وكان الحال عكس ذلك في جهات السودان الأخرى، وكان ما أصاب قبيلة «الجالان» أشد مما أصاب أي قبيلة أخرى، ولو أنها كانت أحسن قبائل السودان حالا.
وأما سكان دنقلة فكانوا أحسن حالا من غيرهم، وكان أسوأ السكان حالا سكان القضارف والقلابات، وكان «زكي طومال» قد أصدر أوامره في أول المجاعة بأن تجمع كل الحبوب التي في جهاته على أن يتمون منها جيشه، فنجم من ذلك موت الكثير جوعا.
وكثرت حوادث السلب والنهب في تلك الجهات، وأصبح الواحد من سكانها يخشى الخروج بدون سلاح يحمي به نفسه ممن يريد السطو عليه، لا ليسرقه بل ليفترسه ويأكله كما حدث ذات يوم لأحد أمراء قبيلة الحمر؛ فقد وجدت رأسه في اليوم التالي ملقاة في طرف من أطراف المدينة، أما جسمه فلم يوجد؛ لأنه أكل بطبيعة الحال.
وأبيدت بسبب تلك المجاعة قبائل «الحسابيا» و«الشكرية» و«العقالان» و«الحمرة» عن آخرها، وبذلك خلت بقاع واسعة في السودان من السكان.
وكان الحال في دارفور أحسن منه في القضارف والقلابات، كما كانت القبائل الغربية كقبيلة «حمر» و«دار تاما» و«مزاليط» أحسن حالا من الفاشر نفسها؛ إذ كانوا قد منعوا تصدير الحبوب إليها.
وقد يخيل إلي أن هذه المجاعة حلت بهؤلاء القوم لينتقم بها البارئ - جلت قدرته - من هذا الخليفة الجبار وشيعته. وعلى أثر انتشارها جهز تجار أم درمان مراكبهم بالحبوب وذهبوا إلى فاشودة، فبدلوا غلالهم بأشياء أخرى كالنحاس والبلح وغيرها، وعمل مثلهم سكان جهات أخرى وصلوا بغلالهم حتى أعالي نهر السوباط.
وبعد ذلك ابتدأ فصل الأمطار ونمت المزروعات ففرح الناس لإزالة الخطب، إلا أن جيوشا من الجراد حلت بالبلاد ففتكت بالمزروعات فتكا ذريعا.
ولما كان الخليفة لا هم له إلا إغداق النعم على أفراد قبيلته والسعي لتوفير راحتهم، أصدر أوامره إلى السكان بألا يبيعوا النزر القليل من محاصيلهم التي جمعوها بعد فتك الجراد إلا لأفراد قبيلته بأرخص الأثمان. ولما كان هذا القدر لا يكفي بطبيعة الحال لسد رمقهم، أصدر أوامره إلى إبراهيم عدلان لكي يتوجه إلى الجزيرة ليرغم الأهالي هناك على تقديم ما لديهم من الذرة بدون مقابل، إلا أن عدلان لم يوافق على هذا الطلب وعارض فيه بكل إباء وشمم.
ولقد بحث الخليفة عبد الله مع أخيه يعقوب في هذا الشأن وغيره. وكان يعقوب هذا من ألد أعداء عدلان، الذي يروي عنه الناس أنه طيب القلب عالي الهمة، لا يميل لاضطهاد الناس بتكليفهم ما لا طاقة لهم به، بل على النقيض من ذلك كان يأخذ على عاتقه في كثير من الأوقات ما يقع على غيره من المسئوليات، ولقد جمع ثروة طائلة ما كانت لتخفى على الخليفة.
وسمع الخليفة من يعقوب وأصدقائه أن نفوذ عدلان في البلاد لا يقل عن نفوذه، وقالوا إنه دائما يتكلم في المجالس ضده وضد حكومته، وكان من أقواله للناس أن المجاعة لم تكن إلا بسبب إرهاق الخليفة لهم في سبيل راحة أبناء قبيلته، وقد تسبب من هذه الوشايات أن أحيل عدلان إلى المحاكمة، فقضت عليه بأن يقبل الموت أو الفقر، ففضل الأول، فساقوه مكتوف اليدين إلى صدره حتى ساحة السوق، وهناك نفذوا فيه الحكم. وكان رابط الجأش لدرجة أنه هو الذي وضع رأسه بنفسه في حبل المشنقة، ورفض أن يشرب الماء الذي قدم إليه طالبا الإسراع في تنفيذ الحكم، وقد سقطت جثته وهو يشير بسبابته إشارة أنه يموت مسلما موحدا لله، سبحانه وتعالى. وحزن جميع السكان على قتله إلا أن الخليفة سر سرورا عظيما؛ لأنه قضى على شخص كان يوجس منه ومن نفوذه خيفة، وكان غير مطيع لأوامره. وأرسل الخليفة أخاه ليسير في جنازة عدلان؛ إشارة إلى أنه لم يشنق إلا تنفيذا للقانون لا حقدا عليه كما ظن الناس.
অজানা পৃষ্ঠা