وانتهت إجازتي بالخرطوم بسرعة بين الأصدقاء الكثيرين، وقد وصل إلينا في أواخر يناير سنة 1881 الأسقف كومبوني والأب أوهروالدر والأب دختل، وكانوا قد جاءوا من القاهرة، ووصل إليها أيضا حسن باشا رئيس المالية وبوساني وهانسل القنصل، وقد نزل أوهروالدر ودختل في منزلي، وكم كان لنا من حديث معا عن وطننا المحبوب.
وفي 25 يناير 1881 وصل جسي باشا إلى الخرطوم وصحته في غاية السوء، قد برح مشرى الرق وركب النيل قاصدا إلى الخرطوم فحجز السد سفينته؛ والسد هو تلك النباتات التي تنمو في النيل بحيث يحتاج أحيانا إلى قطعها بالفئوس لكي يشق طريقا للسفينة، وبقي ثلاثة أشهر وهو يعالج اجتياز السد، ولقي الأمرين من جوع وأمراض بين رجاله، ومات أكثر رجاله وصار بعضهم يأكل بعضا للجوع، ثم أنجده أخيرا ملنرو في الباخرة بردين وحمله عليها إلى الخرطوم حيث عنيت به الراهبات، ولكن الصدمة التي نالت جسمه كانت قد هدته، فلم ينجح الدكتور زربوخين مع كل ما بذله في رد عافيته إليه، ثم قررنا جميعا أن يرسل إلى مصر وبذلنا كل مجهود لكي يشعر بالراحة والرفاهية في سفره، وكان يرغب في أن يأخذ معه خادمه ألماظ وكان خصيا، ولكن رءوف باشا خشي أن تتقول الأقاويل عن إدارته في السودان بوجود هذا الخصي مع جسي باشا، فرفض أن يأذن له بمرافقته، ولكن إلحاحي وإلحاح زربوخين عليه جعلاه يلين في النهاية ويسمح له بالسفر معه، وفي يوم 11 مارس حملنا جسي إلى ذهبية الحاكم العام حيث سارت به إلى بربر، ومن هناك حمل إلى سواكن ونزل في الباخرة التي نقلته إلى السويس، وكان قد تغلب عليه الضعف حتى لم يكن يقوى على الحركة، ووصل إلى السويس في 28 مارس ونقل إلى المستشفى الفرنسي، ولكنه مات بعد وصوله بيومين.
ولم تكن الحال في هذه الأثناء على ما يرام في دارفور؛ فقد كتب إلي زوجال بك يقول إن عمر واد دارهو قد سار سيرة سيئة في شقة، وقدمت خطابه هذا إلى رءوف باشا فأرسل إليه في الحال تلغرافا يأمره فيه بأن يسافر إلى الفاشر.
ولم يعد لي في الخرطوم ما يؤخرني عن السفر فعزمت على أن أقوم بأسرع ما يمكن لكي أتسلم أعمالي، ووضع رءوف باشا باخرة تحت تصرفي فتركت الخرطوم في 29 مارس، ورافقني الأسقف كومبوني والأب أوهروالدر الذي وعدته بأن أحمله على جمالي إلى الأبيض، وقد شيعنا هانسل القنصل وماركو بولي بك وزربوخين وماركيه إلى طرة الحضرة حيث ودعناهم، ولم أفكر وأنا أودعهم أنني لن ألاقي منهم بعد ذلك سوى واحد وأن تقدر لي العودة إلى عاصمة السودان في ظروف غريبة، وكنت شابا يملؤني إحساسي بالمركز الجديد الذي شغلته والتبعات العظيمة التي تحملتها بحماسة وأمل في المستقبل، ولكن الأقدار كانت تخفي عنا حظا آخر.
وبعد مسيرة خمسة أيام بلغنا الأبيض فبرحها الأسقف وقام بسياحة في جبل نوبة، أما الأب أوهروالدر فقد بقي فيها مدة ثم سافر في أعمال الرسالة إلى دلين في جنوبي كردفان، ومكثت في الأبيض بضعة أيام ثم تسلمت تلغرافا لكي أقوم إلى فوجة فودعت صديقي وسافرت إليها، وكان مقدرا لي ألا أرى صديقي الأسقف؛ فإنه مات في الخرطوم في سنة 1881.
أما الثاني أوهروالدر فقد حكم علينا القدر بأن يمنى كل منا بمحن عديدة قبل أن نتلاقى أسيرين عند المهدي، الذي كان يوشك أن يقلب وقتئذ كل نظام أو حكومة في السودان.
ولما برحنا الأبيض أغذذنا السير حتى وصلنا دارة ومنها إلى الفاشر حيث بلغتها في 20 أبريل، ووجدت الأحوال الإدارية قد بلغت درجة عظيمة من الارتباك والفوضى، فقضيت بضعة أشهر وأنا أجتهد في إيجاد شبه نظام فيها، ونجحت في ذلك بعد أن جلت في أنحاء المديرية، وباشرت عدة أعمال بنفسي وكبر رجائي في الإصلاح.
ولم أكن قد رأيت بعد الجزء الشمالي الغربي من المديرية، فتعللت بأخبار القتال بين عرب البادية وعرب المهرية وعولت على زيارة هذا الجزء، وفي منتصف شهر ديسمبر سنة 1881 برحت الفاشر ومعي 200 من الجنود المشاة وبعض الخيالة غير النظاميين، وكان يقودها عمر واد درهو.
وبعد مغادرتنا الفاشر حططنا رحالنا للمبيت قرب آبار مدجوب، وهي تقع في منتصف الطريق إلى قبة، فلما خيم الظلام خرجت أتمشى نحو الآبار وكانت ملابسي تشبه ملابس الجنود، فلم يكن من السهل معرفة شخصي، وقعدت قريبا من الآبار أنظر إلى النساء وهن يستقين، وجاء بعض الخيالة لكي يسقوا خيولهم وطلبوا من النساء أن يعطينهم دلاءهن، فرفضت النساء وقلن لهم: «سنملأ جرارنا أولا ثم نعطيكم الدلاء.»
فقال أحد الجنود : «لكأنكن تحكمن علينا بالعقاب من الله، وهذا جزاء منح الحرية للبلاد، والله لو لم يكن سلاطين معنا لأخذناكن أنتن وجراركن ملكا لنا.» فأجبنه قائلات: «الله يطول عمره.»
অজানা পৃষ্ঠা