وقد ارتحت كثيرا إلى تخلصي من هذا الواجب الكريه، ولم أشعر بوخز الضمير لتركي هذا المنصب؛ لأني شعرت بعجزي التام عن معالجته؛ إذ كان فاسدا من الرأس إلى العقب.
وبعد ذلك بأيام تسلمت من غردون تلغرافا عينني فيه مديرا لدارة، وهي تحتوي على الجزء الجنوبي الغربي لدارفور، وأمرني بأن أقوم إليها في الحال؛ لأنه كان علي أن أقود حملة عسكرية لمقاتلة السلطان هارون ابن السلطان السابق، وكان يسعى للاستقلال ببلاده والخروج على الحكومة المصرية. وطلب مني غردون أيضا أن أوافيه حين رجوعه من سفره إلى مكان بين الأبيض وطرة الحضرة على النيل الأبيض، فأرسلت جمالي إلى هذا المكان؛ حيث كانت باخرة غردون في انتظاره، ونزلت أنا إلى الباخرة التي سارت بنا إلى طرة الحضرة؛ حيث خرجت وركبت مدة ساعتين حتى بلغت محطة أبي جراد التلغرافية، وعلمت من هناك أن غردون لا يبعد عنا سوى أربع ساعات أو خمس، وأنه كان في طريقه قاصدا بلوغ النيل، فركبت ثانيا وسرت ولم يمض علي بضع ساعات حتى لقيته قاعدا في ظل شجرة كبيرة، وكان يبدو عليه التعب والإعياء ويشكو من تورم قدميه، وكان معي لحسن الحظ قليل من الكونياك أحضرته معي من الباخرة، فانتعش منه واستعد لاستئناف السفر، وطلب مني أن أرجع معه إلى الحضرة لكي نتباحث معا في مسألة دارفور، ولكي يعطيني التعليمات الضرورية، وقد عرفني إلى شخصين من حاشيته؛ وهما حسن باشا حلمي الجويزر الحاكم العام السابق لكردوفان ودارفور، ويوسف باشا الشلالي؛ وكان هذا آخر من انضم إلى جيشي في حملته لمقاتلة سليمان زبير والنخاسين. وامتطينا الدواب ولكن غوردون حث دابته حتى ما استطعنا أن ندركه، وبلغنا طرة الحضرة، ووجدنا جمالنا التي تحمل أمتعتنا، والتي كنا قد أرسلناها قبل قيامنا، قد وصلت قبلنا. وأرست الباخرة في وسط النهر وعبرنا نحن إلى البر في قوراب، وكنت أنا في مؤخرة القارب ويليني يوسف باشا الشلالي، ولما كنت أنا عطشان وكان بجانبه كوز رجوته أن يملأه من النهر ويناولنيه حتى أشرب، ورأى غوردون ذلك فابتسم والتفت إلي وقال لي بالفرنسية: «ألا تعرف أن يوسف باشا، على الرغم من وجهه الأسود، في مركز أعلى من مركزك؟ كان يجب ألا تطلب منه أن يسقيك.» فاعتذرت بالعربية إلى يوسف باشا، وقلت له إني طلبت منه الماء وأنا غائب الذهن، فأجابني بأنه مسرور لأن يخدمني.
ولما وصلنا نزلت أنا وغوردون في الإسماعيلية ونزل يوسف وحسن باشا في الباخرة الثانية بردين، وأخذ غوردون يشرح لي حالة دارفور شرحا وافيا، وقال لي إنه يرجو أن توفق الحملة في الانتصار على السلطان هرون؛ لأن البلاد مضى عليها مدة طويلة من الزمن وهي في حروب وسفك دماء، وأنها لذلك في أشد الحاجة إلى السلام والراحة، وأخبرني أيضا أن حملة جسي الموجهة ضد سليمان زبير ستنتهي قريبا، وأنه لن يمضي عليه زمن طويل حتى يقتل أو يهزم؛ لأنه قد فقد معظم من عنده من البازنجر أو حملة الأقواس، وأنه من المحال أن يصمد أمام الخسائر التي أوقعها به جسي، وكانت الساعة فوق العاشرة عندما ودعني غوردون، وكان قد أمر بإشعال النار؛ لأنه كان ينوي السفر إلى الخرطوم، وعندما سلمت وتنحيت قال لي: «فلترافقك السلامة يا عزيزي سلاطين وليباركك الله، إني واثق بأنك ستعمل جهدك مهما كانت الظروف، وربما عدت أنا إلى إنجلترا، ولعلنا نتلاقى بعد.»
وكانت هذه الكلمات آخر ما سمعت منه، ولكن من كان يمكنه أن يتصور ذلك القدر الذي كان مدخرا لكل منا؟! وشكرته أنا لتلطفه ومعاونته، وعندما بلغنا الشط انتظرت هناك حتى تقوم الباخرة، ثم ما هي إلا دقائق حتى سمعت ذلك الصفير الحاد ورفعت المرساة وتحركت الباخرة، وولت ومعها غوردون وقد ذهب بعيدا عني إلى الأبد.
وفي صباح اليوم التالي ركبت الجواد الذي أعطانيه غوردون، وقد حملني أربع سنوات بعد ذلك، فذهبت إلى أبوجراد، ومنها سافرت إلى أبي شوقة وخوصي، ثم إلى الأبيض حيث يوجد الدكتور زوربخين المفتش الصحي، وكان على وشك أن يسافر إلى دارفور، فاتفقنا على السفر معا إلى دارة، ثم استأجرنا الجمال بمساعدة علي بك شريف حاكم كوردفان، وبينما نحن على وشك الرحيل إذا به يناولني رسالة تلغرافية تنبئ بسقوط سليمان زبير في دارة في 15 يوليو سنة 1879، كما كان قد تنبأ غوردون عندما قال لي إنه لا بد خاضع أو مهزوم.
وهنا يجب أن أذكر أنه عندما فتح زبير باشا دارفور تركها لعناية ابنه سليمان وسافر هو إلى القاهرة، وفي سنة 1877 عين غوردون سليمان هذا حاكما على بحر الغزال، ولكن فشا خلاف بينه وبين من يدعى إدريس أبتر؛ أحد أهالي دنقلة، وكان زبير باشا قد وكل إليه العناية ببعض المسائل، ولكن أسرة الزبير تنتمي إلى قبيلة الجعالين، الذين كان بينهم وبين الدناقلة تحاسد وتباغض، وإني أعتقد أن كثيرا من القلق في السودان يرجع إلى هذه الحقيقة.
فإن سكان مديرية بحر الغزال خليط من قبائل الزنوج التي كانت مستقلة كل منها عن الأخرى، حتى جاءهم عرب الدناقلة وعرب الجعالين فاتحين بغية الاتجار بالعبيد. وينسب عرب الجعالين أنفسهم إلى العباس عم النبي، وهم يفخرون بهذا النسب ويباهون الدناقلة به. والدناقلة ينتمون في زعمهم إلى العبد دنقل، والمأثور أن هذا الرجل - على الرغم من أنه كان عبدا - قد ارتفع إلى أن صار حاكم النوبة، وإن كان مع ذلك يدفع خراجا لبهنسة الأسقف القبطي للبلاد الواقعة بين سراس ودبا.
وقد أسس دنقل هذا بلدة سماها دنقلة، وصار سكان هذا القسم بعد ذلك يدعون دناقلة، وغالبيتهم من أصل عربي ولكنهم لاختلاطهم بالسكان قد فقدوا مرتبتهم، وهم بالطبع يؤكدون انتسابهم للعرب، ولكن الجعالين لا ينفكون يذكرون أن أصلهم من العبد دنقل ويعاملونهم بالاحتقار والازدراء. ويجب على القارئ أن يذكر هذه العلاقة بين الجعالين والدناقلة؛ لأنه يتوقف على فهمها فهم كثير من حوادث السودان التي وقعت بعد ذلك.
وانتهى الخلاف بين سليمان زبير وإدريس إلى شجار، فشكا إدريس سليمان في الخرطوم وطلب معاونة الحكومة وحصل على جيش بقيادة جسي باشا، ثم تلا ذلك تلك الحملات التي انتهت بسقوط سليمان في بحر الغزال، وكان جسي قد وعده بالإبقاء على حياته، ولكن الدناقلة دسوا له فأعدم. وكان له شريك يدعى رابح لم يسلم معه خوفا من انتقام الدناقلة، فأخذ كوكبة من الجنود وسار بهم في الشمال الغربي، فأخذ يجازف ويقتحم الأهوال حتى بلغ قطرا قريبا من بحيرة تشاد، فاستولى عليه وصار ذا خطر عظيم في حظوظ القارة السوداء.
وهناك مسألة أخرى يجب علي ذكرها بخصوص الخلافات بين القبائل؛ لما لها من الأثر في حوادث السودان التي وقعت بعد ذلك، والتي يحسن لذلك شرحها مع بعض التفصيل.
অজানা পৃষ্ঠা