تقع هذه الكلمات في نفس الشيخ موقعا مؤلما، فيدعو الفتى إلى البقاء وكان قد هم بالانصراف، ويأمره أن يحمل إليه صندوقا صغيرا على مائدة في ناحية من نواحي الحجرة، فإذا حمل إليه هذا الصندوق فتحه وأخرج منه منديلا وزهرات من البنفسج قد أتى عليها الدهر فأصبحت هشيما، وبدأ يقص على حفيده قصة هذا المنديل وهذه الزهرات؛ ليثبت له أنه على شيخوخته وتقدم السن به لم ينس شبابه، ولم ينس أنه أحب وألم للحب. وهنا يتحول المسرح وتستخفي الحجرة والشيخ والفتى، وتمثل أمامك القصة التي بدأ الشيخ يقصها على الشاب. •••
فأما الفصل الأول من هذه القصة، فيقع في قصر رجل من أغنياء الأمريكيين حين كان الأسقف في الخامسة والعشرين من عمره. وقد أقام هذا الرجل الغني في قصره حفلا دعا إليه وجوه المدينة وأغنياءها وذوي المكانة فيها؛ ليسمعوا عنده مغنية إيطالية ذائعة الصيت، قد اتخذها الموسيقيان الشهيران «روسيني» و«فردي» ترجمانا لما يضعان من الموسيقى، وهي رائعة فاتنة قد شغف بها من أغنياء أوروبا وأمرائها خلق كثير. وانتهى الأمر بها إلى هذا الغني الأمريكي الذي يتصل بأسرة فرنسية هاجرت إلى أمريكا في آخر القرن الثامن عشر، أحبها هذا الغني وكلف بها كلفا شديدا، فدعاها إلى نيويورك وقدمها إلى وجوه المدينة وعشاق الفن الموسيقي فيها. ونحن نرى قصر هذا الغني مزدحما بمن فيه من الشباب والكهول والشيوخ رجالا ونساء، ونحن نرى ونسمع من عبث الأمريكيين وحوارهم ما يلذ ويضحك وما لا سبيل إلى أن نلم به في هذا الفصل.
ولكني أقف بك عند رجل من الأغنياء قد دعي إلى هذا المحفل فأقبل، وإنه لشديد السخط على القصر وصاحبه ومن فيه؛ هو رجل قد أكل الحقد قلبه، فهو لا يرضى عن شيء ولا عن أحد، وهو ضخم الثروة، ولكنه شديد البخل مسرف في الحرص عظيم الشره، يريد أن يستمتع بكل ما يجد دون أن يعترف بشيء من الاستمتاع. ضاق صدره بالمدعوين، ففر منهم إلى إحدى غرف القصر وأمر الخادم أن يحمل إليه طعامه وشرابه ، فإذا دخل الغرفة نظر فإذا علبة فيها سيجار، فيلقي على هذه العلبة نظرة احتقار وازدراء، ثم لا يلبث أن يتحقق أن ما فيها جيد النوع، فيأخذ واحدا، ثم لا يكفيه ما أخذ فيأخذ طائفة أخرى من السيجار ويدسها في جيبه. ويأتي الخادم وقد حمل إليه من الطعام والشراب ما استطاع، فيلقي إلى ما حمل إليه نظرة ازدراء واحتقار، ثم ينتهر الخادم لأنه لم يحمل إليه إلا قليلا، ويجلس كارها إلى طعامه، ولكنه لا يكاد يذوقه حتى يستجيده فيسرف في الأكل والشرب.
وإنه لفي ذلك إذ يدخل عليه القسيس الشاب «توم أرمسترونج»، وهو - كما قدمت - في الخامسة والعشرين من عمره، جميل الطلعة، واضح الأسارير، ممتلئ نشاطا وقوة، قد عرف بالإخلاص في خدمة الدين، وبالعناية في خدمة الفقراء والبائسين، خفيف الظل، حلو الروح، يحبه صاحب القصر ويرجو أن يزوجه من إحدى قريباته. يدخل هذا القسيس على صاحبنا وهو منهمك في طعامه وشرابه، فلا يكاد يراه حتى ينصرف عما هو فيه من طعام إلى صاحب القصر فينال منه في لفظ منكر قبيح، ويعيب عليه هذه المغنية التي دعا الناس لاستماعها في قصره؛ لأنها خليلته، ولأنها معروفة بسوء السيرة، ويلوم القسيس لأنه يرضى عن هذه الآثام ويقصر في تأدية واجبه الديني، فلا يكف صاحب القصر عن هذه الفضيحة، فيسمع له القسيس.
حتى إذا فرغ من كلامه قال له هذه الجملة التي تعطيك منه صورة واضحة: لمن هذا الطعام الذي تزدرده؟ ولمن هذا الشراب الذي تعب فيه عبا؟ ولمن هذا السيجار الذي تدسه في جيبك؟ أليس هذا كله لصاحب القصر؟! يجيبه الغني: بلى، وأنت ترى أن من واجب القسيس هو أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويأخذهم بترك ما يتورطون فيه من شر. يجيبه الآخر: نعم! وإذن فلأبدأ بك، فقد أتيت نكرا لا يعدله نكر حتى اغتبت صاحب هذا القصر على هذا النحو القبيح، وأنت في قصر تأكل من طعامه وتشرب من شرابه!
وهما في هذا الحوار إذ يأتي «دي روشار» صاحب القصر، فينصرف هذا الغني. ولا يكاد القسيس يخلو إلى صاحب القصر، حتى يبدأ في تأدية واجبه الديني من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. ولكنه يجد في هذا مشقة، فهو يكبر صاحب القصر ويجله، وهو مدين له في مركزه في الكنيسة. على أن هذه المشقة لا تصرفه عن أداء هذا الواجب، فهو يلوم صاحب القصر على ما بينه وبين هذه المغنية من صلة، وصاحب القصر يجيبه معتذرا إليه في شيء من الرفق والفلسفة، والشك في معنى الخير والشر، وقيمة الفضيلة والرذيلة، ويعلن إليه أنه يرى السعادة الحقيقية في حب الخير والجمال والشباب.
وهما في هذا الحوار وإذا المغنية قد فرغت من غنائها وأقبلت يتبعها المعجبون بها، فينصرف القسيس وتخلو هذه المغنية إلى صاحبها؛ ليكون بينهما حوار نفهم منه أن وعظ القسيس قد أثر في نفس هذا الرجل من حيث لم يشعر. انظر إليه يتحدث إلى صاحبته بأنه في الحادية والخمسين من عمره، وأن أسباب اللهو والنعيم قد تقطعت به، وأن الخير إنما هو في أن يستحيل حبهما إلى مودة بريئة. وهي تستمع له راضية حينا وساخطة حينا آخر، غاضبة مرة، مداعبة مرة أخرى، مزدرية لما يقول، حريصة على أن يعدل عنه. ولكنها على كل حال قد رأت القسيس وهو ينصرف فوقع من نفسها، وهي تعلن إلى صاحبها في صراحة أنها تكره البروتستانتية من الموسيقى والبخور والاعتراف، ولكنها تحب البروتستانتية لأن قسسها حسان. وما زالت بصاحبها حتى أقنعته بأنه لم يبلغ الخمسين من عمره وأنه ما زال يستمتع ببقية من شباب، وحتى ضربت معه موعدا للنزهة إذا كانت الساعة الرابعة من مساء، ثم تطلب إليه أن يدعها لتستريح قبل استئناف الغناء وأن يرسل إليها شيئا من الخمر والليمون.
فلا تكاد تخلو إلى نفسها حتى يمر القسيس فتتناوم وتدع رداءها يسقط عنها، وقد نظر إليها القسيس وحدق فيها وكأنها وقعت في نفسه، فيدنو منها في خفة ويعيد إليها الرداء وينصرف، ولكنه لا يكاد يتجاوز الغرفة حتى يسمع صوتها وهي تشكره، وما هو إلا أن يسمع هذا الصوت حتى يضطرب ولا يدري أيمضي أم يقف؟ فتستوقفه وتستدنيه ويجيبها إلى ما تريد في شيء من الاضطراب والذهول. ويأخذان في الحديث، وإذا هي تخفي على القسيس نفسها وتأخذ في اغتياب المغنية، فيلومها القسيس ويطلب إليها أن تستغفر الله من هذا الإثم، فتأبى فيغضب ويهم أن ينصرف. ولكن الخادم قد أقبل يحمل الشراب، فتطلب إليه أن يصب لها في القدح فيفعل، ثم تطلب إليه أن يصب في قدح آخر فيفعل، ثم تدفع إليه أحد القدحين فلا يستطيع أن يرده، ثم تأمره أن يحدق فيها وتعلن إليه أنها ستحدق فيه وتقترح أن يشربا قدحيهما على هذا النحو، فإذا فرغا من الشرب رأيناهما وقد فتن كل منهما بصاحبه فتنة قوية. فأما هي فتستغفر الله في إثمها حين اغتابت المغنية، وأما هو فيطلب إليها موعدا لأنه يريد أن يراها وأن يتحدث إليها بأشياء كثيرة ما كانت لتخطر له من قبل. وهما في هذا الحوار إذ يقبل صاحب القصر فيراهما على هذه الحال، وهي كالنائمة وهو جاث بين يديها يناجيها.
وأنت تستطيع أن تقدر دهش صاحب القصر حين يرى مكان القسيس من المغنية، وهو الذي كان يلومه فيها منذ حين. تنهض المغنية لتستأنف الغناء، ولكن القسيس يلح عليها في الموعد غير حافل بمكان صاحب القصر، فتضرب له الموعد من الساعة الرابعة من مساء غد، فإذا ذكرها صاحب القصر بأنها قد ضربت له الموعد في هذه الساعة نفسها أجابته: أما موعدك فمؤجل. وتنصرف وقد سقط من يدها منديل، فيهوي القسيس فيأخذه. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في بيت القسيس، في حجرة عمله، نرى عمتيه قد جلستا تتنازعان؛ إحداهما في الثامنة والخمسين، والأخرى في الستين، وكلتاهما قد وقفت حياتها على القسيس لا تدري ماذا تصنع لترضيه وتعنى بطعامه وشرابه ولباسه. والخصومة بينهما في ذلك متصلة مضحكة، ولكنهما رغم هذه الخصومة متفقتان في الألم؛ لأن الشاب قد تغيرت حياته تغيرا شديدا منذ ثلاثة أسابيع، فهو شديد الكلف بهذه المغنية الإيطالية، يقضي معها شطرا من كل يوم حتى نسي خطيبته، وحتى أخذ الناس يتحدثون عن كلفه بهذه الفتاة، وهما تصليان وتضرعان إلى الله أن يصرف عن القسيس هذا المكروه، وهما تستعينان ب «دي روشار» صديقهما وصديق القسيس وعم خطيبته، وهما تنتظران عودة الشاب بعد حين، ولكنهما لا تعرفان من الذي أرسل هذه الطاقة من الزهر دون أن يرسل اسمه معها، ولا تفهمان لم لا يريد الشاب أن يأخذ الشاي معهما، ولا تعرفان هذا الشخص الذي سيتناول الشاي مع القسيس.
অজানা পৃষ্ঠা