مثلت هذه القصة لأول مرة في أكتوبر سنة 1903، وما يزال الممثلون يلعبونها إلى الآن. وأكبر الظن أنهم سيلعبونها زمنا طويلا أيضا؛ ذلك لأنها من القصص التي تعجب جمهور النظارة وتأخذ عليهم قلوبهم وألبابهم، وتثير في نفوسهم من العواطف ما يدفعهم إلى تشجيع الممثلين على الاحتفاظ بها وإعادة لعبها من حين إلى حين.
والحق أنك لا تكاد تمضي في قراءة هذه القصة حتى تلاحظ أمرين مختلفين، ولكنهما خليقان بالإعجاب، كفيلان بأن يطول بقاؤها في ملاعب التمثيل؛ أحدهما أن الكاتب قد راعى حين وضعها، لا أقول أصول الفن، وإنما أقول أصول المنطق ونظام التفكير الإنساني، مراعاة دقيقة جدا. فأنت تنتقل بين مناظرها وفصولها، كما تنتقل بين قضايا القياس المنطقي المتقن. قد وضع كل شيء فيها موضعه، لا يستطيع أن يتجاوزه ولا ينبغي له أن يتقدم أو يتأخر. وأنت لا تفرغ من قراءة منظر حتى تتوقع المنظر الذي يليه، وما تزال كذلك طوال الفصل الأول وطوال الفصل الثاني، حتى إذا كدت تفرغ منه فجأتك المصادفة التي لم تكن تنتظر والتي لم يكن منها بد لتنشأ المشكلة التي تدور حولها القصة. فإذا كانت هذه المصادفة، فقد نشأت هذه المشكلة وتعقدت وانتهت إلى أقصى ما كان يمكن أن تنتهي إليه من العنف والشدة. ولكننا نعود في الوقت نفسه إلى هدوء المنطق، وتتصل الحوادث أمامنا مطردة مستقيمة يتبع بعضها بعضا وينتج بعضها من بعض، حتى تنتهي إلى نتيجتها الطبيعية المعقولة، وهي نتيجة محزنة، يألم لها الجمهور، ويعجب بها، ويحرص على أن تتكرر أمامه في الملاعب.
هذا أحد الأمرين. الأمر الثاني: أن القصة كلها صراع عنيف بين طائفة من العواطف والواجبات، قد ألفها أوساط الناس واطمأنوا إليها وتعودوا أن يقبلوها كما هي لا يضعونها موضع المناقشة والجدال. فمما يعجبهم أن يظهر الكاتب هذه العواطف والواجبات وقد اصطدمت وتناقضت ووقف بعضها من بعض موقف الحرب والخصومة القوية. فنحن نرى في القصة صراعا بين الحب والصداقة، وبين الحب والواجب، وبين الصداقة والواجب، وبين الحب المشروع والحب الذي لا يبرأ من الإثم والخيانة، وبين الوفاء الزوجي وهذا الحب الأثيم، ثم بين الشرف والمنفعة، ثم بين الشرف والحب والحياة. وكل هذه العواطف والواجبات قد مثلها الكاتب تمثيلا قويا صادقا، وتخير لها أشخاصا يتقمصونها تقمصا، إن راقك هذا التعبير. ونحن نلذ أن نرى هؤلاء الأشخاص يختصمون ويجاهد بعضهم بعضا، ويجاهد كل واحد منهم نفسه. ونحن نقف أمام النتيجة الأخيرة لهذا كله موقف المطمئن المستسلم الذي يقول مع الشاعر العربي القديم: «لا بد مما ليس منه بد.» والذي يستطيع في الوقت نفسه أن يمضي إلى ما وراء القصة ويعرف ما يتم بين هؤلاء الأشخاص من توادع وتراض يقومان على الحزن والاستسلام لهذه القوانين الصارمة التي تدمر حياة الإنسان.
فإذا أضفت إلى هاتين الخصلتين خصلة ثالثة؛ هي الإتقان الفني من الناحية الكتابية الصرفة وحسن تخير الألفاظ والمهارة في تدبير الحوار، استطعت أن تتبين السر في أن هذه القصة لم تتجاوز شبابها بعد وإن كانت قد نيفت على العشرين.
ولنبدأ في تحليلها كما تعودنا البدء في تحليل هذه القصص بعرض أشخاصها عليك في إيجاز لأنهم كثيرون.
أول هؤلاء الأشخاص وأحقهم بالعناية، هي بطلة القصة التي سميت باسمها، وهي «أنتوانيت سابرييه». نعرفها ولما نقرأ من القصة أسطرا ، ونعرف في الوقت نفسه أنها امرأة قوية الشخصية؛ لأنها بثت الحسد من حولها، وأطلقت ألسنة النساء بالقول المختلف في سيرتها وحظها ووفائها وما يتصل بذلك. وهي في حقيقة الأمر امرأة قوية الشخصية، عظيمة الحظ من الإرادة، قادرة كل القدرة على أن تضبط نفسها وتسير سيرة تلائم الواجب والخلق ومكانتها الاجتماعية الرفيعة، وإن لم تلائم مثلها الأعلى في الحياة وحاجتها إلى ما يطلب النساء من اللذة ونعيم العيش. هي متوسطة السن، ليست شابة ولكنها محتفظة بجمال الشباب وروعته وقوته أيضا. خفيفة الروح، جذابة، راجحة الحلم، يظهر عليها الهدوء والرزانة والرضا، ولكن قلبها جذوة من النار مضطرمة أشد الاضطرام، وقلما يحس ذلك أحد غيرها. وهي كما قدمنا مالكة لهذا القلب، قادرة على تصريفه كما تحب وحيث تحب، إلا أن يعرض لها شخص آخر أشد منها قوة وأبعد منها أثرا.
تزوجت من رجل يشبهها من بعض الوجوه ويخالفها من بعضها الآخر، وهو «جرمان سابرييه»؛ قوي الإرادة مثلها، متقد القلب مثلها، ضابط لنفسه مثلها أيضا، ولكنه قد عرف طريقه فمضى فيها اندفاعا، وأذعن له الفوز في كل ما حاول من الأمر. كان ضئيلا فقيرا يعمل في سوق الأوراق المالية، فما هي إلا أن اندفع في هذا الطريق حتى أصبح من كبار الماليين في أقل من عشرة أعوام. وهو اليوم زعيم من زعماء المصارف، وملك من ملوك البورصة، يتقرب إليه الناس ويتهالكون عليه ويحسدونه ويتربصون به المكروه. وهو مطمئن إلى حظه، واثق بالمستقبل، لا يشفق ولا يخاف، ولا يتردد ولا يحسب إذا أراد أن يقدم على شيء. وهو يحب امرأته حبا قويا حادا، ولكنه غريب؛ فهو لا يظهر لامرأته هذا الحب على النحو المألوف، وإنما هو مقتنع بأنه يرضي امرأته وعواطفها وميولها إذا أغناها وضمن لها حياة مترفة خلابة تبعث الحسد وغبطة النساء. وهو يخيل إليه أنه مصيب من حب امرأته ما أراد، لا يسأل نفسه أراضية هي أم ساخطة؟ أقانعة أم محرومة؟
وبين هذين الزوجين شخص ثالث هو «دوراي»، متقدم في السن بعض التقدم ، قوي الإرادة جدا، قادر على ضبط نفسه، في قلبه جذوة تضطرم من الحب، ولكنه قد سيطر عليها واستطاع أن يلطفها حتى يجعلها جذوة وفاء ومودة بريئة طاهرة. أحب «أنتوانيت» وحاول أن يظفر بحبها فلم يوفق، ولكنه ظفر منها بالمودة فقنع، ورضي من حياته بساعات ينفقها من كل يوم مع هذه المرأة في حديث بريء ونصح ومودة راضية، يجدان في هذا كله لذة لا تشبهها لذة. وانطلقت ألسنة الناس فيهما بألوان القول، ولكنهما لا يحفلان بذلك، ولا يحفل بذلك الزوج نفسه لأنه شديد الثقة بامرأته، شديد الثقة بصديقه.
ولهذا الصديق أخت شابة هي «إيلين» رائعة الجمال، خلابة المنظر، شديدة التسلط، قوية الإرادة، مضطرمة المزاج، قد بلغت العشرين من عمرها، وليس لها إلا أخوها هذا، فهو يقوم منها مقام الأب والأم والمربية، حتى تظفر بما يليق بها في الزواج. وهي تحب رجلا ليس أقل من الذين تقدموه قوة إرادة ولا حدة عاطفة، ولا اضطرام قلب، هو «رينه دانجين»، غني، ضخم الثروة، وسيم الطلعة، محبب إلى النساء، بعيد الأثر في نفوسهن، مفتون بالأدب والفن والقراءة، منصرف عن حياة أبيه الصناعية المالية، قد أغضب أباه إغضابا شديدا، وانقطع عما يتردد عليه أمثاله من الأندية ومجالس اللهو والعمل. تحب الفتاة هذا الرجل، وهو يظهر لها ميلا شديدا تحسبه الحب وليس هو من الحب في شيء، إنما هو من العطف والمودة والأنس إليها.
هؤلاء هم أشخاص القصة، أو قل أبطالها كما تعود نقاد التمثيل أن يقولوا. ومن حولهم أشخاص كثيرون قد اختطفهم الكاتب اختطافا، ولمح لك بصورهم النفسية تلميحا، فبلغ في ذلك ما شاء من الإجادة والإتقان: منهم هذه المرأة الباريسية التي نجدها في أول القصة تتحدث إلى زوجها ورجل آخر في دعابة ودل باريسيين، وهي تطلق لسانها في «أنتوانيت» وزوجها وصديقها، وهي تظهر غيرة على الفضيلة والشرف والعفة والوفاء، ولكنها لا تكاد تلمح الرجل الذي يعجبها حتى تبتذل هذا كله ابتذالا وتنزل عنه في ابتسامة أقل ما توصف به أنها تحمل على الابتسام.
অজানা পৃষ্ঠা