وقد خرجت هذه الزائرة، ودخل «تسييه» شريك زوجها، فإذا هي تلقاه بمثل ما لقيت به زائرتها الأولى من الجزع والبكاء، ثم يتحدثان في أمر الميراث. وهنا يظهر بعض ما خبأت الأيام من البؤس لهذه الأسرة التي كانت سعيدة مغتبطة. كانت هذه الأسرة تقدر أنها غنية حسنة الثروة، ولم يخطر لها بعد أن مات زعيمها أنها ستلقى عنتا أو شدة. ولكن هذه المرأة لا تكاد تتحدث إلى شريك زوجها حتى تسمع نكرا من الأمر، وحتى تقدر شرا كثيرا: أليس هذا الرجل ينبئها بأن ميراث زوجها ليس شيئا يذكر، وبأنه ترك ديونا تكاد تستغرق الثروة، وبأنه مضطر إلى بيع المعمل، وبأنه ينصح لها أن تبيع الأرض، وبأن صفوة ما سيبقى لهذه الأسرة من الثروة لا يكاد يبلغ خمسين ألف فرنك! سمعت المرأة هذا فصعقت له وأصابها شيء من الوجوم أخرجها عن طورها، فإذا هي تنهر الرجل وتتركه مزدرية ساخطة، والرجل مغضب ولكنه شرير، فهو يتحدث إلى نفسه، بما نفهم منه أنه قد دبر العبث بهؤلاء اليتامى واغتيال هذه الثروة، وقد تم الاتفاق على ذلك بينه وبين المحامي، ولكنه لا يخلو إلى نفسه طويلا، فقد جاءت «ماري» وهي الفتاة الثانية من فتيات هذه الأسرة، وأخذت تهدئه وتترضاه وتعتذر عن أمها وتتوسل إليه ألا يأخذ هذه المرأة الحزينة بما يضطرها إليه حزنها من الضجر وضيق الصدر.
وقد وجدت هذه الفتاة سبيلا إلى قلب هذا الوحش، فهو يرق لها ويظهر الميل إليها، وقد استطاعت أن تظفر منه بالعفو عن أمها، وأن تبعثه إلى حيث هي ليزول ما بينهما من خلاف فيجيبها إلى ذلك، وقد اشتد إعجابه بها وميله إليها، وينصرف إلى أمها. ولا تكاد الفتاة تخلو إلى نفسها حتى تدخل عليها أختها الصغرى، فتتحدثان، وإذا جزعهما عظيم. ولكن الصغرى لا تخلو من عزاء، فهي تفكر في زواجها، وهي تنتظر هذا الزواج، فإذا عرضت أختها بأن هذا الزواج قد يكون عسيرا أظهرت الفتاة إيمانا بالمستقبل وثقة بخطيبها، ثم أظهرت حرصها على هذا الزواج في ألفاظ لا تفهمها أختها لأنها بريئة طاهرة. أما نحن فقد فهمناها حق الفهم، وعرفنا أن هذين الخطيبين قد تجاوزا الحدود في صلتهما، وأن الزواج قد أصبح أمرا محتوما. وقد أقبل المحامي ثم أقبلت الأم وشريك زوجها، وأخذ الرجلان يقنعان المرأة بوجوب بيع المعمل وبيع الأرض أيضا، والمرأة تقاوم وتمانع، ولكن الرجلين أقوى منها حجة وأشد منها مهارة، وهما يمثلان لها ميراث زوجها عبئا مثقلا بالديون. ودخل المهندس، فأراد أن يدافع عن المرأة، وعرض طريقة تضمن لها الثروة. ولكن الرجلين حاوراه حتى كان بينهم خصام عنيف، وانصرفوا جميعا وقد تركوا المرأة وبناتها يضطربن بين يأس منكر وتردد شديد ...
فإذا خلا النسوة إلى أنفسهن تشاورن في الأمر، ولكنهن ضعاف لا يفقهن تدبير الثروة ولا يعرفن مواجهة الصعاب. وهن مختلفات يقلبن الأمر ظهرا لبطن، وإذا الخادم يحمل إليهن كتبا يقرأنها، فإذا كلها تطالب بديون، وإذا هن واجمات ينظر بعضهن إلى بعض دون أن يستطعن الكلام ... •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في البيت نفسه، وقد مضت أسابيع على ما مر في الفصل الماضي. ونحن نرى أن أم الخطيب تتحدث إلى الخادم، فنفهم من حديثهما أنها أقبلت لترى خطيبة ابنها، ولكنها ستنصرف لأن هؤلاء السيدات لسن وحدهن وإنما يتغدى معهن «تسييه»، فإذا انصرفت وأقبل السيدات وأقبل معهن الرجل وتحدثوا، عرفنا أن الصلات حسنة بين هذا الرجل وهؤلاء النسوة، وأنه يكثر التردد عليهن دون أن تتقدم أمور الميراث، فهو في الوقت نفسه يميل إلى الفتاة، ولكنه يريد أن يغتال التركة: هو رجل عملي يريد أن يظفر بالمال واللذة في غير مشقة ولا خسارة، وهن محتاجات إلى المال وقد أثقل الدائنون عليهن وبالغوا في الإلحاح، وهن لا يجرؤن أن يطلبن إلى هذا الرجل معونة أو قرضا، وهن يشعرن بأن هذا الرجل يحب إحداهن فيكلفن هذه الفتاة أن تطلب إليه هذا القرض فتفعل بعد جهد، ويقبل الرجل طلبها هذا متبرما به كارها له، وينصرف ليأتي بهذا المقدار من المال فالنساء فرحات مطمئنات. ولكن المحامي قد أقبل وهو يحمل أنباء سيئة، ويلح في بيع الأرض؛ لأن الدائنين الراهنين يلحون في استيفاء ديونهم، ويريدون الاستيلاء على رهونهم.
ومهما تحاول الأم فلن تجد مخرجا من هذا الضيق إلا التسليم، والمحامي يذكرها بفقرها وحاجتها إلى المال، فإذا ذكرت له أنها قد اقترضت من شريكها لامها وأنبأها أنه يستطيع أن يقرضها ما تشاء حتى تتم تصفية الميراث إذا كانت قروضها معتدلة. وقد عاد «تسييه» بالمال وخلا إلى الفتاة، فدفعه إليها وأخذ يداعبها مداعبة الشيخ البخيل الحريص، والفتاة جاهلة، فلما فهمت، أخذت تدافعه عن نفسها، وإذا هو يعرض عليها صفقة منكرة، وإذا الفتاة مغضبة أبية ترد إليه ماله وتطرده طردا عنيفا. ولكن في هذا الفصل موقفا هو من أشد مواقف القصة تأثيرا، وهو هذا الموقف بين الخطيبة وأم خطيبها. كانت هذه الخطيبة مؤمنة بصاحبها واثقة به معتمدة عليه، وكانت تعلم أن أمه تمانع في هذا الزواج ولا تشك في أن الفتى سينتصر على أمه. وقد أقبلت هذه الأم وإذا هي تنصح للفتاة أن تعدل عن هذا الزواج، وتحذرها الفقر والفاقة وما ينشأ عنهما من سوء العشرة بين الزوجين. والفتاة تذكر حبها وتعتز به وتذكر الثقة بخطيبها وتلح فيها حتى يشتد الخصام بينهما، فإذا الفتاة عنيفة مرة، رقيقة مرة أخرى، تجثو وتبكي ثم تنذر وتوعد، ثم يأخذها الغضب فتعلن إلى المرأة ما كان بينها وبين الفتى، ولكن المرأة لا ترق ولا تلين، وإنما تنبئها بأن ابنها انصرف عن حبه وأذعن لأمه، وتنصرف وقد تركت الفتاة في ذهول ما أسرع ما استحال إلى جنون وأهلها يحطن بها يردن أن يحملنها إلى السرير. •••
فإذا كان الفصل الرابع فقد تم كل شيء، وظفر الشريك والمحامي بما كانا يريدان من اغتيال ثروة هؤلاء اليتامى. واضطرت هذه الأرملة وبناتها إلى أن يتركن بيتهن الفخم ويأوين إلى بيت متواضع عليه مظاهر البؤس والفقر، وقد اتصل الغلام بالجيش، وجنت الخطيبة جنونا متقطعا، وأخذت المرأة تعيش مع ابنتيها الرشيدتين عيشة ضيق لا بد من أن تنتهي إلى الإعدام. وكبرى بناتها تلتمس عملا لتكسب منه حياتها وحياة أمها وأختها، تريد أن تعطي دروسا في الموسيقى، فلا تلبث أن تعلم أن هذا مستحيل؛ لأنها إن كانت شريفة أكبرها الناس دون أن يستأجروها، وإن كانت لعوبا استأجرها الناس ولم يكبروها. تريد أن تتصل بملعب من ملاعب الموسيقى، فيظهر لها أن هذا مستحيل، إلا أن تنزل عن عفتها وكرامتها، وهي حائرة محزونة، تتحدث إلى أختها «ماري»، وليست أختها أقل حيرة ولا حزنا منها، فهي أيضا تريد أن تعمل، وقد التمست ألوانا من العمل فلم توفق لشيء إلا أن تعرض عفتها وكرامتها للخطر ...
ما أشق الحياة على المرأة الوحيدة! على أن في الجو شيئا يدعو إلى الأمل، ولكنه ثقيل بغيض لا يطاق: هذا الشريك الذي ما زال بهؤلاء اليتامى حتى ابتز ثروتهن، واضطرهن إلى هذه الحياة المنكرة، هذا الشريك كلف بالفتاة يريد أن يتخذها له زوجا. ألم يظهر حبه لها وإعجابه بها في غير موقف؟ ولكنه شيخ وهو دميم، وهو ثقيل بغيض إلى النفس. والفتاة لا تكرهه بل تعافه، فماذا تصنع؟ أترفض هذا الزواج؟ وإذن فهو الفقر والإعدام وما يتبعهما من ألم. وما تصنع بأمها؟ أتكلفها العمل لتعيش؟ وماذا تصنع بأختها المريضة وقد تزوج خطيبها؟ أتضيف إلى حزنها ومرضها ألم الجوع، أم تقبل هذا الزواج؟ وإذن فهي الحياة المنكرة مع رجل تعافه! وإذن فهو ألم المرأة التي تبيع نفسها لتعيش! وإذن فهو ألم المرأة النبيلة الفقيرة حين تسمع الناس يتحدثون بأنها إنما اقترنت بهذا الشيخ طمعا في ثروته ... الفتاة تضطرب بين هذه الخواطر! ولكن انظر إلى هذه الأسرة كلها قد اجتمعت إلى مائدة حقيرة تتناول طعاما غليظا في صمت وخشوع وإذعان للقضاء، ماذا تصنع الفتاة؟
أتقبل هذا الزواج فترفه على هؤلاء النسوة التعسات، أم ترفضه فتعرض نفسها وأهلها لذلة الفقر وما يتبعها؟
دخل المحامي وهو يلح على الفتاة أن تقبل، وهو يرغبها، وهو يكشف لها أستار المستقبل عن النعيم إن قبلت وعن الجحيم إن أبت، وهو يذكر أمها الشيخة، وأختها المريضة، والأم تأبى وتلح على الفتاة أن ترفض. ولكن المحامي قد ذكر التضحية، وذكر أن أباها الشيخ قد مات لتنعم أسرته، أليس في هذه الأسرة من يألم لتسعد هذه الأسرة؟ بلى! إن فيها هذه الفتاة، فهي تقبل الزواج. وانظر إلى هذا الشيخ الدميم البخيل الهرم قد أقبل فرحا يقبل فريسته كما كان إله الفينقيين يلتهم ضحاياه البريئة، والفتاة مبتسمة مذعنة!
أليس من الحق أن هذا الرجل وأمثاله هم الغربان، يتبعون الموتى فلا يدعون من آثارهم شيئا صالحا إلا أتوا عليه! ...
অজানা পৃষ্ঠা