وبعد هذه اليمين المحرجة لم يكن ثم ما يريبني في ولاء هؤلاء الناس أو في شرفهم، وأمرت بالشروع في السفر بعد الظهر، وبرحنا كاموا برفقة رؤساء البادية وحاشيتهم، وأمرت صالحا وحسب الله بأن يخبراني عن تنفيذ الاتفاق وتسليم الرجال والجمال، وكنت راغبا في الوصول إلى الفاشر بأسرع ما يمكنني؛ ولذلك تركت رؤساء البادية مع فرقة المشاة، وأوصيت الضباط بالعناية بهم طول مدة سفرهم، ثم اصطحبت عمر واد درهو وحرس الشايجية وأسرعنا في السفر إلى الفاشر.
وكان أول ما سمعته من الأخبار عند وصولي وفاة إميلياني دانزنجر الذي كان في شقة، وقد كان قبلا مأمور القبة، ولكني كنت أرسلت إليه لكي يمثل الحكومة في جنوبي دارفور، وكان يشكو من مرض القلب منذ سنوات ثم قضى عليه أخيرا، ولم يفهم الموظفون الذين حوله سبب موته هذا الفجائي؛ ولذلك اشتبهوا في أنه قد مات مسموما فحملوه على جمل وأرسلوه إلى دارة، ففحص الجثة الصيدلي المقيم هنالك وقال إن الموت طبيعي، ودفنت الجثة في دارة وأقمت أنا نصبا من الحجر عليه؛ تذكارا لهذا المواطن المسكين الذي لقي حتفه في هذه البلاد النائية.
ثم بلغني أن في شقة قلاقل قد جرت حديثا، وأني محتاج لذلك للسفر إلى دارة والإقامة بها جملة أيام، وجاءتنا أيضا أخبار مزعجة عن الحالة في كردوفان والخرطوم، ولكن كان المظنون في دوائر الحكومة أن الثورة ستقمع بالحملة العسكرية التي أرسلت لهذا الغرض، وبعد أيام وصل رؤساء البادية، وقد أمرت - بغية التأثير فيهم - جميع جنود الحامية بالخروج والعرض أمامهم، وفي الليل أطلقنا جملة أسهم نارية إكراما لهم، وقد انتدبت المدير لكي يقوم بحراستهم وراحتهم ولكني لسوء الحظ لم أتمكن من البقاء معهم طويلا، فما كادت الخيول تستريح حتى شرعت في السفر إلى دارة يصحبني عمر واد دارهو ومائتان من الشايجية، وانتدبت السيد بك جمعة لكي يمثل الحكومة مدة غيابي.
الفصل الرابع
رواية الخليفة عن المهدي
ظهر لنا أن حركة الدراويش كانت خطيرة جدا، ولقد ولد هذا الرجل محمد أحمد قريبا من جزيرة أرغوا من عائلة فقيرة خاملة، ولكن أفرادها كانوا يدعون أنهم من نسل النبي، ولكن هذه الدعوى لم يكن أحد يأبه لها، وكان يعرف محمد أحمد هذا باسم الدنقلاوي، وكان أبوه فقيها عاديا وقد علمه القراءة والكتابة وهو صبي وأخذه إلى الخرطوم ولكنه مات في الطريق في كريري، حيث بنى ابنه له بعد ذلك ضريحا سماه «قبة سيدي عبد الله».
ولم يجد محمد أحمد من يعتمد عليه بعد وفاة أبيه، فأخذ يدرس ويثابر على القراءة، وكانت نفسه تنزع إلى التفقه في الدين، فأحبه أستاذه وأوصاه بحفظ القرآن عن ظهر قلبه، ثم سافر إلى بربر وتتلمذ لمحمد الخير فأتم عليه تعليمه الديني وبقي جملة سنوات في بربر يدرس ويقرأ، وكان لتواضعه وذكائه محبوبا وفي حظوة من جميع المعلمين، ولما بلغ سن الرجولة غادر بربر إلى الخرطوم فصار تلميذا للشيخ محمد الشريف، وكان رجلا وقورا مشهورا وكان أبوه نور الدائم صاحب الطريقة السمانية المعروفة.
وواجب شيخ الطريقة أن يكتب فقرات من الأدعية والحديث، فيحفظها تلاميذه عن ظهر قلب ويكررون تلاوتها حتى يتمهد بذلك لهم الطريق إلى قصور الجنة التي هي غاية كل مؤمن، ولكل شيخ مذهبه وهو يحمل اسم مؤسس الطريقة مثل طريقة الخاتمية والخضرية والتغانية والسمانية إلخ، وتلاميذ أصحاب الطرق هؤلاء يطيعونهم ويلزمونهم.
وأظهر محمد أحمد تعلقه بالطريقة السمانية وتعلق بصاحبها الشيخ محمد شريف، ثم رحل إلى جزيرة أبة في النيل الأبيض قريبا من كاوة وحوله جماعة من تلاميذه المخلصين المتعلقين به، وكانوا يرتزقون بزرع الأرض، كما كانت تأتيهم هدايا عديدة من المؤمنين الذين كانوا يمرون عليهم في النيل صعودا أو هبوطا، وكان عم محمد أحمد مقيما في الجزيرة منذ سنوات فتزوج ابنته محمد أحمد، وكان أخواه محمد وحامد يعيشان هناك، وكانا يشتغلان بصنع القوارب ويعاونان أخاهما على العيش، وحفر محمد أحمد لنفسه شبه صومعة في شاطئ النيل، وكان يعيش هناك بعيدا عن الناس، وكان يصوم عدة أيام ولا يزور رئيس الطريقة إلا من وقت لآخر لكي يثبت له إخلاصه.
وحدث في أحد الأيام أن محمد شريف جمع لمناسبة ختان أبنائه مشايخ الطريقة والتلاميذ وأذن لهم في الغناء والرقص؛ لأن الله يغفر في مثل هذه الظروف الخاصة في الأفراح ما يحدث من الخطايا والذنوب المخالفة، ولكن محمد أحمد لما انطبع عليه من التقى والصلاح استنكر الغناء والرقص وضروب الطرب الأخرى، وأوضح لأصدقائه مخالفتها كلها للدين، وأنه لا يمكن أي إنسان مهما كان قدره ولو كان شيخ طريقة أن يترخص فيها، وبلغت هذه الأقوال محمد شريف فأكبر من محمد أحمد وعظ تلاميذه واستنكر الحجج التي أدلى بها وطلب منه أن يبرر أقواله، وكانت نتيجة ذلك أن تقدم محمد أحمد بالاعتذار وهو يتذلل أمام التلاميذ والأتباع ويطلب الصفح، ولكن محمد شريف أخذ يلعنه وينسب إليه الخيانة والخروج على شيخه بعد أن أقسم يمين الولاء له، ثم محا اسمه من قائمة الأتباع المذكورين في الطريقة السمانية.
অজানা পৃষ্ঠা