وصارت الصعوبات تتكاثر علي يوما بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة. ولم أكن لأبالي كثيرا بخيانة زوجال؛ فقد كنت دائم التوجس منه قليلا، ولكني قلقت قلقا شديدا للأخبار السيئة التي جاءتني عن تجريدة هكس.
وكان وقتي مقسما بين ذهابي وإيابي من القتال في قمع الفتن التي أخذت في الانتشار بسرعة مدهشة؛ ففي أحد الأيام أخرج لمنازلة المادبو، وبعد يوم أخرج لقمع فتنة قام بها رئيس آخر، ثم جاءتني في أحد الأيام أخبار هزيمة دارهو أمام الميما، فاقترحت على الضباط إخلاء دارة وحصر قوانا للدفاع عن الفاشر، ولكنهم رفضوا.
أضف إلى كل هذا ذلك الخلاف الذي فشا بين أولئك الذين كنت أحسبهم من أخلص المخلصين لي؛ فإن حسن واد سعد النور، الذي حصلت له على العفو في الخرطوم - كما يذكر القارئ - والذي ضمنت ولاءه للحكومة وأذنت له بالإقامة في دارة، والذي أعطيته منزلا بجانب القلعة، وحين مات جواده أعطيته جوادا آخر، والذي استخلصته لجلب الأخبار واثقا من ولائه وطاعته؛ قد خانني وتناسى كل هذه المروءات والأفضال التي تكرمت بها عليه، وركب الجواد الذي أعطيته له وذهب إلى المهدي فصار من أخلص أتباعه.
وكانت المواصلات بيني وبين الخرطوم قد انقطعت منذ مدة بعيدة؛ فإن المهديين كانوا يقظين وكانوا يقبضون على أي إنسان أرسله بخطاب إلى الخرطوم. وتمكنت في إحدى المرات وأنا أقاتل بني حلبة من إرسال خطاب للقاهرة بواسطة قافلة كانت سائرة إلى أسيوط في طريق الأربعين.
ولكن طرق تخبئة الرسائل التي اتبعتها إلى الآن كانت قد عرفت، فلم يعد في الإمكان استعمالها، ومن هذه الطرق وضع الرسالة بين نعلي الحذاء أو بين أديمي المزادة أو في قصبة الرمح.
وكنت في أحد الأيام أنظر في شئون القلعة فرأيت الجنود يعالجون حمارا به عرج في ساقه الأمامية، فألقوه على الأرض ثم فتحوا في جلده على الكتف فتحة أدخلوا فيها خشبة صغيرة، ثم حززوه تحزيزات وذروا النطرون على الجروح وأخرجوا الخشبة، فخطر في بالي أن أرسل تحت جلد حمار بهذه الطريقة إلى الخرطوم، وانتخبت حمارا طيب الجرم ثم أدخلته منزلي حيث لا يرانا أحد، وكررت هذه العملية ووضعت في الفتحة التي فتحتها مذكرة صغيرة لففتها في مثانة جدي، ولم يكن حجم هذه الرسالة يزيد عن طابع بريد، ثم خطت الجرح بخيط من الحرير ونهض الحمار بعد ذلك كأن لم يكن به شيء، وأخبرني الرجل الذي ندبته لإرسال هذه الرسالة بأنه سلمها لعلاء الدين باشا في الشط قبل أن تقوم التجريدة بيوم أو يومين إلى الأبيض، وأنه أخبر الرسول بأن الرد غير ضروري، وأنه سيصحبه إلى الأبيض حيث يرسله من هناك إلي بخطاب.
وكانت حالتنا من حيث المدخر من الذخائر سيئة جدا؛ فإن مجموع ما كان لدينا من الخراطيش لم يكن يزيد عن 12 علبة لكل بندقية، فإذا غامرنا بقتال فإن نصف هذه الكمية يذهب في أول معركة، ولم يكن هناك أمل بالإسعاف، فأخذت أفكر في أحسن طريقة للثبات بدون أن نفقد ذخيرتنا القليلة، واضطررت لذلك إلى أن ألجأ إلى الحيلة كسبا للوقت.
فوسطت بعض العرب الموالين لنا لكي يفاوضوا الثائرين ويقولوا لهم إننا مستعدون للتسليم، ولكن لا يمكننا أن نسلم لهم؛ إذ لا ثقة لنا فيهم بعد قتالنا المتواصل مدة طويلة؛ ولذلك إذا أرسل المهدي رسوله فإننا نسلم له البلدة وحكومة المديرية.
وكنت في هذا الانتظار أتسقط الأخبار عن حملة هكس وأحسب المدة التي يجب أن تصل في نهايتها إلى الأبيض؛ حيث يقاتل الفريقان وتقع الوقعة الحاسمة، وكنت أختلف إلى السوق وأتحادث مع الأهالي عن الأحوال، وكان كل أحد يعرف أن جيشا عظيما قد أنفذ إلى الأبيض، ولكن لم يكن أحد على يقين من النتيجة.
وأخيرا حوالي آخر نوفمبر شاعت الإشاعات عن هزيمة الجيش، وكان على هذه الإشاعات مسحة الصدق، ولكننا مع ذلك تعلقنا بالشك، ولكن بعد يوم أو يومين جاءنا الخبر الأكيد بأن الجيش المصري قد اصطلم، فانسدل علينا الغم جميعا لهذا الخبر، وهكذا قضي علينا بعد هذه الشدائد والخطوب أن نقع في يد العدو وقد سدت دوننا أبواب النجاة، ولكن هل بقي من بصيص من أمل بأن الأخبار قد بولغ في رواياتها؟
অজানা পৃষ্ঠা