ثم تركته ودخلت المنزل، فجن جنونه وظل واقفا مكانه يتحرق ويتغيظ، ويقول: آه! ذلك ما كنت أخافه، أين أنت يا سيرانو؟ فما أتم كلمته حتى رأى سيرانو مقبلا عليه يبتسم ابتسامة المتهكم، ويقول له: أهنئك بالنجاح العظيم الذي أحرزته يا كرستيان! فانتفض وقال: أنت هنا؟ ثم ترامى بين ذراعيه وقال: الرحمة يا صديقي، فإني أكاد أموت غما! قال: وما الحيلة بعد الذي كان؟ لقد انقضى كل شيء فلا سبيل إلى الرجوع! قال: إن لم تر لي الساعة رأيا قتلت نفسي؛ إنني لا أستطيع أن أنصرف من هنا وهي واجدة علي، فارحمني واتخذها عندي يدا لا أنساها لك مدى الدهر!
فصمت سيرانو وهو يعالج في نفسه ألما ممضا لا تستشف مكانه من أعماق قلبه غير عين واحدة، وهي عين الله تعالى؛ ثم قال له: ها هو ذا الظلام حالك لا يلمع فيه نجم، وها هي ذي الطريق مقفرة لا يطرقها طارق؛ فاستمع لما ألقي عليك. فاستطير كرستيان فرحا، وتناول يده فقبلها وقال: آه يا سيدي، يخيل إلي أنك قد رأيت لي رأيا. قال: نعم إن ائتمرت بما آمرك به. قال: ما عصيت لك أمرا قبل اليوم. قال: قف هنا أمام الشرفة، وسأقف أنا من تحتها على قيد خطوة منك من حيث تراك روكسان ولا تراني، ثم نادها فإذا أشرفت عليك فسألقنك همسا ما يجب أن تقوله لها.
وإنهما لكذلك إذ أقبل الغلامان الموسيقيان اللذان كان أرسلهما سيرانو لإزعاج مونفلوري في مرقده. فقال لهما: أفعلتما ما أمرتكما به؟ قالا: نعم، ما زلنا نضرب اللحن المضطرب المشوش زمنا طويلا، حتى طاش عقله وجن جنونه، فأطل من النافذة وظل يشتمنا ويسبنا ويستعدي رجال الشرطة علينا حتى انصرفنا. قال: أحسنتما، فارجعا الآن وقفا على رأس هذا الشارع، وليكمن كل منكما وراء سارية من سواريه، وارقبا الطريق، فإذا رأيتما سوادا مقبلا فاضربا لحنا قصيرا. فقالا له: أي نوع من الألحان تريد أن نضرب؟ قال: اضربا لحنا محزنا إن كان القادم رجلا، ومفرحا إن كان امرأة، فعاد الغلامان أدراجهما ووقفا حيث أمرهما، ودفع سيرانو كرستيان وأقامه أمام الشرفة، ووقف هو من تحتها على مقربة منه، وقال له: نادها واخفض صوتك ما استطعت، فاتجه كرستيان إلى النافذة ونادى: روكسان! روكسان! فما لبثت أن فتحت الباب الموصل إلى الشرفة وخرجت إليها وقالت: من يناديني؟ قال: أنا. قالت: ومن «أنا»؟ قال: كرستيان. قالت: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أكلمك. قالت: ذلك مستحيل؛ لأنك لا تحسن الكلام! قال: أضرع إليك. قالت: إنك لا تحبني، ولو كان في قلبك ذرة واحدة من الحب لأحسنت الكلام فيه. قال وسيرانو يلقنه: يا لله! إنها تتهمني بأنني قد سلوتها في الساعة التي أتجرع فيها كأس الموت وجدا بها!
وكانت قد همت بالدخول، فاستوقفتها هذه الكلمة وقالت: وكيف تحبني؟ قال: قد اتخذ طفل الحب من نفسي الجائشة المضطربة أرجوحة لينة يلهو فيها ويلعب، وينمو ويترعرع، حتى إذا شب وأيفع وبلغ أشده، عقها وغدر بها وجازاها شر الجزاء على صنيعها، وقسا عليها القسوة التي يقسوها الطفل على عصفوره الضعيف المسكين.
فأصغت إليه، وشعرت أن في حديثه روحا جديدة لم تكن فيه من قبل. فقالت له: ولم لم تخنقه في مهده قبل أن يشب ويترعرع؟ قال: ما كنت أستطيع ذلك؛ لأنه ولد جبارا قويا متنمرا، حتى إنه استطاع وهو لا يزال يلعب في أرجوحته أن يصارع شيطان الكبرياء في حتى صرعه وألقاه جثة هامدة بين يديه.
فاتكأت روكسان على حافة شرفتها، وقد أطربتها هذه النغمة الجديدة، وقالت: ما أشد سواد هذا الظلام! إنني لا أتبين موقفك جيدا يا كرستيان، ولكنني أشعر أن كلامك ينير لي مكانك، فتكلم فإنك تطربني كثيرا، ولكن ما لي أرى نغمة حديثك تصدر عنك متقطعة، كأنما قد أصبت بالنقرس في مخيلتك، وكان عهدي بك قبل الآن طلق اللسان متدفقا كالسيل المنهمر! فذعر سيرانو وخاف أن ينكشف الأمر، فجذب كرستيان إلى ما تحت الشرفة، ووقف هو في مكانه، وانثنى إليه وأسر في أذنه: قد أصبح الموقف حرجا جدا فاصمت أنت، وسأتكلم أنا عنك بصوت يشبه صوتك، ثم أنشأ يجيب روكسان على سؤالها مقلدا صوت كرستيان، ويقول: ذلك لأن كلماتي تتخبط في هذا الظلام الحالك أثناء صعودها باحثة عن أذنك الصغيرة جدا، فلا يستقيم مسيرها! قالت: ولم لا تضطرب كلماتي في هبوطها اضطراب كلماتك في عروجها؟ قال: لأنها تنحدر إلى قلبي مباشرة، وقلبي رحب واسع فلا تضل طريقها، على أن كلماتي صاعدة وكلماتك منحدرة، والنزول أسهل من الصعود. قالت: ما أبدع هذا المعنى! ويخيل إلي الآن أن كلماتك قد انتظم مسيرها، فإنها تصل إلى أذني بأسرع من ذي قبل! قال: ذلك لأنها ألفت هذه الحركة وحذقتها، فصمتت لحظة، ثم دارت بعينيها في الفضاء وقالت: حقيقة إنني أتكلم من علو شاهق. قال: إذن فاحترسي، فإن كلمة واحدة قاسية تلقينها علي من موقفك هذا كافية لقتلي! فاستضحكت وقالت: لا تخف يا كرستيان، فإني آتية إليك لأحدثك وجها لوجه، قال: لا تفعلي، بل ابقي في مكانك. قالت: لم؟ قال: لأن هذا الموقف جميل جدا، يعجبني ويطربني، فلنتحدث كما نحن كأننا روحان هائمتان في أجواز الفضاء، تفتش كل منهما عن صاحبتها فلا تكاد تعثر بها، دعينا نتحدث كما نحن وبيننا هذا الموج المتلاطم من الدجنة الحالكة، لا ترين مني إلا سواد معطفي المسبل علي، ولا أرى منك إلا بياض ثوبك الصيفي الجميل، فأنت تمثلين الكوكب الساطع في سمائه، وأنا أمثل الظلام المخيم على سطح الغبراء!
إن لهذا الموقف الشعري الجميل في هذه الساعة الساكنة من الليل أعظم الفضل في صفاء ذهني، وانتعاش ويقظة قلبي وانطلاق لساني من حبيسته وجموده، فكوني كما أنت ولأكن كما أنا، لا تشعرين مني بغير خفقان قلبي، ولا أشعر منك بغير أشعة جمالك، أناجيك كأنني أناجي الله في علياء سمائه، وتصغين إلى نجائي إصغاء الملائكة الأبرار إلى أنات البائسين وزفراتهم على ظهر الأرض!
وكان قد غلبه الموقف على أمره واستلهاه حسنها، وجمالها واستغرق شعوره ووجدانه، فنسي أنه يتكلم بلسان غيره، فأطلق لنفسه عنانها، وأصبح يحدثها بنغمة غريبة لا هي نغمته ولا هي نغمة كرستيان، بل نغمة النفس الوالهة المعذبة المتألمة، فنالت من نفسها منالا عظيما، وقالت له: إنك تحدثني الآن يا كرستيان بلهجة غير لهجتك حتى ليخيل إلي أنك قد تبدلت من نفسك نفسا أخرى غيرها! قال: نعم؛ لأن كلامي قبل الآن لم يكن صادرا من أعماق قلبي؛ لأنني إنما كنت أحدثك بلسان ...
وكان يريد أن يقول: «كرستيان» فاستدرك هفوته، وقال: بلسان الدهشة والحيرة والاضطراب، الذي يلم بكل من يجرؤ على أن يقف موقفي هذا بين يديك، أما الآن فنفسي هادئة، وجأشي ساكن، وروحي مطمئنة، حتى ليخيل إلي أنني أناجيك للمرة الأولى في حياتي!
قالت: صدقت، ويخيل إلي أنا أيضا أنك تتكلم بصوت غير صوتك الأول. قال: نعم؛ لأنني استطعت في هذا السكون السائد والظلام الحالك الذي يحجبني عن العيون أن أكون أنا نفسي، وأنا أناجيك من طريقي لا من طريق ...
অজানা পৃষ্ঠা