ومن غريب الأمر أن في هذه القصة شخصا ثالثا يناقض «جاكلين» من بعض الوجوه، ويوافقها من بعضها الآخر، وهو مثل شائع الآن في فرنسا. هذا الشخص هو «جيزيل» أخت «جاكلين»؛ فتاة تدرس الطب، حرة في لفظها وحركاتها وسيرتها، مسرفة في هذه الحرية، لا تتحرج من أن تستعمل في لغتها ألفاظا يألفها الطلاب وحدهم وينفر منها المترفون، ولا تتحرج من أن تقضي يومها وشطرا من ليلها مع الشبان في لهو وعبث ومجون، ولا تكره أن تعود إلى بيتها بعد منتصف الليل وقد لهت ورقصت وصاحبها إلى البيت شاب من زملائها في الدرس. ولكنها على هذا كله طاهرة السيرة، تستطيع أن تقول لأختها: إنها على عبثها ولهوها لا تزال عذراء وستظل عذراء. وهي لا تكره أن تعلن إلى أختها صراحة أن الحب قد بطل في هذا العصر، وأن البدعة إنما هي في الدعابة والعبث ليس غير. ومن دون هذا كله قلب خير ملؤه البر والحنان، ونفس راقية تحب المثل الأعلى وتطمح إليه، ولكنها تراه عزيزا فتتسامح، وتنظر إلى الحياة مبتسمة في شيء من السخرية المرة تغشيها حلاوة متكلفة. هي كأختها لولا أن حظها من العقل يفوق حظها من الخيال.
وهناك شخص رابع، هو أم هاتين الفتاتين: امرأة متقدمة في السن، تمثل عصرها وتعيش غريبة في هذا العصر الجديد، لا تفهم «جاكلين» لأنها تعيش في السحاب، ولا تفهم «جيزيل» لأنها تحللت من القيود المألوفة، وهي معذبة بينهما دائما أنهما ستقلانها.
ثم هناك شخص خامس نستطيع أن نقول إنه البطل الثاني من أبطال هذه القصة، وهو «أندريه مورو»، شاب قد جاوز الثلاثين قليلا، حسن الطلعة، متقن الزي، غني، متصل بالأسر الراقية، شديد الحياء، ولكنه حاد العاطفة والمزاج، ضعيف فيما يظهر، لا يكاد يملك نفسه ولا يسيطر على عواطفها. أكاد أرى أن الكاتبين قد خلقاه خلقا وبعدا به بعض الشيء عن الأشخاص المألوفين. وهو كما خلقاه خفيف الروح جذاب، عذب اللسان منطلقه، يندفع في ذلك حتى يخيل إليك أنه مجنون. وهو في حقيقة الأمر مجنون، قد ذهب الحب بعقله حينا فأصبح كهؤلاء الذين يخضعون للتنويم المغناطيسي. •••
هؤلاء هم أشخاص القصة، والقصة في نفسها قصيرة كما أن الوقت الذي تقع فيه قصير، لا يكاد يتجاوز اليومين، أو قل لا يكاد يبلغهما. وهي تذكرنا كما قلت بقصة الحب لولا أن الزوجين في قصة الحب كانا مؤتلفين في رقة الطبع ورقي النفس، وهما في هذه القصة مختلفان، ومن هنا انتصرت الزوجية في قصة الحب، وانهزمت في هذه القصة، لولا أن قصة الحب جد كلها، وهذه القصة جد قد صيغ في لفظ فكاهي. •••
نحن في بيت «جاكلين» آخر النهار، وقد فرغت من استقبال زائريها في هذا اليوم الذي تعودت أن تستقبلهم فيه كل أسبوع، وخلت إلى أختها «جيزيل» فكان بينهما حديث نفهم منه الفرق بينهما في الطبيعة والمزاج، هما تتحدثان عن صديقة لجاكلين، فأما «جاكلين» فمفتونة بها قد أسبغت عليها صورتها الخاصة وأخذت تسرف في الثناء عليها . وأما «جيزيل» فقد رأتها كما هي، وأخذت تهون من شغف أختها. وتمضيان في الحديث فتتناولان أشياء كثيرة، يظهر فيها ما بينهما من الاختلاف في الذوق والحكم، ولكن يظهر في الوقت نفسه أن بينهما حبا ومودة تقربان مسافة هذا الخلف وتعطف كلا من الأختين على الأخرى. وقد لامت «جاكلين» أختها لأنها لا تزورها كثيرا ولا تثق بها ولا تطمئن إليها في الحديث، واتفقتا بعد حوار طريف على أن تستأنفا حياة الأختين في ثقة وطمأنينة. وقد فهمنا من هذا الحديث أيضا أن «مكسيم» مسافر لبعض عمله في بلجيكا، ورأينا حب «جاكلين» إياه، وفهمنا أن «جيزيل» مزورة عنه بعض الازورار.
وتقبل أمها مضحكة مضطربة لا تدري علام تقبل من الأمر، أتمكث مع ابنتها أم تعود إلى بيتها؟ ثم يستقر رأيها على العودة فتنصرف مع ابنتها الفتاة وتخلو «جاكلين» إلى نفسها، فنحس أنها تشعر بشيء من الضجر بوحدتها، وهي تريد أن تنصرف إلى غرفتها فتتناول فيها العشاء، وهي تهم بذلك لولا أن الخادم يدخل عليها رجلا، تنظر إليه فإذا هو «مورو»، وكانت قد رأت هذا الشاب مرة واحدة في بعض الأسمار فأنست إليه وأنس إليها، وتحدثا فأطالا الحديث. وأقبل هذا الشاب يزورها في يوم استقبالها، ولكنه أقبل متأخرا فيعتذر من هذا التأخر أول الأمر ثم يعترف بأنه تعمده بعد ذلك، ثم يفتن في الثناء على «جاكلين» ويظهر اغتباطه بذلك الحديث، ثم يهم بالانصراف معتذرا ولكنه يلتمس سبيلا للبقاء، أو يلتمس سبيلا إلى العودة، فيعرض على صاحبته أنه يريد أن يستشيرها في أمر ذي بال، وأن الوقت متأخر فهو يستأذنها في أن يعود ليستشيرها في زيارة أخرى. أما هي فتكاد تحس رضاها عن هذا الحديث وميلها إلى هذا الفتى، وقد أذنت له أن يعود، ثم بدا لها فأمرته أن يبقى، وأن يعرض قصته فورا. فيبقى، وينبئها بأنه اختلف في الشتاء إلى إحدى الأسر فاتصلت المودة بينه وبينها، وفي هذه الأسرة فتاة، فأحس أن الأسرة تطمع في أن يخطبها، فهو مضطرب لا يدري أيقطع الصلة بينه وبين هذه الأسرة لأنه لا يريد أن يتزوج أم يحتفظ بها.
أما «جاكلين» فتدهش لأن صاحبها يستشيرها في مثل هذا الأمر، وهي لا تكاد تعرفه، ولكنه قد أنس إليها حين رآها في المرة الأولى ورأى منها صراحة ونصحا وإخلاصا، فطمع في أن يستشيرها واطمأن إلى رأيها. وهي لا تدري بم تشير عليه، ولكنها كما قلت لك طيبة النفس، صادقة العاطفة. فانظر إليها وقد اندفعت تلوم صاحبها لوما عنيفا؛ لأنه يستشيرها في مثل هذا الأمر، وهي ترى أنه أمر لا يحتمل المشورة، فأنت بين اثنتين: إما أن تحس بشيء من الميل إلى هذه الفتاة؛ وإذن فاحتفظ بالصلة وامض حتى تنتهي إلى الزواج، وإما ألا تحس شيئا؛ وإذن فلا ينبغي أن تطمع هذه الفتاة ولا أن تضللها. وصاحبنا لا يحس شيئا وإذن فسيقطع الصلة، ولكن «جاكلين» يروعها هذا وتشفق أن تكون مشورتها عقبة في سبيل السعادة الزوجية التي تطمع فيها هذه الفتاة، فتنصح لصاحبها بالأناة والتفكير، وتندفع في حديث عن الحب لذيذ كله حرارة وصدق وإخلاص، وقد اندفعت فيه حتى تناولت نفسها وزوجها وسعادتها، ولم تفكر - أو قل لم تشعر - بما تترك في نفس هذا الشاب من الأثر. وهي تجد لذة في حديثها إليه، وهو يجد لذة في الاستماع إليها. وما تزال في الحديث وما يزال هو في الاستماع والسؤال أحيانا حتى ينتهي الأمر إلى أقصاه، وقد خلبت الفتى وحببت إليه الزواج، فاستقر رأيه على أن يسرع إلى بيت الفتاة فيخطبها من فوره. وهي الآن تنصح له ألا يتعجل في الخطبة بعد أن كانت تنصح له ألا يتعجل في القطيعة.
وقد فهمنا من كل هذا أنها تجد لذة في الحديث إلى الفتى، وأن الفتى مفتون باستماع حديثها. وهما في ذلك وقد تقدم الليل وإذا «مكسيم» قد أقبل ولم يكن منتظرا، إنما كانت تنتظر عودته من الغد. أقبل فلم يجد أحدا من الخدم، وعالج باب الدار حتى فتحه، وتقدم حتى انتهى إلى غرفة الاستقبال دون أن يظفر بخادم، فلما دخل الغرفة رأى زوجه تتحدث إلى أجنبي. دهش ودهشت وبهت الزائر ونهض مودعا وانصرف، وخلا الزوجان، ولكن بينهما شيئا. أما هي فلم تكن تنتظر هذه العودة، وأما هو فلم يكن ينتظر أن يرى هذا الأجنبي، ولم يكن ينتظر أن تستقبله امرأته هذا الاستقبال ولا سيما وقد قدم عودته يوما وأبرق بذلك إلى امرأته، ولكن الرسالة لم تصل إليها، وقام الدليل على ذلك فوصلت الرسالة أثناء حوارهما. ولكن في نفس الرجل شيئا على كل حال، فهو يسأل عن هذا الأجنبي في شيء من الازدراء أول الأمر، ثم تشتد عنايته به شيئا فشيئا، ويظهر الشك قليلا قليلا. والمرأة مخلصة في الاغتباط بعودة زوجها، ولكن هذا الشك يؤلمها، يدهشها أولا، ثم يؤذيها، ثم تحس الإهانة، ثم تكبر نفسها وترى أنها أرفع من أن تهبط إلى حيث تدافع عن شرفها.
وبينما تغلو في الكبرياء يغلو زوجها أن هذه آثار الخوف، وبينما تؤثر الكبرياء فيها فيظهر عليها الغضب يظن زوجها أن هذه آثار الخوف والريبة، وما هي إلا أن ينتهي إلى اللوم ثم إلى التعنيف، وكلما مضى في ذلك اشتد سخط المرأة وكبرياؤها، فخيل إليه أن الخوف والذعر هما اللذان يشتدان، حتى ينتهي به الأمر إلى الاتهام، وينتهي بها هي الأمر إلى أن تزدري زوجها فتتهم نفسها أيضا. وقد انتهت الغيرة بالرجل إلى أقصاها، وانتهى الغضب والكبرياء بالمرأة إلى أقصاهما، فتركت زوجها وأغلقت من دونه الباب. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن حيث كنا في الفصل الأول من الغد، و«جاكلين» منصرفة إلى أعمال بيتها تأمر خادمها ببعض الشأن. ونحن نحس أنها تألم وأنها ترى أن قد أهينت في كرامتها وكبريائها، ولكنها لا تقول شيئا، ولا تظهر شيئا، ولكن هذه أمها قد أقبلت في شكلها المضحك دائما، وهي مضطربة مذعورة، فإذا رأتها ابنتها خيل إليها أنها مريضة، ثم ظنت أن أختها قد آذتها، ثم تبينت آخر الأمر أن زوجها قد ذهب إليها وقص عليها ما كان أمس وغلا في القصص، فيسوءها ذلك ويؤذيها في شرفها وكبريائها، ولكنها تطمع في أن تكون أمها قد دافعت عنها. وقد فعلت أمها فنهرت الرجل وقالت في ابنتها ما تقوله الأمهات. و«جاكلين» إذن سعيدة تقبل أمها في حنان وبر، ولكن لا تلبث الشيخة أن تطلب إلى ابنتها أن تستعطف زوجها وتصلح ما بينهما من الأمر، فإذا مضت في الحديث قليلا أحست «جاكلين» أن أمها قد صدقت ما قال فيها الزوج، فتكلفت الدفاع ولكنها مقتنعة فيما بينها وبين نفسها بأن ابنتها آثمة، فيؤلمها ذلك ويؤذيها إيذاء شديدا تكتمه ولكنه مع ذلك ظاهر، لا تكاد تفهمه الشيخة، ونفهمه نحن في وضوح وجلاء.
অজানা পৃষ্ঠা