أقصة تمثيلية هي، أم قصيدة من جيد الشعر، أم كتاب في فلسفة الحب؟ أم هي هذا كله في وقت واحد؟ أما أنا فأميل إلى أنها قد جمعت خصال التمثيل إلى خصال الشعر الجيد، إلى خصال البحث النفسي الدقيق. جمعت كل هذا؛ فهي تؤثر في نفسك من كل هذه النواحي؛ تؤثر في نفسك من الناحية التمثيلية؛ لأن فيها حركة مهما تكن هادئة مقتصدة ساذجة، فهي حركة مؤثرة كافية كل الكفاية لإظهار مهارة الممثل وبراعته، وللتأثير في حس النظارة وشعورهم، وتؤثر فيك من الناحية الشعرية؛ لأن كاتبها قد ارتقى بها حقا إلى حيث يشرف على النفس في أحسن مواقفها وأدقها، فيرى دخائلها، ويلم بما تطمح إليه الإنسانية من مثل أعلى، وما تطمع فيه من سعادة لم يتح الظفر بها للأحياء، وتؤثر فيك من الناحية العلمية الخالصة، لأنها تحليل دقيق للنفس وعواطفها، ودرس عميق للأهواء الإنسانية وأنحائها المختلفة، وهي تؤثر فيك بعد هذا كله من الناحية الفنية الخالصة؛ فقلما تقرأ في آثار هذا العام قصة تمثيلية كتبت بمثل ما كتبت به هذه القصة من دقة وسذاجة وإتقان في تخير للفظ وقصد في أداء المعنى. لن تجد فيها معنى تبسط الكاتب في أدائه، ولن تشعر فيها بشيء يمكن الاستغناء عنه، بل قد تشعر بإيجاز شديد يحملك لا على أن تطلب الإسهاب أو الإطناب، بل على أن تفكر وتتدبر وتشعر بهذه اللذة التي يشعر بها من يقرأ ليفهم حين يحس كأنه استكشف المعنى استكشافا في غير مشقة ولا عناء.
وعندي أن خير ما تمتاز به هذه القصة من الجهة الفنية الخالصة هو أن كثيرا من الناس قد يقرءونها فلا يقدرونها؛ لأنها في حاجة إلى أن تقرأ مع دقة وعناية وروية خاصة. لست أدري أأصف ما في نفسي كما أحب؟ ولكني أريد أن أقول إن في هذه القصة شيئا غير قليل من الترف الفني، لا يحسه ولا يقدره الناس جميعا، ومع ذلك فقد استطاع الجمهور الفرنسي أن يفهم القصة ويقدرها، ويحمل النقاد على أن يسجلوا لها فوزا عظيما.
وما موضوع هذه القصة؟ قلت إنها قصة ساذجة، وفي الحق إن موضوعها ساذج يسير، ولكنه مع ذلك دقيق فيه تعمق شديد، وهو مع ذلك مؤثر، أو هو لذلك مؤثر. موضوع هذه القصة العلاقة بين الحب والسن، أو قل بين الشباب والشيخوخة، أو قل هو هذا التناقض الشديد الذي يوجد بين عواطف الشباب وعواطف الشيخوخة فيما يتصل بالحب، أو قل إن موضوعها هو البحث عن هذه القلوب التي تحتفظ بشبابها الكامل وفتوتها القوية ولكنها مستقرة في صدور الشيوخ، فهي بين مؤثرين مختلفين مؤلمين: أحدهما هذا الشباب الطبيعي الذي لا حد لقوته، والذي يملؤها بهذه الأطماع؛ أطماع الشبان، فإذا هي تحب كما يحبون، وترجو كما يرجون، وتريد أن تحيا وأن تلذ كما يحبون ويلذون. والثاني هذه الشيخوخة الفانية التي ألمت بأجسامهم، فعبثت بها وصرفت عنها قلوب الحسان، وكلفتها شيئا من الاحتشام والقصد، تشعر شعورا واضحا أنها تستطيع أن تنصرف عنهما. نعم، تدرس هذه القصة رجلا شاب القلب شيخ الجسم، يؤلمه شباب قلبه وشيخوخة جسمه، واضطرابه بين ما يبعث فيه هذا الشباب وما تضطر إليه هذه الشيخوخة، ولكنها تدرس مع هذا الرجل أشخاصا آخرين لهم منها مكانة قوية خليقة بالعناية. تدرس هذه الفتاة الريفية الساذجة الوادعة التي تفهم الطبيعة على وجهها، وتتأثر بالطبيعة في غير تكلف ولا تصنع: تحب غير متكلفة، وتنصرف عن الحب غير متكلفة كذلك، تمنح السعادة وهي تجهل أنها تمنحها، وتجر الشقاء وهي تجهل أنها تجره، يسعدك أن تراها سعيدة، ويؤلمك أن تراها شقية، ولكنك مع ذلك لا تستطيع أن تضيف إليها أو إلى إرادتها نتيجة ما تمنح من سعادة أو ما تجر من شقاء.
وتدرس هذه المرأة التي تشعر بأنها جميلة رائعة، وبأنها غنية مثرية، وتريد أن تستمتع بهذا السلطان الذي تستمده من جمالها وثروتها، فتريد أن تكون سيدة زوجها، تصرفه كما تريد لا كما يريد، وتمنحه ما تريد لا ما يريد؛ وهي بعد لا ترضى أن يسألها زوجها عن شيء أو يأخذها بشيء؛ لأنها مقتنعة أنها ليست مدينة له بشيء، وإنما هو المدين لها بكل شيء. فيها أثرة، وفيها كبرياء، ولكن عواصف الأيام وأحداث الدهر أعظم سلطانا على الناس وأبعد آثارا في نفوسهم من الأثرة والكبرياء، فإذا عصفت بأشد الناس أثرة وأعظمهم أنفة أضعفت هاتين العاطفتين في نفسه وردته إلى طوره، فإذا هو يريد أن ينزل عن سلطته ويقتنع من الحياة بما أتيح له.
ثم تدرس إلى هؤلاء الأشخاص شخصا آخر غريب الأطوار، ولكنه شائع بين الناس، لا يكاد يخلو منه مكان، ولا يكاد يخلو منه جيل، وهو هذا الرجل الذكي ذو الفطنة القوية والقريحة والوقادة، قد أخطأه الحظ، وتجاوزته النعمة، وقضي عليه أن يكون شقيا منكودا، لا يعمد إلى عمل من الأعمال إلا أدركه الإخفاق، ولا ينهض إلى أمل من الآمال إلا ثقل اليأس فهوى به إلى حيث لا يستطيع أن ينهض، وهو شاعر بهذا كله محس له، يجتهد في أن يتعرف أسبابه ويتبين مصادره، ولكنه لا يوفق لذلك، فيلقي تبعة شقائه وحرمانه على الجماعة، وإذا هو عدو للجماعة، يبدأ فيزدريها، ثم يغلو في هذا الازدراء حتى يصبح على الجماعة حربا، وإذا هو يستبيح الآثام، ويستحل المنكر فيما بينه وبين الناس من صلة. هو عدو للنظام وهو عدو للأخلاق، وهو عدو لكل ما تواضع الناس عليه، وهذه العداوة نفسها لا تزيده إلا انغماسا في سوء الحظ؛ فالناس يكرهونه ويخافونه وينصرفون عنه ويؤذونه كلما وجدوا إليه سبيلا. وكلما ازدادت مسافة الخلف بينه وبينهم بعدا ازداد سوء ظنه بهم وقبح رأيه فيهم، ولم يفده ذلك إلا شقاء إلى شقاء.
وفيه إلى هذا الشر كله ناحية خيرة طاهرة؛ فهو محب، يحسن الحب، ويحسن الوفاء لمن يحب، وهو صديق يبر بصديقه ويعرف كيف يشاطره الألم، وربما عرف كيف يضحي بنفسه في سبيله؛ وكل هذا لا يمنعه أن يحسد صديقه ويسيء إليه في ماله إذا دعته الحاجة إلى ذلك!
لا يخلو مكان من هؤلاء الناس الذين أراد تكوينهم ومزاجهم وأرادت الأحوال الاجتماعية المحيطة بهم أن يشذوا عن أطوارهم وينحطوا عن طبقاتهم، فأنت لا تدري بأي طبقة من طبقات الناس تلحقهم، ولا في أي منزلة من المنازل الاجتماعية تنزلهم، وأنت تخافهم وترحمهم، وأنت تنفر منهم وتعطف عليهم، وأنت تريد أن تحسن إليهم ولكن من بعيد.
هؤلاء هم أشخاص القصة، اختصرت لك صورهم النفسية اختصارا، فلننظر الآن إلى القصة نفسها، ولكني أنبهك قبل كل شيء إلى أني لن أستطيع أن أعطيك منها صورة صادقة، ولا مقاربة؛ لأنها أدق وأعمق وأكثر تفصيلا من أن يؤديها تحليل موجز، إنما تحتاج إلى ترجمة دقيقة، وما أحسب هذه الترجمة إلا عسيرة جدا. •••
إذا رفع الستار فنحن في بريتانيا الفرنسية، في مكان جميل المنظر شديد التأثير في النفس، ولا سيما نفس الرجل الفني، مصورا كان أو شاعرا أو موسيقيا. نحن على قرب من البحر حيث يصب النهر في مكان قد عبثت به الأيام، نرى سورا يتهدم، وقرية قديمة تنعكس عليها أضواء الشمس في وقت الغروب، فهي نحاسية اللون، وفي المكان بقايا زورق متحطم، والنهر يجري هادئا على يمينك، وقد قامت حول السور أشجار بسطت غصونها في غير نظام، وفي هذا المكان البديع رجل مصور هو «بيير نافار»، قد بعد صوته وعظمت منزلته حتى انتخب عضوا في المجمع العلمي الفرنسي، وهو ضخم الثروة واسعها، قد أقبل إلى هذه الناحية ليقضي الصيف، وأعجبه هذا المكان فأقبل يصوره. وهو إلى عمله، وإذا صوت يدعوه، فإذا دنا منه الصوت التفت، فإذا رجل رث دميم منكر الخلق والصوت، هو «إتيان فريجوز». يتحدثان، فإذا هما صديقان، كانا رفيقين أيام الصبا، وإذا هما يصطنعان فنا واحدا هو التصوير، لكن أحدهما قد ابتسم له الحظ فارتقى من نعمة إلى نعمة وأتيحت له لذات الحياة، فإذا هو الآن سعيد قد ظفر من بعد الصيت وضخامة الثروة ومن الترف والنعيم بأكثر مما كان يريد، في حين قد قدر للآخر الشقاء، فلم تفده مهارته الفنية ولم يعد عليه إتقانه لفن التصوير إلا بالأذى والمحنة، فاضطر إلى أن يترك التصوير إلى نقد التصوير. ولكن النقد لم يفده إلا عداوة وخصومة جعلت حياته عسيرة ضيقة، فأخذ يتقلب في المهن والصناعات فيما يعرف وما لا يعرف، وأخذ لا يجد من هذا كله إلا شرا، حتى أصبح من أنصار الفوضى وأعداء النظام، وقد اضطره ذلك إلى السجن، فمكث فيه أشهرا، ثم خرج فأقبل إلى هذا المكان يستريح مع صديقة له قديمة كانت خليلته أيام الصبا، وهي دميمة مثله، ولكنه يرى دمامتها جمالا، ويرى سعادته - إن كان الدهر قد قدر له السعادة - في حب هذه المرأة والوفاء لها.
يتحدث إلى صاحبه فيحسده ولا يخفي عليه هذا الحسد، ويلومه لأن الدهر قد ابتسم له، وصاحبه يسمع منه ذلك مبتسما متحرجا؛ لأنه على بعد صوته وضخامة ثروته واستمتاعه باللذة والشرف زاهد في الحياة ساخط عليها ضيق بها ذرعا، وهو يعطف على صاحبه، ولكنه يخافه وينفر منه، وهو يريد أن يحسن إليه ويرفق به، ولكن على ألا تشتد بينهما الصلة، فإذا سأله عن أنبائه وعرف أن الحب ما زال قائما متصلا بينه وبين صاحبته «شيكيت» التي كانت صديقة لهما منذ ثلاثين سنة أيام الصبا وأيام البؤس والضيق، أخذه اضطراب شديد وحزن ظاهر، وعرف الرجل منه ذلك. ثم ينصرف هذا الرجل، ويخلو المصور إلى فنه، ولكنه لا يكاد يأخذ فيه حتى يحس حركة من وراء السور، فيلتفت فإذا فتاة حلوة رشيقة قد أشرفت عليه من ثلمة السور، وظهر وجهها الجميل تحيط به أغصان الشجر، فيعرفها ويتلقاها راضيا مبتهجا، وإذا هو يبسط إليها ذراعيه فينزلها قريبا منه، وإذا هما يتحدثان. هذه الفتاة هي «ماري كارلو» من أهل هذه القرية القريبة، كانت أمها أرملة ثم تزوجت رجلا من أهل المدينة كان مثريا موسرا، ثم ضاق به العيش فاضطر إلى أن يعمل حارسا في هذه القرية عند رجل من أغنيائها.
অজানা পৃষ্ঠা