والله لآخذن بثأرك يا أبي ... والله لن أهدأ حتى أرى دولتهم قفرا يبابا ... لن ينعموا طويلا بعد اليوم ... سأثير القلوب عليه، ثم على ابنه من بعده حتى أثل عرشه ... سأثير عليه القشتاليين، وسأثير عليه ملوك الأندلس جميعا، وسأغري به ملك المغرب، وسأبعث عليه بجانب هؤلاء جيوشا من مكري وخديعتي لن يستطيع لها دفعا ... سيذهب ملكه وملك ابنه ولو ذهبت معه الأندلس جميعا ... كل الأندلس فداؤك يا أبي.
كان حزن أهل إشبيلية شديدا على الشيخ، وقد كادت العامة تثور له لولا ما كان يخيفها من بطش المعتضد وجبروته.
وبعد مضي أشهر من الحادثة، نرى المعتضد ذات مساء في قصره، ونسمع ضوضاء بين الجواري والخدم، ونرى طاهرة تدخل عليه مذعورة وهي ترتعد من الحزن، وتقول: إن بثينة مريضة جدا ... أخذها المرض فجأة وهي تلعب بين أترابها.
فهب المعتضد كالمصعوق، وقال: ماذا تقولين؟! ... بثينة!! ... بثينة مريضة؟! لعلها وعكة تزول!! أين الطبيب؟؟ أين خلف الزهراوي؟؟ أين هو؟؟ وما هي إلا فترة قصيرة حتى جاء الزهراوي، فبادره المعتضد قائلا: كيف وجدتها؟ فقال الطبيب في صوت خافت مرتعد: إنها علة الخناق (الدفتريا) يا مولاي، ولا نعرف لها علاجا إلا تطهير الحلق، وقد بذلت كل ما في وسعى وفي وسع الطب، لأخذ الأغشية البيض من حلقها، غير أنني أخشى أن تكون أبعد من متناول يدي. - سأراها معك. آه يا بثينتي ... أنت دنياي أو ما بقي من دنياي ... أنت سلوتي بعد أن نفر مني الناس ونفرت منهم ... خذ أيها الطبيب ملكي واشفها ... لا تستطيع شفاء بنية صغيرة؟! ... ماذا في طبك إذا؟؟ إنه دجل، وخرافة ... دجل وخرافة.
ولما وقعت عينه على ابنته، رأى وجهها محتقنا بالدم في زرقة وكمدة، ورآها تعالج الأنفاس فلا تستطيع، ورأى المعتمد ابنه واقفا بحذاء سريرها والدموع تتساقط من عينيه، وحاول الطبيب أن يعطيها دواء للمضمضة فلم تستطع، ثم جس يدها فرأى البرودة تدب فيها، فهز رأسه كاليائس، والمعتضد أمامه ينظر في وجهه ليرى فيه بارقة من أمل، فلما لم يجد أخذ يبكي كالطفل، واجتذب الفتاة إلى صدره وهو يقول: سأداويك أنا بحبي يا بثينتي إذا عجز الطب ... سأقوي نبضك بنبضي، وأبعث إليك حرارة من جسمي، سأهب لك جزءا من طول أنفاسي. عيشي يا ريحانتي فإن حياتي جزء من حياتك، وإذا ذهب الكل ذهب الجزء معه. يا أيها الغصن الرطيب من أين هبت عليك هذا الزعزع النكباء؟! ويا هذه الوردة الذابلة إن ربيع الحياة لا يزال أمامك ممتد المدى ... ويا أيتها اللؤلؤة ما كان ذلك أن تغيبي ثانية في جوف ذلك البحر المجهول، قبل أن تزيني الصدور وتحلي النحور.
بثينة. هل تسمعين أباك الحيران؟؟ ... أجيبي.
وحينئذ غطى الطبيب وجهها، ومس ذراع أبيها في رفق وهو يقول: أجمل الله عزاءك يا مولاي.
وهنا ارتفع الصراخ بالقصر، ومشى المعتضد وهو ينتحب ويتوكأ على الطبيب وابنه المعتمد.
قضى المعتضد أيام العزاء في ابنته وهو لا يكاد يفيق من الحزن، وشعر في أثناء ذلك بزكام ثقيل تصحبه حرارة محرقة، فأحضر طبيبه فأشار عليه بالحجامة، ولكن المعتضد رأى تأخير ذلك إلى غد يومه.
فلما جاء الغد، زاد عليه الداء واشتد، ودعا بابنه المعتمد، فأخرج له من تحت وسادته رسالة يخبره فيها مرسلها بأن الثائرين المدعوين بالمرابطين، قد وصلت طلائعهم إلى رحبة مراكش، فلما قرأها المعتمد قال: هون عليك يا أبي وأنت في هذه الحال، إن بينهم وبين الأندلس اللجج والمهامة. فهز أبوه رأسه وقال وهو يتعثر في كلماته: والله يا بني هذا الذي كنت أتوقعه وأخشاه، ولئن طالت بك حياة ... لترين هؤلاء الملثمين هنا ...
অজানা পৃষ্ঠা