عبثا انتظرت الأخبار من أحمد في ذلك المساء، ولم أعلم منه إلا بعد يومين عن العرب الذين كانوا معينين لإنقاذي، فقد رأى أولئك أنه من العسير جدا تخليصي من الأسر، ومن المجازفة الخطيرة التقدم لإنقاذي، فعمدوا إلى الرجوع من حيث أتوا وعدم الوفاء بوعدهم ، وإذن عجزنا عن تنفيذ خطتنا، وقد حمدنا الله حمدا عظيما إزاء منه علينا بالرجوع إلى أماكننا دون مراقبة أحد، ودون وقوف الخليفة وجواسيسه على سر تغيبنا في الساعات القلائل المذكورة سالفا.
بعد أن رجعت سالما لمكاني في أم درمان كتبت إلى صديقي في مصر شارحا لهما كل ما وقع لي، فلم يقنطا واستمرا في تدبير وسائل المساعدة، وهنا اتجهت أنظارهما إلى الأب أوهروالدر، الذي عندما كان في مسينا زار أفراد أسرتي وأخذ منهم أقراصا من الأثير تقوي الإنسان على احتمال السفر الطويل وتطرد النوم عن المرء، وقد جهز الأقراص المذكورة أوتو كارشياري وبعد إعدادها وصلت لي كاملة آمنة، وقد وضعت تلك الأقراص في زجاجة صغيرة تمكنت من دفنها بعناية تحت التراب في بقعة لا يعرفها أحد غيري.
أصبحت واثقا الثقة كلها في عبد الرحمن واد هارون الذي أرسلته إلى مصر برسالة إلى البارون هدلر، ليعين له (عبد الرحمن) الوسائل التي يراها نافعة ومثمرة في طريق فراري، وقد تم للمرة الثانية اتفاق بين السفارة النمساوية في مصر وبين هذا التاجر - وقد تدخل في هذا الاتفاق الماجور ونجت وملحم بك شقير ونعوم أفندي شقير - على أن يأخذ عبد الرحمن ألف جنيه. تعطى المكافأة (1000 جنيه) لعبد الرحمن في حالة واحدة؛ هي وصولي إلى القطر المصري سالما، وقد سلمت السفارة النمساوية هذا الرجل مائتي جنيه لإعداد الأشياء اللازمة قبل الشروع في الفرار.
في ذلك الوقت عين الماجور ونجت حاكما لسواكن، وقد خشي عدم نجاح عبد الرحمن، فأجرى اتفاقا شبيها بالسالف مع رجل عربي اسمه الشيخ كرار، وكان المتفق عليه معه السعي إلى الفرار بي عن طريق طوكر أو كسلا.
في يوم من الأيام سلمني تاجر في أم درمان - قدم ذلك التاجر من سواكن - ورقة كتب عليها ما يأتي:
مرسل إليكم الشيخ كرار الذي سيسلمك بعض إبر الخياطة كدليل على أن الذي يكلمك هو الشيخ، وتأكد أنه رجل أمين وشجاع، فثق فيه ثقة تامة وتقبل أصدق التحيات من ونجت.
الإمضاء
أوهروالدر
عرفت بعد ذلك بقليل من أحد أقرباء عبد الرحمن واد هارون أن الأخير وصل إلى بربر من مصر، وأنه بدأ يجري المعدات اللازمة لفراري، ولكنه اعتزم - في سبيل إبعاد الريب والشكوك عني - عدم العودة إلى أم درمان، فكان هذا القرار من جانبه سبب كدر لي.
بدأ اليوم الأول من شهر يناير عام 1895 بعد أن قضيت سنوات شدة واضطهاد إلى جانب عبد الله المستبد الظالم، فهل يمر ذلك العام كما مر أسلافه؟ وهل نأمل في خير جديد نحصل عليه في عامنا الجديد؟
অজানা পৃষ্ঠা