وبقيت وحدي وشعرت أني خرجت من سجني فدخلت في آخر، وأدركت في الحال ما رمى إليه الخليفة؛ فإنه لم يكن في حاجة إلى خدمتي لأنه لم يكن يثق بي أقل ثقة، ولم يكن يريد أن ينتفع بي في مقاومة الحكومة المصرية أو مقاومة العالم المتمدين.
ولكنه أراد أن أكون أمام عينيه يشرف علي على الدوام، ولعله أيضا أراد أن يعتز ويزهو بوجودي أمامه مطيعا كالعبد، فيفتخر بذلك أمام قبيلته التي هي الآن أساس سلطته، والتي كانت يوما ما تحت إمرتي، وكذلك يفتخر بعبوديتي أمام سائر القبائل التي كنت أحكمها، ومع ذلك قلت لنفسي يجب أن أعنى كل العناية بألا أغضبه وألا أتيح له الفرصة للأذى، وكنت أعرف الخليفة تمام المعرفة وأدرك أن ابتساماته لا تساوي شيئا، وقد قال لي هو ذلك في إحدى المرات؛ فقد كنا نتحدث فقال: «عبد القادر، إن من يتطلع إلى السيادة والسلطة يجب عليه ألا يظهر الناس على أغراضه، وإلا فإن خصومه وأعداءه يفسدونها عليه.»
وفي صباح اليوم التالي جاءني وطلب أخاه يعقوب، وأشار عليه بأن يخرج بي ويريني مكانا أبني فيه عشتي بحيث لا أكون بعيدا عنه، وكانت قرابة الخليفة قد أخذوا الأمكنة القريبة؛ ولذلك لم نجد أقرب من مكان يبعد عنه 600 ياردة، فأخذته لبناء عشتي.
ثم طلب الخليفة كاتب سره فأراني وثيقة موجهة لقائد الجيش الإنجليزي، خلاصتها أن جميع الأسرى الأوروبيين قد دخلوا في الإسلام باختيارهم، وأنهم لا يبغون الرجوع إلى بلادهم، وطلب مني أن أوقع هذه الوثيقة.
ثم سألني فجأة: «ألست مسلما؟ أين تركت زوجاتك إذن؟»
وكان هذا السؤال مربكا فقلت: «لي زوجة واحدة تركتها في دارة، وقد بلغني أنها أسرت مع سائر الخدم، وأنهم الآن في بيت المال.»
فقال: «وهل لك أولاد؟» فأجبته بالنفي فقال: «الرجل بلا ولد كالشجرة بلا ثمرة، وبما أنك قد صرت في خدمتي فسأعطيك بضع زوجات حتى تعيش عيشة هنية.»
فشكرت له عنايته بي، ورجوته أن يؤجل هديته إلى أن أنتهي من بناء عشتي، وقلت له في ذلك إن الحريم يجب ألا يعرض لنظر الأغراب، وكان أبو أنجة قد أخذ جميع أمتعتي، فأمر الخليفة بأن يعوضني منها بإعطائي مخلفات المرحوم أوليفيه بان، فأرسلت إلي جميعها؛ وكانت تحتوي على جبة قديمة وعباءة عربية بالية وقرآن مكتوب باللغة الفرنسية. وأرسل إلي فضل المولى يقول إن سائر أمتعة أوليفيه بان قد فقدت منذ وفاته. وأمر الخليفة بأن ترد إلي النقود التي كانت قد أخذت مني وأودعت بيت المال، وكانت تبلغ أربعين جنيها وبعض الأقراط التي جمعتها لطرافتها، وهذه كلها سلمها إلى حمد وأرسلها له.
وشرعت في بناء منزلي، وكنت في مدة البناء أقيم في منزل الخليفة، ووكلت أقدم خدمي سعد الله النبوي في بناء منزلي، وكلفته بأن يجعله مؤلفا من ثلاث عشش مستقلة داخل الحظيرة، ولم أكن أبرح باب الخليفة منذ الصباح الباكر حتى المساء، وكان كلما خرج راكبا أو ماشيا أسير معه عاري القدم. وكان الخليفة عندما رأى قدمي قد تلفتا من السير بلا حذاء قد أذن لي بأن ألبس نعلين، وكانتا تحزان في قدمي وتؤلمانني.
وكان الخليفة يرسل إلي فآكل معه في بعض الأوقات، وكان أيضا يرسل ما يتبقى من طعامه لنا فآكل مع الملازمين الذين صرت واحدا منهم. وإذا كان الليل وذهب إلى فراشه، توجهت أنا إلى منزلي فأنسطح على العنجريب وأنا في غاية الإعياء وأنام إلى الفجر، حيث أستيقظ وأذهب إلى باب الخليفة فأنتظره للصلاة .
অজানা পৃষ্ঠা