ويقبل الشيخ فينقطع هذا الحوار العنيف، وتنصرف الفتاة، فإذا خلا الرجلان قال الأستاذ لحميه: يجب أن تسافر وتعود ومعك «بيير»، فيجيب الشيخ: إن «بيير» في باريس وهو في بيته، بين هذه الأشياء التي تمثل حبه يألم ويأسى. فيقول الشيخ: اذهب فأنبئه أن امرأته تنتظره، فإذا تردد الشيخ وألح عليه الأستاذ وأقسم إنه لصادق، فينصرف الشيخ مسرورا مترددا معلنا أن الأمر متصل بسعادة حفيدته، فيقول الأستاذ وكأنه يحدث نفسه: وسعادتي أنا أيضا ...! •••
فإذا كان الفصل الرابع فلم يمض على هذا كله إلا دقائق، ونحن نرى «فريدريك» متهيئة للخروج، ولكن الخادم ينبئها أن زوجها يستأذن، فتأذن له في دهش وحيرة تقدرهما أنت قدرهما. فإذا رأته سألها: أأنت قد دعوتنا؟ فتجيب في دهش: نعم! ... ثم تقبل عليه معتذرة مستعطفة متلطفة، ونحس نحن أن هذا كله يهز الشاب هزا عنيفا، وأنه لو استسلم لعواطفه لقبل ورضي بل لاعتذر واستعطف. ولكن له إرادته وكبرياءه، فهو يكظم تأثره ويظهر الشك، حتى إذا فرغت امرأته أو كانت تفرغ، أعلن إليها في صراحة ملؤها الجفوة والحب معا أنها إنما تستعطفه لأن أباها يريد أن يتزوج؛ لأنها تحس أنها ستصبح وحيدة، فهي تعود إلى زوجها حتى إذا عاد إليها أبوها رجعت إليه. وهو دهش لأنها لا تعلم من أمر هذا الزواج شيئا، ولكن دهشه سيزول؛ فهذا الأستاذ قد أقبل محزونا منكسر النفس قد ظهر عليه الضعف والاستسلام، فيخبر بأنه هو الذي دعا «بيير»، ثم يخبر بأنه فاز في الانتخاب. ولكنه على ذلك محزون منكسر النفس؛ وذلك أن حبيبته قد قطعت ما بينهما من صلة، وأعلنت إليه أنها تاركة باريس مساء اليوم، وأبت عليه حتى أن يودعها بل أن يراها مرة أخيرة قبل سفرها، وهو يلوم ابنته لأنها مصدر هذا كله.
ثم انظر إليه يستعطف ابنته ويتوسل إليها، فهي وحدها تستطيع أن تغير رأي هذه المرأة، وهي وحدها تستطيع أن تردها إليه فترد إليه الغبطة والسعادة والحياة. وهو يعتذر ويلح في الاعتذار، ويعترف بأنه كان أثرا آثما مسرفا في حب نفسه، ولكنه لم يكن يحس هذا كله ولا يقدره، وابنته لا تجيبه إلا في قسوة وعنف حتى يرق «بيير» نفسه ويلومها على ذلك في لطف. وقد انتهى الأمر بهؤلاء الناس إلى حرج ليس بعده حرج؛ فأما الأستاذ فمذعن مستسلم بعد أن ظهر له أن ابنته لن تشفع له، وأما «بيير» فمستمسك بكبريائه، لم يقتنع بعد بأن امرأته تحبه هذا الحب الذي يمكنها من التضحية بأبيها، وأما «فريدريك» فقد أعلنت في حزم وقسم أنها تاركة هذا البيت مساء اليوم ولن تعود إليه مهما يكن من شيء سواء أتم الصلح بينها وبين زوجها أم لم يتم. وانظر إلى استسلام الشيخ وقد نهض معلنا أنه ذاهب إلى الدوقة لأنها جمعت إلى الشاب طائفة من المعجبين به يهنئونه بالفوز في الانتخاب وهو يداعب صهره في حزن فيطلب إليه ألا يهزأ بشيوخ المجمع العلمي.
وقد أقبل صديق «بيير» يتعجله ليسافرا، فيتردد قليلا ثم يجيب بأنه لن يسافر الآن. وتقع هذه الجملة من نفس «فريدريك» الموقع الذي تقدره أنت، فقد أحست أن زوجها قد رضي وثاب إليها، ولكن زوجها يسألها: ألا ترين أن أباك يحب هذه المرأة حبا مبرحا؟ فتجيب: بلى. ولكنه لا يستحق هذه المرأة، فيلح. وانظر إليه يستعطفها ويتوسل إليها في أن تشفع لأبيها عند حبيبته، فتقبل كارهة، ولكن على أن يشاركها في هذه الشفاعة لتعلم هذه المرأة أن سعيهما صادق وأنهما قد تصافيا حقا.
مارس سنة 1927
سعادة اليوم
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «إدمون جيرو»
وليس ينبغي أن يخدعك هذا العنوان، فتقدر أنك ستقرأ قصة خلقية اجتماعية تعرض للسعادة وتصور الناس لها في هذا العصر، فليس بين القصة التي نلخصها في هذا الفصل وبين هذا الموضوع صلة ما. وإنما «سعادة اليوم» اسم أداة من هذه الأدوات التي تتخذ في الدور، نستطيع أن نطلق عليها هذا الاسم العامي المبتذل «المكتب»، ونريد به هذه المائدة التي تتخذ للكتابة، وفيها أدراج كثيرة تحفظ فيها السيدات أوراقهن، وما لهن من هذه الأدوات الدقيقة المتنوعة. «فسعادة اليوم» في هذه القصة ليست شيئا غير هذا؛ هو لفظ أطلق في عصر من العصور الفرنسية وفي طبقة من الطبقات الفرنسية على هذه الأداة الشائعة. وقد أعطت هذه الأداة الشائعة اسمها لهذه القصة؛ لأنها كانت تحتوي سرا من أسرار أسرة، فاستكشف هذا السر، وكان استكشافه مصدر طائفة من الأحداث والانفعالات، عبثت بطائفة من القلوب والنفوس عبثا عرضه علينا الكاتب في قوة ودقة ومهارة خليقة بالإعجاب.
ولعلك لم تنس بعد هذه القصة البديعة التي حدثتك عنها؛ قصة «الفؤاد المقسم». ولعلك لم تنس بعد هذه العواطف المختلفة التي تتنازع القلوب وتعبث بالنفوس فيما رأيت من قوة وعنف. فقصتنا في هذه المرة تشبه تلك القصة من هذه الناحية، فهي قصة جهاد عنيف بين عواطف قوية حادة تتنازع قلبا كريما بريئا من الشر والإثم، ولكنه في الوقت نفسه متأثر أشد التأثر بالحياة الاجتماعية وما توارث الناس من عادة ورأي وحكم، وما تواضعوا عليه من خلق ونظام. هي قصة نفسية لأنها تعرض عليك نفسا إنسانية في ظرف من هذه الظروف الحرجة العسيرة التي تكشف عن دخائل الإنسان وتجرده - أو تكاد تجرده - من كل هذه اللفائف التي تلفه بها الحياة الاجتماعية. فهي قصة اجتماعية؛ لأن هذه النفس التي يعرضها عليك الكاتب إنما تألم وتحس ما تحس من عذاب، وتخضع لما تخضع له من حرب وجهاد، بحكم الأوضاع الاجتماعية المتناقضة، وبحكم الأحداث الاجتماعية التي تحدث في حياة الناس من حين إلى حين، فتكونهم كما تحب لا كما يحبون، وتصورهم كما تريد لا كما يريدون. وهي قصة خليقة أيضا؛ لأن هذه النفس حين تتألم وتشعر بالعذاب، مضطرة إلى أن تظهر شيئا من الجلد والقوة على المقاومة، وهي لا تقاوم عبثا وإنما تقاوم فرارا من شر وحرصا على خير ونفورا من الأذى ورغبة في البر.
وهي بعد هذا كله قصة لم تنس المثل الأعلى الذي يضعه الأفراد والجماعات أمامهم، حين يحبون وحين يختلفون في أمورهم المتباينة.
অজানা পৃষ্ঠা