطان. فقال راجنو: نعم، إنها لم تفارق خيالي قط، وما حسدت أحدا في حياتي على موقف من المواقف حسدي إياك على موقفك هذا، ثم مد يده إلى المائدة وتناول مدية طويلة وأخذ يلوح بها في الهواء مقبلا مدبرا، متقاصرا متطاولا، كأنما يمثل تلك المبارزة، ويترنم في أثناء تمثيله بهذا الشطر: «وفي المقطع الأخير أصيب، وفي المقطع الأخير أصيب» ثم يقول: ما أجمل هذه النغمة! وما أبلغ هذا الشعر! وما أمتن تلك القافية! وسيرانو ينظر إليه مدهوشا مستغربا، حتى فرغ من تمثيله. فقال له: كم الساعة الآن يا راجنو؟ قال: ست وعشرون دقيقة يا سيدي. فقال في نفسه: لم يبق على السابعة إلا القليل.
ثم وقف وأخذ يتمشى في أرجاء القاعة ذهابا وجيئة، فمر بليز وهي واقفة بجانب المائدة، فلمحت في يده جرحا داميا. فقالت له: ماذا أصابك يا سيدي؟ وما هذا الجرح الذي في يدك؟ قال: خدش بسيط لا أهمية له. فقالت: يخيل إلي أنك كنت في معركة. قال: لا. قالت: أخاف أن تكون كاذبا. قال: هل رأيت أنفي يضطرب؟ تلك هي العلامة الوحيدة للكذب في مذهبي، ثم التفت إليها وإلى راجنو وقال لهما: إنني أنتظر بعض الناس هنا، وأحب أن أكون معه على انفراد، فاتركا لي القاعة الآن، فلم يبق على حضوره إلا القليل. قال راجنو: ولكن ماذا أصنع بشعرائي يا سيدي وهم على وشك الحضور الآن؟ قال: لا بأس أن يحضروا، على شرط أن تؤذنهم بالانصراف أو بالتحول إلى غرفة أخرى عندما أشير إليك، ثم سأله: كم الساعة الآن؟ قال: ست وثلاثون دقيقة. قال: أعطني قلما وقرطاسا، فإني أريد أن أكتب، فجاءه بما أراد، فجلس على منضدة راجنو، وأمسك بالقلم وأنشأ يقول بينه وبين نفسه: ليس في استطاعتي أن أفاتحها في شيء مما أحب أن أفاتحها فيه، فخير لي أن أكتب لها كتابا أقدمه إليها بنفسي عند حضورها، ثم أتركها وأنصرف لشأني لتقرأه وحدها، وأطرق برأسه هنيهة، ثم تنفس نفسا طويلا وقال: آه! لقد كنت أظن أنني شجاع جريء لا أهاب الإقدام على أي خطر من الأخطار مهما كان شأنه، فإذا أنا جبان عاجز لا حول لي فيما يعرض لي من الخطوب ولا حيلة، ويخيل إلي أن الموت أهون علي من أن أقف أمامها وجها لوجه، وأفضي إليها بشيء مما يجيش به صدري.
ثم أكب على المنضدة وحاول أن يكتب شيئا، فازدحمت الأفكار في رأسه، وانتشرت عليه خيالاته وتصوراته، فلم يستطع أن يكتب حرفا واحدا، فألقى القلم من يده وقال: قبح الله التكلف والتعمل لولا أنها تلميذة «المدرسة القديمة»، وأنها من فريق المتأنقين المتشدقين المفتتنين بالصور والأساليب، لما وجد قلمي في طريقه ما يعترضه دون الوصول إلى الغاية التي يريدها، فالكتاب مسطور في صدري بأكمله، وليس بيني وبينه - إن أردته - إلا أن أضع قلبي بجانبي وأستمليه ما يشعر به، فيمليه علي ببساطة ووضوح، ثم تناول القلم مرة أخرى وشرع في الكتابة، فإذا صوت غليظ أجش يقعقع ناحية الباب: «صباح الخير يا ليز»، فرفع سيرانو رأسه، فإذا ضابط ضخم الجثة، هائل الخلقة، ذو شاربين كثيفين مستطيلين، فسأل راجنو: من الرجل؟ فقال: إنه ضابط من ضباط الجيش الفرنسي يسمي نفسه «الرجل الهائل»، وهو كما يزعم بطل من الأبطال المغاوير الذين لم يسمح الدهر بمثلهم في جيش من جيوش العالم، وهو صديق زوجتي ليز، ولا يأتي هنا إلا لزيارتها، فألقى سيرانو على الضابط نظرة حادة، ثم عاد إلى شأنه واستمر يكتب كتابه ويهمهم بينه وبين نفسه من حين إلى حين بأمثال هذه الكلمات: «أحبك حبا يعجز القلم عن بيانه؛ لأن القلم مادة من مواد العالم الأرضي، والحب روح من أرواح الملأ الأعلى»، «لا يرى الناس من عينيك الجميلتين سوى صفائهما ورونقهما، أما أنا فإني أستشف من ورائهما نفسك الجميلة العذبة المملوءة رقة وشعورا، فإذا قال الناس: ما أجمل عينيها وأحلاهما! قلت: ما أجمل نفسها المترقرقة في عينيها وما أصفى أديمها!» «إنني أعيش في هذا العالم عيش اليائس القانط، واليأس يقتل الفضائل في النفوس ويميتها، فأحييني بالأمل واخلقي مني إنسانا جديدا تتخذي عندي - بل عند العالم أجمع - يدا لا أنساها لك أبد الدهر، وفي اعتقادي أن ليس بيني وبين أن أكون إنسانا نافعا في المجتمع - بل نعمة على الدنيا بأجمعها - إلا أن تسبلي علي ستر حمايتك ورعايتك».
بؤس الأدباء
অজানা পৃষ্ঠা
وظل مستغرقا في تصوراته وأفكاره التي كان يرسمها على قرطاسه، كما يرسم المصور منظرا بديعا من مناظر الطبيعة على لوحه كما يراه، لا يزخرف ولا يوشي، ولا يبتدع ولا يبتكر، فلم ينتبه إلى جماعة الشعراء حين دخلوا الحانوت هاتفين مهللين وهم في ملابسهم الزرية الغبراء، ونعالهم البالية، وقبعاتهم الممزقة. فقالت «ليز» لزوجها - وأشارت إليهم: ها هم أولاء صعاليكك وقاذوراتك يا راجنو! فلم يعبأ بها وقام لاستقبالهم والترحيب بهم، فعانقوه وحيوه، ودعوه بالزميل، والرصيف، والصديق، وبكل ما يحب من الألقاب والنعوت، وهو فرح مغتبط، فوقف زعيمهم وسط القاعة وأخذ يتشمم بأنفه ويقول: ما أذكى رائحة بلاطك يا ملك الطهاة والشوائين! فانحنى راجنو بين يديه شاكرا وقال: ما أسعد الساعة التي أراكم فيها أيها الأصدقاء الأوفياء! ثم أشار لهم إلى المائدة، فوقفوا حولها وضربوا بأعينهم في أنحائها، وظلوا يأكلون ويقصفون ويمزحون ويمجنون، فيقول أحدهم ويشير إلى قطعة من الحلوى ذات رأس مسنم: إن هذه القطعة لم تحسن وضع قلنسوتها على رأسها، فلا بد من معاقبتها! فيقول له الآخر: وبم تعاقبها؟ فيقول: بهشم رأسها، ثم يتناولها فيهشمها كلها رأسا وجسدا، وينظر آخر إلى قطعة أخرى محشوة بالقشدة، ويضغطها فتبرز قشدتها البيضاء، فيقول: ما أجملها! كأنها ثغر ضاحك فلا بد لي من تقبيله! ثم يدنيها من فمه ليقبلها فيأكلها، ويقول آخر وهو ينظر إلى قيثارة الحلوى التي صنعها ذلك العامل في الصباح وأجازه راجنو عليها: كانت القيثارة قبل اليوم غذاء الأرواح، أما اليوم فهي غذاء الأجسام! ثم ينقض عليها فيأكلها، وراجنو واقف أمامهم يبتسم ويتهلل، ويقول في نفسه: ما أجمل هذه المعاني وأبدعها! يأبى الشاعر إلا أن يكون شاعرا في كل موقف وفي كل مقام.
ثم قال: هل تأذنون لي أيها السادة أن أنشد بين أيديكم قصيدتي الجديدة التي نظمتها في وصف «اللوزينج» وسميتها باسمه؟ فصاحوا جميعا: نعم، نعم، ولا بد أن تكون قصيدة جميلة جدا؛ لأن عنوانها جميل جدا! فاغتره مدحهم وثناؤهم، فرفع عقيرته وأخذ ينشد قصيدته ويرجع في إنشادها ترجيعا مضحكا، وهم لاهون عنه بشأنهم لا يعبئون به، ولا يلتفتون إليه إلا في الفينة بعد الفينة. فقال له الرجل الهائل: ألا تراهم يا راجنو وهم يلتهمون حلواك وأنت لاه عنهم بألحانك وأغانيك؟ فمشى نحوه وانحنى عليه وألقى في أذنه هذه الكلمات: إنني أراهم أيها الغبي الأبله، ولكنني أغض الطرف عنهم رحمة بهم وإشفاقا عليهم، فهم قوم بؤساء معدمون، قلما يرون وجه الطعام الشهي إلا في حانوتي، وأظنك لا تجهل أن ضيوفي أولى بالتجلة والإكرام من ضيوف زوجتي! وكانا على مقربة من مكان سيرانو، فانتبه لكلماته الأخيرة، فرفع رأسه وقال له: ادن مني يا راجنو، فدنا منه فقال له: إنك تعجبني جدا أيها الرجل، فالشعراء في هذا العالم كالشجرة الوارفة في المهمه القفر، يفيء إلى ظلها الغادون والرائحون، وهي وحدها التي تحتمل حر الهاجرة ولظاها، فرحمة الله ورضوانه على من يحسن إليهم ويتصدق عليهم.
ثم عاد راجنو إلى شأنه الذي هو فيه، وظل الشعراء يأكلون ويقصفون، ويبتاعون ما شاءوا من فطائر راجنو وحلواه بطرفهم الأدبية وملحهم النادرة، حتى فتح الباب ودخل عليهم أحد زملائهم، وكان قد تخلف عنهم قليلا، فهللوا حين رأوه، وصاحوا بصوت واحد: لقد تأخرت أيها الصديق! قال: قد حال بيني وبين اللحاق بكم ازدحام الناس ازدحاما شديدا عند «باب نيل». قالوا: وهل حدث شيء هناك؟ قال: نعم، كان ازدحامهم على ثمانية قتلى وجدوهم هناك مضرجين بدمائهم، ولا يعلم أحد كيف قتلوا، ولا من جنى عليهم هذه الجناية الفظيعة! فانتبه سيرانو للحديث واعتدل في جلسته، وقال في نفسه: يا للعجب! كنت أظنهم سبعة فقط، إذن قد ربحنا واحدا آخر. فقال راجنو للمتكلم: وما ظن الناس بهذه الحادثة؟ قال: يقول بعضهم: إن رجلا واحدا هو الذي قام بمفرده بمقاتلة هؤلاء اللصوص، وكانوا مائة أو يزيدون، فانتصر عليهم جميعا وفرق شملهم، وقتل منهم هذا العدد الكثير، ولقد رأينا العصي والخناجر والمدى التي كانت مع أفراد تلك العصابة مبعثرة ههنا وههنا، وظل الناس يلتقطون القبعات التي طارت عن رءوس المنهزمين، من باب نيل إلى النهر، فمشى راجنو إلى سيرانو وقال له: أسامع أنت هذا الحديث يا سيدي؟ قال: نعم. قال: فما ظنك ببطل هذه الواقعة، فرفع رأسه إليه وقال: لا أعرفه، فهرعت ليز إلى صديقها «الرجل الهائل» تسأله: وأنت يا سيدي؟ فابتسم وفتل شاربيه وغمز بعينيه وقال: أظنني أعرفه.
وكان سيرانو قد أتم كتابه وأراد أن يوقع عليه، ثم توقف وقال: لا لزوم للتوقيع؛ لأنني سأقدمه إليها بنفسي، ثم طواه ووضعه في صدره، ونهض قائما على قدميه، وهتف براجنو فأسرع إليه، فسأله: كم الساعة الآن؟ قال: ست وخمسون دقيقة. فقال في نفسه: لم يبق إلا عشر دقائق، وأخذ يتمشى في القاعة ذهابا وجيئة، وكانت ليز وصديقها الضابط جالسين على انفراد في أحد أركان القاعة، فخيل لسيرانو أنه رأى بينهما شيئا مريبا، فدنا منهما ووضع يده على كتف المرأة وقال لها: يخيل إلي أيتها السيدة أن هذا البطل الجالس بجانبك يدبر خطة للهجوم على حصنك! فانتفضت وتظاهرت بالغضب، وقالت له: ماذا تقول يا سيدي؟ إن نظرة واحدة مني تكفي لهزيمة من يحاول ذلك. قال: ولكني أرى عينيك ذابلتين متضعضعتين تلوح عليهما علائم الانكسار! فاضطربت وحاولت أن تقول شيئا فخانها صوتها، فصمتت. فقال لها: أيتها الفتاة، إن راجنو يعجبني جدا؛ لذلك لا أسمح لأحد أن يعبث بشرفه أمامي! ثم التفت إلى الضابط فنظر إليه نظرة شزراء، وقال: ولقد سمع من كانت له أذنان! أليس كذلك أيها «الرجل الهائل»؟
ثم تركهما واستمر في سبيله، فهمست «ليز» في أذن صديقها تقول له: إنك تدهشني جدا يا صديقي، ولا أعلم سببا لسكوتك وصمتك، حتى ليخيل إلي أنك تخافه وتخشاه، قل له كلمة تؤلمه وتكسر من شرته، أو اسخر من أنفه على الأقل، فإنه موضع الضعف منه، فنظر إليها ذاهلا مشدوها وقد سرت في جسمه رعدة شديدة، وقال: أنفه؟ لا، لا، ما لنا وللسخرية بمصائب الناس وأرزائهم؟ ثم تسلل من مكانه وخرج من القاعة فتبعته، وكانت الساعة قد أشرفت على السابعة، فصاح سيرانو: قد جاء الميعاد يا راجنو، فهتف راجنو بشعرائه: هيا بنا أيها الأصدقاء إلى الحجرة الثانية، فتباطئوا وتلكئوا؛ فظل يدفعهم بيديه وهم يتخطفون الحلوى ويتناهبونها، حتى أدخلهم الحجرة وأغلق بابها عليهم، ووقف سيرانو على مقربة من باب المطعم ينتظر قدوم روكسان ويقول في نفسه: لا أعطيها الكتاب إلا إذا رأيت في وجهها بارقة أمل.
اللقاء
وهنا سمع حفيف ثوب مقبل، فخفق قلبه خفقانا شديدا، ثم فتح الباب ودخلت روكسان ووراءها وصيفتها، وهي تخطر في مشيتها تلك الخطرة البديعة التي عرفت بها، وافتتن بها الناس من أجلها، وقد أسبلت قناعها على وجهها، فحيته، فحياها تحية محتشمة تترجح بين الأدب والكبرياء، وأشار لها إلى كرسي قد أعده لها فجلست عليه، ثم تركها وذهب إلى الوصيفة، وكانت واقفة على عتبة الباب تقلب نظراتها في صنوف الأطعمة المنتشرة على المائدة. فقال لها بلهجة المازح المداعب: أشرهة أنت أيتها الفتاة ؟ قالت: نعم يا سيدي، فمشى إلى المائدة، وتناول كيسين من أكياس الحلوى وقال لها: هاك قصيدتين بديعتين للشاعر العظيم «بنسراد»، فخذيهما، فلم تفهم ما يريد، وقالت: وماذا أصنع بهما؟ قال: قد اتخذتهما «ليز» كما اتخذت غيرهما من قصائد الشعراء المجيدين أكياسا للحلوى وأوعية للفطائر، فخديهما واجلسي خارج الباب، فإنك ستجدين فيهما من ألوان الحلوى ما تشتهين، ولا تعودي إلا بعد أن تشبعي، فتلألأ وجهها فرحا وسرورا، وتناولت الكيسين وعادت أدراجها.
ورجع سيرانو إلى روكسان، فوقف بين يديها حاسر الرأس، وقال لها: لقد أسديت إلي يا سيدتي بزيارتك هذه نعمة لا أنساها لك مدى الدهر، وإني أفتخر بهذه الثقة التي أوليتنيها، وأنتظر بكل شوق سماع ما تريدين أن تفضي به إلي، فحسرت قناعها عن وجهها، فأضاء ضوء القمر الساطع في الدجنة الحالكة، وقالت له: شكرا لك يا ابن عمي، إنك قد أحسنت إلي ليلة أمس إحسانا عظيما بقتلك ذلك الفتى الوقح الجريء، الذي حاول أن يعبث بك ويستهين بكرامتك، فغضبت لنفسك غضبة الأبي الأنوف، ولم ترم مكانك حتى غسلت بدمه أثر الإهانة التي لحقت بك، أتعرف هذا الفتى يا سيرانو؟ قال: لا يا سيدتي. قالت: أبارزته دون أن تعرف اسمه؟ قال: نعم. قالت: إنه الفيكونت «فالفير» الذي أراد أحد المغرمين بي من عظماء هذا البلد - وهو الكونت دي جيش - أن يزوجني منه على الرغم مني زواجا لا أعرف كيف أسميه؟ قال: زواجا اسميا! فأطرقت برأسها حياء وخجلا، وقالت: نعم. فقال لها: ما أفظع ما تقولين! لقد أصبحت الآن راضيا عن نفسي كل الرضا في تلك الخطة التي انتهجتها معه، والتي انتهت بانتهاء حياته، بعد ما علمت أنني إنما كنت أقاتل في سبيلك لا في سبيل نفسي، وأذود عن عينيك الجميلتين لا عن أنفي، فاستضحكت وأشارت له إلى كرسي بجانبها، فجلس عليه صامتا ساكنا ينتظر ما تقول.
وساد السكون بينهما هنيهة، ثم أقبلت عليه وقالت له: كنت أريد أن أقول لك كلمة أخرى يا سيرانو، فهل تسمح لي بها؟ قال: نعم، أسمح لك بكل شيء، فقولي ما تشائين. قالت: أتذكر تلك الأيام الماضية التي قضيناها معا ونحن صغيران في «بيرجراك»، في تلك المروج الخضراء على ضفاف البحيرة؟ فانتعشت نفسه وخفق قلبه خفقانا شديدا، وقال: نعم يا ابنة عمي، أيام كنت تأتين هناك مع أبويك لقضاء فصل الصيف في كل عام. قالت: إني أذكر تلك الأوقات الجميلة كأنها حاضرة بين يدي، وأذكر تلك الأعواد الشائكة التي كنت تقتطعها بيديك من أشجار الغاب، وتتخذ منها أسيافا صغيرة تلعب بها في الهواء، كأنك تبارز أشباحا خفية تتراءى لك. قال: نعم، أذكر ذلك ولا أنساه، وأذكر أنك كنت تجمعين أعواد الذرة من الحقل، ثم تجلسين على ضفة البحيرة لتتخذي من خيوطها شعورا ذهبية لعرائسك الجميلة. قالت: نعم، ما كان أجمل تلك الأيام! وما كان أسعد ساعاتها! وما كان أحلى مذاق العيش فيها! لقد كان يخيل إلي في ذلك الوقت أني صاحبة السلطان المطلق عليك، وأنك تحبني حبا شديدا، وتهتم بشأني اهتماما عظيما، بل تأتمر بأمري في كل ما أشير به عليك، وتنزل عند جميع رغباتي وآمالي، وأظن أني كنت جميلة في ذلك الحين، أليس كذلك؟ فازداد خفقان قلبه، وخيل إليه أنه يرى بين شفتيها ظل تلك الكلمة العذبة التي يتلهف شوقا إلى سماعها من فمها، فرفع رأسه ونظر إليها نظرة باسمة عذبة، وقال: نعم يا سيدتي، كما أنت الآن! قالت: وكنت كثير الشغف بتسلق الأشجار الشائكة والمخاطرة بنفسك في ذلك مخاطرة عظيمة، فكنت إذا أصابك جرح في يدك هرعت إليك وعطفت عليك عطف الأم الرءوم على ولدها، وأخذت يدك بين يدي هكذا، ومدت يدها إلى يده فجذبتها إليها، فوقع نظرها على ذلك الجرح الدامي الذي أصابه في معركة الليل، فدهشت وقالت: ما هذا يا سيرانو؟ ثم ابتسمت وقالت: ألا تزال تتسلق الأشجار حتى الآن! فضحك وقال: نعم، لا أزال أحب اللعب حتى الآن، ولقد لعبت ليلة أمس لعبة شيطانية عند «باب نيل»، سفكت فيها من دم أعدائي فوق ما سفكوا من دمي أضعافا مضاعفة.
ثم حاول أن يسترد يده، فأمسكت بها وقالت له: لا، بل لا بد أن تدعها لي الآن حتى أرى الجرح وأسبره كما كنت أفعل في عهد طفولتي، وأعالجه بالطريقة التي كنت أعالج بها جروحك من قبل، ثم أخرجت منديلها من صدرها، وغمست طرفه في قدح من الماء، وظلت تمسح به الجرح برفق وتؤدة، وتقول له: هكذا كنت أعالج جروحك التي كانت تصيبك من تسلق الأشجار الشائكة في عهد طفولتك الأولى، وهو يرتعد بين يديها ويضطرب من تأثير ملامسة جسمها لجسمه، ويقول: نعم يا روكسان، إنها رحمة لا تكون إلا في قلوب الأمهات. قالت له: قل لي: كم كان عدد أعدائك الذين قاتلتهم في تلك المعركة؟ قال: مائة أو يزيدون. قالت: مائة! يا للشجاعة النادرة! قال: وربما كنت لا تعلمين أنها المرة الثانية التي قاتلت فيها من أجلك في ليلة واحدة! قالت: من أجلي؟ لم أفهم ما تريد. قال: نعم؛ لأنني إنما كنت أدافع عن ذلك الشاعر المسكين الذي انتصر لك، وذاد عنك ومثل بخصمك أقبح تمثيل في قصيدته التي هجاه بها، فحقدها عليه ودس له هؤلاء الرعاع ليقتلوه في جنح الظلام. قالت: ما أعظم شكري لك يا ابن عمي! وما أكبر شأن تلك النعمة التي أسديتها إلي! حدثني حديث الواقعة من مبدئها إلى منتهاها، فلا بد أن تكون واقعة غريبة جدا لم يسطر التاريخ مثلها. قال: سأحدثك عنها فيما بعد، أما الآن فحدثيني أنت عن ذلك الأمر الذي جئتني من أجله، والذي لم تجرئي على أن تفاتحيني فيه حتى الآن. قالت وهي لا تزال آخذة بيده تمسحها وتستغثها: أما وقد ألقينا نظرة على ماضينا الجميل، وجددنا عهد تلك الذكرى القديمة، وعلمنا أن الصلة التي بيننا صلة وثيقة محكمة لا تنال منها يد الدهر، ولا تأخذ منها عاديات الأيام، فاسمح لي أن أفضي إليك بسري، وأن أقول لك بصراحة: إنني عاشقة يا سيرانو! فتلألأ وجهه وانتعشت نفسه، ومشت رعدة خفيفة في أجزاء جسمه، وكاد منظره ينم عما في نفسه، لولا تجلده واستمساكه، وقال لها: ومن هو هذا الإنسان السعيد الذي يتمتع بنعمة حبك؟ قالت: إنه لا يعلم شيئا مما أضمره له في قلبي حتى الآن، ولم أفض إليه بسريرة نفسي حتى الساعة، وسيكون سروره عظيما جدا حينما يعلم أن الفتاة التي يحبها ويموت وجدا بها تضمر له بين جوانحها من الوجد فوق ما يضمر لها! فازداد سروره وانتعاشه، وقال: ألا تستطيعين أن تقولي لي من هو يا روكسان؟ قالت: سأصفه لك لتكون أول ناطق باسمه: هو شاب خجول شديد الحياء، يحبني حبا يملك عليه كل حواسه ومشاعره، ولكنه يكتم سره في صدره. قال: وكيف وقفت على سريرة نفسه؟ قالت: عرفتها من ارتجاف شفتيه، واكفهرار وجهه، وتدله نظراته كلما رآني. قال: ثم ماذا؟ قالت: وهو ذكي نبيه، تلوح على وجهه علائم التفوق والنبوغ، فأطرق برأسه حياء، وحاول أن يجتذب يده من يدها، وكانت قد انتهت من تضميدها. فقالت له: دعها لي الآن، فهي لا تزال ملتهبة بالحمى، فتركها لها وهو يقول في نفسه: ما أسعدني وأعظم هنائي!
অজানা পৃষ্ঠা
واستمرت في حديثها تقول: وهو فوق ذلك شجاع مقدام، شريف النفس، عالي الهمة، يأبى الضيم ويأنف الذل، ولا يبيت على ضيم يراد به. قال: هيه؟ قالت: وهو جندي في فصيلة شبان الحرس، أي في فصيلتك يا سيرانو؛ فهمهم بين شفتيه: لم يبق في الأمر ريب. قالت: أما صورته فهي أجمل صورة خلقها الله في العالم! فصعق عند سماع هذه الكلمة التي ذهبت بجميع آماله وأحلامه، وتأوه آهة شديدة كادت تخرج فيها نفسه، فعجبت لأمره وقالت له: ماذا أصابك يا سيرانو؟ فتراجع إلى نفسه سريعا، واستجمع من قواه في تلك اللحظة ما يعجز أشجع الرجال وأصبرهم عن استجماعه فيها، وقال: لا شيء، لقد أحسست بوخز في يدي من تأثير الحمى، وقد ذهب الآن كل شيء، وصمت لحظة، ثم قال: نعم قد ذهب كل شيء، فتحدثي فإني مصغ إليك. قالت: لقد أحببت هذا الفتى حبا ملك علي عواطفي واستغرق مشاعري، ولا عهد لي به إلا منذ أيام قلائل، كنت أراه فيها يختلف إلى قاعة التمثيل، فيجلس منفردا وحده، فأنظر إليه من بعيد؛ وقد جئتك الآن أتحدث إليك في شأنه، فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه إليها وقال لها بصوت ساكن هادئ: ألم تتحدثي إليه قبل اليوم؟ قالت: لم نتخاطب إلا بالعيون. قال: وكيف عرفت جميع هذه الصفات التي ذكرتها فيه وما حادثته ولا جلست إليه؟ قالت: سمعتها منذ أيام تحت أشجار الزيزفون في الميدان الملكي في مجتمع العجائز الفضوليات، لا حرمنا الله ثرثرتهن وفضولهن! قال: وهل هو من فرقة الشبان؟ قالت: نعم، شبان الحرس قال: أعترف لك يا سيدتي أنني قد عجزت عن معرفة اسمه، فقولي من هو؟ قالت: هو «البارون كرستيان دي نوفييت» قال: لا أذكر أني سمعت بهذا الاسم قبل اليوم. قالت: إنه لم يدخل الفرقة إلا في هذا الصباح، تحت قيادة «كاربون دي كاستل جالو».
فصمت هنيهة، ثم نظر إليها نظرة عطف وحنو وقال لها: ولكن يخيل إلي يا روكسان أنك تخاطرين بقلبك في هذا الحب مخاطرة عظيمة لا تدرين ما عاقبتها، وأنك تلقين بنفسك في هوة لا تعرفين السبيل إلى الخلاص منها، وكانت الوصيفة قد فرغت من طعامها في هذه اللحظة، فدفعت الباب وأطلت برأسها وقالت: قد أكلت كل شيء يا سيدي، فماذا أصنع؟ فالتفت إليها وقال: حسبك ذلك، فاقرئي ما على الأكياس من الأشعار، ولا تعودي إلا إذا دعوتك، فانصرفت وعاد هو إلى إتمام حديثه فقال: أنت يا ابنة عمي فتاة رقيقة الشعور، ذكية الفؤاد، لا يعجبك إلا التفوق والنبوغ، ولا تأنس نفسك إلا بالذكاء الخارق والفطنة النادرة، فماذا يكون شأنك غدا لو أن ذلك الفتى الذي أحببته واصطفيته لنفسك كان بليدا، أو عييا، أو ضعيف الذهن، أو خامل الفكر؟ قالت: لا يمكن أن يكون كذلك! قال: لماذا؟ قالت: لأن منظر شعره الذي يشبه في صفرته ولمعانه منظر شعر أبطال «أورفيه»، يدل على نبوغه وذكائه! قال: ربما كان جميل الشعر بديع الصورة، ولكنه بليد الذهن، ضيق العطن. قالت: لا أظن ذلك، بل يخيل إلي - وإن لم أجلس إليه ولم أسمع حديثه - أنه أرق الناس حديثا، وأعذبهم سمرا، وأفصحهم لسانا، وأغزرهم بيانا. فقال في نفسه: نعم، كل الألفاظ جميلة ما دام الفم الذي ينطق بها جميلا، ثم قال لها: ولكن ماذا تصنعين لو تبين لك أنه جاهل أحمق؟ قالت: إذن أموت هما وكمدا. قال: هذا الذي أخاف عليك منه.
وصمت هنيهة وهو يردد بينه وبين نفسه: وا رحمتاه لها! إنها على شفا الهاوية، ثم قال لها: وفي أي شأن من شئونه تريدين أن تتحدثي إلي؟ قالت: قد علمت بالأمس أمرا أحزنني جدا وأقلق مضجعي، فلم أطعم الغمض ساعة واحدة. قال: وما هو؟ قالت: علمت أن جنود فصيلتكم جميعهم من الجاسكونيين الجفاة، وأنهم لا يحبون أن يدخل فصيلتهم غريب عنهم، فإذا دخل ناوءوه وشاكسوه حتى يخرجوه! وربما تعللوا عليه العلل فبارزوه وقتلوه، ففطن لغرضها، وقال: نعم إنهم يفعلون ذلك، ولهم الحق فيما يفعلون، وخاصة إذا كان هذا الواغل عليهم أحد أولئك الأغبياء الجهلاء الذين ينتظمون في سلك الفرقة من طريق الشفاعات والوصايات، لا من طريق الكفاءة والاستحقاق. قالت: ذلك ما جئتك من أجله، فقد أعجبني موقفك الشريف الذي وقفته ليلة أمس أمام ذلك الفتى الوقح البذيء الذي حاول أن يهزأ بك، وينال من كرامتك، وامتلأ قلبي ثقة بما كنت لا أزال أعرفه لك طول حياتك من الشجاعة والحمية، وعلو الهمة وإباء الضيم، فأتيت إليك أسألك أن تتولى كرستيان بحمايتك.
فصمت سيرانو لحظة ذهبت نفسه فيها كل مذهب، وتمثلت له روكسان في صورتين مختلفتين، وقد وقفت إحداهما بجانب الأخرى: صورة امرأة عاشقة مستهترة تريد أن تسخره في غرض من أغراضها الغرامية، وتطلب إليه أن يضع يده في تلك اليد التي قتلته، وأتلفت عليه نفسه، وأن يكون صديقا لذلك الفتى الذي حرمه سعادته وهناءه وقطع عليه سبيل حياته، ووقف عقبة بينه وبين آماله وأمانيه، وصورة امرأة مسكينة ضعيفة من أقربائه وذوي رحمه، قد نزلت بها نكبة من النكبات العظام، ففزعت إليه فيها تسأله أن يعينها عليها، ثقة منها بفضله وكرمه، وهمته ومروءته، وهي لا تعلم من شئون قلبه شيئا، ولا تدري أن هذا الذي تفزع إليه فيه إنما هي نفسه التي بين جنبيه، وحياته التي لا يملك في يده حياة غيرها!
ثم ما لبث أن رأى الصورة الأولى تتضاءل في نظره وتتصاغر حتى تلاشت واضمحلت، وظلت الثانية ثابتة في مكانها بارزة واضحة، تنظر إليه نظرة الضراعة والاسترحام، وتبسط إليه يد الرجاء والأمل، فالتفت إليها وقد هبت من بين أردانه رائحة الكرم، وقال لها بصوت قوي رنان لا تتخلله رنة الحزن، ولا تمازجه نغمة اليأس: «كوني مطمئنة يا روكسان، فإني سأتولى حمايته!» وما علم أنه قد نطق في نطقه بهذه الكلمة بحكم الموت على نفسه.
فقالت له: شكرا لك يا ابن عمي، فسأعتمد على وعدك ما حييت. قال: اعتمدي ما شئت. قالت: وكن صديقه الوفي الذي يأخذ بيده في جميع شدائده ومخاطره. قال: بل أصدق أصدقائه. قالت: وحل بينه وبين التعرض لأخطار المبارزات والمشاجرات. قال: إنه لن يبارز أبدا. قالت: أتقسم لي؟ قال: لا؛ لأني ما تعودت الكذب، فتلألأ وجهها فرحا وسرورا وقالت: الآن يمكنني أن أنصرف آمنة مطمئنة، شاكرة لك فضلك الذي لا أنساه أبدا، ثم تناولت برقعها فألقته على وجهها وهي تقول: إنك لم تتمم لي حديث الواقعة التي جرحت فيها، فحدثني عنها قليلا، يا للعجب! مائة رجل كانوا ضدك؟ إنك كفء لكل عظيمة يا ابن العم! لا تنس أن تقول له: أن يكتب إلي اليوم كتابا، حدثني حديث الواقعة يا صديقي، مائة رجل؟ يا للشجاعة النادرة؟ إن كرستيان لا يعلم أني أحبه حتى الساعة، فكن أول من يحمل إليه هذه البشرى، وقل لي: كيف استطعت أن تلقى وحدك هذا العدد الكثير، أو قل لي ذلك فيما بعد؛ لأنني تأخرت كثيرا، ولا بد لي من الذهاب الآن!
ثم نهضت ومدت إليه يدها، فقبلها. فقالت: إلى اللقاء يا ابن العم، إني أنتظر من كرستيان كتابا اليوم، ثم انصرفت.
فوقف على عتبة الباب يشيعها بنظراته، حتى غابت عن عينيه، ثم عاد يترنح هما وحزنا، حتى وصل إلى كرسيه فتهافت عليه وهو يقول: إنها تعجب لشجاعتي في تلك المعركة، وأنا في هذه الساعة أشجع مني في كل موقف وقفته في حياتي!
وكان راجنو قد أحس بخروج روكسان، فأطل من باب الحجرة، فرأى سيرانو جالسا جلسته تلك، فصاح به: أيمكننا الرجوع الآن يا سيدي؟ قال: نعم، فأشار إلى أصدقائه الشعراء، فدخلوا جميعا، ودخل في تلك الساعة نفسها من باب المطعم «كاربون دي كاستل جالو»، قائد فرقة الحرس، وهو يهدر بصوت كالرعد: قد عرفنا كل شيء يا سيرانو، وإني أهنئك من صميم قلبي بذلك النجاح العظيم الذي أحرزته ليلة أمس على أعدائك المائة! فنهض سيرانو متضعضعا، وانحنى بين يدي قائده وقال: شكرا لك يا سيدي. فقال: ما لي أراك شاحبا مصفرا؟ وما هذه الغبرة السوداء المنتشرة على وجهك؟ يخيل إلي أنك قد لقيت في تلك المعركة عناء عظيما! قال: نعم يا سيدي. قال: إن ورائي ثلاثين جنديا من أبناء فرقتك قد اجتمعوا في تلك الحانة المقابلة لهذا المطعم، وهم يريدون تهنئتك والاحتفال بانتصارك، فاذهب إليهم وقابلهم، ثم قال: لا، بل لا بد أن يأتوا هم إليك بأنفسهم ليهنئوك، تكرمة لك وإعظاما لشأنك، ثم وقف على عتبة باب المطعم، وصاح بأعلى صوته: أيها الأصدقاء، إن البطل لا يستطيع الحضور إليكم؛ لأنه تعب قليلا فاحضروا أنتم إليه، وما هي إلا هنيهة حتى أقبل الجنود الثلاثون يزلزلون الأرض بخفق نعالهم وصلصلة أسلحتهم، ويطمطمون بلغتهم الجاسكونية: سانديوس - ميل ديوس - كاب ديوس - مور ديوس - بوكاب ديوس، ثم دخلوا، ففزع راجنو عند رؤيتهم، لما هاله من طول قاماتهم وضخامة أجسامهم، وقال لهم: أكلكم أيها السادة جاسكونيون؟ فأجابوا جميعا بصوت واحد: نعم، كلنا، ثم اندفعوا نحو سيرانو يقبلونه ويعانقونه، ويهزون يده ويهتفون: ليحي البطل، لتحي جاسكوينا، ليحي الجيش، وهو يتململ في نفسه ويتبرم؛ ولكنه كان يبتسم في وجوههم ويستقبل تهانئهم له بالشكر والارتياح.
وكان خبر تلك المعركة قد انتشر في أنحاء باريس جميعها، فوفد جمهور عظيم من الناس إلى المطعم ، يتقدمهم «لبريه» صديق سيرانو، وهم يصيحون: ليحي البطل، لتحي فرنسا، ثم دخلوا جميعا يركضون ويتدافعون، ويحطمون كل شيء بين أيديهم، وراجنو واقف مكانه يتأمل هذا المنظر الغريب بسرور وارتياح، ويقول: وا طرباه! ها هو ذا الفن يتوج اليوم في مطعمي! حتى بلغوا مكان سيرانو، فداروا به يهنئونه ويقبلونه، وكلهم يناديه: أيها الأخ، أيها الصديق، أيها الزميل، فيقول في نفسه: وا عجبا لكم أيها الناس! لم يكن لي بالأمس بينكم صديق، واليوم كلكم أصدقائي!
অজানা পৃষ্ঠা
ووقفت في تلك الساعة مركبة فخمة أمام باب المطعم، ونزل منها ثلاثة من الأشراف، فدخلوا الحانوت، وظلوا يدفعون الناس أمامهم دفعا حتى دنوا من سيرانو، فوضع أحدهم يده في يده وشد عليها بقوة، وقال له: آه لو كنت تدري يا صديقي مقدار سروري بك وبنجاحك! فالتفت إليه سيرانو غاضبا، وقال له: ما أنا بصديقك يا سيدي؛ لأنني ما عرفتك قبل اليوم! وقال له الآخر: إن بعض السيدات ينتظرنك في مركبتهن أمام الباب ليهنئنك بانتصارك، فلو تفضلت بمرافقتي إليهن لأقدمك لهن! فقال له: وكيف تسمح لنفسك يا سيدي أن تقدمني إلى غيرك قبل أن تقدم نفسك إلي؟ وقدم إليه الثالث كأسا من الخمر وقال له: اشرب معي يا سيدي نخب بأسك وشجاعتك، فالتفت إليه وقال له: يخيل إلي يا سيدي أنك أشجع مني؛ لأنك قدمت إلي شيئا قبل أن تعلم ما رأيي فيه، ثم دفع الكأس عنه بقوة فهراقها، وجاءه أحد مراسلي الصحف وقد أمسك بيمينه قلما وبيسراه قرطاسا، وقال له: قص علي حديث واقعتك أيها الفارس البطل لأنشره في جريدتي، فنظر إليه شزرا وقال له: إنني لم أقاتل من أجلك يا سيدي، ولا من أجل جريدتك، بل من أجل صديقي لينيير، فتململ لبريه من خشونته وجفائه، وكان جالسا على مقربة منه، فجذبه من ثوبه وقال له همسا: ما الذي أصابك يا سيرانو؟ وما هذه الخشونة التي تستقبل بها أصدقاءك الذين يهنئونك ويمجدونك؟ فقال له: لا تصدق كل ما تراه يا لبريه، فليس لي في العالم صديق سواك .
وإنهم لكذلك إذ ساد السكون وانقطعت الضوضاء، وانفرج الجمهور صفين متقابلين خاشعين مستكينين، وإذا الكونت دي جيش القائد الفرنسي العظيم قد أقبل يجرر أذياله، ويسدد أنفه إلى كبد السماء عظمة وخيلاء، ووراءه كثير من الأشراف ورجال الجيش، حتى توسط القاعة، فوقف ونادى: أين سيرانو؟ فالتفت سيرانو فرآه، فدهش وقال في نفسه: لعله جاء أيضا ليهنئني، ولئن فعل لتكونن أعجوبة الأعاجيب، ثم أجابه وهو واقف مكانه لا يتحرك ولا يحتفل: هأنذا يا سيدي. قال: أقدم إليك تهنئتي الخاصة، وأبلغك أن جناب القائد العام المارشال «دي جاسيون» قد أمرني أن أبلغك تهنئته لك، وثناءه عليك، وإعجابه بك، واغتباطه بعملك العظيم الذي قمت به ليلة أمس، وأضفت به إلى سجل الشجاعة الفرنسية صفحة من أشرف الصفحات وأمجدها، ولقد كان في شك من صحة الخبر، لولا أن أقسم له بعض الضباط الذين صحبوك ليلة أمس إلى «باب نيل» أنهم شاهدوا الحادثة بأعينهم، فرفع سيرانو نظره إلى الكونت بهدوء وسكون، وقال له: لا شك أن للمرشال قدما راسخة في الفنون الحربية وأساليبها، ومثله من يقدر أقدار الرجال، فبلغه شكري، فدهش الناس لجوابه الخشن الجافي، وطاش عقل لبريه حتى كاد يتفجر غيظا وحنقا، إلا أنه تماسك وتجلد وهمس في أذنه: إن هذا لا يليق بك مطلقا، قل له كلمة أجمل من هذه ردا على تحيته، واستقبل الصنيعة بمثلها، فصمت سيرانو هنيهة، ثم قال له بصوت خافت: دعني يا لبريه فإنني لا أطيق أن أشكر رجلا جاء لتهنئتي بانتصاري عليه! فقال له: يخيل إلي أنك متألم يا صديقي، فانتفض سيرانو وقال: أنا! لا، أتظن أنني أتألم أمام أحد مهما برح بي الهم وأمضني، أو أسمح لعدو من أعدائي أن يشمت بي ويرى بعينيه منظر بؤسي وشقائي؟ انتظر قليلا فسوف ترى، وكان الكونت قد جلس على كرسيه المعد له جلسة العظمة والكبرياء؛ فالتفت إلى سيرانو وقال له بنغمة الساخر الهازئ: إن تاريخك يا مسيو سيرانو حافل بالحوادث والوقائع، ويخيل إلي أنني رأيتك في فرقة هؤلاء الجاسكونيين الشياطين، أليس كذلك؟ فصاح الجاسكونيون جميعا: نعم هو في فرقتنا، ولنا بذلك الفخر العظيم، فالتفت الكونت إليهم، وقلب نظره في وجوههم وهم وقوف بجانب قائدهم «كاربون دي كاستل جالو»، وقال: أكل هؤلاء الذين تلوح عليهم مخايل العظمة الكاذبة جاسكونيون؟ فهتف كاربون بسيرانو وقال له: تفضل أيها البطل الباسل بتقديم فرقتي بالنيابة عني إلى حضرة القائد العظيم.
فمشى سيرانو نحو الكونت خطوتين، وأخذ يقدم إليه الفرقة بموشح بديع ارتجله في الحال، وضمنه الثناء عليهم والتنويه بفضلهم والإشادة بذكرهم حتى أتمه، فأعجب الكونت ببداهته وحضور ذهنه، وقال في نفسه: إن اصطناع شاعر مجيد كهذا الشاعر مفخرة عظمى لمن يصطنعه، وليس من الرأي أن يفلت مثله من أيدينا، ثم استدناه منه وقال له: أتحب أن تكون لي يا سيرانو؟ فانتفض وقال: لا يا سيدي، ولا لأي إنسان! قال: إن خالي الكردينال «ريشلييه» كثير الإعجاب بك وبأدبك، ويحب أن يراك، فإن شئت قدمتك إليه، ولقد قيل لي: إنك نظمت منذ عامين رواية تمثيلية جميلة لم توفق إلى تمثيلها حتى اليوم، فلو أنك ذهبت بها إليه، ورفعتها له لعرف لك فضلك فيها، وأحسن جزاءك عليها، كما أحسن من قبلك إلى غيرك من الكتاب والشعراء، فهمس لبريه في أذن سيرانو: لقد آن لروايتك «أجريبين» أن تمثل فليهنئك ذلك، فلم يلتفت إليه سيرانو، وقال للكونت بنغمة الساخر المتهكم: أحق ما تقول يا سيدي؟ قال: نعم، والرجل كما تعلم أديب بارع، راسخ القدم في النقد الأدبي، وسينظر في روايتك هذه نظر الناقد البصير، وربما أجرى فيها قلم تهذيبه وتنقيحه، فجاءت آية الآيات في حسنها وجمالها. فاكفهر وجه سيرانو وتفصد جبينه عرقا، وقال للكونت: ذلك مستحيل يا سيدي، وإن دمي ليجمد في عروقي عندما أتخيل أن إنسانا في العالم يحدث نفسه بتغيير حرف واحد من قصيدة من قصائدي، وما أنا في حاجة إلى الاستعانة على أدبي بأحد من الناس كائنا من كان! قال: ولكنك تعلم أنه إذا أعجبه بيت من الشعر دفع ثمنه غاليا، قال: نعم، أعلم ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يبذل فيه ثمنا مثل الذي بذلته؛ لأنني إنما أسكب فيه دم قلبي حارا، ودم القلب أغلى قيمة من الفضة والذهب. قال: إنك أبي النفس يا سيرانو. قال: نعم، وقد كان جديرا بك أن تفهم ذلك من قبل.
وهنا دخل رجل يحمل على يديه قبعات كثيرة قذرة، كان قد وجدها في ميدان المعركة عند «باب نيل»، من آثار الفارين والمنهزمين، فألقاها بين يدي سيرانو، وقال له: ها هي ذي أسلاب المعركة التي تركتها احتقارا لها وازدراء بها، قد حملتها إليك؛ لا لأنها تستحق عنايتك والتفاتك؛ بل لأنها دليل قاطع على جبن أعدائك ونذالتهم، فضحك الجمهور طويلا وظلوا يهتفون: قبعات الهاربين! قبعات الهاربين! وقال سيرانو وهو ينظر خلسة إلى وجه الكونت: ليت شعري من هو ذلك الجبان النذل الذي جرد مثل هذا الجيش السافل ليحارب به شاعرا مسكينا؟ ما أحسبه الآن إلا خزيان نادما، يتمنى أن لو انفجرت الأرض تحت قدميه، فهوى في أعماقها أبد الآبدين! فصاح الجمهور من كل ناحية: لا شك في ذلك، فارتعد الكونت غيظا، واربد وجهه، وصاح بصوت أجش كهزيم الرعد: ماذا تقولون؟ أنا الذي جرد هذا الجيش السافل كما تقولون؛ لأنني أردت تأديب ذلك الرجل الوقح البذيء، ولا يتولى تأديب سافل دنيء مثله إلا سفلة أدنياء، فقهقه سيرانو ضاحكا، وأخذ يجمع القبعات بحد سيفه، ثم دفعها تحت قدمي الكونت وقال له: إذن يمكنني يا سيدي أن أكلفك برد هذه القبعات إلى أصدقائك.
فثار الكونت من مكانه غاضبا، ونظر إلى سيرانو نظرة ملتهبة ينبعث الشرر من جوانبها، وقال له: هل قرأت أيها الرجل «دون كيشوت»؟ قال: نعم، قرأته وأنا حاسر الرأس إعجابا بذلك البطل الشريف. قال: أتذكر من قصصه قصة الطواحين الهوائية؟ فانحنى سيرانو وقال: نعم، «في الباب الثالث عشر». قال: ما رأيك فيمن يحاول مهاجمة تلك الطواحين أو اعتراض سبيلها؟ ففطن سيرانو لما أراد، وقال: ما كنت أظن أن أعدائي طواحين هوائية تذهب مع كل ريح. قال: إنها تمد أذراعها الطويلة لتتناول بها من يجسر على مقاومتها وتقذف به في الهوة العميقة. قال: أو الكوكب العالي! فصاح الكونت: مركبتي وخدمي! فابتدر الأشراف تنفيذ أمره، وظلوا يتراكضون ويتدافعون كأنهم بعض الخدم، وما هي إلا لحظات حتى حضرت المركبة، فخرج الكونت وخرج بخروجه جميع الأشراف والنبلاء، من حضر منهم معه، ومن حضر قبل ذلك، لا يحيون سيرانو ولا يدنون منه، ولا يرفعون أنظارهم إليه - مصانعة للكونت ومداهنة - فمشى وراءهم سيرانو يشيعهم إلى الباب، وهو يقول لهم: ماذا دهاكم يا أصدقائي؟ ما لكم تعرضون عني وتفرون مني؟ ما لكم لا تودعون البطل الذي جئتم الساعة لتهنئته وتكريمه؟
وما زال يشيعهم بأمثال هذه الكلمات حتى ركبوا جميعا مركباتهم وانصرفوا، فعاد إلى مكانه الأول وهتف بلبريه، فلباه فاستدناه منه واحتضنه إلى صدره وقال له: ألم أقل لك أيها الصديق: إنه ليس لي في العالم صديق سواك؟
نفس الشاعر
نكس لبريه رأسه مليا، ثم نظر إلى سيرانو نظرة حزينة مكتئبة، وقال له: قل لي أيها الصديق: ماذا أعددت لنفسك من الوسائل غدا للخلاص من هذه الهوة العميقة التي قذفت بنفسك فيها؟ واسمح لي أن أقول لك: إنك قد جننت جنونا لا أدري كيف يتركونك بعده خارج المارستان، أليس كل ما تستطيع الذود به عن نفسك في سلوك هذه الخطة العسراء أن تقول لي - كما تقول كل يوم: إنك تحب أن تعيش حرا مستقلا في حياتك، لا يسيطر عليك أي مسيطر من القيود والتقاليد؟ فليكن لك ما تريد، ولكن هل تستطيع أن تنكر أنك مغال متطرف؟ إنني لا أطلب إليك شيئا سوى أن تعترف لي بذلك، فابتسم سيرانو وقال له: إن كان هذا هو كل ما يرضيك فإني أعترف لك به، فتهلل لبريه فرحا وقال له: آه! لقد اعترفت أيها الصديق، فلزمتك الحجة التي لا قبل لك بدفعها. قال: إنني لا أنكر يا لبريه أنني رجل مغال متطرف كما تقول، ولكن في سبيل المبدأ والفكرة، والتطرف قبيح في كل شيء إلا في هذا السبيل، قال: ولكنك في حاجة إلى شيء من حسن السياسة وسعة الصدر، ولين الجانب؛ لتستطيع أن تصل إلى المجد الذي تحبه وتتعشقه.
فاستوى سيرانو في مكانه جالسا، وقد ظللت جبينه سحابة سوداء من الهم، واستحالت صورته إلى صورة مريعة مخيفة، وقال: ماذا تريد مني يا لبريه؟ وما هي الخطة التي تحب أن ترسمها لي لأنفذ من طريقها إلى المجد الذي تتحدث عنه، وتزعم أنني أتعشقه وأصبو إليه؟
أتريد أن أعتمد في حياتي على غيري، وأن أضع زمام نفسي في يد عظيم من العظماء أو نبيل من النبلاء يصطنعني ويجتبيني ويكفيني مئونة عيشي، ويحمل عني هموم الحياة وأثقالها، فيكون مثلي مثل شجرة «اللبلاب»، لا عمل لها في حياتها سوى أن تلتف بأحد الجذوع تلعق قشرته، وتمتص مادة حياته، بدلا من أن تعتمد في حياتها على نفسها؟ ذلك ما لا يكون.
অজানা পৃষ্ঠা