السيل
الرقص في نصف الليل
المذهبان
السلام الحي
القيثارة والجازباند
في ملاهي باريس
في ملاهي باريس
لحن إلى كروترز
الحب
الوصل
الصحو
المحصنات
ميشيل بوبير
الإغواء
الغربان
صوت
أنتوانيت سابرييه
الشاب الجميل
الفؤاد المقسم
سعادة اليوم
زوجا ليونتين
الملهى
زوجها
السيل
الرقص في نصف الليل
المذهبان
السلام الحي
القيثارة والجازباند
في ملاهي باريس
في ملاهي باريس
لحن إلى كروترز
الحب
الوصل
الصحو
المحصنات
ميشيل بوبير
الإغواء
الغربان
صوت
أنتوانيت سابرييه
الشاب الجميل
الفؤاد المقسم
سعادة اليوم
زوجا ليونتين
الملهى
زوجها
صوت باريس
صوت باريس
تأليف
طه حسين
السيل
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «موريس دونيه»
وأي السيلين أراد؟ ذلك الذي نحسه ونراه ونحبه ونخشاه؛ نحبه لأنه رائع مهيب يمثل ناحية من جمال الطبيعة الرائعة المهيبة، ونخشاه لأنه يعرضنا للخطر أحيانا حين يغشانا ولا ننتظره، وحين يدفعنا ولا نستطيع له مقاومة؟ أما هذا السيل الذي لا نحسه ولا نراه، بل لا نشعر به، وهو يغمرنا في كل وقت ويدفعنا في كل لحظة دفعا عنيفا لا رحمة فيه ولا إشفاق حتى تتم كلمة القضاء؟ أي السيلين أراد! أهذا السيل المادي الذي ينحط من شعاف الجبال فلا يذر شيئا أتى عليه إلا اكتسحه، ولكن العقل الإنساني يستطيع مع ذلك أن يدبره ويسخره لمنافعه؟ أم هذا السيل المعنوي الذي لا سبيل للعقل عليه، وربما لم يشعر به العقل ولم يفرض له وجودا إلا حين لا ينفع الشعور به ولا التفكير فيه؟ أأراد هذا السيل من الماء؟ أم أراد هذا السيل من قوانين الحياة التي لا مرد لها ولا منصرف عنها؟
أي السيلين أراد؟ فالقصة تمثل السيلين؛ فيها السيل المادي، عنيفا خطرا، ينحط من أعلى الجبل في قوة وعنف، فيراه الناس على اختلاف منازلهم من العلم والجهل، ومن الذكاء والغباء، ومن رقة الشعور وصفاقته، فيتأثرون له وينتفعون به على مقدار ما أوتوا من ذكاء وغباء، ومن علم وجهل، ومن رقة وكثافة. يراه العالم فيعلله ويسخره، ويراه الجاهل فيخافه ويخشاه، ويراه الشاعر فيعجب به ويتغنى بروعته، وفيها هذا السيل المعنوي الذي لا تراه العين ولا يدركه الحس، ولا يستطيع أن يسخره عالم ولا أن يخشاه جاهل، ولا أن يفر منه إنسان. فيها سيل الحياة وقوانينها الصارمة التي يخضع لها كل شيء دون أن تخضع لشيء. فيها هذان السيلان، وهو يريد هذين السيلين، يمثلهما وينتفع بهما، فلست أعرف قصة عنيفة كهذه القصة، ولست أعرف قصة محزنة كهذه القصة، ولست أعرف قصة موئسة كهذه القصة؛ فهي عنيفة، محزنة، موئسة؛ قد بلغت من العنف، والحزن، واليأس أقصاها. وهي لا تخلو من ابتسام، ولكنه ابتسام المغرور. وهي لا تخلو من ضحك الجاهل المخدوع. هي قصة موئسة، والشر كل الشر أنها قصة صادقة برئت البراءة كلها من الغلو والإسراف.
زعموا أن «لامرتين» دعا إليه الكاتب الفرنسي المشهور «فلوبير» عندما نشر قصته «مدام بوفاري»، فلامه لأنه أبكاه بهذه القصة، وكل إنسان يشعر ويفكر ويحسن الشعور والتفكير يستطيع أن يصنع مع كاتب هذه القصة التي نتحدث عنها اليوم ما صنعه «لامرتين» مع «فلوبير»، فيلومه لأنه أبكاه. وكذلك نحن، فطرنا ضعافا، نؤثر الغفلة والغرور والجهل والانخداع على أن نعلم بالحقائق كما هي، وننظر إليها مجردة في صورها الصحيحة الصادقة. نحن ضعاف نكره العلم ونخشاه؛ لأننا أضعف من أن نحتمله. ونؤثر الظلمة ونهواها؛ لأن أبصارنا أضعف من أن تثبت للضوء. ونحب أن نظل مخدوعين لأن ظهورنا على الحق يوئسنا ويثنينا عن العمل ويزهدنا في الحياة، وربما بغضها إلينا. ومن يدري! لعل الخير كل الخير في أن نكون جاهلين مخدوعين، فلولا الجهل والانخداع ما عمل الناس ولا أملوا ولا أحبوا. وأي شيء هي الحياة وما فيها من عظيم لولا العمل والأمل والحب! لعل الخير كل الخير في أن نجهل أنفسنا، وفي أن نجهل هذه القوانين التي تسيطر عليها، ولعل هؤلاء الفلاسفة والكتاب الذين يكرهون الناس على أن يفتحوا أعينهم وينظروا فيما حولهم، لعل هؤلاء الفلاسفة والكتاب مخطئون يسيئون إلى الإنسان أكثر مما يحسنون إليه. أيهما خير: العلم أم الجهل؟ مسألة ليس إلى حلها من سبيل. في العلم رقي الإنسان وشعوره بنفسه، ولكن فيه يأسا وضعفا وزهدا في الحياة، وفي الجهل انحطاط الإنسان واتصاله بغيره من هذه الكائنات التي لا تقدر نفسها ولا تعرف للوجود خطرا، ولكن فيه أملا وعملا وإقداما. أيهما خير؟ ...
في هذه القصة - كالقصة التي حدثتك عنها في الأسبوع الماضي - جهاد عنيف بين الأمومة والحب، وفيها جهاد آخر ليس أقل عنفا، ينشأ بين العقل والدين، وأنت تشهد هذا الجهاد فيعجبك ثم يسحرك، وإذا أنت مقسم بين هذين الطرفين اللذين يتجاهدان، وإذا أنت لا تدري إلى أيهما تميل، وإذا أنت مضطرب أشد الاضطراب، شاك أشد الشك؛ لأن الجهاد ليس متكلفا ولا مصطنعا، وليس من اليسير عليك أن تحكم فيه هادئا مطمئنا غير متأثر، وإنما الجهاد طبيعي يكون جزءا من فطرتك وحياتك، أو هو كل فطرتك وحياتك. فالإنسان بطبعه متأثر بعاطفة الأمومة والأبوة، هذه العاطفة التي تصله بمن قبله ومن بعده والتي تكون النوع، والإنسان بطبعه متأثر بعاطفة الحب، وكثيرا ما تصطدم هاتان العاطفتان، ثم الإنسان بطبعه متدين، والإنسان بطبعه عاقل، وكثيرا ما يصطدم العقل والدين، ولسنا نعني الآن بهذا الجهاد الذي يقع بين العقل والدين في المسائل النظرية، هذا الجهاد الذي يعني الفلاسفة وعلماء الدين؛ فليس لهذا الجهاد خطر يذكر إلى جانب جهاد آخر بين العقل والدين، يقوم في النفس الواحدة ويضطرها إلى طائفة من الآلام قد تنتهي بها إلى اليأس. هذا هو الجهاد الذي يعنى به الكاتب في هذه القصة، وأنا أحس أنك لم تفهمه كما ينبغي؛ لأني لم أوضحه كما ينبغي، فلتوضحه لك القصة نفسها؛ فلست أريد أن أطيل في شرحها ولا في تفسيرها، وإنما أريد أن تفسر لك القصة نفسها بنفسها، كما يقولون. •••
نحن في إقليم من أقاليم فرنسا الوسطى، في قصر من قصور الأقاليم فخم، كل شيء فيه يدل على الثروة والترف، ومن حوله أرض واسعة ليست بالمهملة ولا قليلة الإنتاج، وإنما يدل كل شيء على أنها خصبة، يستغلها صاحبها استغلالا قويا منتجا، ونحن نشهد في هذا القصر رجالا وامرتين قد انصرفوا عن مائدة العشاء وأقبلوا على سمرهم، فلنعرفهم؛ فقد خصص الكاتب الفصل الأول من قصته ليقدم إلينا هؤلاء الناس، وأولهم صاحب القصر «جوليان فرسان»، وهو شاب مستوي السن مكتمل القوى، شديد الذكاء، عظيم الحظ من النشاط. نشأ في باريس، وعاش عيشة شبانها الأغنياء، وتزوج فتاة هي «شارلوت»، جميلة خلابة حادة الذهن، ولكن حظها من التعليم قليل، بل نستطيع أن نقول إن حظها من التعليم سيئ؛ فلم تؤثر المدرسة في عقلها ولا في شعورها، وإنما علمتها طائفة من الأشياء يحتاج إليها أمثالها من الفتيان والفتيات اللاتي سيعشن عيشة الترف، وسيقضين الحياة في لهو ونعيم، يزرن ويستقبلن الزائرين، ويختلفن إلى المراقص وملاعب التمثيل، ويعنين بالزينة والحياة الظاهرة، أكثر مما يعنين بغيرهما من الأشياء.
تزوج «فرسان» هذه الفتاة، ولم يمض على زواجهما أشهر حتى مرض له عم كان يقيم في هذا القصر، فدعاه إليه فأقبل، وإذا عمه مشرف على الموت، فأوصاه ألا يبيع القصر والأرض ولا يؤجرهما، واستحلفه على ذلك، فحلف مشفقا على الشيخ المحتضر. فلما مات الشيخ انصرف الشاب إلى هذه الأرض يستغلها ويثمرها، وأقام في هذا القصر. وما هي إلا أن أحب حياته الجديدة ونشط لها وكلف بها، ثم كانت نتيجة عمله ونشاطه مشجعة له على هذه الحياة؛ فقد أثمرت أرضه ثمرا حسنا، وأخذت ثروته تنمو وتضخم. انصرف هو إلى هذه الحياة، ولكن امرأته لم تفهمها ولم تمل إليها، وعاشت في الأقاليم على نحو ما كانت تعيش في باريس، وهي متأثرة بكل ما يتأثر به أمثالها من المترفات في باريس: تحب اللذة واللهو ولا تؤثر عليهما شيئا آخر، تحب زوجها ولكن على أن يكون وسيلتها إلى هذه اللذة وهذا اللهو، لا تحب الواجب ولا تريد أن يذكر لها؛ لأنها لا تفهمه بل لا تعرفه، هي تكره مثلا أن تكون أما، وتكره أن يتحدث الناس إليها في ذلك؛ لأن الأمومة تصرفها عن اللذة وتعرضها لآلام شاقة خطرة، ولا ينبغي أن تذكر لها حاجة وطنها إلى النسل فهي لا تفهم ذلك، وماذا يعنيها أن يحتاج وطنها إلى النسل؟ وماذا يعنيها أن تنتصر الأمم الأخرى على أمتها في الجهاد الاقتصادي؟ فهي لا تفهم الجهاد الاقتصادي ولا نتائجه، على أن نتائج هذا الجهاد إن كانت شرا فلن تمسها؛ فهي غنية مطمئنة إلى ثروتها، ولن تخلو فرنسا من السكان اليوم ولا غدا، وإنما سيكون ذلك بعد زمن طويل؛ أي بعد أن تموت، وإذن فما يضرها أن تخلو فرنسا من السكان أو أن تكتظ بهم بعد أن تموت هي؟
ثم في القصر جاران لهذين الزوجين؛ هما «كميل لمبير» وامرأته «فلنتين»، ليسا أقل تناقضا واختلافا فيما بينهما من جاريهما اللذين وصفتهما لك؛ فأما الزوج فشاب ذكي ماهر في تثمير الثروة، ولكنه عملي، وعملي ليس غير، ليس له حظ من الشعور، ولا يفهم أن في الحياة مثلا عليا تطمح إليها النفوس الراقية، أو هو يفهم ذلك، ولكن مثله الأعلى ضيق محدود منحط، هو صورة لمطامعه المادية لا أكثر ولا أقل. لا تذكر له الحب؛ فهو لا يفهمه. ولا تذكر له الجمال؛ فهو لا يشعر به. أما المرأة فوسيلة إلى إحدى اثنتين: وسيلة إلى إرضاء الحاجة المادية ما دام الإنسان شابا غير مسئول، ثم وسيلة إلى تأسيس الأسرة يوم يصبح الإنسان رجلا مسئولا. وهو قد اتخذ المرأة وسيلة لهذين الغرضين.
كان طالبا يدرس في باريس، فاتخذ الخليلات والإخوان ليلهو ويلذ، واشتدت الصلة بينه وبين واحدة منهن، فكان لهما ولد من هذه الصلة، ثم فرغ من درسه ورجع إلى إقليمه؛ ليخلف أباه في العمل وليؤسس لنفسه أسرة، فترك صاحبته وابنها وكأنهما لم يوجدا، وماتت هذه المرأة موتا شنيعا في أحد المستشفيات، وتعرض ابنها للفقر والفاقة، وعلم أبوه ذلك فلم يحفل به ولم يلتفت إليه. ثم تزوج لا لأنه كان يحب خطيبته أو يعجب بجمالها؛ بل لأنها كانت غنية من جهة، ولأنه كان يريد الولد من جهة أخرى. وقد حملت إليه امرأته الثروة وأتته بصبيين ذكر وأنثى، فأدرك كل ما كان يريد، وانصرف عن زوجه الانصراف كله، وقدر أن واجبه إنما هو تثمير ثروته، وأن واجب امرأته إنما هو تربية هذين الصبيين، ولكن امرأته ركبت تركيبا آخر وفطرت فطرة أخرى؛ ففيها ذكاء وفهم، ولكن فيها قبل كل شيء شعورا قويا دقيقا وعواطف حادة متقدة، وهي تفهم الحياة على نحو آخر؛ فليست الحياة عندها تثمير الثروة، ولا تأسيس الأسرة كما يحددها القانون، وإنما الحياة عندها شيء أرقى من هذا؛ الحياة عندها حب وعطف وحنان ولذة، قوامها هذا الحب والعطف والحنان. لها في الحياة مثل أعلى يخالف كل المخالفة ما هي فيه من طعام وشراب ونوم وعناية بالأعمال اليومية. ليست الحياة مقصورة على الجسم وما يتصل به من الغرائز، وإنما هي تتناول القلب وما له من شعور وعاطفة. تريد أن تحب، وأن تجد من يحبها. وهي لا تكتفي بحب ابنيها؛ فإن الأمومة عاطفة شديدة التأثير في المرأة، ولكنها ليست حياة المرأة كلها إلا في أوقات خاصة يتعرض فيها الأبناء للخطر.
وليست هناك امرأة هادئة تستطيع أن تتعزى بأمومتها وحب أبنائها عن هذه العاطفة الطبيعية التي نسميها الحب، هي إذن تريد أن تحب، وتريد أن تجد من يحبها، وهي لا تحب زوجها ولم تحبه قط، ولم تتخذه زوجا لها إلا لأن أبويها اضطراها إلى ذلك. وزوجها لا يحبها ولم يحببها قط، ولم يتخذها زوجا إلا لأنه كان في حاجة إلى مالها، ولأنها كانت تكفي لترزقه هذين الصبيين، ولكن هناك فرقا آخر عظيما بين هذين الزوجين؛ فأما الرجل فسعيد راض بحياته، يرى أنه قد بلغ أقصى ما كان يريده من الأماني، ويرى أن ليس لأحد أن يطمع في خير مما وصل إليه، أما امرأته فشقية تعسة، تفكر دائما في مثلها الأعلى، وتشعر دائما بحاجتها إليه وبأنه لم يتح لها. وزوجها لا يحس منها هذا الشقاء، ولو أحسه لما فهمه، والأمر على هذا النحو بين الزوجين الآخرين اللذين وصفتهما لك منذ حين. «ففرسان» سعيد بحياته المادية، مغتبط بنشاطه ونتائجه، ولكنه يشعر بأن شيئا ينقصه، وأن هذا الشيء هو الحب، أو قل هو المرأة التي تفهمه ويفهمها، وتقدره ويقدرها ، وتشعر أن في الحياة شيئا غير الطعام والشراب والنوم والزينة، وامرأته «شارلوت» لا تشعر بشيء من هذا، بل هي لا تقاسم زوجها نشاطه وعنايته بالعمل المادي، فالحياة عندها مقصورة على هذا الجزء الحيواني الذي رفهته الحضارة بألوان الترف.
الأسرتان إذن متشابهتان تشابها عكسيا: المرأة شقية في إحداهما والرجل سعيد، والمرأة سعيدة في الأخرى والرجل شقي.
وفي القصر رجل آخر هذه الليلة خليق أن نعنى به عناية ما؛ هو «موران»، صديق قديم لصاحب القصر، معني بالفلسفة والبحث عن حياة النفس وظواهرها من الوجهة الاجتماعية، اتصلت الفرقة بينه وبين صديقه أعواما، ثم أقبل يزوره ويقضي عنده أياما، ولنلاحظ أنه عالم قبل كل شيء لا يؤمن بالدين ولا يطمئن إلى أصوله.
ورجل آخر يجب أن نعنى به أيضا؛ وهو القسيس «بلوكان»، قسيس الناحية، وهو من رجال الدين المستنيرين الذين يستطيعون أن يوفقوا بين أصول الدين وأحكامه والحياة الحديثة وما تدعو إليه. كان قسيسا في باريس، ولكنه أظهر شيئا من الميل إلى الحياة الحديثة، فأنكر ذلك الأسقف ونفاه عن باريس إلى هذه الناحية، فهو مقيم فيها منذ عشر سنين، يحب الناس ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، وهو مستنير حقا. انظر إليه يستخدم نوعا من «الموتوسيكل» كلما انتقل من مكان إلى مكان، والناس يعجبون لذلك، والأسقفية تتبرم به؛ لأن استعمال هذا النوع من «الموتوسيكل» لون من ألوان البدع في ذلك الوقت، كما كان اتخاذ الأحذية الإفرنجية لونا من ألوان البدع عند الأزهريين منذ خمسة عشر أو عشرين عاما.
ثم في القصر رجل آخر أقبل زائرا أيضا، وهو «سان فوان»، رجل خفيف الروح، يفهم الحياة كما هي، ولكنه يبسم لها ويتقاضاها حظه من اللذة فيها، ضاحكا أبدا حتى حين لا يدعو شيء إلى الضحك.
ولعل من الخير أن أذكر لك هذا الرجل الآخر «كورزاك»، وهو جار أعزب يحب صاحبة القصر منذ سنين، وهو يتتبعها ويلح عليها فتطمعه وتمنيه دون أن تتجاوز ذلك إلى شيء آخر، وهو شقي بهذا الحب الذي لا ينتهي إلى غايته، وهي سعيدة بهذا الحب الذي يمكنها من أن تعبث، ويشعرها بأن لجمالها سلطانا على القلوب.
أتريد بعد هذا أن ألخص لك حوادث الفصل الأول؟ ولكن ما نفع هذا التلخيص وكل هذا الفصل إنما خصص ليعرض علينا أشخاص هذه القصة ومميزاتهم. لا ألخص لك إذن حوادث هذا الفصل، فلسنا في حاجة إلى هذا التلخيص، ولكنني لا أنسى أن أذكر أن هذا الفصل يشعرنا شعورا قويا - ولكنه دقيق - بأن هناك شيئا غير عادي، فنحن نرى «فلنتين» محزونة متأثرة، يأخذها نوع من الإغماء مرة أو مرتين، ونرى «فرسان» يهتم لذلك ويغتم له، ثم نراهما يتحدثان لحظة، فنفهم أن بينهما حبا، وأن هذا الحب هو مصدر ما نشهد عند «فلنتين» من حزن وضعف، ولا ينتهي السمر حتى يتفق «لمبير» مع أصحابه على أن يجتمعوا عنده للغداء إذا أصبحوا، فهو يريد أن يظهرهم على داره وأرضه وعلى مصنع الورق الذي يديره، والذي يستحق أن يرى لموقعه الطبيعي مشرفا على سيل ينحط في قوة وعنف، مستمدا من هذا السيل قوة كهربائية هي التي تدير أدواته الضخمة. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن عند «لمبير»، وقد فرغ القوم من غدائهم، وأقبلوا على الحديث، وهم يعبثون إلا «فلنتين»؛ فهي كما كانت أمس محزونة كأنها ذاهلة، وقد دعاهم صاحب البيت ليشهدوا مصنعه، فهم يستعدون لذلك و«شارلوت» أشدهم استعدادا؛ فهي تهيئ نفسها وتتزين وتريد أن تأخذ معها أدوات زينتها، فينكر عليها زوجها ذلك ويشتد بينهما خصام، نفهم منه أن الصلة بين الزوجين ليست من المودة واللين على ما ينبغي؛ فالرجل يكره من امرأته خفتها وإسرافها في الميل إلى الزينة، ولا سيما حين تذهب إلى مصنع فيه العمال الكثيرون الذين يشقون اليوم كله ليكسبوا ما يتبلغون به، والذين لا يضمرون الخير للأغنياء ولا للمترفين، وامرأته تزدري هذا كله وتسخر منه، ولا تجيب زوجها إلا لائمة أو مزدرية. وقد انصرفوا جميعا إلا العاشقان «فلنتين» و«فرسان» فيبقيان، ولا يكادان يتحدثان حتى ننتهي إلى عقدة القصة في أقصى أطوارها من العنف والشدة، ولكنه انتهاء لم نفاجأ به؛ فقد أعددنا له الفصل الأول إعدادا كافيا. لا يكادان يتحدثان حتى يظهر حبهما قويا قد بلغ أقصى أطواره، وهما ضيقا الذرع بما يضطران إليه من التكتم والحذر والاحتياط، ولكن الأمر قد تجاوز ألم العاشقين، وضيق ذرعهما بالرقباء وبما يضطران إليه من حيلة، تجاوزا هذا كله إلى شيء آخر أشد منه ألما وأعظم منه خطرا؛ فلفلنتين سر تريد أن تلقيه إلى صاحبها، وهي وجلة مشفقة على أن هذا السر قد نغص عليها الحياة وحرمها النوم، ويوشك أن ينغص عليها الحب أيضا، وما يزال بها صاحبها حتى يفهم هذا السر، وهو أنها حامل، حامل ولا تشك في أن صاحبها مصدر هذا الحمل، فالصلة منقطعة بينها وبين زوجها منذ سنتين، وهي جزعة لهذا لأنها تقدر نتائجه، ونتائجه كثيرة خطرة كلها.
ماذا عسى أن يكون وقع هذا النبأ في نفس صاحبها؟ أليس من المعقول أن يكون هذا الوقع سيئا؛ لأنه ينغص الحياة والحب على هذا العاشق الذي لعله لم يكن يبتغي من الحب إلا لذة النفس والجسم خالية من كل شائبة معصومة من هذه الصعاب التي تنغص الحياة، وتجعل احتمالها عسيرا؟ فلهذا الرجل زوجه وله حياته الخاصة، وإنما كان هذا الحب لذيذا محببا إليه حين لم تكن تشعر به زوجه، ولم يكن يعرض حياته المنزلية للخطر، أما الآن فلن يستطيع هذا الحب أن يظل مكتوما، ولا بد من أن يعرف غدا أو بعد غد. أفيسره هذا النبأ أم يسوءه؟ يسره من غير شك؛ فهو يحب ابتغاء للذة أو التسلية لا إرضاء للشهوة أو الهوى، وإنما يحب حقا، وأي نبأ يسعد له العاشق حقا إذا لم يسعد لمثل هذا النبأ؟ أليس هذا الحمل نتيجة لهذا الحب الذي يكبره ويحرص عليه؟ أليس صلة مادية ومعنوية قوية بينه وبين من يحب؟ هو سعيد مغتبط، وهو لا يخفي سعادته واغتباطه، ولكنه لا يقدر النتائج الأخرى كما تقدرها هي، فماذا عسى أن يكون شأنه مع امرأته؟ وماذا عسى أن يكون شأنها مع زوجها؟ بل هو يقدر هذه النتائج، فهو لا يحفل بامرأته، ولا ينبغي أن تحفل هي بزوجها، وإنما ينبغي أن يستجيبا للطبيعة، وأن يخلص كل واحد منهما لصاحبه، يجب أن يطرح كل منهما رفيق حياته ومصدر شقائه وألمه، يجب أن يفرا إلى حيث يعيشان سعيدين، وإلى حيث يقفان حياتهما على هذا الحب السعيد، وعلى تربية هذا الطفل الذي سيقبل عليهما بعد أشهر.
يجب أن يفرا، وما أيسر الفرار، وما أحبه إليهما! ولكن هناك ما يمنع من الفرار، وهو لم يكن فكر في ذلك؛ هناك هذان الطفلان اللذان رزقتهما «فلنتين» من زوجها، هما ابناها، وهما ابناها بمقدار ما سيكون هذا الجنين ابنها أيضا، وإذن فكيف تستطيع أن تفر مع عاشقها، وتترك ابنيها هذين؟! بدأ الجهاد إذن بين الحب والأمومة، فهي مضطرة إلى أن تختار؛ فإما أن تؤثر حبيبها على ابنيها، وإما أن تؤثر ابنيها على هذا الحبيب، وهذا الجهاد هو الذي أظهرها لنا حزينة ذاهلة، وهو الذي عرضها للضعف وما يعاودها من الإغماء. لم تكن تبتغي بهذا الحب لذة ولا سلوى، وإنما كانت تحب صاحبها حقا كما كان يحبها حقا، وإذن فاضطرابها شديد، وترددها لا حد له، وصاحبها ليس أقل منها ترددا واضطرابا؛ فهو لا يحبها حب الأثر الذي يبحث عن سعادته وحده، وإنما يحبها لنفسه، ويحبها من أجلها أيضا، وهو يشفق عليها من فراق ابنيها، ويتردد في حملها على هذا الفراق، ولكن ما حل هذه المشكلة؟ وأين السبيل للخروج من هذا المأزق؟
وهناك عقدة أخرى، فهبها أقامت ولم تفر، فما موقفها بإزاء زوجها، والصلة الزوجية منقطعة بينها وبينه؟ أتظهره على هذا الحمل؟ وإذن فهي الفضيحة والطلاق وحرمانها أولادها وعشرتهم والإشراف على تربيتهم! أم تخفيه وتخادعه وتتقرب منه حتى تتجدد الصلة بينهما وحتى يخيل إليه أن الجنين ابنه؟ وإذن فهو النفاق والتضليل، وهو قبل كل شيء إنكار هذا الحب والتضحية به، وهل تملك التضحية بهذا الحب؟ أترى إلى العقدة وإلى أي حد انتهت من الإحكام؟ ومع ذلك فلا بد أن تحل، ولن يحلها إلا التفكير والتروية، فسيفكران وسيرويان وسيلتقيان غدا ليفضى كل منهما إلى صاحبه بنتيجة الروية والتفكير.
وقد أقبل القسيس يلقي درسه على الطفلين، وأقبل «موران» تاركا أصحابه في شيء من اللهو، ومضت «فلنتين» مع القسيس تشهد درس ابنيها، فخلا الصديقان وأخذا يتحدثان، وما أسرع ما انتهى بهما الحديث إلى هذا الموضوع! فليس «موران» بالرجل الغافل الذي يخفى عليه مثل هذا الحب، بل قد أحسه ثم استيقنه، وهو الآن يلوم صديقه على خيانته امرأته وصديقه، ثم لا يلبث أن يعذر هذا الصديق، فهو يعترف بأن امرأته لا تستطيع أن تسعده، وهو يعترف بأن «لمبير» لا يستطيع أن يسعد «فلنتين»، وهو يعترف بأن هذين العاشقين قد خلقا ليتحابا، وليكون كل منهما مصدر سعادة الآخر، وقد كان ما لم يكن بد من أن يكون؛ فما المخرج من هذا المأزق؟
يسأله صديقه هذا السؤال ويذكر له أنه قادر على أن يجد لهما مخرجا؛ فهو باحث ماهر، وهو فيلسوف ينشر الكتب ويدرس فيها أخلاق الناس وصلاتهم؛ فليفرض أنه يكتب كتابا، وأنه بإزاء معضلة فلسفية يجب أن تحل، ولكن صديقه يبتسم، فهو ليس بإزاء معضلة من هذه المعضلات التي تحل في الكتب، التي يستطيع العقل الإنساني أن يتخذها رياضة ونوعا من أنواع التمرين، وإنما هو بإزاء معضلة من معضلات الحياة التي لا تحلها إلا الحياة، وكيف يستطيع أن يحل هذه المعضلة دون أن يؤذي ناسا من حقهم ألا ينالهم الأذى؟! ثم يمضي في حديثه وتحليله وحوار صاحبه، فإذا استوثق أن هذا الحب الذي جمع بين هذين العاشقين ليس عبثا ولا لهوا، وإنما هو من هذا الحب النادر الذي لا نلقاه كثيرا في الحياة، تشجع ونصح لصاحبه بالفرار مع حبيبته، فليضح إذن بامرأته؛ فهي تستحق أن يضحى بها، وهي لا تفهم الحياة ولا تقدرها، وهي لا تفهم الواجب ولا تقدره. إنها تكره النسل، ولو رزقت زوجها ولدا لصرفته عن الحب إلى العناية بابنه، ثم هي لن يشقيها هذا الفرار فستسلو عن زوجها وستستأنف الحياة السعيدة في باريس. ولتضح «فلنتين» بزوجها؛ فهو يستحق أن يضحى به؛ فهو لا يفهم الحياة ولا الحب ولا الزواج، وإنما يرد هذا كله إلى مسألة مالية، ومن الحق لكل إنسان أن يسعد، وإذن فمن الحق لهذين العاشقين أن يسعدا بحبهما، فليلتمسا هذه السعادة حيث يجدانها. والطفلان، ماذا يصنع بهما؟ ثم يقبل القوم جميعا فيستأنفون حديثهم وعبثهم وكأن شيئا لم يكن. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن أمام بيت حقير، يسكنه رجل من العمال، ومعه امرأته المتقدمة في السن أيضا، وقد أوت إلى هذا البيت خادم كانت عند «فلنتين»، أغواها أحد العمال فحملت وأشرفت على الوضع وظهر أمرها فطردها «لمبير»، وأشفقت عليها «فلنتين» فآوتها إلى هذه العجوز، وأخذت تنفق عليها وتتعدها حتى يتم الوضع وتبرأ من آلامه. وقد أقبل القسيس يتعهد هذه الفتاة، ونفهم أن قد رزقت صبيا، وأنها بخير، وتقبل «فلنتين» تعود الفتاة، ثم تخلو إلى القسيس أمام البيت ويتحدثان، فنفهم أن «فلنتين» ذهبت إلى القسيس فاعترفت له بأمرها وطلبت إليه المشورة، هي إذن تستشير القسيس كما أن صاحبها يستشير الفيلسوف، والقسيس يشير عليها بعكس ما أشار به الفيلسوف على صاحبها؛ يشير عليها بأن تقطع الصلة بينها وبين حبيبها، وأن تستأنف الحياة الزوجية وأن تخادع زوجها حتى يخيل إليه أن الجنين ابنه، فإذا نفرت من هذه المذلة وكرهت هذا النفاق وأنكرته، أجابها القسيس في عنف ورفق معا أنه لا ينكر أن في هذا مذلة ونفاقا، ولكنه يعلم أنها قد اقترفت إثما عظيما حين خانت زوجها، وأن من الحق أن تحتمل الألم في سبيل هذه الخيانة، وأن تكفر بالذل والهوان عن هذه الخطيئة. ويشتد بينهما الحوار على هذا النحو؛ فإذا هي تنكر ما يدعوها إليه القسيس مخلصة، وإذا القسيس يلح عليها في ذلك مخلصا، فإذا ذكرت الفرار أو الطلاق أنكرهما القسيس إنكارا شديدا، فالكنيسة لا تبيح الطلاق، وهي تقبل دونه كل شيء؛ لأن الكنيسة تعلن أن الزواج عقدة أحكمها الله، وما أحكم الله فليس له انفصام. - وإذن فالكنيسة تضحي بسعادتي وحياتي وكرامتي وعرضي، وهي تبيح لي الفجور والإثم اجتنابا للطلاق ؟ - نعم! وذلك هو الخير للإنسانية، فنحن نشهد آثار العلم والحضارة الحديثة وعملها في تفكيك العرى وقطع الصلات حتى كادت الأسرة ألا توجد، فلو أبحنا الطلاق، فماذا عسى أن تكون النتيجة؟
لا يقنعها ولا تقنعه، وقد أقبل القوم جميعا وكانوا في الصيد، ثم كانت أحاديث لا تعنينا، وانصرفوا وتركوا «فلنتين» وحدها، فتتقدم قليلا فإذا هي مشرفة على السيل من مكان مرتفع شاهق، وهي مضطربة ذاهلة قد أخذها ما هي فيه من تفكير، وإذا عاشقها قد أقبل فيدعوها، فكأنها تفيق من نوم، وهي تلقي نفسها بين ذراعيه، ثم يتحدثان، فتقص عليه ما كان من مشورة القسيس، فيظهر أنه لا ينتظر من القسيس إلا هذه المشورة، فالكنيسة ورجالها لا يقدرون الفرد ولا شخصيته ولا سعادته ولا عواطفه، وإنما هم منصرفون إلى عقائدهم يضحون في سبيلها بكل شيء، وهم يعتقدون أن في ذلك الخير، وهو مشفق يخشى أن تكون متأثرة بمشورة القسيس، وفي الحق أنها ليست متأثرة بمشورة القسيس، فلن تستطيع أن تذعن لهذا النفاق، ولا أن ترضى هذه الذلة، وفي الحق أيضا أنها ليست مطمئنة للفرار، فلن تستطيع أن تترك ابنيها، فيذكر لها صاحبها هذا الجنين، وأنها قد تجد فيه سلوة، فتجيبه: كلا، فما كان أحد الأبناء ليسلي عن الآخرين. ويظهر الدهش، فهذا الجنين نتيجة الحب، وهذان الطفلان نتيجة القسوة والعنف، فمن المعقول أن تؤثره عليهما، ولكن الأمومة لا تفرق بين الأبناء إلى هذا الحد، وليس يعنيها أن يكون مصدرهم الحب أو غير الحب، وإنما يعنيها أن يكون هناك ابن خليق بالعطف والحنو؛ ولكن الحوار قد اشتد بينهما، وأخذ الحنان يغلب عليه قليلا قليلا حتى صار حنانا كله، وهو يضمها إليه ويستعطفها ويتلطف لها.
وقد أخذت حجج الأمومة تضعف أمام حجج الحب، وإذا هي مستسلمة قد قبلت ما يدعوها إليه من الفرار. سيفران إذن إذا كان الغد، وسيلتقيان في المحطة إذا كانت الساعة التاسعة. •••
فإذا كان الفصل الرابع فنحن في بيت «لمبير» حيث كنا في الفصل الثاني، وقد أقبلت الخادم فأنبأت أن الطبيب يستأذن، فيأذن لمبير للطبيب، ويأمر الخادم أن تنبئ سيدتها بمكانه، وأنه صاعد ليراها. وقد دخل الطبيب وأخذ يتحدث إليه «لمبير»، ففهمنا أن «فلنتين» لم تنم ليلتها، وأنه يصف للطبيب مرضها واضطرابها وحزنها وهذا الإغماء الذي يعاودها، فيقول الطبيب: لعل من الحق أن تغتبط بهذا؛ فهو من إشارات الحمل. ولكن «لمبير» يجيبه بأنه واثق كل الثقة أن ليست هذه إشارات حمل؛ فلديه ما يحمله على هذه الثقة. وإذا «فلنتين» مقبلة، لم ترد أن يصعد إليها الطبيب؛ لأنها ليست في حاجة إلى الطبيب، ولأن زوجها دعا الطبيب دون أن يستشيرها. وقد انصرف الطبيب، ولم يفحصها، ولم يتبين من أمرها شيئا؛ لأنها أبت أن تنبئه بشيء، وتخلو إلى زوجها فيكون بينهما حديث آية في الأحاديث، تظهر فيه العواطف المختلفة، والميول المتباينة المتضاربة، يكون عتاب من «فلنتين» لزوجها فلا يفهم منه شيئا. تذكر له أنها لم تكن سعيدة، وأنها لم تلق منه ما كانت تأمل، وأنها لم تحببه، وأنه لم يحبها، فلا يفهم من هذا شيئا؛ لأنه لم يتزوج إلا وهو يعلم أنه لا يحب امرأته، وأن امرأته لا تحبه، وأن الزواج شركة الغرض منها تنمية الثروة وإيجاد الولد، وقد نمى الثروة وقد وجد الولد، ففيم تطمع امرأته؟ وماذا تريد؟ ومهما تذكر له من الحب واللين والحنان، فهو لا يجيبها إلا ساخرا مزدريا، ولكنها قد أنبأته أنها التمست عند رجل آخر ما لم تجد عند زوجها، وأنها أحبت رجلا وأحبها هذا الرجل، وكانت بينهما صلة! وإذا هو مغضب، ولكنه يملك نفسه. هو لا يحب إمرأته؛ فلا يعنيه أن تكون قد خانته، ولكنه يحتفظ بالقوانين والعادات الموروثة، فلا يستطيع أن يمسك هذه المرأة في بيته ولا سيما حين أنبأته أنها حامل، وقد عرف من تحب، وهم أن يذهب إليه ليخاصمه، فتنبئه بأنه لن يجده، وبأنهما كانا قد أزمعا الفرار. - وما يمنعكما منه؟ - لا أستطيع أن أترك ابني، وقد أتيت ذليلة ضارعة مستعطفة، أسألك ألا تتركني، وألا تفرق بيني وبين هذين الطفلين، وقد كنت أستطيع أن أخادعك وأكذب عليك وأخفي عليك كل شيء، ولكني أبيت هذا الخداع وصارحتك، فلا تفرق بيني وبين ابني، ولن يغير هذا من عيشتنا شيئا؛ فالصلة بيننا منقطعة منذ حين طويل، وستظل منقطعة أيضا، لا تفرق بين الأم وابنيها ...
ولكنه يأبى أشد الإباء؛ يأبى لأن هذه المرأة قد انحطت بهذه الخيانة، فهي ليست أهلا لأن تجاور ابنيه أو تعاشرهما. ثم هو لن يسمح بأن يكون هذا الجنين ابنا له أمام القانون وأمام الناس، ولا يسمح بأن يكد ويعمل ليرزق هذا الطفل الذي ليس له، ولا يسمح بأن يعتقد ابناه أن هذا الطفل أخوهما لأب وأم. يجب إذن أن ترحل، وهي إذا لم تفعل مختارة فستطرد من البيت طردا، وليس إلى تغيير رأيه من سبيل.
هي مذعنة لهذا الأمر تريد أن تذهب، وتريد أن تودع ابنيها، ولكنه يأبى أن تخلو إليهما فيأمر بالطفلين فتحضرهما الخادم، وتودعهما أمهما باكية وهما يبكيان، وتنصرف.
وقد خلا الطفلان إلى أبيهما، فأمرهما أن ينتحيا ناحية ويلهوا في هدوء، فهما ينظران في كتاب، وهو إلى مكتبه يكتب. وتمضي على ذلك دقائق، وإذا رجل من العمال يقبل مسرعا مضطربا كأن قد حدث حدث، وقد حدث حدث بالفعل، فأسرع «لمبير» وأمر بالطفلين فأقصيا عن البيت، وخلا المسرح لحظة، ثم يقبل القوم الذين رأيناهم في الفصول الماضية وكانوا على موعد مع أهل البيت، فإذا لم يجدوا أحدا أنكروا ذلك، وأخذوا يبحثون في أعلى البيت وأسفله، ثم يندبون من بينهم من يذهب ليستقصي الأمر، فيمضي «سان فوان» ويعود مضطربا مذعورا ينبئ بأن «فلنتين» قد سقطت في السيل حيث الأداة الكهربائية، فهي معلقة في العجلة من ثيابها بعد أن مزقتها تمزيقا، وسيحمل جسمها بعد حين.
أما «شارلوت» فلا تكاد تسمع هذا النبأ حتى تذعر، وتريد أن تنصرف؛ لأنها تكره أن ترى هذه الجثة. وقد انصرفت مع «سان فوان»، وخلا الفيلسوف إلى القسيس، فهما يتحاوران وينتظران الجثة.
وهل أترجم لك الحوار؟ أم هل ألخصه؟ ولم أترجمه أو ألخصه؟ وما نفع هذه الترجمة أو هذا التلخيص ؟ الفيلسوف يدافع عن مشورته الفلسفية، والقسيس يدافع عن مشورته الدينية، وكلاهما مخلص في دفاعه، وكلاهما غير مقنع لصاحبه، وكيف يستطيع أحدهما أن يقنع الآخر؟! فإذا عجز الدين عن أن يوفق بين سعادة الناس ومنافعهم، فليست الفلسفة أقل عجزا منه عن التوفيق بين هذه السعادة وهذه المنافع؛ ذلك لأن في الحياة عقدا ليس إلى حلها من سبيل. وهما يتحاوران والحوار يشتد بينهما، ولكن حركة تدنو، وإذا القسيس يطلب إلى صاحبه الصمت، ويشير بيده إلى قوم يدنون وقد حملوا الجثة.
مايو سنة 1924
الرقص في نصف الليل
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «شارل ميري»
حدثتك عن هذا الكاتب منذ حين، يوم حللت لك قصة من قصصه هي «الأمير جان».
1
ولست أدري أتذكر هذه القصة أم قد نسيتها، ولكني أذكرك بأني أشرت حين كتبت عن هذه القصة إلى أن هذا الكاتب ليس من الكتاب الذين يقصدون إلى فكرة فلسفية أو إلى نظرية من النظريات، فيدرسونها ويبعثون فيها الحياة، وإنما هو يريد أن يلهى لا أكثر ولا أقل، أو قل هو يريد أن يلهى دون أن يخلو لهوه من نفع خلقي ما، ولكن هذا النفع الخلقي ليس هو الذي يعنى به أو يقصد إليه، وليس هو الغرض الأساسي من القصة، إنما قصصه حركة متصلة قلما يكون فيها وقت للتفكير والروية أو للبحث وتحليل العاطفة، فإن عرض لشيء من ذلك فهو لا يعرض له ليتخذه موضوع قصته، وإنما يعرض له لأنه احتاج إليه احتياجا. هو كاتب عملي لا يريد أن يتخذ ملعب التمثيل مدرسة فلسفية أو اجتماعية، وإنما يريد أن يتخذه ملعبا ينفق فيه الجمهور شيئا من وقته لاهيا عابثا دون أن يضيع هذا الوقت أيضا.
ولقد قرأت هذه القصة التي أحدثك عنها اليوم، والتي وصلت إلينا في الأسبوع الماضي، فترددت في أن أتخذها موضوعا للحديث؛ فقد يكون من الناس من يميل إلى هذا النحو من القصص الذي تكثر فيه الحركة ويتصل فيه العمل، ولكنه يخلو أو يكاد يخلو من فكرة قيمة تكون موضوعا لهذه الحركة أو هذا العمل. قد يكون من الناس من يميل إلى هذا النحو من القصص، أما أنا فلست أحبه ولا أميل إليه، ولست أرضى عن قصة تمثيلية إلا إذا جمعت إلى الحركة والعمل معنى فلسفيا قيما، أو جمالا فنيا خليقا بالإعجاب. ولا أستطيع أن أقول إن في هذه القصة جمالا فنيا خلابا، ولا أستطيع أن أقول إن فيها فكرة فلسفية قيمة مبتكرة، وإنما هي قصة عادية إن يكن لها امتياز فهو سرعة الحركة واتصالها. ومع ذلك فسأحدثك عنها، لأنها ظهرت حديثا، وعني الناس بها وأكثروا الكلام فيها، ومن حقك علي أن أظهرك من حين إلى حين على ما يعنى به أهل التمثيل ومحبوه في باريس.
ثم إن هذه القصة قد لا تخلو من نفع؛ فهي إذا لم يمكن أن تقرن إلى القصص التي يكتبها زعماء الفن، ك «فرنسوا دي كوريل» و«موريس دونيه» و«ألفريد كابو» و«بول هرفيو»، فليس معنى هذا أنها خليقة أن تطرح وتزدرى. وأنا بعيد كل البعد عن إطراحها وازدرائها؛ فقد وجدت فيها شيئا من اللذة غير قليل، وكل ما أريد أن أقول هو أنها لا تحقق المثل الأعلى الذي أسمو إليه عندما أفكر في القصص التمثيلي، على أنها لا تخلو من تحليل دقيق ومن مواضع خلابة مؤثرة. ولعلها لا تخلو من شيء آخر أريد أن أشير إليه مع احتياط شديد؛ فالاحتياط الشديد واجب على الكتاب المصريين في هذه الأيام، لا تخلو من إشارات إلى الحياة السياسية الفرنسية، بل لا تخلو من عبث بالبرلمان الفرنسي وبالحكومة الفرنسية وبنظام الحكم في فرنسا بوجه عام، فلنشر إلى هذا أثناء التحليل حذرين محتاطين؛ حتى لا ينالنا ما نال قوما آخرين، وإن كان البرلمان الفرنسي لا البرلمان المصري، هو موضوع هذا العبث الذي سنمر به مضطرين في هذا التحليل، وربما لم نكره أن يظهر القراء على هذا النحو من العبث الذي يسمح به الكتاب الفرنسيون لأنفسهم بالقياس إلى مجالسهم النيابية وإلى وزاراتهم المختلفة، ففي هذا مثال لشيء من الحرية السياسية في البلاد التي تفقه الحرية السياسية وتقدرها وتريد أن تستمتع بها حقا، وفي هذا مثال لهذا التصور الديمقراطي الصحيح، الذي نتمنى أن نصل إليه في بلادنا غدا أو بعد غد، وهو هذا التصور الذي لا يجعل أعضاء المجالس النيابية آلهة، ولا أنصاف آلهة، ولا أرباع آلهة؛ بل لا يجعلهم مقدسين أو كالمقدسين، بل لا يعصمهم من النقد، ولا يجعلهم بمأمن من عبث العابثين ولهو اللاهين.
آه! لقد أحب أن يقرأ المصريون «أناتول فرانس» وغيره من الكتاب. لقد أحب أن يقرءوا «ألفونس دوديه»، ولا سيما قصته «نومار ومستان». لقد أحب أن يقرءوا «الكونت دي فوجيه»، ولا سيما قصته المشهورة التي هي آية من آيات البيان، وهي «حديث الموتى». لقد أحب أن يقرءوا «موباسان». لقد أحب أن يقرءوا الكتاب الفرنسيين جميعا، ليعرفوا كيف يعبث الكتاب الفرنسيون في قصصهم الروائية والتمثيلية بأعضاء المجالس النيابية وبالوزراء ورؤساء الوزراء، بل برؤساء الجمهورية، بل بأعضاء المجامع العلمية. لقد أحب أن يقرأ المصريون هذه الكتب، ليعلموا أن البرلمانات والحكومات والمجامع العلمية والهيئات السياسية في أوروبا ليست سكرا يخاف عليه أن يذوب أمام النقد، فيبالغ في حمايته والاحتياط له. ولكني قد بعدت عن القصة التي أنا بإزائها، وأنا معذور في هذا الاستطراد؛ فقد اضطررت إليه اضطرارا؛ لأن في هذه القصة عبثا بأعضاء البرلمان الفرنسي، ولنقد أعضاء البرلمان قضية في مصر.
فلننتقل إلى باريس ولنترك القاهرة لأهل القاهرة. •••
نحن في قصر فخم من قصور باريس، يسكنه رجل غني، ضخم الثروة، منقطع إلى الأعمال المالية، له مصرف، وهو في الوقت نفسه يرأس جماعة مالية كبرى؛ هو «البارون رينو»، وهو رجل متقدم في السن، ضعيف، مدمن على الكوكايين، فقد أسرف في ذلك حتى أصابته علة من علل القلب، عرضت حياته للخطر، ولا سيما إذا دهمته داهمة أو نابته نائبة. وهو في هذا الوقت تعس الحظ؛ لأن نازلة قد نزلت به فعرضته للموت وعرضت شرفه للضياع؛ وذلك أنه ضارب فأضاع رأس مال المصرف، ثم ضارب فأضاع رأس مال الجماعة المالية التي يرأسها، وهو في بيته مضطرب ذاهل يفكر في هذه الكوارث التي ألمت به، ونراه يتحدث إلى خادمه حديثا متقطعا يقطعه الضعف كما يقطعه الهم، ونراه لا يكاد يستقر ولا يثبت، ونراه لا يكاد يمسك نفسه إلا بعلبة الكوكايين يأخذ منها القبضة من حين إلى حين فترد إليه رمقا من حياة، وخادمه يتحدث في التليفون فينبئه أن امرأة تريد أن تتحدث إليه، فإذا تحدث إليها ضرب لها موعدا للقائه بعد قليل، وهو ينتظر سكرتيره، وينتظره متحرقا، وكأن هذا السكرتير قد أبطأ عليه، وهو يسخط لذلك ويتململ.
وقد أقبل السكرتير، فهو يسأله عن الأنباء، والسكرتير يقص عليه أنباء «البورصة»، ثم أنباء المصرف، ثم يقدم إليه صحيفة من الصحف قد بدأت تحمل عليه وعلى مصرفه وجماعته المالية حملة منكرة، وتذيع أسراره، وتشير إلى أن النيابة قد تحقق، فيضطرب الرجل لذلك، ولكنه قد تعود مثل هذه الصدمات، فهو يعرف كيف يحتملها، يعرف بنوع خاص كيف يخدع الجمهور ويكذب عليه، كيف يداوره ويماطله، فلم يكد يفرغ من قراءة هذا الفصل حتى أخذ يملي على سكرتيره بلاغا يكذب فيه ما أذيع عن المصرف والجماعة في لهجة قوية حازمة مقنعة حتى ليتأثر السكرتير ويقتنع، ولكن الرجل ينبئه مبتسما أن بلاغه كاذب وأن لهجته كاذبة، وأن الصحيفة صادقة وأنه قد أضاع رأس ماله وعبث برأس مال الجماعة، وأنه لم يرد إلا الخير، ولكنه لم يوفق، وأنه يعلم أنه سواء أراد الخير أم لم يرده فقد أخطأه التوفيق، ومن يخطئه التوفيق فالناس حرب عليه.
وقد دهش سكرتيره لهذا، وأصابه شيء من الجزع؛ فهو يهدئه ويبعث في قلبه الطمأنينة ويعلن إليه أنه لم يفقد كل أمل، وأنه في حاجة إلى مهلة، في حاجة إلى أسبوعين، وأنه يستطيع أن يظفر بهذه المهلة، وأن يصلح من أمره كل ما فسد دون أن يشعر بحقيقة الأمر أحد. فيسأله السكرتير: ومن لك بهذه المهلة؟ فيجيب «موران»: سكرتير رئيس الوزراء الذي نعلم أنه هو رئيس الوزراء؛ لأن رئيس الوزراء شيخ لا إرادة له ولا عمل، وقد أسلم أمره إلى هذا السكرتير، فهو الذي يدبر أمور الدولة الآن، حتى إذا سقطت هذه الوزارة فهو رئيس الوزارة المقبلة من غير شك؛ لأنه عضو في مجلس النواب، هذا الرجل يستطيع أن يمنحني هذه المهلة إذا أصدر أمره إلى النيابة سرا ألا تتعجل التحقيق، وأن تماطل وتتباطأ أياما، وهو قادر على ذلك إن أراد. فإذا ذكر له سكرتيره الواجب والأمانة والشرف ابتسم ساخرا؛ لأنه يعلم قيمة هذه الألفاظ ولا سيما عند رجال السياسة ورجال المال.
والآن وقد ذكرت لك شخصين غير صاحبنا المحامي فيحسن أن أقدمهما إليك؛ أحدهما هذا السكرتير الذي يتحدث إلى «البارون رينو»، وهو شاب في الثلاثين من عمره، اسمه «دنيال» شريف أمين وفي متعلم، بل له من العلم والأدب حظ عظيم، ولكنه فقير، أقبل إلى باريس وكان يريد أن يكون قصصيا، ولم يكن له بد من أن يكسب رزقه، فأقبل إلى مدام «رينو» بوصية من أحد أصدقائها، وتقبلته هذه السيدة قبولا حسنا، وأوصت به زوجها فاتخذه سكرتيرا له؛ فهو وفي للزوجين وفاء شديدا، وربما كان يضمر للمرأة شيئا آخر غير الوفاء ستراه بعد حين.
وأما الآخر «موران» فشاب اندفع في الحياة السياسية فأصابه الفوز فيها، وصل إلى مجلس النواب، ولم يلبث أن امتاز ببلاغته وفصاحته ومهارته السياسية، فاشترك في الوزارة القائمة حتى إذا سقطت فسيؤلف هو الوزارة المقبلة، فإذا أردت أن تعرف الصلة بين هذا الرجل المالي وهذا الرجل السياسي فسينبئنا بها «رينو» نفسه حين يتحدث بها إلى سكرتيره. يخرج غلافا مختوما ويدفعه إلى السكرتير ويأمره أن يحتفظ به عنده إلى وقت الحاجة، فإذا سأله عما فيه أجاب إنها أوراق تمس الحياة السياسية لموران، وتستطيع أن تسقطه وتحول بينه وبين أطماعه! كلا! بل تجلله خزيا وعارا، فإذا أظهر السكرتير شيئا من الدهش - لأن هذا الرجل السياسي مشهور بحسن الخلق والاستقامة والحرص على أداء الواجب - ابتسم المالي ساخرا. وإذا سأله السكرتير كيف يدبر الكيد لصديقه، أجاب: ليس صديقي، ولكنه خليل امرأتي. فلا تسل عن دهش السكرتير؛ فهو يقدس هذه المرأة ويكبرها ويراها فوق هذه الدنيات، ولكن الزوج ينبئه بأنها غير ما يظن، وأنها امرأة تستمتع بجمالها وشبابها وتأخذ بحظها من اللذة، وأن الصلة الزوجية بينهما منقطعة منذ سنين، وأنها قد خانته مع كثيرين، وهي تخونه مع هذا الرجل منذ سنتين، والناس جميعا يعرفون ذلك ويتحدثون به، فلا أقل من أن يؤدي له «موران» هذه الخدمة فيخرجه من هذا المأزق الذي اضطره إليه سوء الحظ.
وقد أقبلت سيدتان، إحداهما تعنينا قليلا وهي «مدام دي فونتانج»، أقبلتا فخلت إحداهما إلى البارون وأخذت تضرع إليه في أن يرد إليها الأوراق التي يحتفظ بها والتي تمس الحياة السياسية لموران، وأخذ هو يرفض ويلح في الرفض، ثم تقبل امرأته «ماري تريز»، وهي امرأة جميلة رشيقة خلابة، تعيش مع زوجها عيشة الجوار لا عيشة الزواج، منصرفة عنه إلى لذاتها وأهوائها، وهي الآن مقبلة من السباق، فهي تقص أمره على صاحبتيها.
ثم ينصرفن ويقبل رجل من أعضاء الجماعة المالية قد بلغه النبأ السيئ، فجاء مضطربا ساخطا يلوم ويسرف في اللوم، والبارون هادئ مطمئن يسخر منه ويعبث به. وقد دق التليفون، فإذا أسرع إليه السكرتير عاد فأنبأ البارون بأن المصرف يطلبه فورا؛ لأن الشرطة قد ذهبت إليه وهي تريد أن تبحث وأن تحقق. يهم بالانصراف، وقد أقبلت سيارة، فيسأله صاحبه من في هذه السيارة، ثم ينظر من النافذة فيرى «موران»، وإذا هو قد اطمأن وابتهج؛ لأنه يقدر أن «موران» يستطيع أن يصلح من أمر المصرف والجماعة، ولكن القوم جميعا ينصرفون ويدخل «موران» فلا يجد أحدا. ثم تأتي «ماري تريز» فإذا هي تلقاه لقاء المحبة المشتاقة المتلهفة، وإذا هي مسرفة في ملاطفته والعناية به؛ يريد أن يشرب شيئا من النبيذ فتسقيه كأنه الطفل، يريد أن يجلس فتقدم الوسائد وتحيطه بضروب الرفق والعناية، كل ذلك في دعابة وخفة وفي شوق ولهفة، وهي تتحدث عن الموعد المقبل وعن اللذة المنتظرة، وهو يجيبها متلطفا مداعبا، ولكنه في هدوء كأنه مشغول البال، وهو مشغول البال حقا؛ فقد عرف ما كان من أمر البارون وإشرافه على الخطر، وأقبل ينذر صديقته يريد أن يحميها، فهو ينصح لها أن تسافر من باريس، ويلح عليها في أن تغيب أشهرا، وهي تأبى لأنها لا تريد أن تفارقه، وهي تؤثر كل شيء على هذا الفراق، وهو يلح ويبالغ في الإلحاح حتى تعده بالتفكير والروية.
ولا يكاد ينصرف حتى يعود الزوج، فتهم هي أن تنصرف، فيمسكها زوجها ويقص عليها كل شيء، ويعلن إليها أنه إن يكن قد أنفق ما أنفق وتورط فيما تورط فيه، فقد بذل ما استطاع ليضمن لها حياة رضية سهلة. ألم ينفق مائتي ألف فرنك لزينتها في هذه السنة! ألم ينفق نصف مليون من الفرنكات لحفلاتها في هذه السنة! أما هي فتزعم له أنها لم تطلب شيئا من هذا، وأنه لم يفعل هذا إلا لمنفعته الخاصة؛ لأنه أراد أن يظهر مظهر الرجل الغني الذي يبعث على الثقة، ثم تغلظ له في القول وتتهمه بالضعة والاختلاس وما إلى ذلك، ويحتمل منها هذا كله مطمئنا ساخرا، ثم يطلب إليها ما كان يريد وهو أن تسعى عند «موران» ليؤجل التحقيق، فإذا أرادت أن تعتذر صارحها بما يعلم من أمرها مع هذا الرجل، وبأنه قد أنفق عليهما وهيأ لهما ما استمتعا به من لذة، فالحق عليهما الآن أن يعيناه، أما هي فتأبى الإباء كله؛ تأبى لأنها لا تريد أن يسعى صاحبها في شيء دنيء كذا، وتأبى لأنها لا تريد أن يشعر صاحبها أنها لا تحبه لنفسه بل لمركزه وسلطانه. تأبى وتعرض حليها، وتعرض أن تقترض المال، ولكن زوجها لا يريد إلا هذا السعي، فإذا رأى إصرارها على الإباء ذكر ما عنده من الأوراق، وأنذر بنشره في صحيفة من الصحف، وإذا زوجه قد سخطت عليه سخطا لا حد له؛ فهي تهينه وتزدريه وتنذره، وهو يجيبها بأنه إن قدر له أن ينسف فلن ينسف وحده بل سينسف معه خليلها، فتجيبه: بل سننسف جميعا. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في القصر نفسه وقد مضت أيام على ما قدمت لك، وفي القصر حفلة راقصة أراد صاحب القصر أن تكون آية بين حفلات الرقص، ودعا إليها جمهور أصحاب الثروة والمكانة «ليذر الرماد في العيون» كما يقولون، وليخيل إلى الناس أن هذه الأنباء التي تذاع لا خطر لها، ولكن الناس لا يصدقون من هذا شيئا، وإنما أقبلوا يلهون ويرون ويشمتون، وهم يتحدثون بهذا ويتوسمون في الرجل وامرأته أمارات الاضطراب، وقد خلت في لحظة من اللحظات «ماري تريز» إلى السكرتير «دنيال» فهي مضطربة جزعة، وقد سمعت باعة الصحف يصيحون، فطلبت إلى السكرتير أن يسرع فيبتاع الصحف. وهي كذلك إذ يقبل «موران»، أقبل خلسة دون أن يشعر به أحد وأقبل جزعا مضطربا؛ لأنه سمع أن أحد النواب سيلقي سؤالا في مجلس النواب هذه الليلة، وسيكون موضوع السؤال هذه الفضيحة المالية، وسيشير هذا النائب في سؤاله إلى الصلة بين «موران» وبين البارون، والنواب يتحدثون فيما بينهم بأن لموران حظا في هذه الفضيحة ويذكرون صلته «بماري تريز»، ويذكرون أنه أوحى إلى النيابة بتأجيل التحقيق، وهم يريدون أن يفضحوا هذا كله الليلة؛ ولذلك أقبل صاحبنا مسرعا غير حذر لينبئ صديقته وليعلن إليها أن زوجها قد يقبض عليه من حين إلى حين.
ولكنه أقبل لشيء آخر أيضا؛ أقبل لأنه علم أن لدى هذا الرجل أوراقا بخطه، وأنه يريد أن يرى البارون، ولا يزال يلح حتى أتى البارون، فإذا التقى الرجلان كان بينهما حوار ثم خصام عنيف؛ لأن البارون أنبأه بما في هذه الأوراق التي كتبها بخطه والتي ازدرى فيها حزبه وسخر منه، وهزأ فيها بالنظام الجمهوري كله، وكتب أنه يميل إلى قلب هذا النظام، وأن أقدر الناس على قلب الجمهورية هم أنصارها الحقيقيون، فإذا نشرت هذه الأوراق فقدر وقعها في الحزب السياسي وفي مجلس النواب، وفي الكثرة الجمهورية التي يعتمد عليها صاحبنا ليكون رئيس الوزارة؛ لهذا يشتد الخصام بين الرجلين، ويلح الرجل السياسي ليأخذ أوراقه، فيلح الرجل المحامي ليؤجل التحقيق، ثم يشتد بينهما العنف حتى يهجم الرجل السياسي على خصمه فيأخذ بعنقه حتى ليكاد يخنقه، ثم يتركه وقد أخذ الجهد من رجل المال الذي هو ضعيف مشرف على الخطر كما قدمنا، وإذا هو يضطرب وإذا هو يمشي إلى صاحبه متثاقلا ثم ينكب على وجهه، فيسرع إليه «موران» وتسرع إليه زوجه، ولكنه قد فقد الحركة. فإذا أجلساه أخذا يتجسسان نبضه ويتسمعان قلبه، ولكنه قد مات! ولست أصف لك اضطرابهما وجزعهما، فأنت تقدره، وقد استطاعت المرأة أن تقنع صاحبها بالانصراف إلى مجلس النواب، واتفقا على أن تنصرف هي إلى الحفلة فتنفق الليلة في لهو ورقص.
وقد أغلقت على الميت باب مكتبه، حتى إذا كان الصبح أظهرت أنه مات وهو يعمل، وقد أراد النائب أن يأخذ الأوراق التي جاهد من أجلها، فلما ظفر بها لم يجدها إلا صورة مطابقة للأصل. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في بيت «دنيال» سكرتير البارون، وقد مضت أيام على ما قدمت لك، وعني الجمهور الباريسي بهذه الحادثة، وأخذ القضاء في التحقيق، والصحفيون يختلفون إلى هذا السكرتير يسألونه ويتحدثون إليه، وهو محتفظ لا يجيب إلا بأن البارون قد مات موتا طبيعيا، ولكن «ماري تريز» قد أقبلت وهي تذكر ما هي فيه من حزن وحرج، وتذكر هذه الجماعات التي تحيط بقصرها، وهذا الجند المرابط حول القصر، وهذه الجماهير التي تنظر إليها وتزدريها إذا خرجت، فهي متهمة بقتل زوجها، وهي تذكر هذا كله فلا تسمع من السكرتير إلا ألفاظ عطف ومودة وحنان، فيطمعها ذلك فتطلب إلى السكرتير أن يدفع إليها الأوراق التي ائتمنه عليها زوجها. يأبى الشاب لأنه يريد أن يدفع هذه الأوراق إلى قاضي التحقيق، ولا يكاد ينبئها بذلك حتى تجزع وتلح عليه وتضرع إليه في أن يدفع إليها هذه الأوراق، ثم تعترف بحبها «لموران» وتبالغ في التضرع، فيأبى الشاب، ولكنها تعلم موضع ضعفه، فتذكر حبه إياها وتسأله إن كان يحبها حقا أن يدفع إليها الأوراق. وقد فقد الشاب كل مقاومة فدفع إليها الأوراق، وأنبأها بأن امرأة أخرى طلبت إليه هذه الأوراق وعرضت نفسها ثمنا لذلك فأبى، فإذا سألته عن هذه المرأة ذكر «مدام دي فونتانج» التي ذكرناها في الفصل الأول.
يقع هذا النبأ من «ماري تريز» موقعا سيئا، وتحاول أن تبحث عن السر في علم هذه المرأة بهذه الأوراق وسعيها في أن تظفر بها، ولكنها لا تتكلف البحث، فقد أقبلت المرأة نفسها مرة أخرى تستأنف طلب الأوراق إلى الشاب، فتخلو إلى «ماري تريز» ونفهم من حديثهما أن هذه الأوراق كانت ملكا لهذه المرأة؛ لأن «موران» كان يحبها وهي التي مكنته بمالها من الفوز في الانتخاب، وأنه كتب إليها هذه الكتب أثناء حبهما ثم كانت بينهما قطيعة، فأرادت أن تنتقم فدفعت هذه الرسائل إلى البارون، ثم استؤنف الحب بينهما الآن فهي تريد أن تسترد هذه الرسائل. ولا تكاد «ماري تريز» تسمع هذا الحديث حتى تكذبه، فهي تعلم أن الرجل يحبها هي، ولكن أنى لها أن تمضي في تكذيبها والبرهان قائم على أن المرأة لم تكذب! أليس «موران» ينتظرها في العربة أمام البيت! تبعثان إذن فتطلبانه، وإذا هو قد أقبل فلم يبق شك عند ماري تريز في أنه يخونها، وقد تركتها المرأة فكانت بينهما خلوة، وجرى بينهما حديث طويل فيه تمثيل صادق لضعف هذه المرأة التي ترى نفسها محتقرة مزدراة، وتشعر بأن صاحبها يخونها، وتريد أن تكون كريمة أبية، وأن تقطع الصلة بينها وبين هذا الخائن، ولكنها لا تستطيع؛ لأن سلطان الحب عليها أقوى من سلطان الكرامة، وفيها تمثيل صادق أيضا لهذا الرجل الذي لا يحب ولا يعشق، وإنما يريد أن يلهو ويستمتع باللذة على ألا يحول ذلك بينه وبين مطامعه السياسية؛ فهو لا يحب تلك المرأة وإنما يداريها ويتقيها، وهو لا يحب هذه المرأة وإنما يخادعها لأنه يشتهيها، وهو منتصر عليهما معا لأنهما ضعيفتان وهو قوي. وقد استطاع أن يخرج بعد أن تم له رضا صاحبته وضربت له موعدا للقاء، وقد سمع الشاب كل هذا الحديث حيث كان مستخفيا، فأقبل إلى «ماري تريز» وأعلن إليها - تدفعه الغيرة - أنه منصرف إلى القاضي فمنبئه بكل ما سمع. •••
فإذا كان الفصل الرابع فقد مضت ستة أشهر على هذا كله، وقد قدمت «ماري تريز» إلى المحاكمة، ولكنها برئت، ثم كانت كل هذه الحوادث قد أثرت فيها تأثيرا قويا، فاضطربت أعصابها وأصابها شيء يشبه الجنون، فهي الآن في مستشفى، وقد أقبل الطبيب فعادها لآخر مرة وأعلن أنها قد برئت وأنها تستطيع أن تترك المستشفى. وهو يعلن ذلك إلى الممرضة وقد أقبل «دنيال»، فلم يكد يسمع ذلك حتى ابتهج له، وهو يريد أن يرى «ماري تريز» وأن يخرجها من المستشفى، ولكن غلاما يقبل ومعه بطاقة، فإذا نظر فيها «دنيال» رأى اسم «موران»، فيأذن له ويتحدثان قليلا، فإذا هما رجلان مختلفان أشد اختلاف؛ أحدهما، وهو النائب، شديد الطمع يضحي في سبيل أطماعه بكل شيء، والآخر، وهو دنيال، متواضع قانع لا يطمع في شيء إلا أن يعيش شريفا. وقد صدم النائب صدمة عنيفة بهذه الحوادث كلها، فاستقال من الوزارة وعاش عيشة المستخفي، وهو الذي كان ينفق على هذه المريضة في هذا المستشفى، وقد علم أنها برئت فأقبل يراها، أما «دانيال» فلم ينفق عليها، ولكنه أخلص لها، فعني بتنظيم التركة وما نشأ عن موت زوجها وإفلاسه، وكان يأتي كل يوم ليراها ويتعرف أخبارها، وقد اتفق الرجلان على أن يراها «دنيال» أولا ثم يراها بعد ذلك «موران».
وانظر إليها وقد أقبلت ضعيفة ناحلة شاحبة، ولكنها فرحة مبتهجة؛ لأن الطبيب قد رد إليها حريتها، فهي تستطيع أن تخرج وأن تعيش عيشة هادئة خاملة بعيدة عن الناس. أما «دنيال» فيذكر أنه قد أقبل اليوم لوداعها؛ لأن عمله قد انتهى، فتغضب لذلك وتعاتبه فيه، فإذا ذكر لها «موران» أنكرت هذا الاسم، وكيف تعرفه وقد نسيها منذ ستة أشهر، فإذا أنبأها بأنه لم ينسها وأنه أقبل يراها، نسيت هي كل شيء، ونسيت «دنيال» ومودته وألمه، وتعجلت لقاء «موران»، فينصرف الشاب محزونا كئيبا، ويرسل إليها موران، ولا أصف لك ابتهاجها بلقائه، وسعادتها بالتحدث إليه، ولا أصف لك هذه الآمال الواسعة اللامعة التي تملأ نفسها؛ فستعيش مع «موران» عيشة سعيدة، وستكون زوجة، وهي مغتبطة بابتعاده عن الحياة السياسية، فسيكون لها وحدها، وستكون له وحده، وكان يلاطفها ويلاعبها ويظهر الحب ، ولكنه لم يكد يسمع هذه الآمال حتى أنكرها، وأخذ يرد إلى صاحبته شيئا من العقل، فهو لم يترك السياسة وإنما تجنبها تجنبا، وهو يريد أن ينسى الناس ما كان من أمره، ثم يستأنف عمله حتى يصل إلى رياسة الوزراء، وإذن فلن يستطيع أن يتزوجها، بل لن يستطيع أن يظهر معها في باريس، وإنما استأجر لها بيتا في الضواحي يريد أن يئويها إليه على أن يزورها من حين إلى حين، وهو كلما نطق بشيء من هذا هدم أملا من آمالها ورد إليها الكآبة قليلا قليلا، حتى تعود محزونة كئيبة كما كانت.
وقد ذكرت تلك المرأة فينبئها بأنها هجرته؛ لأنها لم تكن تحبه هو، وإنما كانت تحب مركزه السياسي، فلما ترك هذا المركز انصرفت عنه، وقد ذكر الكتب حين ذكرت هذه المرأة، فهو يسأل عنها وينبئ أنه أقبل وهو يفكر في استرجاعها، فتشعر «ماري تريز» بأنه لم يئوها إلى المستشفى ولم ينفق عليها، ولم يقبل الآن ليراها، ولم يظهر لها الحب والمودة إلا لأنه يريد أن يظفر بهذه الكتب التي تعرض مستقبله السياسي للخطر. تقوم متثاقلة إلى مكتب فتخرج منه الغلاف وتفضه وتستخرج ما فيه من الكتب فتمزقها، وتلقي بها في النار، ثم تطلب إلى صاحبها في رفق ودعة أن ينصرف، فهي لا تريد أن تتبعه ولا تستطيع أن تتبعه؛ وإن خارج هذه الحجرة لشابا هادئا مخلصا متواضعا قانعا، يحبها ولا يطلب على حبه أجرا، وما أشد حاجتها إلى أن تعيش مع رجل يحبها ولا يرجو منها شيئا. يلح عليها صاحبها إلحاح المتكلف في أن تتبعه، فإذا أبت عليه انصرف مستخزيا، وأقبل «دنيال» فتلقته في لطف ورفق، وطلبت إليه في لهجة الواثقة أن يعينها على أن تعيش.
يونيو سنة 1924
المذهبان
فكاهة تمثيلية للكاتب الفرنسي «ألفريد كابو»
نعم فكاهة، وأظن أن الوقت والجو والظروف التي نعيش فيها منذ حين تجعل حاجتنا إلى الفكاهة شديدة، وتزهدنا في الجد قليلا أو كثيرا. فلنتفكه، ولنأخذ بحظنا من اللهو البريء، مجتهدين في ألا يخلو هذا اللهو من عظة وعبرة، ولكني محتاج قبل كل شيء إلى أن أعترف بحقيقة كنت أحب ألا أعترف بها، وكنت أستطيع ألا أعترف بها، لولا أني أخذت نفسي بألا أخدعك فيما أكتب، وبأن أظهرك في وقت واحد على نفس الكاتب الذي أحلله، وعلى نفسي أنا أيضا وقت التحليل؛ فأنا لا أنتقب أو أستتر حين أتحدث إليك، وإنما أظهر كما أنا، وأتحدث إليك صادقا مخلصا، وإذن فأنا مضطر إلى أن أعترف بهذه الحقيقة، وهي أني قد لا أبلغ من تفكهتك وتسليتك ما أريد ولا ما تريد؛ لا لأني لا أجد بين الآثار التمثيلية الفكاهية ما تبلغ من التفكهة والتسلية أقصاها؛ فأنا أجد من ذلك أكثر مما أطلب، بل لأن عهدي بهذا الفن حديث، فلم أحلل قبل اليوم فكاهة تمثيلية. وأحسب أن اللغة العربية التي أحب أن أصطنعها في هذه الفصول لا تسع في سهولة ويسر هذه الألوان من العبث الأجنبي، فلا بد من جد، ولا بد من جهاد لأستطيع أن أوفق بين اللغة العربية وبين عبث الفرنسيين وغير الفرنسيين. وكم من فكاهة تمثيلية قرأتها فاستغرقت لها في الضحك، وسعدت بها يوما أو بعض يوم، ووددت لو استطعت أن أوثر القراء بشيء من هذا اللهو، ولكني أعرضت عن ذلك عجزا وقصورا!
وليس يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هناك عقبات أخرى تحول بيني وبين ما أريد من إظهارك على هذه الناحية المبتسمة من التمثيل الأجنبي والحياة الأجنبية، وأهم هذه العقبات اختلاف الأخلاق في الشرق والغرب، وتباين ألوان الحياة فيهما، فنحن قوم نؤثر الجد على الهزل، أو قل نؤثر العبوس على الابتسام، فإذا لهونا - ونحن نلهو كثيرا - فنحن نختلس اللهو اختلاسا، ونسترق العبث استراقا، ونشعر حين نلهو ونعبث بأنا نأتي أمرا غير مألوف ولا مباح؛ فنحن نعبس حتى حين نلهو. أما الغربيون، وبخاصة الفرنسيون، فليست حياتهم جدا كلها، وليست حياتهم لهوا كلها، وإنما هم يجدون ويلهون، ويستفيدون من الجد كما يستفيدون من اللهو، ويعلمون أن الجد عليهم واجب، كما يعلمون أن اللهو لهم حق، فهم لا يتسترون ولا يستخفون ولا يتحرجون، إلا أن يأتوا منكرا من الأمر لا يبيحه خلق ولا نظام. هم أحرار، يفهمون الحرية ويستمتعون بها خيرا مما نفهمها نحن ونستمتع بها، ومن هنا كانت حياتهم أيسر احتمالا وأكثر إنتاجا من حياتنا.
ومع هذا كله فسأجتهد في أن أحلل لك طائفة من الفكاهات التمثيلية، لربما عدا بعضها طور المألوف مما تقرأ وتسمع، وهل علي في ذلك بأس وأنا قبل أن ألهيك أريد أن أظهرك على نحو من أنحاء الأدب الغربي له خطره ومكانته؟! وهل منعني مجون أبي نواس وأصحابه أن أحدثك عن أبي نواس وأصحابه؟!
فلنجرب إذن هذا النوع من التمثيل، ولست أطلب إليك إلا شيئا واحدا، وهو أن تعذرني إذا لم أبلغ رضاك، فلعلي أوفق لأن أبلغه بعد قصة أو قصتين.
أما قصة اليوم ففكاهة لا تخلو من جد، ولست أقدم بين يديها المقدمات، فهي لا تحتاج إلى شيء من ذلك، وإنما أريد ألا تبحث فيها عن الظهر في الساعة الرابعة عشرة، كما يقول الفرنسيون، وألا تلتمس فيها فلسفة عميقة أو شيئا من العجب، فليس فيها من ذلك شيء. •••
نحن في باريس، في بيت أسرة مثرية شابة، تأتلف من زوجين: أحدهما موبران وهو محام، ولكنه قد أهمل مهنته وانصرف عنها إلى لهوه وعبثه، فهو غني لا يحتاج إلى أن يكسب حياته، وهو رجل غزل مشغوف بالنساء، ضعيف لا يستطيع أن يقاوم امرأة ولا أن يثبت لنظرة.
والآخر «هنرييت»، وهي امرأة شابة بارعة الجمال راجحة الحلم خفيفة الروح، تحب زوجها حبا شديدا، ولكنها قد ضاقت بخياناته التي اتصلت أعواما والتي لم ينقضها عفو ولا ألم.
فإذا رفع الستار رأيت زائرة تتحدث إلى الخادم تسألها عن سيدتها، فتجيب أنها خرجت، فتسألها عن سيدها فتجيب أنه خرج، فتسألها: أيهما خرج أولا؟ فتجيب: هي السيدة. ويقبل زائر يجب أن نذكر اسمه؛ لأنه من أبطال القصة، «لوهوتوا» وهو مستشار في مجلس الدولة، جاد لا يحب اللهو ولا يميل إليه، صادق، دقيق، منظم الحياة، يتحدث إلى الزائرة فنفهم من حديثه أنه أحب «هنرييت» وأراد أن يقترن بها فرفضت، ولكنه قد حفظ لها الحب والوفاء.
وهما يتحدثان إذ تقبل هنرييت مضطربة حادة المزاج لا تكاد تملك نفسها، فما هي إلا أن تحاور زائريها حوارا قصيرا حادا حتى تصرفهما عنها؛ لأنها لا تريد أن تتحدث إلى أحد الآن؛ فهي مشغولة البال بأمر سيعلمانه بعد حين. ينصرفان ويأتي أبواها، وكانت قد دعتهما لزيارتها، ولا بد من أن نقدمهما إليك في إيجاز.
أما الأب وهو «جولان» فرجل متوسط السن يظهر عليه الجد وشيء من الاستقامة، ولكنه ليس من الجد في شيء، وإنما هو رجل يحسن التكلف، وأما الأم فامرأة من الجيل القديم محافظة، لا تخلو من ذكاء وفطنة، ولا يكادان يتحدثان إلى ابنتهما حتى تنبئهما في حدة وغضب مضحكين أنها قد اعتزمت الطلاق، فإذا سألاها عن ذلك، قصت عليهما خيانة زوجها إياها وإسرافه في الخيانة. أما الأم فتكره الطلاق لأنها محافظة، وأما الأب فيكره الطلاق لأنه يحب صهره، وقد أقنعتهما هنرييت بأن زوجها يخونها، وأنها احتالت حتى رأته منذ حين يدخل مع خليلته بيتا اتخذه للهو، وهذه الخليلة صديقة لها، ومع ذلك يلح عليها أبوها في أن تعدل عن الطلاق. أما الأم فترى أن كرامة المرأة وسعادتها ليستا في أن يكون زوجها وفيا لها؛ بل في أن تعتقد أن زوجها وفي لها، ويجب عليها أن تجهل خيانة زوجها، فإذا علمت بهذه الخيانة وجب عليها أن تتجاهلها، فإذا لم تستطع وجب عليها أن تزدري زوجها وألا تسأله عن شيء، وهي تقيم الأدلة على صدق هذا الرأي وتبحث عن هذه الأدلة في حياتها الخاصة؛ فانظر إليها تحدث ابنتها بما كان من عبث زوجها الشيخ منذ عشرين سنة مع خادم أحد الفنادق، وكان الشيخ يحسب أن امرأته تجهل هذا العبث، وانظر إليها تحدث ابنتها عن عبث زوجها الشيخ مع امرأة قروية منذ سنين، ثم مع امرأة من أهل باريس منذ يوم أو يومين، والشيخ يسمع هذا كله فيتلقاه في اضطراب وخجل مضحكين.
ثم يحاول الشيخ أن يقنع ابنته بالعدول عن الطلاق؛ فزوجها ظريف خفيف الروح حلو الحديث، قد يخطئ كما يخطئ غيره من الناس، ولكنه قد يعدل عن هذا الخطأ. وهو يكره هذا الطلاق؛ لأنه يحب صهره حبا شديدا؛ فهما يأكلان معا ويتنادمان ويتعلمان معا فنون النضال، وقد أقبل الزوج فتنبئ هنرييت أمها بأنه سيكذب عليها عشر كذبات في خمس دقائق، ولا تكاد الأم تتلقى الفتى حتى يبدأ في كذباته وهو يكذب وزوجه تحصي عليه في أذن أمها؛ يزعم أنه سعيد بلقاء حمويه، وأنه كان يريد أن يزورهما الساعة لولا ... فتهمس هنرييت في أذن أمها: الكذبة الأولى. وما يزال يكذب وتحصي حتى يبلغ العشر، فلا تتمالك هنرييت أن تقول بصوت بصوت عال: العاشرة. فيسألها زوجها: ماذا تقولين؟ تجيب: لاشيء!
ثم يخلو الرجلان، فيأخذ الشيخ في لوم صهره وتأنيبه، وهو يرى أن خيانة الزوج إثم، ولكن الرجل قد يضطر إليه، وإذن فيجب عليه أن يتحفظ ويحتاط حتى لا تجد امرأته عليه سبيلا، فليس الإثم حقا في الخيانة، وإنما هو في الألم الذي تجده الزوج حين تشعر أن زوجها قد خانها، وهو نفسه قد تحفظ واحتاط، فخان زوجه أثناء ثلاثين سنة دون أن تعلم ودون أن تشقى ودون أن يحتاج هو إلى الاستعطاف أو الاعتذار، ثم يذكر لصهره أمر امرأة تعنيه وهي زوج مجلد الكتب الذي يجلد له كتبه، خاصمت زوجها وتريد الطلاق، ولكنها تجهل القانون، وقد وعدها أن يجد لها محاميا يعينها، ونفهم من هذا الحديث أن الشيخ يحب هذه المرأة البائسة، وقد قبل صهره أن يعنى بأمرها، فسر الشيخ، ووعده بأن يزيل ما بينه وبين زوجه من الخلاف. وتقبل امرأة المجلد واسمها «أستيل»، فإذا جمال وسذاجة وخفة وروح، وإذا هي مدينة للشيخ بكل شيء، تحسب أن الرجل يحسن إليها ابتغاء مرضاة الله وتشكر له ذلك، ويألم الشيخ لهذا، ولكنه يخفي ألمه، فإذا خلت إلى الصهر أخذت تقص عليه أمرها في سذاجة ودعابة لم تلبثا أن تفتناه، فإذا هو ميال إليها مشغوف بها، ولكنه يجاهد نفسه ويمانعها، يريد ألا يضيف خيانة إلى خيانة، ولكن هذه المرأة جميلة فتانة، والرجل ضعيف لا إرادة له، وانظر إليها تقص عليه في وداعة وسذاجة أنها ذهبت إلى العرافة فنظرت في يدها، وأنبأتها بأن في يدها خطا يدل على أن زوجها سيخونها، وكانت لا تصدق ذلك، ولكنها اضطرت إلى تصديقه، وهي تعرض يدها على المحامي وتدله على هذا الخط، وقد أخذ المحامي يدها وأخذ ينظر إلى الخط، لكن هذه اليد لطيفة، فهو لا يستطيع أن يتركها، وإذا هو يداعب المرأة، وإذا المرأة تقبل دعابته، وإذا هو يعرض عليها أن تكون له خدنا فتقبل مبتهجة.
ويدخل الشيخ فلا تلبث المرأة أن تنبئه في سذاجة أيضا بما كان بينها وبين المحامي من اتفاق وتنصرف. والشيخ مغضب محنق يوجه إلى صهره مر القول! ألم يكن منذ حين يتوسل إلى ابنته في أن ترضى وتعدل عن الطلاق! كان هو يفعل هذا وكان صهره يدبر خيانة أخرى، ونحن نفهم أن الشيخ لا يغضب لخيانة ابنته، وإنما يغضب لهذا العدوان الذي حرمه صاحبته، وتقبل هنرييت وقد رفضت الصلح وأصرت على الطلاق، فيكون بينها وبين زوجها حوار بديع، ويستعطفها ويعتذر إليها فلا تعطف ولا تقبل عذرا، وهو صادق في اعتذاره؛ فهو لا يخون امرأته عن عزيمة وإصرار، وإنما يضعف أحيانا، ويتورط أحيانا، ويخشى أن يتهم بالجفوة والغلظة أحيانا أخرى، فيأتي ما يأتي من الإثم، وهو يريد أن يمنع زوجه من ترك البيت، ولكن امرأته صادقة العزم على الرحيل، وقد أمرت خادمها بالاستعداد له، وأقبل أبواها فهي تنبئهما بذلك، وإذا الزائرة التي رأيناها في أول الفصل قد عادت مبتهجة تنبئ بأنها زارت فلانة فعرفت عزمها على الطلاق أيضا، فتقول هنرييت: وخبر ثالث تستطيعين أن تذيعيه هذا المساء؛ وهو أني أيضا قد اعتزمت الطلاق. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في أحد المطاعم العامة التي يختلف إليها أهل الثراء والترف، والمطعم مزدحم بالذين يريدون أن يشهدوا التمثيل، فهم يطعمون بالقرب من الملاعب، ومن بين هؤلاء الناس «موبران» ومعه زوج المجلد التي اتخذها خليلة له في الفصل الأول، وقد تم الطلاق بينه وبين هنرييت منذ عشرة أشهر، وهو يتحدث إلى صاحبته، ولكنها كئيبة ضيقة الصدر تجيبه في عنف وغلظة، فإذا أقبل الخادم يسألهما عما يريدان أجابت هي أنها لا تريد شيئا ولا تشتهي الطعام، ولكن صاحبها لا يكاد يطلب إلى الخادم لونا من الألوان حتى تستزيد من هذا اللون، ولا يكاد يفرغ من طلبه حتى تضيف إليه ألوانا أخرى، وهي مع ذلك لا تريد شيئا ولا تشتهي الطعام، فإذا أقبلت الألوان أكلت وأسرفت في الأكل، ولكنها ليست جائعة ولا مشتهية للطعام! وهي في أثناء هذا كله تتحدث إلى صاحبها فتثقل عليه وتسوءه، وكان هذا الرجل لا يستطيع أن يرضيها في شيء، ولكنا نفهم من هذا الحديث أن سلطانها عليه عظيم، وأنها استطاعت أن تحول بينه وبين مرضه، فلم يخنها مرة واحدة في عشرة أشهر، وهما كذلك إذ تقبل هنرييت ومعها أبواها يريدون أن يطعموا ويذهبوا إلى دار التمثيل، وما هي إلا أن تراهم «أستيل» فتنبئ صاحبها، فإذا هو مضطرب، ولست أستطيع أن أصف لك الحركات المضحكة التي يأتيانها ليتبينا هؤلاء المقبلين دون أن يظهر منهما ذلك.
وقد جلس القوم، وما هي إلا أن عرفوا مكان موبران وصاحبته، فأما الأبوان فاضطربا، وأما هنرييت فابتسمت لأنها لا تكره زوجها القديم، وإنما ترى أن الحياة معه لا تلائمها وقد افترقا، فليس ما يمنع من أن يلتقيا كما يلتقي الأصدقاء، وما هي إلا أن تبودلت التحية بين الفريقين.
ولكن رجلا آخر يقبل وهو «لوهوتوا» الذي رأيناه في الفصل الأول وعرفنا أنه يحب هنرييت، وما زال يحبها، فلما كان الطلاق استأنف الأمل وخطب هنرييت فقبلت الخطبة، فإذا أقبل ورأى الزوج القديم غاظه ذلك، فهو محنق، له ألفاظ وحركات تضحك، ولكن هنرييت لا تحفل بألفاظه ولا حركاته وإنما تضحك، فإذا رأت إلحاحه غضبت وكلفته أمرا فينصرف له، وقد انصرفت كذلك «أستيل» فانضمت إلى نفر من أصحابها في المطعم، واتصل الحديث بين هنرييت وأبويها وزوجها القديم؛ لأن الخادم أخطأ فدفع إلى الأب حساب الزوج وإلى الزوج حساب الأب. اتصل الحديث فانتقل الزوج إلى مائدة الأسرة وجلس يشاربهم ويحادثهم، ثم يعود «لوهوتوا» فلا يزيده ذلك إلا غيظا، فتشفق عليه المرأتان وتنصرفان معه إلى الملعب ويبقى الشيخ لحظة على أن يلحق بهم بعد أن يتم الحديث، ولكنه لا يلحق بهم، فقد أخذ يذكر الأيام الأولى، وانضمت إليهما «أستيل» فنسي زوجه وابنته وخطيبها وقضى الليل في لهو وعبث. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في بيت الأب في الساعة الرابعة بعد الظهر، وهو متعب يتحدث إلى أستاذه في السلاح بما أنفق فيه ليله من لهو، فإذا أقبلت زوجه - ولم تكن رأته منذ المطعم - أنبأها بأنه أمضى الليل في أمر هام سيغل عليه أرباحا كثيرة، فتجيبه بأنها لا تريد أن تعلم من أمره شيئا وإنما أقبلت تسأله أيريد الشاي. ونفهم من حديثه مع امرأته أنه يريد أن يصلح بين ابنته وزوجها القديم، وهو يفكر في ذلك ويلتمس له الحيلة، فتحاول زوجه أن تصرفه عن هذا، أليس الطلاق قد تم؟! أليست ابنتهما تريد أن تستأنف حياتها مع رجل آخر؟!
ولكن الشيخ يحب صهره القديم، ويكره صهره الجديد، ويرى أن ابنته لن تكون سعيدة معه، وهو في حقيقة الأمر لا يحب إلا نفسه، ولا يريد إلا أن يصل إلى «أستيل»، وتقبل هنرييت فتتحدث إلى أمها، فإذا هي مضطربة مترددة، تحب زوجها القديم؛ لأنه شاب جميل مبتهج فيه نشاط وخفة، وتحب خطيبها؛ لأنه رجل جد وثقة ووفاء تستطيع المرأة أن تطمئن إليه، ولو أنها خيرت لاختارت أن تقضي النهار مع خطيبها والليل مع زوجها القديم. تسخر منها أمها لأنها تطلب محالا، وليس للمرأة مطمع في السعادة الكاملة، وإنما الخير في أن تعتزم أمرا وتمضي فيه.
ثم تنصرف المرأتان، ويستعد الشيخ لدرسه، وإذا صهره القديم قد أقبل، فيتلقاه فرحا مسرورا، واستأنفا ما كانا قد تعودا من نضال وحديث، حتى إذا فرغا من التمرين أشار الشيخ على صهره أن يذهب إلى الحمام كما كان قد تعود، فيقبل بعد تردد ، ولا يكاد يستخفي حتى تأتي هنرييت تحمل الشاي إلى أبيها، وهي تحدثه إذ يظهر زوجها القديم، ويحتال الشيخ في الانصراف، فيخلوان ويتذكران أيامهما الأولى، فإذا هي تحب زوجها، وإذا زوجها قد بدأ يحبها الآن، وما يزالان يمضيان في الحديث حتى ينتهيا إلى الاضطراب والتأثر، وإذا هو يجذبها إليه، وإذا هي تنجذب، ولكنها تملك نفسها في اللحظة الأخيرة فتوسعه لوما وتأنيبا، وتعلن إليه أن ليس إلى استئناف الحياة معه من سبيل، فيخرج محزونا وقد أعلن إليها أنه يألم لهذا الفراق حقا، ولا يكاد يخرج حتى تقول هي: ومن سوء الحظ أني سأقترن بالآخر! •••
فإذا كان الفصل الرابع، فنحن في بيت الخطيب وهو يقرأ رسالة وصلت إليه من «أستيل» تنبئه فيها بأنها رأته يوم كذا في المطعم، وتريد أن تستشيره في أمر هام ستراه بعد ساعة، وهي تأمل أن يلقاها، يدهش لهذا الكتاب، ولكن الزوج القديم قد أقبل يزوره، فيسأله: أحقا أنك ستتزوج هنرييت؟ - نعم. - فأنا ألح عليك في ألا تفعل! - ليس هذا من حقك! - بلى! لأني أحبها! - وأنا أيضا أحبها! - كلا! أنت لا تحبها، ولا تستطيع أن تحبها، بل لا تستطيع أن تحب! - ولماذا؟ - لأنك رجل منظم منصرف إلى الدرس، أنفقت حياتك كلها في الجد، لم تقترف إثما ولم تبدد ثروتك ولم تحزن أهلك، ومن لم يفعل شيئا من هذا فليس خليقا أن يحب. - ولكني سأتزوجها! - وإذن فأنا أعلن إليك أني سأنفق حياتي في طلبها والإلحاح عليها بحبي!
ثم يغضبان، وينصرف الزوج القديم، وتأتي هنرييت فرحة مبتهجة تعرض على خطيبها ألوان الأثاث الذي يتخذانه لبيتهما الجديد، ولكنه يلقاها ثائرا يغلي، ويعلن إليها أنه يحبها. - أنا أعلم ذلك. - كلا إني أحبك حبا لا تعلمينه، حب من لم ينفق حياته في الدرس بل في اللهو، سأقترف الآثام وسأبدد ثروتي، وسأحزن أهلي، سأحبك كما ينبغي أن أحبك. - ولكنك تعرض علي ما لا أريد، فلم أقبل خطبتك إلا لأنك هادئ مطمئن جاد منظم. - ليس هذا هو الحب، أتحبينني أنت؟ - إن لم أكن أحبك فأنا أميل إليك. - ليس هذا هو الحب! - وأنا أجلك. - ليس هذا هو الحب! - ويسعدني أن أكون لك زوجا. - ليس هذا هو الحب!
فتنبئه بأنها تعرض عليه ما تملك، فإن قبله فذاك وإلا فلا زواج، فيقبل، ويتفقان على لون الأثاث، وتنصرف هنرييت، وتقبل: «أستيل» فيلقاها في جلال ووقار، ويسألها عن أمرها، فتقص عليه ما كان من خيانة زوجها إياها، ومن حياتها مع زوج هنرييت، وتنبئه في سذاجة وطفولة أنها قد قطعت الصلة مع خليلها، وأنه يعرض عليها مالا، فهي تريد أن تستشيره أتقبل هذا المال أم ترفضه، فإذا ظهر عليه الارتباك أنبأته بأنها ذهبت إلى العرافة وعرضت عليها يدها فأنبأتها العرافة بأنها ستتزوج رجلا من أهل القضاء، وسيكون لها منه ثلاثة أولاد، ثم قدمت إليه يدها اللطيفة لتدله على الخط، فإذا نظر في الخط لم يسهل عليه أن يرد هذه اليد، ولا ينبغي أن ننسى أنه يريد أن يأثم، وأن يبدد ثروته، وأن يحزن أهله. وتحس المرأة منه ذلك، فتعلن إليه أنها تحبه، وأنها تريد أن تقبله، والرجل مضطرب أمام هذا الهجوم الغريب، وإذا المرأة قد وثبت إليه فقبلته وجلست على فخذيه، وفتح الباب فإذا هنرييت! أما «أستيل» فنهضت وانصرفت مسرعة، ولا أحدثك عن غضب هنرييت، وما يصيبها من اليأس وخيبة الأمل. ويحاول صاحبها أن يعتذر، فإذا هو يعتذر بنفس ما كان يعتذر به زوجها القديم من أنه تورط وكره أن يوصف بالجفوة والغلظة. - إذن فكلكم سواء، وإذا كان هذا شأنك أنت فليس لي أن ألوم الآن زوجي القديم، علي أن أعتذر إليه، وهنا يقبل الزوج القديم فيلقاه الخطيب مغضبا. هو يقول: تعال فإنها تريد أن تعتذر إليك. ويهم بالانصراف فيهمس الزوج القديم في أذنه: إن أستيل تنتظرك في العربة. ينصرف ويجثو الزوج القديم أمام هنرييت ضارعا مستعطفا وقد عفت عنه.
وهما يعتنقان إذ يدخل الأبوان؛ أما الشيخ فمبتهج لأنه قد ظفر بما كان يريد، وأما الأم فمضطربة أمام هذا الأمر الواقع: أملائم هو للأخلاق أم غير ملائم؟ ولكن ما أسرع ما تنتهي إلى الجواب! هي محافظة مؤمنة لا تعترف بالطلاق، وإذن فما زالا أمام الله زوجين.
يونيو سنة 1924
السلام الحي
قصة روائية بقلم «بول رينيه»
تلك قصة كتبت بعد الحرب الكبرى، ونشرت على الناس في هذا العام، ولكل ما كتب بعد الحرب الكبرى طابع يمتاز به؛ ذلك هو اضطراب الذهن وعدم استقراره، ومهما يكن الكاتب أو المفن مؤمنا بالنظرية التي يريد إبرازها للناس فهو عرضة دائما لأن تغشى على فكرته الحين بعد الحين سحابة ولو شفافة، تبدو من خلالها هذه الحرب التي لم تضع بعد أوزارها، والتي لا تزال مستعرة الأوار بين الفكرة والعاطفة والشهوة، وإن شئت فقل بين الإيمان والتجريد والعلم، وذلك طبيعي بعد إذ قلبت الحرب النظم الاجتماعية، فأفسدت بمقدار عظيم فوارق الطبقات القديمة، بما أغنت من فقراء وأفقرت من أغنياء، ورفعت من وضيعين ووضعت من ذوي الرفعة، وبما غلبت به قوة الساعد على حكمة العقل، وترهات الساسة على منطق الحكماء.
ولهذا الانقلاب الاجتماعي أثره في الفن والأدب، وله كذلك أثره في العلم والفلسفة، فأنت قل أن تجد اليوم الحكمة المطمئنة إلى ما أثبت العلم وحده، وقل أن تجد الفن أو الأدب الصادر عن فكرة عميقة ممتلئة بها نفس الكاتب أو المفن، بل يغلب أن تختلط بحكمة العالم مظاهر التجريد أو الإيمان، وأن تضطرب في نفس المفن فكرته فتختلط بأكثر من نقيض من نقائضها؛ ولذلك قل أن تجد اليوم في منشآت العلم والأدب والفن ذلك الصفاء الذي كنت تجده قبل الحرب، وإن كنت قد تجد فيها أكداسا من الثروة الذهنية التي لم تعرف من قبل ثم لم تستقر بعد إلى نظام.
وقصة «السلام الحي» خاضعة لهذه الظاهرة كل الخضوع، وإن يك كاتبها قد جاهد نفسه، فنزع بمقدار إلى ذلك النوع من القصص البسيكولوجية التي تصف حياة نفس وتحلل مشاعرها وآثار الحياة فيها وآثارها هي في الحياة.
هذا النوع من القصص البسيكولوجية يجب لكماله الفني أن يكون غير ذاتي، بأن يضع الكاتب نفسه من النفس التي يحللها موضع العالم من أي مظهر حيوي أو غير حيوي، فيلاحظ ويسجل مشاهداته عنه، وقد حاول «رينيه» أن يقف هذا الموقف، لكنه - وهو متأثر بفكرة خاصة هي: أن لا سلام إلا في حمى الله والدين - قد جعل من غاياته إثبات هذه الفكرة في قصته، بل هو قد جعل هذه الفكرة غاية قصته. وقد اضطر لذلك أن يكون ذاتيا، فاضطرب وأخفى اضطرابه تحت وابل من الألفاظ، ويخيل إلينا أن هذه الفكرة ليست ثابتة في غور نفسه، بل هي فكرة طارئة عليه أو غير متمكنة منه؛ لأنه - برغم كثير من الملاحظات الدقيقة والمشاهد الأخاذة بالنفس والأوصاف الحية التي تتجلى في كثير من مواضع قصته - لم ينجح في بلوغ غايته، ويكفيك مقنعا بهذا أنه لم يصل ببطلة روايته إلى حمى الله إلا بعد أن كدس فوق رأسها كل صور الأهوال والأرزاء، وبعد أن كرهت كل صور الحياة، ثم لم يفتح عليها بشيء من السعادة، و«من السلام الحي» إلا في اللحظة التي كانت تلفظ فيها آخر أنفاسها، حين اشتملتها الغابة جوف الليل وغطتها الثلوج التي عاقتها عن الحركة ومنعت عليها أن تبلغ حمى الحياة. •••
وبطلة هذه الرواية هي لورنس داسلييه، وهي فتاة لم تؤت حظا من الجمال، وإن كانت ذات ذكاء وعلم، وكانت تقيم في فونتنبلو مع أبيها بول داسلييه ومع ابنة عم لها تدعى أرسيل، وكان أبوها ضابطا من ضباط الجيش العظام، ولد في سيدان، فظلت ذكرى حرب السبعين وما أصاب فرنسا بسببها من ذلة حاضرة في ذهنه آخذة بنفسه مالكة عليه كل عواطفه؛ لذلك كان أكبر أمله أن يرى يوما تنتقم فيه فرنسا لنفسها، وتمحو عن جبينها أثر الذلة وتسترد الألزاس واللورين، وأن يكون في ذلك اليوم في مقدمة العاملين لمجد وطنه ولسعادته.
وكان للورنس أخ هو أندريه داسلييه، وكان أكبر هم بول أن يجعل من هذا الابن ضابطا عظيما مثله؛ كي يقف إلى جانبه يوم الصدام، أو يقف موقفه إذا لم ير بعينه هو ذلك اليوم. لكن أندريه لم يكد يتم دراسته حتى عكف على الأدب والشعر، ولم يبد أي ميل لإنفاق حياته بين صفوف الجيش، فغضب الأب لهذا، وانبت ما بين الرجلين، وأقام أندريه في باريس ينفق مما تركته له أمه ومما كان يفيده من عمله وصناعته، وتركت هذه القطيعة من سوء الأثر في نفس الأب ما همه وأحزنه، وزاد هذا الحزن في حدة طبعه، فكان شديدا مع ابنته، وكانت لورنس تلقى استبداده بشيء غير قليل من الثورة عليه، ولم تكن تجد من هذا الاستبداد ملجأ إلا في القراءة وفي مشاهد الطبيعة في غابة فونتنبلو، وفي وساطة ابنة عمها وساطة كان مقضيا عليها بالإخفاق أغلب الأحيان.
وإنهم يوما في المنزل إذ جاء خطاب من أندريه يبلغ أباه عزمه على التزوج من باريسية ذات أهل ومال، ويدعوه ويدعو أخته لحضور الزفاف. فبدا على الرجل شيء من الغضاضة، لكنه طلب إلى ابنته أن تذهب فأبت، فأمر فاختلفا، وخرجت الفتاة كئيبة مغضبة، وأرادت «أرسيل» أن تجد الوسيلة لتزيل ما بينهما من غضب فذهبت مساعيها هباء، وزاد بلورنس الهم، ولم يكن لها أن تتعزى عن همها بمخالطة الناس ومعاشرتهم؛ فقد ورثت من أبيها الميل عنهم والزهد فيهم، وزادها حبها القراءة حبا للوحدة وبعدا عن الناس واعتدادا بنفسها. لكن النفس الإنسانية ضعيفة مهما تبلغ من القوة، وهي بحاجة دائما إلى عزاء تجده في الناس وفي مخالطتهم؛ لتتعزى عن ألمها بآلامهم وعن همها بمصائبهم. فإن لم تجد في ذلك ما يكفيها كان لها من الاشتغال بتافه شئونهم ما تنسى معه ذاتها حينا، ونسيان الذات خير طب لدواء النفس الكليم.
لم يكن للورنس في فونتنبلو أصدقاء غير مدام هلر وابنتها أوديت، وكانت تحب أمها حب عبادة، ولقد كانت ليتسيا هلر ذات جمال بارع، وحديث فتان، وسحر يخضع له كل طيب القلب وكل ذي غفلة وكل رغوب في الجمال. وبلغ من سحرها أن انتحر أحد ضباط الجزائر هياما بها، فكان ذلك سببا في نقل زوجها إلى فونتنبلو. وكانت ابنتها أوديت ذات جمال، لكنها كانت فانية الشخصية في أمها، فلم تكن تلبس إلا كما تلبس، أو تتزين إلا كما تتزين؛ فأضاع ذلك كل ما لجمالها من ثمن. لكنها كانت لا تزال طفلة غضة لما يجئ دورها لتكون فتنة الناظرين.
وعرفت لورنس «أوديت» في المدرسة، ومنها عرفت أمها، وعلقتها وهامت بها هيام كل فتاة بعيدة عن الناس ولم تؤت حظا من الجمال ولم يتملقها أحد ببارعة ذات دل وسحر، ولم يخفف من هيامها ما ألفت «ليتسيا» عليه من خفة وطيش لا اتصال بينهما وبين رزانتها وعلمها، وهل الحب إلا تكامل؟! فكفى لورنس ما عندها من رزانة وعلم وما في بيتها من قطوب وقسوة، لتجد في جمال ليتسيا وخفتها وطيشها وحبها الحياة ومسراتها موضعا لهيام لا يعدله هيام.
وبعد سنوات أربع من تعارف الفتاة والسيدة كانت دعوة أندريه أباه وأخته لحضور حفل زواجه، وكان الحوار الحاد بين الأب وابنته، وكان التجاء لورنس للغابة تحتمي فيها ثم عودها إلى منزل مدام هلر، وهناك بقيت زمنا تنتظر مقابلة صديقتها؛ لأنها علمت أن صديقا جديدا - هو الكونت دسران - قد ألف الحضور إلى هذا المنزل واطمأن إلى صاحبته.
ولم يطل أمد النزاع بين الأب وابنته فقد حضر أندريه ومعه عروسه وابنة عم لها إلى منزل أبيه، واستقبلهم الكولونيل في فتور بادئ الرأي، لكنه لم يلبث طويلا حتى شعر في نفسه بعطف على عروس ابنه، أما لورنس فقد ألفت جوليان وابنة عمها على غير ما يسيغه ذوقها؛ ألفتها من هذا الطراز الرقيق الحواشي المهذب الألفاظ الدائم الابتسام المعد بتربيته ليعيش مع سواه لسواه، لا مع نفسه ولا لنفسه، ووجدت الفتاة المنجاة من هم المقام بين جوليان وابنة عمها في الغابات وفي بيت مدام هلر. لكن البارعة ليتسيا، لكن هذه الجميلة الجذابة الهيئة المملوءة حبا وقسوة، كانت قد بدأت تشغل بحب جديد اتصل بينها وبين الكونت دسران، وحرصت على هذا الحب، فجذبت محبوبها إليها بما كانت تقيمه من حفلات أبعدت عنها لورنس، ثم استبدلت بهذه الحفلات خلوات كانت تخرج فيها مع حبيبها، فإذا عادت ذهبت إلى منزل داسلييه فقضت مع صديقتها الشابة زمنا ثم تركتها قائلة: «إذا رأيت أوديت في الدرس غدا يا عزيزتي فأدخلي في روعها أني أمضيت يومي كله من أوله إلى آخره في بيتكم.»
ولم تقف لورنس على حقيقة أمر هذه المرأة. لكن شكوكا بدأت تدب إلى نفسها: «ما بال هذه الفاتنة لنفسها وللناس لا تستقر على حال!» وكان من أثر هذه الشكوك أن جاهدت لكي لا ترى أوديت؛ حتى لا تكذب عليها في شأن أمها. لكن هذه الأم أعفتها من هذا العناء إذ انقطعت عن زيارتها، ثم ما لبثت الفتاة أن علمت بعد أيام أن ليتسيا الجميلة قد فرت مع الكونت دسران، بعدما انتشر خبر حبهما في فونتنبلو وتناقلته الألسن وامتلأت به الآذان.
وقع هذا الخبر على لورنس فأثار ألمها، وبلغ منها الهم، وهدها الحزن، وبكت على حب حسبته عزاء عن الحياة فولى بين أذرع حب ألذ وأشهى. وجعلت الفتاة تتلمس للفاتنة ليتسيا المعاذير عن فعلتها، والحب أعمى يزيده البعد وتزيده الغيرة عمى واضطرابا. لكن للحب دواء، هو الدواء لكل ألم، ولكل حزن ولكل لوعة، هو البلسم المبرئ والطب الشافي لكل جروح العاطفة؛ هو النسيان.
وعوض القدر لورنس أوديت عن أمها، وكانت الفتاة قد كملت شبابا وجمالا وزادها ما أصابها في أمها رزانة وكمالا.
لكن لورنس لم تكن قد خلقت في رأي مؤلف الرواية لتعرف صفاء في العيش أو نعمة في الحياة، فلم تك محنة تمر إلا لتعقبها محنة، ولم يك هم ينقضي إلا ليظهر في أثره هم جديد. لم يكد أبوها يطمئن إلى نفسه بعد سفر ابنه حتى كان ذات يوم مع ضباط من أمثاله يتذاكرون ما أصاب فرنسا سنة 1870، فرجا بول داسلييه أن تقوم حرب تمحو بها فرنسا ذلة الهزيمة وتسترد بها الألزاس واللورين، فسخر الضابط دوران من رجائه وقال هازئا: «ليس من حقنا نحن رجال الحرب أن نرجو الحرب إلا أن يكون من حق رجال المطافئ أن يرجوا شبوب النيران لإطفائها.»
وبهت داسلييه لما لقيته كلمة دوران من إعجاب الزملاء جميعا، لكنه لم يسلم لهذا الضابط الشاب، الذي كان يوما في الصفوف تحت إمرته ثم وصل من طريق الدسائس إلى أن صار مساويا له. فلما كانت أيام بعد هذا الحوار كان حوار آخر انتهى داسلييه فيه بأن أهان دوران قائلا: «خير لك أن تحطم سيفك، فهو لن يحدث ساعة الخطر إلا شرا ما دام قلبك لا يحتوي غير الجبن والهزيمة.»
وأسف داسلييه لهذه الحدة من جانبه، لكن لا بد مما ليس منه بد؛ لا بد من المبارزة بين الضابطين، لا بد أن يتقدم داسلييه، الذي كان يرجو في ابنه رجلا يخدم فرنسا، ليقتل أو ليجرح فرنسيا يستطيع أن يخدم فرنسا، وتبارز الضابطان وتمت الغلبة لداسلييه وجرح دوران، لكن داسلييه خر بعد ذلك مغشيا عليه وأصابه ذهول فحمى ظل يهذي على أثرها ستة أيام تباعا، وظلت لورنس إلى جانبه تعاني الهم والألم وترقب الحين بعد الحين ما يخبئه القدر من مصاب لها جديد.
وعاودت الصحة داسلييه وعاد إلى عمله. لكن دوران لم يغفر لخصمه انتصاره عليه، وللنفوس الدنيئة غرام بالانتقام الدنيء، فروج بين الناس أن ما أصاب داسلييه إنما هو مظاهر الجنون التي توشك أن تصيبه الحين بعد الحين، وأنه لم يجرح في مبارزة ولكن في نوبة، ولم يقف بهذه الأوهام عند فونتنبلو، بل أراد أن يستخدمها للقضاء على داسلييه كضابط، فاستخدم دسائسه في وزارة الحربية، وكادت تثمر وتصل به إلى ما يريد، وداسلييه! داسلييه الشهم الشجاع الطيب النفس والقلب، لم يكن له هم إلا الندم على ما فرط منه، وإلا التفكير في التوبة والتكفير.
وكان لداسلييه في باريس صديق قديم هو الضابط آريل، وكان كداسلييه شجاعا طيب النفس والقلب، وكان على الضد من داسلييه ممتلئ النفس من الإيمان بالله، فلما وقف على ما يروج حول صديقه في الوزارة من دسائس عمل لمحاربتها، ثم ذهب إلى فونتنبلو وقابل لورنس وتلطف في إخبارها بما يهدد مركز أبيها من خطر، وأنهى إليها أن خير ما يفعلونه إقناع بول بترك العمل ستة أشهر، ولكي لا يحس الرجل شيئا وكلوا الأمر إلى طبيبه المعالج الذي نصح له بعد رجائهم بهذه الراحة، فتردد داسلييه كثيرا، ثم انتهى بالموافقة وترك عمله حزنان أسفا.
وعمل الأسى في نفس هذا الضابط الشهم لتركه العمل، فانحدرت صحته وساورته الهموم، وانعكست آية همه على نفس ابنته، فبدأت تضمحل وبدأ يدب إلى شبابها وصحتها الانحلال، وكان آريل يتردد عليهم منذ بدء هذه المحنة مرة كل خمسة عشر يوما، وكان يجاهد خلال ذلك يريد أن يفسد دسائس دوران وصحبه، وكاد يوفق لولا أن سقطت الوزارة وجاء في الحربية وزير اصطفى دوران كاتم سر له، فعادت الدسائس. ولم يكن إلا أن يجدد داسلييه راحته سنة من جديد وأن يترك هو وأهله فونتنبلو إلى باريس، آملين أن يكون لجوها ولمجتمعاتها من الأثر في لورنس ما يعيد إليها شيئا من صحتها المنحدرة.
واتصل ما بينهم وبين أندريه وزوجه، وعالج الجميع تسلية لورنس. لكن الفتاة كانت قوية النفس، والنفس القوية إذا لم تتمكن من إخضاع الجماعة لحكمها ازدادت شعورا بين الجماعة بالوحدة، وكان ذلك حال الفتاة وحال أبيها، سرتهم باريس ومناظرها وجماعاتها حينا، ثم لم يكد يتم بينهم وبين باريس التعارف حتى بدأ عهد التقاطع والتنابذ وكان بول داسلييه أسرع من ابنته إلى هجرة الناس وإلى الاحتماء بالانقطاع وبالوحدة. وشعر بذلك أصحابه، فلم يروا إلا أن تتزوج لورنس حتى إذا عدا القدر على أبيها كان لها من زوجها أنيس يعينها في وعثاء الحياة.
وأخذت جوليان نفسها بتزويج أخت زوجها، فخرجت بلورنس من عزلتها إلى الصالونات والمجتمعات. ولم تجد لورنس بين الطامعين في يدها من الشبان إلا كل فج تافه لا وزن له ولا قيمة، وكل من ليس همه إلا ما لها من بعض الثروة، فأما ذوو الرأي فوجدوا في لورنس شخصا قوي النفس مستعدا للنضال، والرجل الطموح في الحياة لا يعنيه بعد أن يناضل الناس إذا اطمأن إلى أهله أن يجد نضالا جديدا في زوج ذات شخصية قوية؛ لذلك طال بجوليان الأمل، وطول الأمل مدعاة لليأس، فاستشارت جوليان رجلا من رجال المال كان يقوم بتدبير ثروتها وثروة زوجها، فيرد لهم من أرباحها ما يغنيهم عن التفكير للغد.
وكان مسيو هيكن هذا رجلا جاوز الخمسين، على جانب من قبح الوجه ورجاحة العقل ومرونة الضمير، طويل القامة، بارز العظام، ليس فيه شيء يحب، ولشد ما عجبت جوليان أن أبدى هذا العجوز لها ميلا للورنس وأن طلب يدها. حقا أن لكل ساقطة لاقطة لورنس يحبها هيكن! لكن عجب جوليان لم يطل، وأقنعت الفتاة بقبول التزوج من هذا الصديق، وقبلت لورنس على أن يكون صديقا، وانتهى بول داسلييه بالاقتناع وتم الزواج.
وذهب هيكن ولورنس يقضيان شهر العسل في الضواحي، وخيل إلى هذا الزوج المنحدر إلى غاية الحياة أن به بقية شباب، فأراد زوجه! فردته في قسوة، وظلت طول ليلها لم يغمض لها جفن، وصارحته أول ما طلع النهار أنهما تعاقدا على غير تفاهم، فخير أن ينحل عقدهما في غير ضجة. لكن رجل المال أظهر في مودة أنه نازل عند ما تريد زوجه، وكذلك كان. وعادا إلى باريس فكانا على مقامهما معا منفصلين تمام الانفصال.
أما بول داسلييه فقد تعزى بزواج ابنته عن هم الحياة زمنا. لكن عزاءه لم يطل، فقد أسلمته الوحدة إلى كل هموم الفراغ، وامتلأ خياله بذلك الماضي حين كان رجلا نشيطا قويا قديرا على خدمة فرنسا، وبما صار إليه اليوم من عجز واستسلام للأمراض التي لم يكن لها من سبب إلا امتلاء نفسه شعورا بأنه رجل فقد كل قيمة له في الحياة؛ لأن قيمة الرجال عنده إنما توزن بما يؤدونه في الحياة من عمل. وشغل بخياله هذا فكان له منه ألم في النهار وهم بالليل، ومضض في اليقظة وفزع في النوم، ثم لم يجد نفسه منه بمنجاة إلا مذ فكر في الانتحار.
وكانت لورنس تزوره كل يوم، وكانت تشهد تغير حاله وتحدثه لتقف على ما يكنه صدره، فلما أحست ما يدور في خلده جزعت واستحلفته إلا ما عاش من أجلها وحدها، فأقسم الرجل. لكن الفكرة كانت قد ملأت كل وجوده وأخذت عليه مسالك نفسه، فلم يكن يهتز فيه عصب أو تتحرك فيه عاطفة أو يفتر عن بسمة إلا كانت فكرة الانتحار صاحبة السلطان عليها جميعا. لذلك لم تمض على قسمه ساعات حتى نحر نفسه بموساه أمام المرآة وهو يتزين لاستقبال يوم باسم من أيام الحياة.
واستيقظت لورنس صباح ذلك اليوم باسمة مغتبطة بوعد أبيها. لكن غبطتها كانت قصيرة الأمد، فقد سمعت وهي في حجرة نومها شهيق البكاء وزفيره ينفذان إليها من غرفة مجاورة، فقامت في حذر تسترق السمع، فراعها منظر خادم أبيها منهدة يعلو صدرها ويهبط وقد ابتلت وجنتاها واختنق صوتها، ولم يطل بلورنس الشك، وما لبثت أن استيقنت الأمر فخرت مغشيا عليها، ولما أفاقت وذهبت إلى بيت أبيها رأت جثته الهامدة مضرجة اختلطت بالدم. وجاء من بعدها أخوها وزوجه وقابلاها وألفياها سيئة الحال مضطربة، لم تستطع الذهاب معهم إلى مقبرة العائلة لتشهد ساعة من تلك الساعات التي تختلط فيها الحياة بما بعد الحياة، حين تنزل إلى غيابات الرمس رفات عزيز راحل رحلة رحلة الأبد.
وعادت بعد أداء فرائض الحزن إلى حياتها مع زوجها، فاجتمع عليها في هذه الحياة هم لا هم بعده، وما شأنك بحزين ينقطع عن الناس لينغمس في بطون الكتب، تختلط سطورها أمام نظره، ويظل محدقا بالصحف، مأخوذا بحزنه عن كل ما تحتويه من صورة أو معنى، فإذا كان فيها ما يجذبه فذلك حزن يتجاوب مع حزنه، وأسى يحبب إليه أساه، ودموع عزيزة تجعل دموعه أعز عليه وأثمن عنده، فإذا طوى النسيان حرقة الهم أبقت الذكرى لوعة الشجن، وإذا انقضى عهد الألم واللوعة تجدد على أثره عهد الأمل المفقود والسعادة الذاهبة!
كان لهيكن ذو قرابة اسمه سيريل، وكان شابا ممن يحبون السفر ولهم به علم، وكثيرا ما عرض هذا الزوج المنبوذ أن يحدث بين زوجه وبين هذا الشاب التعارف، فكانت لورنس تعاف ما يعرض، وأغلب الظن أنها كانت تعافه لأنه هو الذي كان يعرضه، فلما باغتها المصاب بفقد أبيها كان «سيريل» وكانت أمه «مدام دكليه» ممن سارعوا إلى لورنس يعزونها. وأحسن الشاب الشاعر التحدث إلى نفس الشقية بكل ظروف حياتها، حتى لقد شعرت أنه أكثر من أخيها حزنا على أبيها، وأكثر من زوجها توجعا لمصابها. وتردد «سيريل» بعد ذلك عليها، ووجدت في تردده مخففا للوعتها، وأخذت نفسها بالقراءة في كتبها وكتبه، فألفته شابا ذكي النفس عظيم الهمة، وألفته إلى جانب ذلك حلو النادرة رقيقا، فهو لم يكن من صنف زوجها، ولا من صنف أخيها، ولم يكن من صنف هؤلاء الشبان الذين لا يقدرون للمرأة ثروة غير جمالها؛ فاتصل بينهما عطف، وربطت بينهما الصداقة بأوثق رباط.
وظل «سيريل» يزور لورنس، فتجد في زيارته من العزاء ما ينسيها ما بها من هم وألم، وظل يعالج الوصول إلى نفسها كي تتعزى عن مصابها، ولم تكن وسيلته لذلك يسيرة؛ فقد حاول أن يؤثر في هذه المرأة الشابة التي أمضت حياتها ثائرة على كل نظام؛ ليدخلها في حمى الله والدين. وكانت لورنس تستمع إليه؛ لأنها كانت تجد فيه صديقا صادقا، لكنها لم تكن لتسرع السير في الطريق الذي يريد بها أن تسير فيه؛ لأنه لم يكن طريق عقلها ونفسها.
وتوثقت عرى هذه الصداقة، ولم يصرف الشابة عنها صارف، فقد تركها زوجها حرة من كل قيد، ومد لها من حريتها؛ فلم يكن يضن عليها بمال، وليزيدها حرية، جاء إليها يوما فعرض عليها أن تمضي له توكيلا بإدارة أموالها، حتى لا تشغلها هذه الإدارة عن مطالعاتها وكتاباتها، فلم تتردد طويلا، وأمضت التوكيل فرحة بالخلاص من هم كان زوجها يجد الوسيلة لمضايقتها من سبيله.
ولم تمض على ذلك أسابيع، فإذا هيكن قد اختفى، وإذا دائنوه يبحثون عنه، وإذا الصحف تنشر أنه أفلس، وإذا لورنس وسيريل وأمه شأنهم شأن كثيرين ممن وثقوا بهذا الآفاقي، قد ضاعت أموالهم في مضارباته، وإذا هذا التوكيل حيلة أراد بها أن ينجو من مضايقات دائنيه، فذهب بمال زوجه وتركها صفر اليدين.
عالج سيريل حياة الكد، وعالجت لورنس سبل القصد، وباعد ذلك ما بين زيارات الفتى، فلم يهد الشابة فقرها بمقدار ما هدها انقطاع سيريل، ومباعدته بين زياراته. لكن ضرورات الحياة قاسية، فاضطرت لورنس آخر الأمر أن تقنع بالقليل الذي أبقته صروف الأيام لها من صديقها، مكتفية حين غيابه بتذكره في مراجعة ما كان يقرأ معها أيام النعمة، من النثر ومقاطيع الشعر.
وأعلنت الحرب، فالتحق سيريل بها بعد إذ كان بينه وبين لورنس وداع بدا عليها فيه ما يكنه قلبها من عطف بلغ الحب، وصداقة هي الهوى. وجمع غياب الفتى بين أمه وصديقته، فكانتا تتزاوران، وكانت كل منهما تجد في صاحبتها صورة هذا الواقف في صف القتال، تحت وابل القنابل ترعاه عنايتهما بعد عناية الله، وتجدان في كل كلمة يكتبها لهما ريح الحياة يمد في أملهما إلى أن تجئ منه كلمة جديدة تبعث الحياة إلى الأمل بعد إذ يضطرب، ويرتجف لما يتتابع على مسامع المرأتين من أخبار الموت.
وإن لورنس لفي بيتها يوما، إذ جاءتها من مدام دكليه كلمة، فيها «مات سيريل فاحضري.» ارتجفت يد الشابة، ولم تصدق نظرها، ولم تستطع أن تصور لنفسها موت أملها في الحياة.
وأسرعت إلى الأم، فإذا بيتها تعلوه أمارات الموت، فبقيت إلى جانبها زمنا كانت خلاله تلمح من كلماتها معاني الأمومة التي لم تعرفها صغيرة، وكانت دائمة التفكير في العالم الآخر - الذي طالما وصفه سيريل لها - دائمة الهيام به، والأمل في أن يكون حقا حتى تلقى هناك هذا الصديق الذي سمح لها في حياته القصيرة الأليمة أن تعرف شيئا من معنى السعادة.
لكن مدام دكليه شعرت بصحتها تتداعى تحت أحمال الهم، فرأت أن تهجر باريس وضواحيها إلى وسط فرنسا، حيث الجو صحو والهواء عليل. وهناك في أحد الأديرة وجدت غرفة استأجرتها بقية حياتها، فإذا كان اليوم الذي ودعتها فيه لورنس، ودعت لورنس معها الأمل في الحياة.
أكذلك يكون الناس؟ حتى مدام دكليه التي كانت ترى لورنس فيها أما تحنو عليها لم تحفظ لها عهدا، ولم تذكر كيف أوصاها ابنها بها! ومن قبل مدام دكليه كان الناس جميعا مواضع ألم لورنس. حتى مدام هلر، حتى هذه الجذابة التي فتنتها في صباها نسيتها، فلم تذكرها عند مصابها إلا بزيارة تافهة، خالية من كل معاني العطف والإشفاق! ألا ما أشد لؤم الناس!
لكن للورنس صديقا لن تنساه؛ هو الطبيعة؛ لذلك ذهبت يوم سفر مدام دكليه إلى فونتنبلو، وانحدرت من محطتها إلى الغابة، وكان يوما ماطرا ممتلئا بالثلوج، فوقفت إلى جانب هاته الأشجار التي عرفتها صديقة البأساء في شبابها، تستعيدها ذكرى الماضي، وتأمل فيها عزاء عما أثقل نفسها من هموم.
وغطت الثلوج الغابة، وانحدرت الشمس إلى المغيب، فعالجت لورنس الطريق فإذا السير عسير، وإذا الظلام يحول دون تعرف المسالك، وإذا الثلج قد كسا كل أثر، وإذا هذه الغابة الصديقة قد تجهمت فأصبحت عدوا لدودا، وإذا الوجود لم يبق فيه من صديق لهذه النفس المعذبة إلا ذكرى «سيريل» هناك في مجاهل الأبدية.
وتحت غطاء من الثلج نامت الشابة، تذكر في احتضارها البطئ هذا اللقاء السعيد في أحضان القدر، فلما أتى عليها الموت، كان قد أتى نفسا مطمئنة، كانت قد عرفت في الساعة الأخيرة أن لا سعادة ولا سلام إلا في حمى الله! •••
هذه قصة السلام الحي، وهذه وقائعها التي سردها المؤلف في أربعمائة صفحة، وهي كما ترى وقائع كثيرة، كلها الهم والحزن تكدس فوق رأس المسكينة لورنس، فلم تعرف خلالها سلاما إلا ساعة فارقت هذا العالم، ولعلك ترى الكاتب إذ نزع فيها إلى نوع القصص البسيكولوجي، قد تخطى كثيرا مما كان يجب لكمال هذا النوع، وربما عدنا لبيان ذلك في فصل آخر.
يوليو سنة 1924
القيثارة والجازباند
قصة تمثيلية للكاتبين الفرنسيين «هنري دوفرنوا» و«روبير ديودوني»
وربما كان لنا أن نضع لهذه القصة عنوانا آخر لا يترجم عنوانها الفرنسي ولكنه يوضحه ويجلي معناه؛ وهو «القديم والحديث»، بل ربما كان لنا أن نضع لهذه القصة عنوانا ثالثا يزيد عنوانها الفرنسي وضوحا وجلاء؛ وهو «ابنة باريس وابنة الأقاليم»، فكلا هذين العنوانين صادق، وكلاهما يعطيك فكرة موجزة ولكنها صحيحة من هذه القصة الجيدة قبل أن تقرأها وقبل أن تعبث بنفسك وتأخذ عليك هواك مواقفها المختلفة، ولكني لا يمكنني أن أدخل في تحليل هذه القصة قبل أن أقدم بين يديك مقدمة موجزة لا أرى منها بدا.
لم يضع الكاتبان الفرنسيان هذه القصة التمثيلية مباشرة، وإنما اتخذاها من قصة صغيرة كتبها أولهما على أنها أحدوثة فظفرت بفوز عظيم، كما ظفرت بهذا الفوز أحاديث أخرى لهذا الكاتب نفسه. فقد اختص هذا الكاتب أو كاد يختص بكتابة هذه الأحاديث القصار، يصف فيها الحياة الباريسية وصفا صادقا، ولكنه على صدقه خلاب، مؤثر، يستهويك ويملك عليك نفسك، حتى تنسى أنك تقرأ أحدوثة وتستيقن أنك تشهد الحياة. وقد اشتد الإعجاب بهذه الأحاديث القصار حتى وصفها النقاد بأنها آيات أدبية، وحتى أحس الكتاب والممثلون أن هذه الأحاديث القصصية التي ترسم الحياة رسما قويا صادقا شديد التأثير؛ خليقة أن تستحيل إلى حياة واقعة؛ أي خليقة أن تدخل ملاعب التمثيل، وأن تشهدها جماهير النظارة حية تتحرك وتنطق في الملعب، فأقبلوا على الكاتب يعرضون عليه معونتهم، ولم يكد الكاتب يقبل هذه المعونة ويرضى أن تحول أحاديثه إلى قصص تمثيلية حتى كان فوز هذه القصص التمثيلية عظيما، باهرا، ليس أقل خطرا من فوز تلك الأحاديث القصصية. ولن تكون هذه القصة التي أحدثك عنها اليوم آخر ما سأذكره لهذا الكاتب وأعوانه، بل سأحدثك بعد حين عن قصة أخرى أعانه على تحويلها إلى التمثيل الكاتب الفرنسي الكبير «موريس دونيه»، وهي القصة التي أستطيع أن أسميها «المثل» والتي تعنى بها باريس الآن عناية كبيرة.
إذن ففي الإمكان تحويل الأحاديث القصصية إلى قصص تمثيلية، وقد قام الدليل على ذلك فلم يصبح موضعا للشك، قام الدليل على ذلك، فحولت قصص مختلفة لكبار الكتاب الفرنسيين إلى التمثيل، وظفرت بالفوز الذي لا يقل عما لغيرها من القصص التمثيلية التي وضعت للتمثيل مباشرة. ونحن نشهد الآن انتشار هذه الظاهرة وقوتها، واشتداد الاتصال بين القصص والتمثيل، بل نشهد شيئا آخر أيسر من هذا وأهون، ولكن يعين عليه ويدني منه، وهو هذا التوسط الذي تقوم به السينما بين القصص والتمثيل، فكثير جدا من القصص النابهة وغير النابهة استطاع أن يدخل ملاعب السينما؛ أي إنه استطاع أن يقطع نصف المسافة التي تقع بين القصص والتمثيل، وهي تتألف من شيئين: أولهما الحركة، والآخر الحوار. وظاهر أن تحقيق الحركة الصامتة أيسر من تحقيق الحركة الناطقة، فإذا كان من اليسير أن تصبح القصة تمثيلا متكلما، وإذا كان التمثيل الصامت من ملاعب السينما لا يحتاج إلا إلى مهارة الممثلين، فإن التمثيل المتكلم يحتاج إلى شيء آخر؛ هو قدرة الكتاب الممثلين على أن يضعوا الحوار ويلائموا بينه وبين موضوع القصة من جهة، وبينه وبين التمثيل ومزاج النظارة من جهة أخرى.
مهما يكن من شيء فقد أصبح تحول القصص إلى التمثيل شيئا عاديا مألوفا. بل ماذا أقول؟ ليس في هذا شيء من الجدة؛ فالتمثيل ابن القصص منذ نشأته الأولى، وقد استطاع أن يستقل استقلالا قويا، ولكنه لن يستطيع في يوم من الأيام أن يبلغ الاستقلال المطلق.
التمثيل ابن القصص منذ نشأ في القرن السادس قبل المسيح، حين كان الشعراء الممثلون يلعبون فصولا يستمدونها من الشعر القصصي. ثم أخذ التمثيل يستقل، فجعل الشعراء الممثلون يأخذون معانيهم من الشعر القصصي وينظمونها في شعر يحدثونه، وتظهر فيه شخصيتهم القوية النابهة ويلائمون بينه وبين عصورهم ومعاصريهم. والتمثيل ابن القصص من القرن السابع عشر بعد المسيح، حين كان الشعراء الممثلون من الفرنسيين يستمدون موضوعاتهم من القصص أو التاريخ. والتمثيل ابن القصص من هذا العصر الحديث؛ لأن الكاتب الممثل قصاص قبل كل شيء، ولكنه يتخذ الحركة والحوار وسيلة إلى القصص. كل هذا واضح بين، ولكن شيئا آخر لا يزال غامضا عسيرا؛ لأنه يخالف طبيعة الأشياء؛ وهو تحويل التمثيل إلى القصص. على أني لا أريد أن أمضي في هذا البحث الفني، وإنما عرضت له مضطرا لألفتك إلى أصل هذه القصة التي اتخذتها موضوعا لحديث اليوم.
قلت إننا نستطيع أن نسمي هذه القصة «الحديث والقديم»، أو «ابنة باريس وابنة الأقاليم»، وإن هذين العنوانين إذا لم يترجما العنوان الفرنسي فهما يوضحانه توضيحا قويا، ومن الحق أن القصة كلها جهاد بين القديم والحديث، وجهاد بين ابنة باريس وابنة الأقاليم، ولكن موضوع هذا الجهاد ليس هو ما تعودناه من مظاهر الحياة الاجتماعية وفروعها المختلفة، يتنازعها القديم والحديث أو تتنازعها العاصمة التي هي مأوى الحديث، والأقاليم التي هي ملجأ القديم، وإنما موضوع هذا الجهاد هو الشعور الإنساني، أو قل - بعبارة جلية واضحة - موضوع هذا الجهاد هو قلب رجل تتنازعه امرأتان: إحداهما باريسية تمثل هذه الحياة الباريسية الحديثة وما تمتاز به من الضجيج والحركة العنيفة، ومن الاضطراب الشديد، والميل إلى كل جديد غير مألوف، والنفور من كل قديم غير مألوف؛ والأخرى فتاة من أهل الأقاليم ألفت هذه الحياة الهادئة المطمئنة، العاملة المنتجة في غير جلبة ولا ضجيج ولا عنف ولا اضطراب، ساذجة كالطبيعة التي نشأت فيها، صادقة كهذه الطبيعة أيضا، ولكنها كالطبيعة التي نشأت فيها قوية، صلبة، قادرة على المقاومة.
القصة جهاد بين هاتين المرأتين، وأظنك تشعر منذ الآن بأنها قيمة ممتعة، وذلك حق، ولكن شيئا آخر لا تستطيع أن تشعر به إلا إذا قرأت القصة في أصلها الفرنسي، وهو جمالها الفني الذي ليس إلى ترجمته من سبيل، فالقصة حلوة خلابة، خفيفة الروح، مبتسمة اللفظ والمعنى حتى في أشد الأوقات عبوسا وأعظم المواقف حرجا. تقرؤها فإذا أنت هادئ مطمئن، لا يزعجك من هذا الهدوء والاطمئنان إلا جمل تسمعها من حين إلى حين، فتستخفك حينا إلى الضحك، وتستخفك حينا آخر إلى الغضب والإشفاق، ولكنك لا تتجاوز الحد المعقول في الرضا والسخط، وإنما أنت مبتسم طول القراءة، وربما سقطت من عينيك دمعة في بعض المواقف، ولكنها لا تعقبك هذا الحزن العميق الذي تحدثه القصص العنيفة، فإذا فرغت من قراءة القصة لم تكن شديد الحزن ولا شديد السرور، وإنما أنت مطمئن ترى أن القصة جيدة وأنها لذيذة تمتاز خاصة بشيء من الدقة كثير.
أستطيع أن أجد لفظا يصف هذا النوع من القصص وصفا صادقا صحيحا؛ وهو أنه قصص صريح لا يشق عليك بالحزن ولا بالسرور، ولا يثقل عليك بالرضا ولا بالسخط. ويرى النقاد الفرنسيون أن لهذه القصة خطرا عظيما؛ لأنها تظهر الأجانب الذين يختلفون إلى باريس على أن فرنسا شيء آخر غير باريس التي يراها الأجانب ويكلفون بها كلفا شديدا، على أن الثروة الحقيقية لفرنسا من هذه الوجهة الخلقية والاجتماعية، بل المميزات الحقيقية لفرنسا من هذه الوجهة، ليس فيما يختلف إليه الأجانب من المراقص والحانات والملاعب وأندية اللهو، وإنما هي في باريس الهادئة، وفي أعماق هذه الأقاليم المطمئنة المنصرفة إلى هذه الحياة العاملة المنتجة، تلطفها من حين إلى حين بشيء من اللهو البريء.
ولكنك لم تفهم بعد معنى هذا العنوان الذي وضع لهذه القصة، وليس فهمه عسيرا؛ فأنت تعرف القيثارة ومكانها من الأدوات الموسيقية، وأنها أداة متواضعة هادئة تلذ وتطرب ولكن في غير عنف ولا شدة، أما «الجازباند» فاسم لهذا النوع من الضجيج والعجيج الذي نقله الأمريكيون إلى أوروبا ثم الشرق، وهو ضرب من العنف أكره أن أسميه بالموسيقى؛ لأنه بريء من الموسيقى يرافق ألوان الرقص الحديث، ولا تكاد تخلو منه حانات باريس، ولقد ضحكت منه غير مرة. ولست أنسى ليلة في السفينة أراد المسافرون فيها أن يلهوا هذا اللهو الأمريكي، فجلست سيدة إلى البيانو وأخذت تستخرج أغلظ أصواته في غير نظام ظاهر، ووقف من حولها رجال يحمل بعضهم زجاجات فارغة يضربون عليها بملاعق صغار، ويحمل بعضهم الآخر أطباقا يضربون بعضها ببعض، ويحمل آخرون مراجل صغارا استعاروها من المطبخ وهم يضربون عليها بالملاعق ومقابض السكاكين، وهم يرافقون هذا الضجيج كله بضجيج آخر يحدثونه حين يضربون الأرض بأقدامهم ضربا عنيفا، والناس يرقصون على هذا الضجيج رقصا مضطربا، فيه فحش وفتور لا يبعث في النفس إلا حزنا وانقباضا. وأما القيثارة في قصتنا فهي هذه الفتاة المريضة الوادعة الصادقة في كل شيء، وأما «الجازباند» فهو هذه المرأة الباريسية المضطربة المتكلفة في كل شيء. •••
نحن في باريس في دار رجل من رجال الأعمال اسمه «ماكسيم برترو»، وقد أقام حفلة راقصة فأقبل عليه الناس من أهل اللهو والعبث. ونحن لا نرى صاحب الدار ولا امرأته إذا رفع الستار، وإنما نرى منظرا يضحكنا حينا؛ نرى شابا قد خلا في المقصف إلى فتاة يحبها وهو يريد أن يعلن إليها حبه فلا يستطيع؛ لأن الحياء قد عقد لسانه فهو يتلجلج، وهي تسخر منه وقد تركته لتعود إليه بعد حين، فدخل عليه صديق له يجب أن تحتفظ باسمه؛ لأنه من أبطال القصة وهو «ديني كرانسلان»، محام في محكمة الاستئناف، غني، جميل الطلعة، رشيق الحركة، معروف بفتنة النساء، فإذا رأى صاحبه في هذا الاضطراب سأله عن أمره، فإذا أنبأه أخذ يلقي عليه درسا في إغواء النساء والطرق التي تسلك إليه. وهما كذلك إذ تقبل الفتاة، فما أسرع ما يتملقها المحامي فيفتنها، فتدعوه إلى الرقص، فينصرفان ويتركان الفتى محزونا مغضبا. وإذا صاحبة الدار قد أقبلت، ويجب أن تحفظ اسمها؛ فهي من أبطال القصة، وهي «مارتين»، جميلة، فاتنة، لعوب، مسرفة في حب العبث، لا تكاد تتحدث إلى هذا الفتى حتى يأتي زوجها، فينصرف الفتى، ويخلو الزوجان. ثم لا يكادان يتحدثان حتى تحس أنهما غير مؤتلفين، وأن كلا منهما قد استرد حريته، فهو يلهو ويعبث كما يريد بسمع صاحبه وبصره، ولكن الزوج قد أقبل الآن ليعلن إلى امرأته نبأ ذا خطر؛ ذلك أن أعماله تضطره إلى أن يترك باريس وإلى أن يقضي في مراكش ثلاثة أشهر، وهو لا يريد أن تظل امرأته في باريس وحدها، ولا أن تذهب إلى ساحل البحر وحدها؛ لأنه يكره أن تظهر امرأته لاهية عابثة في غيبته فتعرض كرامته للخطر.
هو يبيح لها أن تعبث ولكن بمحضر منه لا في أثناء غيبته، وإذن فهو يعرض على امرأته أن تقضي هذه الأشهر الثلاثة في الريف عند أبيه الشيخ وأخته الفتاة، وهي تأبى ذلك، وتظهر مقاومة شديدة، ثم لا تلبث أن تطيع. وقد انصرف زوجها، وأقبل المحامي الذي رأيناه في أول القصة، فلا يكاد يحييها حتى نعلم أنه خليلها، وقد أخذا يتحدثان، فتقص عليه في سرعة ومزاح سفر زوجها واضطرارها إلى الحياة في الريف، وهي لا تريد أن تفارق خليلها، وخليلها لا يريد أن يفارقها، وإذن فلا بد من رسم خطة لهذا اللقاء . وما أسرع ما ترسم الباريسية هذه الخطة، فهي ذكية قاسية لا خلق لها ولا كرامة. تنبئ صاحبها بأنه سيرى بعد حين أبا زوجها وأخته: فأما الأب فشيخ من أهل الريف كلف بالزراعة ينفق حياته في درس الأسمدة وتحسينها، وإذن فيجب أن تظهر علما بالزراعة وميلا إلى تحسين الأسمدة، وأما الأخت ففتاة تخرجت في الجامعة، وهي تنفق بياض يومها في درس الفلسفة، وإذن فيجب أن تظهر علما بالفلسفة وميلا إليها. والشيخ يريد أن يزوج ابنته، والفتاة حديثة لا تعرف الحب، ولا تكره أن تتزوج، وإذن فيجب أن تظهر إعجابا بالفتاة ورغبة فيها، ويجب أن تظهر ذلك الآن وأن ترقص مع الفتاة وأن تسحرها، وأنت ماهر في سحر النساء، ولا ينبغي أن تتردد في ذلك إن كنت تحبني حقا وتحرص على ألا نضيع الصيف.
وهو مطيع، وقد أقبل الشيخ فتعارف الرجلان، وأظهر المحامي ميلا إلى الزراعة فأحبه الشيخ، ثم أقبلت الفتاة فقدم إليها المحامي على أنه فيلسوف، وما أسرع ما تظهر الفتاة ميلا إليه، وما أسرع ما يدعوها إلى الرقص فتجيب، وقد خرج فغاب حينا ثم عاد، فإذا الفتاة ذاهلة يأخذها الدوار، وإذا أبوها مضطر إلى أن يسعفها بما يرد إليها الحياة، وإذا نحن نفهم أن المحامي قد نفذ الخطة فأظهر في أثناء الرقص من بوادر الحب ما هز أعصاب الفتاة الريفية الجاهلة. وإذا نحن نشعر أن هذه الفتاة قد أخذت تحب المحامي وتزدري نفسها؛ لأنها ريفية، ولأن زيها الريفي بعيد كل البعد عن أزياء البدع الجديد، وقد أظهر المحامي عطفا عليها فأعجبها ذلك ورد إليها القوة. وقد علمنا أن هذا المحامي سيقضي الصيف في قرية قريبة جدا من القرية التي تقيم فيها الفتاة، فسيتزاور القوم، وإذا الفتاة سعيدة تنصرف مع أبيها وهي تبتسم للحياة، أما العاشقان فلا يكادان يخلوان حتى يسخرا من الفتاة والشيخ، وحتى نشعر بأنهما ينتهزان انصراف الراقصين ليقضيا ليلة حب ولذة. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في الريف في قصر الشيخ وابنته الفتاة، وقد تقدمت الأشياء تقدما سريعا ، فتزاور القوم، ثم دعي المحامي للإقامة حينا في قصر الشيخ، فهو في القصر مضيف، ونحن نفهم أن صلات الحب الآثم ما زالت قوية بينه وبين صاحبته «مارتين»، ولكننا نفهم من جهة أخرى أن الفتاة الريفية واسمها «أستيل»، مازالت تحب هذا المحامي، وما زال حبها ينمو ويعظم. نفهم هذا كله، ونرى «مارتين» ضيقة الذرع بحياة الريف، تكرهها كرها شديدا، وتريد أن تعود إلى باريس، فإذا ذكر لها جمال الطبيعة وروعة الريف إذا جن الليل، اضطربت لذلك اضطرابا شديدا؛ لأنه يخيفها ويفزعها، وهي تفضل أضواء الكهرباء على ضوء القمر، وتؤثر ضجيج الحانات على هدوء القرى، وقد خرجت بعد العشاء مع صاحبها يمشيان في الحديقة حينا، وخلا الشيخ إلى ابنته، فإذا هي تتمنى عليه أن يمسك المحامي حتى لا يسافر غدا، وإذا الشيخ يقبل ذلك ليرضي ابنته، أما هو فلا يحفل بهذا المحامي؛ لأنه يعلم الآن أنه جاهل بالزراعة. وقد أقبل المحامي فطلب إليه الشيخ أن يبقى أياما وقبل. ثم ينصرف الشيخ وتأتي الفتاة، فيكون بينها وبين المحامي حديث نفهم منه أن الفتاة تحبه حبا قويا عنيفا، وأن المحامي نفسه قد أخذ يحب الفتاة ويكبرها، وهو الآن يدافع نفسه لا يريد أن يقع في الشرك الذي نصبه، والفتاة تتحدث إليه فتظهره على نفسها وأخلاقها وآمالها، فإذا هدوء ودعة، وإذا قوة وصبر، وإذا قدرة على احتمال الصدمات، وإذا كل هذا قد ملك على الفتى نفسه فيوشك أن يعلن حبه، ولكن الفتاة قد تركته وانصرفت مسرعة، ولا يكاد الشلب يخلو إلى نفسه حتى تقبل خليلته «مارتين» باسمة متهالكة تعرض اللذة وتطلبها والشاب عنها منصرف، وقد أحست ذلك فهي تلوم الفتى هذا اللوم المطمع المغري، وتسخر من الفتاة والشيخ، ولكن صاحبها قد فتح النافذة وهو ينظر إلى جمال الطبيعة ويفنى فيها، وصاحبته تصرفه عن ذلك، فما تزال به حتى يقفل النافذة ويضيء الكهرباء، وهي تعرض نفسها وهو يأبى، فتنصرف وهي مغضبة، وقد أعلنت إليه أنها تنتظره في غرفتها، فإن لم يذهب فلن تراه بعد، ولا يكاد الفتى يخلو إلى نفسه حتى يسمع نغما هادئا لذيذا هو نغم القيثارة، فيفتح النافذة فلا يرى شيئا، ولكنه يسمع النغم؛ ذلك لأن «أستيل» تلعب بقيثارتها بين الأشجار، والفتى يسأل: ما هذا؟! فتجيبه الفتاة، فيتحدثان، ثم تأتي الفتاة إلى غرفة الفتى وهنا لا تستطيع أن تخفي حبها فتعلنه، وهو لا يستطيع أن يمضي في عشقه فينبئها بأنه لا يليق بها، وبأن ماضيه لا يخلو من إثم، وقد نهضت الفتاة لتنصرف محزونة يائسة، ولكنه يدعوها ويلح في الدعاء كأنه يستغيث بها لتطهره من إثمه وقد لحقها وضمها إليه، وإذا كلاهما يعلن حبه إلى الآخر. •••
فإذا كان الفصل الثالث فسيفتضح كل شيء؛ سيفتضح أمر العاشقين الآثمين، وسيفتضح أمر هذا الحب الطاهر الجديد. تقبل خادم فتنبئ الشيخ بأنها رأت الضيف يقبل مولاتها، ويقبل رجل أجنبي فينبئ الشيخ بأنه لا يشك في أن صلة آثمة تجمع بين ضيفه وامرأة ابنه، وإذا الشيخ قد وقف هذا الموقف العنيف، يرى ابنته ضحية لهذه المؤامرة الآثمة التي دبرها العاشقان، وهو مشفق على ابنته أن يقتلها الحب، وهو مغضب لهذه الإهانة التي لحقته، وهو يريد أن يعاقب امرأة ابنه، ولكنه لا يكاد يتحدث إليها حتى تظهر له كتابا من زوجها يرد إليها حريتها ويعرض عليها الطلاق، وإذن فهي حرة تريد أن تعيش مع عاشقها، أما الشيخ فيطردها وسيطرد ضيفه، ولكن ابنته قد أقبلت وعلمت كل شيء، وهي والهة ذاهلة، ولكنها ابنة الطبيعة الهادئة المبتسمة، فهي ليست يائسة، وإنما هي معتزمة أن تجاهد لتحتفظ بحبها وخطيبها، وهي ترى أن هذا الحب قد غير الفتى وطهر نفسه من الآثام، وإذن فالجهاد عنيف بين المرأتين. وقد انصرفت الفتاة مع أبيها، وأقبل المحامي، فأعلنت إليه صاحبته كل شيء، وانصرفت وقد ضربت له موعدا يلتقيان فيه ليسافرا معا إلى باريس، أما المحامي فيريد أن يعتذر إلى الشيخ وأن يظهره على جلية الأمر، ويريد أن يرى الفتاة، ولكن الشيخ يطرده طردا عنيفا، ويحول بينه وبين ابنته. ونحن نعلم أن الفتاة كانت تريد أن تراه، وأنها ما زالت شديدة الحرص على أن تراه. •••
فإذا كان الفصل الرابع فنحن في المحطة في غرفة الانتظار في أول النهار، وقد انهمر المطر طول الليل وما زال ينهمر، ولم تكد تفتح الغرفة حتى أسرعت إليها فتاة هي «أستيل»، كانت قد هربت من قريتها وقضت الليل كله أمام المحطة تنتظر القطار لترى المحامي حين يسافر، وهي الآن تأوي إلى هذه الغرفة تنتظره فيها، ولست ألخص لك ما يجري بينها وبين العامل وبائعة الصحف من حديث مؤلم مضحك، ولكن الجرس قد دق وخرجت الفتاة تلتمس صاحبها، ولم تكد تخرج حتى أقبل العاشقان، فأما «مارتين» فراضية مبتهجة، وأما صاحبها فمذعن للقضاء وقد خرج ليأخذ القطار، وأقبل الشيخ مضطربا يبحث عن ابنته، وعادت الفتاة إلى غرفة الانتظار تبحث عن صاحبها فيلقاها أبوها، يلومها في رفق، ويهدئ من اضطرابها، ولكن اضطرابها شديد، فقد يوشك القطار أن يتحرك وهي لم تر حبيبها. انظر إليها؛ لقد أخذها شيء من الهلع، رأت صاحبها ورأته يصرف وجهه عنها! انظر إليها؛ قد استحال هلعها إلى جنون، فأفلتت من يد الشيخ إلى القطار وقد هم بالحركة! ثم انظر ماذا ترى؟ ترى المحامي مقبلا مضطربا يحمل الفتاة مغمى عليها ويمدها على أحد المقاعد؛ كانت تريد أن تقتل نفسها! والفتى الآن جالس أمامها يتلطف لها ويتحدث إليها في حنان عذب، والحياة تعود إليها شيئا فشيئا، والأمل يعود إليها كذلك، والشيخ يرقب من كثب هذا الحب الناشئ القوي الذي استطاع أن ينتصر على الأحداث، وأن يطهر النفس الآثمة من إثمها، وأن يكفل الفوز لهذه الطهارة الهادئة المطمئنة، على ذلك الفساد المضطرب العنيف الذي يمضي القطار به الآن إلى باريس.
نوفمبر سنة 1924
في ملاهي باريس
نعم فقد لهوت، وكانت رغبتي في اللهو من البواعث القوية التي حببت إلى الذهاب إلى باريس، ولم أخفي ذلك وأكتمه وأنا أعلم والناس جميعا يعلمون أن المسافر إلى باريس أو غيرها من مدن أوروبا، إنما يتخذ اللهو غرضا من الأغراض السياسية في برنامج رحلته؟! وهل كان السفر نفسه إلا ضربا من اللهو وفنا من فنون العبث يعمد إليه المتعبون ليستريحوا ويرغب فيه المستريحون؟! وكنت أرى الراحة في أن ألهو عن هذه الأشياء التي قضيت فيها العام كله فأجهدتني وبغضت إلي الحياة. وكنت وما زلت أعتقد أن من الحق للناس علي وأن من الحق لي على نفسي أن أعود إلى هذه الأشياء التي سئمتها وسئمتني، وأن أستأنف هذا العمل الذي أجهدني طوال العام الماضي حتى بغض إلي الحياة. وكنت أعلم أني لن أستطيع العودة إلى هذه الأشياء واستئناف هذا العمل إلا إذا استرحت ولهوت، وأخذت من الراحة واللهو بحظ عظيم، وقد فعلت، وقد عدت إلى مصر، وقد استأنفت هذا العمل الشاق، فإذا هو هين لين لا عسر فيه ولا مشقة، ولكني أعلم أنه سيعسر، وأنه سيشق، وأني سأسأمه، وأنه سيسأمني، وأني سأنصرف عنه، وأنه سيزهد في، وأني سأحتاج إلى الراحة واللهو، وأني سأستريح وألهو ثم أستأنف الجد والعمل، وكذلك حياتنا: نتعب لنستريح، ونستريح لنتعب، حتى يأتي هذا اليوم الذي لا تعب بعده ولا راحة.
إذن فقد لهوت في باريس لا أكتم ذلك ولا أخفيه، ولم أكتمه أو أخفيه وليس فيه - والحمد لله - مأثم ولا مدعاة إلى لوم؟! وإنما هو ضحك بريء، وعبث تطمئن إليه النفس الهادئة التي لا تعبث بها الأهواء ولا تعصف بها الشهوات.
لهوت في باريس، واختلفت فيها إلى أندية اللهو التي هي زينة تلك المدينة وبهجتها، ولها في رفع شأن باريس وتقديمها على غيرها من مدن الأرض أثر قد لا يكون أقل من أثر «السوربون» و«الكوليج دي فرانس» والمجامع العلمية المختلفة، ولم لا! أليست جامعة باريس ومعاهدها العلمية ملجأ للعقل الإنساني والشعور الإنساني؛ فيها تظهر ثمراتهما الحلوة والمرة، وفيها يتعلم الإنسان من الإنسان ويظهر الإنسان على الإنسان، وفيها يتعلم الإنسان كيف يكون حيوانا اجتماعيا، كما يقول أرسطوطاليس، أو مدنيا بالطبع، كما يقول فلاسفة العرب!
لست أدري أيشعر المصريون المتعبون الذين يذهبون إلى باريس بمثل ما كنت أشعر به هذا الصيف؟ فقد كنت شديد الميل إلى أندية الهزل والضحك، شديد الانصراف عن أندية الجد والعبوس. لم أكن أميل في هذا الصيف إلى بيت موليير ولا إلى ما يمثل فيه من جد، بل لم أكن أميل بوجه ما إلى التراجديا، إنما كان ميلي كله إلى الكوميديا من جهة، وإلى الموسيقى من جهة أخرى.
ولقد حاولت أن أتبين في نفسي أسباب هذا الميل إلى ما يضحك ويلهي، والانصراف عما يحزن ويعظ، فلم أوفق إلا لسبب واحد لا أدري أخطأ هو أم صواب؛ ذلك أننا «مفطومون» في مصر، كما يقول الفرنسيون، من اللهو الصريح البريء ومن الضحك الذي يريح النفس حقا ويجلو عن القلب أصداء الحياة العاملة! وهذه الحياة العاملة نفسها كئيبة في مصر منذ سنين، قد أثقلتها الهموم وأفعمتها الأحزان، فنحن مشفقون على منافعنا العامة، نخشى أن يعبث بها الخصوم في الخارج أو أن يضيعها المواطنون في الداخل. ونحن مشفقون على منافعنا الخاصة، نخشى أن تعبث بها الخصومات الحزبية وتأتي عليها العواصف السياسية. نحن قلقون لا نطمئن إلى شيء، ولا نثق بشيء، ولا نبسم لشيء، فليس عجيبا إذا خلصنا من هذا الجو القلق المضطرب أن نتهالك على هذه الأشياء الني حرمناها في مصر، وحال بيننا وبينها طبعنا من جهة، واضطرابنا السياسي والاجتماعي من جهة أخرى.
نعم، فطبعنا لا يخلو من ظلمة، ومزاجنا أقرب إلى المرارة والحزن منه إلى الدعابة والابتسام. نحن لا نلهو لأننا لا نعرف اللهو، ولأن في طباعنا نفورا من اللهو، ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب في هذه الملاحظة، وهي أننا كنا بعد الثورة الوطنية الأخيرة قد أخذنا نتعلم اللهو بل نسرف فيه، فكانت الأغاني الفكاهية ذائعة عامة، وكان التمثيل الفكاهي رائجا منتشرا، وكنت لا تكاد تمضي في الشوارع العامة إلا سمعت الأطفال والشبان من العمال ومن إليهم يتغنون أغاني «كشكش»، وكنت لا تكاد تمر بين الدور في الأحياء الراقية إذا أقبل المساء أو جن الليل إلا سمعت البيانو يوقع ألحان «كشكش»، وربما وقفت لاستماع صوت رخيم عذب يتغنى مع هذا الإيقاع، وكان أصحاب الأخلاق وأهل الحرص على الآداب العامة ينكرون هذا الفساد ويشفقون منه، وكنا نقول إن هذا الانحلال الخلقي عرض من أعراض الثورة، وكنا نستبشر به؛ لأن الثورة الفرنسية قد استتبعت مثله، فكان الفرنسيون يجاهدون أعداءهم الداخليين والخارجيين، وكانوا يحتملون آلام الجوع والفاقة ولكنهم كانوا يلهون ويسرفون في اللهو، وربما كانوا يستعينون باللهو على ما كانوا يأتون من جلائل الأعمال، ويحتملون من أثقال الحياة.
كنا كذلك، وأظن أن السلطة العامة احتاجت في بعض الأحيان إلى أن تتدخل في الأمر وتكفكف من غلواء المسرفين، فأقفلت أو حاولت أن تقفل بعض المراقص، أما الآن فأحسب أن هذا قد تغير، وأننا قد انصرفنا عن اللهو انصرافا واضحا.
انصرفنا عن اللهو دون أن يعظم حظنا من الجد، فليست حياتنا العامة والخاصة أكثر إنتاجا وأشد خصبا الآن منها حين كنا نلهو ونعبث، ولعلي لا أغلو في الخطأ إذا لاحظت أن حياتنا الدستورية هي التي صرفتنا عما كنا فيه من لهو، وأزالت عن شفاهنا هذا الابتسام للحياة؛ ذلك لأننا اعتقدنا يوم نفذ الدستور وأشرف البرلمان على الحكم أن الأمر قد رد إلى أهله، وأننا مقبلون على ساعات الجد والعمل؛ فانتظرنا وما زلنا ننتظر.
ولم لا نقول كلمة الحق! كانت الوزارات التي أشرفت على الحكم قبل الدستور قليلة الحظ من ثقة الجماهير، فلم يكن الناس يحفلون بها ولا ينتظرون منها خيرا؛ بل كانوا يسيئون بها الظن ويتخذونها موضعا للعبث والنقد، وكانت أعمالها وقراراتها تلهم الممثلين الهازلين والمغنين العابثين، وكان الناس يرتاحون إلى الضحك منها واتخاذها سخرية وهزؤا؛ أما الآن فقد أشرف على الحكم رجال كانت تحبهم الجماهير وتفتن بهم، فلم يكن من الميسور أن تتخذهم الجماهير موضوعا للهو والعبث، وإذا لم تعبث الجماهير بحكامها ولم تسخر من وزرائها ونوابها فهي مضطرة إلى الحزن والكآبة.
سلني عما يميز الديمقراطية حقا، أجبك بأن النظام الديمقراطي الصحيح هو الذي يتيح للجماهير أن تلهو على حساب حكومتها؛ بل على حساب أبطالها، فإذا أردت دليلا ناطقا بصدق هذا التعريف، فاذهب إلى باريس، واختلف إلى أندية اللهو فيها ، واسمع إلى ما يقال عن «هريو»، و«دومرج»، وعن «بوانكاريه»، و«ملران».
وانظر إلى هذه الجماهير الفرنسية المختلفة تتهالك ضحكا من وزرائها ورؤساء جمهوريتها - أستغفر الله - بل من علمائها وكتابها، ومهما أنس فلن أنسى أغنيتين سمعتهما في باريس، ورأيت ابتهاج الجماهير لهما، في إحداهما موازنة بين أمعاء المسيو هريو رئيس الوزارة الفرنسية القائمة وأمعاء المسيو بوانكاريه رئيس الوزارة الفرنسية المستقيلة، وفي الأخرى عبث بالمسيو هريو حين يعمد إلى التليفون.
ولكني قد بعدت أشد البعد عما كنت أريد أن أتحدث إليك فيه، وهو ملاهي باريس، وقد يحسن أن أعود إلى هذا الحديث.
لم أكن حسن الحظ هذا الصيف، وما أظن أن غيري كان أحسن حظا مني، فقد وصلنا إلى باريس أيام الراحة حين يتفرق عنها الممثلون النابهون ليجوبوا أقطار الأرض الفرنسية والأجنبية، وليعرضوا فنهم على المصطافين في سواحل البحر ومدن المياه، وحين يستريح الكتاب استعدادا لفصل الشتاء؛ إذ يعرضون آثارهم الجديدة على الجمهور الباريسي، وقد عاد من مصايفه إلى باريس، وحين تجتهد الملاعب التمثيلية في أن تستغل ما لديها من قصص الفصل الماضي لتلهي بها السائحين الذين يمرون بباريس، ومع ذلك فقد طربت حقا، وضحكت كثيرا.
ولقد يكون من العسير أن أذكر دون أن أضحك قصة شهدتها في ملعب «الباليه رويال» عنوانها: «قبلني»، كان الممثلون يمثلونها للمرات الأخيرة، ويستعدون لتمثيل قصة أخرى ظهرت أول هذا الشهر، ومع ذلك فقد كان الملعب مكتظا بالنظارة، والغريب من أمر باريس أنك تستطيع أن تزورها في أي فصل من فصول السنة، وأن تختلف إلى ملاعبها وأنديتها وبيوتها التجارية، فستجدها دائما مكتظة بالناس، وستضطر دائما إلى أن تتخذ الحيطة لتبلغ منها ما تريد.
تريد أن تشهد قصة تمثيلية، فيجب أن تؤجر كرسيك في الملعب قبل يوم التمثيل. تريد أن تشتري شيئا في أحد البيوت التجارية الكبرى، فيجب أن تذهب في الصباح، أو أن تكون صبورا محتملا إن ذهبت في المساء.
ذهبت إلى الملعب بعد ظهر يوم من أيام الآحاد الباريسية، ولم أكن قد أحتطت، وكان المطر عنيفا ثقيلا، فلم أجد إلا كراسي فاحشة الغلاء، فاتخذت منها كرسيين، وأعترف بأني غير آسف على ما أنفقت؛ لأني ضحكت بأكثر من ستين فرنكا. •••
أسرة شريفة، كانت غنية ثم أصابها الفقر، تقيم في قصرها المرهون، محتملة ألوانا من الضيق، ثم تصبح ذات يوم، وإذا القصر قد بيع من أجنبي، وإذا هي مضطرة إلى أن تترك هذا القصر الذي تتوارثه منذ خمسة قرون، ولكن لهذه الأسرة شابا مسرفا في اللعب والعبث، قد أدى واجبه الوطني أثناء الحرب، وعرف في الخندق صديقا من الطبقات المنحطة أمه تبيع الفاكهة. وقد انقضت الحرب، واغتنى ابن بائعة الفاكهة حتى أصبح ضخم الثروة، فكتب إلى صديقه الشريف يقترض منه مالا؛ لأنه خسر في اللعب، وأقبل هذا الصديق يحمل إلى صديقه ما أراد، فانظر إلى هذه الأسرة النبيلة تأبى أن تقبله في القصر، وأن تضيفه أياما، حتى إذا قبلت ذلك بعد مشقة أخذت تتبرم بالفتى وتزدريه؛ لأنه لا يعرف طرائق الحياة الأرستقراطية. وكانت عمة الشاب النبيل أشد الأسرة بغضا له وتبرما به، لا تكاد تلحظه ولا تكاد تحسب لوجوده حسابا، ولكن الفتى علم ببؤس هذه الأسرة واضطرارها إلى أن تترك القصر، فأسرع فاشتراه سرا، ثم أخذت الأسرة تظهر شيئا فشيئا على هذا السر حتى علمت به، وإذا هي ألعوبة في يد هذا الشاب الذي تزدريه ولا تضيفه إلا كارهة، ولكن هذا الشاب كريم خير، فهو يعرض القصر على الأسرة لا يبغي له إلا ثمنا ضئيلا؛ هو أن «يقبل» هذه المرأة التي تزدريه وتغلو في بغضه؛ فإذا عرض عليهم هذه الصفقة اضطربوا لها اضطرابا شديدا، فأما الأسرة كلها فتقبل، وأما هذه المرأة فتأبى وتنفر، ثم تذكر أنها قد تطرد من القصر، وأن الأسرة قد تصبح مشردة، فتضطر إلى القبول مقتنعة بأنها تقدم نفسها ضحية في سبيل الاحتفاظ بالكرامة والتراث القديم، وقد استعدت لهذه التضحية كما استعدت «إيفيجيني» لتضحي على مذبح أرثميس، ثم خلت إلى الفتى، فوقفت موقف الجلال، وقالت له في ازدراء وسخرية وإذعان للقضاء المحتوم: «قبلني!» ولكن الفتى كريم، فهو لا يريد أن يقبل هذه المرأة، وإنما يكفيه أنها قد أذعنت لما يريد، وهو مستعد لأن ينزل للأسرة عن هذا القصر، ولكن المرأة قد دهشت لهذا الانصراف عن تقبيلها، وكأنها تعجب بكرم هذا الفتى، وكأنها في الوقت نفسه تسخط على هذا الكرم، وكأنها كانت تحرص على هذه القبلة دون أن تعلم بهذا الحرص، وكأنها ترى عدول الفتى عن تقبيلها إهانة لها وإصغارا لجمالها، تشعر بهذا كله شعورا واضحا غامضا في وقت واحد!
وكنت ترى الفتى يكره هذه المرأة ويريد أن يذلها، ولكنك تراه الآن لا يكرهها؛ بل يكبرها، ولا يريد أن يذلها، بل يريد أن يجلها، وإذا هو يعلن إليها حبه في هذه اللغة الشعبية الغليظة الصريحة، وإذا هي تضطرب لهذا الحب اضطرابا عنيفا، وإذا الحب قد أزال ما كان بينهما من مسافة مادية ومعنوية، وإذا هو يتجاوز القبلة، فإذا كان الصبح فهي آسفة نادمة تتقطع لوعة وندما؛ لأنها اقترفت هذا الإثم مع رجل ليس من طبقتها، وهي تعلم أن نساء من أسرتها قد اقترفن هذه الخطيئة، ولكن إحداهن اقترفتها مع رجل من رجال القصر الملكي، والأخرى مع كردينال، أما هي فقد اقترفتها مع رجل أمه كانت تبيع الفاكهة! وهي تريد أن تأخذ نفسها بأشد أنواع العقوبة، تريد أن تزهد في الحياة، وأن تذهب إلى الدير، والفتى بين يديها يعتذر ويستغفر ويعلن إليها في ضراعة ومذلة أنه سيبرح القصر حتى لا ترى وجهه البغيض. فإذا سمعت هذه الجملة غضبت غضبا لا حد له، وعنفت الفتى تعنيفا ثقيلا قائلة: «أهكذا تريد أن تسليني عن هذه النكبة المنكرة؟!» ثم فهمنا أنها تريد نوعا آخر من أنواع التسلية وفنا آخر من فنون النسيان والعزاء.
ولست أتم لك تلخيص القصة، وإنما يكفي أن تعلم أنها تنتهي بالزواج بين هذين المحبين؛ لأن شريفا إنجليزيا تبنى الفتى ومنحه ألقاب شرفه فأصبح كفؤا لعشيقته.
ولم تبنى الشريف الإنكليزي هذا الفتى؛ لا تسل عن ذلك؛ فقد يكون في الجواب عن هذا السؤال ما يفضح أم هذا الفتى، وقد ماتت ولا ينبغي أن يذكر الموتى إلا بخير.
على أني قد زرت ملاعب أخرى، وشهدت فيها قصصا أخرى، وسأحدثك عنها في فصل آخر.
أكتوبر سنة 1924
في ملاهي باريس
زوج ألين
كنت أريد أن أضحك حين ذهبت إلى ملعب «ميشيل» لأشهد تمثيل هذه القصة «زوج ألين»، وكنت واثقا بأنني سأضحك وأضحك كثيرا؛ لأن العنوان في نفسه مضحك، ولأن القصة كانت تمثل لأول مرة، فلم يكن النقاد قد كتبوا عنها بعد، ولأن أسماء الممثلين الذين اشتركوا في تمثيلها كانت تدل على طائفة من الذين مهروا في الفن المضحك، فأسرعت إلى الملعب مبتهجا، وكأني كنت أضحك مقدما، وكذلك شأن الناس في باريس يذوقون مقدما ما يبتغون من لذة؛ لأنهم يعلمون أن هذه اللذة ستكون قوية حادة، وأنهم سيظفرون منها بأكثر مما يبتغون.
ذهبنا إلى الملعب ضاحكين ولم يكد يرفع الستار حتى أغرقنا في الضحك، ولكن ما هي إلا دقائق حتى استحال هذا الضحك إلى حزن وعبوس، وحتى أحسسنا في أنفسنا شعورا غريبا ليس من اليسير تفسيره؛ لأنه شيء ليس بالسرور الخالص ولا بالحزن الخالص، أو قل إنه شيء أبلغ أثرا في النفس من الحزن الخالص، ولكنه يكرهك مع ذلك على الابتسام، وربما أكرهك على الضحك والإغراق فيه؛ تبسم وأنت عابس، وتضحك وأنت محزون؛ ذلك لأن الممثل يعرض عليك من خصال الإنسان ما يضحكك مظهره أردت أو لم ترد، وما يحزنك مخبره رضيت أو لم ترض.
لا يكاد يرفع الستار حتى ترى امرأة متقدمة في السن أقرب إلى الشيخوخة منها إلى التوسط في العمر، لباسها ملائم لسنها وملائم لمصدرها ولطبقتها الاجتماعية، فلا تكاد تسمع حديثها حتى تحس أنها ليست من باريس، وإنما وفدت من الأقاليم، وحتى تفهم أنها من هذه الطبقة الغامضة التي لا تبلغ أوساط الناس ولا تريد أن تنحط إلى سفلتهم، قد مات عنها زوجها وترك لها ابنة هي «ألين»، وهي بارعة الجمال، رشيقة القد، عذبة الصوت. وقد ضاقت الحياة بها وبابنتها، فلجأتا إلى باريس، وآواهما رجل موسيقي بارع في فنه، ولكنه سيئ الحظ بهذا الفن، لا يكسب حياته إلا بمشقة. أحب الفتاة فآواها وآوى أمها، وأصبح أستاذها وعشيقها والقيم على حياتها، وقد مهرت الفتاة في الغناء كما مهرت في الرقص، وتقدمت إلى أحد الملاعب الباريسية، فقبلت فيه مغنية راقصة، وهي تبدأ عملها هذه الليلة وأمها تنتظرها متأثرة، مضطربة فرحة، مشفقة تقدر الفوز وتريد أن تحتفل به، فهي تعد مائدة عليها من الطعام والشراب هذه الألوان التي لا يرضاها الموسرون، ولا يظفر بها المعسرون إلا بعد الجهد والعناء، وهي تتحدث بكل ما في نفسها إلى خادم لها حديثة السن، خفيفة الحركة مسرفة في القول، فلا تكاد تسمع حوارهما حتى يأخذك الضحك فتغرق فيه حين ترى هذه المرأة التي تكاد تكون شيخة تتحدث في لهجة الجد إلى هذه الفتاة التي تكاد تكون طفلة، وهما في هذا الحديث الذي تريانه جدا ونضحك نحن منه، إذ يدخل الموسيقي فرحا، قد ملأه الفرح اضطرابا؛ فهو يبكي ولكن بكاءه نفسه مضحك، وهو يعلن إلى الأم فوز ابنتها، ويحاول أن يمثل لها هذا الفوز، فيجتهد في تقليد الفتاة حين غنت بعض المقطوعات التي أعجب بها الجمهور، والأم سعيدة مغتبطة ولكنها مع ذلك ليست راضية؛ لأنها تكره الملاهي، وكانت تود لو استطاعت أن تجد عنها منصرفا لابنتها، أما الموسيقي فسعيد بهذا الفوز ولكنه مشفق منه؛ مشفق لأنه يخشى أن تنصرف الفتاة عنه إلى هؤلاء النظارة الأغنياء الذين سيرونها في الملهى وسيتملقونها.
تحس منه الأم ذلك، وتحس أيضا أنه يحاول كتمان هذا الخوف، وقد أقبلت الفتاة فرحة، مبتهجة، متأثرة، فهي تقبل أمها وتضم عاشقها وتشكره، ولكن لن يتاح لهؤلاء الناس أن يحتفلوا بهذا الفوز فيما بينهم، فقد أقبل مدير الملهى وأعوانه ورجل غني من زعماء الصناعة يهنئون الفتاة بهذا الفوز، ويدعونها إلى أن تنفق معهم شطرا من الليل في حانة من هذه الحانات التي يذهب إليها الباريسيون إذا خرجوا من الملاعب فيأكلون ويشربون ويعبثون، ونحن نحس أنهم عرضوا ذلك على الفتاة فقبلته قبل أن تعود إلى أهلها ، ولكنها تظهر التردد الآن؛ لأنها لا تريد أن تترك صاحبها، فما أسرع ما يدعو القوم صاحبها إلى الذهاب معهم فيعتذر ويلحون وتظهر هي الرغبة فيقبل كارها، وينصرفون على أن يرسلوا إليهما السيارة بعد حين. فإذا خلا العاشقان رأينا هذه الأشياء التي تطير القلوب سرورا وتقطعها حزنا؛ رأينا هذا الموسيقي يريد أن يلبس زي السمر، فإذا ثيابه وأدواته من الرداءة والبلى بحيث يخجله ذلك ويؤذيه، ولكنه مبتسم يجتهد في أن يكون حسن الزينة، وإذا هو يفتقد أزراره، فإذا وجد منها واحدا أخطأه الآخر، وصاحبته تتزين، وقد أعارها الملعب ثوب الرقص فهي فيه خلابة بارعة، ولكن كثيرا من أدوات الزينة ينقصها، وهي تشكو ذلك مغتاظة، فإذا أحست من صاحبها الألم ابتسمت وتكلفت تهوين الأمر عليه، وصاحبها يعدها بمضاعفة العمل ليكسب لها ما تحتاج إليه. وقد أقبلت السيارة، فانظر إلى الأم مبتهجة، مفتونة بجمال ابنتها. وانظر إليها تتبع ابنتها وقد أخذت بفضل ثوبها حتى لا يصيبه غبار السلم. وانظر إلى الخادم الطفلة تسبقهم جميعا وفي يدها الشمعة تضئ السلم. وانظر إلى العاشق محزونا يتكلف الابتهاج، وبائسا يتكلف النعيم.
فإذا كان الفصل الثاني فقد تغير هذا كله، وسترى قوما تنكرهم؛ لأن النعمة ألمت بهم فأزالت كل ما رأيت في الفصل الماضي من مظاهر البؤس؛ ذلك لأن «ألين» قد اشتهر أمرها وظهر نبوغها، فابتسمت لها الثروة، وأصبحت لا تشكو عسرا ولا ضيقا، وظهرت آثار ذلك حولها.
فأما أمها فليست شيخة ولا كالشيخة، وإنما هي امرأة نصف فيها قوة وشباب، تلبس على آخر بدع، وتزدان على آخر طراز، وقد تغيرت لهجتها فهي باريسية، وتغير صوتها فهو رخيم، وتغيرت حركاتها فهي رشيقة ممتازة.
وأما الموسيقي فقد أصبح شابا قويا بادي الظرف حسن الزينة رائع المنظر، وقد اقترن بصاحبته. وكذلك الخادم تغيرت وامتازت، والغريب أنها ليست وحدها في البيت بل يشاركها غلام عليه العناية بغرف الاستقبال وما إليها. ولسنا في باريس ولا في ذلك البيت الذي يضاء بالشمع ويخشى غباره على فضل الثياب، وإنما نحن في بيت أنيق فخم في مصطاف على ساحل البحر يجمع أرقى الطبقات وأغناها إذا أقبل الصيف من كل عام، ونحن نرى مدير الملعب وصاحبته وأعوانه وذلك الرجل الغني يترددون على «ألين» فيلعبون ويقصفون، ونحن نرى زوج «ألين» سعيدا مغتبطا ينبئ صديقه بأن الله قد أذن له أن يكون غنيا، وأنه يضع قصة موسيقية ستنال الجائزة من غير شك، وأنه سيكون ناقدا موسيقيا لصحيفة كبيرة، وأن كل شيء في الحياة يبسم له. ولكن انظر إلى القوم قد أقبلوا، وانظر إلى الموسيقي قد خرج مع صديقه في بعض شأنه، وانظر إلى «ألين» قد خلت إلى الرجل الغني في حين يجلس الآخرون أمام غرفة الاستقبال يرقبون عودة الزوج وكأنهم يلعبون، واسمع إلى هذا الحديث يقع بين «ألين» وبين صاحبها الغني، فإذا هما عاشقان، وإذا هي تخون زوجها، وإذا هذه الخيانة مصدر ما ترى من نعيم! ولكن هذا الرجل ضيق الصدر بهذا الزوج الغبي؛ ضيق الصدر لأنه يريد أن يستأثر بصاحبته، وهذا الزوج الغبي يحول بينه وبين ذلك، وفي الحق أغبي هذا الزوج حقا أم هو متغاب؟! أليس يتكلف الغفلة ليستمتع بنعيم الحياة؟! ذلك شيء يفترضه الغني وتأباه «ألين»، وهما في الحديث والعبث إذ يسمعان صياح أصحابهما الذين يلعبون: «لقد أقبل فلان! لقد أقبل فلان!»
تنبها، فانفصلا، ودخل الموسيقي، وانصرف القوم، وأخذ الزوجان يتحدثان، فإذا الرجل محزون بائس، وإذا امرأته اللعوب تسأله عن مصدر هذا الحزن، فيتردد ثم يجيبها بأنه سمع الناس يذكرونه فيقولون «زوج ألين» ولا يسمونه باسمه، وبأنه رآهم يشيرون إليه ويبتسمون، فهو إذن يشك، وهي تدافعه عن هذا الشك بما أوتيت من حيلة ودل ودعابة، وانظر إليه قد أخذ حقيبة امرأته ونظر فيها فإذا مقدار ضخم من المال، فلا يزداد إلا شكا. وانظر إليه يذكر أن امرأته لعبت الميسر أمس وخسرت كثيرا، ولم تنبئه بشيء، وإنما سمع بذلك عفوا، فهو لا يزداد إلا شكا. وانظر إليه قد استكشف عند امرأته عقدا من الجوهر لا علم له به، فلا يزداد إلا شكا! ولكنها ماهرة وهو عاشق، فتستطيع أن تخدعه عن أمرها، وأن تستميله إليها، وأن تخلبه بما تبذل من لذة، وهو أغبى من غلامه الذي يفهم كل شيء، ويتحدث إلى زميلته الخادم بكل شيء.
فإذا كان الفصل الثالث، تحدث الموسيقي إلى صديقه، وقد استيقن كل شيء، وأصبح لا يشك في خيانة امرأته؛ ذلك أن القوم اعتزموا الخروج للنزهة وتخلف هو عنهم متكلفا العمل، ثم تبعهم وهم لا يعلمون، فلم ير فيهم زوجه، ولم ير فيهم ذلك الرجل الغني؛ وإذن فقد كذبت عليه امرأته حين زعمت أنها خارجة للنزهة وأنفقت يومها مع صاحبها، ونحن نعلم ذلك لأننا سمعناه في الفصل الثاني. وانظر إلى هذا الموسيقي متألما محزونا، ولكنه متجلد صبور، يعلن إلى صديقه أنه سيترك هذه الحياة كلها وسيعود إلى حياته الأولى: حياة البؤس والشرف والكرامة، ولكنه يريد أن يلهو قبل هذه العودة، وإنه للهو أليم.
أقبل القوم جميعا من نزهتهم وفيهم «ألين» وفيهم الرجل الغني، وكلهم يقص ما رآه ويصف جمال النزهة، والموسيقي مبتهج يتحدث إليهم جميعا حديث من لا يشك في شيء، وأنت ترى من القوم جميعا أنهم يسخرون منه ويرون فيه الغفلة، وقد هموا بالانصراف ليلتقوا بعد حين إلى مائدة العشاء في الحانة، وإذا الموسيقي يمسك الرجل الغني ليبقى معه حينا، فإذا انصرف القوم وخلا الزوجان إلى هذا الرجل الغني، بدأت طائفة من المواقف المؤثرة التي تملؤك عطفا على الزوج وسخطا على امرأته وإعجابا بالكاتب والممثلين؛ انظر إلى هذا الزوج الموتور يريد أن ينتقم لنفسه ولكرامته، ولكنه لا يريد أن يكون سخيفا، ولا ضحكة، ولا مجرما، فهو لا يريد العنف ولا سفك الدم، وإنما يريد أن يكون مترفقا في انتقامه. انظر إليه يعذب الخائنين عذابا أليما لأن موضعه الضمير؛ يستثير غيرة الرجل الغني بما يبدي من التلطف لامرأته وبما يتكلف من مداعبتها، وقد ضمها إليه ثم أجلسها على حجره وأخذ يداعبها هذه المداعبة المشروعة بين الزوجين، والتي لا تكون إلا في الخلوة، والرجل ينظر ويتألم دون أن يستطيع اعتراضا واحتجاجا، والمرأة خجلة ذليلة بين هذين الرجلين اللذين يتقسمانها، وهي تتكلف الحياء لتخلص من هذا الموقف الأليم، ولكن الزوج لا يحفل بحيائها ولا بألمها، وهو الآن ينتقل من المداعبة إلى الحديث، فيقص على صاحبه أسرار الزوجية وما تمنحه امرأته من لذة إذا خلت إليه، حتى إذا قضى وطره من تعذيب الخائنين وإذلالهما أطلق امرأته فذهبت لتصلح من شأنها قبل العشاء، وخلا هو إلى الخائن وهنا موقف ليس أقل من الموقف الذي سبقه جمالا أو تأثيرا.
هذا الزوج يتحدث إلى عاشق امرأته، فما هي إلا أن يعلن إليه أنه يعلم كل شيء، فإذا وجم الرجل وسأله عما يريد وانتظر الكارثة، أعلن الزوج إليه أنه لا يريد شيئا وأنه راض بهذه الحال، وإذا الرجل الخائن شديد الازدراء لهذا الزوج الذي لا يجري الدم في عروقه، والذي يرضى أن تكون امرأته شركة بينه وبين غيره. يريد أن ينصرف فيمسكه الزوج؛ إذ ليس بد من الاتفاق على أشياء وتدبير مصالح لا بد من تدبيرها. هما شريكان في المرأة، وقد يمكن أن يكونا غدا شريكين في طفل تلده هذه المرأة، وما يزال هذا الزوج يرقى في تمثيل الضعة والمهانة والخيانة والإثم حتى يكشف عن أخس ما في النفس الإنسانية من عاطفة! إنه يلهو، وهو يلهو بازدراء الإنسان، فإذا بلغ من ذلك ما يريد أطلق الرجل وقد اتفق معه على أن يأتي بعد حين ليحمل هذه المرأة في سيارته إلى حيث يريد.
ثم تقبل المرأة فيلقاها زوجها مبتسما، وتأخذ في عتابه على ما أباح من أسرار الزوجية، فما يزال بها حتى يعلن إليها أنه عالم بكل شيء، وراض عن كل شيء، وقابل لهذه الشركة التي تضمن لها الثروة والنعيم، وإذا المرأة تزدري زوجها حقا وتحتقره احتقارا لا حد له، وإذا هي تتألم حقا لأنها كانت تريد أن يحبها زوجها وأن يكون شديد الغيرة عليها، فإذا هي ترى نفسها متاعا يتقسمه رجلان، ولكن الزوج قد أطال الصبر والتكلف وغلا في كظم عواطفه، فهو لا يستطيع الآن صبرا، وانظر إليه وقد انفجر كما ينفجر البركان فهو ثائر فائر، لا يكاد يملك نفسه، ولا يكاد يمسكها عن اغتيال هذه المرأة، وقد ظهر حبه قويا عنيفا، وظهرت غيرته، وكلها روع وهول، وهو يصيح بامرأته: «أترين في ما يدل على أنني قواد؟!» والمرأة وجلة مضطربة، ولكنها سعيدة مغتبطة؛ لأنها تشهد الحب والغيرة، ولأن زوجها لا ينظر إليها نظره إلى المتاع، وهي تريد أن تستغفر، وتريد أن تتوب، ولكن الزوج يحاول طردها، ثم يبدو له فيضطرد نفسه، وقد أنبأها أن صاحبها سيأتي بعد حين ليحملها في سيارته، وقد انصرف وتركها تعسة بائسة تنتحب وتصيح، ولكن السيارة قد أقبلت، وهي تدعو بالباب. فانظر إلى هذه المرأة قد نهضت متثاقلة إلى المرآة، فأصلحت من شعرها ووجهها وخرجت في هدوء تجيب داعي اللهو والثروة والنعيم.
أكتوبر سنة 1924
لحن إلى كروترز
قصة تمثيلية للكاتبين الفرنسيين «فرنان نوزير» و«ألفريد سافوار»
وكذلك أحدثك اليوم عن قصة اشترك فيها كاتبان كقصة الأسبوع الماضي، واتخذت من حديث قصصي كقصة الأسبوع الماضي أيضا.
اشترك فيها كاتبان، وإن شئت فقل ثلاثة؛ فليس أحد هذين الكاتبين اللذين ترى اسميهما هو الذي وضع القصة الأولى أو اخترع حوادثها، وإنما تعاون الكاتبان على استخراج قصتهما التمثيلية من كتاب معروف للفيلسوف الروسي العظيم «تولستوي»، ولست تطمع مني في أن أحدثك اليوم عن «تولستوي» ولا عن كتابه الذي أخذت منه هذه القصة؛ فقد يكون لذلك وقت غير هذا الوقت وموضع غير هذا الموضع، وإنما يكفي أن أتحدث إليك عن هذه القصة التمثيلية التي دخلت الملعب منذ أربعة عشر عاما فأعجب بها النقاد وخاصة الناس، ثم عادت إليه في هذه الأيام فأعجب بها هؤلاء وأعجبت بها العامة أيضا، وكانت دليلا واضحا على تغير نفسية الجماهير، وتغلغل الرقي العلمي والفني في الطبقات المختلفة في الشعب الفرنسي في أثناء هذه المدة القصيرة.
أما أنا فلست أدري بعد أن قرأت هذه القصة أوقعت من نفسي موقع الإعجاب! ولكني أعلم أني تأثرت لها وضقت بها ذرعا، وأنكرت شيئا غير قليل من لهجات أبطالها وأصواتهم، وخيل إلي أني أسمع شيئا لم أتعود أن أسمع مثله، ولم أهيأ لاستماعه، وأني أرى قوما لا عهد لي بهم ولا بهذه الحياة العقلية والشعورية التي تبعثهم على الحركة والقول. وليس في هذا شيء من الغرابة؛ فإن هذه القصة لا تقع في فرنسا ولا في بلد من بلاد الغرب التي تأثرت بالحضارة اللاتينية اليونانية وطبعت هذا الطابع الذي ألفناه، وهي لا تقع في بلاد الشرق العربي الذي يلائمنا ونلائمه، وإنما تقع في روسيا ويقوم بالحركة والقول فيها طائفة من الروسيين غريبة أطوارهم، يشعرون ويعملون على نحو يخالف شعورنا وعملنا؛ فليس عجيبا أن ننكرهم، وأن نحس أن الصلة بيننا وبينهم منقطعة.
على أن الكاتبين الفرنسيين قد اجتهدا أشد الاجتهاد في إزالة الفروق أو تلطيفها، وخيلوا إلى الناس أن أشخاص هذه القصة من الأشخاص الذين ألفتهم جماهير النظارة في ملاعب التمثيل، ومع ذلك فقد ظلت هذه الفروق ظاهرة قوية. ولعل هذا، بل لست أشك في أن هذا هو السبب في أن الجماهير لم تفتتن بهذه القصة سنة 1910؛ لأنها لم تعرف أشخاصها ولم تأنس إليهم ولم تستطع أن تتمثل فيهم نفسها. وأنت تعلم أن الشرط الأساسي للإعجاب بقصة تمثيلية محزنة هو أن تستطيع فهم أشخاص هذه القصة وتتمثل نفسك فيهم، وحياتك في حياتهم. وأنت تعلم أن هذه المدة القصيرة التي لا تكاد تتجاوز أربعة عشر عاما قد كانت في حقيقة الأمر طويلة، تكاد تعدل القرون؛ لأنها امتلأت بالأحداث، وخلطت الناس بعضهم ببعض خلطا عنيفا أثناء الحرب الكبرى؛ ففهم بعضهم بعضا، وأنس بعضهم إلى بعض، وقربت المسافات بين نفسياتهم المتنائية، واستطاع الفرنسي أن يفهم الروسي ويتمثل نفسه فيه، ومن هنا فازت هذه القصة حين عادت إلى الملعب فوزا عظيما، واستطاع كثير من نقاد اليوم أن يتساءلوا: ما بال بيت «موليير» لا يضم هذه القصة إلى قصصه التي يمثلها من حين إلى حين؛ أي ما بال بيت «موليير» لا يضمن الخلود لهذه القصة؟
وفي الحق إنها جديرة بالخلود، ولست أدري أهي مدينة بهذا للكاتبين الفرنسيين اللذين حملاها إلى الملعب، أم للفيلسوف الروسي العظيم الذي نفخ فيها من روحه القوي وأودعها ما أودعها من حياة! وأحسب أنها مدينة به لهم جميعا؛ فأما الفيلسوف فقد اخترعها وأحياها، وأما الكاتبان الفرنسيان فقد منحاها من ضروب الزينة الفنية ما قربها إلى الناس وجعلها سهلة سائغة، تستطيع الجماهير المختلفة أن تفهمها وتتذوقها وتتأثر بما فيها. •••
موضوع هذه القصة الغيرة الزوجية، أو قل موضوعها الزواج السيئ، أو قل إن موضوعها الألم الذي تشعر به امرأة رقيقة دقيقة الحس لم يفهمها زوجها، أو قل إن هذا كله هو موضوع هذه القصة؛ فأنت تجد فيها تمثيلا متقنا للزوج الغيران، قد عذبته الغيرة أشد العذاب، وكلفته ألوانا من الألم، وحملته على ضروب من العنف والقسوة، ونغصت عليه الحياة وأساءت ظنه بالناس وظن الناس به، وقطعت الصلة بينه وبينهم، ثم انتهت به إلى الإجرام، وأنت تجد فيها تمثيلا قويا متقنا شديد التأثير في النفس للمرأة التعسة، منحتها الطبيعة حسا دقيقا، وشعورا رقيقا، وطموحا قويا إلى الحب، ثم حالت الأقدار بينها وبين الظفر بما تريد وبما تستحق من هذا، واضطرتها إلى أن تخضع لآلام الحب وأثقاله دون أن تستمتع بلذاته ونعيمه. ثم بالغت الأقدار في القسوة عليها والعبث بها، ففتحت لها باب الأمل ولكن على أن لا تلجه دون أن تتورط في الخيانة وتتعرض للمكروه! وأنت تجد في هذه القصة تمثيل هذا الرجل الآثم السخيف الذي اتخذته الطبيعة فتنة لنفسه وللناس، وأقامته دليلا على أن الإنسان قد يرقى حتى يكون عظيما، ولكنه قد ينحط حتى يكون دنيئا. هذا الرجل الجميل الخلاب الذي يظن بنفسه الخير وهو شرير، ويؤمن لنفسه بالشجاعة وهو جبان، ويعلن عن نفسه الوفاء والصدق وهو خائن كاذب، لا يبتغي إلا اللذة، ولا يطمع إلا في اللهو، ثم تجد في هذه القصة بعد هذا كله تمثيلا صادقا، ولكنه خفي أشبه بالتلميح منه بالتمثيل لهذه الأسرة، التي تضطرها الحاجة إلى أن تضحي بابنتها في سبيل الثروة ولين العيش، ثم لا تلبث أن تنخدع فيخيل إليها أنها لا تضحي بابنتها، وإنما تقدم إليها السعادة ونعيم الحياة!
تجد هذا كله في هذه القصة، وتجده قويا عنيفا ثقيلا، حتى إنك إذا فرغت من قراءة القصة تشعر بضيق شديد، وتلتمس ما يشغلك عن التفكير فيها؛ لتنصرف عن هذا الألم الذي يسدل على الحياة كلها أمامك سترا أسود حالكا، لا موضع فيه للأمل ولا الابتسام. •••
نحن في مدينة بطرسبرج عاصمة روسيا القيصرية، في بيت رجل غني، ضخم الثورة، متوسط العمر، لم يكد يبلغ الأربعين، هو «بوزنيشف»، تراه جالسا في غرفة استقباله وقد اعتجر بفوطة، وظهرت عليه أمارات الضجر والسأم، والخادمة ترتب الغرفة، فيسألها عن سيدتها، فتجيب أنها لا تزال تصلح من شأنها، فيأمرها أن تنبئ سيدتها بأنه ينتظرها وبأنه شديد الحاجة إليها، ضيق الصدر لبعدها عنه. فإذا انصرفت الخادمة، دخل عليه عمه، وهو طبيب، فلا يكادان يتحدثان حتى نفهم القصة، وهي: أن هذا الشاب الغني قد أسرف على نفسه، فلها كثيرا حتى تعرض للمرض، ثم عرف أسرة كانت غنية ولكنها سيئة الحال، وأحب إحدى فتيات هذه الأسرة، فخطبها فقبلت الأسرة خطبته، وتزوج الفتاة وإن بينهما لفرقا عظيما؛ يكاد هو يبلغ الأربعين، ولا تكاد هي تتجاوز الثامنة عشرة؛ قد أسرف هو في اللهو، وجهلت هي كل شيء؛ قد أبلاه هو لهوه، وظلت هي جديدة الجسم والنفس والعاطفة. وهو يشعر بكل هذه الفروق ويألم لها ويريد أن يزيلها، هو يحب الفتاة ويريد أن تكون سعيدة، فهو يتكلف الشباب والقوة ويظهر للفتاة حرصا شديدا على تحقيق آمالها كلها، وقد خيل إليه أنه وفق من هذا كله لما يريد، وأن الفتاة سعيدة حقا وأنها تحبه حبا لا حد له، وأنها لا تستطيع أن تفارقه لحظة دون أن تجد لذلك ألما شديدا.
هو يقول هذا كله لعمه الطبيب، وعمه يسمع هذا الحديث مظهرا الشك فيه، وقد أقبلت الفتاة، فلا نكاد نراها ونسمعها حتى نستيقن أن الشيخ مصيب في شكه، وأن الشاب مخطئ في يقينه، وأن الحقيقة الواقعة هي أن هذا الشاب يحب الفتاة ويريد أن تحبه الفتاة، فهو يخدع نفسه، أما الفتاة فلا تحبه ولكنها تذعن له إذعان المكره الذي لا يجد مفرا من القضاء.
أخذها سعال، فانظر إلى زوجها قلقا مذعورا يريدها أن تلزم الغرفة. ماذا نقول! بل على أن تلزم السرير، ويعلن إليها في تلطف أنه سيلازمها وسيعنى بها، أما هي فتأبى وتظهر الضجر، ولكنه لا يفهم أو لا يريد أن يفهم. انظر إلى الشيخ الطبيب يريد أن ينصرف، فإذا الفتاة تدعو زوجها إلى أن يخرج مع عمه حينا، فإذا أبى الزوج هذا الخروج ألحت عليه فيأبى، فتسرف في الإلحاح قائلة إنه يستطيع أن يخرج ليحمل إليها هدية ما، ونفهم نحن أنه يقبل؛ لأنه سيعود بهذه الهدية، وسيتخذها وسيلة إلى أن يظفر من زوجه بما قد كانت تأباه عليه لو لم يخرج. ذهب ليأخذ قلنسوته، فإذا الفتاة تلقي على الشيخ سؤلا نفهم منه أنها كانت تحب شابا آخر غير زوجها، وقد عاد الزوج وخرج مع عمه بعد أن طلب إلى امرأته أن تقف إلى النافذة وأن تلوح له بمنديلها حتى يغيب عنها، فتفعل، ثم تعود وإذا هي تتنفس الصعداء وكأن الله قد رفع عنها ثقلا شديدا، ولكن أمها قد جاءت، فاسمع إلى الحديث بينهما، تفهم أن الفتاة ضيقة الذرع بزوجها؛ لأنه يثقل عليها بنفسه وحبه ولذته؛ فهو لا يتركها وحدها لحظة، وهو يتبعها بأمله ورغبته في كل مكان وفي كل حين، حتى كرهت الحياة، وأمها تلومها وتسخر منها، وفيم تطمع امرأة حديثة عهد بالزواج إذا لم تطمع في أن يثقل عليها زوجها هذا الإثقال!
ولكن الزوج قد أقبل وفي يده شيء، فلم يكد يتحدث إلى امرأته وأمها حتى نهضت الأم تريد أن تنصرف إلى غرفتها، وتريد ابنتها أن ترافقها، فيمسكها الزوج ويدعو الخادم لتدل الأم على غرفتها؛ ذلك أنه شديد الشوق إلى أن يخلو إلى امرأته، فإذا خلا إليها فاسمع لحديثهما؛ إنها تشكو إلحاحه وتضرع إليه في أن يخلي بينها وبين نفسها حينا وفي أن يشغل نفسه عنها بعمل ما، وانظر إليه محزونا مغضبا ، حتى إن هديته لتسقط من يده، ولا تكاد تفرغ من الاستماع لهذا الحديث حتى تشعر بأن كلا الزوجين ضيق الذرع بالحياة، هو يكذب على امرأته ليسعدها، وهي تكذب على زوجها لتعصمه من الألم وخيبة الأمل، ولكن صديقا لهما قد دخل وهو «تروكاسنسكي»، رجل موسيقي، حسن الطلعة، مشهور بفتنة النساء، فيلقاه الزوج لقاء سيئا؛ ولكنه لا يدعه ينصرف بل يطلب إليه أن يجلس إلى البيانو ويوقع عليه، وقد جلس الموسيقي إلى البيانو وأخذ يوقع هذا اللحن المشهور الذي سميت به القصة، وانظر إلى الزوج قد أدنى زوجته منه وأخذ يسألها: «أتحبينني؟» فتجيبه كارهة: «دعني أسمع، إن هذا لجميل.» ولكنه يطلب إليها قبلة فتفعل كارهة، ويلتفت الموسيقي فيراهما، فيظهر الإنكار والغضب، ويأمره الزوج أن يمضي في اللعب، وقد فهمنا أن هذا اللحن قد عبث بنفس الفتاة. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن حيث كنا في الفصل الأول؛ ولكن العهد بعيد بهذا الفصل، فقد مضى حين طويل ورزق الزوجان طفلين، ولكن موقف كليهما من صاحبه قد أصبح جليا واضحا؛ أما المرأة فقد أظهرت ميولها وعواطفها، وأحس منها زوجها أنها لا تحبه وأنها لا تكره أن تتحدث إلى غيره، بل أن تغلو في هذا الحديث، وهو لهذا مغتاظ حنق شديد الغيرة سيئ الظن بامرأته وسيئ الظن بالناس أيضا، لا يكاد يحس من امرأته ميلا إلى الحديث مع أحد أصدقائه حتى يقصي هذا الصديق ويقطع ما بينهما من صلة، ومع ذلك لم تخنه امرأته بعد، ولكنه غيران، فهو يحتاط يريد أن يتقي الخيانة، ونحن في أول هذا الفصل الثاني نعلم أن أحد الطفلين مريض، وأن الأم قد دعت طبيبا آخر غير عم زوجها لأنها لا تطمئن إلى عم زوجها، وهذا الطبيب الآخر رجل متكلف مكثار، ولكنه ظريف لا يخلو من دعابة، والطبيبان مختلفان، يرى الشيخ أن الطفل بخير، ويرى الآخر أن حالته سيئة، والأم تصدق الثاني دون الأول، ومهما يكن من شيء فالذي يعنينا هو موقف الزوجين، وهو سيئ، فلا يكادان يخلوان حتى يتبادلا جملا ملؤها التعريض الأليم: كلاهما يتهم صاحبه، وكلاهما يحذر صاحبه ويخافه، وقد أقبل الموسيقي، فما أسرع ما نفهم أن بينه وبين المرأة صلات قد أخذت تقوى وتلائم بينهما، وما أسرع ما يفهم الزوج ذلك؛ فانظر إلى غيرته قد تجاوزت كل حد، فهو يخرج امرأته ليخلو إلى الموسيقي، وانظر إلى هذه المرأة تخرج كارهة وإنها لتتكلف إمساك دموعها، وإنها لتحس إحساسا عنيفا هذه الذلة التي هي مضطرة إليها مع هذا الزوج. أليس مذلا لها أن يتهمها زوجها هذا الاتهام وألا يخفي اتهامه ولا يتلطف فيه؟!
خلا الزوج إلى صاحبه وأخذا يتحدثان، فما ألذ هذا الحديث وما أقساه وما أكثر نفعه! حديث يكشف لنا عن نفسي هذين الرجلين المختلفين أشد الاختلاف؛ أما الزوج فشديد الغيرة كما قلنا، يسيء الظن بامرأته وبأصدقائه، ثم يحمله ذلك على أن يسيء الظن بكل امرأة وبكل رجل، وهو يعتقد أن المرأة كاذبة بطبعها، وأنها أشد ما تكون كذبا حين تكون متأثرة أو خاضعة لعاطفة عنيفة، فلا تسمع لها إذا حدثتك أوقات تأثرها، وإذا كنت تريد أن تتبين أصادقة هي أم كاذبة؟ أوفية هي أم خائنة؟ فلا تلتمس ذلك في حديثها ولا في تأثرها ولا في حركاتها، فهي منافقة في هذا كله، ولكن التمس ذلك في صوتها العادي حين تتكلم غير متأثرة ولا منفعلة؛ فهذا الصوت هو مرآتها الصادقة.
وأما الآخر فرجل تعود فتنة النساء وهو صاحب لهو ولذة، وهو جبان، وهو يحس أن صديقه يتهمه، ويحس أن صديقه ليس مسرفا في الاتهام، ويريد أن يقف موقفا لا يلزمه شيئا ولا يورطه في شيء، فهو يراوغ ويفر، ولكن صاحبه لا يزال ينتقل من تلميح إلى تلميح حتى ينتهي إلى الصراحة فيطرده طردا عنيفا، وقد أنذره إنذارا قاسيا. خرج الموسيقي، وأقبلت الزوجة، فإذا علمت أن زوجها قد طرد الموسيقي غضبت لذلك غضبا شديدا، وكان بينها وبين زوجها خصام عنيف ينتهي بأن تنصرف المرأة وهي ترمي زوجها بأنه قاتل، وقد أحكمت إغلاق الباب عند خروجها، ولكنك تسمع بعد دقائق صوتا يدعو، وإذا المرأة تدعو زوجها تعلن إليه أنها تجرعت السم، وأنها تتألم، وأنها تموت، فهو لا يصدقها بل يظل هادئا، ولكنه يسمع في الغرفة اضطرابا فيسأل نفسه: أليس من الممكن أن تكون صادقة؟ ويدعو الخدم ويحاول كسر الباب. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فقد مضت أيام على ما كان في الفصل الثاني، ونحن في غرفة الاستقبال نفسها، نرى الزوج جالسا وكأنه مغرق في النوم، ونرى أم الزوجة وأختها تتحدثان، وهما تعدان الدواء، ونفهم أن المريضة ليست في خطر، وأن الأطباء قد استطاعوا أن ينقذوها من الموت، ونسمع الأم تلح في إهانة الزوج، وفي أن ابنتها متى برئت من علتها ستترك هذا البيت وستقطع ما بينها وبين زوجها من صلة، وهي تلح في ذلك إلحاحا ظاهرا، وقد أقبل الطبيب، فينبئ بأن المريضة في حال حسنة، وأنها تستطيع أن تترك غرفتها اليوم، وأنها تريد أن تلبس ثيابها، فتنصرف أمها وأختها لمعونتها، ويخلو الطبيب إلى الزوج، فيتحدثان، فإذا الزوج لم يكن مغرقا في النوم، وإنما كان مغرقا في التفكير، وإذا هو مضطرب أشد الاضطراب، قد ساء ظنه بامرأته حتى أصبح يسأل نفسه: أحق أنها شربت السم، وأنها كانت تريد أن تموت؟ وهو يلقي هذا السؤال على الطبيب فلا يظفر منه بجواب مقنع، ولا يكاد ينصرف الطبيب حتى تأتي الأم فتأمر الزوج بترك الغرفة لأن امرأته تريد أن تأتي وهي تكره أن تراه، فيطيع، وتأتي الزوجة متثاقلة شاحبة، فتلتمس زوجها، فإذا أنبأتها أمها بأنها أبعدته عن الغرفة عاتبتها في ذلك، فتسألها أمها: «لم تريدين أن تريه؟» فتجيب: «لأني كنت أريد أن أعلن إليه أني منصرفة من داره وأني لا أحبه ولا أبغضه.» وانظر إلى الأم التي كانت تعلن منذ حين أن ابنتها لن تبقى في هذا البيت قد أخذت الآن تستعطف ابنتها وتلح عليها في البقاء، تلتمس لذلك العلل والمعاذير، وتفهم أنها تكره هذا الطلاق إشفاقا على الأسرة من نتائجه، وتريد أن تضحي بابنتها في سبيل الأسرة، ويخيل إليها أن ابنتها تستطيع أن تكون سعيدة وأنها تستطيع أن تفعل ما تريد، فإذا أظهر زوجها شيئا من الغيظ أو الغيرة أنذرته بشرب السم، وقد أحست الفتاة أن الطلاق سيكون خطرا على أسرتها، فهي تضحي بنفسها في سبيل الأسرة وترضى البقاء.
وقد خرجت الأم وعادت ومعها الزوج، فلا يكاد الزوجان يتحدثان حتى نقتنع بأن الحرب لم تضع أوزارها بينهما، ثم يخلوان فإذا هي تعلن إليه أنها تبقى لا لأنها تحبه، بل لابنيها ولأسرتها، وأنها تريد أن تكون حرة منذ اليوم، وإذا هو يعلن إليها أنه لن يغفر لها خطيئة، ولن يعفيها من عقاب إذا خانته أو أظهرت ميلا إلى خيانته، وكانت الأم قد ألحت عليه في أن يكتب إلى الموسيقي يستزيره ليرضي امرأته، ففعل مظهرا الإذعان، ولكنه في حقيقة الأمر كان يريد أن يمتحن امرأته، وهذا الخادم يستأذن للموسيقي؛ فينصرف الزوج ويدخل الموسيقي، فإذا الكذاب في أبشع صورة، ينبئ الفتاة بأنه علم بما أصابها فأقبل يزورها ويتعرف أنباءها، فإذا سألته: «ألم يبلغك كتاب زوجي؟» أجاب: «أي كتاب؟ وهل كتب إلي؟ وهل أنا في حاجة إلى هذا الكتاب؟» ثم لا يزال بالمرأة حتى يقنعها بحبه ووفائه وبأنه يستعد للتضحية بنفسه في سبيلها، وبأنها تستطيع أن تعتمد عليه. وانظر إليها قد انخدعت واقتنعت، وإذا هي تداعبه وتتلطف له، ولكنها قد أحست التعب فتنصرف، وقد استوثقت أنه سينتظرها حينا، فلا تكاد تنصرف حتى يدعو الخادم الذي حمل إليه الكتاب فيدفع إليه مالا ويأمره ألا ينبئ سيدته بأنه دفع إليه الكتاب، وأن يزعم لها أنه ترك الكتاب عند البواب، يقول الخادم: «إذن فسأكذب!» فيجيبه: «نعم، ستكذب.» •••
فإذا كان الفصل الرابع فنحن حيث كنا في الفصل الثالث، وقد هدأ كل شيء؛ لأننا في الساعة الثانية صباحا، فلسنا نرى إلا ثلاثة أشخاص: الزوجة وهي جميلة حسناء قد برئت من علتها واستأنفت حياة ملؤها الشباب والحب، والموسيقي، والطبيب الشاب. وهم يذكرون الزوج، ونفهم من حديثهم أنه قد عني بزراعته وانصرف إليها، وأنه الآن في أرضه على مسافة بعيدة جدا من مدينة بعيدة جدا من مدينة بطرسبرج . لا يشكون في ذلك لأنه بعث اليوم برسالة برقية من هذا المكان البعيد، وقد انصرف الطبيب، وخلا العاشقان، فهما سعيدان بهذه الخلوة وهما يستعدان لليلة سعيدة، ولكنهما يسمعان حركة ثم يريان الزوج!
لم يكن إذن في أرضه، وإنما كلف أحد عماله أن يرسل هذه الرسالة البرقية، واحتال هو في أن يفجأ الخائنين، وهذا الفصل من القصة ثقيل مؤلم ملؤه سخرية مرة وعبث مع الموت.
انظر إلى هذا الزوج مبتسما، وانظر إلى امرأته ملتاعة تتكلف الهدوء، وانظر إلى الموسيقي مضطربا يتكلف الثبات، واسمع لهذه الأحاديث تدور بينهم، فلن تجد فيها إلا شكا وسوء ظن، وإلا ميلا إلى الانتقام وخوفا من الموت وتخلصا من التبعة، والمرأة أضعف الثلاثة، فقد أخذها الدوار، وأسرع زوجها إلى غرفتها يهيئ لها شرابا يرد إليها بعض قوتها، فخلت إلى صاحبها لحظة وهي مخلوعة القلب، تنبئ صاحبها أن زوجها سيقتلها وتضرع إليه ألا يتركها، وهو يتنصل ثم يعلن إليها أنه سيظهر الانصراف وسيختبئ خارج الغرفة، فإذا أحس شيئا أسرع إلى نصرها، وقد أقبل الزوج ومعه الشراب فشربت، وانصرف الموسيقي وخلا الزوجان، وإذا هما يسمعان بابا يغلق إغلاقا عنيفا وحركة رجل مسرع في المشي، فتجزع المرأة ويقول لها زوجها في هدوء: «لقد هرب. ألم أقل لك إنه سيكون إلى الهرب أسرع منه إلى العودة؟ لن يستطيع أن يعينك.» وانظر إلى المرأة جزعة ذاهلة، ترى الموت وتريد أن تتقيه، فهي تنكر حينا وتسب حينا آخر، وتستغيث وتستعطف، وزوجها هادئ مطمئن يعبث بمسدسه ويداعبها في ألفاظ مؤلمة. وانظر إلى هذا الموقف البديع؛ إلى هذه المرأة الجزعة الهلعة قد أخذت تكذب على نفسها وعلى زوجها، فتخيل إليه أنها تحبه أو أنها مستعدة لهذا الحب، تريد أن تتقي الموت باللذة، وأن تفتن زوجها عن إرضاء الانتقام بإرضاء الشهوة، والزوج هادئ، ولكنه طامع أو مظهر الطمع، وهو يدعو امرأته في دعابة وطمع ورغبة إلى أن تدنو منه وهو يبسط ذراعيه وهي تدنو خائفة طامعة، وهي الآن بين ذراعيه ولكنها لن تجد بينهما لذة ولا حياة وإنما تجد الموت؛ فقد خنقها زوجها وهي الآن بينهما جثة هامدة وهو قائم يتنفس الصعداء.
نوفمبر 1924
الحب
قصة تمثيلية بقلم الكاتب الفرنسي «هنري كستماكر»
أقصة تمثيلية هي، أم قصيدة من جيد الشعر، أم كتاب في فلسفة الحب؟ أم هي هذا كله في وقت واحد؟ أما أنا فأميل إلى أنها قد جمعت خصال التمثيل إلى خصال الشعر الجيد، إلى خصال البحث النفسي الدقيق. جمعت كل هذا؛ فهي تؤثر في نفسك من كل هذه النواحي؛ تؤثر في نفسك من الناحية التمثيلية؛ لأن فيها حركة مهما تكن هادئة مقتصدة ساذجة، فهي حركة مؤثرة كافية كل الكفاية لإظهار مهارة الممثل وبراعته، وللتأثير في حس النظارة وشعورهم، وتؤثر فيك من الناحية الشعرية؛ لأن كاتبها قد ارتقى بها حقا إلى حيث يشرف على النفس في أحسن مواقفها وأدقها، فيرى دخائلها، ويلم بما تطمح إليه الإنسانية من مثل أعلى، وما تطمع فيه من سعادة لم يتح الظفر بها للأحياء، وتؤثر فيك من الناحية العلمية الخالصة، لأنها تحليل دقيق للنفس وعواطفها، ودرس عميق للأهواء الإنسانية وأنحائها المختلفة، وهي تؤثر فيك بعد هذا كله من الناحية الفنية الخالصة؛ فقلما تقرأ في آثار هذا العام قصة تمثيلية كتبت بمثل ما كتبت به هذه القصة من دقة وسذاجة وإتقان في تخير للفظ وقصد في أداء المعنى. لن تجد فيها معنى تبسط الكاتب في أدائه، ولن تشعر فيها بشيء يمكن الاستغناء عنه، بل قد تشعر بإيجاز شديد يحملك لا على أن تطلب الإسهاب أو الإطناب، بل على أن تفكر وتتدبر وتشعر بهذه اللذة التي يشعر بها من يقرأ ليفهم حين يحس كأنه استكشف المعنى استكشافا في غير مشقة ولا عناء.
وعندي أن خير ما تمتاز به هذه القصة من الجهة الفنية الخالصة هو أن كثيرا من الناس قد يقرءونها فلا يقدرونها؛ لأنها في حاجة إلى أن تقرأ مع دقة وعناية وروية خاصة. لست أدري أأصف ما في نفسي كما أحب؟ ولكني أريد أن أقول إن في هذه القصة شيئا غير قليل من الترف الفني، لا يحسه ولا يقدره الناس جميعا، ومع ذلك فقد استطاع الجمهور الفرنسي أن يفهم القصة ويقدرها، ويحمل النقاد على أن يسجلوا لها فوزا عظيما.
وما موضوع هذه القصة؟ قلت إنها قصة ساذجة، وفي الحق إن موضوعها ساذج يسير، ولكنه مع ذلك دقيق فيه تعمق شديد، وهو مع ذلك مؤثر، أو هو لذلك مؤثر. موضوع هذه القصة العلاقة بين الحب والسن، أو قل بين الشباب والشيخوخة، أو قل هو هذا التناقض الشديد الذي يوجد بين عواطف الشباب وعواطف الشيخوخة فيما يتصل بالحب، أو قل إن موضوعها هو البحث عن هذه القلوب التي تحتفظ بشبابها الكامل وفتوتها القوية ولكنها مستقرة في صدور الشيوخ، فهي بين مؤثرين مختلفين مؤلمين: أحدهما هذا الشباب الطبيعي الذي لا حد لقوته، والذي يملؤها بهذه الأطماع؛ أطماع الشبان، فإذا هي تحب كما يحبون، وترجو كما يرجون، وتريد أن تحيا وأن تلذ كما يحبون ويلذون. والثاني هذه الشيخوخة الفانية التي ألمت بأجسامهم، فعبثت بها وصرفت عنها قلوب الحسان، وكلفتها شيئا من الاحتشام والقصد، تشعر شعورا واضحا أنها تستطيع أن تنصرف عنهما. نعم، تدرس هذه القصة رجلا شاب القلب شيخ الجسم، يؤلمه شباب قلبه وشيخوخة جسمه، واضطرابه بين ما يبعث فيه هذا الشباب وما تضطر إليه هذه الشيخوخة، ولكنها تدرس مع هذا الرجل أشخاصا آخرين لهم منها مكانة قوية خليقة بالعناية. تدرس هذه الفتاة الريفية الساذجة الوادعة التي تفهم الطبيعة على وجهها، وتتأثر بالطبيعة في غير تكلف ولا تصنع: تحب غير متكلفة، وتنصرف عن الحب غير متكلفة كذلك، تمنح السعادة وهي تجهل أنها تمنحها، وتجر الشقاء وهي تجهل أنها تجره، يسعدك أن تراها سعيدة، ويؤلمك أن تراها شقية، ولكنك مع ذلك لا تستطيع أن تضيف إليها أو إلى إرادتها نتيجة ما تمنح من سعادة أو ما تجر من شقاء.
وتدرس هذه المرأة التي تشعر بأنها جميلة رائعة، وبأنها غنية مثرية، وتريد أن تستمتع بهذا السلطان الذي تستمده من جمالها وثروتها، فتريد أن تكون سيدة زوجها، تصرفه كما تريد لا كما يريد، وتمنحه ما تريد لا ما يريد؛ وهي بعد لا ترضى أن يسألها زوجها عن شيء أو يأخذها بشيء؛ لأنها مقتنعة أنها ليست مدينة له بشيء، وإنما هو المدين لها بكل شيء. فيها أثرة، وفيها كبرياء، ولكن عواصف الأيام وأحداث الدهر أعظم سلطانا على الناس وأبعد آثارا في نفوسهم من الأثرة والكبرياء، فإذا عصفت بأشد الناس أثرة وأعظمهم أنفة أضعفت هاتين العاطفتين في نفسه وردته إلى طوره، فإذا هو يريد أن ينزل عن سلطته ويقتنع من الحياة بما أتيح له.
ثم تدرس إلى هؤلاء الأشخاص شخصا آخر غريب الأطوار، ولكنه شائع بين الناس، لا يكاد يخلو منه مكان، ولا يكاد يخلو منه جيل، وهو هذا الرجل الذكي ذو الفطنة القوية والقريحة والوقادة، قد أخطأه الحظ، وتجاوزته النعمة، وقضي عليه أن يكون شقيا منكودا، لا يعمد إلى عمل من الأعمال إلا أدركه الإخفاق، ولا ينهض إلى أمل من الآمال إلا ثقل اليأس فهوى به إلى حيث لا يستطيع أن ينهض، وهو شاعر بهذا كله محس له، يجتهد في أن يتعرف أسبابه ويتبين مصادره، ولكنه لا يوفق لذلك، فيلقي تبعة شقائه وحرمانه على الجماعة، وإذا هو عدو للجماعة، يبدأ فيزدريها، ثم يغلو في هذا الازدراء حتى يصبح على الجماعة حربا، وإذا هو يستبيح الآثام، ويستحل المنكر فيما بينه وبين الناس من صلة. هو عدو للنظام وهو عدو للأخلاق، وهو عدو لكل ما تواضع الناس عليه، وهذه العداوة نفسها لا تزيده إلا انغماسا في سوء الحظ؛ فالناس يكرهونه ويخافونه وينصرفون عنه ويؤذونه كلما وجدوا إليه سبيلا. وكلما ازدادت مسافة الخلف بينه وبينهم بعدا ازداد سوء ظنه بهم وقبح رأيه فيهم، ولم يفده ذلك إلا شقاء إلى شقاء.
وفيه إلى هذا الشر كله ناحية خيرة طاهرة؛ فهو محب، يحسن الحب، ويحسن الوفاء لمن يحب، وهو صديق يبر بصديقه ويعرف كيف يشاطره الألم، وربما عرف كيف يضحي بنفسه في سبيله؛ وكل هذا لا يمنعه أن يحسد صديقه ويسيء إليه في ماله إذا دعته الحاجة إلى ذلك!
لا يخلو مكان من هؤلاء الناس الذين أراد تكوينهم ومزاجهم وأرادت الأحوال الاجتماعية المحيطة بهم أن يشذوا عن أطوارهم وينحطوا عن طبقاتهم، فأنت لا تدري بأي طبقة من طبقات الناس تلحقهم، ولا في أي منزلة من المنازل الاجتماعية تنزلهم، وأنت تخافهم وترحمهم، وأنت تنفر منهم وتعطف عليهم، وأنت تريد أن تحسن إليهم ولكن من بعيد.
هؤلاء هم أشخاص القصة، اختصرت لك صورهم النفسية اختصارا، فلننظر الآن إلى القصة نفسها، ولكني أنبهك قبل كل شيء إلى أني لن أستطيع أن أعطيك منها صورة صادقة، ولا مقاربة؛ لأنها أدق وأعمق وأكثر تفصيلا من أن يؤديها تحليل موجز، إنما تحتاج إلى ترجمة دقيقة، وما أحسب هذه الترجمة إلا عسيرة جدا. •••
إذا رفع الستار فنحن في بريتانيا الفرنسية، في مكان جميل المنظر شديد التأثير في النفس، ولا سيما نفس الرجل الفني، مصورا كان أو شاعرا أو موسيقيا. نحن على قرب من البحر حيث يصب النهر في مكان قد عبثت به الأيام، نرى سورا يتهدم، وقرية قديمة تنعكس عليها أضواء الشمس في وقت الغروب، فهي نحاسية اللون، وفي المكان بقايا زورق متحطم، والنهر يجري هادئا على يمينك، وقد قامت حول السور أشجار بسطت غصونها في غير نظام، وفي هذا المكان البديع رجل مصور هو «بيير نافار»، قد بعد صوته وعظمت منزلته حتى انتخب عضوا في المجمع العلمي الفرنسي، وهو ضخم الثروة واسعها، قد أقبل إلى هذه الناحية ليقضي الصيف، وأعجبه هذا المكان فأقبل يصوره. وهو إلى عمله، وإذا صوت يدعوه، فإذا دنا منه الصوت التفت، فإذا رجل رث دميم منكر الخلق والصوت، هو «إتيان فريجوز». يتحدثان، فإذا هما صديقان، كانا رفيقين أيام الصبا، وإذا هما يصطنعان فنا واحدا هو التصوير، لكن أحدهما قد ابتسم له الحظ فارتقى من نعمة إلى نعمة وأتيحت له لذات الحياة، فإذا هو الآن سعيد قد ظفر من بعد الصيت وضخامة الثروة ومن الترف والنعيم بأكثر مما كان يريد، في حين قد قدر للآخر الشقاء، فلم تفده مهارته الفنية ولم يعد عليه إتقانه لفن التصوير إلا بالأذى والمحنة، فاضطر إلى أن يترك التصوير إلى نقد التصوير. ولكن النقد لم يفده إلا عداوة وخصومة جعلت حياته عسيرة ضيقة، فأخذ يتقلب في المهن والصناعات فيما يعرف وما لا يعرف، وأخذ لا يجد من هذا كله إلا شرا، حتى أصبح من أنصار الفوضى وأعداء النظام، وقد اضطره ذلك إلى السجن، فمكث فيه أشهرا، ثم خرج فأقبل إلى هذا المكان يستريح مع صديقة له قديمة كانت خليلته أيام الصبا، وهي دميمة مثله، ولكنه يرى دمامتها جمالا، ويرى سعادته - إن كان الدهر قد قدر له السعادة - في حب هذه المرأة والوفاء لها.
يتحدث إلى صاحبه فيحسده ولا يخفي عليه هذا الحسد، ويلومه لأن الدهر قد ابتسم له، وصاحبه يسمع منه ذلك مبتسما متحرجا؛ لأنه على بعد صوته وضخامة ثروته واستمتاعه باللذة والشرف زاهد في الحياة ساخط عليها ضيق بها ذرعا، وهو يعطف على صاحبه، ولكنه يخافه وينفر منه، وهو يريد أن يحسن إليه ويرفق به، ولكن على ألا تشتد بينهما الصلة، فإذا سأله عن أنبائه وعرف أن الحب ما زال قائما متصلا بينه وبين صاحبته «شيكيت» التي كانت صديقة لهما منذ ثلاثين سنة أيام الصبا وأيام البؤس والضيق، أخذه اضطراب شديد وحزن ظاهر، وعرف الرجل منه ذلك. ثم ينصرف هذا الرجل، ويخلو المصور إلى فنه، ولكنه لا يكاد يأخذ فيه حتى يحس حركة من وراء السور، فيلتفت فإذا فتاة حلوة رشيقة قد أشرفت عليه من ثلمة السور، وظهر وجهها الجميل تحيط به أغصان الشجر، فيعرفها ويتلقاها راضيا مبتهجا، وإذا هو يبسط إليها ذراعيه فينزلها قريبا منه، وإذا هما يتحدثان. هذه الفتاة هي «ماري كارلو» من أهل هذه القرية القريبة، كانت أمها أرملة ثم تزوجت رجلا من أهل المدينة كان مثريا موسرا، ثم ضاق به العيش فاضطر إلى أن يعمل حارسا في هذه القرية عند رجل من أغنيائها.
هذه الفتاة الساذجة والوادعة ذات الحديث الحلو والقلب الطاهر والنفس الجذابة والخلق الحسن، تذكر زوج أمها متحرجة باكية خائفة من هذا الرجل؛ لأنه سيئ الخلق شديد الغيرة، يسيء إلى أمها لسبب وبغير سبب، ويشدد المراقبة على الفتاة حتى إنها لتخشى أن يكون كامنا لها قريبا من هذا المكان، والمصور يهدئها ويسليها ويداعبها مداعبة الأب لابنته، بل قل مداعبة العاشق لعشيقته، إلا أن هذا المصور قد ناهز الخمسين والفتاة لم تكد تبلغ العشرين، وهو يشعر بهذا الفرق العظيم بينهما، فيكظم عاطفته كظما شديدا، ويجتهد في ألا تحس الفتاة منها شيئا، ولكن سواء أحست الفتاة هذه العاطفة أم لم تحسها فهي شديدة الميل إلى هذا الشيخ قوية الثقة به، تجد في الحديث إليه لذة ودعة، كما يجد هو في الحديث إليها سعادة ونعيما. يشبهها هذا التشبيه الغريب الذي يمثل لك القصة والكاتب معا، يشبهها بالنافذة في حجرة من حجر الاستقبال في بيت من بيوت الأغنياء، في هذه الحجرة يجتمع ناس كثيرون من رجال ونساء، قد أفسدتهم الثروة، وكدر طبيعتهم هذا النفاق الاجتماعي؛ فهم يكذبون، ويتملق بعضهم بعضا، ويتقرب بعضهم إلى بعض بالخديعة والمكر، وقد تجملوا وبالغوا في التجمل، واتخذ النساء خاصة من ألوان الزينة ومن الأعطار وما يشبهها ما قبحهن في عين الرجل الحر الصريح؛ فهو شديد الضيق بكل ما في هذه الحجرة من كذب وخداع، وهو كاره لهذا الجو المنكر الذي يتنفس فيه أعطار النساء قد امتزجت بما تنضح به أجسامهن من عرق، فنظر فإذا نافذة قريبة منه، فنهض إليها متثاقلا متكلفا يريد ألا يحسه أحد، حتى إذا بلغ النافذة فتحها، فإذا هو يشرف على ما شاء الله من منظر الطبيعة الصادقة الساذجة، وإذا هو يتنفس هواء طلقا لا يحمل الأعطار الصناعية ولا عرق النساء. هو يشبه الفتاة بهذه النافذة؛ لأنه يجد من صدقها وصفائها وجمالها الطبيعي ما يريحه ويرفه عليه وينسيه حينا بيئته الاجتماعية التي يعيش فيها.
ولكن الفتاة تسمع هذا فتستعذبه ولا تكاد تفهمه، وهي تحب من الشيخ كل شيء دون أن تكاد تفهم منه شيئا؛ فهي تنظر إلى الرسم الذي يعمل فيه فتحبه وتعلن أنها لا تفهمه، وقد طال بها البقاء، وهي تريد أن تنصرف، فانصرفت وأخذت وهي منصرفة تتغنى أغنية يهتز لها قلب الشيخ، وقد اقتنع بأنه يحب الفتاة، وبأن الفتاة تحبه، واقتنع أيضا بأن الخير كل الخير في ألا يلتقيا. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في بيت هذا المصور قريبا من هذا المكان الذي كنا فيه الفصل الأول، وأمامنا في حجرة الاستقبال امرأة المصور: «فرانسواز»، قد جلست، ولكن النوم أخذها فهي مستغرقة فيه أو كالمستغرقة. وقد أقبل زوجها، فلما رآها كذلك مشى مشيا هينا حتى لا يوقظها، ثم جلس وأغمض عينيه يفكر وكأنه ينام. وانتبهت زوجه فنظرت إليه وعرفت أنه ينام، فإذا أول عمل تعمله هي الحركة العنيفة تريد أن تزعجه، وإذا هو لا ينزعج، وإذا هي تسرع إلى النافذة فتفتحها في عنف تريد أن توقظه بالضجيج والضوء، ولكنه لا يستيقظ، وإذا هي تصيح بالبستاني مغضبة تريد أن توقظ زوجها، ولكنه لا يستيقظ، وإذا هي تعود إلى داخل الحجرة مغضبة تصيح، فإذا فتح زوجها عينيه! أظهرت أنها لم تكن تعلم بوجوده، واعتذرت من إيقاظه، ثم أسرعت فأمرته أن يذهب إلى البستاني فيأمره بكيت وكيت، ولكنه يتثاقل معتذرا؛ وإذا هي مغضبة ساخطة، تلومه وتصفه بالجبن والخوف من الخدم، ثم تسرع فتسأله متى يستأنف تصوير صديقتها فلانة؟ فيجيبها: «لن أستأنف هذا التصوير، وأنا أوثر أن أذهب إلى البستاني فألقي إليه أمرك على أن أستأنف هذا التصوير.»
وإنما لخصت لك هذا المنظر مفصلا؛ لأنه يبين ما قدمت لك من أخلاق هذه المرأة التي تريد أن تكون كل شيء، وتتخذ زوجها أداة لما تريد من صغير الأمر وكبيره، ولكن الحديث يتصل بين الزوجين. وإذا نحن قد انتقلنا من هذه الخصومة التافهة إلى خصومة أخرى عظيمة الخطر، فنحن نحس أن الزوجين غير مؤتلفين، وأنهما عاشا إلى الآن عيشة كذب ونفاق ومنفعة مادية، ثم نحس أن الرجل قد ضاق بهذه الحياة ذرعا، وهو يريد أن يخلص منها إلى حياة أخرى فيها حب وصدق وسعادة، وهو يلمح بذلك تلميحا إلى امرأته، فلا تكاد تسمع منه ذلك حتى تلحظه لحظات صاعقة، وتأخذه بكلام عنيف وتعيره فقره وبؤسه، وتمن عليه بثروتها، وبأنه مدين لها بمكانته الاجتماعية، وهو يلقى ذلك كله هادئا ساخرا ولكن في أدب وغيظ، وكأنه يكتم امرأته شيئا، وكأنه يستطيع أن يصعقها ولكنه لا يفعل، وهذا الهدوء لا يزيد المرأة إلا حنقا وغيظا، فهي تنذر وتوعد وتعلن أنها لن تقبل هذا بعد، وقد دق جرس التليفون، فمال إليه الرجل ثم دفعه إلى امرأته، فنفهم أن صديقتها التي ذكرتها في أول الفصل تدعوها، فتنصرف مسرعة، ويظل الرجل في مكانه محزونا يفكر. ولكن الخادم قد دخلت، وهي تعلن إلى سيدها أنها ستترك خدمته لأن سيدتها لا تطاق، فيترضاها الرجل ويظفر منها بالبقاء.
وقد دق الجرس الخارجي وأسرعت الخادمة ثم عادت وأدخلت على سيدها الفتاة التي رأيناها في الفصل الأول «ماري كرلو» وهي مضطربة ذاهلة، ترتعد ارتعادا شديدا، وتريد أن تتكلم فلا يطاوعها لسانها، وقد فهمنا أن المصور انقطع عن الذهاب إلى حيث كان في الفصل الأول منذ أيام، وأن الفتاة كانت تبحث عنه وتجتهد في أن تلقاه، ولكنها اضطرت اليوم إلى هذا اللقاء اضطرارا، فإذا ألح عليها في مصدر هذا الاضطراب فهم وفهمنا أن الفتاة قد هربت من بيتها ولا تستطيع أن تعود إليه؛ لأن زوج أمها قد أرادها صباح هذا اليوم على الإثم، فدافعته ما استطاعت ونجت منه ولما يبلغ منها شيئا، ولست أستطيع أن أترجم لك هذا المنظر؛ فهو دقيق، وقد تضطرني ترجمته إلى الإسراف في الإطالة، ولكنه منظر بديع يتجلى فيه ذعر الفتاة ولوعتها وحبها، وتتجلى منه غيرة الشيخ وغضبه ثم هدوءه ورحمته بعد أن يطمئن، ثم حبه وأمله آخر الأمر، وهو يأمر الفتاة أن تذهب عند صديقه البائس «إتيان تريجوز» فتقضي الليل آمنة، فإذا كان الغد فهو كفيل بتدبير الأمر. والفتاة منصرفة، وإذا «فرانسواز» قد عادت من زيارتها، فرأت الفتاة، فهي تدخل إلى زوجها وقد انتهت من الغيظ إلى أقصاه، وهي تزدريه وتؤذيه باللفظ وتعيره حب هذه الفتاة، فيلقى ذلك كله هادئا، ويعرض على امرأته مبتسما صادقا، وكأنه يحاول إصلاح الأمر لآخر مرة، يعرض عليها أن تشاركه في حماية هذه الفتاة البائسة، فلا تلقى ذلك إلا بالقسوة والعنف والقول الأليم.
هنا يأمر الرجل الخادم بأن تعد متاعه، ويأمر سائق السيارة لأن يستعد لسفر بعيد. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في باريس في بيت أقرب إلى الضواحي منه إلى المدينة، يقيم فيه المصور والفتاة منذ عشرة أشهر، وأمامنا الفتاة متجردة والمصور ينظر في جسمها كأنه يريد أن يتفهم حقيقة فنية، وهو يريد هذا، فهو يدرس هذا الجسم الجميل جمالا طبيعيا غير متكلف من الوجهة الفنية الخالصة. وهو سعيد لأنه قد فهم سرا من أسرار الفن، ونحن نجده سعيدا حقا مغتبطا بالحياة مطمئنا إليها، ولكننا نحس من الفتاة سأما وضيقا وشيئا من اللوعة خفيا، ونسمعها تشكو هواء باريس وتراب باريس، وتنظر من النافذة إلى بعيد نظر المشوق إلى مكان ناء، وصاحبها لا يكاد يحس شيئا من هذا، وهو يعلن إليها مبتهجا أنه سيذهب بها الليلة إلى ملعب من ملاعب التمثيل أو الموسيقى، ويأمرها أن تذهب لتلبس وتعد له لباسه. وقد أقبل صديقه البائس فشكا وسخط على الحياة، حتى ظهر أثر سخطه في الفتاة، وحتى ضاق صاحبه ذرعا، وهو يحسد صاحبيه على هذه الحياة الهادئة التي يستمتعان بها، لا يخفي ذلك ولا يكتمه. حتى إذا انصرفت الفتاة وخلا الرجلان عرفنا أن لهذه الزيارة غاية مؤلمة، فقد رفع أمر الطلاق بين المصور وامرأته إلى المحكمة، والمصور فقير لا يملك إلا آثاره الفنية، وهو يريد أن يبيع هذه الآثار وقد عرضها للبيع، وكان يقدر أنها ستفيده مالا ضخما، ولكن أبا امرأته ائتمر به مع تجار الصور فلم يفده هذا البيع إلا شيئا قليلا جدا، وقد بيعت إحدى صوره بخمسة آلاف فرنك، وقد كانت منذ سنين تطلب بمائة ألف فرنك، وقد أقبل صاحبه ينبئه بهذه الكارثة، وهو في هذه المرة صديق حقا، محزون حقا لهذا الظلم الذي أصاب صديقه، ساخط على هذه الجماعة الظالمة التي لا تقدر عدلا ولا فنا، وإنما هي أداة في يد أصحاب المال. أما المصور فيحزن، ولكنه يملك نفسه ويتعزى عن هذه الكارثة بسعادته مع الفتاة، بل هو يبتهج لهذا الفقر؛ لأنه رد إليه حريته، ولكن صاحبه لم يتم حديثه بعد، فلديه أمران: أحدهما أنه محتاج إلى 500 فرنك، فيدفعها إليه صاحبه، والثاني أنه قد ترك بالباب «فرانسواز» التي أقبلت تريد أن تتحدث إلى زوجها، فيتردد في استقبالها ثم يرضى، فإذا أدخلت عليه فموقف من أبدع المواقف وألذها وأشدها استثارة للنفس.
انظر إلى هذا الرجل يلقى امرأته هادئا مطمئنا، ولكنه خائف مشفق فيسألها: «أي شر تريدين أن تلحقي بي؟» وانظر إلى هذه المرأة تلقى زوجها ظاهرة الهدوء والثبات، ولكنها في حقيقة الأمر مضطربة ملتاعة، وهي تحدثه حديثا عمليا، تطلب إليه أن يفكر ليعدل عن الطلاق لأن منفعته في ذلك، وهو يأبى مزدريا هذه المنفعة. وإذا المرأة قد انفجرت، فهي تعلن في أنفة وكبرياء أنها تريد أن تعدل عن الطلاق؛ لأنها فكرت فرأت أن الخير في استئناف حياتها الزوجية؛ لأنها قد بلغت سنا لا تستطيع معها أن تعيش وحيدة، ولأنها قد امتحنت الأهل والأصدقاء، فإذا هم هباء بالقياس إلى الزوج مهما تكن سيرته ومهما يكن تقصيره، ولأنها في هذه السن لا تستطيع أن تقترن برجل آخر ولا أن تتخذ لها خليلا. هي تكره الوحدة وهي تريد زوجها، ولكن زوجها لا يريدها وهو لا يخاف الوحدة. أليس يعيش مع هذه الفتاة التي ردت إليه ربيع الحياة؟! فانظر الآن إلى امرأته وهي تصعقه بهذه الحقائق المؤلمة؛ وهي تعلن إليه أنه واهم حين يقدر أن هذه الفتاة تحبه وأنها ستبقى له؛ فهو في الخمسين والفتاة لم تتجاوز العشرين. ولقد بحثت واستقصت فاستيقنت أن الفتاة كارهة لحياتها مشوقة إلى قريتها تريد أن تعود إلى حريتها الأولى، وأن تجد لها زوجا يلائمها في السن والطبقة، وهي لا تقول هذا منتحلة ولا متكلفة، وإنما هكذا كتبت الفتاة إلى أمها.
كل هذا يقع على الشيخ وقع الصواعق ، ولكنه جلد فلا يسمع لامرأته، فهي تنصرف متجلدة أيضا، حتى إذا بلغت باب الحجرة وأرادت أن تتجاوزه لم تملك نفسها فاندفعت تبكي، وعاد الشيخ إلى مكانه ذاهلا مضطربا، ينظر في المرآة فيرى شيخوخته، وكأنه ينظر في أعماق نفسه فيرى شباب قلبه وقوة عواطفه، وهو بين هذين المؤثرين، وإذا الفتاة قد أقبلت مسرعة مبتهجة، تكاد تطير فرحا وفي يدها رسالة برقية، فإذا سألها صاحبها عن ذلك أعلنت أن زوج أمها قد مات، وإذا هي تريد أن تسافر لتواسي أمها، وإذا هي مبتهجة بهذا السفر، وقد نسيت التمثيل والموسيقى والعشاء في الحانة، وإذا هي تريد أن تسافر بعد ساعة، وقد لبست ثياب السفر واحتجزت مكانها في القطار بالتليفون، وأعدت حقيبتها وطلبت سيارة. كان كل ذلك حين كان الشيخ يحاور امرأته ويثبت لها أنه سعيد، وأنه لا يخاف الوحدة. أليس واثقا بحب الفتاة! انظر إليه الآن صعقا أو كالصعق، ولكنه مع ذلك متجلد مذعن يقر الفتاة على كل ما تريد. الفتاة تريد أن تبرق إلى أمها تنبئها بالعودة، فهي تكتب: «سأصل صباحا وسأبقى معك ...» ثم تتردد فيملي عليها صاحبها: «شهرا كاملا»، فتقول: «ألست ترى أن الشهر قصير؟!» فاسمع له وهو يجيب: «بلى، فاكتبي زمنا طويلا»، فتكتب، ويعد هو بأن يحمل الرسالة إلى التلغراف. وانظر إلى الخادم تنزل حقيبة الفتاة، وإذا الفتاة فرحة مبتهجة تلبس معطفها وقلنسوتها والشيخ يعينها، وكأنه يقتل نفسه وقد انصرفت واعتذر الشيخ من مرافقتها، وعادت الخادم فترى سيدها قد أخذه الدوار وكأنه في خطر. •••
فإذا كان الفصل الرابع، فنحن حيث كنا في الفصل الأول بين النهر والسور وبقايا الزورق.
وقد مضت ستة أشهر على الفصل الثالث، ونحن نرى الشيخ المصور في هذا المكان مضطربا، ولكن اضطرابه لا يطول؛ فقد أشرفت الفتاة من الثلمة بين الأغصان كما أشرفت في الفصل الأول، ويتلقاها الشيخ كما يتلقى الرجل الحياة، وقد كان استيأس منها، وهو يضمها إليه ويقبلها، وهي تتعلق به وتقبله، وهو صادق في حبه، وهي صادقة في مودتها، وهي حريصة على الخلوة ، تخشى الرقيب كما كانت تخشاه في المرة الأولى، وهي طاهرة الحديث ساذجة، صريحة. فانظر إليهما واسمع لحديثهما؛ هو مغتبط يريد أن يعود بها إلى باريس، ولكنها تكره باريس، فهو يريد أن يعيش معها في قرية من القرى، ولكنها لا تستطيع، ولماذا؟ لأنه أثناء هذه الأشهر الستة قد كتب إليها وكتبت إليه، وكان يستوحى عقله لا قلبه حين كان يكتب إليها، فكان يتمنى لها السعادة وينصح لها بشاب من سنها ومن طبقتها، وقد صدقت كتبه وأنفذت نصيحته، فتزوجت وهي مع ذلك تحبه وتخلص له! وهو يسمع هذا كله فكأنما يسمع القضاء عليه، وقد تجلد لآخر مرة فهو يسألها: «أسعيدة أنت مع هذا الزوج؟» تجيب إنها ليست شقية، فيسأل: «أيحبك؟» فتجيب: «نعم.» فيسأل: «أتحبينه؟» فتجيبه: «لم أفكر قط في هذا.» وانظر إليه قد أذعن للقضاء وآمن بأن شباب قلبه لن يجدي عليه شيئا، وهو يصرف الفتاة في رفق، ولا يطلب إليها إلا شيئا واحدا؛ هو أن تنصرف هذه المرة كما انصرفت في المرة الأولى متغنية تلك الأغنية الإيطالية، فتجيب في سذاجة إنها تستطيع أن تغني شيئا آخر أدق وأصعب من تلك الأغنية؛ فقد تقدمت في الموسيقى منذ تركته تقدما باهرا، ولكنه لا يريد إلا تلك الأغنية، فهي تنصرف وتركب دراجتها وتبعد، وإذا الهواء يحمل إليه من بعيد أنغام هذه الأغنية الإيطالية، وإذا شيء كالدوار قد أخذه، فيجلس ورأسه بين يديه، وهو يبكي، والهواء يحمل إليه الغناء.
نوفمبر سنة 1924
الوصل
قصة تمثيلية بقلم الكاتبين الفرنسيين «هنري دوفرنوا» و«موريس دونيه»
حدثتك منذ حين عن أول هذين الكاتبين حين لخصت لك قصة «القيثارة والجازباند»، وقلت في ذلك الحديث إني سأحدثك عن قصة أخرى لهذا الكاتب سميتها يومئذ «المثل»، وأنا أسميها اليوم اسما آخر هو «الوصل»، وربما كان اسم اليوم أقرب إلى موضوع القصة، ولكن كلا الاسمين لا يؤدي المعنى الفرنسي كما أراده الكاتبان حين سميا قصتهما، ولست أريد أن أضيع وقتي ولا وقتك في البحث عن ترجمة صحيحة دقيقة لهذه الكلمة، فيكفي أن تبحث في المعاجم اللغوية لتعلم أنهم يترجمونها بالحركة عامة، وبحركة الخطيب خاصة، وبالإشارة أحيانا، ويكفي أن تقرأ هذا الحديث لتعلم ماذا أراد الكاتبان في هذا اللفظ القصير الذي يدل على معنى كثير جدا.
سمها إذن «الوصل» أو سمها «المثل»، أو سمها ما شئت من الأسماء، ولكن تعرف موضوعها ومعناها قبل أن تطلق عليها اسما ما.
النقاد مختلفون في هذه القصة: يحمدها أكثرهم في غير تحفظ، ولا يثني عليها بعضهم إلا مع تحفظ قليل، ولكنهم كلهم مجمعون على أنها خير ما أخرج للناس في أول الفصل التمثيلي من هذه السنة، ولولا أن الكاتب الفرنسي المشهور «برنشتين» قد أظهر منذ أسابيع قصة سأحدثك عنها حين تصل إلي لقلت إنها خير ما أخرج للناس في الفصل التمثيلي كله إلى الآن، فلست أعرف قصة كهذه القصة بين ما قرأت أو رأيت هذا العام تمتاز بما تمتاز به قصتنا هذه من سرعة الحركة وخفة الروح أو سذاجة اللفظ والمعنى، في تعقيد شديد مع ذلك، ودقة لا تكاد تجد لها حدا. بل لست أعرف بين قصص هذا العام ولا قصص العام الماضي قصة فيها ما في قصتنا هذه من الجرأة والشجاعة اللتين لم يعتدهما التمثيل، واللتين لم تعرضا صاحبيهما لإخفاق أو اضطراب، وإنما ضمنتا لهما فوزا أجمع عليه جمهور النظارة والنقاد.
قلت حين حدثتك عن «القيثارة والجازباند» إنها قصة تمثيلية، أخذت من أحدوثة قصصية، وكذلك الشأن في هذه القصة التي أحدثك عنها اليوم؛ فقد وضع «هنري دوفرنوا» طائفة من الأحاديث القصار، يظهر أنها خلبت كتاب التمثيل فأقبلوا إليها يستغلونها كما يستغل منجم من مناجم الذهب، وقد عادت عليهم هذه الأحاديث بثمرات عظيمة القيمة، ولقد صدق بعض النقاد حين قال يكفي أن نعلم أن «موريس دونيه» عرض اشتراكه على «هنري دوفرنوا» في تحويل أحدوثته هذه إلى قصة تمثيلية، لنقدر براعة الكاتب القصصي وقيمة هذه الأحدوثة، فموريس دونيه شيخ من شيوخ التمثيل الحديث، يكفي أن يوضع اسمه على قصة تمثيلية ليضمن لها البقاء. قلت إن في هذه القصة جرأة وشجاعة ليس للتمثيل بهما عهد، وهذه الجرأة ترجع إلى أمرين؛ الأول: أن القصة التمثيلية قد خالفت الأحدوثة؛ فإنه بينما تنتهي الأحدوثة في لين ودعة وشيء من اليأس المؤلم، إذا القصة التمثيلية تنتهي في عنف وقوة تضطرب لهما النفس وينخلع لهما القلب. تنتهي الأحدوثة في دموع، وتنتهي القصة التمثيلية في دم مسفوك. الثاني: أن في الأحدوثة صلة يمكن أن تقرأ أخبارها وتقص أنباؤها، بل نحن لا نكاد نقرأ حديثا قصصيا طويلا أو قصيرا إلا وجدنا فيه هذه الصلة الجنسية قد فصلت أخبارها تفصيلا ونمقت أنباؤها تنميقا، فنقرأ هذا كله دون أن نعجب له أو نضيق به؛ ذلك لأننا لا نرى هذه الصلة، وإنما نتوهمها توهما، ونترك للخيال استقصاءها، فإذا عرضت هذه الصلة على الحس وأكرهنا على أن نراها بأعيننا، فلذلك في نفوسنا أثر يخالف أثر القراءة، ولذلك في شعورنا وحياتنا وأوضاعنا الاجتماعية تأثير عنيف بغيض ثقيل على النفس، يحملنا على أن ننفر نفورا شديدا، وعلى أن يأخذنا شيء من الغضب والاشمئزاز لا حد له.
قل إننا مخطئون في هذا الغضب أو قل إننا مصيبون، فذلك شيء لا يعنينا، وإنما الذي يعنينا هو هذه الحقيقة الواقعة، وهي أن غرائزنا تثور ونفوسنا تشمئز إذا رأينا هذه الصلة الجنسية رأي العين، وإن كنا نعلم حق العلم أنها صلة طبيعية كغيرها من الصلات، وقد اجترأ الكاتبان على أن يعرضا هذه الصلة على النظارة في ملعب التمثيل، بل هما اجترآ على أن يعرضاها على شخصين غير النظارة، وهذه الجرأة نفسها غريبة مخالفة لمألوف الناس، فأنت تعلم أن هذه الصلة الجنسية التي نكره نحن أن نراها، ولا نريد أن نفكر فيها إلا توهما هي أشد الأشياء نكرا بالقياس إلى الأطفال والصبيان المحدثين، فنحن نكره أن نرى هذه الصلة ولكننا نستبيح لأنفسنا أن نتحدث عنها، في حين نحرص كل الحرص على ألا يرى الأطفال والشبان المحدثون شيئا يشير إليها، وعلى ألا يسمعوا لفظا يحمل على التفكير فيها، ومع ذلك فسترى أن القصة تدور كلها على أن شابين محدثين قد رأيا ما لم يكن ينبغي أن يرياه.
كان المنتظر أن يغضب الجمهور لهذه المشاهد، وأن ينكر هذه الجرأة في قصة جدية لا يراد بها العبث ولا اللهو، وإنما يراد بها العظة والتأديب، ومع ذلك فلم يغضب الجمهور ولم ينكر، وإنما تأثر ورضي، بل أعجب إعجابا شديدا؛ ذلك لأن الكاتبين قدرا هذا كله فاصطنعا في هذا الأمر الدقيق مهارة قوية جدا؛ عرضا هذه الصلة ولم يعرضاها، لم يشيرا إليها بالألفاظ وإنما قدما لها مقدماتها كلها، حتى إذا أوشكت هذه المقدمات أن تنتج نتائجها أو أخذت تنتجها أسدل الستار، فأرضيا العقل وأرضيا الحياء الاجتماعي معا.
ولنأخذ في عرض هذه القصة عليك، فقد يكون تحليلها خيرا من الفلسفة في نقدها، ولنبدأ بأشخاص هذه القصة فنقدمهم إليك؛ «فلوسيان أوملي» رجل متوسط السن، حسن الطلعة، جميل المنظر، خلاب للنساء، ماهر في استهوائهن، وهو إلى هذا محب للذة متهالك عليها، يقدمها على كل شيء، ويستبيح في سبيلها كل شيء؛ يكذب وينتحل كما يشرب وكما يأكل، أهون شيء عليه أن يستصبي امرأة، وأهون شيء عليه أن ينصرف عنها، وهو في هذا كله ممثل ماهر طلق اللسان، خصب الخيال، قادر على أن يظهر مظهر المحب الذي أضناه الحب، قادر على أن يظهر أيضا مظهر الرجل الجلد الذي يعرف كيف يحتمل الأذى ويصبر على المكروه، ومن حقه أن يكون كذلك، فهو قد بلا حلو الحياة ومرها، وتقلب في خيرها وشرها، كان غنيا ضخم الثروة مترفا مسرفا في الترف، ثم أصبح فقيرا مفرطا في الفقر، ثم عادت إليه الثروة فاستطاع أن يستأنف حياته الأولى، وهو يتقلب بين هذا الفقر والغنى ويتردد بين هذا النعيم والبؤس في سهولة ويسر غريبين، لم يشعر أحد بأنه فقير، ولم يقدر أحد أنه قد يبيت أحيانا على الطوى، وإنما رأى الناس جميعا فيه أنه غني مترف.
وله ابن شاب في السابعة عشرة من عمره، قوي الذهن ذكي الفؤاد، شديد الميل إلى العلم، قوي الاتصال بالدرس، يخالف أباه كل المخالفة في أخلاقه وعاداته وفي ميوله وأهوائه؛ هو صادق حريص على الصدق، في حين أبوه كاذب مسرف في الكذب، وهو شديد الحياء في حين أبوه غليظ القلب لا يكره الغدر، تراه فلا تشك في أنه أشبه بأمه التي ماتت منه بأبيه الحي.
وهناك شخص ثالث يوضع أمام الشخص الأول، وهي امرأة متوسطة في السن، بارعة الجمال كنساء القصص جميعا، حلوة الحديث، خلابة، ميالة إلى اللذة، ولكن الله قد حرمها إياها؛ لأنها زوج رجل شيخ عالم قد بعد صوته وأعجب به الناس جميعا، وهو منصرف إلى علمه وإلى شيخوخته عن شباب امرأته وحبها للذات الحياة. هذه المرأة هي «مرسلين فاليتي»، هي ظمئة إلى اللذة ولكنها تتردد وتخشى الإقدام عليها، تشفق من غدر الرجال وقسوتهم، وتخاف أن تترك الحرمان إلى الحب فلا تجد فيه إلا ألما وحسرة، ولها ابنة شابة في الخامسة عشرة من عمرها يجب أن تضعها بإزاء الغلام الذي قدمت لك وصفه وهو فيليب. هذه الفتاة هي «جيزيل فاليتي»، جميلة خفيفة الروح، حلوة الحديث، ذكية القلب، أشبه بأبيها العالم منها بأمها الميالة إلى اللهو، حساسة مع هذا، قوية الشعور، شديدة الإيمان بالمثل الأعلى، طاهرة كسنها، متأثرة بأبيها الفيلسوف شديدة الإعجاب به؛ لأنها تشتغل معه، يملي عليها كتبه وهي شديدة الاغتباط بهذا. أليست أسبق الناس إلى العلم بآراء الفيلسوف؟ هؤلاء هم أشخاص القصة، ولست أذكر الخادم الذي لا يخلو من خصال مضحكة معجبة.
أظنك استطعت أن تتصور القصة وتتوهم حوادثها توهما، فلنبدأ في تحليلها. •••
نحن في بيت «لوسيان»، في حي من الأحياء القديمة في باريس، والبيت نفسه قديم، كل شيء فيه يدل على ضيق ذات اليد؛ ليس فيه ضوء الكهرباء، وليس فيه أدوات الدفء الحديثة، وإنما يضاء بغاز الاستصباح، ويصطلي أهله في الشتاء نار الخشب أو الفحم في المواقد، ونحن في أعلى البيت، وليس في هذا البيت هذه الآلة الرافعة التي تعفيك من الصعود الطويل الشاق، ونحن نرى الغلام «فيليب» قد جلس يكتب إلى مائدة قد كثرت عليها أصناف الحلوى، لا يشك من رآها في أنها قد أعدت لتناول الشاي، ولكن طارقا يطرق ثم يليه طارق آخر، وكلاهما صاحب دين يجتهد الفتى في أن يتخلص منه، ثم يطرق طارق آخر، فإذا هو خادم قد استأجره أبو الغلام ساعات ليعمل بتقديم الشاي، وقد أقبل صاحب البيت، فإذا هو، كما قدمت لك، شديد النشاط منطلق اللسان، جريء فرح، مبتسم للحياة مزدر لما فيها من ألم، وهو يلقي على ابنه دروسا قيمة جدا، يعلمه الكذب والنفاق، ويعلمه كيف ينبغي أن يظهر الغنى وهو فقير: ليس لدينا ضوء الكهرباء لأننا من المحافظين، نحب القديم ونكره هذا الاختراع الحديث الذي يؤذي العين، ونحن نؤثر نار الخشب على الدفء الحديث؛ لأن في نار الخشب جمالا شعريا، ونحن نؤثر أن نصعد في السلم مهما يكن هذا الصعود طويلا؛ لأننا لا نحب هذا الخمول والكسل اللذين يخلد إليهما المترفون من أبناء هذا العصر، وأثاثنا قديم بال؛ لأننا ورثناه عن أجدادنا القدماء، ونكره أن نغيره، وأجدادنا هؤلاء كانوا من أشراف فرنسا، ولكنهم أهملوا علامة الشرف أثناء الثورة. يقول هذا كله لابنه وهو يعلم أنه كاذب، وهو يعلن إلى ابنه أن هذا كذب ولكنه شيء لا بد منه، ولا سيما بعد دقائق حين يأتي الزائرون، وأبدع من هذا كله أنه أقبل ومعه صورتان يظهر عليهما الجمال الفني: إحداهما صورة رجل لا يعرفه طبعا، ولكنه يزعم ويأمر ابنه بأن يزعم أنه أحد أجداده، والأخرى صورة امرأة لا يعرفها، ولكنه يزعم ويأمر ابنه أن يزعم أنها إحدى جداته.
ولست ألخص لك حديثه مع الخادم، ولا أمره إياه بأن يظهر بأنه متصل بالبيت منذ عشرين سنة، ولست ألخص لك درسا ألقاه على ابنه في كيفية الاستقبال، والتحدث إلى النساء وتقبيل أيديهن، فقد يطول الأمر إن حدثتك بهذا كله، ولكن الباب يطرق، وقد دخلت «مرسلين» وابنتها «جيزيل» واعتذرتا عن العالم فهو لم يستطع أن يحضر؛ لأن لديه أمرا ذا بال شغله، وقد أخذوا يتحدثون بما تفهم منه أن هذا الرجل يحب هذه المرأة ويريد أن يغويها، وهو يظهر نفسه غنيا مثريا ، ولكنه يتكلف العيشة الضيقة حبا للقديم، وهي تصدقه أو تظهر أنها تصدقه، وقد انتهز فرصة فنهض مع المرأة يظهر لها بيته ثم عاد، وفي أثناء غيابهما تحدث الصبيان، ففهمت نفسيتهما كما قدمت لك، ولم يكد الرجل يعود مع صاحبته حتى يأمر ابنه بأن يظهر لصاحبته الفتاة، فينصرف الصبيان، ويخلو الرجل إلى هذه المرأة فيتحدث إليها في حبه، ونفهم أنها تقبل هذا الحب وتميل إليه، ولكنها مترددة مشفقة، على أن هذا التردد والإشفاق لا يثبتان، فهي ترضى حينما ينبئها أنه سيقضي الصيف قريبا من مصطافها في الأقاليم، وقد أقبل مقبل يحمل رسالة برقية، يقرؤها الرجل فيظهر عليه شيء من الاضطراب، ولكنه يستأنف قوته، ثم تنصرف المرأة وابنتها، وإذا صاحبنا يتنفس الصعداء، وإذا هو فرح مبتهج يكاد يجن فرحا وابتهاجا؛ ذلك أن هذه الرسالة البرقية تحمل إليه الثروة؛ فقد مات أحد أقاربه وأورثه مقدارا ضخما من الملايين، هو مبتهج، انظر إليه يعطي الخادم مائة فرنك، ثم يعرض عليه أن يظل متصلا به، وانظر إليه يلح على ابنه في أن يخرج معه للعشاء في الحانة واللهو بعد ذلك، هو فرح ولكن ابنه حزين، وهو يخرج ليلهو، ولكن ابنه يبقى ليفكر ... •••
وإذا كان الفصل الثاني، فنحن بعيدون عن باريس، نحن في أحد الأقاليم الفرنسية في قصر من قصور الريف، قد اشتراه لوسيان ليجاور صاحبته التي أقبلت مع زوجها وابنتها لتقضي الصيف، وهذا القصر قديم وأثاثه قديم أيضا ولكنه ثمين، ونحن في مكان من القصر كان كنيسة ثم حول منذ حين دارا للكتب، وقد اختاره «لوسيان» لنفسه، وهو يحظر على الخادم أن يدخل فيه أحدا مهما يكن إلا «مرسلين» طبعا. وانظر إلى «مرسلين» قد أقبلت، وانظر إليه يتلقاها فرحا مبتهجا، واسمع لهما يتحدثان، فستفهم أن حبهما قد تقدم حتى أشرف على غايته، وأن الصبيين قد تحابا أيضا فهما متلازمان وهما الآن عند النهر يصيدان، ولكن «مرسلين» مترددة محزونة كانت تودع زوجها الذي سافر إلى باريس ليقضي فيها أياما، فرأته حزينا مكسور النفس، وذلك يؤلمها، وهي في الوقت نفسه تخاف أن يخونها صاحبها، ولكن الحب واللذة أقوى من الإشفاق والتردد، فقد سمحت لصاحبها، وتوشك أن تسلم له لولا أن زائرا قد أقبل، فلا بد من أن يلقاه «لوسيان» ويصرفه، وقد خرجا معا من دار الكتب للقاء هذا الزائر.
ولكن انظر إلى الصبيين قد أقبلا فرحين مبتهجين، وإذا الفتى يريد أن يدخل هذه المكتبة فيثب من النافذة ويكره الفتاة فتثب أيضا، وهي تلومه على اقتحام هذه النافذة والدخول في هذا المكان الذي يريد أبوه أن يختص به، وهو لا يحفل بهذا اللوم. وانظر إليهما يقلبان الكتب وينظران فيها، ولكن انظر إلى الفتاة مضطربة؛ لأنها رأت أمها مقبلة ومعها «لوسيان» فهي تنبئ صاحبها الفتى، وهو مضطرب وقد اضطرا إلى أن يختبئا من حيث لا يراهما أحد، ولكنهما يريان كل شيء، وقد فتح الباب ودخل العاشقان ثم أغلق وأحكم إغلاقه ثم أخذا يتناجيان، وما هي إلا أن يستأنف الرجل هجومه، وأخذت المرأة تدافعه دفاعا ضعيفا ثم أسلمت، وإذا هو يجذبها إلى مكان ممهد وإذا الستار يسدل.
ثم يرفع بعد حين، وقد انصرف العاشقان، وخرج الصبيان من مكمنهما مضطربين اضطرابا لا حد له؛ لأنهما رأيا كل شيء! واضطراب الفتاة منكر قد عبث بنفسها وجسمها، فهي ذاهلة مرتعدة، قد فقدت أو تكاد تفقد صوابها، وهي لا تكاد تثبت في موقفها أو مجلسها، والفتى أثبت منها وأقدر منها على التفكير، فإذا هو يهدئها ويجتهد في تسليتها، ولكن ليس ذلك بالشيء اليسير؛ فقد رأت الفتاة منكرا من الأمر ولم تكن تقدر أن الحب دنيء منحط إلى هذا الحد، ولم تكن تقدر أن أمها آثمة إلى حد أنها تزدري زوجها الشيخ وتخونه، وإنما كانت تقدر أن الحب ابتسام وطهارة وسعادة هادئة، فإذا هي لا ترى إلا حيوانية وضيعة، وكانت تكبر أمها وتجل أباها، فإذا هي مضطرة إلى أن تزدري أمها وترثى لأبيها الشيخ، والفتى مع ذلك يهدئها ويعظها ويعدها حبا طاهرا نقيا، وهي قد كرهت كل حب فلا تطمئن ولا تقبل من الفتى وعظا ولا تسلية؛ حتى يعلن إليها أنه سيحبها كما يحب الأخ أخته؛ فهي مطمئنة إلى ذلك راضية به.
ولكن انظر إلى الباب قد فتح وقد أقبل «لوسيان»، فما أشد دهشه حين يرى الصبيين! وما أشد اضطراب الصبيين حين يريانه! وهذا موقف شديد التأثير جدا؛ لأنه يظهر الإنسان حين ينتهي إلى أقبح منازل النفاق والكذب، فانظر إلى هذا الرجل يلوم الصبيين لوما شديدا؛ لأنه يكره أن يخلو بعضهما إلى بعض، وانظر إليه، وقد صرف الفتاة إلى أمها ليزجر ابنه زجرا عنيفا؛ لأنه يعبث بهذه الفتاة ولا يرعى حرمة الصداقة، ولا حرمة أبيها الشيخ الجليل، والفتى يدفع عن نفسه دفعا قويا، ولكنه يجتهد في ألا يفهم أبوه أنهما قد رأيا شيئا، حتى إذا فرغ من زجر ابنه وتأديبه، صرفه فانصرف. ووقف هو يسأل نفسه فيم أقبل؟! ثم يذكر أنه أقبل يلتمس شيئا قد تركته صاحبته. •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت ستة أشهر على هذا كله، ونحن في باريس في بيت فخم أنيق حسن الأثاث فيه كل ألوان الترف الحديث، ونحن نرى «فيليب» قد جلس إلى مكتبه وهو يكتب، وقد أقبل أبوه فأخذ يحدثه، فماذا نفهم من هذا الحديث؟ نرى الرجل على حاله لم يغيره الغنى كما لم يغيره الفقر؛ فهو كاذب منافق، يستحب الكذب والنفاق، ويتقلب فيهما في سهولة ويسر، وهو ضيق الذرع بصاحبته قد سئمها وزهد فيها، ويريد أن يخلص منها بالكذب كما اتصل بها بالكذب أيضا، ونحن نسمعه يحدث ابنه فيذكر له أن هذه المرأة غائبة عن باريس لأن أختها كانت مريضة، وقد ماتت، وأنها ستعود بعد أيام، وأنه يريد السفر إلى «بروكسل» ليتبع صاحبة جديدة له فيقضي معها أياما، ولكنه يطلب إلى ابنه أن يزعم لكل من يسأل عنه ولهذه المرأة بنوع خاص أنه مسافر إلى مدينة «جرينوبل» لعمل هام، وهو لا يخفي الآن على ابنه حب هذه المرأة له ولا ما كان بينهما من صلة، ولم يخف على ابنه هذا وهو يتخذ ابنه رفيق لهوه؟ ألم يصطحبه منذ أيام إلى الحانة حيث تناول العشاء مع امرأتين، ولها كل واحد منهما مع إحدى هاتين المرأتين؟! وهو يسخر من ابنه سخرية شديدة؛ لأن الغلام ندم على لهوه وخيانته لصاحبته الفتاة، ولأنه اجتهد في أن يقطع الصلة مع هذه المرأة التي عرفها منذ أيام ويستأنف الوفاء لصاحبته، والأب يعظ ابنه وينصح له بأن يكون حرا جريئا لا يخضع لهذه القوانين الخلقية التي يكبرها المغفلون.
وهو في ذلك وإذا الخادم يدخل فينبئه بأن «مرسلين» تستأذن، فيلقى الخادم لقاء منكرا ويعنفه تعنيفا شديدا، ألم يأمره بأن ينكر وجوده على كل إنسان! ولكن الخادم قد أنكر فلم تصدقه الزائرة، وهي تلح في أن ترى «فيليب»، فانظر إلى الأب وقد استخفى في إحدى الغرف وأمر ابنه أن يلقى صاحبته وأن ينبئها بسفره، وقد دخلت المرأة مضطربة محزونة، فلا تكاد تسأل عن صاحبها وتسمع أنه مسافر حتى تكذب الفتى وتلح عليه وتنبئه بكل شيء وتسرف في الإلحاح، وإذا الفتى يعترف بأنه كان كاذبا وبأن أباه مختبئ، وقد نهضت المرأة ففتحت باب الغرفة ودعت صاحبها، فيقبل مبتسما ويحييها تحية المشوق، ويعلن سخطه على ابنه وعلى الخادم؛ فقد أمرهما أن ينكرا وجوده ولكن لا عليها بل على غيرها من الناس، وهو يصرف ابنه ويخلو إلى صاحبته، فيكون بينهما عتاب ثم لا يلبث أن يقنعها ويرضيها بمهارته وخداعه، وإذا هي تنبئه بشكها وغيرتها وتخرج من حقيبتها مسدسا كانت تريد أن تقتل نفسها به لو ثبت لها أن صاحبها جفاها، وهو يأخذ هذا المسدس فيضعه على المائدة ثم يميل إلى صاحبته مغازلا مداعبا حتى تطمئن، ثم يتفقان على أن يتناولا العشاء عندها بعد ساعات وتخرج.
وإذا هو يعمد إلى التليفون فيعتذر إلى صاحبته الثانية، ويأخذ منها موعدا آخر قبل العشاء وموعدا بعد العشاء، ثم يخرج ويترك ابنه على أن يوافيه عند «مرسلين» للعشاء أيضا، ولكن «جيزيل» قد أقبلت وهي ذاهلة مضطربة لما رأت من اضطراب أمها، وقد جاءت تلتمس أمها هذه فلم تجدها، فأخذت تتحدث إلى فيليب وهي محزونة دهشة ؛ لأنها ترى أن شيئا في هذه الغرفة قد تغير منذ سفرها، ثم لا تكاد تمضي في الحديث مع صاحبها حتى يشعر أنه هو أيضا قد تغير، أليس يرثى لهذه المرأة الآثمة؟! أليس يعذر حب أبيه وقد تعودا أن ينكرا الحب ويرياه إثما؟! ولكنه يمضي في الاعتذار لأبيه، وكلما رأى سخط صاحبته اجتهد في إقناعها بضعف الإنسان وقوة الحب، وإذا هي تحسب أنه خانها، وإذا هو يكاد يعترف لها بذلك، وقد جثا بين يديها مستعطفا يريد أن يتكلم، فتضع يدها على فمه لتمنعه من الكلام، ولكنه يقبل هذه اليد قبلة حب ولذة، وإذا الفتاة مضطربة ساخطة تنكر هذه القبلة، وتنكر هذا الحب! ألم يعاهدها على أن تكون الصلة بينهما صلة الأخوين؟! لقد أفسده أبوه إذن، ولقد أصبح رجلا كغيره من الرجال لا يستطيع أن يتصور الصلة بين الرجل والمرأة إلا مع هذه الضعة الجنسية، والفتى يجتهد في أن يقنعها بأن الحب ليس كله إثما، بل قد يكون طاهرا نقيا، ولكنها لا تقتنع وقد يئست من كل شيء؛ يئست من أمها، ويئست من صاحبها ... فما الحياة؟ وفيم الحرص عليها؟
انظر إليها وقد هدأت فجأة وهي تحدث صاحبها في دعة واطمئنان، وتظهر له أنها كانت مخطئة وأنها ترى أنه مصيب وأن الحياة الإنسانية لا تستطيع أن تبرأ من ضعفها الطبيعي، وهي إذن تقره على رأيه في الحب وتريد أن تكون صاحبته الصادقة، وهي تأذن له في تقبيلها فيفعل، ثم تأمره أن يذهب ليحضر معطفه، فقد آن أن ينصرفا، وقد ذهب ليلبس معطفه وإذا يدها قد امتدت إلى المسدس، وإذا هي تطلق النار على نفسها، وإذا هي صريعة، وإذا الفتى قد أقبل مذعورا يصيح: قتلناها!
ديسمبر سنة 1924
الصحو
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
نعم «بول هرفيو»، فأنا أعود بك إليه اليوم بعد أن تركته أكثر من سنة. أعود بك إليه راضيا مطمئنا، بل سعيدا مبتهجا، ولست أشك في أنك تشاركني في هذا الرضا والاطمئنان، بل في هذه السعادة والابتهاج، فلست أعرف كاتبا فرنسيا ممثلا يزداد قارئه حرصا على عشرته كلما قرأه مثل هذا الكاتب، ولعلك تذكر القصص الخمس التي لخصتها له في السنة الماضية. ولقد قال أحد أصدقائي حين رآني ألخص قصصه تلخيصا متصلا: «كأنك تريد أن تضع كتابا موضوعه «بول هرڨيو».» ولم لا؟ وأي كتاب أنفع وأكثر فائدة ولذة من كتاب يدرس هذا الكاتب من جهاته المختلفة: يدرس فنه، ويدرس فلسفته، ويدرس قصصه، ويدرس شخصيته بوجه عام، ولكن من لي بالوقت والقوة أنفقهما في وضع كتاب عن «بول هرفيو»؟!
حدثتك غير مرة عن فلسفة هذا الكتاب في تمثيله، وقلت إنه ليس كاتبا مبتسما، وإنه لا يرى الحياة الإنسانية مبتهجا بها راضيا عنها، ولكنه في الوقت نفسه ليس شديد التشاؤم ولا مسرفا فيه، وإنما هو يرى الحياة كما هي، قد امتزج حلوها بمرها، واختلط خيرها بشرها، وليس لإنسان أن يحتكم فيها ولا أن يجعلها صفوا خالصا، وإنما الإنسان مضطر أن يحتملها كما تأتى، فيستمتع بما فيها من خير، ويصبر على ما فيها من شر، وقد يكون هذا الشر كثيرا، وقد يكون خالصا لا أثر للخير فيه، ولكنه مع ذلك ليس قانون الحياة، وإنما أثره في الحياة قوي لا ينبغي ازدراؤه ولا الإعراض عنه.
وحدثتك غير مرة أيضا عن مذهبه في التمثيل، فهو شديد التأثر بقدماء الممثلين من اليونان، وأكاد أقول إنه شديد التأثر بهؤلاء القدماء والاقتداء بهم؛ يذهب مذهب نوابغهم، وينتهي كثيرا إلى مثل ما انتهوا إليه، ينتهي إلى هذه العقد التي تعرض للإنسان في حياته دون أن يكون له عليها سلطان، ودون أن يكون قد عمل في تكوينها، ودون أن تكون له القدرة على حلها أو التخلص منها، كأن هناك يدا خفية تدبر حياتنا وصلاتنا، وتقفنا أمام المعضلات من حيث لا ندري ودون أن يتبين لنا سبيل التخلص منها. وكأن غاية هذه اليد الخفية، التي تدبر حياتنا وتخلق لنا العقد والمعضلات، إنما هي إكراهنا على أن ننزل عن كبريائنا وغرورنا، ونعترف بأننا مهما نبلغ من قوة معنوية أو مادية فإن هنالك قوى أشد منا بأسا وأعظم منا سلطانا، وهي قادرة على أن تسحقنا سحقا، وعلى أن تردنا إلى أطوارنا حين يغرينا الغرور بالخروج منها، وليست هذه القوة القاهرة المسيطرة في فلسفة «بول هرفيو» هي تلك القوة التي كان يؤمن بها القدماء ويؤلهونها، بل يبسطون سلطانها على الآلهة أنفسهم، وهي قوة القضاء والقدر التي كانت تحكم الناس والأشياء والآلهة معا في تمثيل اليونان القدماء خاصة وأدبهم عامة، وإنما هي قوة قاهرة مقهورة في وقت واحد: قاهرة لأننا لا نستطيع أن نخلص منها ولا أن نتقي آثارها، ومقهورة لأن عقلنا قد يستطيع أن يفهمها وأن يدرسها وأن يصورها تصويرا واضحا وجليا؛ فهي إذن ليست قوة إلاهية، وليست قضاء وقدرا، ليست شيئا فوق عقولنا، وإنما هي قوى طبيعية نجدها في أنفسنا، ونجدها في حياتنا وصلاتنا، بل هي القوى التي تكون نفوسنا والتي تؤلف حياتنا، والتي تخلق ما بيننا من الصلات.
ولتكن قصة اليوم مثلا يوضح هذه الفلسفة وهذا المذهب في التمثيل، فأنت إذا قرأت هذه القصة لم تستطع أن تدفع عن نفسك ألما شديدا وحزنا عنيفا ولوعة تعبث بالقلب، ولكنك في الوقت نفسه تحس راحة واطمئنانا وشيئا من الرضا غير قليل. تجد الحياة كما هي: مزيجا من الخير والشر، لا يستطيع الإنسان أن يصورها كما يحب، ولا أن يغيرها كما يشتهي، وإنما هو مضطر إلى أن يحياها ويخضع لقوانينها. تجد فيها الابتسام والاكتئاب. وما مصدر هذا الابتسام؟ وما مصدر هذا الاكتئاب؟ وفيم يسعد هذا الشخص ويشقى هذا الشخص من أشخاص القصة؟ مصدر هذا كله قوى قاهرة ليس لنا سبيل إلى أن نفر من سلطانها ولا إلى أن نتحلل من قيودها، وليست هذه القوى في السماء، بل ليست هذه القوى بعيدة عنا، وإنما هي قوى أنفسنا التي بها نحيا ولها نعيش.
ليست القصة التي نحن بإزائها اليوم إلا جهادا عنيفا بين الأثرة والإيثار، أو بين الحب وعاطفة الأمومة من جهة، وبين الحب والسلطان وعاطفة البنوة من جهة أخرى، فأنت ترى أن كل هذه العواطف والقوى التي يجاهد بعضها بعضا وينتصر بعضها على بعض، ويكون جهادها وانتصارها حياتنا وصلاتنا وما فيها من ابتئاس وابتهاج؛ ليست قوى أجنبية، وإنما هي عواطفنا وأهواؤنا التي تكون نفوسنا وشعورنا، والتي نستطيع أن نفهمها ولا نستطيع أن نخضعها.
انظر إلى هذه المرأة قد كادت تفارق شبابها، ولكنها مع ذلك محتفظة منه ببقية لا بأس بها، ولها حظ موفور من الجمال والروعة، ولها حظ موفور من القوة، ولها حظ موفور من الخيال الذي يحيي في نفسها آمالا غريبة. أحبت زوجها ووفت له، وأحبت ابنتها وعطفت عليها، ولكنها لقيت في طريقها شابا جميلا قويا خلابا، مال إليها فمالت إليه، وكلف بها فكلفت به، وإذا هي مضطربة بين الوفاء لزوجها وابنتها، والاندفاع مع هذا الحب الآثم الذي أيقظ في قلبها أدنأ العواطف الحيوانية وأشدها قبحا وانحطاطا. هي مضطربة بين الطهر والدنس، بين البر والغدر، وهي لا تستطيع أن تخلص لإحدى هاتين العاطفتين؛ لأن في طبيعتها خيرا كثيرا، ولكن في طبيعتها شرا أيضا، فهي شقية بهذا الاضطراب، والناس حولها أشقياء بهذا الاضطراب أيضا. هي معرضة عن زوجها مشفقة منه، تستحييه وتخافه وتخاف عليه أيضا، وزوجها شقي بهذا الإعراض، يعني نفسه ويكلفها المشقة في البحث عن أسبابه ومصادره. يحس أن امرأته لا تحبه ثم يفرض أنها مريضة، وكل ذلك يشقيه ويحزنه، وهي منصرفة عن ابنتها؛ لاضطرابها بين هذين الرجلين: زوجها وحبيبها؛ ولاضطرابها بين هاتين العاطفتين: عاطفة الوفاء وعاطفة الخيانة، وهي تزدري نفسها أحيانا، وتحس شيئا من الخجل أمام ابنتها فتزداد إعراضا عنها وتنكرا لها، حتى لا تكشف الفتاة شيئا تكرهه من أمها، والفتاة شقية بانصراف أمها عنها وتنكرها لها. تعودت من أمها عطفا ومودة وحنانا، وهي الآن شديدة الحاجة إلى عطف أمها؛ فهي تحب، وهي تريد أن تبسط هذا الحب لأمها، وهي تريد أن تستعين بأمها على هذا الحب أيضا، ولكنها لا تجد من أمها إلا إعراضا وازورارا.
وانظر إلى هذا الفتى قد لقي هذه المرأة خالي القلب حرا من كل صلة، فما هي إلا أن مال إليها وكلف بها واندفع في حبها، ونسي في سبيل هذا الحب واجباته كلها؛ نسي أنه صديق لزوج هذه المرأة، ونسي أن عليه لأبيه ولبلاده حقوقا عظيمة الخطر. نسي هذا كله، وأخذ يلح على هذه المرأة، والمرأة تدافعه عن نفسها حتى اعترفت له بالحب، وظلت مع ذلك ممتنعة؛ فهو سعيد لأنه يشعر بحبها، وهو شقي لأنه لا يظفر بثمرة هذا الحب. ثم انظر إلى الحوادث قد أقبلت فمست كل هذه القوى المختلفة المضطربة فإذا هي نار متأججة، وإذا هي قد انتهت إلى نتائجها الطبيعية؛ فانتصر منها ما انتصر، وانهزم منها ما انهزم، واحتمل أشخاص القصة كارهين أو راضين أثقال هذا الجهاد وما انتهى إليه من انتصار وانهزام، كل ذلك والحياة العامة للناس والأشياء مطردة في سبيلها لم تحس من هذا كله شيئا. •••
نحن في باريس، في قصر فخم تسكنه أسرة نبيلة ضخمة الثروة رفيعة المنزلة، تتألف من أشخاص أربعة: أولهم صاحب القصر «راوول دي مجيه»، وهو رجل طيب القلب، طاهر النفس، مطمئن إلى الحياة، لا يحس فيها شقاء ولا شرا، يحب الناس ويحبه الناس، شديد العطف على أسرته عظيم الحب لها؛ ثم أم هذا الرجل وهي امرأة شيخة، خبيرة بالدهر، بصيرة بأهله، شديدة الحب لابنها، ولكنها مفتونة بالشخص الثالث من أشخاص هذه الأسرة؛ وهي «روز» حفيدتها، فتاة ناشئة حلوة، لا تعرف من الحياة إلا ما عودها أهلها من رضا ودعة وآمال كلها محققة، هي فتاة منعمة حقا؛ وأما الشخص الرابع فهي «تريز»، أم الفتاة وصاحبة القصر، وقد قدمت لك تشخيصها آنفا.
فإذا رفع الستار رأينا رجلا وامرأته يتحدثان وهما يستعدان للانصراف، وفهمنا أن أصحاب القصر يستقبلون زوارهم اليوم، وفهمنا أيضا أن لهذين المتحدثين ابنا شابا قد أحبته فتاة هذا القصر وأحبها، وهما يريدان الخطبة والزواج، وكل شيء يجعل هذا الزواج حسنا ملائما للشابين وأسرتيهما، لولا أن شكوكا تحوم حول أم الفتاة، وهذه الشكوك تكفي لتصرف الفتى عن هذه الخطبة وعن هذا الزواج. وقد اعتزم الرجل وامرأته خنق هذا الحب الناشئ قبل أن ينمو، وهما يتهيئان للانصراف، وإذا الفتاة قد أقبلت ومعها جدتها، وإذا هي تتثبت من موعد كان بين الأسرتين غدا للنزهة ثم تستشير أم الفتى في زيها وشكلها، فإذا أحست أم الفتى أن مصدر هذا كله إنما هو أن الفتاة تريد أن تعجب خطيبها، أعلنت إليها أن الفتى لن يشترك في هذه النزهة! ثم أعلنت إليها أنه لن يحضر المائدة! ثم أعلنت إليها أن الفتى قد يسافر سفرا طويلا! ثم انصرف الزوجان، وإذا الفتاة محزونة مكتئبة، وإذا جدتها تسليها وتلح عليها في أن تنبئ أمها بهذا الحب، والفتاة مترددة؛ لأنها تحس من أمها انصرافا عنها وإعراضا. وقد خيل إلى الفتاة أن أمها قد استكشفت هذا الحب، فهي منكرة له ساخطة عليه، تكره من ابنتها أن تحب أحدا غير أبويها، والفتاة خجلة محزونة، وجدتها تشجعها على أن تنبئ أمها وتلتمس عندها المعونة. وقد انصرفت الفتاة وأقبل أبوها، فأمه تنبئه بهذا الحب، وهو مرتاح له مستعد لتأييده، ولكن هذا فتى قد أقبل ينبئ الشيخة أنها منتظرة على الشاي في غرفة الاستقبال فتنصرف، ويتحدث الرجلان، فنفهم أن هذا الفتى هو الأمير «جان» من أسرة ملكية قد أقصيت عن ملكها واضطرتها الثورات المتصلة إلى المهاجرة، فالفتى في باريس، وأبوه مرابط على حدود مملكته يراقب الحوادث ويأتمر بالنظام الجديد ويستعد لاسترداد الملك، وقد فهمنا أيضا أن هذا الأمير الشيخ قد وصل اليوم إلى باريس في بعض أعماله، وهو مقبل إلى هذا القصر بعد حين ليزور هذه الشيخة التي رأيناها آنفا، فالصداقة بينهما قديمة، وصاحب القصر يعتذر إلى الفتى؛ لأنه مضطر إلى الانصراف، وهو يكلفه أن يعتذر إلى أبيه. وقد فهمنا بنوع خاص أن الصداقة متينة بين هذين الرجلين، فهما صديقا طفولة.
لا يكاد صاحب القصر ينصرف ويخلو الفتى إلى نفسه حتى تأتي «تريز»، فإذا تحدثا عرفنا كل ما قدمت لك من هذا الحب الآثم بين هذه المرأة وهذا الفتى، وعرفنا أن هذه المرأة ما زالت متمنعة تجاهد صاحبها وتأبى عليه؛ لأنها لا تريد أن تخون زوجها ، ولا تريد أن تخون ابنتها، والفتى يلح ويسرف في الإلحاح، ثم يترك التضرع إلى المحاجة. أليست قد تركته يقبلها؟ أليست قد قبلته أيضا؟ وإذن فقد أذنت بهذا الحب وأخذت بحظها منه، وإذن فليس لها الحق بعد أن أضرمت هذه النار أن تنكل أو تفر أو تكون مصدر شقائه أو شقائها، وهي تعترف بأنها قد رضيت قبلته وأنها قد قبلته، وأن غرائزها الحيوانية المنحطة هي التي ورطتها في ذلك، ولكن فيها عواطف أخرى راقية ستعصمها من الإثم؛ تلك عواطف الزوجية والأمومة. ولكن الفتى بعيد من اليأس، فهو يضمها مرة أخرى، ويصف لها بيتا يملكه في أقصى باريس قريبا من الغابة، يدعوها إلى أن تزوره فيه غدا، فتأبى إباء شديدا.
وهما في ذلك وإذا الأمير الشيخ قد أقبل، فلا يكاد يستقر حتى يرسل ابنه في حاجة له، وحتى تأتي صديقته الشيخة، ويخلوان فيتحدثان، وإذا نحن نفهم من حديثهما أن مودتهما هذه إنما هي بقية حب قديم كان قويا ولكنه كان عنيفا بريئا، وما هي إلا أن نسمع هذه تشكو إلى صديقها من ابنه الفتى، وتنبئه أنه يتبع بحبه صاحبة القصر، وهي امرأة متزوجة وأم معا، وتطلب إليه أن يصرف هذا الفتي عن صاحبته، وأن يجتهد في إبعاده عن باريس حتى لا تتورط صاحبته في الإثم، وحتى لا يتعرض ابنها وحفيدتها للشقاء، ولا يكاد الشيخ يسمع هذا حتى يأخذه غضب شديد على ابنه الذي بلغ به الفساد الخلقي أن يخون صديق صباه في امرأته، وقد أقبلت الفتاة، فيلقاها الشيخ لقاء حسنا مؤثرا ويقبلها قبلة عطف وأبوة، وقد تمنى لها السعادة، ويقبل الفتى، فلا يكاد يخلو إلى أبيه حتى ينبئه أبوه بأنه يريد أن يصطحبه في سفره؛ لأنه قد دبر ثورة يوشك أن يفلح فيها وأن يسترد العرش، وهو لا يسترد العرش لنفسه؛ فالناس لا يحبونه ولا يميلون إليه؛ لأنه كان قاسيا سفاكا، وإنما يسترد العرش لابنه؛ وإذن فسيعلن نزوله لابنه عن العرش، ولا بد أن يترك الفتى باريس ويذهب إلى مملكة آبائه ليقود جنود الثورة الذين ينتظرونه. يسمع الفتى ذلك فيرفض العرش في ازدراء، فإذا اشتد عليه أبوه ألح في الرفض، حتى يعلن إليه أبوه أنه إنما يرفض العرش لأنه يحب امرأة متزوجة في باريس! وتشتد الخصومة بين الأب وابنه حتى ينتهيا إلى تبادل القول الغليظ، ثم ينهض الشيخ مغضبا وقد أعلن إلى ابنه أنه يمهله يومين ليجيب جوابه الأخير.
وما يكاد ينصرف الشيخ حتى تقبل «تريز»، وقد كانت تكتب من وراء أحد الأبواب فسمعت حديث الرجلين، فلما أحست انصراف الشيخ أقبلت مرتاعة ملتاعة، وهي تلح على الفتى ألا يقبل السفر وأن يستمر في رفض العرش؛ لأن هذه الأسرة قد قضي على ملوكها جميعا أن يقتلوا غدرا، وهي تخشى على صاحبها أهوال الثورة وأهوال الملك، وإذا الفتى ينتهز هذه الفرصة لتأييد حبه فيعلن إلى صاحبته أن الحياة هينة عليه، وأنه إذا لم يثق منها بالحب والمودة والرضا فسيقبل العرش ويمضي مع أبيه لقيادة الثورة واستقبال الموت، والمرأة مضطربة مرتاعة قد تغير في نفسها كل شيء، فنسيت زوجها والوفاء له، ونسيت ابنتها والبر بها، ولم تفكر إلا في حبيبها وإنقاذ حياته، فهي تقبل ما يعرض عليها، وهي تعطيه موعدا أن تلقاه غدا في ذلك البيت الذي يقوم في طرف من أطراف باريس قريبا من الغابة.
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في هذا البيت المعتزل القديم، نرى خادما عجوزا ترتب غرفة الاستقبال وتهيئ فيها ألوانا من الورد والزهر، وإذا الأمير الشيخ قد أقبل، فترتاع الخادم، والشيخ مغضب لما يرى من الزهر، وهو يلوم الخادم وينذرها؛ فقد كان اشترى هذا البيت حين كان يريد أن يقيم في باريس، وأقر فيه هذه الخادم لتلاحظه لا ليتخذه موردا للتجارة، ولكن الخادم تنبئه بأن ابنه هو الذي أمرها أن تهيئه على هذه الحال، وأن تستخفي إذا كانت الساعة الرابعة، وقد فهم الشيخ أن ابنه على موعد مع صاحبته، فأمر الخادم أن تنصرف وأن تنبئه بمقدم ابنه متى أقبل.
ولا يكاد يخلو إلى نفسه حتى يدخل عليه أحد أعوانه ، وكان قد ضرب له موعدا في هذا البيت، فينبئه هذا الرجل بأن الثورة قد تم تدبيرها، وأن الثائرين قد ضربوا بينهم يوم العيد موعدا للظهور وعلى رأسهم الأمير الشاب، فإذا أعلن الشيخ إلى صاحبه أن ابنه يرفض العرش لأنه يحب امرأة، غضب هذا الرجل وألح على الأمير أن يجتهد في حمل ابنه على القبول ضنا بدماء الأبرياء أن تراق، وبنفوسهم أن تزهق في غير منفعة، وهما يتحدثان وإذا الخادم تنبئ أن الأمير الشاب مقبل تتبعه امرأة، فيأمرها الشيخ أن تستخفي وألا تتحرك مهما تسمع حتى يدعوها. ثم يستخفي مع صاحبه في حجرة مجاورة، وقد أقبل الأمير الفتى تتبعه «تريز»، وهو سعيد مغتبط وهي والهة مضطربة، فإذا ذكر لها حبه ذكرت له ذعرها وإشفاقها، وأنها الآن غنيمة بين يديه قد أسلمت نفسها لتحول بينه وبين الموت، وهي قد خرجت من بيتها على ألا تعود إليه، فلن ترى زوجها، ولن ترى ابنتها بعد هذه الخيانة؛ وإذن فيجب أن يحتفظ بها وأن يتركا باريس، وما الذي يمنعهما من ذلك ولم يكن يطمع إلا في هذا، ولم يكن يسمو إلا إليه؟!
ولكنهما يسمعان حركة في الحجرة المجاورة، فيريد الفتى أن يتبين الأمر فلا يكاد يدخل الحجرة حتى يغلق بابها ويرتج إرتاجا، وإذا المرأة تسمع جهادا وصراعا، وهي تهجم على الباب فلا يطيعها، وإذا هي تسمع صيحة وجسما قد خر على الأرض، وإذا هي تصيح مستعينة، وإذا الباب قد فتح وخرج صاحب الأمير فأمر المرأة أن تنصرف، وأعلن إليها أن صاحبها قد قتل وأنه جاسوس كان يتتبع الأمير؛ لأن الدولة علمت بأنه يدبر الثورة، وقد ظفر هو وأصحابه بالفتى فقتلوه وأراحوا الدولة منه ومن ثورته، والمرأة ذاهلة تستغيث وتطلب أن ترى صاحبها ولو قتيلا، وتطلب أن تقتل، ولكن الرجل يأبى عليها إلا أن تنصرف، ولم يقتلونها وليس لهم عندها ثأر؟ ومنفعتهم تقضي ألا يفعلوا، فهي إذا خرجت لم تستطع أن تدل عليهم ضنا بشرفها وسمعة أسرتها، والمرأة مترددة في الخروج، فيدنو الرجل منها يريد أن يحملها ليخرجها، وإذا هي جزعة تأخذ معطفها وقلنسوتها وتنصرف متثاقلة يكاد يصرعها الدوار، وقد أقبل الأمير الشيخ فدعا الخادمة وأمرها أن تتبع هذه المرأة حتى تبلغ مأمنها، وأن تحول بينها وبين ما قد يخطر لها من التعرض للموت، ثم يأمر بفك ابنه فيدخل عليه ابنه وقد بلغ منه الجهد وأصابه الإعياء، فلا يكادان يتحدثان حتى يعلم الفتى أن صاحبته قد اقتنعت بموته وحتى يأخذه جزع شديد؛ لأنه يشفق عليها أن تقتل نفسها، فهو يريد أن يخرج ليلحق بها، ولكنه لا يستطيع لأن الباب قد أخذ عليه، والخصومة شديدة عنيفة بينه وبين أبيه، وقد يئس الشيخ من إقناع ابنه واستعطافه، وإذا هو يلعنه ويستنزل السخط عليه، ثم يأمر صاحبه فيخلي بينه وبين الباب، ليمضي إلى هذا الحب الدنيء الذي آثره على مجد الأسرة وشرف الملك. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في القصر حيث كنا في الفصل الأول، نرى صاحب القصر قلقا مذعورا، وأمه تهدئه وترفه عليه؛ ذلك أنه عاد مع ابنته من النزهة فعلم أن زوجته قد خرجت، وهي قد تأخرت وقد أمسى المساء وأقبل الليل وليس أحد يعرف أين هي، وهو يخشى عليها كل شيء. أليست مريضة مضطربة الأعصاب؟! وأمه تجتهد في تهوين الأمر عليه، ولكنها ليست أقل منه اضطرابا، وهو يحس ذلك وينبئها به فلا تمانع فيه، بل تنصرف إلى حفيدتها حتى لا يصل إليها الخبر فيزعجها، والفتاة في غرفتها تهيئ نفسها للعشاء عند خطيبها، فإذا انصرفت هذه المرأة بقي ابنها مضطربا بين النوافذ ينصرف من إحداها إلى الأخرى، ولكن الخادم قد دخلت وهي تنبئه بأن السيدة قد أقبلت وليس عليها بأس، ولكنها متعبة جدا؛ فقد أغمي عليها في الطريق حين كانت تمشي في الغابة. وانظر إلى «تريز» وقد دخلت متثاقلة ذاهلة، فيلقاها زوجها شديد الإشفاق عليها، فلا تكاد تعرفه، وهي مع ذلك تتكلف القوة وصدق الرأي، وهي تنبئ زوجها بأن دوارا قد أخذها، وأنها رأت كأن الأرض تنشق أمامها، وزوجها يريد أن يدعو الطبيب فتأبى، فقد انتهى هذا الدوار ولم يترك لها إلا تعبا شديدا، فهي تريد أن تأوي إلى سريرها وأن تستريح.
ولكنها رأت زوجها ولم تستطع إلا أن تتبين جزعه واضطرابه، ولم تكد تسمع صوته وتحس ألمه حتى أخذت تفيق من ذلك الحلم المنكر الآثم، وإذا هي تتبين إثمها وتشعر بالألم يلذع ضميرها. واسمع لها تحدث زوجها بصوت رفيق فيه ألم وندم، وزوجها سعيد لا يكاد يقدر سعادته؛ لأنه يجد امرأته عاطفة عليه مطمئنة إليه، وكان قد فقد عطفها واطمئنانها، وهو ينبئها بذلك ويشكره لها، فلا يزيدها ذلك إلا تنبها وإفاقة، وقد وضح الأمر وانجلت الغشاوة، ورأت المرأة نفسها على حافة الهوة، وقد أراد القضاء ألا تتردى فيها. ولقد أنبأها زوجها أنه سيعتذر عن حضور العشاء الذي كانوا مدعوين إليه، فتلح عليه في أن يذهب مع الفتاة وفي أن يعتذر عنها وحدها، فيقبل ويذهب ليتهيأ، وإذا الشيخة قد أقبلت، وإذا بينها وبين هذه المرأة التعسة حديث يزيل عنها الغشاوة إزالة تامة، ويرد إليها ضميرها واضحا وعقلها موفورا وشعورها بالكرامة قويا؛ تنبئها الشيخة بأنها تعرف كل شيء، وأنها تلح عليها مع ذلك في ألا تتأخر عن هذا العشاء؛ فإن تأخرها سيطلق ألسنة الناس بما لا ينبغي، وسيعرض شرف الأسرة للخطر، والمرأة تجاهد لأنها متعبة لا تستطيع أن تحضر هذا العشاء، ولكن انظر إلى ابنتها قد أقبلت باكية تجثو بين يدي أمها وترفع إليها كتابا تنظر فيه، فإذا هو إلى الفتاة من خطيبها ينبئها بسفره غدا، وبأن أبويه يمانعان في الزواج، وأن مصدر هذه الممانعة إنما هي أمها.
لا تكاد المرأة تقرأ هذا حتى يتغير في نفسها كل شيء، فليست هي امرأة، وليست عاشقة، وليست زوجا، وإنما هي أم، وأم ليس غير. ترى ابنتها محزونة باكية، فيجب أن تزيل حزنها وتجفف دموعها. ليست مريضة فستحضر هذا العشاء، وستجتهد في إصلاح الأمر، وفي أن تحول بين الفتى وبين السفر. يجب إذن أن تمضي الفتاة مع أبيها إلى بيت خطيبها فستلحقها بعد حين، وقد انصرفوا جميعا. وخلت الشيخة إلى نفسها ، فهي سعيدة متأثرة تبكي سعادة وحزنا، ولكن انظر هذا الأمير الفتى قد أقبل يتلمس أخبار صاحبته، وهو يريد أن يراها ويلح في ذلك، والشيخة تمانعه وتأبى عليه حتى يكاد يقتنع. وهما في هذا الجدال إذ يدخل الخادم فينبئ بمقدم الأمير الشيخ، فتنصرف المرأة للقائه ويبقى الفتى، وهو يريد أن يخرج ولكنه مبهوت ... ماذا يرى؟ إنه يرى صاحبته مقبلة وقد اتخذت زينتها، فهي جميلة رائعة، كأنها لم تشهد ما شهدت ولم تسمع ما سمعت، ولم تعلم بأنه قد قتل، وهو يائس محزون، ولكنه لا يكاد يتحدث إليها في ذلك حتى يعلم أنها كانت صادقة في حبها، وأنها الآن صادقة في إقلاعها عن هذا الحب.
كانت في حلم عميق قوي منكر ثم تنبهت من هذا الحلم وأفاقت من هذا النوم، وهي ترى زوجها الوفي المظلوم، وترى ابنتها البريئة الطاهرة، وترى حبا نقيا بريئا ناشئا كاد يضحى به في سبيل ذلك الحب الآثم، وقد أفاقت وأراد العدل أن يكون هذا الحب الآثم ضحية لهذا الحب البريء.
يجب إذن أن يفترقا، وهما يفترقان في أناة ودعة ولين، فإذا خلا الفتى إلى نفسه جلس وإذا رأسه بين يديه، وإذا هو يبكي بكاء حارا، وقد دخل أبوه فرق له وأخذ يناجيه مناجاة الأب البر الشفيق، والفتى يلقى أباه في عنف ولوم، ولكنه لا يلبث أن يعترف لأبيه بأن حبه قد مات. وانظر إلى هذا الشيخ سعيدا مبتهجا يرى أن العقبة قد زالت، وأن الفضيلة قد رضيت، وأن ابنه قد أصبح ملكا، فهو يسرع إليه فيخضع له خضوع الرعية، ويأخذ يده فيقبلها قائلا: يا بني الملك.
ديسمبر سنة 1924
المحصنات
قصة تمثيلية بقلم الكاتب الفرنسي «هنري بيك»
لست اليوم ملخصا ولا ناقدا، وإنما أنا مترجم، وذلك أني كنت أنتظر أن تحمل إلينا «الألوستراسيون» هذه القصة الجيدة التي وضعها «برنستين»، والتي أطراها النقاد إطراء شديدا، ولكن «الألوستراسيون» حملت إلينا هذا الأسبوع مذكرات «بييرلوتي»، وقد كتب إلي ناس وتحدث إلي ناس آخرون، وكلهم يلاحظ أن في القصص التي حدثتك عنها منذ حين شيئا من الخفة قد لا يحبونه، فلهؤلاء أترجم هذه القصة الصغيرة، وأنا أعلم أن ناسا سيكتبون إلي، وأن آخرين سيتحدثون إلي بأن في هذه القصة شيئا من الجد يسأمونه، ولكني أريد أن أجتهد في إرضاء أولئك وهؤلاء.
الأشخاص: لمبير - مدام شيفاليه - جنفياف - لويز.
يمثل المسرح حجرة استقبال تشرف على الحديقة.
فإذا رفع الستار فمدام شيفاليه جالسة بالقرب من منظدة وقد وضعت رجليها على كرسي وهي تعمل.
المنظر الأول
لويز (تدخل وتدنو قائلة) :
مسيو لمبير يا سيدتي.
مدام شيفاليه :
فليدخل (ثم تدعوها):
هل الأولاد بخير؟
لويز :
نعم يا سيدتي!
مدام شيفاليه :
ماذا يعملون؟
لويز :
يلعبون.
مدام شيفاليه :
أنت ترينهم دائما؟
لويز :
نعم يا سيدتي.
مدام شيفاليه :
أدخلي الزائر.
المنظر الثاني (مدام شيفاليه ولمبير)
لمبير (مصافحا) :
كيف أنت يا سيدتي؟
مدام شيفاليه (هادئة) :
كما ترى.
لمبير :
ألم أزعجك؟
مدام شيفاليه :
يسرني أن أراك (ثم تسأل مشيرة إلى كرسي)
ماذا على هذا الكرسي؟
لمبير :
عليه فوط.
مدام شيفاليه :
معلمة؟
لمبير :
نعم.
مدام شيفاليه :
ضعها هنا ... هنا ... هنا واجلس. أراك تنظر إلي، وما أظن إلا أنك تضحك مني وسط هذه الأخلاق البالية.
لمبير :
أنت إذن تشتغلين أحيانا؟
مدام شيفاليه :
أحيانا! بل دائما. أثني وأعلم وأرقع، أعمل كل شيء إلا فوط المطبخ، ولم لا أصلح فوط المطبخ كغيرها من الأشياء؟ وهم قديم، ولو لم أصطنع هذا الحزم لساءت حال بيتي، ولا سيما إذا لاحظت أن لي صبيين يشغلان الخادم من الصباح إلى المساء. ما أكثر ما يبلي هذان الصبيان! فإذا أخذني الجهد فسقطت ذراعي وانكمش رأسي وأحسست أني أوشك أن أنام، صببت من هذا النبيذ الأبيض وغمست فيه كسرة، وهذا النبيذ هو الشراب الوحيد الذي يعجبني. على أنك ستذوقه معي.
لمبير :
أشكرك.
مدام شيفاليه :
أطعني!
لمبير :
بعد حين.
مدام شيفاليه :
متى أردت فقل لي.
لمبير :
أنا سعيد يا سيدتي.
مدام شيفاليه :
بماذا؟
لمبير :
بأني حيث أنا الآن. ما أحسن المقام عندك! إني لأتنفس!
مدام شيفاليه :
تعال متى شئت، فلست أغلق بابي.
لمبير :
ما كان أحسن حظي حين أتيت أصطاف هنا، وحين لقيت امرأة مثلك؛ فإن الحياة هنا مريحة! ألست ترين هذا؟ (مدام شيفاليه لا تجيب)
ليس من شك في أنك وحدك حملتني على البقاء.
مدام شيفاليه :
أهنئ نفسي بذلك، فلم يكن من حقك أن تتركنا.
لمبير :
لست تتكلفين شيئا لتعجبيني، ومع ذلك فالإعجاب بك شديد.
مدام شيفاليه :
أنا طبيعية، ومن الناس من لا يزالون وهم قليلون يحبون هذه النغمة.
لمبير :
ومع ذلك فالمفتونون بك كثيرون.
مدام شيفاليه :
أعرف منهم واحدا هو الجنرال. نحن صديقان لا نختلف في شيء، إنه ليقص علي أحيانا أحاديث من الحق عليه أن يحتفظ بها لنفسه، ولكنه شيخ، وهو يرى أني أستمع له، فإذا أراد سوء الحظ أن أضحك فهو يمضي في حديثه، يمضي حتى لا سبيل إلى وقفه. أرأيت أسرة «لانجلوا» منذ عيدها؟
لمبير :
أكره زيارتها.
مدام شيفاليه :
آه؟ وهل رأيت أسرة «روسلان»؟
لمبير :
أستثقل هذه الأسرة.
مدام شيفاليه :
آه! مدام «بابيليون»؟
لمبير :
لا أحبها الآن.
مدام شيفاليه :
حسن! وما تقول عمتك في هذا كله؟
لمبير :
لسنا نتحدث الآن!
مدام شيفاليه :
هذا تمام الشر. الحذر. الحذر، فكأني بك قد بقيت أعزب.
لمبير :
ليكن! فليست حياة الأعزب شرا من غيرها.
مدام شيفاليه :
وليست خيرا من غيرها. إني أخطئك. ماذا تنقم من جماعتنا هذه الصغيرة في «فونتنبلو»؟ هي ساذجة فرحة سعيدة، وقد لقيتك أحسن لقاء، ولكن إذا تعود الإنسان عشرة طائفة من الناس ضاقت به الحياة في غيرها.
لمبير :
كلا!
مدام شيفاليه :
بلى! نرفض في ازدراء تكاليف لذيذة مع أننا نقبل في مواطن أخرى أشنع الاستعباد!
لمبير :
كلا!
مدام شيفاليه :
بلى! لننتظر يا مسيو لمبير شيئا من الصراحة، فلن أخونك، أترى أن مومساتك ممتازات حقا؟
لمبير :
ممتازات؟ نعم يا سيدتي!
مدام شيفاليه :
كان زوجي يصطحبني في الشتاء الماضي إلى ملعب «باليه رويال» وكانت إحداهن في اللوج المجاور لنا. لست أغلو، لقد زارها عشرون شابا، والشبان يظهرون في هذه الأيام مع هذا النوع من النساء، وكان بعضهم يحمل إليها الحلوى، وآخر يحمل إليها مروحة، وكانت تتلقاها وتقبل هداياهم، وكأنها «الإمبراطورة»! وكانوا يسمونها «أستير»، أتعرفها؟
لمبير :
أستير، طويلة شديدة الجفاء مسرفة في الزينة، لها شعر فاتن، لا قيمة لها!
مدام شيفاليه :
لا قيمة لها! يظهر أن بعضهن من بعض. وما بال الآنسة «أستير» لا قيمة لها؟ قل لا بأس عليك (يدنو منها ويهمس في أذنها)
حقا؟ كل الناس؟ أنا أرثى لها إذن هذه المسكينة!
لمبير :
أنت إذن تحدثت إلى عمتي؟
مدام شيفاليه :
نعم!
لمبير :
ماذا قالت لك؟
مدام شيفاليه :
هذا يعنيك؟
لمبير :
هي تسخر مني وتسئ إلي في كل مكان.
مدام شيفاليه :
كلا! هذا غير معقول من امرأة لا تفكر إلا في أن تجد لك زوجا.
لمبير :
أترين رأيها؟
مدام شيفاليه :
طبعا! لم لا ترضي عمتك؟ وأنت إن فعلت أديت إلى نفسك أحسن خدمة.
لمبير :
أنا أتردد وأسأل نفسي (ثم ينظر إليها)
ولعل لهذا التردد سرا.
مدام شيفاليه :
ما هو؟
لمبير :
ألا تتوهمينه بعض الشيء؟
مدام شيفاليه :
مهلا!
لمبير :
قد أصادف امرأة حقا تطمح إلى حياة خير من حياتها وبيئة خير من بيئتها وتتمنى لو وجدت حبا.
مدام شيفاليه :
المومسات دائما! ألا تريد أن تدعهن!
لمبير :
إن رأيك في لسيئ ... لست ناسكا، ولكني لست مسرفا. لقد أسرفت حين كنت حديث السن، ولقد كلفني هذا كثيرا، وأصبحت قليل الميل إلى استئنافه. وأنا أعرف باريس معرفة ما، من طريق أصحابي، ومن طريق الصحف، ومن طريق النادي المتواضع الذي أختلف إليه وأفضل العشاء فيه دون أن ألعب. وأنا أختلف إلى الملاعب، وأنظر في الصور وأشتري بعض الكتب، وما أظن سيرة أرشد من هذه. وهذه الحياة قد تشتمل على أيام مشرقة وأخرى لا تخلو من العواصف ...
مدام شيفاليه (مقاطعة) :
اسكت قليلا!
لمبير :
ماذا؟
مدام شيفاليه :
ألم تسمع شيئا؟
لمبير :
لا!
مدام شيفاليه :
إذن فقد أخطأت، ظننت أن ابني يدعوانني. استمر!
لمبير :
قلت إن هذه حياة لا تخلو من أيام مشرقة (يسمع صوت طفلين يبكيان ويدعوان أمهما) .
مدام شيفاليه :
أترى؟ لقد كنت أعلم أن هذين الطفلين في حاجة إلى أمهما (ثم تنهض)
أتأذن لي؟ أريد أن أرى ثم أعود.
المنظر الثالث (لمبير وحده)
أمحصنة هي؟ هذا راجح. أغير محصنة هي؟ هذا ممكن. إنا لنرى اليوم نساء طائشات ونساء راجحات، وكلهن تخدع الناس عن نفسها. إني لمتردد لا أتقدم. أتحدث إليها بما يحملها على الظن دون أن يتيح لها الكلام، وهل من سبيل إلى الجرأة مع امرأة كهذه تستقبلك لا بين أدوات الزينة، بل بين الفوط؟ على يمينها الفوط المعلمة وعلى شمالها ما لم يعلم بعد. ظريفة، ظريفة جدا، ولكنها لا تتكلف الظرف. لديها ما شئت من مودة، ولكنها لا تزيد على ذلك. لا تريد أو لا تعرف أن تستصبي. وبينا نحن في الحديث إذ هذان الوحشان يصيحان حين تسنح الفرصة للإلحاح في المهاجمة. ها هي ذي!
المنظر الرابع (لمبير ومدام شيفاليه)
لمبير :
ما شأن هذين الطفلين؟
مدام شيفاليه :
لا تحدثني عنهما! أراهما يتعمدان هذا لإزعاجي. هما صغيران فلا سبيل إلى عقابهما، فأما زجرهما فلا آخر له. لقد حملتهما الخادم إلى سريرهما. فنستطيع جميعا أن نطمئن حينا (وهي أثناء الحديث قد عمدت إلى زجاجة النبيذ فملأت منها كأسين)
أما هذه المرة فلن ترفض!
لمبير :
أما وقد أردت! ...
مدام شيفاليه :
جيد هذا النبيذ. أليس كذلك؟!
لمبير :
ولا سيما حين تقدمينه ...
مدام شيفاليه :
أشكرك (ثم تقدم إليه الحلوى)
بعض هذا؟
لمبير :
لا!
مدام شيفاليه :
هلم لنقرع كأسينا على العادة القديمة. يقولون كثيرا إني ورثت جدتي. وفي الحق أني آسفة على غير عادة من عاداتها.
لمبير :
إنما أنت الظرف!
مدام شيفاليه :
أي مزاح؟
لمبير :
نعم! نعم! أنا بهذا خبير.
مدام شيفاليه (لنفسها) :
إذن فأنا راضية!
لمبير :
كل شيء هنا ظريف في جملته وتفصيله.
مدام شيفاليه :
دع هذا. ألا تستطيع أن تقضي حينا مع امرأة دون أن تصل إلى الإطراء!
لمبير :
لا أصل إليه وإنما أقف عنده.
مدام شيفاليه :
هذا يكفي الآن. على أننا لسنا في وقت الإطراء. انتظر حتى نرقص عند عمتك. وحينئذ أسمع منك ما تشاء بين الرقص (ثم تعود إلى المنضدة وترتب بعض الأشياء) .
لمبير (وقد جاء فوقف خلفها) :
لو رآنا أحد نقرع الكأسين ...!
مدام شيفاليه (وقد دهشت) :
كان ذلك ممكنا؟!
لمبير :
ماذا كان يظن؟!
مدام شيفاليه :
لعله كان يضحك ويقول: هذان شخصان لا هم لهما، فهما يلهوان وسط النهار.
لمبير :
أتظنين هذا مع امرأة شابة جميلة؟
مدام شيفاليه :
أنا ربة بيت!
لمبير :
تحسن استقبال رجل حسن الهيئة.
مدام شيفاليه :
أنت صديق!
لمبير :
ألم يكن يتخيل بينهما قصة؟
مدام شيفاليه (قاسية) :
إذن يخطئ. (يدعها مظهرا الضجر ثم يظهر العزم ويدنو منها.)
لمبير :
إني لأسائل: أيجب أن أجثو بين يديك لتفهمي شيئا؟
مدام شيفاليه :
لا تفعل! فقد فهمت فيم تفكر إذن، أنا متزوجة، متزوجة منذ ست سنين، ولم يحتج أحد أن ألفته إلى ذلك. أنت تطمع في امرأة رجل غيرك، وتريد أن تفسد الأمر على أم. أنا مخطئة فقد كان من الحق أن أقدر هذا كله. كان يجب علي ألا أستقبلك إلا متحفظة، وكان يجب علي أن أفهم زيارتك وألا أخطئ في فهم ثنائك الذي كنت أراه أثرا من آثار الغرور والفتنة. إلى هنا تنتهي الصلة بيننا. فأنا حريصة على أن أعيش مع الناس جميعا عيشة براءة وطهر، وأريد ألا يكون في سيرتهم ولا في سيرتي شيء يدعو إلى الظن أو التردد. (لمبير مضطربا لا يدري كيف يقول يدنو منها فتشير إليه أن ينصرف.) (لمبير ذاهبا نحو المنضدة التي وضع عليها قلنسوته.) (وهنا تدخل الخادم، فتعلن قدوم فتاة زائرة هي «جنفياف». نفهم نحن أن أمها صديقة لصاحبة البيت، فلا تكاد تدخل هذه الفتاة حتى تقدم كتابا من أمها إلى مدام شيفاليه فتقرؤه، فإذا صديقتها تطلب إليها أن تضيف الفتاة أياما، وتظهر الرغبة في أن تجد لها خطيبا. ولم تكد تفرغ من قراءة الكتاب حتى يخطر لها خاطر هو أن تسعى في الزواج بين هذه الفتاة وهذا الفتى، وإذا هي تنزع قلنسوة الفتاة وتصلح من شعرها، والفتاة تسألها همسا: من هذا الرجل؟ فتجيبها: إنه أحد الجيران. وتسألها عن رأيها فيه، فتسأل الفتاة : أمتزوج هو؟ فتجيبها: نعم، فتقول: هو عادي. فإذا علمت أنه لم يتزوج بعد قالت: لا بأس به. وقد تركتها صاحبة البيت حينا وانصرفت لتهيئ لها غرفتها، فمرت في طريقها بلمبير فتأمره مبتسمة أن يبقى، ويظن هو أنها قد جنحت إلى السلم وأنها قد تسمح له. ويخلو الفتيان فيتحدثان حديثا قصيرا عن صاحبة البيت، ثم عن أهوائهما وأذواقهما وآرائهما في الحياة الزوجية، فإذا هما متقاربان. ثم تعود مدام شيفاليه فتصرف الفتاة إلى غرفتها، وتأمرها أن تهيئ نفسها وأن تأتي بعد حين مع الطفلين للنزهة.)
المنظر الخامس (لمبير ومدام شيفاليه)
مدام شيفاليه :
لقد كنت حمقاء آنفا، غضبت في غير موضع للغضب ... فليس ما يدعو إلى السخط حين تشعر المرأة بأنها أعجبت شابا خفيف الروح خليقا بالإكبار.
لمبير (لنفسه) :
حسن!
مدام شيفاليه :
إن زوجي يحبك كثيرا.
لمبير (لنفسه) :
خير! خير!
مدام شيفاليه :
كل الناس يحبونك! وهذا يحملني على أن أرتاح إليك، وإن كنت لا أعرفك حق المعرفة.
لمبير (لنفسه) :
لقد هوت.
مدام شيفاليه :
اجلس (فيجلس على دكة وتدنو منه)
افسح لي قليلا (فلا يكاد يفعل)
أوسع من هذا!
لمبير (لنفسه) :
أنا أتعجل القضاء.
مدام شيفاليه :
ما سنك؟
لمبير (دهشا مبتسما) :
ثلاثون سنة.
مدام شيفاليه :
ليس غير؟
لمبير :
لا أكثر!
مدام شيفاليه :
ثلاثون سنة؟ سن ملائمة، وصحتك جيدة؟
لمبير :
جيدة جدا!
مدام شيفاليه :
ألا تخدعني؟
لمبير :
أنا قوي جدا!
مدام شيفاليه :
وما ثروتك؟ (فيظهر لمبير الدهش)
أسألك عن ثروتك وأريد رقما صحيحا.
لمبير :
مائة ألف فرنك وأشياء صغيرة.
مدام شيفاليه :
لنقل مائة ألف فرنك سندات مضمونة ممكنة البيع.
لمبير :
مضمونة ممكنة البيع.
مدام شيفاليه :
هذا حسن، ولا أذكر ميراث عمتك فسيجئ حين يجئ (تدنو منه متلطفة، فيبعد عنها منزعجا)
يا مسيو لمبير لقد وجدت لك زوجا.
لمبير (ذاهلا مبهوتا) :
كيف يا سيدتي؟ إذن فقد استبقيتني.
مدام شيفاليه :
نعم لأزوجك. ويظهر أن أسئلتي كانت واضحة.
لمبير :
واضحة جدا من غير شك!
مدام شيفاليه :
طبيعية بعد أن تحدثت إلى هذه الفتاة.
لمبير :
ولكن يا سيدتي ...
مدام شيفاليه :
استمع إلي، ألست متعبا خجلا من هذه الحياة التي أنت فيها مع هذه السن، تجري كما تجري الأطفال؟ ألست تألم حين توازن بين حياتك هذه وحياة أصدقائك في أهلهم وأبنائهم وبيوتهم المنظمة؟ أليس الزواج هو النهاية الطبيعية لمن لا يريد أن يتورط في صلات آثمة شرها لا يحصى وليس فيها خير؟! ...
لمبير :
إن صوتك يشبه الآن صوت عمتي.
مدام شيفاليه :
وأي أمن يشعر به المرء حين يتخذ له امرأة من طبقته تلائمه في السن والثروة والأسرة؟
لمبير :
صوت عمتي!
مدام شيفاليه :
لست أحدثك الآن عن فتاة ما تعيش في «بوردو» أو «أمستردام» وتعرض عليك مع بعد الشقة، فأنت تعرف خطيبتك وقد رأيتها وتحدثت إليها، ومن المستحيل أن يسوء رأيك فيها، أجب!
لمبير :
لا يا سيدتي! لم أرض عن هذه الفتاة ولم أسخط عليها!
مدام شيفاليه :
هذا كثير! كثير!
لمبير :
أما الأثر الذي تركته في نفسها؟ ...
مدام شيفاليه :
لقد بهرتها!
لمبير :
آه؟
مدام شيفاليه :
نعم بهرتها!
لمبير :
أقالت لك هذا؟
مدام شيفاليه :
كلا! إن الفتيات لا يتحدثن بهذا، ولكن إما أن أكون مخدوعة جدا. وإما أن قد بهرتها حقا. لا تقل هذا؟
لمبير :
لا يا سيدتي!
مدام شيفاليه :
ولاحظ أني حين أعرض عليك جنفياف، جنفياف. ما أجمل هذا الاسم! إنما أجد في مصلحتك لا في مصلحتها. فليست بلبلا أريد أن أجد له مستقرا. كلا! لقد طلبها كثيرون فرفضت، وكان بين الذين رفضتهم من أستأذنك في أن أقول إنهم خير منك!
لمبير :
فيم؟!
مدام شيفاليه :
في كل شيء لا أخفي عليك.
لمبير :
ما مهرها؟
مدام شيفاليه :
ستدخل بهذا الزواج في أسرة شريفة.
لمبير :
نعم هذا قيم. ما مهرها؟
مدام شيفاليه :
وأي تربية؟ أحسن تربية، تربية الأقاليم!
لمبير :
هذا أدعى إلى الراحة. ما مهرها؟
مدام شيفاليه :
مهرها مائتا ألف فرنك. ألم أقل لك هذا؟!
لمبير :
مائتا ألف فرنك؟
مدام شيفاليه :
مائتا ألف فرنك!
لمبير :
سندات مضمونة ممكنة البيع.
مدام شيفاليه :
سندات مضمونة ممكنة البيع (ينهض كالمتردد) .
مدام شيفاليه (وقد نهضت) :
إذن هل تم هذا الزواج؟
لمبير :
لم يتم بعد يا سيدتي!
مدام شيفاليه :
أنت بطئ. لماذا؟
لمبير :
أنا أروي!
مدام شيفاليه :
لن تستطيع أن تروي طول حياتك.
لمبير :
الفتاة ظريفة، وقد أراها الآن أحسن مما رأيتها آنفا تمتاز بشيء كثير، ولكني إن تزوجتها أصبحت زوجا، أليس كذلك!
مدام شيفاليه :
طبعا؛ ولم تجر العادة برفض زواج يحمل مائتي ألف فرنك، ولم أحدثك عن الميراث المنتظر.
لمبير :
أنا أفكر فيه وقد قدرته تقديرا مقاربا.
مدام شيفاليه :
إذن لنتفق.
وما تزال به حتى تكاد تقنعه، ولكنه متردد، وهو خجل، آسف للهزيمة بنوع خاص؛ فقد كان أقبل يبتغي الحب، فلم يجد إلا الزواج، وهو غير منشرح الصدر له، ولكنه غير منصرف النفس عنه، وإذا الفتاة قد أقبلت، تبدو من بعيد رشيقة حسنة الزينة، عليها مظاهر الجد، قد احتملت أحد الصبيين وأخذت بيد الآخر. فتنتهز صاحبة البيت هذه الفرصة وتبالغ في ترغيب الفتى حتى تستوثق منه أو تكاد. وقد دخلت الفتاة فتقدمها إلى الفتى وتأمرها أن تتحدث إليه حين تكتب هي إلى أمها وهي تجلس إلى المنضدة، وتكتب إلى صديقتها هذا الكتاب: «صديقتي العزيزة. سطرين ليس غير. لأنبئك بقدوم جنفياف وبقرب زواجها إذا استطعت أن تتمي ما بدأته مهارتي الغريبة. كان عندي شاب متردد في مستقبله، يضطرب بين سيرة العاشق وحياة الزوج، وهو خفيف الروح، (ثم تنقطع عن الكتابة لتنظر إلى الفتى وتقول لنفسها: ليس خلابا. وتكتب) لا بأس به، (ثم تنقطع عن الكتابة مرة أخرى وتقول لنفسها: ليست له بهجة. ثم تكتب)، فيه خصال كريمة ينميها الزواج، (ثم تنقطع عن الكتابة ثالثة قائلة لنفسها: هذا الذي كان يريد أن يصرفني عن الواجب. ثم تعود إلى الكتابة)، وسيكفل لامرأته سعادة تامة.»
ديسمبر سنة 1924
ميشيل بوبير
قصة تمثيلة للكاتب الفرنسي «هنري بيك»
وكان الكاتب يستطيع أن يسميها غير هذا الاسم، وأن يتخذ أي اسم من أسماء أشخاصها عنوانا لها. فجميع أشخاص هذه القصة خليقون أن يعطوها أسماءهم؛ لأنهم جميعا خليقون بالعناية، مثيرون في نفسك رغبة الاستطلاع، وباعثون فيها عاطفة قوية، عاطفة الإعجاب حينا وعاطفة الإشفاق حينا آخر، وعاطفة الغضب مرة وعاطفة الرضا مرة أخرى. كلهم خليق بالعناية، وكلهم يصلح موضوعا لبحث نفسي منتج قوي يلذ العقل ويلذ الشعور معا. وقد يكون هذا الاسم الذي اختاره المؤلف أظهر أسماء القصة، وقد يكون هذا الشخص الذي آثره الكاتب أشد أشخاص القصة استثارة لإعجاب الجماهير وعامة القراء والنظارة. ولكني أوثر على هذا الشخص مع إعجابي به وعطفي عليه شخصين آخرين: أحدهما يستحق الإعجاب المطلق والإجلال الذي لا حد له، والآخر يستحق شيئا من الإشفاق غير قليل ويدعو مع استحقاقه للإشفاق إلى شيء كثير من الروية والتفكير.
وليس هؤلاء الأشخاص الثلاثة وحدهم هم الذين يستحقون العناية ويضطرون القارئ إلى التأمل فيهم والتفكير في أمرهم، بل هناك أشخاص ثلاثة آخرون كلهم خليق بالتفكير، وكلهم يستثير في نفسك عاطفة قوية كما قلت. وفي الحق إني لست أدري: أنحن بإزاء قصة واحدة، أم قصتين، أم قصص ثلاث، أم أكثر من هذه القصص الثلاث أيضا؟ بل في الحق إني لست أدري: أنحن بإزاء قصة، أو قصص تدرس الأشخاص وحياتهم النفسية القيمة، أم نحن بإزاء قصة أو قصص تدرس طائفة من الأخلاق وضروبا من أطوار النفس الإنسانية عامة وألوانا من الحياة الإنسانية من حيث هي؟ وقد نكون بإزاء هذه القصص جميعا، وقد نستطيع أن ننظر إلى هذه القصة من جميع هذه الأنحاء. فمن أراد درس الأشخاص وما يمتازون به من قوة وضعف، وما يتصفون به من خلال تدعو إلى الإعجاب ونقائص تثير الغضب؛ وجد فيها حاجته، ومن أراد درس الآراء والنظريات الخلقية والعلمية وما بينها وبين حياة الناس من صلة وما لها في حياة الأفراد والجماعات من أثر؛ يجد فيها حاجته. ماذا أقول؟! إنك تستطيع أن تلتمس فيها شيئا آخر غير الأشخاص وحياتهم وعواطفهم، وغير النظريات العلمية وصلاتها وآثارها، تستطيع أن تلتمس فيها السياسة ومكانها من أهواء الأفراد والجماعات، وأثرها في نفوس الأفراد والجماعات أيضا. تستطيع أن تجد في هذه القصة الممتعة هذا كله وأكثر من هذا كله، وأنت تجده في دعة وهدوء واطمئنان لا يحول بينك وبين الحزن الشديد ولا يحرمك الابتسامة الخالصة الصافية، ولكنه يعطيك منهما حظا معتدلا يتيح لك أن تتعظ ولكن في غير يأس، وأن ترضى ولكن في غير إسراف، ويجلي لك الحياة كما هي مملوءة بالخير والشر، قد امتزج فيها الحلو والمر، والتأم فيها النعيم والشقاء. وأنت إلى هذه اللذة العقلية والقلبية لا تحرم اللذة الفنية أيضا؛ فاللفظ سهل حلو منوع رشيق، والأسلوب عذب سائغ مريح. تقرأ فلا يخيل إليك أنك تقرأ، وإنما تحس أنك تحيا وتشهد هذه الحركات والأطوار المختلفة التي تكون الناس وحياة الناس.
ولكني لا أريد أن أطيل في تقريظ القصة أو نقدها، فهي في نفسها طويلة، وإنما أريد أن أظهرك عليها في تلخيص شديد ودون إلحاح في المقدمات. وكيف أظهرك على هذه القصة التي هي في حقيقة الأمر طائفة من القصص، دون أن أقدم إليك أشخاصها قبل كل شيء؟ فحياتهم معقدة، ونفوسهم على سذاجتها شديدة التركيب، وكلهم يمثل لونا من ألوان الناس وناحية من نواحي الحياة الاجتماعية. فهم ليسوا أفرادا، وإنما هم جماعات، وحظوظهم من الحياة ليست حظوظ الأفراد، وإنما هي النتائج الطبيعية التي تنتهي إليها حياة الجماعات وما يختلف عليها من الأطوار.
تجد في هذه القصة شخص هذا الرجل الذي كان غنيا واسع الغنى ومثريا ضخم الثروة، وشريفا مؤثل المجد، نشأ في أسرة منصرفة إلى ما يدعو إليه الشرف من ضروب المجد والزخرف والزينة واللهو. ولكنه انصرف إلى العلم، فأحبه وتهالك عليه، ووقف على تحصيله والنبوغ فيه جهوده وأوقاته وثروته، وأبلى في ذلك أحسن البلاء، ولكنه لم يظفر من هذا كله بشيء، وإنما استقبل الهرم والشيخوخة في فقر وبؤس وشقاء. على أن هذا كله لم يغير من هذه النفوس الراضية التي كونها البحث العلمي وعلمها أن تكون جلدة قوية شديدة الاحتمال، فهي مبتسمة أبدا، وهي راضية أبدا، وهي طيبة شديدة الميل إلى العفو والمغفرة ومعونة الضعفاء والإغضاء عن هفوات الناس، هذا الشخص هو البارون «فون ديرهلويك ».
وتجد في القصة شخصا آخر نشأ في أسرة بائسة معدمة، فذاق ألوان الألم وتقلب في ضروب الشقاء، ولكنه أحب العلم كما أحبه ذلك الرجل الغني، ولم يقف عليه مالا ولا ثروة، وإنما وقف عليه ذكاء وقوة فوفق لكثير، وإذا هو يظفر بالاختراع بعد الاختراع، وإذا هو يستعين بالأغنياء وأصحاب الثروة على تحقيق آماله العلمية، فيخدعونه ويعبثون به، ويستغلون ذكاءه وعلمه، وهو يعلم هذا ولا يحسن الدفاع عن نفسه، فيتعزى عن آلام الحياة بالعلم مرة وبالخمرة مرة أخرى، حتى يعرض له الحب، فإذا هو قد أضاء نفسه وملأ قلبه ونظم حياته وبرأه من داء الخمر، فانصرف إلى العلم وجد فيه، وفرغ للحب واستعان به، وإذا هو عالم، وإذا هو غني قد ظفر بكل ما كان يريد من علم وحب وسعادة. ولكنه لا يكاد يستمتع بنتيجة هذه الحياة الطويلة الشاقة، حتى تظهر له الخيانة فتقضي على كل ما كان قد حصل وأفاد، وتصرفه عن هذا البحث المنظم المنتج إلى ذلك البحث المشوش المضطرب، تصرفه عن العلم والحب إلى العلم والخمر، فما يزال يبحث ويشرب حتى يقتله البحث والشرب. وهذا الشخص هو «ميشيل بوبير»، والذي اتخذ الكاتب اسمه عنوانا لهذه القصة.
وتجد فيها شخصا آخر ذكيا قوي الذكاء، غنيا موفور الغنى، قد اجتهد في أن يجعل ذكاءه وثروته وسيلة إلى استغلال العلم والعلماء، ولكن ذكاءه أعظم من ثروته، وأمله أوسع من جهده، فهو يمضي أمامه غير مقدر للظروف ولا متبصر في العواقب، مستغل هذا العالم وآثاره، فيفقره ويفقر نفسه، ولكنه يجد في نفسه من القوة ما ينهضه من كبوته، فما يزال يمضي في طريقه متخلصا من كل ضائقة، ناهضا من كل عثرة، حتى يعرض له الحب الآثم من جهة والحرص على الثراء من جهة أخرى، وإذا هو قد انتهى إلى الضائقة التي لا مخلص منها، وإذا هو بين اثنين: الموت والسجن، فيؤثر الموت، وهذا الشخص هو: «ديلا روزويه» زعيم الأسرة التي تدرسها هذه القصة.
ثم تجد في هذه القصة شخصا رابعا هو امرأة ، هذه المرأة خليقة بإعجابك كله، وخليقة بإشفاقك كله، وخليقة أن تكون المثل الأعلى للنساء. أحبت زوجها، وكلفت به وأخلصت له، وقدمت له ثروة ضخمة يوم تزوجته، ووقفت حياتها كلها على معونته وتشجيعه ومواساته وتربية ابنتها. أخلصت في هذا كله راضية مبتسمة، ثم أحست من زوجها الخيانة والإثم، فتألمت ولكن في صمت، وبكت ولكن في استخفاء، ثم رأت زوجها وقد تورط في الإثم وألحت عليه أثقال الحياة، فعفت له عن خيانته وردت إليه قلبها وحبها كاملين، وبدأت تغتبط بهذه الحياة المقبلة يملؤها البؤس والشقاء، ولكن يضيئها الحب والوفاء. غير أن زوجها يسألها أيهما خليق بالعناية والحرص: الحياة أم الشرف؟ فتجيبه: الشرف. فتقتل زوجها بهذا الجواب، وتعرض أسرتها لحياة ملؤها الشر والمكروه، على أنها تحتمل هذا الشر راضية مطمئنة، وتجاهده قوية جلدة، وتكاد تنتصر عليه. قد أخلصت لزوجها ما عاش، وهي الآن مخلصة لابنتها، وهي تكاد تجني ثمرة هذا الإخلاص، ولكن الخيانة كانت تنتظرها، فهي لا تظفر من هذه الحياة الطويلة الشاقة إلا بهذا الإذعان المر الهادئ للقضاء، وهذه المرأة هي زعيمة الأسرة التي يدرسها الكاتب في هذه القصة.
وامرأة أخرى تجدها في هذه القصة، خليقة بالتفكير والروية، خليقة بالعناية والدرس؛ لأنها تمثل التربية السيئة وأثرها في الحياة، ولأنها تمثل هذه الظروف المنكرة التي تعرض للشباب ولما يتهيأ لمقاومتها، فتفسد عليه أمره وتصرفه عن طريق الرشد إلى طريق الغي والفساد. نشأت في ثروة وعز بين أب يحبها ويسرف في حبها، وأم تؤثرها وتحنو عليها، فلم تذق للشقاء طعما ولم تبل مرارة الحاجة، ولم تعرف كيف تحتمل الحرمان، وإنما كانت موضوع عناية هذين الأبوين حتى شبت ناعمة راضية طامعة، لا ترضى من الحياة بما فيها، وإنما تستزيدها الخير وتطلب إليها ما لا تملك. وقد قرأت كتبا وقصصا أفسدت عليها عقلها أو كادت تفسده، فهي منصرفة إلى الخيال مغرقة في الأمل، لا ترى الحياة كما هي ولا ترضاها كما هي. ثم عرض لها فتى جميل فاتن غني، أظهر لها الحب فأحبته وما كان إلا مخادعا ، ثم حاولت أن تقاومه وتتقي شره فلم تجد إلى ذلك سبيلا، فتورطت في الإثم، ولكنها استطاعت بعد ذلك أن تندم وتمحو خطيئتها. وما كان أسعدها بأن تجد الحياة الهادئة المستقيمة، وأن تخلص لزوج يحبها ويكلف بها، وقد وجدت هذا كله وكادت تظفر بالسعادة لولا أنها أرادت أن تكون هذه السعادة خالصة صافية، فاعترفت لزوجها بالإثم فقتلت زوجها بهذا الاعتراف، واضطرت هي إلى أن تتردى في الهوة التي كانت قد خلصت منها فعاشت فيها حينا، ثم جاهدت حتى خلصت منها مرة أخرى، ولكنها لم تجد بعد هذا الخلاص إلا الحزن والشقاء والندم الذي اتخذته قرينا لحياتها، وهذه الفتاة هي «هيلين» بطلة هذه القصة.
وهل أذكر لك هذا الفتى المخادع الذي أشرت إليه والذي لا يرى الحياة إلا لعبا ولهوا، ولا يرى الأخلاق إلا سخفا وهزؤا، والذي لا يرى النساء إلا لذة ومتعة؟ ...
وهل أذكر لك هذه الخادم التي أحبت سادتها ووفت لهم وشاركتهم في الخير وأعانتهم على الشر، ولكنها رأت آثام الحياة ونقائصها، فآثرت أن تترك هذه الآثام والنقائص وأن تفارق باريس.
هؤلاء هم أشخاص القصة، كلهم كما قلت خليق بالعناية والتفكير. أفأنت محتاج بعد هذا كله أن ألخص لك القصة تلخيصا مفصلا، أم ترى مثلي أني أستطيع بعد هذا التفصيل أن أوجز لك هذا التلخيص إيجازا؟ •••
نحن في باريس في بيت «ديلا روزويه» نرى ذلك العالم الشيخ الذي أشرت إليه في أول هذا الفصل يتحدث إلى زعيمة الأسرة، وهما يعرضان الحياة وما فيها من لذة ومن ألم، يذكران الفقر والغنى، والصحة والمرض، والموت والحياة. وصاحبة البيت تسأل جليسها عن قريب له من الأشراف: هو الكونت «دي ريفاي»، قدم إليها منذ حين، وكأنها تفكر في أن تتخذه زوجا لابنتها، فلا يذكره الشيخ إلا بسوء، فهو شريف مؤثل المجد، ولكنه رجل لا خلق له ولا دين ولا كرامة ولا مبدأ، ينفق مائة ألف فرنك في الميسر، ولكنه لا ينفق فلسا واحدا في الصدقة. ويتصل بين الجليسين هذا الحديث، حتى تحس المرأة أن زائرين قد أقبلوا، فتنصرف، وإذا الخادم يدخل ومعه رجل آخر ينازعه ويدافعه، وهو ميشيل بوبير، فينصرف الخادم ويتحدث الرجلان، فتعرف من حديثهما ما قدمت لك في وصفهما، وتعرف أن ميشيل بوبير هذا رجل ذكي عالم بمخترعاته، ولكنه فقير يستغله التجار الذين يتجرون بمخترعاته، ومنهم صاحب هذا البيت. وقد أقبل هذا العالم المخترع بعد أن أسرف في شرب الخمر متعمدا؛ ليحاسب هذا الرجل، وليستخلص منه حقوقه. وما هي إلا أن يقبل صاحب البيت، فيدافع العالم عن نفسه حينا، حتى إذا أحس منه الإصرار على المقاومة أراد أن يفرغ له، فيسأل الشيخ عن حاجته، فإذا الشيخ قد أقبل يسأله المعونة على الحياة، ولكن الرجل يعتذر وينصرف الشيخ العالم راضيا عاذرا. ويخلو صاحب البيت إلى مطالبه، فلا يكادان يتحدثان حتى نفهم أن ميشيل بوبير صاحب حق، وأنه قد استكشف في معمله طائفة من الألوان يستغلها صاحب البيت ولا يعطيه من ربحه شيئا. وقد أقبل يطلب حسابه، وصاحب البيت يدفعه عن نفسه بشيء من المال يعرضه عليه فيأبى إلا الحساب. وهما في هذا الجدال إذ تقبل «هيلين» فتتحدث إلى أبيها في دعة ودل ودعابة، وتسخر من هذا الرجل السكران الذي يهذي ويصيح، ويتحدث إليها أبوها في رفق وحب وإكبار، حتى إذا انصرفت الفتاة كان قد تغير في نفس هذا العالم السكران كل شيء، لأنه أحب الفتاة وكلف بها، فهو لا يطلب حسابا وهو لا يقبل مالا، وهو يحس أن صاحبه في حاجة إلى المعونة فيعرض عليه معونته، ولكنه يخطب إليه ابنته، فيأبى الرجل؛ لأن ابنته لا ينبغي أن تكون سلعة يتجر بها، ومع ذلك فإن الرجلين يفترقان على خير ما يفترق الناس. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن حيث كنا في الفصل الأول، وقد مضى حين على ما قدمت لك، ونحن نرى صاحبة البيت وحدها محزونة كئيبة تنتحب وتتحدث إلى نفسها بكلام يفطر القلوب، فيه رثاء لحال المرأة المخلصة الوفية التي قدمت نفسها وحبها ومالها للرجل، فانتفع بهذا كله في أثرة وعقوق، ثم انصرف عن امرأته إلى إثمه وخيانته. وقد دخلت عليها ابنتها، فهما يتحدثان، ونفهم من حديثهما أن زعيم الأسرة شقي مثقل بالهموم، يكتم أمره عنهما جميعا، وأن امرأته تريد أن تتبين مصدر هذا فلا توفق، وهي تلوم زوجها على إسرافه، وتعاتب ابنتها في ترفها. وما هي إلا أن تعرضها للزواج، فإذا الأم تذكر ميشيل بوبير والفتاة تزدريه لأنها رأته سكران. ولكنه قد انصرف عن الخمر وأصلح من أمره ونظم حياته، فهو رجل مستقيم طيب النفس طاهر القلب ذكي الفؤاد، خليق أن يكفل السعادة لزوجته. ولكن الفتاة لا تسمع لشيء من هذا وهي لا تريد أن تتزوج، وقد تركتها أمها وانصرفت تريد أن تزور قبر أبويها.
أحق أن الفتاة لا تريد أن تتزوج؟ كلا! إنها تحب، وتريد أن تتزوج. انظر إليها، لم تكد تخلو إلى نفسها حتى دعت الخادم وأمرتها أن تذهب إلى الكونت دي ريفاي، فتنبئه بأنها وحدها الآن، وأنها تريد أن تراه. وانظر إليها وقد خلت إلى نفسها، وهي تذكر حبها لهذا الشاب وألمها بهذا الحب وإعجابها بهذا الفتى الذي يحبها ويأبى الزواج. وقد أقبل هذا الفتى، فلا يكاد يتحدث حتى نحس منه غرورا وفجورا وحرصا على اللذة وحدها، وازدراء لقواعد الأخلاق والحياة الاجتماعية، وهو يدعو الفتاة إلى الهرب معه والفتاة تأبى إلا الزواج. وقد اختصما وهما يكادان يفترقان، ولكن زعيم الأسرة قد أقبل ذاهلا مضطربا، وقد دفعت إليه الخادم كتابا، قرأه فلم يزدد إلا ذهولا واضطرابا. وانظر إليه يمسك صاحب ابنته ويريد أن يخلو إليه، فإذا انصرفت ابنته وتحدث الرجلان، رأينا زعيم الأسرة يطلب إلى صاحبه المعونة المالية فيأباها عليه، وقد انتهى به الجزع إلى أقصاه، فهو يقص أمره ويا شر ما يقص! فقد اضطرته أعماله المالية إلى التزوير؛ فإما أن يجد المال وإما أن يلقى في السجن، وقد سمع صاحبه لهذا ثم نهض وهو يرى أنه ليس من هذا المأزق مخرج إلا الموت. وتقبل زعيمة الأسرة، فتخلو إلى زوجها وتسأله عن أمره، وما تزال تلح عليه حتى تظفر منه بالجواب ، وتعلم أن الأسرة قد فقدت ثروتها كلها. ولكن هذا شيء ميسور يمكن احتماله إذا ظفرت الأسرة بما كان يجمعها من حب، وأنى لها هذا الحب والرجل يخون امرأته وينفق حياته في اللهو والإثم! ولكن الرجل تائب معتذر، وهو يستعطف امرأته ويتضرع إليها وقد طابت له نفسها فهي تعفو عنه، وهما خليقان أن يستأنفا حياة سعيدة على ما فيها من فقر وبؤس. ولكن الرجل يسأل امرأته وقد عرف أن الفقر لا يخيفها: هبي رجلا بين اثنتين؛ إما أن ينقذ حياته، وإما أن ينقذ شرفه، فما أخلق الأمرين بهذا الرجل؟ تجيبه: إنقاذ الشرف، فيقول الرجل لنفسه: لقد قتلتني. ثم يطلب إلى امرأته بعض الأمر، فإذا انصرفت إلى الغرفة المجاورة قتل نفسه. •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت أشهر على هذا، ونحن في ضاحية من ضواحي باريس، في بيت لا تظهر عليه النعمة، ولكنه ليس سيئ الحال. ونحن نرى الأم تتحدث إلى ذلك الشيخ العالم الذي رأيناه في الفصل الأول، ونفهم من حديثهما أن المرأة تلتمس لابنتها عمل مربية في أسرة غنية شريفة، وأن هذا الشيخ قد وجد لها ما تريد، ولكنه ينصح لها ألا تقر ابنتها على هذا، وأن تحبب إليها الحياة وتأسيس أسرة. فتجيبه: إن ابنتها ترفض الزواج رفضا قاطعا، وإنهما قد سئمتا هذه الحياة في هذا البيت الذي أسكنهما فيه ميشيل بوبير قريبا من معمله. وقد فهمنا أن ميشيل بوبير قد صلح أمره، حتى أصبح رئيس مصنع ضخم، وحتى أصبح غنيا يحبه العمال ويخلصون له. وهما في هذا الحديث إذ يقبل أحد العمال، فيدعو السيدة إلى المصنع ويلح في هذه الدعوة، فتنصرف المرأة وتترك الشيخ مع ابنتها، فينصح الشيخ للفتاة ألا تتم ما أرادت وينصح لها بالزواج ولكنها تأبى، وما يزال بها حتى تنبئه جلية أمرها؛ ذلك أنها لقيت بعد موت أبيها عاشقها الكونت، فأظهر حبا لها وعطفا عليها، ثم أرادها على الإثم فدافعته وامتنعت عليه، ولكنها رأت منه الشر وعلمت أنه لن يتركها حتى يفتك بها ولو جثة هامدة فأسمحت، وهي الآن تريد أن تكفر عن سيئتها بحياة هادئة لا لذة فيها ولا حب. ولكن الخادم أقبلت تستأذن لهذا العاشق، فينصح الشيخ برده، وتأبى الفتاة إلا استقباله؛ لأنها تطمع منه في أن يتزوجها، فينصح الشيخ أن تتركه معه حينا فتفعل. ويتحدث الرجلان، فإذا الشيخ يلوم الشاب ويؤنبه، وإذا الفتى لا يظهر أمام هذا اللوم إلا ازدراء لكل خلق وعبثا بكل فضيلة واحتقارا للزواج، بل احتقارا لصاحبته، فهو إنما أقبل ليلتمس عندها اللذة، أليس قد أسمحت له مرة؟ فلم لا تمضي في هذا الإسماح حتى إذا انصرفت عنها نفسه التمس اللذة عند غيرها؟! والفتاة تسمع هذا كله في مخبئها، وإذا هي قد أقبلت مغضبة ثائرة، فبلغت من تحقير هذا الشاب وازدرائه بكلام غليظ ما شاءت أن تبلغ. ولكننا نسمع ضجيجا، ونرى الأم مقبلة ومعها ميشيل بوبير ومن ورائهما طائفة من العمال وأهل القرية وكلهم يصيحون بحياة ميشيل بوبير. ولست أطيل عليك بتلخيص هذا القسم اللذيذ من القصة، فحسبك أن تعلم أن ميشيل بوبير قد عرض حياته للخطر لينقذ عماله من كارثة، وأقبل العمال يشكرونه ويهنئونه. وكانت في ذلك خطب تمس السياسة الفرنسية عقب الحرب. وانصرف هؤلاء الناس جميعا إلا ميشيل بوبير. وإذا نحن نرى الشيخ يتقدم إلى الأم يخطب إليها ابنتها لنفسه، فنرى اضطراب الأم والفتاة وغضب ميشيل. ولكننا فهمنا أن هذا الشيخ لم يتقدم بهذه الخطبة إلا ليعلن أمام ميشيل وأمام الفتى أنه على شرفه ومكانته يكبر الفتاة ويراها أهلا للاقتران بأرفع الناس مكانة وأعظمهم شرفا. •••
فإذا كان الفصل الرابع، فنحن في باريس في بيت لم نعرفه من قبل، وقد تم الزواج بين هيلين وميشيل بوبير. ولست ألخص لك ما بين الأم وابنتها من حديث، ولا هذه الصلوات الحارة التي يتقدم بها الزوج إلى امرأته، ولكن يكفي أن تعلم أن هذا الزوج ما زال يذكر حبه وتأثير هذا الحب في حياته حتى أثر في امرأته تأثيرا شديدا فأحبته. ولكن أرادت ألا تخدعه ولا تشغله، فاعترفت له بإثمها وسألته أن يعفو عنها. ولم يكد الرجل يسمع هذا حتى ثار ثائره وهم بامرأته يريد أن يقتلها، ثم انصرف عنها صائحا وترك البيت. وهي الآن تبكي وتنتحب، ولكنها قد سئمت الحياة وندمت على ما كان منها من صدق وإخلاص، وإذا هي تدعو الخادم وترسلها إلى عاشقها. وما هي إلا لحظات حتى يأتي هذا العاشق وقد أزمعت الفتاة باكية أن تعيش عيشة الإثم بعد أن لم توفق لعيشة الطهر. وقد أسدل الستار ورفع، وإذا أنت ترى ميشيل سكران يترنح سكرا وهو يتغنى سوء حظه، وما زال يتغنى حتى يسقط صريعا أمام باب الدار، وإذا هذا الباب يفتح وتخرج منه امرأته ومعها عاشقها، فيكادان يطآن جسمه في طريقهما. •••
فإذا كان الفصل الخامس، فنحن في معمل ميشيل بوبير، نرى هذا الشيخ العالم يتحدث إلى الطبيب، فنفهم من حديثهما أن ميشيل بوبير قد جن، وأنه أشرف على الموت، وأن الخمر هي التي انتهت به إلى هذه الحال. ثم يخرج الطبيب وتأتي أم الفتاة، فنفهم أنها قد وقفت نفسها على صهرها منذ ظهر إثم ابنتها، فانقطعت للعناية به والسهر عليه، وهي تحبه كما تحب ابنها وتشفق عليه إشفاقا شديدا، والشيخ يذكر لها ابنتها ويستعطفها عليها وينبئها بأن قد فسد ما بينها وبين عاشقها، فلا يجد منها إلا سخطا وإعراضا؛ فهي لا تعرف ابنتها ولا تريد أن تعرفها، ولكنها تنظر فإذا ابنتها مقبلة، وإذا هي قد نسيت كل شيء، وأطبقت ذراعيها على هذه الفتاة الآثمة تقبلها وتصفح عنها وتلح عليها في العودة إلى حيث كانت حتى لا يراها زوجها. غير أن هذه الفتاة إنما أقبلت لترى زوجها وهي تلح في هذا، وأمها تدافعها. ولكن انظر هذا ميشيل بوبير قد أقبل ذاهلا مفقود الرشد يخيل إليه أن أم امرأته أمه، وهو يهذي بكلام لا خير فيه. فإذا رأى امرأته أنكرها ولم يعرف من أمرها شيئا، ولكن امرأته تلح حتى يخلو إليها، فتحاول أن تحدثه عن نفسها وأن تذكره ما كان من أمرها، فلا يذكر شيئا، أو قل: إنه يألم ويشتد ألما لهذه الذكرى، وإذا هو مختنق، وإذا هو يدعو إلى المعونة، فتحاول امرأته أن تدعو أمها فيتبعها صائحا: إنك تسرقين الماس. وانظر إليه قد عمد إلى شيء فاستخرجه، فإذا قطع ضخمة من الماس ملأت المعمل نورا، تلك هي نتيجة بحثه العلمي قد انتهى إليها بين السكر والبحث، فاستطاع أن يحول الفحم إلى ماس، وإلى هذه النتيجة كان يسعى طول حياته، وقد ظفر بها، ولكن أدركه الجنون. وانظر إليه الآن يظهر هذه النتيجة ويحرص عليها، ولكنه مضطرب ذاهب القوى، فهو يسقط صريعا، وتسقط قطعة الماس من يده فتتحطم، ويدخل الشيخ ومعه أم الفتاة، فإذا نظر إلى هذا الصريع ومن حوله قطع الماس قال: لقد فقد الناس عالما كبيرا، وفقد العلم سرا عظيما.
يناير سنة 1925
الإغواء
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «شارل ميري»
ولولا أني خشيت الإغراب أو الغموض لوضعت لهذه القصة عنوانا غير هذا هو التسويل، فهذه الكلمة تترجم العنوان الفرنسي ترجمة دقيقة حرفية. ولكني أقرأ في قاموس الفيروزأبادي: سولت له نفسه: زينت، وسول له الشيطان: أغواه. فليكن عنوان القصة: الإغواء، وليكن هذا الإغواء قد صدر عن النفس أو عن الشيطان؛ فالأمر سواء. وما أحسب إلا أن لكل نفس من أخلاقها وأهوائها وعواطفها شياطين يغوونها ويدفعونها إلى الشر، وملائكة يرشدونها ويحببون إليها الخير. ولقد كنت حين بدأت أقرأ هذه القصة، أعتقد أني سأحمدها لك في غير تحفظ، وسأثني عليها في غير حيطة. ولكني لم أكد أمضي في قراءتها حتى حسبت أن الكاتب لم يصل بعد من فنه إلى هذه المنزلة التي يحمد فيها دون تحفظ، وإنما هو في سبيله إلى هذه المنزلة.
أنت تعرف هذا الكاتب، فقد حدثتك عنه يوم لخصت لك قصته المعروفة «الأمير جان»، ولعلك تذكر أني أشرت في مقدمة هذا التلخيص إلى أن عناية كاتبنا هذا منصرفة إلى الحركة والعمل أكثر من انصرافها إلى الرأي والتفكير، فهو يريد أن يؤثر في النظارة بمؤثرات خارجية تصل إلى نفوسهم من طريق الحس، لا بهذه المؤثرات الداخلية التي تنشأ في طيات النفس وأعماق الضمير. أريد أنه يكلف الممثلين ضروبا من الحركة وألوانا من الاضطراب، وينقل الملعب من مكان إلى مكان، ويكثر من الأشخاص ومن أحاديثهم وينوع أخلاقهم وصفاتهم، ويفاجئ النظارة بما لم يكونوا ينتظرون، فيملك حسهم ويبهرهم، ويصل من هذا كله إلى ما يريد من تلهيتهم وتسليتهم دون أن يصل إلى شعورهم العميق. هو متصل بحسهم وبهذه الكلمات التي تمكن الإنسان من أن يلهو لهوا هادئا لا يثير في نفسه حزنا ولا يبعث في قلبه أسى. هو يضمن للنظارة أن ينفقوا في الملعب ساعات حلوة، لا يشكون فيها مللا ولا سأما، ولا يفكرون أثناءها في أنفسهم ولا فيما قضوا يومهم فيه من خير أو شر. ولكنه يضمن لهم إذا خرجوا من الملعب، أن يخرجوا منه كما دخلوه لا محزونين ولا مكتئبين ولا محتاجين إلى أن يفكروا فيما رأوا أو سمعوا.
قلت لك هذا أو شيئا يشبهه في العام الماضي، فلما عرفت أني سأتحدث إليك عن الكاتب نفسه في هذا الأسبوع، خيل إلي أن سيكون الأمر هينا؛ لأنك تعرف الكاتب، فلم يبق لي إلا أن ألخص قصته. ثم أخذت في قراءة القصة فتغير رأيي فجأة تغيرا يوشك أن يكون تاما؛ لأني رأيت الكاتب نفسه قد تغير: لا يهمل الحركة واضطراب الممثلين. ولكني رأيته يؤثر عليها الفكرة ويريد أن يتصل في هذه المرة بعواطف النفس ودخائلها. ثم مضيت في قراءة القصة، فتم اقتناعي بأن الكاتب قد تغير مذهبه، ولكنه لم يتغير تغيرا تاما، فهو محتفظ بحبه للحركة وإسرافه فيها، ولكنه قد أضاف إلى حبه للحركة هذا شيئا آخر جديدا، وإذن ففنه يتطور ولكن في بطء. وأكاد أثق بأن القصص التي سيقدمها لنا في الفصل المقبل ستكون أقل حظا في الحركة والاضطراب، وأنه سينتهي إلى العدول عن هذا الفن الشاب المسرف في النشاط إلى فن آخر هادئ رزين فيه تذكير وفيه نفع وفيه عناية بالعقل والشعور.
والحق أني لم أبرأ من الأسف حين فرغت من قراءة هذه القصة، فأنت تعرف رأيي، وتعلم أني أوثر من قصص التمثيل ما يجد العقل والشعور فيها معا لذة ورضا. وأكره من هذه القصص ما يتصل بالحس وحده ويكاد لا يقصد إلا إلى العبث وإنفاق الوقت. وكنت أقدر بعد أن قرأت الفصل الأول والثاني أني بإزاء قصة رأي وتفكير، وكنت معجبا بموضوع القصة وبهذه الفكرة التي أراد الكاتب أن يستغلها، وكنت أريد ألا يشغلني الكاتب بحركته واضطرابه عن هذه الفكرة وعن أطوارها وعن آثارها ونتائجها، فلم أظفر من ذلك إلا ببعض ما كنت أريد. ولقد أجد النقاد يذكرون صلة بين هذا الكاتب وبين كاتب آخر حدثتك عنه في العام الماضي غير مرة، وهو «هنري باتاي»، وربما كان بين الكاتبين شيء من الشبه غير قليل، ولكن من الخير أن نحدد هذا الشبه إن كان إلى تحديده سبيل، فنلاحظ قبل كل شيء أن الكاتب الذي نحن بإزائه اليوم يشبه «هنري باتاي»، من حيث إنه يعبث بالنظارة ويستأثر بحسهم ويلهيهم كما يريد، دون أن يتيح لهم من الوقت ما يمكنهم من الأناة والتفكير وكشف القناع عن حيله وألاعيبه الفنية. هو مسرع يعدو فيعدو وراءه النظارة حتى تكاد تنقطع أنفاسهم. وهو بارع في هذا العدو، يلهي نظارته فلا يحسون ألما ولا تعبا، ويصرفهم عن أنفسهم إلى فنه. ولكن الفرق عظيم جدا بينه وبين «هنري باتاي»، فلم يكن هنري باتاي عابثا لاعبا ليس غير، وإنما كان شيئا آخر. وسواء أرضيت الأخلاق والفلسفة عن تمثيل هنري باتاي أم سخطت عليه، كانت قصصه كلها أو أكثرها تجارب علمية نفسية؛ ذلك أنه لم يكن يعبث بالحس وحده، وإنما كان يعبث بالعواطف والشعور أيضا، ولم يكن يريد أن يلهو ولا أن يلهي ليس غير، وإنما كان يريد شيئا آخر: كان يريد أن يثير الحس والعاطفة ما استطاع ليعرف أقصى ما يمكن أن ينتهيا إليه. ومن هنا لا تستطيع أن تخرج من الملعب هادئا مطمئنا كما دخلته، وإنما أنت متأثر شديد التأثر بما رأيت وسمعت. ينقضي الليل وربما انقضى اليوم أو الأيام دون أن ينقضي هذا التأثر، ذلك شيء تجده في «هنري باتاي»، ولكنك لن تجده في كاتبنا هذا. وإذن فليس الشبه بينه وبين صاحبه قويا ولا عميقا، وإنما هو شبه عرضي إن صح هذا التعبير.
وقد يكون من الخير أن أبدأ في تلخيص هذه القصة، ولكني ألفتك قبل كل شيء إلى أن هذا التلخيص سيكون موجزا؛ لأني لن أتابع الكاتب في حركته واضطرابه، فقد تكون متابعة الكاتب فيها لذيذة في الملعب دون التلخيص. •••
نحن في ضواحي مدينة جنيف، في فندق هناك من فنادق الترف، وقد أقبل المساء أو كاد، وأخذ الناس يجلسون في طنف الفندق يتناولون الشاي وما إليه مما يتناول في المساء. ونحن نرى في ناحية من هذا الطنف رجلين قد جلسا إلى مائدة يتحدثان، ونرى قريبا منهما رجلا وامرأة يهمسان وكأن الأمر يعنيهما. فلنعرف هؤلاء الأشخاص جميعا؛ أما أحد الرجلين فهو «موريس برونو» شاب، ضخم الثروة عظيم النشاط، يعمل عامه كله في غير راحة ولا هدوء، حتى يجهده العمل فيفر من باريس إلى حيث يستريح أسابيع. وهو شديد الحياء يضطرب لأقل شيء، قليل التجربة، ولعل هذا هو مصدر حيائه واضطرابه. وأما صاحبه فهو «لوثار» صديق له من هؤلاء الناس الذين تظهر عليهم آثار النعمة ويسيرون في الحياة سيرة المترفين، ولكنهم في حقيقة الأمر فقراء لا يستمدون نعمتهم أو ترفهم من ثروة يرثونها أو يكسبونها، وإنما هم عيال على أصدقائهم الأغنياء، يعتمدون عليهم ويعيشون منهم. وهم لا يريدون أن يؤمنوا بهذا ولا أن يظهروه، وإنما هم يخفونه حتى على أنفسهم، بل يخفونه حتى على أصدقائهم هؤلاء، فهم يأخذون من أصدقائهم ما يحتاجون إليه لا على أنه هبة أو عطاء، بل على أنه قرض، وهم يقترضون في تمنع وإباء وفي عزة تكاد تكون طبيعية، حتى إن الذين لا يعرفونهم يجهلون من أمرهم كل شيء.
وأما المرأة فهي «إيرين دي برج»، لم تبلغ الثلاثين بعد. رائعة الجمال كأكثر نساء القصص. كل شيء فيها حلو خلاب: صورتها، حركاتها، ألفاظها، زيها، مذهبها في الحوار أو الكلام. هي فتنة تتحرك، نشأت من أسرة متوسطة، من أبوين يؤثران المنفعة على كل شيء، وقد أتيح لابنتهما خطب شريف ضخم الثروة، فقبلاه ودفعا إليه الفتاة دفعا دون أن يحفلا بعواطفها وهوى نفسها. وكان هوى نفسها هذا مع شاب آخر كان صديق صباها، فأحبها وأحبته، وخطبها وقبلته. ولكن أبويها رفضا؛ لأن هذا الشاب لم يكن نبيلا ولا غنيا بحيث يلائم جمال ابنتهما من جهة ومطامعهما من جهة أخرى. وهذا الشاب هو «روبير جوردان»، وهو محام قد عظم أمره وبعد صوته في محاكم الجنايات، وهو الذي يتحدث إلى هذه المرأة الآن. قد افترقا أعواما ثم التقيا، فإذا حبهما على عهده القديم لم يتغير، وإن كانت المرأة تظهر لزوجها عطفا ومودة وتضمر له وفاء وبرا. هي لا تحب زوجها وهي تعلم أن زوجها لا يحبها، بل تعلم أنه يخونها ويسرف في خيانتها، ويبدل من الأخدان والخليلات كما يبدل ثيابه، ولكنها مع ذلك وفية أمينة؛ لأنها تكبر نفسها عن الخيانة، وتضن بجسمها أن يكون متعة لرجلين، وتأبى عليها كرامتها أن تختلس لذتها وسعادتها اختلاسا. هذا شأنها.
أما صاحبها فما زال يحبها، ولكن هذا الحب لم يكلفه رهبانية ولا نسكا، فهو يستمتع بالحياة ويتخذ الأخدان والخليلات لينصرف إليهن عن همه وعن حزنه. ولكنه الآن قد لقيها فامتلأت بها نفسه، وانصرف أو كاد ينصرف عن خليلة له كان قد أطال عشرتها. فلندع هذين العاشقين في حديثهما، ولنعد إلى الرجلين اللذين تركناهما آنفا لنرى فيم يتحدثان، يتحدثان في شيء طبيعي جدا، وهو أن الشاب رأى هذه المرأة فوقعت من نفسه، فهو يذكرها، ويلح في ذكرها وتفصيل جمالها، ويسأل عن مكانتها الاجتماعية، وصاحبه يؤيد له أنها فتاة من هؤلاء الفتيات اللاتي يختلفن إلى الفنادق والأندية يلتمسن الأخلاء، وقد رأى كلف صاحبه بها، فهو يهون عليه الأمر ويعلن إليه أنه سيقدمه إليها. وهما في هذا الحديث وإذا المرأة وحدها؛ لأن صاحبها قد تركها كأنه مغضب، فينهض الرجل إليها فيحييها كما تحيى الفتيات اللائي لا كرامة لهن، ويعرض عليها صاحبه الشاب، ويذكر لها ثروته وأخلاقه ومكانته، كل ذلك في غير حيطة ولا تحفظ، والمرأة تسمع هذا كله ضاحكة مغرقة في الضحك، ثم تقبل أن يقدم إليها الشاب، فإذا قدم إليها ازدادت ضحكا وإغراقا في الضحك، واضطرب الشاب اضطرابا شديدا، فلم يزدها اضطرابه إلا ضحكا. وهم في هذا الضحك، وإذا جماعة قد أقبلوا عليهم فيهم زوج المرأة، فتقدم المرأة زوجها إلى هذين الرجلين اللذين أدركهما خجل شديد، ثم تعلن إليهم أنها رأت هذين الرجلين في باريس وتحدثت إليهما، ولكنهما نسياها، أما هي فلم تنسهما. ولست أحدثك عن خجل هذين الرجلين وما تبعه من حركات مضحكة لا يتسع هذا الفصل لمثل هذه الأشياء التي تلذ في الملعب دون التلخيص كما قلت. بل لست أحدثك عن حركات هؤلاء الناس جميعا، فهم في اضطراب متصل يتنقلون من مكان إلى مكان، ويدخلون إلى الفندق ويخرجون منه. وأنا أنتهز فرصة خلت فيها المرأة إلى صديقها روبير، فهما يتحدثان بما قدمت لك من حب، وهو يلح عليها في أن تسمح له، وهي تأبى عليه إباء شديدا، ثم تقسم له أنها لن تكون لغيره، فإذا استوضحها أنبأته بأنها إذا برئت ذمتها من زوجها فلن تتزوج إلا إياه، والفتى ساخط على هذا الوعد الذي لا يقدم ولا يؤخر، فقد ذكر لها الطلاق فرفضته رفضا شديدا؛ لأن أبويها يكرهان الطلاق، وذكر لها الخيانة فرفضتها رفضا شديدا لأنها تزدري الخيانة، وإذن فلم يبق إلا أن ينتظرا قضاء الله، وما أسرع ما يتم هذا القضاء!
أقبل القوم جميعا وأخذوا في أحاديثهم المتصلة المختلفة، وإذا زوج «إيرين» يطلب إلى صديقها روبير أن يعيره سيارته ليهبط المدينة؛ لأن له فيها حاجة معجلة. ونفهم نحن من الحوار بين الرجلين أن الزوج إنما يهبط المدينة ليلقى خليلة له، وهو إنما يستعير سيارة صاحبه ليترك سيارته لامرأته إن أرادت أن تخرج، وهو شديد الحرص على أن يكون وحده، ولكن روبير يأبى إلا أن يرافقه لأنه وحده يحسن قيادة سيارته، وقد اتفقا آخر الأمر على أن يهبطا المدينة معا، ولم يبق عندنا ولا عند «إيرين» وصديقها شك في أن الزوج ذاهب إلى موعد منكر. وقد خرج الرجلان وبقيت الجماعة في أحاديثها المتصلة، وأخذت في ألوان من اللعب لإنفاق الوقت، ومضت على ذلك لحظات، وإذا خادم من الفندق قد أقبل فدعا أحد الرجال وخلا إليه، وأقبل هذا الرجل فدعا الآخرين بعضهم إلى بعض وأخذوا يتحدثون، والنساء لاهيات عنهم باللعب، و«إيرين» خاصة منصرفة عنهم انصرافا تاما؛ لأنها معصوبة العينين تتلمس رفيقاتها بيديها وتريد أن تدل عليهن دون أن تراهن. ولكن حديث الرجال قد طال ووصلت أطراف منه إلى النساء، فالتفتن ثم أقبلن، ثم ظهر الأمر منكرا وأزيل الغطاء عن «إيرين»، فما كادت ترى وتسمع حتى أغمي عليها، ذلك أن زوجها قد خرج في السيارة مع صاحبه، حتى إذا كانا في بعض الطريق نزل صاحبه من السيارة ليتحدث إلى رجل، فانتهز الزوج هذه الفرصة وطار بالسيارة، لأنه يريد أن يكون وحيدا في موعده، وأخذ صاحبه يعدو وراءه يستوقفه ولكنه أسرف في السرعة، وإذا هو أمام هوة لم يحسن اتقاءها، فتردى فيها، وهو الآن يحمل إلى الفندق.
كان هذا كله في جنيف وقد مضت عليه سنة أو أكثر من سنة، ونحن الآن في مدينة «كان» في جنوب فرنسا، في قصر فخم لأحد الذين حضروا ما قدمت في الفصل الأول واسمه «دي بوشان»، وقد دعا هذا الرجل أصدقاءه ليقيموا عنده أياما وفيهم «إيرين» وصاحبها روبير، وفيهم «موريس برونو» وصاحبه «لوثار». ونحن نرى صاحب القصر يتحدث إلى امرأته وابنته وهم ينتظرون أصحابهم ليذهبوا إلى اللعب. وقد فهمنا من حديثهم أن الرجل وامرأته يريدان أن يزوجا ابنتهما من موريس، وهما يلحان عليها في أن تترضاه وأن تتحبب إليه، وهي تفعل ما تستطيع، ولكن الفتى منصرف عنها إلى هذه الأرملة «إيرين»، والفتى يعلم أن هذه الأرملة لا تحبه، وإنما تحب «روبير»، وهو يعلم أنها قبلت خطبته وأنها ستقترن به بعد أشهر، ولكنه مع ذلك يحبها ويصرفه حبه عن هذه الفتاة. وقد أقبل القوم جيمعا وهموا بالذهاب إلى الملعب، ولكن روبير قد تعلل بأنه مصدوع، وأنه يؤثر منظر البحر وجمال الطبيعة على الملعب، فسيبقى إذن، وإذن فستبقى «إيرين» حتى لا تتركه وحده! ولم لا؟! أليسا خطيبين؟! أليس من حقهما أن يخلوا إلى جمال البحر والطبيعة في ضوء القمر، وأن يذكرا حبهما. وهما الآن وحدهما، وهما يذكران حبهما وآمالهما. ولكن شيئا جديدا قد طرأ؛ ذلك أن «روبير» قد تغير تغيرا غريبا، فهو يحب صاحبته، ولكنه يتقيها ويكاد يفر منها، وهو شديد الاضطراب ولا سيما إذا تحدث إليها، وهي تحس هذا كله، ولكنها لا تفهمه. وانظر إليهما الآن يتحدثان في الحب حتى يغريهما الحديث بالقبل فيضمها إليه، وإذا هي قد لانت له وضعفت، ولكنه ينصرف عنها في نفور وتحرج. فإذا غاظها ذلك ذكر لها أنه لا يريد أن يتزوج خليعة، وإنما يريد أن تظل صلاتهما عفيفة طاهرة إلى يوم الزواج. ولكن هذا لا يرضيها، ولها الحق، فقد كان هذا الرجل يغريها بالخيانة قبل أن يموت زوجها، ولم يكن يحفل يومئذ بالعفة ولا بالطهارة، فما الذي غير منه الآن؟ أبلغت به الأثرة أنه كان يريدها لنفسه حين لم يكن له عليها حق، فأما الآن فهو يأخذها باحترام العادات والأخلاق والأوضاع الاجتماعية؟! هي مغضبة، مغضبة لهذه الخواطر التي ذكرتها، ومغضبة أيضا لأنها تحس في نفسها بل في جسمها شيئا من الخيبة، طمعت في اللذة والسعادة وأشرفت عليهما، وهي الآن ترد عنهما ردا. ولكن صاحبها أشد بؤسا مما تظن، فليس يصرفه عنها احترام الأخلاق والأوضاع، وليست الأثرة هي التي تصده عن اللذة، ولكن بين العاشقين حائلا منكرا يعلمه هو وتجهله هي، وهو يجتهد في إخفائه عليها، ولكن الظروف أرادت أن يظهر في هذه الليلة وهما متغاضبان، وقد ذكرت أن لديها رسائل قد وصلت إليها، فهي تريد أن تقرأ هذه الرسائل، وهي تنظر فيها وإذا واحدة منها قد ملأتها اضطرابا وذعرا، فهي تريد أن تتحدث إلى صاحبها في أمر هذه الرسالة، ولكنها تتردد وقد ظهر اضطرابها، وصاحبها يسألها: ما شأنها؟ فتخفي عليه. ولكنها تنتهي إلى أن تسأله : «كيف قتل زوجها؟» وهي تلح عليه في أن يقص عليها الأمر مفصلا، فيمتنع ويظهر عليه الاضطراب، ثم يقص عليها الأمر وإذا هو متناقض يكذب نفسه غير مرة، وهي تحصي عليه هذا التناقض وتلفته إليه، فلا يزداد إلا اضطرابا وتناقضا. ونحن نحس أنها تريد أن تبرئه، ونحس أنه بريء، ولكنا نحس أنه لا يحسن الدفاع عن نفسه، وأنه ينكر من نفسه شيئا لا يريد أن يبوح به. ولكن طارئا يقطع عليهما الحديث حينا، وهو «موريس»؛ فقد انصرف من الملعب لأنه أحس صداعا، وما أحس صداعا وإنما أحس حبا وغيرة. وهو يود لو جلس إلى العاشقين، ولكنهما يظهران صدودا عنه، فيصعد إلى غرفته كارها. ويستأنف العاشقان حديثهما، فإذا هي تتهمه، وهو يقسم أنه بريء، ولكنه لا يحسن الدفاع عن نفسه، وإذا هي تقرأ علينا هذه الرسالة التي ملأتها اضطرابا وذعرا، وهي رسالة غفل ليس من شك في أن خليلة صاحبها هي التي كتبتها لتفسد هذا الزواج. وفي هذه الرسالة اتهام لصاحبها بالقتل، وقد اشتد الأمر بين العاشقين، وكاد العاشق يعترف بكل شيء، ولكنه أمسك ثم فر، وإذا صاحبته تصيح مستغيثة تدعو «موريس» فيقبل، وإذا هي قد أغمي عليها.
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في مدينة «بيارتز» في أحد فنادقها الكبرى، وقد مضت أشهر على ما قدمت لك، ونحن نرى «لوثار» قد أقبل، ونفهم أن صديقه «موريس» قد وصل إلى الفندق أمس ومعه زوجه «إيرين»؛ ذلك أن «إيرين» حينما استغاثت بموريس أقبل إليها، وما زال بها حتى رد إليها رشدها، فدعته إلى أن يحميها وطلبت إليه أن يتزوجها وأن يسرع في الزواج، فتزوجا. وهما الآن يطوفان في الأرض، وقد أقبلا إلى «بيارتز» بعد أن زارا بلادا مختلفة وجاء «لوثار» للقائهما، وهو لا يلبث أن يلقى صاحبه وأن يتحدثا، فنفهم من حديثهما أنه ليس سعيدا لأن امرأته ليست سعيدة، وهو لا يشك في أنها وفية أمينة تجتهد في أن تحبه وتخلص له، ولكن شيئا يصرفها عن هذا، وهي تخفيه عليه، وقد أقسمت له أنها لم تسمح لخطيبها الأول ولم تخن زوجها الأول، ولكنها مع ذلك تخفي عليه شيئا، ويجب أن يكون هذا الشيء أليما، فقد أنحلها وأضناها حتى أصبحت حياتها معرضة للخطر.
وهو يحبها، ويريد أن ينقذها من هذا الخطر، ويبذل في ذلك ما يستطيع. وهذه «إيرين» قد أقبلت وهي شاحبة نحيفة محزونة، يريد «لوثار» أن يضحكها فلا يصل إلى شيء. وقد أقبلت صديقتها تعرض عليها أن تذهب معها إلى حيث الشاي والرقص، فتظهر الرضا. ولكن هذه الصديقة غابت عنها حينا ثم تعود، وإذا هي منصرفة عن الشاي منصرفة عن الرقص، تعرض على صاحبتها البقاء حيث هما، ثم تسر إلى «لوثار» أنها رأت في قاعة الشاي «روبير»، وتريد أن يعلم ذلك «موريس»، ولكن موريس قد ذهب لبعض شأنه، وإذا «روبير» قد دخل، فرأته «إيرين» فاضطربت اضطرابا شديدا وأخذها دوار يشبه الإغماء.
ودعي زوجها فأقبل، وما يزال بها حتى يرد إليها قوتها وقد عرف كل شيء، فهو يلح على امرأته في أن تنبئه بجلية الأمر، فإذا أبت عليه اتهمها وأنذرها بأن يلقى روبير ويسأله وهو مستعد للمبارزة. هنا تكذب «إيرين» وتتهم نفسها بأنها قد كانت خليلة «لروبير»، وتلح على زوجها في أن يتجنب هذا اللقاء وفي أن يترك مدينة «بيارتز». ولكن زوجها يأبى، وقد تركته ليستريح، فلا يكاد يخلو إلى نفسه حتى يرى غلاما يسرع إلى غرفة امرأته، وكان يخفي كتابا، فيعرض له ويأخذ منه الكتاب قهرا، فإذا الكتاب موجه إلى امرأته وهو لا يريد أن يقرأ هذا الكتاب، ولكنه يريد أن يعلم ما فيه.
وقد أقبل «روبير» فتحدث الرجلان، وأذن له روبير في قراءة الكتاب، فإذا هو كتاب بريء لا إثم فيه، وإنما هو تحية واعتذار. وقد أخذ الرجلان يختصمان، وأخذ العنف يشتد بينهما؛ لأن أحدهما يحب ويغار والآخر يحب ويحقد. ولكن «إيرين» قد أقبلت، فما تزال بالرجلين حتى يهدآ. وقد أعلن زوجها إلى صاحبه أنه يعرف ما كان بينهما من صلة، فيقسم الرجل ببطلان هذه التهمة، وتعترف «إيرين» بأنها كذبت على نفسها لأنها لم ترد أن تفشي سر صاحبها، فهي مقتنعة بأن صاحبها قد قتل زوجها.
وهنا يظهر سر القصة، فالرجل لم يقتل زوج «إيرين»، ولكنه تركه يموت؛ رآه وقد تردى في الهوة وسمعه يصيح ويستغيث، وكان يستطيع أن ينقذه لو أراد، ولكنه تمثل «إيرين» حرة بعد موت هذا الرجل، وتمثل قسمها له وتمثل اقترانه بها؛ كل ذلك في لحظة قصيرة جدا، فأبطأ عن الرجل حتى سقط ومات. وإذن فهو لم يقتله، ولكنه تركه يقتل، وهو يحس في نفسه منذ ذلك اليوم عذابا شديدا، وهو يرى نفسه آثما مجرما، وهو لهذا كان لا يستطيع أن يدنو من «إيرين» ولا أن يجد السعادة في اقترانه بها؛ لأنه كان يتمثل دائما هذا القتيل بينهما.
وهو قد انصرف عن محاكم الجنايات لأنه لا يستطيع أن يدافع عن المجرمين وهو مجرم، وهو قد انصرف عن العمل كله لأنه مفرق النفس بين الحب واللوم، وهو قد أقبل يرى صاحبته للمرة الأخيرة، وهو يتمنى السعادة للزوجين ويسألهما الرثاء له. أما هي فممعنة في الانتحاب، وأما زوجها فيصافح هذا الشقي البائس قبل أن ينصرف، وهو يسال امرأته ويريد منها الجواب في صراحة وإخلاص: ماذا كنت تصنعين لو أنه اعترف لك بهذا كله قبل زواجنا، أكنت تتزوجينه؟ فتجيب: نعم! لأنه لم يقتل ولأني أحبه. •••
فإذا كان الفصل الرابع - وكنت أود ألا يكون - فنحن في ضاحية من ضواحي باريس، في قصر فخم يسكنه «موريس» وامرأته، وقد انصرفا عن مائدة الغداء ومعهما «لوثار» وصديقة لهما، وهم يتحدثون، وقد فهمنا من حديثهم أن «إيرين» ما زالت محزونة كئيبة، وأن «موريس» ما زال محتملا جادا في العناية بها، وأنها تتمنى أن ترزق ولدا يصرفها عن حزنها وأساها. ولكن لنتعجل، فقد انصرف القوم جميعا وبقيت «إيرين» وحدها، فتجلس إلى البيانو وتعبث بأصابعها، وإذا الخادم قد أقبلت تنبئها بأن زائرا يريد أن يراها، فتمتنع لأنها عرفت من هو، ثم تأذن فيدخل «روبير»، وإذا رجل سيئ الحال جدا لا نكاد نراه حتى نصدق ما سمعنا من أنه قد انصرف إلى اللهو، فهو يقضي الليل في الحانات، وهو يدمن على الخمر و«الكوكايين»، وقد أقبل اليوم يعلن إلى صاحبته أنه سيترك فرنسا إلى مكان بعيد يجد فيه عملا مثمرا ومسليا. وهو يعلم أنها تحبه، وأنها لا تحب زوجها الثاني، كما أنها لم تحب زوجها الأول. وهو يعرض عليها السعادة، ولكنه يريد أن تكون حرة، يعرض عليها أن تسافر معه، ويذكرها حبهما وقسمها، وأنه وإن يكن أساء فقد احتمل من الألم والندم ما يكفر عن سيئته. وقد أثر فيها تاثيرا قويا، وقد كاد يغلبها على أمرها، ولكنه يريد أن تكون حرة فيما تعتزم، فسينصرف وسينتظر في الشارع دون النافذة. فإذا فكرت وقررت أن تلحق به فلتتخذ معطفها وقلنسوتها ولتهبط إليه. وإذا اعتزمت أن تبقى ولا تراه، فلتضم الأستار إلى النافذة، فسيرى هو هذا وسينصرف إلى حيث لا تراه. قال هذا ومضى وتركها مضطربة أشد الاضطراب، ولكن زوجها قد أقبل؛ ذلك لأنه بينما كان خارجا من القصر رأى «روبير» يدخله، فانتظر حتى انصرف «روبير» وأقبل إلى امرأته، وهو يحدثها في صراحة وكرم وطيب نفس، يعرض عليها حريتها. وهو يعلم أنها تحب «روبير»، وأنها لم تنصرف عن حبه قط، وأنها لن تسعد إلا معه، وهو يحبها ولكن لنفسها لا لنفسه، وأي آية على الحب وصدقه أقوى من أن تضحي بنفسك وسعادتك في سبيل من تحب؟! تستطيع إذن أن تذهب مع «روبير»، فقد سمع الناس يتحدثون بأنه مسافر إلى مكان بعيد، ولا ينبغي أن تتردد ولا أن تشفق، فسعادته الصحيحة في أن يجعلها سعيدة، وسيرفع أمر الطلاق إلى المحكمة ويحتمل هو آثام الطلاق، وسيصدر الحكم لها لا عليها. هو يقول هذا كله مخلصا، وهي تسمع هذا كله باكية منتحبة، ولكنها لن تفعل من هذا شيئا. أليست هي التي أبت أن تخون زوجها الأول، فكيف تخون زوجها الثاني؟! هو يريد أن يضحي بنفسه في سبيلها، فلم تكون هي من الأثرة بحيث تقبل هذه التضحية؟! هي لا تحب زوجها حب شهوة ولذة، ولكن لم لا تحب زوجها حب صداقة وشكر للصنيع؟! وبعد فلو أنها أرادت أن تلحق بصاحبها لما استطاعت؛ ذلك لأنها تحس في أعماقها شيئا كانت تتمناه لتسلو به عن الحزن والألم، وكان يخيل إليها أنها لن تظفر به، ولكنها الآن تحسه فكأنه قد أقبل ليصرفها عن الإثم والجور، وليقر العدل في نصابه. هي تحس أنها حامل، وهي تعلن ذلك إلى زوجها، وهو يضمها إليه ويقبلها سعيدا مغتبطا وقد أفلتت من بين ذراعيه وأسرعت إلى النافذة في ذهول فضمت أستارها، ولكنها سمعت شيئا صعقت له، فيقبل زوجها عليها ويعنى بها حتى تفيق بعض الشيء، وتنهض فتجلس إلى البيانو وتعبث بأصابعها لتخدع زوجها عن مرضها وحزنها، أصابعها مضطربة على البيانو وبصرها حائر وفكرها مشرد، والباب قد فتح والخادم تدعو سيدها وجلة، فيسرع إليها فتنبئه بأن رجلا قتل نفسه بالباب ...
يناير سنة 1925
الغربان
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «هنري بيك»
ليس هذا العنوان مشوقا ولا خلابا، وربما كان منفرا ثقيلا على السمع. ومع ذلك فلست أعرف عنوان قصة تمثيلية أشد من هذه القصة صدقا وأكثر منها تأثيرا في النفس، وأبرع منها في تصوير لون من ألوان الحياة القاتمة المحزنة التي نراها. فلا يحسن ظننا بالإنسان ولا فيما انتهى إليه من حضارة ورقي.
نعم! نحن بإزاء قصة جيدة ... وأنا أصفها بهذا الوصف من غير تحفظ ولا احتياط؛ لأنها خليقة به حقا. هي جيدة من كل وجه، جيدة في موضوعها؛ لأنه من هذه الموضوعات التي نشهدها في كل يوم وفي كل مكان على اختلاف ظروف الحياة وأجيال الناس، نشهده فننكره أشد الإنكار، ونحزن له أعمق الحزن، ونسخط عليه أشد السخط، حتى لقد أصبح ذلك شيئا شائعا مستقرا عنيت به الديانات ومذاهب الأخلاق. وأي الناس يجهل سخط الديانات والأخلاق وعرف أخيار الناس على هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى وينعمون بشقاء البائسين، ويستغلون ضعف الضعيف ليتخذوا منه لأنفسهم قوة وبأسا. القصة جيدة في معناها وأسلوبها أيضا، فأنا زعيم لك إن قرأتها ألا تجد فيها إسرافا ولا قصورا، ولا تجاوزا لحدود الفن ، ولا نبوا عن السهولة والسذاجة اللذين يلائمان طبع الطبقات الوسطى من الناس. أنا زعيم لك بأنك ستقرءها فلا تجد فيها عنفا ولا شدة، ولا عناية قليلة أو كثيرة بالتأثير في نفسك والاستثارة لعواطفك، ومع ذلك ستثور لأن القصة طبيعية بريئة من التكلف. ولست أعرف شيئا أبلغ في إثارة العاطفة والتأثير في النفس من الطبيعة الصادقة يمثلها الكاتب أو الشاعر تمثيلا صادقا. والقصة جيدة في لفظها، فقد تقرؤها على طولها دون أن تجد فيها لفظا غريبا، بل دون أن تحس فيها أن الكاتب قد تخير ألفاظه أو تأنق فيها، وإنما هو كلام يجري مجرى الطبع ويسير مسير الأحاديث العادية بين أوساط الناس، دون أن يكون فيه مع ذلك فساد أو ضعف أو اضطراب.
القصة كلها طبيعية، وهي طبيعية من أي نحو قصدت إليها. ومن هنا قلت - وما زلت أقول - إنك لن تستطيع أن تقاومها ولا أن تعصم نفسك من التأثر لها، وأحسب أنك لن تستطيع أن تقرأ الفصل الثالث والرابع منها محتفظا بهدوئك وسكونك ودموعك. نعم! أعترف بأني من أشد الناس مقاومة لبراعة الكتاب والشعراء والممثلين، وهذه المقاومة نفسها هي التي تمكنني من النقد وتيسر علي الحكم إذا قرأت قصة أو شهدتها. ولكني على شدة مقاومتي هذه احتجت أمس إلى أن آخذ نفسي بشيء من العنف وأنا أقرأ هذه القصة لأحتفظ بهذه الابتسامة التي تعودت أن أسمع معها كل أثر فني. ولست أريد أن أطيل في المقدمات، فلأهجم بك على القصة نفسها، وأنا واثق كل الثقة بأني لن أستطيع أن أؤثر في نفسك تأثير القصة نفسها؛ لأني لم أوفق مهما أبذل من جهد لأن أكون في هذا التلخيص من السذاجة والسهولة بحيث كان الكاتب نفسه حين وضع قصته.
ما أجدر هذه القصة أن تقرأ! وما أجدرها أن تترجم! وما أجدرها أن تعرض على الناس في ملاعب التمثيل العربي! ... فكأن الكاتب لم يضعها لفرنسا، وإنما وضعها لمصر. ولم لا نكون صادقين فنقول: إنه وضعها للعالم كله! وأي بلد يخلو من أولئك الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما فيأكلون في بطونهم نارا، ويستعدون لأن يصلوا يوم القيامة سعيرا. •••
نحن في باريس في بيت تظهر عليه آثار النعمة. قد رفع الستار، فإذا نحن نرى أسرة مجتمعة، لا نكاد نراها ونسمع لها حتى نشعر بأنها أسرة سعيدة مغتبطة، قد ألف الحب بين قلوبها، فاطمأنت إلى يومها وابتسمت لغدها. نرى شيخا قد استلقى يستريح بعد الغداء، وفي يده صحيفة ينظر فيها والنوم يغالبه، وهذا الشيخ هو «فينرون» زعيم الأسرة. ونرى امرأة ليست بالشابة، ولكنها ليست بالشيخة أيضا. ونرى فتاة قد جلست إلى البيانو، وهي «جوديت» أكبر شباب هذه الأسرة، وفتاة أخرى قد جلست قريبا من أبيها إلى بعض هذه الأعمال اليدوية التي يعنى بها النساء، وهي «ماري» الثانية من شباب هذه الأسرة. ونرى فتاة ثالثة لما تبلغ العشرين، قد جلست إلى مائدة تكتب، وهي «بلانش» الثالثة من شباب هذه الأسرة. ونسمع ذكر غلام سنراه بعد حين يسمى «جاستون»، وهو آخر أبناء هذه الأسرة. انظر إلى الفتاة مبتسمة تكتب، وليس يشك من رآها في أنها معنية بأمر ذي بال، وكيف لا؟! أليست تكتب أسماء الذين سيتناولون العشاء على مائدة أبيها مساء هذا اليوم، وتعنى بترتيبهم في مجالسهم ملاحظة في هذا الترتيب أقدارهم وأعمارهم؟! ثم أليست بطلة هذا العشاء، فهو إنما يقدم إلى الناس احتفالا بخطبتها وتمهيدا لقرانها، وقد نهضت أمها فأخذت تناقشها في أماكنهم، وتذكر كل واحدة منهم ثم تعقب بحكم له أو عليه. وقد أفاق الشيخ من غفوته، فسمع ابنته تذكر ساخطة اسم أحد المدعوين، وهو «تسييه»، فأظهر غضبا ولوما، وأنذر ابنته بأنها إن عادت إلى مثل هذا فسيحرمها حضور المائدة وسيلغي زواجها؛ ذلك أن هذا الرجل الذي تكرهه هذه الفتاة هو مصدر نعمته وشريكه في عمله، فيجب إكباره والوفاء له. والأسرة مختلفة دائما في هذا الموضوع اختلافا شديدا؛ فأما الشاب فيكره هذا الرجل كرها عنيفا؛ لأنه ثقيل النفس بغيض، غليظ الحديث، بخيل شديد الأثرة، وأما الشيخ فلا ينظر إلى شيء من هذا كله، وإنما ينظر إلى أن هذا كان مصدر ثروته، وما هو فيه من نعيم، وأما الأم فتتوسط بين الشيخ والشاب. ولهذا يتخذها الشيخ حكما كلما اختلف مع بناته في أمر هذا الرجل، يتخذها حكما في كل يوم؛ لأن هذا الخلاف يتجدد في كل يوم، وهي تعيد في كل يوم صيغة بعينها يحبها الشيخ، فهو يستعيدها، ويضحك منها الشاب، فهو يستعيدها أيضا. وهذه الصيغة تختصر تاريخ الأسرة التي كانت فقيرة معدمة، ولكنها شريفة عاملة، حتى لقي هذا الرجل الغني زعيمها، فطلب إليه أن يدير معملا له، فقبل، ووفق في عمله، فأصبح شريك رئيسه، وأخذ يكون لنفسه ولولده ثروة لا بأس بها. وإذن فهو مدين لشريكه بالثروة، ولكن شريكه مدين له بالنجح. وإذن فليس لأحد منهما على صاحبه فضل.
كل هذا يعرض عليك تاريخ الأسرة وما بين أعضائها من حب وألفة، وما تستقبل به الحياة من سعادة قوية وأمل مبتسم، ولا سيما بعد ما لقيت من ضيق وعناء. ولكن شيئين آخرين يجب أن تعلمهما؛ الأول: أن هذا الشيخ مريض تظهر عليه آثار علة خفية، وهو يجاهد هذه العلة ويريد أن يمضي في عمله وفي تكوين ثروة ضخمة لبنيه، فهو لا يكتفي بنصيبه من المعمل وإنما يشتري أرضا ويقيم عليها دورا، وكل هذا العمل يجهده ويضنيه، وأهله قلقون مشفقون. واسمع إلى ثانية بناته تلومه في رفق ولطف؛ لأنه لا يعنى بصحته، فلا يستريح، ولا يعرض نفسه على الطبيب.
الثاني أن صغرى هؤلاء الفتيات قد خطبت وتمت خطبتها، وهي سعيدة، وأمها راضية، ولكن الشيخ غير مطمئن لهذه الخطبة ولا مبتهج بهذا الزواج، وهو لا يميل إلى صهره الشاب ولا إلى أمه الأرملة الفقيرة، ولكنه لا يستطيع أن يعلل هذا النفور. وهو الآن يريد أن ينصرف إلى عمله، ولكنه يحب بناته، ويحب زوجه، ويحب حياة الأسرة هذه، فهو يتردد في الخروج، ويدعو ابنته إلى أن توقع له لحنا على البيانو فتفعل. وقد دخل الغلام، فإذا الشيخ يلقاه بهذه اللهجة التي امتاز بها الآباء الفرنسيون، لهجة التعنيف يملؤه العطف والحنان ، وإذا الرجل يمازح ابنه ويداعبه في حرية ورضا، وإذا هو يضع في جيبه النقود وإن كره الغلام، وإذا هو يبيح له أن يلهو كما يشاء على أن يكون شديد الاحتشام إذا دخل البيت حتى لا يظهر أخواته من سيرته على شيء، وإذا هو يعرض نفسه على ابنه ليكون مشيره وناصحه فيما يعترض له من الصعاب، وإذا هو بعد ذلك قد استحال إلى الجد فهو يعلن إلى ابنه أن أمد هذا اللهو سيكون قصيرا، وأنه سيستعين به في أعماله الكثيرة.
وانظر إلى هذا الشيخ قد جمع بنيه وامرأته، فقبلهن جميعا ثم مضى لعمله، وأخذت الأم تأمر بناته أن يتهيأن للعشاء، ويتخذن زينتهن لاستقبال المدعوين فخرجن، ولكنها تدعو صغرى بناتها فتزجرها في لطف وتنذرها في حنان لأنها تسرف بعض الإسراف في مداعبة خطيبها وتتجاوز حدود اللياقة، وأمها لا تسمح بهذا ولا ترضاه. ولا تكاد تخلو هذه الأم إلى نفسها حتى يستأذن عليها الخادم لزائرة فتأذن، وتدخل هذه الزائرة وهي «مدام دي سان جنيس» أم الخطيب، قد أقبلت ولما يأت ميعاد العشاء، وهي تعتذر ثم تأخذ في الحديث، فما أسرع ما نفهم نفسيتها، وما أسرع أن نبغضها ونسخط عليها، وما أسرع ما يزداد حبنا لهذه الأسرة الطاهرة الوادعة البريئة. ولا تكاد هذه الزائرة تتحدث حتى نشعر بأنها امرأة مادية غالية في الطمع لا تتردد في الطرق التي توصلها إلى الثروة، قد عرفت الناس فساء ظنها بهم واشتد ازدراؤها لهم، فهي تستغل نقائصهم لا أكثر ولا أقل. اسمع إليها تلوم صاحبة البيت لوما شديدا؛ لأنها لا تتقرب من شريك زوجها ولا تتلطف له، مع أن هذا الشريك متقدم في السن ضخم الثروة لا وارث له. أليس من الخير أن يتملق ويخدع لعله يوصي بثروته كلها أو بعضها لهذه الأسرة؟ أما صاحبة البيت فتظهر نفورا شديدا من هذا الطمع والخداع، ثم تقول لزائرتها: إنها لا تستطيع أن تسلك مثل هذه الطرق، ومع ذلك فأنت حرة في سلوكها بعد زواج ابنينا! لعل هذا الشيخ يختص الأسرة الجديدة بعطفه ومودته وميراثه.
وقد دخل الخادم فاستأذن لمعلم الموسيقى، فيدخل وتنصرف المرأتان، وتأتي كبرى الفتيات، فلا تكاد تتحدث إلى أستاذها حتى نعلم أنها موسيقية لها حظ من البراعة، فهي تضع الألحان الموسيقية، وقد وضعت لحنا تودع به أختها العروس، وحتى نحس أن أستاذها يعجب بها ويتملقها وكأنه يريد أن يداعبها. ولكن صاحبة البيت وزائرتها وسائر أعضاء الأسرة قد أقبلوا، وأخذ المدعوون يقبلون واحدا فواحدا حتى اكتمل عددهم، وهم يتحدثون في لهو ولعب وبهجة، ولكن الخادم قد دخل وهو يهمس في أذن سيدته، ثم يتبعه رجل آخر فدخل وطلب إلى السيدة أن تنحي بناتها فتفعل، وإذا هذا الرجل هو الطبيب قد أقبل يعلن إليها أن زوجها أصابته السكتة فمات، وهذه جثته تحمل ... •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في البيت نفسه، وقد مضى شهر أو نحو شهر على هذا الحادث، وكل شيء في هذا البيت يدل على الحزن والأسى. ونحن نرى صاحبة البيت لا تستطيع أن تكف دموعها، وهي تتحدث إلى زائرتها «مدام دي سان جنيس» فتشكو وتلح في البكاء، وهذه الزائرة تتكلف تعزيتها وتسليتها تكلفا، فهي لم تأت لهذا، وإنما أقبلت لشيء آخر؛ أقبلت لتعرف الحال المادية لهذه الأسرة بعد أن فقدت زعيمها، وهي تنصح لصاحبة البيت أن لا تثق بشريك زوجها ولا بمحاميه ولا بمهندسه. فترتاع المرأة لهذا كله، ولا تفهم مصدرا لهذه النصيحة الغريبة؛ ذلك لأنها امرأة طيبة القلب شريفة، ترى أن الناس جميعا مثلها أخيار أطهار. ولكن زائرتها لا تذهب هذا المذهب ولا ترى هذا الرأي، وهي تلح عليها في أن تكون سيئة الظن بالناس جميعا، وتذكر لها أنها إنما تلح عليها في هذا مخلصة ناصحة، فهي امرأة، ومن الحق عليها أن تعين امرأة مثلها. وهي لا تلتمس نفعا من هذا النصح، فقد يظهر أن زواج ابنيهما لن يتم، وذلك لأن هذا الزواج كان مشروطا بشروط مالية لم يصبح تحقيقها يسيرا، وهي لا تستطيع أن تعرض مستقبل ابنها للخطر والضيق. فلا ترى صاحبة البيت جوابا إلا أن تقول لها: كما تحبين.
وقد خرجت هذه الزائرة، ودخل «تسييه» شريك زوجها، فإذا هي تلقاه بمثل ما لقيت به زائرتها الأولى من الجزع والبكاء، ثم يتحدثان في أمر الميراث. وهنا يظهر بعض ما خبأت الأيام من البؤس لهذه الأسرة التي كانت سعيدة مغتبطة. كانت هذه الأسرة تقدر أنها غنية حسنة الثروة، ولم يخطر لها بعد أن مات زعيمها أنها ستلقى عنتا أو شدة. ولكن هذه المرأة لا تكاد تتحدث إلى شريك زوجها حتى تسمع نكرا من الأمر، وحتى تقدر شرا كثيرا: أليس هذا الرجل ينبئها بأن ميراث زوجها ليس شيئا يذكر، وبأنه ترك ديونا تكاد تستغرق الثروة، وبأنه مضطر إلى بيع المعمل، وبأنه ينصح لها أن تبيع الأرض، وبأن صفوة ما سيبقى لهذه الأسرة من الثروة لا يكاد يبلغ خمسين ألف فرنك! سمعت المرأة هذا فصعقت له وأصابها شيء من الوجوم أخرجها عن طورها، فإذا هي تنهر الرجل وتتركه مزدرية ساخطة، والرجل مغضب ولكنه شرير، فهو يتحدث إلى نفسه، بما نفهم منه أنه قد دبر العبث بهؤلاء اليتامى واغتيال هذه الثروة، وقد تم الاتفاق على ذلك بينه وبين المحامي، ولكنه لا يخلو إلى نفسه طويلا، فقد جاءت «ماري» وهي الفتاة الثانية من فتيات هذه الأسرة، وأخذت تهدئه وتترضاه وتعتذر عن أمها وتتوسل إليه ألا يأخذ هذه المرأة الحزينة بما يضطرها إليه حزنها من الضجر وضيق الصدر.
وقد وجدت هذه الفتاة سبيلا إلى قلب هذا الوحش، فهو يرق لها ويظهر الميل إليها، وقد استطاعت أن تظفر منه بالعفو عن أمها، وأن تبعثه إلى حيث هي ليزول ما بينهما من خلاف فيجيبها إلى ذلك، وقد اشتد إعجابه بها وميله إليها، وينصرف إلى أمها. ولا تكاد الفتاة تخلو إلى نفسها حتى تدخل عليها أختها الصغرى، فتتحدثان، وإذا جزعهما عظيم. ولكن الصغرى لا تخلو من عزاء، فهي تفكر في زواجها، وهي تنتظر هذا الزواج، فإذا عرضت أختها بأن هذا الزواج قد يكون عسيرا أظهرت الفتاة إيمانا بالمستقبل وثقة بخطيبها، ثم أظهرت حرصها على هذا الزواج في ألفاظ لا تفهمها أختها لأنها بريئة طاهرة. أما نحن فقد فهمناها حق الفهم، وعرفنا أن هذين الخطيبين قد تجاوزا الحدود في صلتهما، وأن الزواج قد أصبح أمرا محتوما. وقد أقبل المحامي ثم أقبلت الأم وشريك زوجها، وأخذ الرجلان يقنعان المرأة بوجوب بيع المعمل وبيع الأرض أيضا، والمرأة تقاوم وتمانع، ولكن الرجلين أقوى منها حجة وأشد منها مهارة، وهما يمثلان لها ميراث زوجها عبئا مثقلا بالديون. ودخل المهندس، فأراد أن يدافع عن المرأة، وعرض طريقة تضمن لها الثروة. ولكن الرجلين حاوراه حتى كان بينهم خصام عنيف، وانصرفوا جميعا وقد تركوا المرأة وبناتها يضطربن بين يأس منكر وتردد شديد ...
فإذا خلا النسوة إلى أنفسهن تشاورن في الأمر، ولكنهن ضعاف لا يفقهن تدبير الثروة ولا يعرفن مواجهة الصعاب. وهن مختلفات يقلبن الأمر ظهرا لبطن، وإذا الخادم يحمل إليهن كتبا يقرأنها، فإذا كلها تطالب بديون، وإذا هن واجمات ينظر بعضهن إلى بعض دون أن يستطعن الكلام ... •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في البيت نفسه، وقد مضت أسابيع على ما مر في الفصل الماضي. ونحن نرى أن أم الخطيب تتحدث إلى الخادم، فنفهم من حديثهما أنها أقبلت لترى خطيبة ابنها، ولكنها ستنصرف لأن هؤلاء السيدات لسن وحدهن وإنما يتغدى معهن «تسييه»، فإذا انصرفت وأقبل السيدات وأقبل معهن الرجل وتحدثوا، عرفنا أن الصلات حسنة بين هذا الرجل وهؤلاء النسوة، وأنه يكثر التردد عليهن دون أن تتقدم أمور الميراث، فهو في الوقت نفسه يميل إلى الفتاة، ولكنه يريد أن يغتال التركة: هو رجل عملي يريد أن يظفر بالمال واللذة في غير مشقة ولا خسارة، وهن محتاجات إلى المال وقد أثقل الدائنون عليهن وبالغوا في الإلحاح، وهن لا يجرؤن أن يطلبن إلى هذا الرجل معونة أو قرضا، وهن يشعرن بأن هذا الرجل يحب إحداهن فيكلفن هذه الفتاة أن تطلب إليه هذا القرض فتفعل بعد جهد، ويقبل الرجل طلبها هذا متبرما به كارها له، وينصرف ليأتي بهذا المقدار من المال فالنساء فرحات مطمئنات. ولكن المحامي قد أقبل وهو يحمل أنباء سيئة، ويلح في بيع الأرض؛ لأن الدائنين الراهنين يلحون في استيفاء ديونهم، ويريدون الاستيلاء على رهونهم.
ومهما تحاول الأم فلن تجد مخرجا من هذا الضيق إلا التسليم، والمحامي يذكرها بفقرها وحاجتها إلى المال، فإذا ذكرت له أنها قد اقترضت من شريكها لامها وأنبأها أنه يستطيع أن يقرضها ما تشاء حتى تتم تصفية الميراث إذا كانت قروضها معتدلة. وقد عاد «تسييه» بالمال وخلا إلى الفتاة، فدفعه إليها وأخذ يداعبها مداعبة الشيخ البخيل الحريص، والفتاة جاهلة، فلما فهمت، أخذت تدافعه عن نفسها، وإذا هو يعرض عليها صفقة منكرة، وإذا الفتاة مغضبة أبية ترد إليه ماله وتطرده طردا عنيفا. ولكن في هذا الفصل موقفا هو من أشد مواقف القصة تأثيرا، وهو هذا الموقف بين الخطيبة وأم خطيبها. كانت هذه الخطيبة مؤمنة بصاحبها واثقة به معتمدة عليه، وكانت تعلم أن أمه تمانع في هذا الزواج ولا تشك في أن الفتى سينتصر على أمه. وقد أقبلت هذه الأم وإذا هي تنصح للفتاة أن تعدل عن هذا الزواج، وتحذرها الفقر والفاقة وما ينشأ عنهما من سوء العشرة بين الزوجين. والفتاة تذكر حبها وتعتز به وتذكر الثقة بخطيبها وتلح فيها حتى يشتد الخصام بينهما، فإذا الفتاة عنيفة مرة، رقيقة مرة أخرى، تجثو وتبكي ثم تنذر وتوعد، ثم يأخذها الغضب فتعلن إلى المرأة ما كان بينها وبين الفتى، ولكن المرأة لا ترق ولا تلين، وإنما تنبئها بأن ابنها انصرف عن حبه وأذعن لأمه، وتنصرف وقد تركت الفتاة في ذهول ما أسرع ما استحال إلى جنون وأهلها يحطن بها يردن أن يحملنها إلى السرير. •••
فإذا كان الفصل الرابع فقد تم كل شيء، وظفر الشريك والمحامي بما كانا يريدان من اغتيال ثروة هؤلاء اليتامى. واضطرت هذه الأرملة وبناتها إلى أن يتركن بيتهن الفخم ويأوين إلى بيت متواضع عليه مظاهر البؤس والفقر، وقد اتصل الغلام بالجيش، وجنت الخطيبة جنونا متقطعا، وأخذت المرأة تعيش مع ابنتيها الرشيدتين عيشة ضيق لا بد من أن تنتهي إلى الإعدام. وكبرى بناتها تلتمس عملا لتكسب منه حياتها وحياة أمها وأختها، تريد أن تعطي دروسا في الموسيقى، فلا تلبث أن تعلم أن هذا مستحيل؛ لأنها إن كانت شريفة أكبرها الناس دون أن يستأجروها، وإن كانت لعوبا استأجرها الناس ولم يكبروها. تريد أن تتصل بملعب من ملاعب الموسيقى، فيظهر لها أن هذا مستحيل، إلا أن تنزل عن عفتها وكرامتها، وهي حائرة محزونة، تتحدث إلى أختها «ماري»، وليست أختها أقل حيرة ولا حزنا منها، فهي أيضا تريد أن تعمل، وقد التمست ألوانا من العمل فلم توفق لشيء إلا أن تعرض عفتها وكرامتها للخطر ...
ما أشق الحياة على المرأة الوحيدة! على أن في الجو شيئا يدعو إلى الأمل، ولكنه ثقيل بغيض لا يطاق: هذا الشريك الذي ما زال بهؤلاء اليتامى حتى ابتز ثروتهن، واضطرهن إلى هذه الحياة المنكرة، هذا الشريك كلف بالفتاة يريد أن يتخذها له زوجا. ألم يظهر حبه لها وإعجابه بها في غير موقف؟ ولكنه شيخ وهو دميم، وهو ثقيل بغيض إلى النفس. والفتاة لا تكرهه بل تعافه، فماذا تصنع؟ أترفض هذا الزواج؟ وإذن فهو الفقر والإعدام وما يتبعهما من ألم. وما تصنع بأمها؟ أتكلفها العمل لتعيش؟ وماذا تصنع بأختها المريضة وقد تزوج خطيبها؟ أتضيف إلى حزنها ومرضها ألم الجوع، أم تقبل هذا الزواج؟ وإذن فهي الحياة المنكرة مع رجل تعافه! وإذن فهو ألم المرأة التي تبيع نفسها لتعيش! وإذن فهو ألم المرأة النبيلة الفقيرة حين تسمع الناس يتحدثون بأنها إنما اقترنت بهذا الشيخ طمعا في ثروته ... الفتاة تضطرب بين هذه الخواطر! ولكن انظر إلى هذه الأسرة كلها قد اجتمعت إلى مائدة حقيرة تتناول طعاما غليظا في صمت وخشوع وإذعان للقضاء، ماذا تصنع الفتاة؟
أتقبل هذا الزواج فترفه على هؤلاء النسوة التعسات، أم ترفضه فتعرض نفسها وأهلها لذلة الفقر وما يتبعها؟
دخل المحامي وهو يلح على الفتاة أن تقبل، وهو يرغبها، وهو يكشف لها أستار المستقبل عن النعيم إن قبلت وعن الجحيم إن أبت، وهو يذكر أمها الشيخة، وأختها المريضة، والأم تأبى وتلح على الفتاة أن ترفض. ولكن المحامي قد ذكر التضحية، وذكر أن أباها الشيخ قد مات لتنعم أسرته، أليس في هذه الأسرة من يألم لتسعد هذه الأسرة؟ بلى! إن فيها هذه الفتاة، فهي تقبل الزواج. وانظر إلى هذا الشيخ الدميم البخيل الهرم قد أقبل فرحا يقبل فريسته كما كان إله الفينقيين يلتهم ضحاياه البريئة، والفتاة مبتسمة مذعنة!
أليس من الحق أن هذا الرجل وأمثاله هم الغربان، يتبعون الموتى فلا يدعون من آثارهم شيئا صالحا إلا أتوا عليه! ...
يناير سنة 1925
صوت
قصة تمثيلية للكاتب الأمريكي «إدوارد شلدون» نقلها إلى الفرنسية الكاتبان المعروفان «روبير دى فلير وفرانسيس دى كرواسيه»
ينبغي أن تفهم هذا العنوان كما تفهمه حين تجده في كتاب الأغاني، فهو يدل على مقطوعة من الشعر يغنى بها، وكذلك أراد صاحب هذه القصة التي أريد أن أحدثك عنها في شيء من الإيجاز كثير، فأنا - كما قلت في غير هذا الموضع - حين أنحو هذا النحو من تلخيص القصص التمثيلي أو غير التمثيلي، لا أريد أن أغني القارئ العربي عن الأصل الأوروبي، إنما أريد أن أرغبه فيه وأحبب إليه قراءته ودرسه. فهذه الفصول المتواضعة ترغيب في قراءة تلك القصص الممتعة لا أكثر ولا أقل.
وقصتنا هذه ممتعة في موضوعها، ممتعة في شكلها، ممتعة في لغتها، وممتعة بنوع خاص لأنها تمثل التئام الذوقين الأمريكي والفرنسي التئاما بديعا.
وضع لها صاحبها هذا العنوان؛ لأنها تبتدئ بصوت من الغناء وتنتهي بهذا الصوت، ولأن هذا الصوت نفسه رشيق عذب فيه سذاجة ورقة، ولأنك لا تكاد تمضي في قراءة هذه القصة حتى تجد فيها هذه العذوبة وهذه الرشاقة وهذه السذاجة، ملتئمة أحسن الالتئام مع حقائق الحياة الواقعة وما فيها من خشونة وغلظة وتعقيد.
وإن أعجب لشيء فإنما أعجب لأن هذه القصة لم توقع بعد على الألحان الموسيقية، كما أوقعت من قبل قصص تشبهها كل الشبه.
على أني لا أريد أن أطيل في المقدمات ولا أن أسرف في التحليل، وإنما أسرع بك إلى القصة نفسها، وأعتمد على الترجمة أحيانا لأدلك على ما فيها من جمال وروعة. •••
نحن في مدينة نيويورك في مكتب الأسقف البروتستانتي «توم أرمسترونج»، وهو شيخ في السبعين من عمره، قد جلس إلى النار يصطليها أول الليل، وحفيدته تقرأ له إحدى الصحف. ونحن نحس أنها تقرأ له هذه الصحيفة في شيء من السأم والضجر؛ لأنها تؤثر أن تتحدث إليه أو تلهو معه بشيء آخر، وآية ذلك أنها لا تكاد تمضي في القراءة حتى تقف سائلة جدها الأسقف: أليس يؤثر على هذا الكلام صوتا من أصوات الفنوغراف؟ ثم تدع الصحيفة وتعمد إلى الفنوغراف فتنطقه بالصوت المعروف: «أتعرف ذلك البلد الذي يزهر فيه البرتقال ...؟!» فما هي إلا أن يظهر الشيخ شيئا من الضيق، ويطلب إلى حفيدته في رفق أن تدع هذا الصوت إلى صوت آخر، فإذا سألته الفتاة عن مصدر هذا الضيق أبى عليها، وأحسسنا نحن أنه لا يكره هذا الصوت ولكنه يشفق من استماعه.
والفتاة لم تدع الصحيفة إلى الفنوغراف إلا لتدع الفنوغراف أيضا إلى الحديث، فهي تريد أن تتحدث إلى جدها في أمر ذي بال، تريد أن تتحدث إلى الشيخ في أمر أخيها الشاب «هنري»؛ فقد أحب هذا الشاب فتاة ممثلة جميلة رائعة الطلعة يتيمة فقيرة سيئة الحظ، وهو يريد أن يتزوجها، وهو يريد أن يتحدث في هذ الزواج إلى جده، ولكنه كلف أخته أن تعد الشيخ لهذا الحديث وقد فعلت. وأقبل الفتى وانصرفت الفتاة، وخلا الشاب إلى جده وذكر له قصته، وأسرف له في الثناء على هذه الفتاة، وأعلن إليه أنه يريد أن يتخذها له زوجا. فيأبى عليه الشيخ في رفق معلنا إليه أنه حدث قليل التجربة، وأن الخير في أن يروى ويفكر حتى إذا كانت السنة المقبلة رأى في ذلك رأيه. وليست السنة المقبلة بعيدة، فستبدأ بعد ساعات لأننا في اليوم الأخير من شهر ديسمبر. ولكن إباء الشيخ يشق على الفتى ويؤلمه، فيقول لجده: لو عاش أبواي الشابان لاستطاعا أن يفهما عاطفة الحب ويقدراها، فقد تقدمت بك السن حتى نسيت شبابك وعجزت عن فهم عواطف الشباب.
تقع هذه الكلمات في نفس الشيخ موقعا مؤلما، فيدعو الفتى إلى البقاء وكان قد هم بالانصراف، ويأمره أن يحمل إليه صندوقا صغيرا على مائدة في ناحية من نواحي الحجرة، فإذا حمل إليه هذا الصندوق فتحه وأخرج منه منديلا وزهرات من البنفسج قد أتى عليها الدهر فأصبحت هشيما، وبدأ يقص على حفيده قصة هذا المنديل وهذه الزهرات؛ ليثبت له أنه على شيخوخته وتقدم السن به لم ينس شبابه، ولم ينس أنه أحب وألم للحب. وهنا يتحول المسرح وتستخفي الحجرة والشيخ والفتى، وتمثل أمامك القصة التي بدأ الشيخ يقصها على الشاب. •••
فأما الفصل الأول من هذه القصة، فيقع في قصر رجل من أغنياء الأمريكيين حين كان الأسقف في الخامسة والعشرين من عمره. وقد أقام هذا الرجل الغني في قصره حفلا دعا إليه وجوه المدينة وأغنياءها وذوي المكانة فيها؛ ليسمعوا عنده مغنية إيطالية ذائعة الصيت، قد اتخذها الموسيقيان الشهيران «روسيني» و«فردي» ترجمانا لما يضعان من الموسيقى، وهي رائعة فاتنة قد شغف بها من أغنياء أوروبا وأمرائها خلق كثير. وانتهى الأمر بها إلى هذا الغني الأمريكي الذي يتصل بأسرة فرنسية هاجرت إلى أمريكا في آخر القرن الثامن عشر، أحبها هذا الغني وكلف بها كلفا شديدا، فدعاها إلى نيويورك وقدمها إلى وجوه المدينة وعشاق الفن الموسيقي فيها. ونحن نرى قصر هذا الغني مزدحما بمن فيه من الشباب والكهول والشيوخ رجالا ونساء، ونحن نرى ونسمع من عبث الأمريكيين وحوارهم ما يلذ ويضحك وما لا سبيل إلى أن نلم به في هذا الفصل.
ولكني أقف بك عند رجل من الأغنياء قد دعي إلى هذا المحفل فأقبل، وإنه لشديد السخط على القصر وصاحبه ومن فيه؛ هو رجل قد أكل الحقد قلبه، فهو لا يرضى عن شيء ولا عن أحد، وهو ضخم الثروة، ولكنه شديد البخل مسرف في الحرص عظيم الشره، يريد أن يستمتع بكل ما يجد دون أن يعترف بشيء من الاستمتاع. ضاق صدره بالمدعوين، ففر منهم إلى إحدى غرف القصر وأمر الخادم أن يحمل إليه طعامه وشرابه ، فإذا دخل الغرفة نظر فإذا علبة فيها سيجار، فيلقي على هذه العلبة نظرة احتقار وازدراء، ثم لا يلبث أن يتحقق أن ما فيها جيد النوع، فيأخذ واحدا، ثم لا يكفيه ما أخذ فيأخذ طائفة أخرى من السيجار ويدسها في جيبه. ويأتي الخادم وقد حمل إليه من الطعام والشراب ما استطاع، فيلقي إلى ما حمل إليه نظرة ازدراء واحتقار، ثم ينتهر الخادم لأنه لم يحمل إليه إلا قليلا، ويجلس كارها إلى طعامه، ولكنه لا يكاد يذوقه حتى يستجيده فيسرف في الأكل والشرب.
وإنه لفي ذلك إذ يدخل عليه القسيس الشاب «توم أرمسترونج»، وهو - كما قدمت - في الخامسة والعشرين من عمره، جميل الطلعة، واضح الأسارير، ممتلئ نشاطا وقوة، قد عرف بالإخلاص في خدمة الدين، وبالعناية في خدمة الفقراء والبائسين، خفيف الظل، حلو الروح، يحبه صاحب القصر ويرجو أن يزوجه من إحدى قريباته. يدخل هذا القسيس على صاحبنا وهو منهمك في طعامه وشرابه، فلا يكاد يراه حتى ينصرف عما هو فيه من طعام إلى صاحب القصر فينال منه في لفظ منكر قبيح، ويعيب عليه هذه المغنية التي دعا الناس لاستماعها في قصره؛ لأنها خليلته، ولأنها معروفة بسوء السيرة، ويلوم القسيس لأنه يرضى عن هذه الآثام ويقصر في تأدية واجبه الديني، فلا يكف صاحب القصر عن هذه الفضيحة، فيسمع له القسيس.
حتى إذا فرغ من كلامه قال له هذه الجملة التي تعطيك منه صورة واضحة: لمن هذا الطعام الذي تزدرده؟ ولمن هذا الشراب الذي تعب فيه عبا؟ ولمن هذا السيجار الذي تدسه في جيبك؟ أليس هذا كله لصاحب القصر؟! يجيبه الغني: بلى، وأنت ترى أن من واجب القسيس هو أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويأخذهم بترك ما يتورطون فيه من شر. يجيبه الآخر: نعم! وإذن فلأبدأ بك، فقد أتيت نكرا لا يعدله نكر حتى اغتبت صاحب هذا القصر على هذا النحو القبيح، وأنت في قصر تأكل من طعامه وتشرب من شرابه!
وهما في هذا الحوار إذ يأتي «دي روشار» صاحب القصر، فينصرف هذا الغني. ولا يكاد القسيس يخلو إلى صاحب القصر، حتى يبدأ في تأدية واجبه الديني من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. ولكنه يجد في هذا مشقة، فهو يكبر صاحب القصر ويجله، وهو مدين له في مركزه في الكنيسة. على أن هذه المشقة لا تصرفه عن أداء هذا الواجب، فهو يلوم صاحب القصر على ما بينه وبين هذه المغنية من صلة، وصاحب القصر يجيبه معتذرا إليه في شيء من الرفق والفلسفة، والشك في معنى الخير والشر، وقيمة الفضيلة والرذيلة، ويعلن إليه أنه يرى السعادة الحقيقية في حب الخير والجمال والشباب.
وهما في هذا الحوار وإذا المغنية قد فرغت من غنائها وأقبلت يتبعها المعجبون بها، فينصرف القسيس وتخلو هذه المغنية إلى صاحبها؛ ليكون بينهما حوار نفهم منه أن وعظ القسيس قد أثر في نفس هذا الرجل من حيث لم يشعر. انظر إليه يتحدث إلى صاحبته بأنه في الحادية والخمسين من عمره، وأن أسباب اللهو والنعيم قد تقطعت به، وأن الخير إنما هو في أن يستحيل حبهما إلى مودة بريئة. وهي تستمع له راضية حينا وساخطة حينا آخر، غاضبة مرة، مداعبة مرة أخرى، مزدرية لما يقول، حريصة على أن يعدل عنه. ولكنها على كل حال قد رأت القسيس وهو ينصرف فوقع من نفسها، وهي تعلن إلى صاحبها في صراحة أنها تكره البروتستانتية من الموسيقى والبخور والاعتراف، ولكنها تحب البروتستانتية لأن قسسها حسان. وما زالت بصاحبها حتى أقنعته بأنه لم يبلغ الخمسين من عمره وأنه ما زال يستمتع ببقية من شباب، وحتى ضربت معه موعدا للنزهة إذا كانت الساعة الرابعة من مساء، ثم تطلب إليه أن يدعها لتستريح قبل استئناف الغناء وأن يرسل إليها شيئا من الخمر والليمون.
فلا تكاد تخلو إلى نفسها حتى يمر القسيس فتتناوم وتدع رداءها يسقط عنها، وقد نظر إليها القسيس وحدق فيها وكأنها وقعت في نفسه، فيدنو منها في خفة ويعيد إليها الرداء وينصرف، ولكنه لا يكاد يتجاوز الغرفة حتى يسمع صوتها وهي تشكره، وما هو إلا أن يسمع هذا الصوت حتى يضطرب ولا يدري أيمضي أم يقف؟ فتستوقفه وتستدنيه ويجيبها إلى ما تريد في شيء من الاضطراب والذهول. ويأخذان في الحديث، وإذا هي تخفي على القسيس نفسها وتأخذ في اغتياب المغنية، فيلومها القسيس ويطلب إليها أن تستغفر الله من هذا الإثم، فتأبى فيغضب ويهم أن ينصرف. ولكن الخادم قد أقبل يحمل الشراب، فتطلب إليه أن يصب لها في القدح فيفعل، ثم تطلب إليه أن يصب في قدح آخر فيفعل، ثم تدفع إليه أحد القدحين فلا يستطيع أن يرده، ثم تأمره أن يحدق فيها وتعلن إليه أنها ستحدق فيه وتقترح أن يشربا قدحيهما على هذا النحو، فإذا فرغا من الشرب رأيناهما وقد فتن كل منهما بصاحبه فتنة قوية. فأما هي فتستغفر الله في إثمها حين اغتابت المغنية، وأما هو فيطلب إليها موعدا لأنه يريد أن يراها وأن يتحدث إليها بأشياء كثيرة ما كانت لتخطر له من قبل. وهما في هذا الحوار إذ يقبل صاحب القصر فيراهما على هذه الحال، وهي كالنائمة وهو جاث بين يديها يناجيها.
وأنت تستطيع أن تقدر دهش صاحب القصر حين يرى مكان القسيس من المغنية، وهو الذي كان يلومه فيها منذ حين. تنهض المغنية لتستأنف الغناء، ولكن القسيس يلح عليها في الموعد غير حافل بمكان صاحب القصر، فتضرب له الموعد من الساعة الرابعة من مساء غد، فإذا ذكرها صاحب القصر بأنها قد ضربت له الموعد في هذه الساعة نفسها أجابته: أما موعدك فمؤجل. وتنصرف وقد سقط من يدها منديل، فيهوي القسيس فيأخذه. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في بيت القسيس، في حجرة عمله، نرى عمتيه قد جلستا تتنازعان؛ إحداهما في الثامنة والخمسين، والأخرى في الستين، وكلتاهما قد وقفت حياتها على القسيس لا تدري ماذا تصنع لترضيه وتعنى بطعامه وشرابه ولباسه. والخصومة بينهما في ذلك متصلة مضحكة، ولكنهما رغم هذه الخصومة متفقتان في الألم؛ لأن الشاب قد تغيرت حياته تغيرا شديدا منذ ثلاثة أسابيع، فهو شديد الكلف بهذه المغنية الإيطالية، يقضي معها شطرا من كل يوم حتى نسي خطيبته، وحتى أخذ الناس يتحدثون عن كلفه بهذه الفتاة، وهما تصليان وتضرعان إلى الله أن يصرف عن القسيس هذا المكروه، وهما تستعينان ب «دي روشار» صديقهما وصديق القسيس وعم خطيبته، وهما تنتظران عودة الشاب بعد حين، ولكنهما لا تعرفان من الذي أرسل هذه الطاقة من الزهر دون أن يرسل اسمه معها، ولا تفهمان لم لا يريد الشاب أن يأخذ الشاي معهما، ولا تعرفان هذا الشخص الذي سيتناول الشاي مع القسيس.
وقد أقبل صديقهما دي روشار؛ قصتا عليه القصة وألحتا عليه في أن يحاول صرف الشاب عن هذه المغنية الأجنبية فيعدهما، وينبئهما بأن الأمر يعنيه كما يعنيهما؛ لأنه يحب القسيس كما تحبانه، ويعلن إليهما أيضا أنه سينتظر الشاب ليتحدث إليه، فتنصرفان عنه. ولا يكاد يخلو إلى نفسه حتى تقبل المغنية فيلقاها دهشا، أما هي فيصيبها شيء من الذهول، ثم يتحدثان فتفهم من حديثهما أن الحب قد اتصل قويا عنيفا بينها وبين الشاب، وأن هذا الحب على قوته وعنفه طاهر بريء، يقوم على أكذوبة أو على طائفة من الأكاذيب، فإن الفتاة لم تستطع أن تنبئ صاحبها بحقيقة أمرها ولا بما تشتمل عليه حياتها من الآثام، وإنما تركته يصورها كما أراد له خياله وحبه، نقية طاهرة مثالا للفضيلة والبراءة والطهر. وهي تستعذب هذا الحب الأفلاطوني، ولا تريد أن تكذب ظن الشاب، ولم تكذب ظنه وستعود إلى أوروبا بعد خمسة عشر يوما، فتنقطع بينهما الأسباب، وتكون قد سعدت في حياتها بحلم لذيذ. ولكن «دي روشار» يلفتها إلى أن الأمر أشد خطرا مما تظن، فالشاب يحبها حقا، وسيطلب إليها أن تكون زوجة وليس إلى ذلك من سبيل، وهو يقترح عليها أن تسافر من الغد وأن تنصرف الآن دون أن تراه، وهي مستعدة للانصراف، ولكن القسيس قد أقبل، وما يكاد يراها وتراه حتى ينسيا كل شيء، وينصرف كل منهما إلى صاحبه.
ويضطر دي روشار إلى أن يدعهما حينا، وهنا موقف بين العاشقين شديد التأثير حقا، فيه لين ودعة وعذوبة، وفيه حب يبلغ به العنف أقصاه ، ولكنه سعيد كله غبطة وأمل، ثم فيه أمل تتفطر له القلوب وتتفرق له النفوس شعاعا. انظر إليه راضيا مغتبطا شديد الابتهاج بزيارتها إياه، انظر إليه في وداعة الطفل يظهرها على ما في غرفته من متاع، انظر إليه يظهرها على صورة أمه التي ماتت شابة. واسمع له يتحدث عن أمه: يصفها بالجمال وعذوبة الخلق ورضا النفس، واسمع له يذكر أمه وما كانت تشعر به لو أنها رأت صاحبته. ثم انظر إليه يهدي إلى صاحبته عقد أمه، وهي تأخذ هذا العقد وتطوق به جيدها، ثم اسمع لهما يغنيان معا صوتا كانت أمه تغنيه، ثم انظر إليهما وقد نسيا كل شيء وفني كل منهما في صاحبه، وقد أقبل إليها فضمها بين ذراعيه لحظة ثم أطلقها وهو يطلب إليها أن تكون له زوجا. هنا تعود الفتاة إلى نفسها وتذكر حياتها الآثمة ويحس منها هذا، ولكنه قسيس وهو يحب، فما أسرع ما ينتهي به حبه ودينه ومركزه الديني أيضا إلى العفو، فهو ينسى ماضيها، بل يمحوه وهو يلح عليها في أن تكون له زوجا، وهو يعلن إليها مبتهجا أنه سيدعو عمتيه ودي روشار لينبئهما النبأ.
فلا تكاد تسمع اسم دي روشار حتى تضطرب ويريبه هذا الاضطراب. والعجب أنه نسي كل ماضيها وعفا عن آثامها جميعا، ولكنه شديد الحرص على أن يعلم أنه لم يكن بينها وبين هذا الرجل شيء؛ هو يلح عليها وهي تتردد، حتى إذا أشفقت عليه من الحق كذبت وزعمت له أنه لم يكن بينها وبين هذا الرجل شيء، فيستحلفها على التوراة فتهم بإقسام اليمين، ولكن دي روشار قد أقبل، فينبئه القسيس بحبه وخطبته، ولكنه لا يرى منه ابتهاجا فيريبه ذلك. وانظر إليه قد اندفع به الحب والريب، حتى انتهى إلى ذهول يشبه الجنون؛ فهو ماثل أمام هذا الرجل وهذه المرأة يستحلفهما على التوراة أن لم يكن بينهما شيء. فأما الرجل فقد رق له فكذب عليه، وأما المرأة فقد كان حبها من القوة والصدق والإخلاص بحيث حال بينها وبين الكذب مرة أخرى . فاسمع لها تعلن في صراحة وألم أنها كذبت، وأن هذا الرجل قد كذب أيضا، وأنها كانت خلته منذ سنتين، وأن آثامها في الحياة أكثر عددا من صلوات القسيس، وأنها اتخذت جسمها تجارة، وأنها لا تصلح له زوجا، وأنها تنبئه بهذا كله لأنها تحبه حقا. أما هو فقد فقد رشده أو كاد، وهو الآن جالس مطرق وقد انصرف عنه الرجل، وهمت هي أن تحدثه فلم يسمع لها فتنصرف، حتى إذا سمع الباب يغلق من دونها أغرق في البكاء كأنه طفل. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في الفندق الذي تقيم فيه المغنية، وقد مضت أيام على ما كان في الفصل الثاني. ونحن نرى خادم المغنية قد جلست إلى النار تهيئ طعام سيدتها، وفي الغرفة اضطراب يدل على استعداد للسفر. وأنا أعفيك - كارها - من ضروب الحوار المضحك بين هذه الخادم وأهل الفندق، وأعفيك أيضا من كثير من الحوار اللذيذ، لأنتهي بك مسرعا إلى القصة.
فقد أقبل دي روشار معلنا أن المغنية قد ظفرت في مسرح الأوبرا بفوز لا يشبهه فوز، وأنه ينتظرها في هذه الغرفة، وما هي إلا أن تقبل الفتاة رائعة مروعة أيضا قد أنفقت جهدا عظيما لتخفي ما تحس من ألم، ولتؤدي واجبها في الأوبرا. وقد انتهت من هذا الجهد ووصلت الآن إلى غرفتها، فتستطيع أن تستسلم لآلامها وهي مستسلمة لهذه الآلام. أليست منصرفة عن صاحبها هذا، منصرفة عن خادمها، منصرفة عن هذه الجموع التي أقبلت من الأوبرا تشيعها وتهتف باسمها، منصرفة عن كل شيء، وقد ألقت بنفسها على الأرض مفكرة أو كالمفكرة والناس يحاورونها ويلحون عليها، وهي لا تجيب إلا في كره وسخط. وانظر إليها تنهر خادمها في عنف، ثم لا تلبث أن ترق لهذه الخادم فتقبلها في حنان. وانظر إليها معرضة عن صاحبها، حتى إذا هم أن ينصرف أمسكته، هي ذاهلة لا تفكر إلا في صاحبها القسيس وما بعثت في نفسه من الألم منذ حين، وهي تتحدث بذلك إلى نفسها مرة وإلى صاحبها مرة أخرى، حتى إذا عجزت الخادم وعجز صاحبها عن تسليتها أو حملها على أن تأكل، انصرفا عنها فخلت إلى نفسها. وما هي إلا أن أقبلت على الصلاة جاثية، ولكن بابها يطرق مرة ومرة ومرة أخرى، فتنهض وتفتح الباب وإذا القسيس مقبل في شكل بشع رائع، مضطرب أشد الاضطراب، ظاهر الذهول، حائر الطرف، لا يكاد يبين، قد جلل الثلج ثيابه، ودلت هيئته على أنه قد هام على وجهه غير قليل، وهو يرتعش من البرد. فإذا سألته فيم أقبل؟ أجابها أجمل جواب وأبدعه وأشده في النفوس تأثيرا، أجابها: لقد خرجت فهمت ساعات لا أدري أين أنا وإلى أي وجه أقصد، ولقيتني فتاة سألتني عن طريقها وكنت أنت هذه الفتاة. منذ ذلك الوقت اختلفت علي صور منك لا تحصى، رأيتك طفلة بائسة تعسة، ورأيتك فتاة تتغنى في الشوارع، ورأيتك باغية تسرف في الإثم، ورأيتك لاهية، ورأيتك جميلة، ورأيتك دميمة، رأيتك في عزة، ورأيتك في ذلة، وأحاطت بي منك صور لا تحصى، ومضيت وهذه الصور من حولي حتى مررت بكنيسة كاثوليكية من كنائسكم، فدخلت وجثيت وصليت وفهمت ... فهمت أني آثم ... آثم حقا، مسرف في الإثم، فهمت أني أشر، فهمت أني مقصر لم أؤد واجبي. كان حقا علي أن أنقذك بعد أن رأيتك فيما رأيتك فيه من إثم وذل وألم، ولكني آثرت نفسي عليك ففررت منك ... نعم فهمت وجئت الآن لأؤدي هذا الواجب.
أما هي، فما كادت تسمع حديثه هذا حتى أخذها شيء من الذهول أشبه شيء بذهول الصوفية. وفي الحق إنها تغيرت تغيرا تاما، وانقطعت الصلة بين حياتها القديمة وحياتها الجديدة. فاسمع لها تهون على صاحبها القسيس وتنبئه بأنه قد بلغ ما كان يريد؛ لأنه قد استنقذها من الآثام وطهرها من الرجس، فجحدت حياتها الماضية وابتدأت حياة جديدة، أو قل: خلعت شخصها الأول واستحالت شخصا جديدا. واسمع له وهو يسألها أن تعده ألا تقوم منذ اليوم على إثم، وألا تكون منذ اليوم أداة لهو وعبث، فتدفع له كتابا قد كانت كتبته فيه هذا الوعد، ولكن قراءة هذا الكتاب تغير من صاحبنا كل شيء. فانظر إلى نفسه وعواطفه وشهواته الإنسانية، وقد ثارت ثورة عنيفة منكرة، فمزقت ثياب القسيس وألقتها عنه، وإذا هو رجل قائم يحس ويشعر ويحب ويشتهي ويرى أمامه موضوع حبه وشهواته، وإذا هو يعلن هذا إلى الفتاة في عنف ويسرع إليها فيضمها إليه، وإذا هي تضطرب بين ذراعيه اضطراب الطامع المشفق، يرغبها حبها في الإسماح، ويصرفها ما نذرت عن اللهو، وإذا هي تضرع إليه أن يخليها، وترغب إليه في ألا يكون كغيره من الناس وألا يتخذ جسمها كما اتخذوه متاعا. وإذا هي تعلن إليه في ضراعة وإشفاق ورهبة أن أمرها بين يديه، إن شاء تركها صالحة وإن شاء ردها إلى حيث كانت من الإثم والفساد. وإذا كلماتها ورغبتها وإشفاقها تؤثر في هذا الرجل، فتنطلق ذراعاه عنها قليلا قليلا. وإذا هو جاث مطرق مغرق في تفكير عميق، ولكن الليل انتصف وابتدأت السنة ودقت أجراس الكنائس، وانطلقت بالصلوات ألسنة المؤمنين. وكأن هذا كله قد انتهى إلى القسيس فأيقظه من نومه، فينهض متثاقلا، ويمر يده على جبينه، يعتذر ويستأذن في الانصراف ليلحق بالمصلين. وانظر إليه يخرج متثاقلا، وإن الظلمة لتنشر في الغرفة شيئا فشيئا حتى تغمرها وتخفي فيها كل شيء. وإذا المسرح يتغير فجأة كما تغير في أول القصة، وإذا نحن في حجرة الأسقف حين تركناه في أول القصة يقص على حفيده ما كان من أمره في شبابه، والفتى يسأله: ثم ماذا كان من أمر هذه المغنية؟! فيجيبه: لم أعلم من أمرها شيئا، إنما قصصت عليك هذه القصة لتعلم أن تقدم السن بي لم ينسني أني كنت شابا وأني قد أحببت، ففكر في أمر زواجك قبل أن تقدم عليه، وادع لي أختك فإنها لم تتم لي قراءة الصحيفة.
ويخرج الفتى، فيدعو أخته فتقبل وتستأنف القراءة، فإذا هي في الأخبار البرقية، وإذا هي تقرأ هذا العنوان: موت مغنية شهيرة «كافاليني». فإذا سمع الأسقف هذا الاسم اضطرب قليلا، وطلب إلى الفتاة أن تقرأ، فتقرأ أن هذه المغنية التي ماتت قد انقطعت عن الغناء وانصرفت عن المجد وزخرف الحياة في ريعان شبابها منذ سنة 1873، ووقفت ثروتها الضخمة على أعمال البر. وإن الفتاة لتقرأ وإذا الأجراس تدق، فقد انتصف الليل وابتدأت السنة. وألقت الفتاة صحيفتها، وتقبل على جدها تهنئه وتقبله، ولكنها ترتد عنه قائلة: أرى خدك مبتلا! ... وخدك الآخر ... إنك تبكي ... كلا يا ابنتي، ولكن أين أخوك؟ فتدعو له الفتى، فإذا أقبل مهنئا دفع الشيخ إليه الصحيفة وقال له: اقرأ هذا. فإذا حاول الفتى أن يظهر شيئا من الدهش دعاه الشيخ إلى الصمت قائلا: أتذكر صاحبتك الممثلة، اتخذها زوجا. وإنه ليقول ذلك وإن القصة لتنتهي، بينما تصل إلى الآذان من بعيد جدا أنغام هذا الصوت الذي سمعناه أول القصة. «أتعرف ذلك البلد الذي يزهر فيه البرتقال ...؟»
نوفمبر 1926
أنتوانيت سابرييه
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «رومان كولوس»
مثلت هذه القصة لأول مرة في أكتوبر سنة 1903، وما يزال الممثلون يلعبونها إلى الآن. وأكبر الظن أنهم سيلعبونها زمنا طويلا أيضا؛ ذلك لأنها من القصص التي تعجب جمهور النظارة وتأخذ عليهم قلوبهم وألبابهم، وتثير في نفوسهم من العواطف ما يدفعهم إلى تشجيع الممثلين على الاحتفاظ بها وإعادة لعبها من حين إلى حين.
والحق أنك لا تكاد تمضي في قراءة هذه القصة حتى تلاحظ أمرين مختلفين، ولكنهما خليقان بالإعجاب، كفيلان بأن يطول بقاؤها في ملاعب التمثيل؛ أحدهما أن الكاتب قد راعى حين وضعها، لا أقول أصول الفن، وإنما أقول أصول المنطق ونظام التفكير الإنساني، مراعاة دقيقة جدا. فأنت تنتقل بين مناظرها وفصولها، كما تنتقل بين قضايا القياس المنطقي المتقن. قد وضع كل شيء فيها موضعه، لا يستطيع أن يتجاوزه ولا ينبغي له أن يتقدم أو يتأخر. وأنت لا تفرغ من قراءة منظر حتى تتوقع المنظر الذي يليه، وما تزال كذلك طوال الفصل الأول وطوال الفصل الثاني، حتى إذا كدت تفرغ منه فجأتك المصادفة التي لم تكن تنتظر والتي لم يكن منها بد لتنشأ المشكلة التي تدور حولها القصة. فإذا كانت هذه المصادفة، فقد نشأت هذه المشكلة وتعقدت وانتهت إلى أقصى ما كان يمكن أن تنتهي إليه من العنف والشدة. ولكننا نعود في الوقت نفسه إلى هدوء المنطق، وتتصل الحوادث أمامنا مطردة مستقيمة يتبع بعضها بعضا وينتج بعضها من بعض، حتى تنتهي إلى نتيجتها الطبيعية المعقولة، وهي نتيجة محزنة، يألم لها الجمهور، ويعجب بها، ويحرص على أن تتكرر أمامه في الملاعب.
هذا أحد الأمرين. الأمر الثاني: أن القصة كلها صراع عنيف بين طائفة من العواطف والواجبات، قد ألفها أوساط الناس واطمأنوا إليها وتعودوا أن يقبلوها كما هي لا يضعونها موضع المناقشة والجدال. فمما يعجبهم أن يظهر الكاتب هذه العواطف والواجبات وقد اصطدمت وتناقضت ووقف بعضها من بعض موقف الحرب والخصومة القوية. فنحن نرى في القصة صراعا بين الحب والصداقة، وبين الحب والواجب، وبين الصداقة والواجب، وبين الحب المشروع والحب الذي لا يبرأ من الإثم والخيانة، وبين الوفاء الزوجي وهذا الحب الأثيم، ثم بين الشرف والمنفعة، ثم بين الشرف والحب والحياة. وكل هذه العواطف والواجبات قد مثلها الكاتب تمثيلا قويا صادقا، وتخير لها أشخاصا يتقمصونها تقمصا، إن راقك هذا التعبير. ونحن نلذ أن نرى هؤلاء الأشخاص يختصمون ويجاهد بعضهم بعضا، ويجاهد كل واحد منهم نفسه. ونحن نقف أمام النتيجة الأخيرة لهذا كله موقف المطمئن المستسلم الذي يقول مع الشاعر العربي القديم: «لا بد مما ليس منه بد.» والذي يستطيع في الوقت نفسه أن يمضي إلى ما وراء القصة ويعرف ما يتم بين هؤلاء الأشخاص من توادع وتراض يقومان على الحزن والاستسلام لهذه القوانين الصارمة التي تدمر حياة الإنسان.
فإذا أضفت إلى هاتين الخصلتين خصلة ثالثة؛ هي الإتقان الفني من الناحية الكتابية الصرفة وحسن تخير الألفاظ والمهارة في تدبير الحوار، استطعت أن تتبين السر في أن هذه القصة لم تتجاوز شبابها بعد وإن كانت قد نيفت على العشرين.
ولنبدأ في تحليلها كما تعودنا البدء في تحليل هذه القصص بعرض أشخاصها عليك في إيجاز لأنهم كثيرون.
أول هؤلاء الأشخاص وأحقهم بالعناية، هي بطلة القصة التي سميت باسمها، وهي «أنتوانيت سابرييه». نعرفها ولما نقرأ من القصة أسطرا ، ونعرف في الوقت نفسه أنها امرأة قوية الشخصية؛ لأنها بثت الحسد من حولها، وأطلقت ألسنة النساء بالقول المختلف في سيرتها وحظها ووفائها وما يتصل بذلك. وهي في حقيقة الأمر امرأة قوية الشخصية، عظيمة الحظ من الإرادة، قادرة كل القدرة على أن تضبط نفسها وتسير سيرة تلائم الواجب والخلق ومكانتها الاجتماعية الرفيعة، وإن لم تلائم مثلها الأعلى في الحياة وحاجتها إلى ما يطلب النساء من اللذة ونعيم العيش. هي متوسطة السن، ليست شابة ولكنها محتفظة بجمال الشباب وروعته وقوته أيضا. خفيفة الروح، جذابة، راجحة الحلم، يظهر عليها الهدوء والرزانة والرضا، ولكن قلبها جذوة من النار مضطرمة أشد الاضطرام، وقلما يحس ذلك أحد غيرها. وهي كما قدمنا مالكة لهذا القلب، قادرة على تصريفه كما تحب وحيث تحب، إلا أن يعرض لها شخص آخر أشد منها قوة وأبعد منها أثرا.
تزوجت من رجل يشبهها من بعض الوجوه ويخالفها من بعضها الآخر، وهو «جرمان سابرييه»؛ قوي الإرادة مثلها، متقد القلب مثلها، ضابط لنفسه مثلها أيضا، ولكنه قد عرف طريقه فمضى فيها اندفاعا، وأذعن له الفوز في كل ما حاول من الأمر. كان ضئيلا فقيرا يعمل في سوق الأوراق المالية، فما هي إلا أن اندفع في هذا الطريق حتى أصبح من كبار الماليين في أقل من عشرة أعوام. وهو اليوم زعيم من زعماء المصارف، وملك من ملوك البورصة، يتقرب إليه الناس ويتهالكون عليه ويحسدونه ويتربصون به المكروه. وهو مطمئن إلى حظه، واثق بالمستقبل، لا يشفق ولا يخاف، ولا يتردد ولا يحسب إذا أراد أن يقدم على شيء. وهو يحب امرأته حبا قويا حادا، ولكنه غريب؛ فهو لا يظهر لامرأته هذا الحب على النحو المألوف، وإنما هو مقتنع بأنه يرضي امرأته وعواطفها وميولها إذا أغناها وضمن لها حياة مترفة خلابة تبعث الحسد وغبطة النساء. وهو يخيل إليه أنه مصيب من حب امرأته ما أراد، لا يسأل نفسه أراضية هي أم ساخطة؟ أقانعة أم محرومة؟
وبين هذين الزوجين شخص ثالث هو «دوراي»، متقدم في السن بعض التقدم ، قوي الإرادة جدا، قادر على ضبط نفسه، في قلبه جذوة تضطرم من الحب، ولكنه قد سيطر عليها واستطاع أن يلطفها حتى يجعلها جذوة وفاء ومودة بريئة طاهرة. أحب «أنتوانيت» وحاول أن يظفر بحبها فلم يوفق، ولكنه ظفر منها بالمودة فقنع، ورضي من حياته بساعات ينفقها من كل يوم مع هذه المرأة في حديث بريء ونصح ومودة راضية، يجدان في هذا كله لذة لا تشبهها لذة. وانطلقت ألسنة الناس فيهما بألوان القول، ولكنهما لا يحفلان بذلك، ولا يحفل بذلك الزوج نفسه لأنه شديد الثقة بامرأته، شديد الثقة بصديقه.
ولهذا الصديق أخت شابة هي «إيلين» رائعة الجمال، خلابة المنظر، شديدة التسلط، قوية الإرادة، مضطرمة المزاج، قد بلغت العشرين من عمرها، وليس لها إلا أخوها هذا، فهو يقوم منها مقام الأب والأم والمربية، حتى تظفر بما يليق بها في الزواج. وهي تحب رجلا ليس أقل من الذين تقدموه قوة إرادة ولا حدة عاطفة، ولا اضطرام قلب، هو «رينه دانجين»، غني، ضخم الثروة، وسيم الطلعة، محبب إلى النساء، بعيد الأثر في نفوسهن، مفتون بالأدب والفن والقراءة، منصرف عن حياة أبيه الصناعية المالية، قد أغضب أباه إغضابا شديدا، وانقطع عما يتردد عليه أمثاله من الأندية ومجالس اللهو والعمل. تحب الفتاة هذا الرجل، وهو يظهر لها ميلا شديدا تحسبه الحب وليس هو من الحب في شيء، إنما هو من العطف والمودة والأنس إليها.
هؤلاء هم أشخاص القصة، أو قل أبطالها كما تعود نقاد التمثيل أن يقولوا. ومن حولهم أشخاص كثيرون قد اختطفهم الكاتب اختطافا، ولمح لك بصورهم النفسية تلميحا، فبلغ في ذلك ما شاء من الإجادة والإتقان: منهم هذه المرأة الباريسية التي نجدها في أول القصة تتحدث إلى زوجها ورجل آخر في دعابة ودل باريسيين، وهي تطلق لسانها في «أنتوانيت» وزوجها وصديقها، وهي تظهر غيرة على الفضيلة والشرف والعفة والوفاء، ولكنها لا تكاد تلمح الرجل الذي يعجبها حتى تبتذل هذا كله ابتذالا وتنزل عنه في ابتسامة أقل ما توصف به أنها تحمل على الابتسام.
ومنهم هذا الصحفي الذي حملته صناعته على أن يتتبع مثالب الناس ويلم بدخائلهم، حتى أصبح صاحب الفتوى في هذا النوع من الغيبة، يلجأ إليه المغتابون ليجدوا عنده ما يحتاجون إليه من ألوان الطعن والتشنيع. وهو على هذا كله يحاول أن يكون رجل جد وصدق ووفاء بالمودة، فإذا سئل عن مثالب «أنتوانيت» أعلن في حزم أنه لا يعرف عنها إلا خيرا. ولكنه لا يكاد يتبين الإغراء في عين محدثه حتى ينسى الجد والصدق والوفاء ويقع في «أنتوانيت» بما تشاء صاحبته من الطعن والثلب.
ومنهم هذه الصديقة الوفية التي تخلص لصديقتها الحب والمودة وتنصح لها جادة رفيقة، ولكنها أضعف من أن تنصر الواجب وتمضي في نصره إلى النهاية، فهي لا تكاد ترى صديقتها مبتهجة سعيدة بهذا الحب الآثم حتى تدعها وما تريد طالبة إليها ألا يصرفها الحب عن مودتها.
ومنهم هذا الشخص الأخير الذي نلم به إلمامة قصيرة لأنه شائع بين الناس في جميع أطوارهم وبيئاتهم، هذا الذي يحبك ويقدم إليك ما تحتاج إليه من معونة وتأييد؛ لأن له عندك حاجة، فإذا لم يظفر منك بما يريد تخلى عنك في سهولة وقسوة لا يحفل من أمرك بشيء، وربما استحال عدوا لك لا يرضيه إلا أن تنزل بك النازلة، لا يتأثر في شيء من ذلك بخلق ولا واجب ولا رحمة ولا شيء من هذه العواطف التي يتأثر بها أخيار الناس.
هؤلاء هم أشخاص القصة أو هم كثرة هؤلاء الأشخاص، وأحسبني أستطيع بعد ذلك أن ألخص لك. وأحسبك تستطيع أن تفهم هذا التلخيص الموجز في غير مشقة. •••
نحن في ضاحية من ضواحي باريس، في قصر فخم، قد استأجره الزوجان ليقضيا فيه الصيف. وهما يحتفلان هذا اليوم بعض الاحتفالات التي يقيمها الأغنياء، وقد دعي إلى هذا الاحتفال سراة باريس وأصحاب المكانة فيها، ومعهم النساء الحسان يفتن الناس بجمالهن ودعابتهن وتنطلق ألسنتهن بما فيه لذة وسحر.
ولا يكاد يرفع الستار عن هذا الفصل حتى نرى هذه المرأة الباريسية بين زوجها وصديقه، تتحدث إليهما في أمر الزوجين، فتقع في الرجل بأنه موفق في حياته المالية وأنها تكره الموفقين وتشبههم باللصوص، وتقع في المرأة بأنها آثمة تعين زوجها بالإثم على ما يسعى إليه من ثروة، فينكر عليها الرجلان هذا. ويأتي الصحفي فيستفتونه جميعا في أمر «أنتوانيت» فيجيبهم بالخير، ولكنه لا يكاد ينظر في عين صاحبته حتى يرى الإغراء والإطماع، فيتحول عن الوفاء ويقع في «أنتوانيت»، وبعد أن كان يريد أن ينصرف إلى صحيفته لأداء عمله نراه يؤثر البقاء ويكتفي بالتليفون.
ونحن نرى المدعوين يترددون في القصر وحديقته يقف كل فريق منهم وقفته على المسرح، يتحدثون أمام النظارة وقتا قصيرا ليبينوا فيه بعض ما قدمت لك من نفسية هؤلاء الأشخاص جميعا.
فلنمر بهذا الفصل لا نقف منه إلا عند منظرين أو ثلاثة لا بد من الوقوف عندها حينا. نقف عند هذا المنظر الذي يمثل لنا «أنتوانيت»، قد أقبلت على صديقها «دوراي» مضطربة كأنها تلتمسه لتشكو إليه بعض الأمر، فيسألها فتتردد، ثم تخبره في استحياء بأن «جاماني» هذا المالي العظيم الذي لا بد لزوجها من معونته قد أرادها على السوء فامتنعت عليه في رفق، فانصرف مغيظا محنقا. ونقف عند هذا المنظر الذي يمثل لنا «دوراي» وهو يقدم صديقه «رينه دانجين» إلى صاحب القصر، ويمثل لنا صاحب القصر وهو يعرض على هذا الرجل الاشتراك معه في بعض الأعمال المالية فيعتذر إليه. ثم نمر مسرعين بهذا المنظر الذي يمثل لنا «أنتوانيت» وقد لقيت هذه المرأة الباريسية التي رأيناها في أول القصة ومعها صاحبها الصحفي قد استسلم لها استسلاما، فيقع بين المرأتين حوار فيه الحسد والتعريض المر، وفيه من ناحية «أنتوانيت» الدفاع عن النفس في رشاقة وترفع. ثم تخلو «أنتوانيت» إلى صديقتها فتتحدثان، فنفهم من هذا الحديث أنها لا تحب زوجها ولا تظفر عنده بما تريد. ولكنها مع ذلك حريصة على الوفاء له، لم تخنه ولن تستطيع أن تخونه، وهي تعاشره وتشاطره الحياة، وإذا قدر لها أن تظفر بالحب فلن تذوق لذته حتى تقطع الصلة بينها وبين زوجها. ثم نقف آخر الأمر عند هذ المنظر الذي يمثل لنا «أنتوانيت» وقد لقيت «رينه دانجين»، فلم يكادا يتحدثان حتى وقع من نفسها ووقعت من نفسه، وكان بينهما هذا الحب الفجائي الذي يسميه الفرنسيون «وقع الصاعقة» وإذا هما مضطربان أشد الاضطراب، يقع بينهما حوار قصير يريدان أن يتناولا به كل شيء فلا يتناولان فيه إلا أنفسهما وسوء حظهما فيما مضى من حياتهما، وينتهيان وقد تواعدا على المودة. •••
وتمضي ثلاثة أشهر، ويرفع الستار عن الفصل الثاني. فإذا نحن في القصر نفسه آخر النهار، وقد جلست «أنتوانيت» إلى منضدة ترتب طائفة من الأوراق، ودخلت عليها صديقتها التي رأيناها في الفصل الأول، فتسأل «أنتوانيت» فيم كتبت إليها تدعوها لزيارتها، وتجيبها «أنتوانيت» بما كنا نتوقعه في آخر الفصل الأول من أنها قد أحبت صاحبها حبا لا تجد إلى مقاومته سبيلا، وأحبها هو كذلك، وانتهى هذا الحب إلى نتيجته الطبيعية، وهي أنهما قد اعتزما السفر من فرنسا إلى حيث يجدان الحرية، وهي لم تخن زوجها بعد، وما ينبغي لها أن تخونه، وهي تعاشره وتعيش في بيته، فإذا ذكرت لها صديقتها أن هذا لا يعفيها من الإثم، فهي مدينة لزوجها بالوفاء حتى يطلقها، وزوجها يحبها وهو لم يسئ إليها، وليس من حقها أن تؤذيه أو تسوءه، أجابت بلسان هذا الحب القوي الآثم أن زوجها لن يطلقها إن طلبت إليه ذلك، وأنها هي لا تحبه، وهي تحب هذا الرجل، ولها حقها في الحياة ولذاتها، فما ينبغي لها أن تضحي بنفسها وصاحبها في سبيل هذا الزوج الذي لا تحبه.
وفي الحق أن الحب قد فتن هذه المرأة، وانتهى بها إلى هذه الأثرة التي ينتهي إليها العشاق عادة، فهي تضحي بزوجها وصديقها «دوراي» وأخته «إيلين» التي تحب هذا الرجل، ولا عذر لها في ذلك إلا أنها تحب، وأن صاحبها يحبها، وأنها كانت تنتظر هذا الحب، فما ينبغي أن تمتنع عليه وقد أتيح لها. وصديقتها تسمع هذا فلا تقتنع به، ولكنها مترددة بين الدفاع عن الواجب والاحتفاظ بمودة صديقتها، فتستسلم وتتمنى لصديقتها التوفيق.
ولئن ضعفت هذه الصديقة عن أن تقف في وجه الحب الآثم وتحتمل ثقل الدفاع عن الواجب، فلن يضعف عن هذا صديقها «دوراي»، فقد أقبل ومعه أخته. فما هي إلا أن يخلو إلى صاحبته ويتبين ما عزمت عليه حتى ينفجر انفجارا: يلوم صاحبته لوما عنيفا؛ لأنها تضحي بزوجها، ولأنها تضحي به هو، ولأنها تندفع مع الأثرة إلى غير حد، وهو يرعد حينا ويستعطف حينا آخر، ويستسلم مرة أخرى إلى البكاء.
ولكن الانتصار على هذا الرجل يسير، فهو متهم في غضبه للواجب ودفاعه عنه، هو لا يدافع عن الزوج ولا عن الزواج، وإنما يدافع عن نفسه لأن صاحبته انصرفت عنه، وستدعه وتنصرف إلى حيث تستثمر الحب في دعة وأمن، في حين يشقى هو بالوحدة والأسى والحرمان.
هو يدافع عن نفسه، وإذن هو أثر، وإذن فليس هو بالصديق حقا. ولو كان صديقا حقا لقبل التضحية في ألم طبعا، ولكن في رضا وإذعان، وما أسرع ما تنتصر عليه وتلزمه الحجة، وقد تقدم إليها وانصرف الزائرون، وأقبل حبيبها فاتفقا على أن يفرا بعد حين قصير، ينتهزان غيبة زوجها في لندرة ويمضي بهما الأتومبيل إلى حيث يركبان السفينة إلى أمريكا. ويدعها صاحبها على أن ينتظرها أمام القصر، وهي تدعو خادمتها فتصدر إليها أوامر قصيرة تتصل بهذا السفر وتصرفها.
وانظر إليها قد نهضت وتهيأت للخروج إلى حيث ينتظرها صاحبها وهي تلقي بنظرة وداع على الحجرة وما فيها. وإذن فسيظل الواجب مهيضا وسينتصر عليه الحب الآثم! وستمضي هذه المرأة مع رفيقها وسيعود الزوج فيرى نفسه في هذا القصر وبين هذا الترف وحيدا. يتقوض من حوله كل شيء؟ ... كلا! وما الذي يمنع الصداقة أن تدافع عن هذا الواجب؟ انظر إلى صاحبتنا تخطو لتخرج من الحجرة، ولكنها تصيح وتتراجع مذعورة، لأنها رأت رجلا وهذا الرجل هو زوجها، وقد أقبل من لندرة قبل ميعاد العودة.
ولكن انظر إليه إنه مضطرب قد انهدت قواه وفقد ما كان يمتاز به من شدة وصلابة وثقة بنفسه وبالدهر، وامرأته تسأله: فيم عجل هذه العودة؟ وهو يتردد في إجابتها، حتى إذا وجد القوة على الكلام أخبر امرأته بأنه في ضيق مالي منكر؛ لأن شركاءه قد أسلموه وأجمعوا على خيانته. وكان زعيم هذه الخيانة «جاماني» الذي رأيناه في الفصل الأول يريد أنتوانيت على السوء وينصرف محنقا لأنها امتنعت عليه. والرجل لا يتبين سبب هذه الخيانة، أما نحن فنعرفه حق المعرفة. ومهما يكن من شيء فإن صاحبنا مضطر إلى نصف مليون من الفرنكات يجب أن يؤديه بعد ثمانية أيام، وقد سلك إلى هذا المقدار كل سبيل فلم يظفر به. وهو إن لم يؤده مفلس ثم مقبوض عليه ثم ملقى في غيابات السجن.
يقص هذا كله على امرأته وهي تسمعه في شيء يشبه الهدوء، ولكنه يدل على ثورة عنيفة داخلية. وانظر إليها وقد تغيرت تغيرا تاما، فهي تشجع زوجها وتنصح له بالجلد والمضي في الجهاد، وتعلن إليه أن ثمانية أيام ليست بالشيء القليل، وأنه واجد فيها مخرجا من هذا الضيق. ويقع هذا الكلام من قلب الرجل موقعا حسنا، ويمنحه قوة وجلدا فيعد باستئناف الجهاد. وانظر إليه وقد نهض قويا مستعدا للحرب، وانصرف إلى باريس وترك زوجه في شيء يشبه الذهول. ينصرف الرجل وتغلق الباب من ورائه، وإذا صديقها قد أقبل يتعجلها، فتعلن إليه أنها لن تسافر الآن، ويكون بينهما حوار عنيف، نفهم منه أن هذه المرأة كانت تظن أنها ستدع زوجها غنيا قويا يستطيع أن يتعزى عن الحب بالثروة والقوة. فأما الآن وقد أعدم وضعف فلا تستطيع أن تدعه. وهي تحب صاحبها، ولكنها تطلب إلى هذا الحب أن يمهلها حتى يسترد زوجها قوته وثروته. ولكن الحب عجل لا يمهل، وصاحبها يعلن إليها في عنف أنه منصرف عنها إلى حيث لن تراه، وأنها لم تحبه كما يحبها. وانظر إليه وقد ولى منصرفا، واستولى الجزع على هذه المرأة، فهي لعبة بين الحب وشهوته، وبين الواجب وأمره الذي لا يرد. إنها تدعو صاحبها ملحة عليه، فإذا أقبل عليها تضرعت إليه في أن يبقى فيأبى، وإذا هي قد غيرت من خطتها فجأة وضحت بالأمانة الزوجية في سبيل الحب من ناحية وفي سبيل الوفاء لزوجها والإشفاق عليه من ناحية أخرى، وإذا هي تلقي بنفسها بين ذراعي صاحبها وقد استسلمت للإثم. •••
وتمضي من الأيام الثمانية سبعة ولم يجد الرجل لنفسه مخرجا من ضيقه. ونحن الآن في مصرفه وقد أقبل يائسا مستسلما مستعدا للإفلاس والمحاكمة والسجن، وأقبل عليه صديقه «دوراي» ينبئه بأنه قد سعى عند كثير من الماليين فلم يوفق لشيء، ولكنه وفق أخيرا لرجل لا يعمل في المال ولا في البورصة، ولكنه مستعد لتقديم هذا المقدار، وسيأتي بعد حين ليعرض المال على صديقه. وهذا الرجل هو «رينيه دانجين»، فإذا سمع صاحبنا اسم هذا الرجل أخذه غضب شديد وأعلن أنه لن يقبل منه هذه المعونة، فإذا دهش صديقه لذلك أعلن إليه بعد تردد أن هذا الرجل قد أكثر التردد على قصره والتقرب من زوجه وقد عرف الناس ذلك وتحدثوا به، فإذا عرف الناس أنه قد أعانه فسيتحدثون أنه قبل هذه المعونة ثمنا لما بين الحبيبين من صلة. وهنا يغضب «دوراي» ويقف موقفا بديعا في الدفاع عن «أنتوانيت»، فهو مؤمن بطهارتها، مؤمن بأنها لم تخن زوجها وما كانت لتخونه حتى تفارقه، وهو يمضي في هذا الدفاع إلى أبعد حد ممكن، فيعلن إلى صديقه أنه إن كان قد وصل إلى هذا الحد من الضيق فذلك لأن امرأته امتنعت على «جاماني»، ويعلن إلى صديقه أنه هو قد حاول أعواما أن يصل إلى «أنتوانيت» فلم يظفر منها بشيء. وقد كاد يقنع صديقه ببراءة زوجه وطهارتها، وكاد يقنعه بأنه يستطع أن يقبل هذه المعونة، وقد دعا الخادم وأمره أن يتحدث إلى زوجه في التليفون يطلب إليها أن تحضر. وأقبل الرجل يعرض معونته، فإذا خلا إلى صاحبنا طلب إليه هذا: أتستطيع أن تقسم لي بشرفك أني أستطيع أن أقبل هذه المعونة منك دون غضاضة أو تعرض للدنية؟ فيقسم له ويهيئ «الشيك» ويهيئ هو صكا بهذا المقدار.
وتقبل «أنتوانيت» فينبئها بأنه قد أخفق في سعيه كله، ولكن هذا الرجل يعرض عليه ما هو في حاجة إليه، فتحاول أن تشكر الرجل مضطربة وقد تم كل شيء، ولم يبق إلا أن يمضي صاحبنا الصك. ولكنه يتجه إلى امرأته وصاحبه قبل أن يمضي ويسألهما في قوة وإلحاح: أيمضي هذا الصك؟ فأما الرجل فيجيبه: نعم، وأما المرأة فيأخذها الإغماء، وأما صاحبنا فقد فهم كل شيء. وانظر إليه محنقا قد ألقى ما في يده وأخذ ينتهر الآثمين بشدة وعنف، وما زال بالرجل حتى أخرجه، وهو الآن أمام امرأته وحدها يأمرها أن تنصرف فتستعطف، فلا يزيده استعطافها إلا سخطا وحنقا. ومع ذلك فالرجل في محنة منكرة، وقد جاهد أسابيع وضعف عن المقاومة، وهو في حاجة إلى من يؤيده ويشد أزره ويعينه على هذه الأيام المرة التي يستقبلها. فانظر إليه وقد عفا أو كاد يعفو عن امرأته، ولكنه يريد منها أن تنصرف عن هذا الرجل وتنساه وتبقى له هو وحده ويسألها أتستطيع ذلك؟ فلا تجد إلى جوابه سبيلا، فإذا ألح عليها في السؤال عرف منها أنها لا تستطيع ... فانظر إليه ضعيفا مستسلما مغضبا مع ذلك شريفا، يطرد زوجته وهي تأبى عليه، وتعرض عليه ما تستطيع من أن تعيش معه حليفة معينة ولكن في غير حب، لأنها لا تملك هذا الحب ولا تستطيع إخضاعه لإرادتها، وهو يأبى عليها ويلح في طردها، فتنصرف معلنة إليه أنها ستنتظره في البيت، فإذا تركته نهض إلى أبواب الغرفة فغلقها، ثم يعود إلى مكتبه ويخرج منه مسدسا ويرتب طائفة من الأوراق وقد طرق الباب، فكان جوابه طلقة المسدس الذي تختم به مثل هذه القصص.
يناير سنة 1927
الشاب الجميل
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «ألفريد كابو»
هي إحدى هذه القصص التي يتقنها كبار الكتاب الفرنسيين، والتي تقرءها أو تشهدها فتشعر بشيء كثير من الراحة لقراءتها أو رؤيتها، وتشعر بأن الكاتب لم يتكلف جهدا ولا مشقة حين كتبها. بل تشعر بأن الكاتب قد استراح إلى كتابتها، ووجد من اللذة في تنسيق فصولها ومناظرها مثل ما تجد أنت في قراءتها أو النظر إليها. بل تشعر بأن الكاتب قد ابتسم عندما خطر له موضوعها، ونشط للكتابة في هذا الموضوع فأخذ قلمه باسما، وظل يكتب باسما، وانتهى من الكتابة ولم تفارقه بسمته، أو قل: انتهى من الكتابة وهو يضحك.
على أنك تشعر فوق هذا كله بأن ابتسامة الكاتب وابتسامتك أنت حين تقرأ القصة أو تشهدها، ليست ابتسامة حلوة كلها، وإنما تشوب حلاوتها مرارة ما. ليست ابتسامة عبث، ولا ابتسامة سخرية، وإنما هي إحدى هذه الابتسامات التي لا تمثل الأمرين جميعا: فيها العبث لأن بين الأشخاص وفي أخلاقهم وحركاتهم ما يدعو إليه، وفيها السخرية لأن في هذه الأخلاق والحركات ما يحمل الرجل المستقيم ذا المزاج المعتدل على أن يهز كتفيه. وفيها إلى هذا العبث وهذه السخرية شيء من الألم الهادئ، والأمل الذي يخلق بالفيلسوف؛ لأن هذه الأخلاق والحركات - على أنها خليقة بشيء من الازدراء وعلى أنها شائعة وعلى أنها قوام الحياة - ليست خالدة جامدة، ولا عسيرة مستعصية على الإصلاح؛ فهي منكرة بعض النكر، ولكنها قابلة لأن يعتدل منحرفها ويستقيم بعض ما فيها من العوج.
تجد هذا كله حين تقرأ القصة أو تشهدها، وتشعر بشيء من الغبطة والرضا والحاجة إلى أن تشكر للكاتب أنه قد أرضاك وألهاك دون أن يثير في نفسك هذه الانفعالات الحادة التي تثيرها القصص المحزنة، ودون أن يسلط عليك هذا الضحك العنيف الذي تبعثه القصص المضحكة بالمعنى الذي يفهمه الممثلون لهذه الكلمة. وإنما أرضاك وألهاك في هدوء ودعة، أو قل إنه حقق ما أنت محتاج إليه من هذه الراحة التي يطمع فيها العاملون وقد أنفقوا يومهم في الجهد والمشقة.
ثم أنت واجد في هذه القصة ناحية من الحياة الفرنسية، قلما تجدها فيما ألفت قراءته ورؤيته من القصص التمثيلية، وهي حياة طائفة من أهل الأقاليم. ولكاتبنا هذا عناية بأهل الأقاليم نعرض عليك منها نموذجا في هذا التلخيص، ونرجو أن نعرض عليك منها نموذجا آخر في غير هذا الفصل. ثم أنت واجد في هذه القصة ما تجده في قصص هذا الكاتب جميعا، من هذا المذهب الفلسفي الذي يقوم على المصادفة، ويضيف إليها الأثر الأكبر فيما يملأ الحياة من عمل، وما يعترض الناس من خطوب.
ولقد أحب أن أسلك في هذه القصة نفس الطريق التي تعودت أن أسلكها في القصص الأخرى، فأقدم إليك أشخاصها في شيء من الإيجاز. ولكني أشعر بأن هذه التقدمة لن تكون قوية ولا خلابة؛ لأن الأشخاص في أنفسهم ليسوا أقوياء ولا خلابين. وأشعر أيضا بشيء من الخوف؛ لأني أحس أني سأتورط في تقصير شديد عن أن أبعث في نفسك مثل الكاتب في نفسي من الراحة والرضا والابتهاج؛ ذلك لأن لذة هذه القصة وأمثالها تأتي من اللفظ في كثير من الأحيان، وتأتي من اللفظ لنفسه؛ أي من حيث يصعب أن يترجم وينقل من لغة إلى لغة. ولكني على هذا كله مجتهد في تلخيص هذه القصة.
وإذا لم يكن بد من تقديم هؤلاء الأشخاص، فلأبدأ بأشدهم قوة وأعظمهم أثرا فيها، وهو «فالنتين بريدو»؛ شاب في الثامنة والعشرين من عمره، وسيم الطلعة حين تقع العين عليه، ولكنه ليس بالجميل حقا إذا أحسنت التحديق فيه. قد ظفر بالشهادة الثانوية في الآداب، وهو إذا تكلم أو كتب خيل إلى من يسمعه أو يقرءه أنه عظيم الحظ من العلم، كاتب متحدث منطلق اللسان، فإذا حقق النظر فيه ظهر أنه ليس شيئا أو لا يكاد يكون شيئا. هو، كما يقول الكاتب، من هؤلاء الأشخاص الذين يعجبون النساء؛ لأن عليهم سمة الجمال ولهم مظهر الذكاء، وليسوا بالحسان ولا الأذكياء، وهو مدير لمكتبة المدينة التي يعيش فيها، يتقاضى راتبا ضئيلا ولكنه ضخم بالنسبة إلى مدن الأقاليم. وهو بطبيعة الحال شديد الإعجاب بنفسه، شديد الطمع، شديد الازدراء للناس، مقتنع كل الاقتناع بأنه يشهد عصر انتقال يفنى فيه جيل وينهض فيه جيل آخر. فأما هذا الجيل الفاني، فقد استنفد قوته وأصبح غير صالح للبقاء، وأما هذا الجيل الناهض، فهو ممتلئ قوة ونشاطا. ولكن الشيوخ يأخذون عليه الطريق ولا بد له من أن يقهرهم. وصاحبنا ساخط لا يرضى عن حاله ولا يطمئن إلا إذا ظفر في باريس بالمكانة التي تلائمه.
وله في مكتبته رفيق يعينه، متوسط ، دميم الخلق، ساذج الطبع، راض بما قسمه الله له، حريص على مكانته، جاد في طاعة النظم والقوانين، منكر على صاحبه طيشه ونزقه وطمعه.
ثم شخص آخر، هو «جونيل»، في السادسة والأربعين من عمره، ضخم الثروة، معتدل المزاج، ولكنه لا يخلو من طمع، يريد أن يكون عضوا في مجلس الشيوخ. وهو مخالف للحكومة القائمة في الرأي، على أن ثروته وجمال امرأته يشجعان على الطمع في الانتصار على مرشح الحكومة.
ولهذا الرجل امرأته «كلوتيلد»، شابة جميلة، معتدلة المزاج أيضا، شديدة البغض للسياسة والانتخابات والأعمال العامة، لا تطمع إلا في أن يبقى لها زوجها منقطعا إليها يلهيها ويمتعها بثروته الضخمة. وهي تبذل ما تملك من جهد لتصرف زوجها عن مجلس الشيوخ، وهي تنذره بالخيانة إن أصبح شيخا؛ لأن ذلك لا يلائم سنها، ولأن بين الناس من يتملقها، وقد وعدته بالإسماح له يوم يصبح زوجها شيخا. ولكن زوجها يأبى إلا أن يكون شيخا، ولا يأبى على نفسه التفكير في أنه قد يصل إلى الوزارة، وهو مطمئن إلى زوجه لا يحفل بوعيدها، ولا يشك في أنها وفية له مهما يكن من شيء.
وهناك فتاة أخرى «مارت أوبري»، معلمة في المدينة، رائعة الجمال، طيبة النفس، مستقيمة الخلق، أدركها اليتم هي وأختها ولما يتم تعليمهما فمضتا حتى أتمتاه. فأما أختها فآثرت العاجلة وانطلقت مع أول رجل غني عرض عليها الترف والثروة، وأما هي فآثرت الاستقامة والحياة الشريفة، وقنعت بمنصب المعلمة في إحدى مدن الأقاليم. وهي تحب «فالنتين برينو» مدير المكتبة هذا الذي قدمته لك منذ حين، وهي تطمع في أن تقترن به، وهي تتردد على المكتبة في كل يوم تزعم أنها تريد البحث في دائرة المعارف، ولكنها لا تريد في حقيقة الأمر إلا أن ترى هذا الشاب يحبها ولا يكره أن يقترن بها، ولكنه يحب قبل كل شيء أن يظفر بمكانة تلائمه في باريس.
وهل تحب أن أتم هذه المقدمة، فأذكر لك هذا الشخص الأخير الذي سنراه في الفصلين الثالث والرابع، وهو «بلوك»، مدير مكتب للتخديم يعرف كل شيء، ويسعى في كل شيء، ويقدر على كل شيء، وإن كان في حقيقة الأمر لا يعرف شيئا ولا يكاد يقدر على شيء.
هؤلاء هم الأشخاص، وهم كما ترى، عاديون لا يمتاز أحدهم بشيء ما، ولا يمكن أن تكون القصة التي تقع بينهم إلا عادية لا أثر فيها للانفعال الحاد ولا للضحك العنيف. •••
فأما الفصل الأول من هذه القصة، فيقع كما قدمنا في مدينة من مدن الأقاليم. ونحن إذا رفع الستار في المكتبة، وأمامنا مساعد المدير كأنه يرتب كتبا. على أننا لا نلبث أن نشعر أن هذه المكتبة كغيرها من مكتبات المدن فقيرة كل الفقر، لا تكاد تشتمل إلا على دائرة المعارف وبعض الكتب أو المجلدات السياسية. وقد دخل خادم مأمور المركز، يطلب مدير المكتبة ليجيب سيده، وهو يعلن في ثرثرة ظريفة أن المأمور مغضب؛ لأن مدير المكتبة قد كتب في صحيفة المدينة فصلا سياسيا عضد فيه مرشحا في مجلس الشيوخ معاديا للحكومة وذم فيه مرشح الحكومة وهو قريب المأمور. ولا يكاد يخرج الخادم حتى يأتي مدير المكتبة، فإذا هو كما قدمنا فتى ظاهر الرشاقة واللباقة، ولكنه في حقيقة الأمر ليس شيئا لولا أنه شديد الطمع قوي الإرادة. فإذا أخبر بأن المأمور يدعوه وأنه مغضب منه لم يحفل بذلك، وإنما أخذ يحدث صاحبه عن الفصل الذي كتبه في صحيفة «المستقبل» وهاجم فيه قريب المأمور في قوة وعنف، ودافع فيه عن خصمه دفاعا شديدا، فإذا سأله صاحبه: فيم هذا الهجوم؟ أنبأه بأن قريب المأمور هذا قد ذكره بسوء فيما بلغه، وأنه لا يعرف خصمه، ولكنه مع ذلك يؤيده ويبذل في ترشيحه ما يملك من قوة. ويكون بين الرجلين حوار نفهم منه أن أحدهما - وهو المدير - يتحرق شوقا إلى باريس لعله يظفر فيها بما يريد من هذه المكانة العالية، وأنه واثق بالوصول إلى ما يحب، فكل شيء يدله على ذلك: انظر إلى هذا الجيل الذي يريد أن ينقضي كيف ضعف واضمحل، وكيف عجز وانحل، وكيف أخذ الفساد يعمل فيه من كل ناحية ، فلا خلق، ولا قوة، ولا إرادة، ولا مهارة، ولا استقامة في الأعمال. وهذا مأمور المركز: ما قيمته؟! وماذا عمل وهو يخدم الحكومة منذ خمس عشرة سنة؟ وهذا المدير أتظنه وصل إلى منصبه لولا أنه أصهر إلى سكرتير الوزير! والأمر كذلك، فهي جميع طبقات هذا الجيل وفي أنحاء الحياة الاجتماعية كلها: جيل يفنى، وجيل آخر ينهض. وهذا الجيل الناهض منتصر من غير شك؛ ففيه حب الحياة وطموح إلى الرقي، وفيه قوة على الجهاد وصبر على المكروه، وفيه نبوغ واستعداد للنبوغ. انظر إلى صاحب الصحيفة التي تصدر في هذه المدينة، لقد عرض على الفتى المدير 150 فرنكا في الشهر على أن يكتب لصحيفته فصلا في كل يوم. فهو إذن يستطيع أن يعيش خارج المكتبة، وهو يستطيع أن يغضب المأمور؛ هذا كله في الأقاليم، فكيف به لو ذهب إلى باريس!
أما صاحبه، فهادئ معتدل قانع فيلسوف، ينصح لرئيسه بالهدوء والدعة والرضا بما هو فيه، وينصح له بنوع خاص بألا يلتمس في الحياة إلا هذه السعادة الهادئة العادية، وما له لا يفكر في هذه الفتاة المعلمة التي تحبه وتتردد على المكتبة من أجله، وتتمنى أن تكون له زوجا! أليس هو يحبها أيضا؟! بلى! هو يحبها، ولكنه لا يتعجل هذه السعادة، وإنما يريد أن يصل إلى الثروة والمكانة قبل أن يفكر في الزواج.
فأما وقد تحدث الرجلان في الحب، فلم يكن بد لصاحبنا المساعد الفيلسوف من أن يذكر حبه أيضا؛ فهو أيضا يحب، ولكنه يحب من غير أمل، يحب امرأة لا يعرفها ولا ينتظر أن يعرفها، رآها مرة في باريس وقد كان يمشي الهوينا في الغابة، فإذا هي تنزل من عربتها، وإذا منديلها يسقط فيلتقطه هو ويدفعه إليها فتأخذه شاكرة، وهذا يكفي ليذكي في قلب صاحبنا للحب جذوة متوقدة. وصاحبنا فيلسوف يحتمل هذه الجذوة وما لها من لذع، ولكنه يعلن أنه إن رأى هاتين العينين السوداوين مرة أخرى فلن يستطيع أن يضبط نفسه، ولن يكون له على حبه سلطان.
وهذه الفتاة المعلمة قد أقبلت تكلف مساعد المكتبة أن يعد لها جزءا من «لاروس» لتنظر فيه بعد حين، ولكنها رأت المدير فتتحدث إليه، ويدعوها هو إلى مكتبه ليظهرها على بعض الصحف التي وصلت من باريس فتمتنع عليه، فإذا سألها: لماذا؟ أجابته: لأني إن تبعتك إلى المكتب حاولت أن تقبلني كما حاولت في المرة الماضية، فأمتنع عليك فنتغاضب، وفيم نتغاضب ونحن صديقان؟! على أني لا أكره أن تقبلني، بل قد أجد في ذلك سعادة، ولكن قبل أن أسمح لك بهذه اللذة ولنفسي بهذه السعادة، يجب أن تخطبني، ويجب أن أعرف متى نقترن، ولم لا نقترن؟
فإذا ذكر لها طمعه في الثروة والمكانة، دهشت وأعلنت إليه أنها راضية بمكانتها ومكانته، وأنها ترى أنهما يستطيعان أن يعيشا سعيدين. وأخذت ترغبه في الزواج وتذكر له أمورا من شأنها أن تشجعه عليه، ومن هذه الأمور أنها تحبه، ولكنه مصر على الثروة قبل كل شيء، فتدعه على أن تعود لتنظر في دائرة المعارف. وما تكاد تخرج حتى يأتي «جونيل» هذا الرجل الغني الذي يرشح نفسه لمجلس الشيوخ، يأتي لأنه قرأ الفصل الذي نشره الفتى في الصحيفة فجاء شاكرا. وما هي أن يرى الفتى ويتحدث إليه حتى يعجب به، فيعرض عليه أن يكون سكرتيره، وأن يرافقه إلى باريس. ولا يحتاج إلى الإلحاح على الفتى في ذلك، فقد قبل الفتى، وما له لا يقبل وهو سيذهب إلى باريس، وسيعمل في السياسة، وسيكون يد هذا الرجل اليمنى حتى يصل إلى مجلس الشيوخ ثم إلى الوزارة. ومن يدري؟! ماذا يجني هو في أثناء هذا كله؟! على أن صاحبنا الشيخ ينبئه بأنه يخوض غمار الانتخابات على كره من زوجه؛ فهي لا تحب السياسة، ولكنه واثق بالانتصار عليها، وهو يعلم أن امرأته ستغضب حين تعلم أنه قد اتخذ له سكرتيرا، ولكن غضبها لن يطول، فهو يوصي الفتى بالأناة والرفق. أما الفتى فقد قبل كل شيء وهو يترك صاحبه ليكتب الاستقالة. ولا يكاد يخلو إلى نفسه حتى تأتي امرأته، فإذا هي، كما قدمنا، شديدة السخط على السياسة، شديدة البغض لاندفاع زوجها فيها. ولا يكاد زوجها ينبئها بأنه اتخذ له سكرتيرا حتى تثور، ولكن السكرتير قد أقبل وقد نظرت إليه فتحس أنه وقع من قلبها، وهي تتلقاه متكلفة بعض الفتور، وتدعوه إلى العشاء متكلفة بعض الفتور أيضا.
وينصرف الزوجان وتعود الفتاة المعلمة، فلا تكاد تتحدث إلى صاحبها وتعلم باستقالته واعتزامه السفر إلى باريس، حتى يأخذها الحزن والجزع والاضطراب، وهو يهدئها ويخطبها ويعدها، ولكنها لا تحفل بذلك ولا تكاد تصدق منه شيئا. وهي تدع صاحبها وتنصرف إلى الكتاب تريد أن تنظر فيه فلا تستطيع. وأنى لها ذلك وقد ملكها الاضطراب، فهي لا ترى إلا صاحبها، ولا تفكر إلا في سفره. وهي في ذلك وإذا امرأة تدخل وتسعى في خفة حتى تصل إليها فتقبلها، فإذا التفتت رأت أختها «بوليت» وهي لم ترها منذ سنتين، منذ انقطعت هي إلى التعليم ومضت الأخرى مع أول رجل غني لقيها. وأختها تنبئها بأنها كانت مسافرة معه إلى نيس، حتى إذا وصلا إلى ديجون ذكرت أختها فقالت له: يجب أن نفترق هنا لأرى أختي وسألقاك آخر النهار. فإذا سألت أختها: من هو؟ أجابت: هو! هو الذي تعرفينه، هو جوستاف! على أني سألقاه آخر النهار، ولم أشأ أن أصطحبه حتى لا أعرضك لسوء القالة، فإذا سألك عني أحد فقولي إني معلمة في باريس، وأنت تذكرين أني كدت أكون معلمة في باريس لولا أن وصل جوستاف. كلا! لم يكن جوستاف، وإنما كان إدوار. ثم تمضي في هذا الحديث السريع حتى تسأل أختها عن حالها، فما أسرع ما تتبين أنها محزونة! وما أسرع ما تفهم سبب هذا الحزن، وما أسرع ما يظهر حبها لأختها وحماستها في الدفاع عنها! وبينما أختها تجذبها للخروج من المكتبة؛ إذ يقبل مدير المكتبة، فما أسرع ما تعرف هذه المرأة أنه هو الذي تحبه أختها، فتأخذ في لومه وتعنيفه وترغيبه عن باريس. •••
وإذا كان الفصل الثاني، فنحن نراه جالسا إلى المنضدة وفي يده القلم، وصاحبه الشيخ يملي عليه بدء منشور انتخابي. ولكن الرجل لا يكاد يقيم الجملة الأولى من المنشور؛ فهو يتردد ويضطرب ويستأنف القول ثم يعيده ثم يستأنفه دون أن يستطيع التقدم، فيعرض عليه كاتبه أن يفعلا كما فعلا في المرة الماضية، فما أسرع ما يقبل مسرورا، وإذا هو قد جلس إلى المنضدة وأخذ القلم، ونهض الكاتب فأخذ يمشي في الحجرة ممليا، وإذا الكلام متصل مستقيم، والجمل يتبع بعضها بعضا في غير تردد ولا اضطراب، والشيخ راض مبتهج يعلن في سذاجة أنه لا يحسن الكتابة إلا إذا جلس هو وأخذ القلم ومشى كاتبه وأملى.
وهما في ذلك وإذا امرأته قد أقبلت، فإذا رأت ذلك دهشت وأخذها شيء من الضجر لم تحاول قط إخفاءه، ثم تأخذ في لوم زوجها على السياسة ودخوله فيها، وتسأله عن حفلة راقصة يريدان إقامتها: أتكون في الرابع عشر أو الخامس عشر من الشهر؟ فيتردد ثم يذكر أن بينه وبين الناخبين موعدا في هذين اليومين، ولكنه لا يعرف أيهما، ثم يلتمس كتاب الناخبين إليه فلا يجده فيذهب كاتبه لالتماسه. ولا يكاد يخلو إلى امرأته حتى تطلب إليه أن يقيل هذا الكاتب، فيعاتبها لأنها تلقى هذا الشاب بفتور بعد أن كانت قد لقيته أول الأمر في شيء من الظرف واللطف.
ولكنها تلح عليه فيأبى، ونفهم من حديثهما ومن إلحاحها أن بينها وبين هذا الفتى حبا أو شيئا يشبه الحب، وهي تريد ألا تصل إلى خيانة زوجها. ولكن الرجل سليم القلب لا يفكر إلا في السياسة والانتخاب ومجلس الشيوخ. فإذا أبى عليها ويئست منه تركته وجاء الفتى، وهما باستئناف العمل، ولكن معين الفتى في المكتبة قد جاء، فتركهما الشيخ على أن يستأنفا العمل بعد حين.
وما هي إلا أن يتحدث الفتى إلى مساعده القديم حتى نفهم أنه قد رأى العينين السوداوين مرة أخرى: رآهما هناك في المكتبة في ذلك اليوم المشهود يوم كانت المعلمة تنظر في الكتاب، فجاءت أختها. هو إذن عاشق لأخت هذه المعلمة، وقد كان صادقا حين أعلن أنه لن يملك نفسه إن رأى عينيها مرة أخرى. وقد رأى عينيها، بل جلس معها إلى مائدة المعلمة، ففقد الرشد أو كاد، واستقال على كل حال وأقبل إلى باريس ولن يفارقها.
وهو سيئ الحظ؛ فقد ذهب إلى دار هذه الفتاة واستأذن عليها، فتركته ينتظر نحو الساعة، ثم خرجت ومعها ثلاثة رجال، فمرت به مسرعة وهي تقول: إذا لقيت أختي فبلغها تحيتي. وهو سيئ الحظ؛ فقد التمس العمل فلم يظفر بشيء، وذهب إلى «بلوك الخدم» وبينهما صلة، فأبى هذا الرجل أن يلقاه، فلما ألح عليه أمره بالعودة إلى الإقليم. وصاحبه الفتى يأمره بمثل هذا، ويضرب له موعدا بعد ساعات ليطعما معا، على أن يسافر هو بعد العشاء. أما هذا الرجل فيقبل الموعد ويقبل العشاء، ولكنه يرفض السفر.
وقد خرج وجاءت امرأة الشيخ، فأنبأت الفتى أن زوجها قد خرج يتروض، وأنها تريد أن تتحدث إليه، ثم أعلنت إليه في صراحة أنها قد طلبت إلى زوجها إقالته فرفض، وإذن فهي تطلب إليه أن يقيل نفسه لأنها تحب زوجها، وتكره أن يعاشرهما ثالث.
أما هو فيعدها بالاستقالة والسفر، ولكنه ينتهز هذه الفرصة التي لن يراها بعدها ليعلن إليها في صراحة أيضا أنه يحبها حبا لا حد له، وأنه لو شاء لأظهر لها هذا الحب، ولكنه أراد أن يكون رجلا شريفا فكتم حبه.
فأما الآن وسيفارقها فراقا لا لقاء بعده، فلا جناح عليه أن يعلن إليها هذا الحب، فإذا أرادت أن تأخذه بالصمت مضى في الحديث وأعلن إليها أنها شجعته على هذا الحب. أليست قد اعتمدت على يده مرة في الملعب وبقيت معتمدة عليها ما استمر التمثيل؟! أليست قد التصقت به التصاقا مرة في العربة يوم عادا إلى البيت منفردين؟! فلو لم يكن رجلا شريفا لانتهز إحدى هاتين الفرصتين وأعلن إليها حبه، ولكنه لم يفعل، وهو إذ يفارقها لا يؤلمه إلا أنها ليست وفية لزوجها. فإذا أخذت تنكر عليه ذلك، أخذ يتهمها بأنها تحب فلانا وتداعب فلانا، حتى تضيق به ذرعا فتعلن إليه أنها لم تخن زوجها، ولولا حرصها على الوفاء لزوجها لما طلبت إليه الرحيل، ولكنها تحبه وتخشى إن أقام أن تقع في الإثم. فإذا سمع هذا فهو سعيد، وهي أيضا سعيدة، وهي لا تتعجله في السفر، بل تطلب إليه البقاء ولكنها قلقة.
أما هو فجريء! انظر إليه يسرع إليها يريد أن يأخذها بين ذراعيه، ولكنها تتحرج وتأبى عليه إلا حبا بريئا، ولا تسمح له إلا بقبلة بعينها يضعها بين شعر رأسها لا يتجاوز هذا الشعر. وإنه لفي هذه القبلة إذ يحسان حركة فيفترقان، وإذا الزوج قد أقبل، فتلقاه متبسمة، وتعلن إليه أنها قرأت بعض منشوراته الانتخابية فرضيت عنه. وهو يبتهج حين يراها مسرورة راضية، ولكنه لم يقبل وحده بل أقبل ومعه أحد الناخبين، فهو يدعو سكرتيره ليتحدثا مع هذا الناخب.
وتخلو المرأة إلى نفسها فتجلس مفكرة وفي يدها ورق كأنها تنظر فيه. وبينا هي في ذلك إذ يقبل زوجها دون أن تحسه، فإذا نظر إليها جالسة هكذا راقته، فسعى إليها في خفة ورشاقة حتى يضع شفتيه من شعرها حيث كان الآخر قد وضع شفتيه. أما هي فقد أحست شفتيه في شعرها فلم تفكر إلا في صاحبها، وإذا هي تقول له: فالنتين! أنت مجنون ... إن زوجي يستطيع أن يأتي الآن! قدر أنت وقع هذا الكلام في نفس الشيخ حين يسمعه. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في مكتب المخدم «بلوك»، وأنا أعفيك من وصف هذا المخدم وأعماله وأعوانه. ولكننا نرى في مكتبه مساعد المكتبة الذي رأيناه في أول القصة، وقد أقبل الآن يلتمس عملا، والمخدم يأبى أن يلقاه، حتى إذا ألح دفع إليه بعض النقد وصرفه وأخذ في عمله، وإذا «كلوتيلد» زوج الشيخ قد أقبلت تستأذن عليه، فإذا أذن لها أنبأته بأنها تلتمس شابا يقال له «فالنتين بريدو»، وقد جاءت تستعين به على أن تلقاه، وقد افتقدته منذ شهرين. فيعدها خيرا ويطلب إليها صورته الفتوغرافية، فتنصرف لتأتي بها، ويأتي مكانها «فالنتين بريدو» نفسه يطلب عملا.
فإذا سأله المخدم عما يحسن قال: إنه نال البكالوريا، ولكن البكالوريا لا تفيد شيئا! وإن عند هذا المخدم من العمال والأعوان أشخاصا نالوا البكالوريا في العلوم والآداب، ولكن باريس قد ضاقت بهم.
وإنه ليعرف قوما معهم الليسانس في الحقوق وهم يقودون عربات النقل. ثم أخذ يبحث في دفاتره فلم يجد ما يعرضه على هذا الشاب، إلا عمل خادم عند رجل يحزم الأمتعة، فيأبى الشاب. ولكنه قد وقع من نفس المخدم وأعجبه، فأخذ المخدم يعرض عليه العمل عنده ويطلب إليه أن يبدأ فيبحث عن فتى يقال له «فالنتين بريدو». فإذا سمع الفتى اسمه دهش وقال: غدا سآتيك به آخر النهار. وقد تركه المخدم لبعض عمله وأقبلت «كلوتيلد» فالتقيا وتحدثا، واطمأن كلاهما إلى صاحبه، واستوثق كلاهما من حب صاحبه وكان بينهما الميعاد، ثم ينصرفان ويعود المخدم تتبعه بوليت وأختها المعلمة. ونفهم أن هذه الفتاة قد ضاقت بحياة الأقاليم ذرعا بعد أن سافر خطيبها إلى باريس، فاعتزمت أن تترك التعليم وأن تعيش في باريس، وأقبلت إلى أختها فلقيت عندها الشبان الأغنياء وأخذوا يعرضون عليها حياة اللهو فترفض، وهي الآن تلتمس عملا شريفا.
فأما العلوم التي تحسنها، فالرياضة والتاريخ الطبيعي والرسم والموسيقى. ولكن هذا كله لا يغني عنها شيئا، وكل ما يستطيع الرجل أن يعرض عليها إنما هو العمل في مطعم حقير، فتتردد ثم تقبل وتهمان بالانصراف. ولكن أختها قد ألقت في أذن المخدم أنها لا ترضى بهذه الحياة لأختها، وأنها تعلم حق العلم أنها ما زالت تحب ذلك الفتى الذي عشقته هناك حيث كانت معلمة، وأن هذا الفتى في باريس، وأنها تريد منه أن يلتمسه، واسمه «فالنتين بريدو». وتخرجان ويأتي جونيل يلتمس عند هذا المخدم سكرتيرا. وإنهما لفي الحديث إذ يهمس الخادم في أذن سيده أن الفتى الذي استخدمه اليوم قد عاد يريد أن يخبره ببعض الأمر.
وهنا يتنبه المخدم إلى أن هذا الفتى يستطيع أن يكون سكرتيرا لجونيل، فيعلن آلي جونيل أنه قد ظفر له بما يريد، ثم يأمر بإدخال الفتى فإذا دخل ورآه جونيل أخذته ثورة وغضب وصاح: هذا فالنتين بريدو! هذا هو السكرتير الذي أقصيته! ثم انصرف لا يلوي على شيء. •••
فإذا كان الفصل الرابع ، فنحن في فندق حقير أو كالحقير، حيث يقيم «فالنتين بريدو» وقد قبل أن يعمل عند حازم الأمتعة ليعيش. وقد اتصلت الرسائل بينه وبين «كلوتيلد»، وقد وعدته أن تزوره اليوم، فهيأ غرفته وزينها بالزهر ووضع فيها ألوانا من الحلوى وخرج لبعض أمره. وأقبل جونيل ومعه المخدم يلتمسانه. ونفهم من حديثهما أن جونيل قد ظفر في الانتخاب وأصبح شيخا، وهو يشعر بأنه مدين بهذا الفوز لهذا الشاب الذي رشحه وأيده وأعانه حتى بلغ ما بلغ من الفوز. وهو رجل وفي خير يريد أن يكافئ هذا الشاب على حسن بلائه عنده، ولكن غياب الشاب قد طال، فينصرف الشيخ على أن يعود. وقد أقبل الشاب بعد ذلك، فيلقى مساعده القديم قد ساءت حاله إلى حد منكر، وقد عاد إلى فلسفته الأولى واعتزم العودة إلى الإقليم. ولكن صاحبه يشجعه على البقاء في باريس، ويرى أن الحياة جهاد، وأنه يجد لذة لا تعدلها لذة فيما يلقى من الألم في عمله الجديد وما يستلزمه من حمل الأثقال ... وأي عظماء الرجال لم يشق في أول حياته؟! وهو كذلك إذ تقبل «بوليت»، فإذا خلت إليه لامته وأنبأته أن أختها قد تركت التعليم، وأنها قد أقبلت إلى باريس، وهي الآن تعمل في معمل حقير، وهي واقعة في الإثم لا محالة إذا مضى في قطيعتها. فيذكي هذا الحديث في نفسه جذوة الحب القديم، وكأنه كان نسيه. فأما الآن وقد ذكره فقد ملأ هذا الحب قلبه فجأة، وإذا هو يطلب إلى «بوليت» أن تشجع أختها وتدعوها إلى الصبر والاحتمال، فما زال يحبها وما زال حريصا على أن يتخذها له زوجا. أما هي فقد عرفت أنه ما زال محبا، واكتنفت بذلك وانصرفت.
وتقبل «كلوتيلد» لميعادها، وهي مضطربة مروعة، فهي مقبلة على الإثم وخيانة زوجها، وهي مقبلة في هذا الفندق الحقير وفي هذا الحي الذي لا عهد لها به. وبينا هي في روعها واضطرابها إذا صاحبها في اضطراب آخر ليس أقل من اضطرابها؛ فقد ذكر المعلمة وحبها البريء وزواجهما، وتبين أنه لا يحب هذه المرأة ، وإنما هي فتنة عرضت له ثم انجلت غوايتها عنه قبل أن يتورط فيها. هو إذن على بصيرة من أمره، والمرأة على بصيرة من أمرها أيضا. وانظر إليهما لا يكادان يبتدئان الحديث حتى تقع بينهما الخصومة: عرض بزوجها، فغضبت له وأخذت تحمده وتذود عنه وتفخر بفوزه في الانتخاب. وما هي إلا أن يحسا جميعا أن ليس بينهما حب، وإنما هي فتنة قد خدعتهما؛ وإذن فليتصافحا وليفترقا صديقين لا شر بينهما ولا إثم ولا ريبة. وهما يفعلان وهي تنصرف، وإذا المعلمة قد أقبلت مبتهجة، ولكنها لم تكد تدخل الغرفة وترى هذه المرأة منصرفة منها حتى عاودها اليأس. كانت أختها قد أنبأتها أن الفتى ما زال لها محبا، فأسرعت إليه مستعدة للتضحية والجهاد معا. ولكنها ما كادت تصل حتى رأت امرأة تخرج من عنده، ورأت طاقات الزهر وألوان الحلوى ... فهي ساخطة ثائرة مزدرية لنفسها، تضحك وتبكي في وقت واحد، وهو يستعطفها ويترضاها ويبسط لها الأمر على جليته، فتصدقه أو تكاد أن تصدقه. وهما في هذا الحديث إذ يقبل «جونيل»، فيصافح الفتى ويعلن إليه أنه قد فاز، وأنه مدين له بهذا الفوز، وأنه قد جاء يعرب له عن حسن بلائه ويدفع إليه ورقة هي كتاب تعيينه مأمورا لأحد المراكز. يقع هذا في سرعة، ولكنه لا يخلب الفتى ولا يطير بلبه، وإنما يتقبل الفتى هذا كله هادئا ويقول لإحدى جاراته: بعد قليل سأكون مديرا ثم عضوا مكانه في مجلس الشيوخ.
فبراير سنة 1927
الفؤاد المقسم
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «لوسيان بينار»
هي قصة جديدة شهدها جمهور الباريسيين في بيت موليير آخر العام الماضي، ولعلها خير ما ظهر للناس في هذا الفصل من فصول التمثيل. وآية ذلك أنها ظهرت لأول مرة في بيت موليير (الكوميدي فرنسيز)، ولم تحتج إلى أن تتخذ إليه الطرق المعوجة أو المستقيمة التي تتخذها قصص أخرى فتظهر في ملاعب مختلفة، ولا تصل إلى بيت موليير حتى يمضي عليها زمن طويل أو قصير.
وأنت لا تحتاج إلى كثير من التفكير، بل لا تحتاج إلى شيء من التفكير إذا قرأت هذه القصة؛ لتشعر شعورا قويا واضحا بأنها خليقة ببيت موليير، ففيها كل ما يلائم هذا البيت من شدة الأسر وقوة الفكر، وهذا الجد الذي تلذه دون أن يثقل عليك والذي تمتاز به الآثار الفرنسية القيمة. ولعل من الحق أيضا أن ألاحظ أني لم أقرأ في هذه الأعوام الأخيرة قصة حديثة أحدثت في نفسي من الأثر ما أحدثته هذه القصة، لا أستثني إلا ما يكتبه «فرانسوا دي كوريل» من حين إلى حين.
فلست أقول شيئا جديدا إن قلت إن النقاد الفرنسيين يلاحظون أن فن التمثيل قد أصابه شيء من الفتور غير قليل في هذه الأيام، فقلما تجد في عشرات القصص التي ينتجها الكتاب في كل عام، بل في كل فصل، قصة تملك عليك عواطفك، وتأخذ عليك طرق الحياة والتفكير، وتكرهك على أن تقف عليها وحدها حياتك العقلية والشعرية أثناء قراءتها في مكتبك أو مشاهدتها في الملعب. إنما هي قصص سهلة يسيرة، فيها عبث ولهو أو فيها تفكير غير متقن، وحوار خفيف لذيذ يمس الموضوعات في غير إثقال ولا أناة ولا اعتصار لخلاصتها. فأنت تقرأ أو تشهد هذه القصص، وأنت تجد في هذا شيئا من اللهو والفكاهة أو تحتاج إلى شيء من التفكير لا تلبث أن تنصرف عنه متى انصرفت عن القصة.
وأنت لا تكاد تنصرف عنها حتى تنسى موضوعها وحوارها وأشخاصها، وحتى ليحدثك في أمرها محدث بعد أن يمضي على ذلك شهر أو بعض شهر، فإذا أنت لا تكاد تذكر فيها شيئا. فأما هذه القصص التي تقرءها فإذا أنت تحفظ بعض حوارها حفظا، وإذا أشخاصها كلهم أو بعضهم قد ارتسموا في نفسك ارتساما، فأنت تراهم يقظان، وأنت تتوهمهم نائما، وإذا موضوعها قد نصب أمام عقلك نصبا، وأقسم لا يزول ولا ينتقل حتى تفكر فيه تفكيرا متصلا وحتى تجد له حلا يلائم عقلك وهواك. هذه القصص قد بعد العهد بها منذ مات «بول هرفيو»، وانصرف كبار الكتاب إلى مجدهم يلهون به ويستمتعون بثمراته، كما يهلو إله أرستطاليس لأنه لا يعلم إلا نفسه ولا يعجب إلا بنفسه. حتى بعض الكتاب الذين عرفوا قبل الحرب بالقوة والأيد وشدة التأثير في نفوس النظارة والقراء.
والذين لم ينصرفوا إلى مجدهم، وإنما ظلوا عمالا لفن التمثيل يجدون فيه بعد الحرب كما كانوا يجدون قبل الحرب وأثناءها، قد أصابهم الضعف وأدركهم الفتور. فأنت تقرأ ما يكتبون الآن، فلا تحس ما كنت تحس من قبل، بل أنت تنكر هؤلاء الكتاب إنكارا وإن كان النقاد قد مهدوا لقصصهم بالفصول الطوال ملؤها الثناء والتقريظ اللذان لا حد لهما. ويكفي أن ننظر إلى ما يكتبه «برنستين» الآن وما كان يكتبه قبل الحرب، لنقتنع بأن هذه الظاهرة حقيقة لا بد من ملاحظتها والتماس أسبابها للذين يعنون بهذا الفن من فنون الأدب الفرنسي. ولكني لن أضيع وقتك ووقتي في التماس العلل لهذا الفتور الذي طرأ على كتاب التمثيل، فإن هذا الفتور ليس مقصورا على التمثيل وحده، وإنما يتناول الأدب الفرنسي كله بعد الحرب، ويجب أن تلتمس علله في الحرب نفسها وما تركت في نفس هذا الجيل من أثر. إنما أردت أن ألاحظ أن هذه القصة التي أعنى بها اليوم تمتاز من هذه القصص الكثيرة التي تظهر وتختفي من ملاهي باريس دون أن تترك أثرا قويا أو ضعيفا. هذه القصة خليقة بالبقاء، وستبقى، وما أرى إلا أنها ستعمر طويلا؛ لأنها - كما قلت - قد جمعت هذه الخصال التي تمتاز بها الآثار الأدبية الفرنسية القيمة.
ولننظر قبل كل شيء إلى موضوع القصة، فليس هو من هذه الموضوعات الضخمة الفخمة التي تخلبك؛ لما لها من ضخامة وعظم شأن. وليس هو من هذه الموضوعات النفسية الدقيقة التي تسرف في الدقة، حتى لا يلاحظها إلا علماء النفس والذين وقفوا أنفسهم على تحليل ما لبعض الناس من ألوان العواطف والشعور الخاصة التي تدرس في المستشفيات. إنما هو موضوع عادي في نفسه يراه كل إنسان ويحسه ويشعر بآثاره، لا يحتاج من ذلك إلا إلى حظ عادي من الذكاء والملاحظة ودقة الحس. وأي إنسان لا يعرف أن كل امرأة، مهما تكن مقسمة النفس بين أسرتها الجديدة وأسرتها القديمة! أي الناس لا يعرف أن كل امرأة تتعرض لهذه الأزمة؛ أزمة الخصومة بين حياتها الزوجية وحياتها المنزلية الأولى؟! ثم أي الناس لا يعرف أن كل أسرة تتأسس، فهي إنما تتأسس على الأنقاض، وهي إنما تقطع شيئا كان متصلا لتصل شيئا كان مقطوعا. فالفتاة حين تدخل في أسرتها الجديدة تقطع الصلة بين أبويها قطعا صريحا أو غير صريح، وتنشئ صلة جديدة مع زوجها، وهذه الصلة يقويها الحب إن كان هناك حب، ثم تقويها الحياة اليومية، ثم يقويها الولد يوم يأتي الولد. وقد أرادت الطبيعة الإنسانية أن يكون الحب والمنفعة المشتركة بين الزوجين، والولد وضعفه وحاجته إلى التربية والتعليم، ثم الأثرة التي فطرنا عليها، عناصر من شأنها أن تقوي الصلة الجديدة، وتهون على الرجل والمرأة احتمال «عملية البتر» التي يحدثها الزواج بينهما وبين أبويهما. ولكن نفوس الناس جميعا ليست مستوية الحظ من هذا الاحتمال، وظروف الناس جميعا ليست متشابهة، فقد يوجد الحب ويكون من القوة والشدة بحيث يلهي الزوجين عن قديمهما ويفنيهما في الجديد، وقد يكون هذا الحب قويا شديد التأثير ولكنه يصادف مزاجا قويا وفيا يستطيع أن يتسع للقديم والجديد، وأن يزعم الوفاء للأسرة والزوج، وقد لا يوجد الحب أصلا، فيظل الزوجان متأثرين بقديمهما وتكون الخصومة بين هذا القديم وبين المنفعة الجديدة التي تستتبعها الحياة الزوجية.
ونحن لم نفكر إلى الآن في الزوجين، فإذا فكرنا في أسرتيهما، فسنرى أن هاتين الأسرتين لا تقبلان في رضا واطمئنان هذه القطيعة التي يحدثها الزواج بينهما وبين أبنائهما. فأما أسرة الزوج فساخطة أشد السخط، متألمة أشد الألم، ذاكرة ما بذلت من جهد وما احتملت من تضحية في تربية ابنها وتنشيئه، حتى إذا استقام له كل شيء لم يجز أبويه إلا بالعقوق، وإذا هو يؤثر عليهما امرأته، وإذا هو لا يحس أو لا يكاد يحس ما بينه وبينهما من صلة وما يعطفهما عليه من عاطفة. وأما أسرة الزوجة فساخطة أشد السخط على هذا الزوج نفسه ؛ لأنه قد أخذ ابنتها من ناحية فقطع الصلة بين الأبوين وبين هذه الفتاة التي بذلا في سبيلها ما بذلا من جهد، واحتملا في سبيلها ما احتملا من تضحية. ثم هو لا يقطع هذه الصلة فحسب، ولكنه لا يزال يحب أسرته ويعطف على أمه، وإذن فهو لا يحب امرأته كما ينبغي! وإذن فهو متصل بأسرته القديمة أكثر مما هو متصل بأسرته الجديدة!
كل هذه المعاني معروفة شائعة، يحسها الناس جميعا، وهي من الآلام الطبيعية التي تقوم عليها حياتنا الاجتماعية مهما تختلف الأزمنة والأمكنة. وقد يكون من ألذ المباحث الأدبية التماس ما تركت هذه الخصومة بين الأسرة الجديدة والأسرة القديمة من الآثار الأدبية شعرا ونثرا في مختلف اللغات.
والمعروف أن المرأة أشد اتصالا بأسرتها وأكثر وفاء لأبويها وأحفظ للمودة من الرجل، وأنها في الوقت نفسه شديدة الغيرة من أسرة زوجها، تخاصم أمه خصاما شديدا، وما تزال جادة في هذا الخصام متى تنتهي إلى الفوز وتظفر لأسرتها الجديدة بالاستقلال. ولكنها لا تحاول أو لا تكاد تحاول تحقيق هذا الاستقلال بالقياس إلى أسرتها هي، فالصلة بينها وبين أبويها قوية، والمودة متصلة، وهي تظهرهما من أمرها على كل شيء وتستشيرهما في كل شيء، وزوجها يرضى حينا ويسخط حينا، ويظهر الغفلة حينا، وينتهي دائما إلى الإذعان.
وقد اختار كاتبنا من كل هذه المعاني ومن كل هؤلاء الأشخاص المنبثين في الأرض كلها طائفة ضيقة صغيرة، عرضها علينا في قوة ومتانة ودقة تفكير، وشيء من التعقيد جديد ما كنا ننتظره نحن، ولكنه رفع القصة من مستوى القصص العادية، كما يقولون، إلى مستوى القصص الممتازة بدقة البحث عن عواطف النفس وأهوائها؛ ذلك أن الكاتب محا أسرة الزوج محوا تاما، فنحن لا نعرف أباه ولا أمه، وإنما نعرفه هو وحده، ونعرفه قويا له من الإرادة حظ عظيم جدا، شديد السلطان على نفسه، راغب في التسلط على غيره، موفق في ذلك توفيقا عظيما، وهو في الوقت نفسه هادئ المزاج حاد العاطفة، هادئ في حياته العادية قلما يظهر عليه الاضطراب أو الغضب ، ولكنه حاد العاطفة. يحب فلا يستطيع أن ينظم حبه ولا أن يضبطه، ويريد فلا يستطيع أن يضعف إرادته ويحولها عن وجهها. وتقع الخصومة بين حبه وإرادته، فيندفع في الحب إلى أقصاه، وفي الإرادة إلى أقصاها. ولا يستطيع أن يغلب أحدهما على الآخر، فيظل موضوع النزاع العنيف بينهما، ولولا أن تعنى الظروف بإنقاذه لذهب ضحية هذا النزاع. وهو إلى هذا كله عالم طبيب يعنى بطبه عناية العلماء في المعمل، منصرف إلى تجاربه، محاول أن يستكشف من هذا العلم ما يغير وجه البحث عنه وطرق العلاج فيه. وهو قوي في علمه قوته في حبه وفي إرادته، فهو عبد لهذه الأشياء الثلاثة: الحب، والعلم، والإرادة. هذا الزوج هو «بيير ريجو».
أما امرأته «فريدريك»، فهي في السادسة والعشرين من عمرها، جميلة خلابة ككل نساء القصص، ولكنها قوية الإرادة أيضا، شديدة الكبرياء، إذا همت فليس ما يصرفها عن همها مهما تكن النتائج. وهي محبة قوية الحب، ليست أقل حبا من زوجها، كما أنها ليست أقل إرادة منه. ولكن إرادتها فيما يظهر أقوى من حبها، فهي تستطيع أن تسلو، بل هي تستطيع أن تألم، وتألم في غير حد. ولكن حبها هذا مقسم، فهي لا تحب زوجها وحده، وإنما تحب أباها مع زوجها. ولنلاحظ أنها فقدت أمها وهي حديثة السن، فعني أبوها بتربيتها عناية مضاعفة. ولنلاحظ أيضا أن أباها هذا شخص لا كالأشخاص: له حظ من قوة وبأس، هو طبيب عالم كصهر، ولكنه متقدم في السن إلى حد ما، يداني الخمسين، وهو على ذلك قوي له حظ من شباب، حلو الحديث فتان للنساء، مفتون بهن مقرب إليهن، يتهالكن عليه ويتفانين في حبه. وهو قد عني بابنته عناية شديدة، فأحبته ابنته حبا شديدا، وأحبها هو كذلك. ولكن في هذا الحب شيئا غريبا، فهو لا يشبه ما يكون بين الأب وابنته من البر والرحمة، وإنما يشبه ما يكون بين الزوجين من الحنان والفتنة. وآية ذلك أنك تبدأ في قراءة القصة وتمضي في الحوار بين الأب وابنته، فلا تشك في أنه حوار بين زوجين أو بين عاشقين، ويأخذك الدهش حين تستكشف بعد صحف من القصة أنهما أب وابنته.
فأنت ترى موضع الخصومة، وأنت تحس منذ الآن أن هذه الخصومة ستكون عنيفة؛ لأن المختصمين جميعا أقوياء، ولأنهم جميعا يحبون فيحسنون الحب، ويريدون فيحسنون الإرادة. وأنت ترى أن الأمر لو وقف عند ما نعرف من هؤلاء الأشخاص لما أمكن أن تنحل الخصومة بينهم إلا بشر وتضحية، فيجب أن يضحى بالأب في سبيل الزوجين، أو بالزوج في سبيل الأب وابنته، أو بالقوم جميعا.
ولكني لم أكشف لك من شخصية الأب إلا عن وجه واحد، وهناك وجه آخر يؤثر في حياة هؤلاء المختصمين؛ وإن كان شرا في نفسه وفي ظاهر الأمر بنوع خاص. هذا الرجل أثر مسرف في الأثرة، يدفعه حبه لنفسه إلى الكذب والتضليل واقتراف ما يشبه الإثم، وهو مضطر إلى ذلك اضطرارا، فقد رأيت أنه يحب ابنته هذا الحب الغريب، وهو يلهو مع طائفة من النساء، ولكنه يحب امرأة أخرى حبا طبيعيا حادا، كما تحب ابنته زوجها، وكما يحب هذا الزوج امرأته. وهذا الحب الطارئ هو الذي ينتهي بالقصة إلى أرقى منازل العنف، وهو الذي ينحدر بها، ولكن في رفق ولين ودعة، إلى حيث الرضا والطمأنينة واستئناف الحياة الهادئة في لذة وابتسام، وشيء مع ذلك من المرارة غير قليل.
وفي القصة، إلى هؤلاء الأشخاص، أشخاص آخرون، نذكر منهم «جاستون» أخا «فريدريك»، طالب مسرف في لهوه وعبثه، يلهو ويلهي النظارة بمزاحه وسخريته وجهله.
ونذكر منهم «كودريه» جد «فريدريك»؛ لأنه شيخ، رقيق، سمح، رزين، حسن النصح، قيم المشورة، محب لحفيدته وزوجها حبا مؤثرا حقا.
ونذكر منهم هذه الدوقة التي نراها في الفصل الأول، جميلة، فتانة، لعوبا، تعبث بأبي «فريدريك» وتعبث بنفسها أيضا، وتعنى بما يمكن وما لا يمكن؛ لأنها تحب الأستاذ الطبيب وتريد أن تلهو معه.
ثم نذكر آخر الأمر «مسز ونتون»، هذه الأميركية ذات الثروة الضخمة والجمال الرائع والإرادة القوية والحب العنيف أيضا. كان زوجها عالما مخترعا، وكان قد ضيف «جان لوي مارنييه » ابن «فريدريك» فأحبته وأحبها، ثم مات زوجها وأقبلت إلى باريس تريد أن تتزوج حبيبها، فيصطدم حبها بهذه الخصومة بين الأب والزوج والزوجة.
فأنت ترى إلى هذه القصة كيف اختار الكاتب موضوعها من هذه الموضوعات الشائعة المبتذلة، ثم لم يكد يخلق أشخاصها ويبعث فيهم الحياة وينفخ فيهم من روحه حتى صورهم أقوياء ممتازين، لهم من العواطف والأهواء ما للناس جميعا، ولكن مع شيء من الدقة والتعقيد ليس للناس جميعا. وما هي إلا أن يقف هؤلاء الأشخاص بعضهم لبعض حتى ترتفع القصة وتقوى، وتحس أنك في بيئة ممتازة من كل ناحية دون أن يمنعك هذا الحس أن تجد نفسك وعواطفك وحياتك ممثلة في هذه القصة من كل الوجوه أو من بعضها.
والآن وقد صورت لك هؤلاء الأشخاص تصويرا مقاربا، أستطيع أن أوجز لك خلاصة هذه القصة، ولكني ألفتك منذ الآن إلى أن هذا التلخيص لن يغني عنك شيئا، وإلى أنك لن تجد اللذة والمنفعة إلا في قراءة القصة نفسها. •••
نحن في بيت «جان لوي مارنييه» أول الليل. ينصرف القوم عن المائدة وقد أخذوا يأتون إلى غرف الاستقبال. وكان أول القادمين «كودريه» وحفيده «جاستون»، ونحن نرى الشاب يعنى بالشيخ عناية لا تخلو من غلو، ويمهد له ويقدم إليه البيبة، ويتلطف له في الحديث. ويحس الشيخ أن هذه العناية لم يرد بها وجه الله، وما هي إلا لحظة حتى نفهم أن الشاب في حاجة إلى الفرنكات لأنه يريد أن يشتري سيارة.
ثم يأتي «جان لوي» وقد قدم ذراعه إلى ابنته، فلا يكادون يتحدثون حتى يضيق الفتى ذرعا بأبيه الذي أخذ يسأله في الألمانية، وبأخته التي أخذت تظهر جهله بهذه اللغة، فينتحي بجده الشيخ ناحية ليلعب النرد. ونرى الأب يجلس إلى ابنته ويتحدثان، ونحن نرى الفتاة تعنى بأبيها، ولكنها عناية لا تخلو من دعابة وفكاهة. والرجل يجيب على هذه الدعابة والفكاهة بمثلهما، ثم لا يلبث هذا العبث أن يستحيل إلى جد، فقد ظهرت غيرة المرأة، ووقف الرجل موقف الدفاع عن نفسه؛ ذلك أن الخادم قد حمل إليه رسالة، تقرءها المرأة فإذا هي من الدوقة التي أشرت إليها آنفا. وهي تنبئ الأستاذ بأنها ستزوره بعد العشاء لتقص عليه أخبارا مهمة متصلة بانتخابه في المجمع العلمي، فلا تكاد «فريدريك» تقرأ هذه الرسالة حتى تثور وتأخذها غيرة حادة، وتحصي للرجل سيئاته وآثامه ولهوه، وتعلن أنها قد صفحت عن هذا كله لأنه لم يكن شيئا يذكر، إنما كان لهو ساعة أو بعض ساعة، وأنها لم تخف حقا إلا مرة واحدة حين ذهب الأستاذ إلى أحد المؤتمرات في أمريكا فأحب «مسز ونتون» امرأة مضيفة.
في هذه المرة خافت حقا، وأحست أن الأستاذ سيفلت من يدها. وهي ثائرة، فقد كانت تقدر أنها ستنفق مع الأستاذ شطرا من الليل في خلوة لذيذة ينصرفان فيها إلى العمل، تقرأ هي المسودات ويصحح الأستاذ. وانظر إليها كيف أجلست الأستاذ في مجلس حسن، وجلست هي بين يديه في شيء من الظرف والدعابة. ولكن هذه هي الدوقة تنذر بمقدمها! ... لن يكون هذا، وهي تأمر الخادم بأن يسرع إلى التليفون، فينبئ الدوقة بأن الأستاذ مريض لا يستطيع أن يلقى أحدا، والأستاذ يعارض ويمانع، ولكنه مضطر إلى الإذعان.
على أن الخادم لا يلبث أن يعود ويعلن في أسف أن الدوقة وزوجها الشيخ قد خرجا من قصرهما وهما في الطريق. فانظر إلى ثورة المرأة وحدتها، وانظر إلى الأستاذ يهدئها ويتوسل إليها في ألا تسيء استقبال الدوقة. وهذه هي الدوقة تقبل مسرعة ومعها زوجها، فلا تكاد ترى الأستاذ حتى تتحدث معه بلسانين: لسان يسمعه الناس جميعا وفيه أحاديث عادية، ولسان آخر يسمعه الأستاذ وحده وفيه مودة وتعريض بمواعيده. و«فريدريك» تتحدث إلى الأستاذ بلسانين أيضا: لسان عادي يسمعه الناس، ولسان آخر فيه نذير وتحذير. وانظر إلى هاتين المرأتين تتقارضان جملا ظاهرها فيه الود والتحية وباطنها فيه البغض والعداء. وقد أقبل «بيير ريجو» زوج «فريدريك» فتنتهز الدوقة هذه الفرصة وتطلب إلى الأستاذ أن يرافقها إلى «البيانو» لتعلب هي ويغني هو، فهي تحب صوته الرخيم ولا سيما حين يغني القطعة الروسية.
ويحاول الأستاذ أن يعتذر لأن ابنته تلح عليه في الاعتذار من طرف خفي، ولكنه لا يفلح، فهو يذهب إذن إلى البيانو حيث يسمع غناؤه من بعد. وفي هذه اللحظة تخلو «فريدريك» إلى زوجها، فلا يكادان يتحدثان حتى نحس أن «فريدريك» مشغولة بأبيها وصاحبته، وأن زوجها يرى ذلك فيغتم له ويثور، ولكنه يكظم غمه وثورته، ويلح على امرأته في أن تتلطف بالدوقة ولا تظهر هذه الغيرة المنكرة. وامرأته منصرفة عنه، ماضية في الإعجاب بصوت أبيها والسخط على هذه المرأة، حتى يعود الأستاذ ومعه صاحبته، فتلتقفه ابنته التقافا، وتمضي الدوقة إلى بيير تتحدث إليه، وتنظر معه طائفة من الصور في دعابة وتلطف. و«فريدريك» منصرفة إلى أبيها تلومه وتداعبه، وتلاحظ في الوقت نفسه زوجها والدوقة، وتلفت أباها إلى هذه المرأة التي تداعب زوجها وتعبث بشعرها في وجهه، والأستاذ مضطرب بين ابنته وصاحبته.
ثم تنهض الدوقة للانصراف، ويخرج الأستاذ وابنته لتشييعها، ويخلو «بيير» إلى «كودريه»، فنفهم من حديثهما أنه ساخط على حميه شديد الغيرة منه، وأنه سيكون له معه شأن بعد حين. فإذا عاد الأستاذ وابنته تعجل «بيير» فعرض عليهما موضوع هذا الشأن الذي يريد أن يتحدث فيه، وهو أنه ضيق الذرع بباريس، وبمعاملها، وقد سنحت له فرصة تمكنه من العمل الجدي المنتج بعيدا عن باريس؛ ذلك أن غنية أمريكية هي «مسز ونتون» قد أنشأت في أحد الأقاليم مستشفى عظيما للسل، وفيه معامل حسنة النظام غنية بالأدوات، وقد عرض عليه أن يعمل في هذا المستشفى فقبل.
ونحن نفهم أن صاحبنا إنما يريد أن يترك باريس لا حبا في العلم طبعا، ولكن ليستأثر بامرأته بنوع خاص، فلا يكاد يعرض هذا الأمر حتى يثور الأستاذ ثورة عنيفة، ويعلن أن ابنته لن تترك باريس. وتمالئه ابنته في هذا، وتسلك لإقناع زوجها طرقا مختلفة، فيها اللين والشدة، وفيها الاستعطاف والإنذار فلا تفلح. ويوشك الأمر أن يفسد بين القوم لولا توسط الشيخ، ولولا أن «بيير» قد نهض للانصراف، فإذا خلا الشيخ إلى صهره حاول إقناعه وحمله على أن يدع ابنته تترك باريس فلا يوفق. وهنا حوار بديع بين الشيخ وصهره في الصلة بين الآباء والأبناء، وما يجب على الآباء من التضحية بأنفسهم لأنهم لا يملكون أبناءهم، ولا ينشئونهم للذة والمتاع، وإنما ينشئونهم لأنفسهم قبل كل شيء. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فقد مضت ساعات قليلة على ما كان في الفصل الأول. ونحن في بيت «بيير» في غرفة النوم، وقد أوت «فريدريك» إلى سريرها والخادم تحدثها فتنبئها بأن سيدها يعمل في مكتبه، وقد أمر فأعد له خادمه مضجعا في المكتب، فيقع هذا الحديث من نفس «فريدريك» موقعا تحس أنه مؤلم. وانظر إليها وقد صرفت الخادم ولكنها لا تستطيع النوم، فهي قلقة مضطربة تتسمع حركات زوجها في مكتبه. ولهذه اليقظة المضطربة من هذه الظلمة المدلهمة في نفسها أثر قوي، ولكن بابا يفتح ونورا يغمر الغرفة، وقد ظهر الزوج فتتكلف صاحبتنا النوم، وكأنها قد استيقظت فزعة. ولكن زوجها يعلم أنها لم تنم، وقد أقبل يعتذر إليها ويتلطف بها ويستغفر مما قدم، واطمأنت هي إلى ذلك، وصفا ما بين الزوجين الحبيبين وأطفئ من النور أكثره، ولم يبق منه إلا شيء ضئيل يلائم نجوى المحبين آخر الليل، وما يكون بينهما من عتاب واستعطاف ثم رضا واطمئنان. وهما في ذلك وهو يشكو غيرته من أبيها، وهي تدافعه في لطف ورقة. ولكن التليفون يدق فيحاول أن يمنعها من النهوض له فلا يوفق، وقد نهضت إلى التليفون فإذا أبوها قد عاد، وهو يسأل عنها ويلح عليها في ألا تسافر مع زوجها، وهي تجيبه بحديث متقطع يظهر فيه أنها مقسمة بين الرجلين، تحب زوجها وتريد أن ترضيه، وتحب أباها وتكره أن تفارقه، حتى إذا فرغ هذا الحديث بعد مشقة عادت إلى زوجها تريد أن ترضيه وتصل معه إلى اتفاق معقول. ولكن لم يبق إلى ذلك من سبيل، فقد دخل الأب بينهما فأفسد كل شيء. وكيف بهذا الرجل يدخل بين الزوجين حتى آخر الليل وحتى أوقات الصفو والرضا، وقد انتهت الثورة بصاحبنا إلى الظلم، فهو ينكر على امرأته أنها تحبه، وهو يسرف في ذلك، وهي تتلطف حينا وتشتد حينا، حتى يصل الأمر بهما إلى أقصاه. فهو يعرض عليها السفر، وهي تأبى، وهو يعلن أنه مسافر وحده، وهي تنذر. وهما في هذا وإذا الخادم يطرق الباب، يتحدث إلى سيده بأنه قد أعد له أمتعته، وبأن القطار سيسافر ساعة كذا. فإذا سمعت «فريدريك» هذا الحديث وفهمت أن زوجها كان قد أزمع السفر دون أن يظفر برضاها، وقع ذلك في نفسها موقعا أليما، فغلت في العناد والإصرار، وغلا هو أيضا في اللجاج، وافترقا متغاضبين وانسدل الستار، وإنا لنسمع زفرات هذه المحبة المعذبة بين حبها وكبريائها، بين أبيها وزوجها. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في بيت «جان لوي مارنييه» أول النهار، نرى «فريدريك» جالسة إلى مكتب في يدها ورق وقلم كأنها تحصي شيئا، وقد دخل عليها أخوها الشاب، وفهمنا من حديثهما أن هذا اليوم هو يوم الانتخاب في المجمع العلمي، وهي تحصي الأصوات التي قد يظفر بها أبوها والأصوات التي قد تخطئه. وهي تلاحظ لأخيها أن الأستاذ قد عاد متأخرا في الليلة الماضية وأنه متعب، وأنها قد أمرت الخادم ألا يوقظه إلا إذا تقدم النهار. ولكنها لا تكاد تفرغ من هذا الحديث حتى يدخل الأستاذ كأحسن ما كان قوة ونشاطا مستعدا للخروج، فتلقاه ابنته في دعابتها وفكاهتها، ويلقاها هو مثل ذلك. وانظر إليها تطلب إليه يومه وليلته تريد أن يفرغا من المهنئين بعد الانتخاب، وأن يفلتا إلى أحد المطاعم ثم إلى أحد الملاعب، وهو يجيبها في غموض: «سنرى ...»
ويبدأ فيعلن إليها أنه لن يتغدى معها، وينتحل لذلك المعاذير، وهي مغضبة في دعابة. ولكن جدها قد أقبل من مكان بعيد ليشهد يوم الانتخاب، فينفلت الأستاذ ويترك ابنته مع الشيخ. ولا تكاد المرأة تتحدث إلى جدها حتى يذكر «بيير»، ونرى من الحديث أنها تألم ولكنها تكظم ألمها، وهي غير موفقة في هذا الكتمان: أليست قد أحصت الأيام مذ سافر زوجها؟ أليست مغضبة لأنه لم يكتب إليهما كتابا واحدا وقد مضى على سفره نيف وثلاثون يوما؟! أليست كانت تنتظر أن تراه في باريس يوم الانتخاب؟! هي مغضبة واجدة، وكانت تحب أن ترى زوجها لتتفق معه على الطلاق، فليس إلى استمرار الزوجية من سبيل، وقد أنبأها المحامي أن قضية الطلاق لا تحتاج إلى أكثر من شهر إلا أن يقاوم زوجها، وما تظن أنه يقاوم. فإذا أراد الشيخ أن ينبئها بأنها ما زالت تحب زوجها، غضبت وزجرت جدها كأنها تشفق من هذا الحديث.
ولكن الخادم قد دخل ومعه بطاقة. تنظر فيها فإذا هي بطاقة «مسز ونتون»، ويقول الخادم إن هذه السيدة تلح في أن ترى مولاته، فتأذن لها وتخلو إليها. فتسألها هذه: ما بالها لم تجب إلى دعوتها وقد طلبت إليها الزيارة غير مرة؟ فتعلن إليها «فريدريك» دهشة أنها لم تتلق دعوة ولم تعلن بوجودها في باريس. فتسألها: ألم يخبرك الأستاذ بأني في باريس منذ حين، وأني أراه كل يوم وكل ليلة، وأني أكلفه دعوتك إلى زيارتي، وأني معتزمة أن أسافر معه إلى روما، وأن زوجي قد مات، وأن الأستاذ يريد أن يتخذني له زوجا، وأننا نفكر في أن نصلح بينك وبين زوجك؟! وتقع هذه الأنباء كلها من «فريدريك» موقع الصاعقة، ويظهر لهاتين المرأتين أن الرجل قد كذبهما وعبث بهما، فتتفقان فجأة على مقته والسخط عليه، وتنشأ بينهما فجأة مودة قوية مصدرها فيما يظهر تشابههما في الحب والإرادة والصراحة واستقامة الخلق. وهما في ذلك إذا الأستاذ قد عاد، فإذا رأى صاحبته أخذه الاضطراب ولم يحسن الحديث، ثم تتركه صاحبته لابنته، فيكون بينهما موقف عنيف مؤلم، يظهر فيه مقدار ما لحب النفس من التأثير في حياة الناس: هذا الرجل الذي كان يحب ابنته ويسرف في حبها حتى ليضحي بها في سبيل نفسه، وهذه المرأة التي كانت تحب أباها وتسرف في حبه حتى لتضحي بزوجها في سبيل هذا الحب، وقد وقفا الآن موقف الخصومة وجها لوجه؛ لأن امرأة أخرى قد دخلت بينهما فاستأثرت بقلب هذا الرجل. وهذه بنته تتهمه بالكذب والقسوة والأثرة والخداع، وهو يتهم ابنته بالعقوق والإثم.
وهي تعلن إليه أنه لن يتزوج من المرأة، وهو يعلن إليها أنها ستعود إلى زوجها، وسيقترن هو بهذه المرأة، كل ذلك في قوة وعنف مؤثرين حقا.
ويقبل الشيخ فينقطع هذا الحوار العنيف، وتنصرف الفتاة، فإذا خلا الرجلان قال الأستاذ لحميه: يجب أن تسافر وتعود ومعك «بيير»، فيجيب الشيخ: إن «بيير» في باريس وهو في بيته، بين هذه الأشياء التي تمثل حبه يألم ويأسى. فيقول الشيخ: اذهب فأنبئه أن امرأته تنتظره، فإذا تردد الشيخ وألح عليه الأستاذ وأقسم إنه لصادق، فينصرف الشيخ مسرورا مترددا معلنا أن الأمر متصل بسعادة حفيدته، فيقول الأستاذ وكأنه يحدث نفسه: وسعادتي أنا أيضا ...! •••
فإذا كان الفصل الرابع فلم يمض على هذا كله إلا دقائق، ونحن نرى «فريدريك» متهيئة للخروج، ولكن الخادم ينبئها أن زوجها يستأذن، فتأذن له في دهش وحيرة تقدرهما أنت قدرهما. فإذا رأته سألها: أأنت قد دعوتنا؟ فتجيب في دهش: نعم! ... ثم تقبل عليه معتذرة مستعطفة متلطفة، ونحس نحن أن هذا كله يهز الشاب هزا عنيفا، وأنه لو استسلم لعواطفه لقبل ورضي بل لاعتذر واستعطف. ولكن له إرادته وكبرياءه، فهو يكظم تأثره ويظهر الشك، حتى إذا فرغت امرأته أو كانت تفرغ، أعلن إليها في صراحة ملؤها الجفوة والحب معا أنها إنما تستعطفه لأن أباها يريد أن يتزوج؛ لأنها تحس أنها ستصبح وحيدة، فهي تعود إلى زوجها حتى إذا عاد إليها أبوها رجعت إليه. وهو دهش لأنها لا تعلم من أمر هذا الزواج شيئا، ولكن دهشه سيزول؛ فهذا الأستاذ قد أقبل محزونا منكسر النفس قد ظهر عليه الضعف والاستسلام، فيخبر بأنه هو الذي دعا «بيير»، ثم يخبر بأنه فاز في الانتخاب. ولكنه على ذلك محزون منكسر النفس؛ وذلك أن حبيبته قد قطعت ما بينهما من صلة، وأعلنت إليه أنها تاركة باريس مساء اليوم، وأبت عليه حتى أن يودعها بل أن يراها مرة أخيرة قبل سفرها، وهو يلوم ابنته لأنها مصدر هذا كله.
ثم انظر إليه يستعطف ابنته ويتوسل إليها، فهي وحدها تستطيع أن تغير رأي هذه المرأة، وهي وحدها تستطيع أن تردها إليه فترد إليه الغبطة والسعادة والحياة. وهو يعتذر ويلح في الاعتذار، ويعترف بأنه كان أثرا آثما مسرفا في حب نفسه، ولكنه لم يكن يحس هذا كله ولا يقدره، وابنته لا تجيبه إلا في قسوة وعنف حتى يرق «بيير» نفسه ويلومها على ذلك في لطف. وقد انتهى الأمر بهؤلاء الناس إلى حرج ليس بعده حرج؛ فأما الأستاذ فمذعن مستسلم بعد أن ظهر له أن ابنته لن تشفع له، وأما «بيير» فمستمسك بكبريائه، لم يقتنع بعد بأن امرأته تحبه هذا الحب الذي يمكنها من التضحية بأبيها، وأما «فريدريك» فقد أعلنت في حزم وقسم أنها تاركة هذا البيت مساء اليوم ولن تعود إليه مهما يكن من شيء سواء أتم الصلح بينها وبين زوجها أم لم يتم. وانظر إلى استسلام الشيخ وقد نهض معلنا أنه ذاهب إلى الدوقة لأنها جمعت إلى الشاب طائفة من المعجبين به يهنئونه بالفوز في الانتخاب وهو يداعب صهره في حزن فيطلب إليه ألا يهزأ بشيوخ المجمع العلمي.
وقد أقبل صديق «بيير» يتعجله ليسافرا، فيتردد قليلا ثم يجيب بأنه لن يسافر الآن. وتقع هذه الجملة من نفس «فريدريك» الموقع الذي تقدره أنت، فقد أحست أن زوجها قد رضي وثاب إليها، ولكن زوجها يسألها: ألا ترين أن أباك يحب هذه المرأة حبا مبرحا؟ فتجيب: بلى. ولكنه لا يستحق هذه المرأة، فيلح. وانظر إليه يستعطفها ويتوسل إليها في أن تشفع لأبيها عند حبيبته، فتقبل كارهة، ولكن على أن يشاركها في هذه الشفاعة لتعلم هذه المرأة أن سعيهما صادق وأنهما قد تصافيا حقا.
مارس سنة 1927
سعادة اليوم
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «إدمون جيرو»
وليس ينبغي أن يخدعك هذا العنوان، فتقدر أنك ستقرأ قصة خلقية اجتماعية تعرض للسعادة وتصور الناس لها في هذا العصر، فليس بين القصة التي نلخصها في هذا الفصل وبين هذا الموضوع صلة ما. وإنما «سعادة اليوم» اسم أداة من هذه الأدوات التي تتخذ في الدور، نستطيع أن نطلق عليها هذا الاسم العامي المبتذل «المكتب»، ونريد به هذه المائدة التي تتخذ للكتابة، وفيها أدراج كثيرة تحفظ فيها السيدات أوراقهن، وما لهن من هذه الأدوات الدقيقة المتنوعة. «فسعادة اليوم» في هذه القصة ليست شيئا غير هذا؛ هو لفظ أطلق في عصر من العصور الفرنسية وفي طبقة من الطبقات الفرنسية على هذه الأداة الشائعة. وقد أعطت هذه الأداة الشائعة اسمها لهذه القصة؛ لأنها كانت تحتوي سرا من أسرار أسرة، فاستكشف هذا السر، وكان استكشافه مصدر طائفة من الأحداث والانفعالات، عبثت بطائفة من القلوب والنفوس عبثا عرضه علينا الكاتب في قوة ودقة ومهارة خليقة بالإعجاب.
ولعلك لم تنس بعد هذه القصة البديعة التي حدثتك عنها؛ قصة «الفؤاد المقسم». ولعلك لم تنس بعد هذه العواطف المختلفة التي تتنازع القلوب وتعبث بالنفوس فيما رأيت من قوة وعنف. فقصتنا في هذه المرة تشبه تلك القصة من هذه الناحية، فهي قصة جهاد عنيف بين عواطف قوية حادة تتنازع قلبا كريما بريئا من الشر والإثم، ولكنه في الوقت نفسه متأثر أشد التأثر بالحياة الاجتماعية وما توارث الناس من عادة ورأي وحكم، وما تواضعوا عليه من خلق ونظام. هي قصة نفسية لأنها تعرض عليك نفسا إنسانية في ظرف من هذه الظروف الحرجة العسيرة التي تكشف عن دخائل الإنسان وتجرده - أو تكاد تجرده - من كل هذه اللفائف التي تلفه بها الحياة الاجتماعية. فهي قصة اجتماعية؛ لأن هذه النفس التي يعرضها عليك الكاتب إنما تألم وتحس ما تحس من عذاب، وتخضع لما تخضع له من حرب وجهاد، بحكم الأوضاع الاجتماعية المتناقضة، وبحكم الأحداث الاجتماعية التي تحدث في حياة الناس من حين إلى حين، فتكونهم كما تحب لا كما يحبون، وتصورهم كما تريد لا كما يريدون. وهي قصة خليقة أيضا؛ لأن هذه النفس حين تتألم وتشعر بالعذاب، مضطرة إلى أن تظهر شيئا من الجلد والقوة على المقاومة، وهي لا تقاوم عبثا وإنما تقاوم فرارا من شر وحرصا على خير ونفورا من الأذى ورغبة في البر.
وهي بعد هذا كله قصة لم تنس المثل الأعلى الذي يضعه الأفراد والجماعات أمامهم، حين يحبون وحين يختلفون في أمورهم المتباينة.
هي هذا كله، وهي إلى هذا كله نموذج من نماذج اللفظ المختار المنتقى، والحوار الدقيق اللطيف، والمعاني الجيدة التي فكر فيها صاحبها فأحسن التفكير، ونسقها فأجاد التنسيق. وقد يستطيع هذا الفصل من فصول التمثيل الفرنسي أن يغتبط بعض الاغتباط، فهو غني بهاتين القصتين، وهو خير من فصول أخرى سبقته، ولم يظهر فيها كما رأيت في الشهر الماضي إلا لون من هذا القصص التمثيلي الفاتر الذي لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء.
ولأعرض عليك أشخاص هذه القصة كما تعودت أن أفعل بإزاء القصص الأخرى، فقد يكون هذا العرض أيسر سبيل إلى فهمها وتذوقها. ولكني حائر لا أدري بأي هؤلاء الأشخاص أبدأ، فالظاهر أن لهذه القصة بطلا ممتازا تدور حوله، ولكن أشخاصها جميعا أبطال ممتازون. وما أدري في حقيقة الأمر إلا أن لكل واحد منهم حياته القوية المؤثرة الممتازة؛ أأبدأ بهذا الشاب الذي تدور القصة كلها حوله والذي يظهر أنه البطل الممتاز فيها، والذي يظهر في الوقت نفسه أنه ضحية أبيه وأمه وعصره؟! ولم لا؟ فلا بد من أن نبدأ بواحد من هؤلاء الأبطال، فليكن هذا الشاب. •••
جان بليسيه شاب قد ناهز من عمره الثلاثين، جميل المنظر، قوي، عذب الخلق، حلو الحديث، رقيق القلب. ولكنه في الوقت نفسه بطل من أبطال الحرب الكبرى، أدركته ولما يكد يدع المدرسة، فيدخلها جنديا، ولكنه أبلى فأحسن البلاء، وتقلب في مراتب هذه الخدمة العسكرية العاملة وذاق آلامها ولذاتها جميعا، حتى انتهى به الأمر إلى أن أصبح ذا مرتبة عالية في فرقة الطيران. وقد أحسن البلاء في هذا اللون من ألوان الحرب، وجر عليه ذلك خطوبا وألوانا من الشرف، فرأى الموت وصافحه أو كاد، واضطر إلى المستشفى، وتحلى صدره بالأوسمة المختلفة. ثم انجلت عنه غمرة الحرب، فإذا هو يعود إلى حيث يقيم أبواه في أحد الأقاليم الفرنسية، ويعيشان عيشة ثروة ونعمة وعمل وهدوء. يعيشان في قصر فخم من قصور العصور الوسطى، اشترته الأسرة حين أثرت، ولكن هذا القصر وما حوله من الأرض الواسعة مهملان أو كالمهملين؛ لأن رئيس الأسرة منصرف عنهما إلى مهنة الطب التي يحبها ويكلف بها. فإذا عاد الشاب إلى أسرته، أسرعت ففكرت في أن تكل إليه تدبير هذه الثروة، على أن يكون ذلك عمله في حياته، وأسرعت فاختارت له فتاة حسناء لتكون زوجه. وظهر اطمئنان الفتى إلى هذا النوع من الحياة، فعني بالقصر والأرض، وشغف بالفتاة وشغفت به الفتاة أيضا، وأخذا يستقبلان الحياة في ابتسام وبهجة، لولا «سعادة اليوم» التي حدثتك عنها في أول الفصل، والتي ستظهر لهذا الفتى أن نشاطه وسروره وابتهاجه للعمل في هذه الحياة السليمة ليست طبيعية، وإنما هي علة يتعلل بها كارها، وإنما حياته الحقيقية في الحرب.
وهذا الشاب من أبوين مختلفين أشد الاختلاف في الطبقة والتربية، فأمه من أسرة شريفة بعيدة في الشرف، تحفظ نسبها في القرون الوسطى، وتذكر ما كان لأجدادها من بلاء في تاريخ فرنسا ومن مكانة في قصور ملوكها. وأم هذا الفتى قد ورثت عن أسرتها الشريفة هذه كل خلالها، فهي مترفة مهذبة رقيقة ممتازة، وقد أورثت هذه الخلال كلها ابنها الشاب.
أما أبوه فمن طبقة أخرى، من هذه الطبقة التي كانت مهضومة مظلومة قبل الثورة، والتي اكتسبت الحرية بعد الثورة، وجدت فأضافت إلى الحرية ثروة وقوة واستئثارا بالحكم. وفيها خلالها، فهي نشيطة عاملة صريحة شريفة الخلق، وفيها عيوبها أيضا فهي غليظة خشنة قليلة الحظ من التهذيب والرقة والامتياز، لا تتنزه عن صغائر تعافها الأرستقراطية. كان جد هذا الفتى يعمل في البريد، ولكنه جد حتى أثرى، وأحسن تربية ابنه حتى أصبح ابنه وزيرا في الإمبراطورية الثالثة، وترك هذا الوزير ابنا أحسن تربيته، فهو طبيب وهو أبو هذا الشاب.
وهذا الشاب متأثر - كما قلنا - بما ورث عن أمه، نافر أشد النفور من أخلاق أبيه، فهو لا يكاد يحتمل أباه منذ رجع من الحرب، وهو يألم لهذا ولكنه لا يجد إلى اتقائه سبيلا، وأبوه يألم له أيضا، ولكنه يروض نفسه على هذا الألم، وقد علمته الحياة أن يروض نفسه على الألم ؛ فقد نشأ كما رأيت ابنا لهذا الوزير، وأدركته حرب السبعين وما تبعها من الهزيمة، فتركت في نفسه ما تركت في نفس الفرنسيين جميعا من هذه الآثار المؤلمة التي يمثلها ضعف العزيمة والاستسلام ثم الطمع والشك. وكان أبوه ضخم الثروة، فزوجه من امرأته الشريفة الفقيرة، وجد هذا الرجل في مهنة الطب حتى أحبها علما وعملا، واتخذها سبيلا إلى البر بالفقراء والإحسان إلى البائسين. وهو شديد الإعجاب بأسرته وجدها ونشاطها، لا يكره مع ذلك أن يزدري الأشراف وخمولهم وكبرياءهم، ولكن الحياة كانت تدخر له ألما هو الذي جعله بطلا، كما أنه أسبغ البطولة على امرأته أيضا. وليس من الخير أن نتعجل فنكشف لك عن هذا الألم، فهو قوام الشطر الأول من القصة.
فلندع هذه الأسرة، ولنذكر الشخص الرابع من أشخاص القصة، وهو «جرين داجوزون» خطيبة جان. فهي فتاة جميلة فتانة ولكنها فقيرة، هي من أسرة نبيلة، ولكن أباها كان سيئ السيرة والخلق، وأمها كانت تعسة سيئة الحال. فأما أبوها فقد مات، وأما أمها فقد بقي لها من هذه الحياة السيئة ضرب من الاضطراب العقلي والخلقي، يمثله الغرور والشره والتكلف وما إلى هذه الأخلاق مما يجعل الإنسان موضع السخرية والإشفاق في وقت واحد. ولكن الفتاة لم تتأثر بشيء من هذا، وإنما نشأت نبيلة ذكية القلب جلدة قوية الإرادة، قادرة على المقاومة، ولكنها رقيقة محبة أيضا. ولم تكد تعرف هذا الفتى حتى أحبته حبا قويا عنيفا، ولكنه شريف ممتاز يشبه حب الفتى لها.
هؤلاء هم الأشخاص، لم أعرض عليك من أمرهم إلا ما يمكن أن يعرف قبل أن تحدث حوادث القصة، فتكشف من نفسياتهم عما كان مخبوءا. •••
فإذا كان الفصل الأول، فنحن في أعلى القصر في هذه الغرف التي تتخذ ملقى للأدوات العتيقة بعد أن يستغنى عنها ويزهد فيها، فتترك في هذه الغرف مهملة وديعة في أيدي الزمان يفنيها قليلا قليلا، وتهمل معها هذه الغرف، قد أغلقت أبوابها من دون هذا المتاع كما تغلق المقابر دون ما تودع من أجسام الموتى. وقد صعد جان إلى إحدى هذه الغرف، ففتح أبوابها ونوافذها للهواء والضوء، وأخذ يتفقد ما فيها من متاع في إعجاب وشغف. وما هي إلا أن أخذ ينسق من هذه الغرفة وما فيها مكانا يستقبل فيه خطيبته وأمها وأبويه لتناول الشاي. وكانت هذه الفكرة قد خطرت لخطيبته حين علمت بأن في أعلى القصر أدوات قديمة من متاع القرون الوسطى. فأقبل الفتى يهيئ لها هذه الغرفة، وهو يحاور في ذلك خادمه حوارا لذيذا خفيفا، فهو كلف بهذا المتاع القديم لأنه يمثل حياة آبائه، ولكن خادمه منصرف عن هذا المتاع لأنه عتيق قد عمل فيه الفناء، ولأنه يؤثر الجديد الذي لم ينله البلى. وانظر إلى الغرفة قد نسقت تنسيقا حسنا، وإلى طاقات الزهر قد وضعت في هذه الآنية القديمة. ثم انظر إلى الفتاة قد أقبلت، فما تكاد تنظر إلى هذه الأشياء حتى تفتن بها وتمضي في الإعجاب والثناء. وما كان أخلقها أن تمضي في ذلك إلى غير حد لولا أنها تحب صاحبها، وصاحبها يحبها، وخلوتهما ضيقة محدودة، فلا بد من أن يتحدثا في الحب، ولا بد من أن يتبادلا هذه القبل التي يفتن الخطيبان في انتهاز الفرص لها.
وهما يتحدثان في حبهما في خفة ورشاقة وجد أيضا، ونحن نحس أننا لسنا أمام حب فاتر أو نزق، وإنما هو الحب القوي الحاد الذي لا يكاد يدخل القلب حتى يملأه ويستأثر به ويندفع منه إلى جميع الملكات والعواطف والحواس فيخضعها لسلطانه. هذا الحب الذي كله ثقة وأمل ورغبة واحترام وطمأنينة. وهما في هذا الحديث وفي هذا الحب وإذا الأسرة قد أقبلت، فلا ألخص لك ما يدور من حوار حول المتاع ثم حول الشاي، فقد تستطيع أن تستغني عن هذا كله، وإنما ألاحظ أن الأب قد أقبل فرحا مبتهجا فتغنى مع الفتاة بعض أغاني الأقاليم. وكانت الفتاة بها مبتهجة وأمها كذلك وامرأته أيضا، إلا الفتى فقد غاظه ذلك وضاق به ذرعا، ولم يستطع أن يخفي ضيقه، بل عرض باللوم لأبيه، وقبل الشيخ هذا اللوم في ألم وغيظ وحزن وسخرية . وانقضى الشاي بين الضحك والحزن تتقيد به أم الفتى ما استطاعت.
ثم يعلن الشيخ إلى الفتاة أن في القصر غرفا كهذه الغرف، فيها متاع أقدم من هذا المتاع وأجمل. فترغب الفتاة في أن ترى، ويقبل الشيخ على أن يظهرها على هذا المتاع. وينصرفون جميعا إلا الخطيبين، تخلفا فيما يظهر ليختلسا كلمة أو قبلة، والفتاة تدعو صاحبها إلى أن يتبعها إلى حيث ترى المتاع، وهو يأبى ويتعلل، وما هي إلا أن تفهم من تعلله أنه لا يريد أن يرافق أباه، وأنه ضيق الذرع بأبيه وطبقة أبيه وما لهذه الطبقة من عادة وما فيها من عيب، وأنه شديد الإعجاب بأمه وطبقة أمه وما فيها من ترف ولين ورقة. وانظر إليه وقد استكشف هذا المتاع القديم الذي كان يسمى «سعادة اليوم»، فهو يظهر الفتاة على محاسنه وما فيه من رشاقة فنية، وهو يوازن لها بين هذه الأداة الرشيقة التي تمثل ذوق أمه وأسرتها الشريفة، وبين تلك الأدوات الغليظة التي يمتلئ بها القصر والتي تمثل ذوق هذه الطبقة الوسطى التي سادت بعد الثورة.
وقد تركته الفتاة، فعمد إلى هذا المتاع، وأخذ ينظر في أدراجه ويستنشق رائحتها في شغف وفتنة؛ لأن هذا المتاع قد كانت أمه تستخدمه في شبابها، فهو إنما يتنسم شباب أمه. وقد جذب إليه درجا فتنسمه، ثم حاول أن يرده فيستعصي عليه كأن شيئا يعترض دونه، فينظر فإذا حزمة من الورق، فيسرع إليها متلهفا ويتردد ثم يفضها، فإذا رسائل تنتثر، فيسرع إلى هذه الرسائل يجمعها ويخفيها في جيبه، ولكنه يسمع صوتا فيبالغ في السرعة، ثم ينهض فينصرف وقد أقبل أبوه فرآه موليا، ونظر فإذا رسالتان على الأرض قد أخطأهما فيسرع إليهما فيدسهما في جيبه. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فقد مضت أيام على ما قدمت لك، والقوم مجتمعون في غرفة المائدة بعد العشاء ومعهم الخدم جميعا كأنهم في حفل منزلي، والشيخ قائم أمام نار الموقد المتأججة يشوي فيها بنفسه «الشاه بلوط» أو (الكاستينا كما يسمونه الآن). وهو يقص على الفتاة وأمها من عادات الإقليم وأحاديثه ما يضحكهما ويلذهما. وهم جميعا مبتهجون إلا الشاب، فقد تنحى وانصرف إلى كتاب كأنه ينظر فيه، وإلا أم الفتى فهي قلقة لما تشاهد من ضيق ابنها وسوء الحال بينه وبين أبيه. وقد انتهى عبث الجماعة إلى آخره، وأعلن الشيخ أن ستجمع طائفة من هذا «الشاه بلوط» الذي يشوى، تخرج من الجمر ثم يوضع عليها غطاء ما، ثم تجلس عليها أصغر الحاضرين سنا. وقد قبلت الفتاة، والخدم مبتهجون، وأمها مترددة متكلفة. ولكن الفتى يترك كتابه وينهى خطيبته عن هذا العبث فتأبى، فيلح فتزداد إباء، فيبالغ في الإلحاح فتغضب. ويفسد الأمر بينهما بعض الشيء، وتنصرف غير حافلة بأمها ونذيرها، وقد أعلنت أن خطيبها يجب أن يعرفها حق المعرفة، وأن يعلم قبل أن يتخذها له زوجا أن لها إرادة، وأنها قد تغلو في هذه الإرادة أحيانا، وقد فسد الحفل وانقلب السرور شيئا يشبه الحزن.
ومضى كل إلى مضجعه، ويظل المسرح خاليا حينا، ثم إذا الشاب قد أقبل إلى المكتبة يتلمس فيها شيئا، فيستخرج مجمعا للصور وينظر فيه كأنه يبحث عن صورة بعينها، حتى إذا انتهى إليها اختلسها ودسها في جيبه. وما يكاد يفرغ من هذا حتى يحس صوتا، فيرد مجمع الصور ويظهر أنه يأخذ كتابا. وقد أقبل أبوه، فيسأله ماذا يصنع؟ فيجيب الفتى أنه قد امتنع عليه النوم، فأقبل يلتمس كتابا يستعين به على الأرق. يجيب الشيخ: وهذه حالي، فلنتحدث قليلا.
وما يكادان يبتدئان الحديث حتى يصل الشيخ إلى ما كان يريد، فهو يريد أن يتعرف من شأن ابنه مصدر هذا الضيق الذي ظهر عليه منذ أيام، والذي أقلق أمه ونغص عليها الحياة، أو قل إن الشيخ يعرف مصدر هذا الضيق ولكنه يريد أن يتحدث فيه إلى الفتى. أما الفتى فيتكلف الجواب ويحتال في اتقاء الشيخ، ويعلن إليه أنه ضيق الذرع بهذه الحياة التي يحياها بعد الحرب والتي لا عمل فيها، وأنه يريد أن يعمل وأن يكسب وألا يكون مدينا بحياته لأحد.
أما الشيخ فلا تخدعه هذه المحاولة، وما هي إلا أن يصل إلى غرضه في صراحة فيعلن إلى الفتى أنه قد عثر بطائفة من الرسائل، ولكنه نسي منها اثنتين ويدفعهما إليه، وأنه قد قرأ هذه الرسائل وعرف ما عرف من أمرها، وأن هذه الرسائل هي التي تنغص عليه حياته. فإذا أظهر الفتى شيئا من الدهش أنبأه الشيخ في هدوء وألم مبتسما بأنه يعرف ما في هذه الرسائل منذ ثلاثين سنة، ثم يقص على الفتى القصص.
فليس الفتى ابنه، وإن كان ابنه أمام القانون وأمام الناس وأمامه هو أيضا؛ ذلك أنه قد كان تزوج من امرأته دون أن تحبه، كما يتزوج أصحاب الثروة من الفقيرات في غير حب ولا كلف. فلما لم يجد من امرأته حبا ولا حنانا ولا هياما زهد فيها وانصرف عنها إلى اللهو والعبث، وفرحت هي بهذا الزهد والانصراف. وفي ذات ليلة لقي صديقا له كان رفيقه في المدرسة، وكان من الأشراف، وكان قد أحب امرأته وكانت قد أحبته، وكانا يريدان الزواج، ولكن الفقر حال بينها وبينه. فلأمر ما حرص صاحبنا على أن يستأنف الصلة بينه وبين صديقه القديم. وانظر إليه يتهم نفسه أشنع التهم في لطف ورقة وكرم أيضا. انظر إليه يحدث الفتى بأنه اجتهد في أن يتردد صديقه على بيته وتتجدد الصلة بينه وبين حبيبته القديمة لأمر لا يكاد يتبينه، وربما كان منه أنه أحب أن يثير في نفس امرأته حبها القديم لهذا الرجل لعلها تتورط في شيء من الإثم فيتخذ ذلك حجة عليها وعذرا لنفسه من آثامه الكثيرة. ومهما يكن من شيء فقد كان ما لم يكن منه بد، وأثمت المرأة، وكان الفتى نتيجة هذا الإثم، فأما أبوه فقد ندم وألح عليه الندم حتى التحق بجيش من جيوش المستعمرات الأفريقية، وجاهد حتى اشترى خطيئته بالموت. وأما أمه فقد لقيت في الحمل آلاما ثقالا وتعرضت في الوضع لخطر الموت، ووقف زوجها بين الأمانة لمهنته كطبيب يجب أن ينقذ المريضة، والانتقام لنفسه كزوج يريد أن يقتل الخائنة، فوفى لمهنته وأنقذ المريضة حتى إذا تم لها الشفاء لم يجد في نفسه القدرة على استئناف الانتقام فصفح وعفا. وندمت زوجه وتابت، وكانت بينهما مودة استحالت حبا قويا شريفا استفاد منه الطفل، فنشأ بين قلبين يحبانه ويعطفان عليه.
وقد سمع الفتى هذا القصص، ولكنه بطل من أبطال الحرب، قد تعود الهول وتجشمه، وتعود المكروه وصبر نفسه عليه، فهو يألم ولكنه يكظم ألمه، وهو بين أمرين يتنازعان قلبه ونفسه: السخط على أمه وأبيه؛ لأنهما وضعاه في هذه المنزلة الكريهة، والبر بهذه الأم التي لقيت في سبيله ما لقيت من ألم، وتعرضت في سبيله لما تعرضت له من خطر. وهذا الشيخ الذي كان يظنه أباه والذي كان ينكره ويضيق به والذي ظهر الآن أنه ليس منه في شيء: أيحبه لأنه نشأه ورباه كما ينشئ الأب ابنه في مودة وحنان وحب؟ أم يبغضه لأنه ليس منه في شيء، ولأنه هو الذي عرض أمه للإثم والخطيئة، وهو الذي اضطر أمه إلى أن تلده في غير رضا الأخلاق والقانون؟ وأبوه! أيحبه لأنه أبوه؟ أم يبغضه لأنه ورط أمه في الإثم وجنى عليه هذا الوجود المنكر؟ وخطيبته! ماذا يصنع بها؟ أيمضي في حبها ويكتم عليها ما عرف من أمره، فهو إذن يغشها ويدلس عليها؟ أم يظهرها على كل شيء؟ وإذن فإلى أي حال ينتهي حبه وكبرياؤه وكرامته؟
وهذه الثروة الضخمة التي يكلها إليه الشيخ، أيقبلها وليست له؟ أم يردها؟ وإذن ماذا يصنع؟ فأنت ترى إلى هذا الموقف المعقد وإلى ما فيه من حرج.
وموقف الشيخ! أتظنه يخلو من الحرج؟ كلا، فقد عفا عن امرأته، وقد استطاعت امرأته أن تمحو ما في نفسه من موجدة. وهو يحب امرأته ويريد أن يحميها من كل مكروه، وقد كان هذا يسيرا ما خفيت القصة على الفتى. ولكن الفتى قد عرف القصة، ووقف الشيخ منه في صراحة موقف الغريب، فماذا يصنع؟ وكيف يعصم امرأته من احتقار ابنها وسخطه؟ وهو كان أحب الفتى واتخذه ابنا حقا، وقد ظهرت خبيئة الأمر، فما له بشيء هذا الفتى؟ ومع ذلك فلم يأثم الرجل ولم يقترف خطيئة ، وإنما تكلف اتهام نفسه ليخفف عن امرأته وليعطف الشاب على أمه. ما خانها ولا تعمد إغراءها وتوريطها في الإثم. ومهما يكن من شيء فهو لا يطلب الآن إلا أن تجهل امرأته أن ابنها قد ظهر على جلية الأمر، وهو يائس - أو كاليائس - من حب هذا الفتى، وقد ضحى بنفسه مرة أخرى. على أنه قد لقي من حب امرأته ما عزاه عن تضحيته الأولى، فلعله يلقى من إحسانه إلى الناس ومن حب الفتاة ما يعزيه عن التضحية الثانية. •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى أسبوعان على ما كان في الفصل الثاني، ونحن نرى الشيخ في عيادته يستقبل المرضى ويطب لهم. ولكنه متعب قد ظهر عليه السأم والضيق، حتى إذا انصرف آخر مرضاه دعا الخادم، فيأمرها بأن تذهب إلى الصيدلي وتطلب إليه أن يحتال في ألا تدفع إليه إحدى مرضاه ثمن الدواء، فهو كثير وهي فقيرة، ولكنها عزيزة النفس لا تقبل الصدقة، فليخدعها الصيدلي إذن وليخيل إليها أن الدواء رخيص، وليضف قيمته الحقيقية إلى حساب الطبيب.
وانظر إلى امرأة الطبيب قد أقبلت محزونة تشكو إلى زوجها ضيق ابنها وانصرافه عنها وعن خطيبته، وتلتمس لذلك العلل والأسباب، وتخبر زوجها بأن الرسائل متصلة منذ أيام بين ابنها وبين وزارة الحرب. وهي مشفقة من ذلك، والشيخ يعزيها في مودة وحب، ولكنه لا يظفر من تعزيتها بشيء، وهي تطلب إليه أن يتحدث إلى الفتى ويعظه لعله يكشف من أمره شيئا، ولعله يرده إلى حب أمه وخطيبته والرفق بهما، فيتردد ثم يذعن، وتنصرف امرأته وترسل إليه الفتى.
وما هي إلا أن يتحدثا حتى نعلم أن الفتى قد طلب إلى وزارة الحرب عملا، فعرضت عليه بعثة في الصين حيث الحرب قائمة فقبل. ومهما يفعل الشيخ ومهما يحتل ومهما يتلطف للفتى، فلن يغير رأيه ولا عزمه. والموقف هنا بديع مؤثر حقا، فالشيخ يصطنع اللين حينا، والاستعطاف والعنف حينا، والنذير، والفتى ثابت لا يتزحزح عن موقفه قيد شعرة، ولم يتزحزح عن موقفه وهو ابن الحرب قد كونته كما أرادت لا كما أراد! لقد أنفق من عمره أربع سنين في قتل وتدمير، يقتل النساء والأطفال والشيوخ والشبان، لا رأي له في ذلك ولا إرادة، ويواجه الموت يتقيه مرة ويرسله على الناس مرة أخرى، فكيف تريده على أن يكون كغيره من أبناء السلم! إنه يعلم حق العلم أنه يمزق قلب أمه وخطيبته وقلب الشيخ أيضا، ولكن ماذا يعنيه من هذا كله؟! أليس ابن الحرب قد صورته في هذه الصورة؟! فليكن مصدر ألم، وليكن مصدر موت، فكذلك أرادت الجماعة أن يكون. وقد يئس منه الشيخ، وأقبلت أمه يائسة أيضا تسأله: أحق ما أنبأتني به خطيبتك من أنك مرتحل إلى الصين؟ يجيبها: نعم! فما أشد تأثير هذا الموقف بين الفتى وأمه: تستبقيه ضارعة فلا يحفل، تحاول أن تعرف السر الذي يضطره إلى هذا العزم فلا تفلح. وهي تفترض الفروض، وتتوسل إلى الفتى بخطيبته، ثم يخيل إليها أنه لا يحب هذه الفتاة، فتجتهد في صرفه عنها. ويكون بينهما حوار بديع مؤلم نتمثل فيه نحن إلى أي حد أنسيت هذه المرأة إثمها وانصرفت عن خطيئتها، وإلى أي حد أثر هذا الإثم في نفس الشاب وأفسد عليه أمره.
وينصرف الشاب وقد أيأس الشيخين من نفسه، ولكن أمه قد عرفت الآن أنه قد ظهر على جلية من الأمر ... فانظر إليها منتحبة بين ذراعي زوجها، وهو يعزيها وينبئها بأنه قد اتهم نفسه ما استطاع ليخفف عنها الوزر أمام ابنها. فإذا رآها تسرف في البكاء خيل إليها أنها تبكي ندما لما تذكر من إساءتها إليه. ولكنه لا يلبث أن يتبين أنها تبكي على ابنها لا عليه. فليضح بنفسه مرة ثالثة! أليس يحب هذه المرأة؟! أليس يحب هذا الفتى؟! فليعز هذه، وليجتهد في إمساك ذاك، ولكن ليس إلى إمساك الفتى من سبيل. •••
فنحن في الفصل الرابع، وقد أخفق الشيخ وامرأته والفتاة في صرف الفتى عن عزيمته. ونحن في طولون ثغر فرنسا الحربي، حيث يأخذ الفتى سفينته الحربية إلى الصين. وقد أقبل الجماعة كلهم يودعونه، ونحن في أحد المطاعم المطلة على البحر حيث السفينة وحيث يستطيع المودعون أن يروا السفينة حين تقلع ويتبعوها بأبصارهم حتى تغيب. وأنا أعفيك من هذا الحوار اللذيذ الطويل بين الشيخ وصاحب المطعم، وأنتهي مسرعا إلى هذا الموقف البديع بين العاشقين، فقد التقيا وتعاهدا على الحب والأمانة والوفاء، وأعلن كل منهما إلى صاحبه خبيئة نفسه. ولكن انظر إلى الفتاة تطلب إلى صاحبها أن يرفق بأمه فقد أثمت كارهة، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم لنفسه العصمة من الإثم؟! وأن يحب الشيخ ولو قليلا، فقد كان زوجا برا وأبا رحيما، وما ذنبه في كل ما كان؟!
فإذا سأل الفتى صاحبته: كيف عرفت سره؟ أجابته: لقد أخبرتني به أمك واتخذتني سبيلا إلى استعطافك وحملك على الرفق. وانظر إلى الفتى وقد تأثر بهذا كله، بمكان أمه من نفسه، ومكان هذا الشيخ الخير البريء، ومكان هذه الفتاة الطاهرة المحبة تستعطفه على هذين البائسين. وقد أقبل الشيخان، فالفتى رفيق بهما ما استطاع، يظهر لأمه من العطف والمودة ما يملؤها رضا، ويقبل الشيخ ولكن دون أن يقول له شيئا، والشيخ يرضى بهذه القبلة وهو واجم؛ لأنه كان ينتظر كلمة مودة لم يظفر بها.
وأقبل ضابط من السفينة يتعجل الفتى، فيودع القوم جميعا، ولكنه قد لا يقول للشيخ هذه الكلمة التي كان ينتظرها. وقد مضى نحو السفينة، وهم جميعا يتبعونه بأبصارهم، إلا الشيخ فهو على كرسيه واجم محزون. ولكن القوم يسمعون من الفتى صوتا لا يتبينونه، ثم لا يلبثون أن تبينوا، فإذا الفتى يدعو أباه، وإذا هم جميعا يدفعون الشيخ دفعا إلى النافذة حيث يرى الفتى ويسمعه يدعوه بهذه الكلمة التي كان ينتظرها: «إلى اللقاء يا أبت! ...»
إبريل سنة 1927
زوجا ليونتين
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «ألفريد كابو»
نعم هي قصة فكاهية ولكنها لا تخلو من الجد، أو قل هي قصة فكاهية ولكن كلها جد. فلن تخطئ إذا قلت هذا، ولن تخطئ إذا قلت إن الفكاهة في هذه القصة مع أنها روح القصة وغايتها لم تتخذ في حقيقة الأمر إلا وسيلة إلى الجد، وسيلة إلى هذا الجد الذي يحسن ألا يقصد إليه مباشرة، وألا يعمد إليه الكاتب في غير احتيال وتكلف للطرق المعوجة؛ إما لأن الكلام قد كثر فيه حتى أصبح حديثا معادا مملولا، فلا بد من عرضه في صور جديدة لم يألفها الناس، وإما لأنه من هذا الجد الذي تأبى الأخلاق العامة والأوضاع الاجتماعية أن يهجم عليه الكاتب في غير احتياط ولا تلطف بالنظارة والقراء، فهو مضطر إلى أن يحتال ويفتن في الحيلة ليسمعك ما يريبك دون أن يروعك أو يسوءك أو يشق عليك.
والجد الذي يقصد إليه كاتبنا في هذه القصة ويتخذ الفكاهة وسيلة إلى إدخاله في نفوس القراء والنظارة، لا يخلو من هذين الأمرين جميعا، فقد كثر الكلام فيه حتى سئمه الناس أو كادوا يسأمونه، وهو مع ذلك دقيق لا يخلو مما شأنه أن ينفر الحريصين على الأخلاق والمألوف من الأوضاع الاجتماعية. ولكنه على كثرة الكلام فيه حتى مل، وعلى دقته ومخالفته لما ألف الناس من خلق وعادة، خليق بالعناية حري بالتفكير، لم يصل فيه الناس بعد إلى رأي قاطع مقبول. وأنت تعلم حق العلم أن القصاص، سواء منهم الممثل وغير الممثل، قد عالجوا أمر هذه المرأة اللعوب التي تخون زوجها، فتسرف في خيانته حتى تتمثل كأنها الرذيلة مجسمة، ولكن لها من دون ذلك العبث والفجور طبيعة خيرة قابلة للصلاح والطهر. وأنت تعلم أيضا أن هذه المرأة على كثرة ما أدافع عنها القصاص والأدباء والفلاسفة لا تزال بغيضة إلى سواد الناس، ممقوتة أمام ما اتفق الناس على أنه الأخلاق والعادات الموروثة. وأحب أن تطمئن، فما أريد أن أدافع عن هذه المرأة، وما أريد أن أغير في الأخلاق، ولا أن أمس هذه العادات بخير ولا بشر، فلست أنا من هذا كله في شيء، وما أنا بالذي يفكر في نقد النظام الاجتماعي وتغييره قليلا أو كثيرا. إنما هي قصة أعجبتني، وأظن أنها ستعجبك، بل أتمنى أن تعجبك، ولهذا ألخصها لك، وأعرضها عليك في غير حكم ولا تأييد.
في هذه القصة خفة ورشاقة، وفيها مجون ودعابة . ولكن من الذي حظر على الناس أن يعمدوا إلى القصص الخفيف الرشيق الذي تزيده الدعابة خفة ويزيده المجون رشاقة، فيقرءوه ويشهدوه؟ ومن الذي يستطيع أن يزعم أن الأدب لا يكون أدبا إلا إذا كان جدا كله؟ ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الدعابة والفكاهة قد تبلغان من التأثير في النفس ومن إذاعة الخير وتحبيبه إلى النفوس ما لا يبلغه أشد الجد حموضة وعبوسا؟
على أن قصتنا ليست من هذه الدعابة الممقوتة، ولا من هذه الفكاهة التي تضيق بها نفس الرجل الخير المتشدد في حب الخير. فهي تقارب العبث وتدنو منه فتسرف في الدنو، حتى يخيل إليك أنها ستتورط فيه، ولكن الكاتب ماهر حريص على الخلق، حريص قبل كل شيء على حس الجمهور، وعلى حسه من ناحية الخير، فهو لا يريد أن يؤذيه، فهو يدنيك من هذا العبث حتى تكاد تلمسه. ثم ما هي إلا حركة يدفع بها قلمه، فإذا أنت بعيد من الإثم كل البعد، وإذا أنت لم تشهد منه إلا هذه الناحية التي تضحكك من الشر وترغبك عنه.
وهي فوق هذا كله تعرض لطائفة من الموضوعات الاجتماعية القيمة التي لن يوفق الناس لأن يتخذوا لهم فيها رأيا قاطعا. تعرض لموضوع الطلاق مثلا، فمما لا شك فيه أن الناس سيظلون مختلفين في الطلاق، يراه بعضهم خيرا لأنه يرفه على الناس ويفصل بين الزوجين اللذين لا سبيل إلى أن يعيشا مؤتلفين، ويمكنهم بذلك من حماية كرامتهم وشرفهم وآدابهم. ويراه بعضهم شرا لأنه يفصم عروة قد أحكمها الدين كما يقول المسيحيون، ولأنه أبغض الحلال إلى الله كما يقول المسلمون. وسيظل أولئك وهؤلاء في خلاف وجدال ما احتاج الناس إلى أن يكون بينهم الزواج والطلاق. ولكن هناك وجها من وجوه الطلاق لا يفكر فيه الناس كثيرا، وربما لم يفكروا فيه بوجه من الوجوه، وهم مع ذلك يحسونه ويجدون فيه اللذة حينا والألم حينا آخر؛ ذلك أن الطلاق في حقيقة الأمر وسيلة قانونية للفصل بين شخصين لا يستطيعان الحياة مؤتلفين، كما أن الزواج وسيلة قانونية للجمع بين شخصين يحبان أن يعيشا مجتمعين. ولكن المسألة هي أن نعرف أيستطيع الطلاق بعد أن يحقق هذا الفصل القانوني أن يحقق فرقة أخرى صحيحة فيقطع الصلة قطعا باتا بين الزوجين كأن لم يعرف أحدهما الآخر؟ كما أن هذه المسألة نفسها تعرض بالقياس إلى الزواج، فالزواج يجمع الزوجين جمعا قانونيا، ولكنه قد يعجز في كثير من الأحيان عن أن يؤلف بينهما تأليفا صحيحا قويا. ولعلك تذكر أني قد حدثتك منذ حين عن قصة لهذا الكاتب نفسه، عرض فيها للطلاق وعجزه عن أن يفرق بين الزوجين إذا جمع بينهما الحب الصحيح. وهذه القصة هي قصة «المذهبين» التي رأيت فيها رجلا خان امرأته، فأسرف في خيانتها حتى طلبت الطلاق وظفرت به وهمت أن تتخذ لها زوجا آخر. ومضى زوجها الأول في إثمه وعبثه، ثم التقيا فظهر أن الطلاق لم يفرق بين قلبيهما وإن فرق بين جسميهما، وظهر أنهما مضطران إلى أن يستأنفا حياتهما الأولى.
وكاتبنا في هذه القصة التي نحن بصددها يعرض للطلاق من هذه الناحية، وإن كان لا ينتهي إلى مثل النتيجة التي انتهى إليها في القصة الأخرى، بل ينتهي إلى نتيجة مناقضة من وجه ما لتلك النتيجة. فسنرى زوجين لم يستطيعا أن يعيشا مؤتلفين؛ لأن المرأة خانت زوجها، فأسرفت في الخيانة حتى طلب الزوج الطلاق فظفر به. ولكن هذا الرجل طيب القلب، خير الطبع، فهو يعطف على زوجه بعد الطلاق، ويمدها بما تحتاج إليه من معونة. وهو ينالها بالبر والمودة أكثر مما كان يفعل قبل الطلاق، وهو يحس أن هذا العطف وهذه المودة يناقضان أشد المناقضة ما ألف الناس من عادة وقانون، فهو مضطرب بين إرضاء طبعه وعاطفته وإرضاء العرف. وهو يذعن في كثير من الأحيان للطبع والعاطفة، ولكنه يذعن مرة للعرف فيفر من امرأته المطلقة، ويخيل إليه أنه بهذا الفرار سيريح نفسه من هذا الجهاد العنيف. ولكنك تعلم أن «ألفريد كابو» صديق للمصادفة، فهو يرى أن لها أعظم الأثر في تدبير حياة الأفراد والجماعات، وقد بينت لك هذا في كل ما حللت من قصصه. وهو هنا يعرف للمصادفة هذا السلطان ويسخرها في قصته، وإذن فيستطيع صاحبنا أن يفر من زوجه المطلقة، فالمصادفة كفيلة بأن تكرههما على اللقاء، وإذن فسيظل الجهاد متصلا بين هذه العاطفة التي تعطف الرجل على زوجه بعد الطلاق، وهذا العرف الذي ينكر ذلك ويراه إثما أو شيئا يشبه الإثم، ولا بد من تدخل المصادفة موقف هذا الجهاد عند حد ما.
فأنت ترى أن هذا الوجه من وجوه الطلاق خليق في نفسه بالعناية بالدرس، وأن الكاتب مهما يصطنع من الفكاهة والمجون لدرس هذا الموضوع وتقريبه إلى الناس، فليس مسرفا ولا غاليا في العبث. ذلك إلى أن الأمر نفسه حقيقة من الحقائق الاجتماعية التي لا تقبل الشك. فكلنا يعلم أن الطلاق كثيرا ما يعقب الندم والحسرة، وكلنا يعلم أن قد كان لهذا أثره في آداب الأمم المختلفة، في آدابنا العربية وفي الآداب الأجنبية على كثرتها واختلافها. وإذن فهي حقيقة من الحقائق الاجتماعية يجب أن تدرس، وأن يتخذ الأدباء إليها الوسائل المختلفة: قصصا حينا وتمثيلا حينا آخر، جدا مرة، وفكاهة مرة أخرى. ذلك إلى أن هناك أشخاصا من حق الأديب أو من الحق على الأديب أن يصورهم للناس، فقد يكون في تصويرهم، إلى جانب النفع الفني، نفع خلقي واجتماعي. قد يكون هؤلاء الأشخاص أخيارا، ففي تصويرهم ما يدعو إلى القدوة، أو أشرارا ففي تصويرهم ما ينفر منهم.
والحق أن الأشخاص الذين صورهم الكاتب فأحسن تصويرهم في هذه القصة قليلون، هم أربعة ليس غير، ومن حولهم أشخاص آخرون لا يمتازون بشيء، وهؤلاء الأشخاص الأربعة قد أحسن الكاتب تصويرهم حتى أصبح من اليسير جدا أن ننقل إليك صورهم في غير إطناب ولا إطالة.
فأما أولهم فهو «أدولف ديبوا» رجل من أوساط الناس، له ثروة ولكنها ضئيلة، يعمل في ديوان من دواوين الحكومة، خير الطبع، رضي النفس، مستقيم الخلق، ضعيف الإرادة، يكره الشر ولكنه لا يستطيع مقاومته في يسر، ويحب الخير ولكنه يحب نفسه أيضا، فهو لا يستطيع أن يعتمد على نفسه في شيء وإنما هو محتاج إلى من يعينه ويرشده ويوجهه إلى سبيل الخير، وهذا الرجل هو الزوج الأول.
وأما الشخص الثاني فهو البارون «إدوار دي لاجامبيير» شاب من الأشراف، ضخم الثروة، ولكنه كصاحبه خير ضعيف الإرادة، لا يستطيع المقاومة ولا يقوى على الجهاد إلا في ناحية واحدة، وهي الناحية المضادة لميول الأشراف وما توارثوا من عادة وسنة، فهو يكره عادات الأشراف، ولا يحرص على تقاليدهم ولا يحفل بها.
والشخص الثالث هي «ليونتين»، امرأة جميلة فتانة، ولكنها كصاحبها ضعيفة الإرادة خيرة، غير أنها لا تستطيع مقاومة الشر أو قل لا تكاد تميز بين الخير والشر، سلطان الغريزة عليها أقوى من سلطان العقل، محبة للفكاهة مندفعة فيها، أو هي ترى الحياة كلها فكاهة، حتى تعلمها المصادفة أن هذه الفكاهة قد تستحيل إلى جد فتستفيد من هذا الدرس، وإذا هي صاحبة جد ولكنه جد باسم لا يكاد يخلو من الفكاهة.
والشخص الرابع هي الماركيزة «دي بريساك»، شيخة من الأشراف، هي عمة البارون دي لاجامبيير، محافظة، مسرفة في المحافظة، سيئة الخلق، طويلة اللسان، ميالة مع هذا إلى الخير.
هؤلاء هم الأشخاص الذين تقع بينهم القصة. وهناك أشخاص آخرون كثيرون تأتي بهم المصادفة ليتم تدبير ما سيقع من الحوادث دون أن يكون لهم في أنفسهم خطر. •••
فإذا كان الفصل الأول فنحن عند «أدولف» في بيته في باريس، نشهد شابا قد أقبل يطالب بقسط من الأقساط المالية، فتظن الخادم أنه يطالب بالقسط المستحق من ثمن البيانو الذي اشتراه سيدها، فتدفع إليه خمسين فرنكا، فيضحك ويطلب ألفين. فإذا سمعت الخادم هذا الرقم جزعت وفزعت إلى سيدها، فيقبل ويعد الشاب بالأداء بعد دقائق. وما هي إلا أن يصل صديق له عضو في مجلس النواب اسمه «بلانتين»، يحمل إليه هذا المقدار فيأخذه ويدفعه إلى الشاب. والخادم ساخطة تلوم سيدها لوما عنيفا، فهي تعلم أين يذهب هذا المال، هو يذهب في حاجات زوجه المطلقة، ومع ذلك فقد أضاعت هذه المرأة على زوجها أكثر ثروته، ثم خانته فأسرفت، حتى إذا طلقها اتخذت صناعة المومسات، وهي مع ذلك لا تستحي أن تلجأ إلى زوجها القديم كلما مسها الضيق، وزوجها القديم لا يستحي أن يعينها كلما لجأت إليه. ثم تنصرف الخادم مغضبة، ويأخذ النائب في النصح لصديقه ألا يفعل، وصديقه يرى رأيه ويقبل نصحه. ولكن الخادم تعود فتعلن إلى سيدها أن زوجه مقبلة، فيضيق الرجل ذرعا ولكنه يستقبلها.
فإذا دخلت رأيت امرأة خفيفة الروح، حلوة الحديث، مستخفة بكل شيء، قد أقبلت على زوجها القديم مطمئنة واثقة تتحدث إليه في غير تكلف، وزوجها يخشى أن تكون قد أقبلت تطلب بعض المال فهو يدافعها عن ماله. ولكنها لم تقبل لشيء من هذا، إنما قبلت لشيء آخر؛ ذلك أنها غضبت على صاحبها فطردته، أو غضب عليها صاحبها فانصرف عنها، وكانت قد استدانت فعجزت عن أداء الدين، وباع الدائنون متاعها، وأصبحت وليس لها مأوى، وهي تبحث عن بيت، ولكنها تريد مأوى حتى تجد هذا البيت وتهيئه للسكنى. وقد فكرت في صديقاتها ولكنها استحت منهن، فلم تجد إلا زوجها، فيدافعها الرجل عن بيته، ويشجعه صاحبه على الدفاع. وتقبل المرأة رفض زوجها راضية غير مكترثة في ظاهر الأمر، حتى إذا انصرف النائب عنهما أقبلت إلى «البيانو»، فأخذت تعزف لاعبة باكية في وقت واحد. وعجز صاحبنا عن المقاومة، فأذن لها أن تبقى عنده. وهو يفكر في تدبير الأمر، فسينزل لها عن غرفته، وسينام في غرفة الاستقبال. أما هي فلا تريد أن يفسد النظام في غرفة الاستقبال بهذا السرير الذي سيضاف إليها، وهي لا ترى بأسا أن تقاسم زوجها غرفته، ولكن الزوج يرى في ذلك البأس كل البأس، فتقبل منه ذلك ضاحكة غير حافلة، وهل تحفل بشيء؟
وانظر إليها قد نهضت فنظرت في غرفة الاستقبال فلم يعجبها تنسيق المتاع، فهي تقترح تغيير النظام، تريد أن تنقل هذا المتاع من مكانه وتضع مكانه متاعا آخر. وزوجها يرى رأيها وكأنه قد نسي الطلاق وخيل إليه أنهما في حياتهما الأولى. وانظر إليها بعد هذا تطلب إلى زوجها شيئا من النقود، وتكلف الخادم أن تشتري شيئا من الزهر تزين به هذا البيت. ثم انظر إليها تداعب زوجها، وهو يقاوم أول الأمر ثم تضعف مقاومته حتى يوشك أن يزل، لولا ... زيارة تفصل بينهما، فقد أقبلت صديقتان لزيارة «ليونتين» وكانت قد أنبأتهما أنها ستلجأ إلى عمها فتقيم عنده حتى يجعل الله لها من ضيقها مخرجا، فتقبلان وتقدم إليهما «ليونتين» أدولف على أنه عمهما.
فإذا خلا النساء إلى أنفسهن قالت إحدى الصديقتين لليونتين: إن الله قد هيأ لهما مخرجا من هذا الضيق، فإن البارون «إدوار دي لاجامبيير» الذي رآها منذ سنة مفتون بها، وهو يلتمسها ويريد أن يتخذها خليلة له، وهو مقبل لزيارة بعد حين، تقولان ذلك وتنصرفان. ويأتي الزوج وهو مضطرب في دخيلة نفسه، واثق بالزلل أن أقام مع امرأته، عاجز عن أن يرى لنفسه مخرجا من هذه الأزمة. ولكن صديقه النائب قد عاد يخبره بأنه مسافر، فيطلب إليه أن يصطحبه ليخرج من هذه الأزمة، ويقبل النائب. وانظر إليه يعلن إلى زوجه أنه مسافر الآن لأمر طرأ، وأن سفره قد يطول، وأنها مطلقة التصرف في البيت ما لم تسئ السيرة، وأن خادمه متصلة بشخصها، وأنه تارك لها مقدارا من المال يقترضه من صاحبه، وهو يهيئ حقيبته وينصرف.
وما هي إلا أن يقبل البارون ومعه صديق له أستاذ في مدرسة من مدارس الزراعة في الأقاليم. فإذا أستأذنا وأذن لهما انتظرا لحظة نراهما فيها وحدهما، فتعرف أن البارون على ذكائه ومهارته في تصريف الحديث مفحم أمام النساء، ولا سيما حين يعجبنه ويقعن من نفسه.
وما هي إلا أن تدخل «ليونتين» حتى يظهر اضطرابه وعجزه وحتى تسخر منه في نفسها، ويظهر في الوقت نفسه لسن هذا الصديق الأستاذ وفصاحته، وإذا «ليونتين» مفتونة بهذا الأستاذ. ولست أطيل عليك بتلخيص ما يقع بينهم من حديث، ولكن الأمر ينتهي بدعوة إلى العشاء وقبول لهذه الدعوة وخروج الثلاثة إلى حيث يطمعون. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في مدينة من مدن الأقاليم، في دار الأستاذ الذي رأيناه في الفصل الأول، وقد أقبلت لزيارته واستشارته المركيزة «دي بريساك» ومعها ابنة أخ لها جميلة يقال لها «أورتنس»، وأورتنس هذه تنبئ عمتها أنها كادت تفقد الحياة لولا أن رجلا أنقذها ورد عنها فرسا جامحا كاد يقتلها. وعمتها تسخر منها ومن صاحبها الذي أنقذها، كما تسخر في غضب وسخط من ابن أخيها البارون «دي لاجامبيير» الذي تزوج امرأة مطلقة من باريس خارجا بذلك على تقاليد الأشراف وأصول الدين. وهذه الشيخة مغضبة محنقة على كل شيء، ترى أن النظام الجمهوري مسئول عن كل الشرور حتى التي لا عمل للناس فيها. أليست الجمهورية هي التي استحدثت هذه العلل التي تصيب الكروم فتفسدها؟! وقد أقبلت هذه المرأة تستشير أستاذنا الزراعي في إحداهما! ولكن الأستاذ قد أبطأ، فتنصرفان على أن تعودا بعد حين.
ويقبل الأستاذ ويقبل البارون ويتحدثان، فنفهم من حديثهما أن البارون لم يكد يرى «ليونتين» حتى فتن بها واعتزم أن يتخذها له زوجا، تردد في ذلك أياما ثم صحت عزيمته فتزوجها، لم يحفل بأحد ولم يدع أحدا، وهو سعيد بهذا الزواج منذ ثلاثة أشهر، وامرأته سعيدة أيضا ... وهو يلتمس لها العذر فيما اقترفت من إثم قبل أن يتزوجها، فذنب ذلك على زوجها الأول، ذلك الرجل المجرم الذي كان يشرب حتى إذا سكر عاد إلى بيته فأذاق امرأته ألوان العذاب. وآية ذلك أن المحكمة حكمت عليه بالطلاق لا على زوجه. هو إذن راض عن حظه مغتبط به، وصاحبه الأستاذ يهنئه ويغبطه، وهو يعلم زوجه اصطناع البسكليت، وهو معجب بجمالها فيما تتخذ لهذا الغرض من زي، معجب بذكائها وسرعة إتقانها لهذا الفن.
ثم نفهم من حديثهما أنه ساع لصديقه الأستاذ في أن ينال أحد الأوسمة، وأنه لا بد لذلك من عريضة يوقعها أعيان الإقليم. والأستاذ قد هيأ هذه العريضة وسيمضيها البارون ويحمل عمته على إمضائها، فسيكون لذلك أثره، وإن كانت عمته ساخطة عليه مغاضبة له. وقد أقبلت «ليونتين» في زي البسكليت جميلة خلابة مبتسمة للحياة، راضية عن كل شيء، حلوة الحديث، لذيذة الفكاهة، فتتحدث حينا، ونفهم من الحديث أن زوجها مضطر إلى أن يغيب عنها ساعات تقضيها هي في دروس البسكليت. ثم ينصرف الزوج حينا، فإذا بين الأستاذ وبين «ليونتين» إثم قديم العهد لأنها أحبته منذ رأته وأحبها هو أيضا ولكنه خائف، أما هي فلا يعرف الخوف إلى نفسها سبيلا. وانظر إليها قد أخذت تداعبه، وهو يجيبها كارها، ثم تدنو منه وما تزال تدنو حتى تكون بين ذراعيه، وهو يقبلها وهي تقبله، وهي تكرهه على أن يضرب لها موعدا إذا انصرف زوجها، وهو يتأبى، ولكنها تكرهه وتلح عليه وتقول له في قبلة: «إلى اللقاء بعد حين.»
وفي أثناء ذلك يفتح الباب وتظهر الشيخة، فإذا رأت هذا المنظر انصرفت مغضبة وافترق العاشقان ولم يحسا شيئا.
ثم يعود البارون وتنصرف امرأته إلى البسكليت. وبينما هو في حديث مع الأستاذ إذ تستأذن الشيخة فتدخل في جد وحشمة، وتطلب إلى الأستاذ أن يزور زراعتها غدا أو بعد غد وتهم بالانصراف. ولكن ابن أخيها يستوقفها ويريد أن يتقرب إليها، فيتركهما الأستاذ حينا فيتحدثان، ونفهم من حديثهما أنها لا تعترف بزواجه، وإنما ترى أنه اتخذ له خليلة وليس في ذلك بأس. غير أن الشاب يطلب إليها توقيع العريضة، فتأبى في غضب لأنها تزدري هذا الأستاذ، وكيف لا تزدريه وقد رأت بين ذراعيه منذ حين امرأة جميلة في زي البسكليت ما ترى إلا أنها من مومسات باريس! يدهش الشاب لأنه كان يرى صديقه الأستاذ أبعد الناس عن العبث واللهو. فإذا ألح في هذا الدهش وألحت عمته في الوصف والتفصيل، تطرق الشك إليه فيستوصف عمته، فتفصل الوصف، فيستحيل الشك يقينا، وإذا هو مصعوق، وإذا عمته تقول في سخرية: أخشى أن أكون قد أسأت إليك عن غير عمد. ولكن صاحبنا يريد أن ينتقم وهو يريد البينة قبل الانتقام، وقد أخبرته عمته أن العاشقين تواعدا على أن يلتقيا بعد حين، فيخرج وتخرج عمته للاستعانة بصاحب الشرطة، وقد عاد الأستاذ إلى غرفته، وهو يحدث نفسه كارها لهذا الموعد، معلنا أن الدرس والمرأة لا يجتمعان.
ولكن المرأة قد أقبلت، فتداعب وتعبث حتى تصرف الرجل عن درسه، ثم تنسل في لطف إلى غرفة النوم وقد تجردت من ثيابها، وهي تدعو إليها صاحبها في دعابة ورشاقة، وصاحبها يقبل عليها كارها، ولكنه يسمع وقع أقدام، ثم يحس طرق الباب، ثم يستيقن أنه الزوج قد أقبل ومعه صاحب الشرطة، فيضطرب ويشتد اضطرابه، ويحاول أن يحمل صاحبته على الفرار، ولكن كيف تفر وهي عريانة؟! أما هي فهادئة مطمئنة، تأمر صاحبها أن يفتح الباب، وقد فتح الباب، ودخل الزوج ودخل صاحب الشرطة ومعه كاتبه، ولكننا لا نكاد نرى صاحب الشرطة حتى يأخذنا الدهش ثم الإغراق في الضحك، ذلك أن صاحب الشرطة هو «أدولف ديبوا» الزوج الأول لليونتين، أرادت المصادفة أن يكون مدير الشرطة في هذه المدينة منذ أيام.
يأخذ صاحب الشرطة في كتابة المحضر مستعينا بكاتبه، حتى إذا أراد أن يرى المرأة الخائنة أنبئ أنها لا تستطيع أن تظهر له فيسجل ذلك في المحضر. وبعد حين يفتح باب الغرفة وتخرج «ليونتين» ... فقدر دهشها، وقدر بنوع خاص دهش صاحب الشرطة وقد رأى امرأته في هذا الموقف. ولكنهما يجتهدان في إخفاء هذا الدهش، ويحاول الرجل أن يمضي في عمله فيأخذ في سؤال «ليونتين»، فتطلب إليه «ليونتين» أن يأذن لها في توجيه الكلام لحظة إلى هذين الرجلين زوجها وعاشقها. فتسأل الزوج ماذا يريد؟ يجيبها: الطلاق في أسرع وقت، وتسأل الأستاذ ماذا يريد أن يصنع؟ فيجيب: إنه لا يريد شيئا فهو رجل درس، وكل ما يعنيه أن ينصرف إلى عمله. هو إذن متخل عنها ... هو إذن رجل لا شرف له ولا مروءة، وقد كانت أحبته لأنها كانت ترى فيه جدا واستقامة. أما زوجها فيسألها ماذا تريد أن تصنع هي؟ تجيبه: وما يعنيك من هذا؟ فيقول: إنك ستظلين زوجي حتى يفرق الطلاق بيننا، فمن الحق أن أعرف إلام تصيرين، عجيب! سأذهب إلى حيث كنت، إلى بيت عمي فهو خير كريم. ولا يكاد صاحب الشرطة يسمع هذا حتى يملكه غضب لا حد له، فهو يحس أن «ليونتين» ستعود إليه، وهو إنما ترك باريس فرارا من «ليونتين » وهو يريد أن يتقيها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وانظر إليه يأبى أن يمضي في كتابة المحضر على وجهه، ويعلن أنه لم ير إثما وإنما رأى سيدة محتشمة عند الأستاذ. فلا تسل عن سخط الزوج وحنقه، ولكن صاحب الشرطة ملح، ثم ينتهي الأمر بأن يطلب صاحب الشرطة إلى الزوج أن يتحدثا لحظة على خلوة، فيتفرق عنهما الناس، ويأخذ «أدولف» في النصح لهذا الشاب بأن يعدل عن الطلاق، وما يزال به يبغض إليه الطلاق ويحبب إليه العفو والمغفرة حتى بلغ منه ما أراد، وقد عادت المرأة، فيتركهما لحظة يتم فيها الوفاق بينهما، ويعود وقد استقام له الأمر كما كان يحب، فلن يكون طلاق ولا خصومة، ولن تلجأ إليه «ليونتين». ولكن الزوجين قد أحباه لأنه أصلح بينهما وأحبه الزوج بنوع خاص، فهو يدعوه إلى العشاء، وامرأته تلح في الدعوة. وإذن فقد كان يريد أن يفلت من «ليونتين» فأصبح مكرها على عشرة «ليونتين». •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت أيام على هذه الحادثة، ونحن في قصر البارون نرى «ليونتين» تؤنب خدمها في رفق وفكاهة، وقد أقبل «أدولف» مدعوا إلى الغداء، فتلقاه «ليونتين» مبتهجة بلقائه وهو ضيق الصدر بهذه المودة، ضيق الصدر خاصة بمكانه من البارون الذي يجهل كل شيء مما كان بين «أدولف» و«ليونتين»، وهو ينبئ «ليونتين» بأنه قد غير اسمه الخاص عندما سأله عنه البارون، وبأنه يلتمس طريقا للانتقال من هذه المدينة حتى لا يضطر إلى معاشرة الزوجين. ولكن «ليونتين» لا تريد أن يفارقهما، وهي لا ترى في شيء مما كان بأسا، ونحن نحس في كل أحاديثها أن قد تغيرت حقا منذ تلك الحادثة التي رأيتها في الفصل الثاني، تغيرت فأصبحت خيرة طيبة النفس، طاهرة الطبع شديدة البغض للإثم والخيانة، محبة لزوجها شديدة الحرص على الوفاء له، عافية عن الآثمين متجاوزة عن آثامهم، وقد أقبل الزوج فإذا هو أشد من امرأته حبا لأدولف ووفاء له واعترافا بجميله. والرجل مضطرب ضيق الصدر بين هذين الزوجين، ولكن حب البارون لأدولف لا حد له ، فهو يريد أن يلتمس له زوجا ويضن به على هذه الحياة التي تنغصها الوحدة، وامرأته تشاركه في هذا الرأي. وما هي إلا لحظة حتى يهتدي الزوجان إلى القرينة الملائمة. وما الذي يمنع «أدولف» من أن يتزوج ابنة عم البارون «أورتنس»، فهي جميلة غنية خيرة؟! أما أدولف فلا يرى في هذا إلا نوعا من المزاح.
ولكن «أورنتس» قد أقبلت، فلا تكاد ترى «أدولف» حتى تدهش، فهو الذي أنقذها من الموت. وما يكاد ابن عمها يخلو إليها ويحدثها في هذا الزواج حتى تظهر الرضا والاطمئنان، فالقوم جميعا سعداء، ولا سيما بعد أن أقبل النائب «بلانتين» يزور البارون فيلقى صديقه «أدولف» وصاحبته «ليونتين» ويكون في هذا كله اضطراب غريب مصدره حرص «أدولف» على ألا يظهر اسمه الحقيقي، وحرصه أيضا على ألا تظهر المعرفة و«ليونتين». وتكلف هؤلاء القوم جميعا الحيلة في إخفاء الأمر على البارون، هم ينجحون في هذا التكلف، وهم كما قلت لك سعداء ينتظرون الدعوة إلى المائدة. ولكن المصادفة لم تفرغ بعد من عملها، فقد أقبلت عمة البارون الشيخة، فخلت إلى ابن أخيها لحظة تسأله عن أمر الطلاق، فلا يستطيع أن يخبرها بأن قد تم الصلح بينه وبين امرأته، فيزعم لها أن القضية تجري مجراها. ولكن الشيخة قلقة لأن ابنة أخيها «أورتنس» مشغوفة بحب هذا الرجل الشرطي الذي أنقذها من الموت، وهي تخشى أن ينتهي هذا الحب إلى الزواج. فإذا سألها ابن أخيها: وأي بأس في ذلك؟ أجابت: إنها الفضيحة؛ فإن هذا الرجل قد طلق امرأته. فيدهش الشاب لأنه كان يقدر أن صاحبه لم يتزوج. فتؤكد له عمته ذلك، وتخرج له وثيقة استخلصتها من المحكمة في باريس، وفيها أن هذا الرجل - واسمه «أدولف ديبوا» - قد كان سكيرا يضرب امرأته، فطلقت امرأته عليه، ثم أثبتت لابن أخيها أن هذا الرجل هو بعينه الذي عين منذ أيام مديرا للشرطة. فقدر أنت دهش الشاب واضطرابه حين يعلم أن صاحب الشرطة هو الزوج الأول لامرأته، واسمع لعمته تقول له الآن كما قالت له في الفصل الثاني: أخشى أن أكون قد أسأت إليك عن غير عمد يا ابن أخي! وقد انصرفت عنه وتركته في هياج واضطراب. فانظر إليه وقد دخل عليه «أدولف» ومعه «ليونتين»، كيف يستقبل صاحبه مضطربا ساخطا صاخبا، يعلن إليه اسمه وصناعته الأولى في باريس وقضيته مع امرأته ... والرجل يعترف بكل شيء في وجوم ودهش، حتى إذا فرغ من هذا أعلنت «ليونتين» أن «أدولف» لم يكن في يوم من أيام حياته سكيرا ولا شريرا، لم يضربها ولم يسئ إليها، وإنما هي التي خانته فأراد الطلاق، وكره أن يكون الحكم عليها، فقبل أن يتهم نفسه وأن يقع الطلاق عليه هو. ثم تتبع امرأته بعد الطلاق بالبر والعطف، حتى كان هذا الحادث الأخير. وانظر إليها ترفق بزوجها وتترضاه في خفة ودعابة وطهر، حتى تأخذ يده فتضعها في يد زوجها الأول. وتدخل «أورتنس» ومعها النائب يستعجلان الغداء، فيضع البارون ذراع «أدولف» في ذراع «أورتنس» وقد سماه باسمه هذه المرة. فإذا سمع النائب ذلك أظهر الدهش، فينبئه صاحبه أن قد عرف الرجل كل شيء، وهم يتقدمون إلى المائدة والخادم مقبلة وفي يدها زهر تقدمه إلى سيدتها كأنما تهدي هذا الزهر إلى هذين الخطيبين.
مايو سنة 1927
الملهى
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «مارسيل بانيول»
ليس هذا العنوان ترجمة دقيقة للعنوان الفرنسي، وربما لم يكن ترجمة مقاربة. فالعنوان الفرنسي يشير إلى نوع خاص من اللهو، هو هذا الضجيج الأمريكي الذي شاع في الحانات والملاهي الذي يسمونه الجازباند. وإذا كنت لم أعن بالترجمة الدقيقة لهذا العنوان، فذلك لأن هذا العنوان نفسه لا يدل على القصة ولا يختصرها، ولا يدل على جزء مهم من أجزائها. إنما يدل على شيء إضافي مر في القصة عرضا، ومن حقنا أن نتساءل: لم اتخذ الكاتب لقصته هذا العنوان؟ وما باله لم يلتمس لها عنوانا يلائم موضوعها أو أشخاصها ملاءمة صحيحة؟ على أن هذه الخصلة ليست وحدها الخصلة الغريبة في هذه القصة، فالقصة كلها غريبة في حقيقة الأمر: غريبة في تصورها، غريبة في عرضها، غريبة في نتيجتها ، ولكنها على ذلك قيمة لذيذة، أو قل إنها لذلك نفسه قيمة لذيذة.
والحق أنك في حاجة إلى أن تقرأ هذه القصة مرتين، وربما احتجت إلى أن تقرأها أكثر من مرتين، لا لتفهمها، ففهمها سهل يسير، ولا لتشعر بقيمتها الفنية، فأنت شاعر بهذه القيمة متى بدأت في القراءة؛ ولكن لتتبين الغرض الذي إليه قصد الكاتب حين وضع قصته. ولست أدري أمن اليسير بعد القراءة مرة أو مرتين أو ثلاثا أن تقطع بالغرض الذي قصد إليه الكاتب. ومن يدري؟! لعله لم يقصد إلى غرض بعينه، ولم يفكر إلا في أن يعرض عليك قصته كما تصورها، تاركا لك أن تستنبط منها ما تشاء.
ومهما يكن من شيء، فأنت مضطر إلى أن تلاحظ في هذه القصة أمرين: أحدهما نعي شديد على العلماء الذين يقفون حياتهم على العلم وحده وعلى العلوم التي تمس الآداب بنوع خاص.
فموضوع القصة رجل من هؤلاء العلماء وقف حياته على اللغة اليونانية. والكاتب لا يعرض علينا أمر هذا العالم وحده، ولكنه يعرض علينا من قريب أو بعيد أمر قوم آخرين يعملون في كلية من كليات الآداب، منهم الأستاذ ومنهم الطالب. والثاني صراع عنيف بين الحياة العلمية الجافة والحياة العملية التي لا تخلو من لذة ودعة ولين. فهل قصد الكاتب إلى أن يبغض إلى الناس هذه الحياة العلمية الخشنة التي يسرف فيها بعض العلماء حتى يجعلوها أشبه برهبانية الرهبان ونسك الناسكين، مزدرين في سبيلها عواطف النفس وأهواءها، وحاجات الجسم وما تستتبعه هذه الحاجات من لذة وألم؟ أم هل قصد الكاتب إلى أن يسخر من هذا اللون من ألوان البحث العلمي، ويبين أنه إذا كان هناك نوع من العلم خليق بأن يقف الإنسان عليه حياته، فليس هو هذا النوع الذي يفرغ له الباحثون عن اللغات، وعن اللغات القديمة بنوع خاص؟ أم هل قصد إلى أن يسخر من البحث العلمي بوجه عام؟ أخشى أن يكون قصد إلى هذا كله في وقت واحد، أخشى أن يكون قصد إلى ما يقصد إليه الشبان في هذا العصر الحديث، ولا سيما بعد انتهاء الحرب الكبرى، من تمجيد الحياة العملية والإعراض عن هذه الحياة العلمية الخالصة، بحجة أن هذه الحياة العملية هي وحدها المنتجة، وهي الملائمة لطبيعة الأشياء وحاجات الناس ومذهب المنفعة بعبارة موجزة.
ومهما يكن الغرض الذي قصد إليه الكاتب، فإن قصته لا تخلو من لذة قوية ونفع كثير. ولو لم يكن للكاتب إلا هؤلاء الأشخاص الذين قد صورهم فأحسن تصويرهم، لكانت قصته خليقة بالعناية، فكيف وقد وفق فوق هذا لطائفة أخرى من المعاني تبشر بأن سيكون له في فن التمثيل مستقبل لا بأس به.
على أني لا أحب أن أبدأ في تحليل القصة وعرض أشخاصها عليك قبل أن ألاحظ أن الفصل الثاني من هذه القصة خليق أن يمحى، فليست إليه حاجة فنية، وربما كان من الإتقان الفني أن يترك الكاتب للقارئ أو للنظارة تقدير ما جاء فيه. على أن هذا الفصل نفسه لا يخلو من فكاهة رائقة وتفكير عميق. ولعل هذا هو الذي حمل الكاتب على أن يضحي بالفن التمثيلي في سبيل الفن الأدبي الخالص. •••
الأشخاص الذين يستحقون أن يعرضوا في هذه القصة أربعة: أولهم؛ «جان بليز» وهو رجل في السابعة والخمسين من عمره، أنفق حياته كلها في درس اللغة اليونانية، ووفق في هذا الدرس إلى حظ من الفوز فتن به الناس جميعا، فنال أوسمة الشرف كلها من حكومته الفرنسية، وهو يوشك أن ينتخب عضوا في المجمع العلمي وأن يختار أستاذا لليونانية في السوربون، وهو في سبيل هذا المجد العلمي قد أخذ نفسه بألوان من الشدة في حياته، فرفض الحب رفضا قاطعا وانصرف عن النساء وعن لذات الحياة كلها. ثم لم يكتف بهذا، بل خيل إليه أنه من هذه الطائفة المختارة التي خلقت لتقود الإنسانية وترقيها. وهو مطمئن إلى هذه المكانة مقتنع بأنه قد أصبح من الخالدين، وهو يزدري الحياة العملية والذين بضطربون فيها، لا يؤمن لهم إلا بأنهم خدم يهيئون للعلماء حاجاتهم فيعينونهم على تأدية ما يؤدونه من نفع هذا النوع الإنساني. وهو بهذا كله مؤمن ، مقتنع بإيمانه، لا يقبل فيه جدالا ولا نزاعا. ولكن نفسه على شدة اقتناعها بهذا كله لم تستطع أن تقهر حسه ولا أن تفله ولا أن تلطف من حدة شعوره، فهو في جهاد متصل بين العلم والهوى. وأكبر الظن أنه إنما أمعن في العناية بالعلم ووقف حياته عليه حين أحس الإخفاق في الحب وأشفق ألا يعجب النساء. وآية ذلك أن هذا الجهاد قد بلغ من العنف أن آذاه وأضناه وظهرت آثار هذا الأذى في مجموعته العصبية التي نشعر منذ الفصل الأول بأنها قد أخذت تضعف وتضطرب حتى أشفقت عليه خادمه أن يكون قد أصيب بأحد أمراض المعدة. وقد وفق الكاتب توفيقا غريبا لأن يعرض علينا شخصية هذا الرجل عرضا قويا، فقد ألف هذا الرجل من شخصين مختلفين: أحدهما؛ هو هذا العالم الذي عرضته عليك، والآخر؛ شاب يمثل هذا الرجل حين كان طالبا وحين كانت نفسه تنازعه إلى الحب والنساء، وجعل الصراع بين هذين الشخصين ماديا خارجيا يرى بالعين.
الشخص الثاني؛ عميد كلية الآداب، وهو رجل متقدم السن عالم، ولكن فيه عيوب أمثاله من العلماء الذين يشغلون المناصب ويحرصون على أن يرضى عنهم الجمهور والرؤساء، فهو حسود مسرف في الحسد، وهو منافق غال في النفاق، وهو إلى ذلك جبان عظيم الحظ من الجبن، وهو يتقن العلم ويظهر الإيمان به، ولكنه في حقيقة الأمر يزدريه ويشك فيه.
الشخص الثالث؛ فتاة في ريعان الشباب هي «سسيل بواسييه»، طالبة في الجامعة تدرس اللاتينية واليونانية، جميلة ولكنها فقيرة، تعنى بأن تعيش، ولا تكاد تفكر فيما يفكر فيه الفتيات من حب أو لهو، مستعدة كل الاستعداد للتضحية، ولكنها لا تكاد تحس الحب حتى تظهر فيها الأثرة ويظهر عجزها عن التضحية.
الشخص الرابع؛ فتى صربي هو «ستيبانوفيتش»، كان من جنود الحرب الكبرى، أبلى فيها بلاء الأبطال، فلما انتهت عاد إلى مهنة التعليم التي كان يعيش منها، ثم بدا له فجاء إلى فرنسا يتم درس اليونانية. وهو كبير النفس صبور محتمل للمكروه في سبيل العلم، لا يتردد في أن يتخذ صناعة الجمال في محطة السكة الحديدية ليتمكن من الدرس. وهو رقيق النفس قوي العاطفة، ولكنه يعرف كيف يكتم حبه، فإذا ظهر له أنه يستطيع أن يعلن هذا الحب دون أن يتجاوز الحق والعدل، مضى في ذلك غير مشفق ولا متردد ولا محجم عن أشنع أنواع القسوة.
هؤلاء هم أشخاص القصة، فلننظر كيف يضطربون فيها. •••
نحن في مدينة جامعية من مدن الأقاليم، في دار «جان بليز» آخر النهار، قد ذهب الأستاذ إلى الجامعة ليلقي درسه. فإذا رفع الستار رأينا خادمه يتحدث إلى صديق أقبل ليزوره ومعهما عميد كلية الآداب قد جاء وكأنه يحمل نذير سوء. ثم ينصرف هذا العميد منذرا بعودته، فإذا خلت الخادم إلى صديق سيدها أخبرته بأن سيدها متعب مضطرب الأعصاب قد يتحدث إلى نفسه إذا جنه الليل، وعللت ذلك باضطراب في المعدة، وعلل الصديق ذلك بالوحدة.
ثم يأتي الأستاذ، فإذا كانت بينه وبين صديقه التحية المألوفة وجلسا يتحدثان، فهمنا أن هذا الأستاذ قد ذهب مرة إلى مصر فوجد في بعض أديرتها نسخة قديمة كتب عليها الإنجيل باللغة اللاتينية، ثم تبين أنه قد كان مكتوبا قبل الإنجيل شيء باللغة اليونانية، فمحا الإنجيل وأخضع نسخته لعمل كيميائي مكنه من كشف الأصل لهذا النص اليوناني، فإذا هو كتاب من كتب أفلاطون يقال له «فايتون». ولكن هذا الأصل كان مضطربا قد عبث به الزمان، فلم تبق منه إلا كلمات وجمل منها التام ومنها المبتور، فجد في ذلك حتى أصلحه وأتمه. وقد أنفق في هذا العمل أعواما طوالا، ثم نشره فاضطرب له العلماء في أقطار الأرض، وكادوا يجمعون على أن هذا الأستاذ قد أخرج للناس أقوم أثر من آثار أفلاطون من الوجهة اللغوية والأدبية والفلسفية. وعرفت الحكومة الفرنسية لهذا الأستاذ حقه فكافأته بالأوسمة، وهي تريد أن تنقله إلى السوربون، وهو يوشك أن يكون عضوا في المجمع العلمي. ويحدث بهذا كله صديقه الذي لا يكاد يفهم منه شيئا لأنه يعمل في التجارة، فإذا ظهر منه عجزه عن الفهم كانت بينه وبين صاحبه مناقشة رأينا منها كبرياء الأستاذ بعلمه وازدراءه لغيره من الحياة والأحياء.
وبينما هما كذلك إذ تقبل «سسيل بواسييه» إحدى تلاميذ الأستاذ، تريد أن تستعير من أستاذها كتابا فيعيرها إياه. ولكنهما لا يكادان يتحدثان حتى نحس من الأستاذ ميلا خاصا إلى هذه الفتاة وعطفا عليها، ومن الفتاة إعجابا بالأستاذ. والفتاة لم تأت في حقيقة الأمر لتستعير الكتاب، إنما جاءت لتعرض على أستاذها أن رفيقا لها من الطلبة هو «ستيبانوفيتش» قد ضاقت به سبل الحياة، فهو مضطر إلى أن يعود إلى وطنه، وقد تعاون رفاقه فيما بينهم فجمعوا له مقدارا من المال. ولكنهم لا يعرفون كيف يدفعون إليه لأنه شديد الكبرياء، فهم يتوسلون بالأستاذ ليؤدي إليه هذا المقدار، فإذا سمع الأستاذ هذا، رد المقدار إلى الفتاة ووعدها بأن يصلح من أمر الفتى، ثم أخذ يلومها لأنها لم تحسن كتابة الموضوع الذي طلب إليها كتابته باليونانية. وتنصرف الفتاة، ويأتي الفتى الصربي مودعا الأستاذ، فلا يمكنه الأستاذ من أن يتكلم، بل يفجؤه بأن يعلن إليه أنه سيطبع كتابا من كتب «كسينوفون»، وقد أعد لهذا الكتاب شرحا وتعليقا، ولكن أوراقه في حاجة إلى الترتيب والنسخ، فهو يكلفه هذا العمل ويأجره عليه ويدفع إليه بعض هذا الأجر مقدما، والفتى مغتبط بهذا لأنه يمكنه من إتمام الدرس وتأدية الامتحان دون أن يؤذي كبرياءه.
فإذا خرج الفتى وهم الأستاذ أن يستأنف حديثه مع صديقه، أقبل عميد الكلية، فيتلقاه الأستاذ عابسا منقبضا، ويسرع العميد فينبئه بأنه جاء يحمل إليه نبأ سيئا ويأخذ في تعزيته وتشجيعه. فإذا ألح عليه ليعرف هذا النبأ، أعلن إليه أن العالم الإنجليزي «كولسون» قد ذهب إلى مصر واستكشف فيها نسخة من كتابه «فايتون»، وكانت نسخة صحيحة واضحة لا عيب فيها، وظهر من قراءة هذه النسخة أولا: أن الكتاب ليس لأفلاطون، وإنما هو لنحوي من أهل الإسكندرية كان يقلد أفلاطون في القرن الأول للمسيح؛ أي بعد أفلاطون بأربعة قرون، ثانيا: أن كل ما اقترحه الأستاذ لإصلاح النص وتكميل جمله وألفاظه وتصحيحها خطأ. وهذا العالم الإنجليزي ينشر نسخته التي استكشفها، ولكنه يرسل منها مسودة ليقرأها الأستاذ قبل أن تظهر للناس. ثم يدفع العميد هذه المسودة إلى الأستاذ، ويأخذ هذا في قراءتها والاضطراب يملكه شيئا فشيئا، وقد ظهر ذلك عليه، فنهض صديقه، وخرج العميد ليتركا الرجل منفردا إلى مسودته.
وفي أثناء ذلك يظهر فتى كأنما انشق عنه الحائط وهو رث شاحب، فيقف خلف الأستاذ وينظر محزونا كأنه يقرأ المسودة. •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضت أيام على هذه القصة وظهر أمرها للناس، وافتضح الأستاذ فضيحة منكرة، وانقسم فيه العلماء الذين كانوا يعجبون به، فمنهم من يتهمه بالجهل المنكر، ومنهم من يتهمه بالتدليس القبيح. وقد كانت هذه الفضيحة صدمة للرجل حالت بينه وبين الذهاب إلى الجامعة أياما، وكأنه قد استرد قوته فعزم أن يستأنف دروسه. وأقبل الطلبة مضطربين يريدون أن يروه وأن يسمعوه وهم في أمره مختلفون اختلاف العلماء والجمهور، ولكن العميد يحاول أن يؤخر استئناف هذا الدرس، فيغري أحد الخدم بأن يصد الطلبة عن قاعة الدرس، ويعلن إليهم أن الأستاذ قد أجل درسه، ولكن بعض الطلبة يأبون إلا أن يقتحموا غرفة الدرس. وهم جلوس وقد رأى العميد أن لا بد من استئناف الدرس، فأقبل يخطب الطلبة يعيب أستاذهم وكأنه يرثي له، ويغريهم به وكأنه يعطفهم عليه.
ويأتي الأستاذ فيتخذ ثوبه الرسمي ويجلس إلى مائدته، وإذا الفتى الذي رأيناه في آخر الفصل الأول قد ظهر ووقف في آخر الغرفة تجاه الأستاذ. وبدأ الأستاذ يتكلم فإذا هو يعترف بأنه قد أخطأ في كل شيء؛ فليس الكتاب لأفلاطون، وليس تصحيحه لهذا الكتاب حقا ولا مقاربا، وإنما يشتمل على أكثر من ثمانمائة غلطة. ولكن هذا الكتاب حقا ولا مقاربا، بالخطأ قد خدع الذين يعنون باليونانية جميعا سواء منهم اللغويون والأدباء والفلاسفة، كلهم قبله، وكلهم أظهر الإعجاب به. وينتقل الأستاذ من هذا إلى أن العلم ليس شيئا، وإنما هو وهم في وهم وضلال في ضلال، وأن العالم أشبه الناس بالرجل الذي اهتدى إلى كنز في مكان مظلم فاتخذ المصباح ليصل إليه، ولكنه شغل بالمصباح عن الكنز، فأخذ يرفع ذبالته حينا ويخفضها حينا آخر. وليس العقل الإنساني إلا هذا المصباح الذي يشغل العلماء عن الحياة وما فيها من لذة ومتاع، وإذا الأستاذ يحث تلاميذه على الإعراض عن العلم والاستمتاع بلذات الحياة، ويمضي في ذم العلم ومدح اللهو إلى حيث يوشك أن يكون متصوفا، ثم ينهض فيلقي عنه ثوب الأستاذية، ويعلن إلى تلاميذه أنه مستقيل. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في بيت الأستاذ مساء هذا اليوم، وقد تغيرت غرفته من الكتب خلوا تاما. وهو جالس إلى مكتبه ينظر في أوراق ثم يمزقها، وقد جاء العميد يسأله عن كلمات زعموا أنه قالها في درسه وهي لا تليق بالعالم ولا بالأستاذ، فلا ينكرها بل يزيد عليها ويرفع إلى العميد استقالته من الأستاذية، ويلح العميد عليه مخلصا في أن يسترد هذه الاستقالة فيأبى. وهنا تنكشف لنا نفس العميد، فهو يتخذ العلم ورياسة كلية الآداب صناعة لا أكثر ولا أقل، وهو لا يؤمن بعلم ولا يؤمن بجامعة، وإنما يؤمن بالحياة: بامرأته وولده. وهو يشبه العلماء حين يظفرون بالحق فيفرحون، أو يردون عنه فيحزنون، بالأطفال الذين يتحاربون لاعبين، فيخيل إليهم أنهم يجدون وإذا هم يطلبون الفوز ويفرحون به حقا ويكرهون الهزيمة ويحزنون لها حقا. ولكن الأستاذ مصر على استقالته، فينصرف عنه العميد. ويخلو الرجل إلى نفسه حينا، وإذا الشاب الذي رأينا في الفصلين الماضيين قد مثل أمامه، فيكون بينه وبين الأستاذ حوار بديع مؤثر حقا. فليس هذا الشاب في حقيقة الأمر إلا الأستاذ حين كان طالبا وحين كان يكره نفسه على العلم ويصرفها عن الحب واللهو. وقد تمثل هذا الشاب القوي الفتى المحروم في شخص هذا الفتى، وأقبل يعرض على الشيخ ذكرى هذا الحرمان، والشيخ يدافعه، ثم لا يلبث أن يمضي معه في الذكرى. فانظر إليه حين كان يستيقظ قبل آخر الليل، فيقبل على اليونانية يقرأ ويكتب ويستظهر. وانظر إليه كيف كان يغدو مع الصبح فيسلك إلى الجامعة أبعد الطرق عن الفتنة منصرفا عن ضوء الشمس وجمال الربيع وابتهاج المدينة . وانظر إليه كيف كان يلوي وجهه عن هذه الفتاة الحسناء تمر إلى جانبه. وانظر إليه كيف أحب وعبث الحب بقلبه، ولكنه مع ذلك أبى أن يعلن حبه، وأخذ يخادع نفسه عن هذا الحب، وأخذ يتجاهل ميل صاحبته إليه، فلا يحييها ولا يظهر الميل إليها. وانظر إليه مع ذلك كيف أهوى مرة إلى زهرة ألقتها هذه الفتاة، فاحتفظ بها منذ عشرين سنة، فهي الآن جافة ذابلة، ولكنه لا يكاد يلمسها حتى تتفتح وتسترد نضارتها. ثم انظر إليه كيف يعتذر إلى شبابه فيزعم أنه لم يكن جميلا ولا وسيما ولا جذابا للنساء، ولكن حركة يأتيها الفتى فإذا هو جميل وسيم حسن الطلعة مقتنع بأنه كان يستطيع أن يظفر بحب النساء. يعرض الفتى على الشيخ شبابه وما صنع فيه من لذة وما أهمل فيه من فرصة، والشيخ يضطرب عليه شيئا فشيئا حتى يدنو من الجنون، وإذا هو يستغيث، فتقبل الخادم فلا ترى أحدا ويستخزي الشيخ.
ولكن هذه «سسيل» قد أقبلت تعلن إلى الأستاذ باسمها وباسم رفاقها دهشهم مما سمعوا، فيؤكد الأستاذ أنه لم يكن مازحا ولا عابثا، ويعلن إليها أنه مستقيل، فتلح عليه في أن يسترد استقالته فيأبى. ويكون بينهما حوار نفهم منه أنه يحب الفتاة ويود أن يجد لحبه صدى في نفسها، وهو يتلمس هذا الصدى فلا يجده، فهو يضطرب بين اللين والشدة، حتى إذا استيأس ترك الفتاة تنصرف. ولا يكاد يخلو إلى نفسه حتى يعود إليه الفتى فيلومه لوما عنيفا؛ لأنه يحب هذه الفتاة، وقد تركها تنصرف، وقد كان يستطيع أن يعلن إليها حبه، فينكر هذا الحب، ثم يعترف به، ثم يعتذر عن إحجامه بأنه متقدم السن وقد ظهرت عليه آفات الكبر. ولكن الفتى يقنعه بأنه ما زال محتفظا بقوته قادرا على أن يستمتع بالحياة، والفتاة عائدة بعد حين لأنها نسيت حقيبتها، وهي إنما نسيتها لأنها تحب الشيخ، فإذا عادت فليعلن إليها حبه، وليكن بها رفيقا ولها ملاطفا وفي حديثه إليها لبقا. وقد عادت الفتاة تلتمس حقيبتها، فيدعوها إلى البقاء حينا ، وما هي إلا أن يتخذ طريقه إلى الحب فيعلنه إلى الفتاة، فتدهش ويطلب إليها الزواج فتضطرب ثم تتردد، ويكاد يستيئس منها، فيعلن إليها هذا اليأس وأنه سيقتل نفسه، فتشفق وتلين وتضعف، فيدنو منها يريد أن يقبلها، فتأبى وتفزع وتتراجع، فإذا رأى الفتى هذا قام مقامه في هذه المداعبة والملاينة فظفر من الفتاة باللثمة التي يرجوها، وإذا الفتاة مستأنسة مطمئنة قد جلست إلى جانب الشيخ وأسندت رأسها إلى كتفه وهي تتنسم تلك الزهرة التي كانت جافة فعادت نضرة. •••
فإذا كان الفصل الرابع فقد مضت أيام على هذا، وتم الاتفاق بين الشيخ والفتاة على أن تكون له زوجا وعلى أن تقيم عنده أياما، ثم يسافران إلى حيث يقيم وصيها فيكون الزواج، وسيسافران اليوم مع الظهر. ونحن نرى الشيخ قويا وسيما حسن الزي مطمئنا إلى الحياة مبتسما لها يمشي في غرفته مشية المطمئن الراضي. ولكن العميد قد أقبل يعلن إليه أن الناس يتحدثون بمقام الفتاة عنده وينكرون ذلك، وقد كتبت فيه صحف السوء واتهمت كلية الآداب كلها بالعبث والمجون، وذلك شر يرغب الناس عن الكلية وأساتذتها، وقد أصبحت الكلية حديث الناس وشك فيها الجمهور حتى إن امرأته قد أعلنت إليه أنها لن تدعه يذهب وحده إلى الكلية. ولكن الشيخ لا يحفل بكلام العميد ولا بكتابة الصحف ولا بسخط الجمهور، فهو سعيد، وهو يريد أن يتخذ الفتاة له زوجا، وهو سيبرح هذه المدينة وجامعتها وجمهورها.
فإذا انصرف العميد وأقبلت الخادم رأيناها ليست أقل من العميد سخطا على الأستاذ، وكيف لا تسخط وهو شيخ يريد أن يقترن من فتاة، وهو يحتجز الفتاة عنده وليست زوجا ولا خطيبة، والناس يتحدثون: أليست بائعة الفاكهة قد تحدثت إليها في ذلك ساخرة ساخطة؟! ولكن الشيخ لا يحفل بها ولا ببائعة الفاكهة.
وانظر إلى الفتى قد أقبل، ويسأله الشيخ فيم جاء؟ فيأخذ الفتى في لومه: أليس يحب هذه الفتاة؟ أليست هذه الفتاة تحبه؟ فما باله لا يظفر منها بما يطمع فيه المحبون؟ وما باله يدعها تقضي الليل وحيدة في غرفتها وهو في غرفته مسهد يضنيه الحب وتعذبه الشهوة؟! والفتى يغريه والشيخ يدافعه. ولكن انظر إليه كيف أثر فيه الإغراء، فملكت الشهوة عليه أمره ودنا من غرفة الفتاة تدفعه إليها الرغبة، وكاد يدخل لولا بقية من شرف ووفاء ردته عن ذلك، فينهر الفتى ويكبح شهوته ويؤثر انتظار الزواج.
وهذه الفتاة قد أقبلت فيلقاها باسما، وترد تحيته في دعة واطمئنان، وتعرض عليه أن يكون الزواج في هذه المدينة، وأن يكون الفتى الصربي من شهود هذا الزواج. ثم تأخذ في الثناء على الصربي وذكر بلائه في الحرب، فيحس أن في نفسها من هذا الفتى شيئا، وقد خرج الأستاذ لبعض شأنه على أن يعود بعد حين.
وأقبل الفتى الصربي يريد أن يرد إلى الأستاذ كتابه وماله لأنه مسافر، ولا يكاد يتحدث إلى الفتاة حتى نفهم أنه لا يسافر زهدا في العلم ولا عجزا عن الإقامة، وإنما يسافر يأسا وقنوطا، فهو يحب الفتاة ولكنه لم يعلن إليها حبه، وقد مضى الوقت وجاء هذا الإعلان متأخرا والفتاة تدافعه وتعتذر عن نفسها بضعف الشيخ ويأسه، وأنها لا تعرف الحب ولم تحسه، وقد أخذت نفسها بأن تعيش مع هذا الرجل كما تعيش الممرضة مع المريض. ويهم الفتى أن ينصرف، فتمسكه، ويمضيان في الحوار، حتى إذا استيقن أن لم يكن بينها وبين الشيخ إثم التمس الحب عندها فوجده في قلبها تستحي له الفتاة وتتراجع.
وهذا الأستاذ قد عاد، فيرد الفتى إليه كتابه وماله، ثم يعلن إليه في لين لا يخلو من القسوة أنه لا يستطيع أن يتزوج من هذه الفتاة. وقد تركتهما الفتاة، فيكون بينهما حوار عنيف فيه غيرة وحقد، فيه غيرة الشباب الطامع في الحياة يريد أن يستقبلها في أمل ولذة، وفيه غيرة الشيخ اليائس يريد أن يظفر من الحياة بنصيب. وقد اتفقا على أن يحكما الفتاة نفسها، فتدعى ويرد عليها الشيخ حريتها ويسألها أن تختار بينهما. فتسأله: وإلى أي حال تصير وحدك؟ ... ويفهم الشيخ، فانظر إليه يائسا قد صعقه اليأس وانصرف عنه المحبان.
وانظر إلى الفتى قد ظهر يزجره وينهره، وهو الآن لم يأت ناصحا ولا رفيقا، وإنما جاء ثائرا محنقا يريد أن ينتقم لشبابه المضيع. وقد تغير المسرح بعض الشيء، وأخذنا نسمع ونرى ضجيج الرقص وحركته وأصحاب اللهو يسرفون في لهوهم، والمومسات يتهالكن على الناس فتنة وإغراء، والفتى يدفع الشيخ إلى هذا اللهو، والمومسات يدعونه إليهن، وقد كاد الشيخ يقبل لولا بقية من شرف وكرامة فهو يأبى ويتراجع، والفتى يدفعه منتهرا زاجرا منذرا معلنا إليه أنه قد أفسد عليه شبابه فليفسدن عليه شيخوخته! ولكن الشيخ يأبى. وانظر إليه قد اعتصم آخر الأمر بكتب بقيت له، فهو يلتمس عند العلم العزاء بعد أن يئس من الحب، وكذلك فعل شابا، ولكن الفتى ينازعه ويكون بينهما جهاد يصرع له الشيخ. وتسمع الخادم فتسرع إلى سيدها فإذا هو طريح، فإذا أقبلت إليه لتسعفه نهض متثاقلا وأمرها أن تلتمس الطبيب فتخرج، ويعمد الشيخ إلى مسدسه فيخرجه وهو يعتصم بالمسدس حينا وبالكتاب حينا آخر، ولكن الفتى قد أقبل مرة أخرى، وظهرت الحانة والرقص والفتى يدعو الشيخ إليهما فيأبى، ويطلق مسدسه على الفتى فلا يصيب منه شيئا. وانظر إلى الفتى فهو الذي يتناول المسدس وهو الذي يطلقه على الشيخ. وانظر إلى هذا الشاب المضيع وقد انتقم لنفسه من هذا الشيخ فهو يسقط صريعا.
يونيو سنة 1927
زوجها
قصة تمثيلية للكاتبين الفرنسيين «بول جيرالدي وروبير سبتيزر»
بول جيرالدي كاتب يفتن به المترفون في شعورهم وعواطفهم من الفرنسيين؛ لأنه مترف في شعوره وعواطفه، ومترف بنوع خاص حين يحلل العواطف والشعور. تناول طائفة من الموضوعات في قصصه التمثيلي، فاستطاع أن يبلغ من دقة التحليل ولطف المدخل إلى القلوب ما أسرع به إلى بيت موليير وأنزله منه منزلة رفيعة.
ولست أدري أيذكر القارئ أني تحدثت إليه في غير هذا الموضع عن قصة من قصصه التمثيلية سماها الحب، وحلل فيها الصلة بين زوجين متحابين يعرض لهما من أسباب الفتنة ما يصرف المرأة عن زوجها حينا، ثم تتكشف الخبرة لهذه المرأة عن حقيقة الأمر فتتبين أنها كانت مفتونة لا عاشقة ، وأن حبها إنما كان مقصورا على زوجها حتى في أشد أوقات الفتنة؛ ذلك لأن الحب شيء غير الشغف وغير الهيام وغير هذه الشهوات التي تملك النفس فتفسد عليها الأمر حينا. فيه ثقة تمكن المتحابين من أن يطمئن كل منهما إلى صاحبه، فلا يسمح لنفسه بالشك فيه ولا يتخيل هذا الشك، وتمكنهما من أن يعتمد كل منهما على صاحبه اعتمادا لا حد له. فيه هذه الثقة التي تمكن الزوج من أن يجيب امرأته حين أنبأته بأن فلانا يتبعها بحبه، وطلبت إليه أن يحميها من هذا الحب: «مثلك لا يحتاج إلى حماية ولا حراسة، ولا خير في حب يتكلف صاحبه أن يقوم دونه يدفع عنه المغيرين.» ثم فيه إلى جانب هذه الثقة ألوان من الذكرى يسيرة ضئيلة في نفسها، ولكن الحب يتألف منها، أو قل: إنها هي التي تؤلف حياة المتحابين.
وقد وفق «بول جيرالدي» في هذه القصة توفيقا عظيما دون أن يحتاج إلى حركة أو مشقة في تدبير هذه الحركة، وإنما هي كلها حوار بين الزوجين، أو بين المرأة وذلك الذي أراد أن يفتنها. ثم لم يقف توفيق «بول جيرالدي» عند هذه القصة، بل تجاوزها إلى قصة أخرى فتنت الباريسيين في السنة الماضية، وهي قصة «روبير وماريان»، وهو على هذه الإجادة في التمثيل شاعر مجيد دقيق، يحبه الفتيان والفتيات، ويقرءون له بنوع خاص ديوانا صغيرا عنوانه «أنت وأنا»، تناول فيه العلاقة بين العاشقين من نواحي الحياة المنزلية اليومية في لطف ودعة وخفة روح.
ولكن «بول جيرالدي» على هذا كله صاحب جد، وحظه من الهزل قليل. هو مترف في جده، خفيف الروح، يحاول الدعابة والفكاهة، ولكنه لا يبلغ منهما ما يريد، أو هو لا يريد أن يبلغ منهما شيئا. وكأنه كان محتاجا إلى أن يعينه زميله الذي اشترك معه في وضع هذه القصة التي أتحدث إليك فيها اليوم. كان محتاجا إلى هذه المعونة ليلائم بين جده وفلسفته المترفة وبين ما يحتاج إليه الباريسيون في هذه الأيام من الفكاهة واللهو حتى في أوقات الجد والتفكير العميق. وقد ظفر «بول جيرالدي» من معونة زميله بما أحب وبما أحب الباريسيون، فجاءت هذه القصة الأخيرة آية في الجد والفكاهة معا. فأنت لا تستطيع أن تمضي في قراءتها دون أن ترى نفسك مغرقا في الضحك، ولكنك في الوقت نفسه مغرق في التفكير والتأمل؛ ذلك لأن الموضوع كله جد، ولكن الصورة كلها هزل، لفظ رشيق فيه عبث كثير، ولكن من دون هذه الرشاقة والعبث حقيقة من هذه الحقائق التي يجب على كل إنسان أن يفكر فيها وأن يلائم بينها وبين سيرته مع زوجه.
وفي الحق أن روحي هذين الكاتبين قد التأما في هذه القصة التئاما بديعا. وحسبك أنهما استطاعا أن يحملاك على أن تفكر في أشد الموضوعات خطرا دون أن تجد في ذلك مشقة أو عنفا، بل على أن تجد في ذلك لذة لا تعدلها لذة. ولكن هذه المشقة التي لا تجدها أنت حين تقرأ القصة أجدها أنا حين أحاول أن ألخصها لك؛ ذلك لأني أستطيع أن ألخص لك موضوعها وغرضها، ولكني لن أستطيع أن ألخص لك شكلها وصورتها وحوارها وما فيه من رشاقة وخفة وسرعة، فكل ذلك لا سبيل إلى نقله إلا في ترجمة دقيقة ليست من السهولة واليسر بحيث تظن.
فلأعرض عليك ما أستطيع من هذه القصة معترفا منذ الآن بأنه تلخيص للموضوع لا أكثر ولا أقل. ولأسلك في هذا العرض الطريق التي تعودت أن أسلكها في غير هذه القصة، فأضع أمامك الأشخاص كما أراد صاحب القصة أن يكونوا.
والقصة تعتمد قبل كل شيء على التناقض بين شخصين متباينين تباينا تاما في الطبيعة والذوق والمزاج، ولكنهما يخدعان عن نفسيهما، ويخيل إليهما أنهما متفقان مؤتلفان لا تباين بينهما ولا تناقض.
فأما أحد هذين الشخصين فالزوج، واسمه «مكسيم مينار»، رجل من أغنياء باريس وأصحاب الأعمال فيها، رجل كغيره من الناس، عادي في ذوقه ومزاجه، وربما كان إلى الطبقة السفلى أقرب منه إلى الطبقة العليا. فإن امتاز بشيء فهو يمتاز بجده في العمل ومهارته في تصريف الأمور المالية، وهو لذلك كثير الصمت قليل الكلام قليل الحركة أيضا، لا يكاد يتصور الحياة إلا على أنها انهماك في العمل حين يكون في مكتبه، وأكل ونوم حين يأوي إلى بيته. وهو على ذلك قانع بهذه الحياة، يرى فيها المثل الأعلى للسعادة. وهو لا يفهم من الزوجية إلا أن يرى امرأته في البيت زينة له وأداة للهوه الذي لا يصيب منه إلا قليلا من حين إلى حين. وهو يفهم الأمانة الزوجية كما يفهمها غيره من الناس، لا يخون زوجه ولا يريد أن تخونه زوجه. يكره العبث، ويسيء الظن بكل لون من ألوان المجون والمزاح، ولكنه مع هذا كله ضعيف طيب القلب، مستعد للعفو إن وقع له ما من شأنه أن يحفظ الرجال. هو رجل طيب، ولكنه يعيش في الأرض، وليس له جناحان يستطيع أن يرتفع بهما في الجو ولو قليلا.
أما امرأته «جاكلين» فجميلة خلابة ككل نساء القصص، ولكنها تناقض زوجها أشد المناقضة؛ فهي قوية الخيال تعيش في السماء لا في الأرض، لا ترى الناس كما هم، وإنما تراهم كما تحب أن يكونوا، تصوغهم صوغا خاصا، وتسبغ عليهم صورتها الخاصة، ثم تعيش معهم بعد ذلك عيشة راضية ملؤها الصفاء والطهر والثقة والإيمان؛ ذلك أن نفسها تتصف بهذه الصفات كلها، فهي راقية تتنزه عن الدنيات، وهي طاهرة لا يكاد يخطر لها الإثم على بال، وهي مطمئنة على نفسها، فيبعثها ذلك على أن تطمئن إلى الناس وتثق بهم ثقة لا حد لها، وهي على هذا كله مترفة في تفكيرها وشعورها، رقيقة العاطفة، رقيقة المزاج قوية الحس، تألم لكل شيء وتسر لكل شيء، وتنتقل من الألم إلى السرور ومن السرور إلى الألم في سرعة غريبة، تعيش في حلم مستمر. وهي بعد هذا كله قد صاغت زوجها في صورة ملائمة لصورتها، فاستيقنت أنه أجل الناس، وأكرمهم، وأرقهم طبعا، وأصفاهم مزاجا، وأبعدهم نظرا، وأصدقهم حكما على الأشياء والناس أيضا، حتى إذا أسبغت عليه هذه الصورة الجميلة الخلابة أحبته وفتنت به، واندفعت في هذا الحب والفتنة إلى أقصى أمد ممكن ، وأخذت تؤول عيوبه على أنها محاسن ومزايا. هو كثير الصمت، لا يتحدث إليها في الحب والغزل؛ ذلك لأنه رقيق دقيق، ولأن الحب أجل من أن يتناوله الكلام، ولأن الكلام يفسد الحب إذا تناوله. وما حاجتها إلى الكلام؟! أليس يكفي أن ينظر إليها زوجها، فترى في هذه النظرات ما تشاء من حب وشغف وولاء وإخلاص؟! وهو لا يحب اللهو ولا السمر، وما حاجتها إلى اللهو والسمر؟! أليس ذلك دليلا على أنه رجل جد وعمل؟! وما حاجتها تراه وقد عاد إلى البيت فنظر في رسائله ثم قال بصوت مغضب: ما لنا لا نذهب إلى المائدة؟! إن في هذا كله لحبا وفتنة. وعلى هذا النحو أحبت زوجها وسعدت بحبه ثلاثة أعوام كاملة، واتخذت نفسها وزوجها مثالا أعلى للأسرة السعيدة المتحابة. ولكنها كانت تجهل زوجها، وكانت تجهل نفسها أيضا، وكانت في حاجة إلى حادثة من الحوادث تظهرها على حقيقة نفسها، وتعرض عليها زوجها كما هو، وتنزلها من السحاب الذي كانت تعيش فيه إلى الأرض، لترى الناس والأشياء كما أراد الله أن يكونوا لا كما صورهم الخيال.
ومن غريب الأمر أن في هذه القصة شخصا ثالثا يناقض «جاكلين» من بعض الوجوه، ويوافقها من بعضها الآخر، وهو مثل شائع الآن في فرنسا. هذا الشخص هو «جيزيل» أخت «جاكلين»؛ فتاة تدرس الطب، حرة في لفظها وحركاتها وسيرتها، مسرفة في هذه الحرية، لا تتحرج من أن تستعمل في لغتها ألفاظا يألفها الطلاب وحدهم وينفر منها المترفون، ولا تتحرج من أن تقضي يومها وشطرا من ليلها مع الشبان في لهو وعبث ومجون، ولا تكره أن تعود إلى بيتها بعد منتصف الليل وقد لهت ورقصت وصاحبها إلى البيت شاب من زملائها في الدرس. ولكنها على هذا كله طاهرة السيرة، تستطيع أن تقول لأختها: إنها على عبثها ولهوها لا تزال عذراء وستظل عذراء. وهي لا تكره أن تعلن إلى أختها صراحة أن الحب قد بطل في هذا العصر، وأن البدعة إنما هي في الدعابة والعبث ليس غير. ومن دون هذا كله قلب خير ملؤه البر والحنان، ونفس راقية تحب المثل الأعلى وتطمح إليه، ولكنها تراه عزيزا فتتسامح، وتنظر إلى الحياة مبتسمة في شيء من السخرية المرة تغشيها حلاوة متكلفة. هي كأختها لولا أن حظها من العقل يفوق حظها من الخيال.
وهناك شخص رابع، هو أم هاتين الفتاتين: امرأة متقدمة في السن، تمثل عصرها وتعيش غريبة في هذا العصر الجديد، لا تفهم «جاكلين» لأنها تعيش في السحاب، ولا تفهم «جيزيل» لأنها تحللت من القيود المألوفة، وهي معذبة بينهما دائما أنهما ستقلانها.
ثم هناك شخص خامس نستطيع أن نقول إنه البطل الثاني من أبطال هذه القصة، وهو «أندريه مورو»، شاب قد جاوز الثلاثين قليلا، حسن الطلعة، متقن الزي، غني، متصل بالأسر الراقية، شديد الحياء، ولكنه حاد العاطفة والمزاج، ضعيف فيما يظهر، لا يكاد يملك نفسه ولا يسيطر على عواطفها. أكاد أرى أن الكاتبين قد خلقاه خلقا وبعدا به بعض الشيء عن الأشخاص المألوفين. وهو كما خلقاه خفيف الروح جذاب، عذب اللسان منطلقه، يندفع في ذلك حتى يخيل إليك أنه مجنون. وهو في حقيقة الأمر مجنون، قد ذهب الحب بعقله حينا فأصبح كهؤلاء الذين يخضعون للتنويم المغناطيسي. •••
هؤلاء هم أشخاص القصة، والقصة في نفسها قصيرة كما أن الوقت الذي تقع فيه قصير، لا يكاد يتجاوز اليومين، أو قل لا يكاد يبلغهما. وهي تذكرنا كما قلت بقصة الحب لولا أن الزوجين في قصة الحب كانا مؤتلفين في رقة الطبع ورقي النفس، وهما في هذه القصة مختلفان، ومن هنا انتصرت الزوجية في قصة الحب، وانهزمت في هذه القصة، لولا أن قصة الحب جد كلها، وهذه القصة جد قد صيغ في لفظ فكاهي. •••
نحن في بيت «جاكلين» آخر النهار، وقد فرغت من استقبال زائريها في هذا اليوم الذي تعودت أن تستقبلهم فيه كل أسبوع، وخلت إلى أختها «جيزيل» فكان بينهما حديث نفهم منه الفرق بينهما في الطبيعة والمزاج، هما تتحدثان عن صديقة لجاكلين، فأما «جاكلين» فمفتونة بها قد أسبغت عليها صورتها الخاصة وأخذت تسرف في الثناء عليها . وأما «جيزيل» فقد رأتها كما هي، وأخذت تهون من شغف أختها. وتمضيان في الحديث فتتناولان أشياء كثيرة، يظهر فيها ما بينهما من الاختلاف في الذوق والحكم، ولكن يظهر في الوقت نفسه أن بينهما حبا ومودة تقربان مسافة هذا الخلف وتعطف كلا من الأختين على الأخرى. وقد لامت «جاكلين» أختها لأنها لا تزورها كثيرا ولا تثق بها ولا تطمئن إليها في الحديث، واتفقتا بعد حوار طريف على أن تستأنفا حياة الأختين في ثقة وطمأنينة. وقد فهمنا من هذا الحديث أيضا أن «مكسيم» مسافر لبعض عمله في بلجيكا، ورأينا حب «جاكلين» إياه، وفهمنا أن «جيزيل» مزورة عنه بعض الازورار.
وتقبل أمها مضحكة مضطربة لا تدري علام تقبل من الأمر، أتمكث مع ابنتها أم تعود إلى بيتها؟ ثم يستقر رأيها على العودة فتنصرف مع ابنتها الفتاة وتخلو «جاكلين» إلى نفسها، فنحس أنها تشعر بشيء من الضجر بوحدتها، وهي تريد أن تنصرف إلى غرفتها فتتناول فيها العشاء، وهي تهم بذلك لولا أن الخادم يدخل عليها رجلا، تنظر إليه فإذا هو «مورو»، وكانت قد رأت هذا الشاب مرة واحدة في بعض الأسمار فأنست إليه وأنس إليها، وتحدثا فأطالا الحديث. وأقبل هذا الشاب يزورها في يوم استقبالها، ولكنه أقبل متأخرا فيعتذر من هذا التأخر أول الأمر ثم يعترف بأنه تعمده بعد ذلك، ثم يفتن في الثناء على «جاكلين» ويظهر اغتباطه بذلك الحديث، ثم يهم بالانصراف معتذرا ولكنه يلتمس سبيلا للبقاء، أو يلتمس سبيلا إلى العودة، فيعرض على صاحبته أنه يريد أن يستشيرها في أمر ذي بال، وأن الوقت متأخر فهو يستأذنها في أن يعود ليستشيرها في زيارة أخرى. أما هي فتكاد تحس رضاها عن هذا الحديث وميلها إلى هذا الفتى، وقد أذنت له أن يعود، ثم بدا لها فأمرته أن يبقى، وأن يعرض قصته فورا. فيبقى، وينبئها بأنه اختلف في الشتاء إلى إحدى الأسر فاتصلت المودة بينه وبينها، وفي هذه الأسرة فتاة، فأحس أن الأسرة تطمع في أن يخطبها، فهو مضطرب لا يدري أيقطع الصلة بينه وبين هذه الأسرة لأنه لا يريد أن يتزوج أم يحتفظ بها.
أما «جاكلين» فتدهش لأن صاحبها يستشيرها في مثل هذا الأمر، وهي لا تكاد تعرفه، ولكنه قد أنس إليها حين رآها في المرة الأولى ورأى منها صراحة ونصحا وإخلاصا، فطمع في أن يستشيرها واطمأن إلى رأيها. وهي لا تدري بم تشير عليه، ولكنها كما قلت لك طيبة النفس، صادقة العاطفة. فانظر إليها وقد اندفعت تلوم صاحبها لوما عنيفا؛ لأنه يستشيرها في مثل هذا الأمر، وهي ترى أنه أمر لا يحتمل المشورة، فأنت بين اثنتين: إما أن تحس بشيء من الميل إلى هذه الفتاة؛ وإذن فاحتفظ بالصلة وامض حتى تنتهي إلى الزواج، وإما ألا تحس شيئا؛ وإذن فلا ينبغي أن تطمع هذه الفتاة ولا أن تضللها. وصاحبنا لا يحس شيئا وإذن فسيقطع الصلة، ولكن «جاكلين» يروعها هذا وتشفق أن تكون مشورتها عقبة في سبيل السعادة الزوجية التي تطمع فيها هذه الفتاة، فتنصح لصاحبها بالأناة والتفكير، وتندفع في حديث عن الحب لذيذ كله حرارة وصدق وإخلاص، وقد اندفعت فيه حتى تناولت نفسها وزوجها وسعادتها، ولم تفكر - أو قل لم تشعر - بما تترك في نفس هذا الشاب من الأثر. وهي تجد لذة في حديثها إليه، وهو يجد لذة في الاستماع إليها. وما تزال في الحديث وما يزال هو في الاستماع والسؤال أحيانا حتى ينتهي الأمر إلى أقصاه، وقد خلبت الفتى وحببت إليه الزواج، فاستقر رأيه على أن يسرع إلى بيت الفتاة فيخطبها من فوره. وهي الآن تنصح له ألا يتعجل في الخطبة بعد أن كانت تنصح له ألا يتعجل في القطيعة.
وقد فهمنا من كل هذا أنها تجد لذة في الحديث إلى الفتى، وأن الفتى مفتون باستماع حديثها. وهما في ذلك وقد تقدم الليل وإذا «مكسيم» قد أقبل ولم يكن منتظرا، إنما كانت تنتظر عودته من الغد. أقبل فلم يجد أحدا من الخدم، وعالج باب الدار حتى فتحه، وتقدم حتى انتهى إلى غرفة الاستقبال دون أن يظفر بخادم، فلما دخل الغرفة رأى زوجه تتحدث إلى أجنبي. دهش ودهشت وبهت الزائر ونهض مودعا وانصرف، وخلا الزوجان، ولكن بينهما شيئا. أما هي فلم تكن تنتظر هذه العودة، وأما هو فلم يكن ينتظر أن يرى هذا الأجنبي، ولم يكن ينتظر أن تستقبله امرأته هذا الاستقبال ولا سيما وقد قدم عودته يوما وأبرق بذلك إلى امرأته، ولكن الرسالة لم تصل إليها، وقام الدليل على ذلك فوصلت الرسالة أثناء حوارهما. ولكن في نفس الرجل شيئا على كل حال، فهو يسأل عن هذا الأجنبي في شيء من الازدراء أول الأمر، ثم تشتد عنايته به شيئا فشيئا، ويظهر الشك قليلا قليلا. والمرأة مخلصة في الاغتباط بعودة زوجها، ولكن هذا الشك يؤلمها، يدهشها أولا، ثم يؤذيها، ثم تحس الإهانة، ثم تكبر نفسها وترى أنها أرفع من أن تهبط إلى حيث تدافع عن شرفها.
وبينما تغلو في الكبرياء يغلو زوجها أن هذه آثار الخوف، وبينما تؤثر الكبرياء فيها فيظهر عليها الغضب يظن زوجها أن هذه آثار الخوف والريبة، وما هي إلا أن ينتهي إلى اللوم ثم إلى التعنيف، وكلما مضى في ذلك اشتد سخط المرأة وكبرياؤها، فخيل إليه أن الخوف والذعر هما اللذان يشتدان، حتى ينتهي به الأمر إلى الاتهام، وينتهي بها هي الأمر إلى أن تزدري زوجها فتتهم نفسها أيضا. وقد انتهت الغيرة بالرجل إلى أقصاها، وانتهى الغضب والكبرياء بالمرأة إلى أقصاهما، فتركت زوجها وأغلقت من دونه الباب. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن حيث كنا في الفصل الأول من الغد، و«جاكلين» منصرفة إلى أعمال بيتها تأمر خادمها ببعض الشأن. ونحن نحس أنها تألم وأنها ترى أن قد أهينت في كرامتها وكبريائها، ولكنها لا تقول شيئا، ولا تظهر شيئا، ولكن هذه أمها قد أقبلت في شكلها المضحك دائما، وهي مضطربة مذعورة، فإذا رأتها ابنتها خيل إليها أنها مريضة، ثم ظنت أن أختها قد آذتها، ثم تبينت آخر الأمر أن زوجها قد ذهب إليها وقص عليها ما كان أمس وغلا في القصص، فيسوءها ذلك ويؤذيها في شرفها وكبريائها، ولكنها تطمع في أن تكون أمها قد دافعت عنها. وقد فعلت أمها فنهرت الرجل وقالت في ابنتها ما تقوله الأمهات. و«جاكلين» إذن سعيدة تقبل أمها في حنان وبر، ولكن لا تلبث الشيخة أن تطلب إلى ابنتها أن تستعطف زوجها وتصلح ما بينهما من الأمر، فإذا مضت في الحديث قليلا أحست «جاكلين» أن أمها قد صدقت ما قال فيها الزوج، فتكلفت الدفاع ولكنها مقتنعة فيما بينها وبين نفسها بأن ابنتها آثمة، فيؤلمها ذلك ويؤذيها إيذاء شديدا تكتمه ولكنه مع ذلك ظاهر، لا تكاد تفهمه الشيخة، ونفهمه نحن في وضوح وجلاء.
وهذه «جيزيل» مقبلة. ولست ألخص لك محاولة الشيخة إقصاءها وإخفاء الأمر عليها في حوار بديع وحركات مضحكة، ولكنها قد دخلت على كل حال وخنت إلى أختها، وهي تذكر ما كان بينهما من عهد أمس، وقد سمعت «مكسيم» وهو يحدث أمها بالقصة، فأقبلت تؤاسي أختها وتظهر لها العطف والنصح والمودة. واسمع لها تهنئ أختها بأنها قد اتخذت لها خليلا وخانت هذا الزوج الذي لا يستحق إلا أن يخان، وإذن فهي أيضا تتهم أختها وتصدق فيها الفاحشة! فلا يزيد ذلك «جاكلين» إلا ألما ويأسا، ولكنها تملك نفسها وتأخذ الأمر في سخرية وعبث من دونهما ألم شديد.
وهن في ذلك وإذا بالخادم يستأذن لمورو، فأما الشيخة فيحنقها ذلك، وأما «جاكلين» فتستقبله، وهي تستقبله باسمة وهو يقص عليها أمره وأنه خرج من عندها أمس متأثرا مفتونا، فلم يملك نفسه فذهب إلى أهل الفتاة وجلس إليها، ثم لم يلبث أن تحقق أنها لا ترضي مثله الأعلى، فانصرف عنها وعدل عن اتخاذها زوجا. وهذا كله يلهي «جاكلين» ويلذها ويسليها بعض الشيء، ولكن الفتى يمضي في حديثه فيخبرها بأنه وإن كان قد انصرف عن هذه الفتاة وعرف أنه لا يحبها، يشعر مع ذلك بأنه يحب، وآية ذلك أنه لم ينم الليل، وأنه يرى الحياة قد تغيرت كلها، فهو إذن يحب، ولكن من يحب؟ وهو يفكر ويسأل نفسه. وانظر إليه وقد كشف الحقيقة فجأة وأعلنها فجأة: فهو يحب «جاكلين» ويعلن إليها ذلك في لهجة مضحكة مؤثرة معا، وهي تدهش لذلك أول الأمر، ثم تغضب ثم تثور. ولكن هذا كله لا يزيد صاحبنا إلا اقتناعا بأنه يحبها وإلحاحا في إعلان هذا الحب، وهي تنهره وتطرده وتقصيه، ولكنه لا يزيد إلا إلحاحا وإصرارا. ثم يستكشف أنها هي لا تكرهه وقد لا تحبه، ولكنها تميل إليه بعض الميل. ويستدل على ذلك بأنسها إليه لأول ما لقيته واطمئنانها إليه في المرة الثانية. وهي تدفع عن نفسها مغضبة ثائرة وقد زاد ذلك في إيذائها، فزوجها يتهمها، وأمها وأختها يصدقان هذه التهمة، وهذا الفتى لا يستبعد التهمة أيضا. وقد انتهت إلى إخراج هذا الفتى ولكنها عذرت زوجها وأخذت تلوم نفسها على هذا الكبر الذي وضعها هذا الموضع السيئ، وقبلت أو رغبت في أن ترى زوجها وتستعطفه وتظهره على جلية الأمر. ويقبل زوجها فتتلقاه باسمة واثقة مطمئنة وتترضاه، ولكنها كلما حاولت أن تبسط له حقيقة الأمر مضى هو في الاتهام، ثم انتقل منه إلى العطف ثم إلى العفو. فهو إذن يأبى إلا أن تكون زوجة آثمة، وكبرياؤها تأبى أن تصرح له بجلية الأمر. وقد وقع بينهما ما لم يكن بد من وقوعه، وظهر أنهما مختلفان اختلافا أساسيا، فهو لا يؤمن بها ولا يقدسها بل يراها كغيرها من النساء، وهي تألم لذلك ولكنها تقبله وتخفي الألم وتشكر زوجها على العفو إذا طلب إليها هذا الشكر. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن حيث كنا في الفصلين الأولين من الغد، ولكننا نرى «مكسيم» ضيق الصدر ينتظر امرأته التي خرجت فأبطأت في العودة، وقد جاء ميعاد الغداء وهو جائع يتضور، ويطلب إلى الخادم ما يتبلغ به. وهذه «جاكلين» مقبلة، فهو يلقاها ساخطا لائما، يعنفها لأنها بعد الذي كان أمس قد أسرفت في عدم الاكتراث به. أما هي فتجيبه في سخرية مؤلمة بأن هذا اللون من التشديد لا يليق به بعد هذا العفو الذي أصدره أمس، على أنها قد تناولت غداءها في باريس في أحد المطاعم، وعلى أنها لا تعرف أين تتعشى، وعلى أنها قد تريد أن تذهب إلى أحد المراقص. وكل هذه الأحاديث يدهش لها «مكسيم» ثم يغضب، ثم يحاول أن يستعمل سلطته وأن يقهر امرأته على أن تحيا حياة ملائمة. ولكنها تنكر عليه ذلك في سخرية. أليس قد عرف أنها آثمة ثم عفا عنها، فهو إذن يبيح لها الإثم! فليبح لها الحرية. وهما في هذا الحوار وإذا أمها مقبلة، فينصرف الرجل إلى غدائه، وتعلن الفتاة إلى أمها في شيء من الإبهام والسخرية أنها لا تحب زوجها، وأنها قد عرفته وكشفت أمره وقد كانت تجهله، فهو رجل كغيره من الناس، وأمها لا تفهم من هذا الحديث شيئا. ويفرغ الرجل من غدائه، ويعود فيسأل امرأته كيف تريد أن تقضي بقية النهار، فلا تجيبه بشيء مقنع، ثم تنصرف عنه مع أمها إلى غرفتها. وتقبل «جيزيل»، فإذا لقيها تنكر لها وتنكرت له، ثم كان بينهما حوار لذيذ يفهم منه «مكسيم» أن امرأته بريئة، وأنها لم تأثم، ونفهم نحن أن هذه الفتاة نادمة لأنها أساءت الظن بأختها وآذتها في شرفها. والرجل لا يعرف كيف يحتال في إرضاء امرأته، فهو يقترح ألوانا من الترضية، يريد أن يستعطفها، ويريد أن يهدي إليها هدية، ويريد أن يقبلها، ثم يبدو له فيرى أن الحل الملائم إنما هو أن ينصرف، وكذلك يفعل. وتأتي «جاكلين» فإذا رأت أختها كان بينهما حوار جاف، نفهم منه ألم «جاكلين» وندم الفتاة وحنانها وكبرياءها أيضا.
ولكن هذا الخادم يستأذن لمورو، فترفض استقباله، ثم يعود الخادم فيلح وينبئ بأن مورو قد جلس وأعلن أنه لن ينصرف، فتأذن له مغضبة وتستقبله منتهرة زاجرة. ولكنه الآن هادئ مطمئن رزين يطلب إليها في صوت كله دعة وطمأنينة أن تتفضل بتناول العشاء عنده مع زوجها. أما هي فترفض مغضبة، ويلح هو متطلفا فتأبى. وقد أخذت تدهش لأنه لا يتحدث إليها في حبه، وهي لا تملك نفسها أن تسأله: أثاب إلى الرشد منذ أمس؟ فيعتذر في دعة وهدوء. وكأنها تألم لتغير لهجته، وكأنها كانت تريد أن تراه مشغوفا مفتونا، فتنهره وتزجره، فأخذها شيء من الحزن حين رأته هادئا يعتذر، فهي تلومه في لطف وحزن على ما كان منه أمس. وانظر إليه وقد انفجر وترك ما كان فيه من دعة وهدوء وأخذ يعلن إليها أنه يحبها ويحبها ويحبها، وأنه إنما تكلف هذا العشاء وهذا الهدوء ليستطيع أن يراها، وأنه كان يريد أن يعتدل ويهدأ ويزورها من وقت لآخر زيارة هادئة محتشمة مكتفيا بذلك، فأما وقد أبت إلا أن يتكلم فهو يتكلم، وهو يحبها ويحبها ويحبها. ونحس نحن أنها تجد شيئا من اللذة في أن تسمع هذا الحديث، ولكنها مع ذلك مغضبة ثائرة تنهره وتزجره وتزعم له أنه لا يعرف من أمرها شيئا، ولا يستطيع أن يحبها. ويأخذ هو في وصفها، حتى إذا انتهى إلى أنها سعيدة في حياتها المنزلية، أنكرت عليه ذلك وألحت في الإنكار، فإذا هو سعيد مغتبط، يرى أنه قد هان كل شيء في سبيل حبه، فهو يقبل عليها يأخذ بيدها ويدعوها إلى أن تمضي معه، وهو يهم بتقبيلها وهي تدافعه عن نفسها في قوة شديدة وضعف شديد معا. وهي قد اضطرت إلى أن تستخدم آخر سلاح، فتعلن إليه أنها عاشقة وأن لها خليلا ... يصدق ذلك أول الأمر، ثم لا يلبث أن يفطن فينكر وينكر في عنف، ويعلن إليها أنها تكذب لتدافع عن نفسها، وأنه لن يصدق شيئا من هذا، وأنه لو رآها بين ذراعي رجل لما صدق أنها عاشقة، وهو كلما مضى في هذا الحديث صادف منها قبولا ورضا.
وانظر إليها الآن مطمئنة هادئة، ولكنها تبكي في صمت وتشكر له إيمانه بها وحسن رأيه فيها، ثم تطلب إليه أن ينصرف الآن، فإذا أبى ألحت عليه في رفق وفهمته أنها تحبه، وأنها تعترف بهذا الحب. ولم لا؟ فهو الشخص الوحيد الذي آمن بها وبرأها من هذه التهمة، وهو يقبل أن ينصرف، ولكن على أن يعود إذا عجز عن المضي في طريقه. وما يكاد يخرج حتى يعود زوجها باسما مبتهجا، فينبئها بأنه قد استأجر لها مكانا في الأوبرا حيث الرقص هذا المساء، ولكنها تعتذر . وإذن فسيصحبها زوجها للعشاء في أحد المطاعم، ولكنها تعتذر. وإذن فسيبقيان في البيت، ولكنها تستدنيه وتنبئه بأنها لا تحبه وقد انصرفت عنه. أما هو فمغرور مفتون بنفسه واثق بسلطانه، فهو لا يحفل بهذا الإعلان، ولكنه يمضي في حديثه مداعبا هازئا، وهي تطلب إليه حريتها، فيجيبها في دعابة وهزء، وقد أقبل الخادم يستأذن مرة أخرى لمورو، فيأذن له مبتهجا بلقائه، ويعتذر إليه بأنه أساء لقاءه في المرة الأولى؛ فقد كان متعبا من آثار السفر، وهو يدعوه إلى العشاء معهما هذه الليلة، فيعتذر الفتى محرجا، ويعلن «مكسيم» أسفه ويلح في أن يتعشى معهما في إحدى ليالي الأسبوع، ثم يعتذر ببعض العمل وينصرف عمدا تاركا لزوجه ترتيب أمر العشاء.
فإذا انصرف نظر كل من العاشقين إلى صاحبه في شيء من الحرج والضيق، ثم جلس الفتى وطال الصمت حينا، ثم أعلن إليها في هدوء أن اسمه الخاص أندريه ...
يوليو سنة 1927
অজানা পৃষ্ঠা