فاعلم إذًا بعد هذا الاستطراد البديع. والعضال المُجيع. أن الفارياق ذهب ذات يوم إلى بعض القسيسين ليعترف له بما فعل وفكر. وقال من المنكر. فقال له القسيس فيما سأله به: قد سمعت عنك إنك كلف بالنظم وبالألحان وهما من أعظم أسباب الفساد والغرام. فهل سول إليك الخناس أن تتغزل في الشعر بامرأة قاعدة النهد. مورَّدة الخد. بينة الكحل. مرتجة الكفل. نحيلة الخصر. مفلجة الثغر. عثلة الساقين. مجدولة الساعدين. سوداء الشعر والحلمتين. نجلاء العينين. مخضبة الكفين. رقيقة الشفتين. مزججة الحاجبين. مدورة السرَّة. ذات عكن مفترة. حلوة الابتسام. مهفهفة القوام. لها رُضاب عذب. ونكهة تسكر الصبَّ. قال قد فعلت ذلك لكني أن أراك إلا حريفي في هذه الصنعة. فقد رأيتك تحسن وصف الحسان أي إحسان. قال ليست حرفتي تلفيق الكلام. وإنما هو شيء عرفته بالقياس والإلهام. فأنكل من تعاطى النظم يملأ دماغه بهذا الوصف المحرَّم. وكيف كان فلا بد من أن تحرق غزلك كله، بالتفصيل والجملة. فإنه يبعث الإغرار على المعاصي. فتجزى به يوم يؤخذ بالنواصي. وتعز التفاصي. قال كيف أحرق في ساعة واحدة ما سهرت فيه ليالي متعددة حرمت فيها من الكرى. وكابدت بها جهدًا ولا جهد الشَّرى أو السُّرى. فكنت إذا نظمت البيت من القصيدة يخيَّل إليَّ إني قطعت مرحلة إلى محل المتغزل بها. وعند تمام القصيدة أتصور أني وصلت إليها ولم يبق بيني وبينها سوى فتح الباب. فكان الختام عندي افتتاحًا خلافًا لجميع الشعراء. ولذلك لم أكن أقصد القصائد الطويلة خشية أن تطول عليَّ المسافة بطولها فهل من الرأي السديد أن يحبط عملي كله من أجل الإغرار. وبعد فإني لا أريد أنهم يقرءون كلامي لأنهم أن لم سألوا عنه أهل العلم فيذمه هؤلاء ويخطئونني ويفندونني. إذ لا يرون في كلام الصغير الوضيع حسنًا. إن استحسنوه لم يكن جزائي منهم إلا قولهم أخزاه الله وقاتله الله وثكلته أمه ولا أب له ولا أم له. قال أن أبيت إلا الإصرار على العناد. والزيغ عن جادة الرشاد. أمسكت عنك مغفرة ذنوبك. ونددت في الكنيسة بعيونك. قال لا تعجل فإن العجلة من الشيطان. أرأيتك لو مدحتك بقصيدة طويلة تجعلها كفارة عن الذنب. وإن شئت أن أمدح فيها أيضًا جميع الرهبان والراهبات والعابدين والعابدات والزاهدين والزاهدات والناسكين والناسكات والقانتين والقانتات والمفردين والمفردات والمغبرين والمغبرات والمذكرين والمذكرات والذاكرين والذاكرات والمتقين والمتقيات والمتبتلين والمتبتلات والمتهجدين والمتهجدات والساجدين والساجدات والمخبتين والمخبتات والمسبّحين والمسبّحات فعلتَ. فكر ساعة وكأنه رأى أن ليس في التغزل كبير إثم. فإن وصف المرأة مثلا بضخم الكفل وفعومة الذراع وتدملك الثدي إذا كانت في الواقع كذلك إنما هو من قبيل قول القائل البدر طالع عند طلوعه أو السحاب منقشع عند انقشاعه. وإنما يكون افتراء وإنما إذا وصفت بذلك وكانت مسحاء مرداء وكانت تتخذ الحشايا لتحسب عجزاء فصدقها ناظرها في ذلك وقال فيها ما قال مجازفة. فلما تدبر الأمر ورازه بعقله قال. لا ينبغي أن تتخذ مدحي كفارة فأني أخشى أن تمسك بي ولا تعود تطلقني. إذ أرى من قوافيك في الفاعلين والفاعلات إنك مُسَكة عُلقة نشبة لزمة. وإنما تمدح أولياء الله والربانيين الصالحين الذين زهدوا في الدنيا رغبة في الآخرة لوجه الله ولبسوا المسوح ولزموا السهر في طاعة الله وداوموا على التقشف حبًا بالله. فمنهم من لم يأكل مدة حياته إلا العدس والخبز جافًا صلبًا. فقال الفارياق وأعقبه أيضًا كسر سن وحكة. قِف قِف. قد نسيت أن أذكر لك شيئًا أخطره الآن ببالي العدس. وذلك إني تسببت مرة في إخراج رويهب من ديره وتركه الطريقة، وإنما الذي أغراني بذلك ما قاسيته فيه ففعلت ما تشفيًا. فقال ذنبك في التشفي وهو ضرب من الانتقام أكبر من ذنبك في إخراج الرويهب. فإن أكثر الرهبان لا فائدة من إقامتهم في الدير لا لهم ولا لغيرهم. وما عدا ذلك فقد يحتمل أن هذا الرويهب يتزوج ويجعل من ولده رهبانًا كثيرين. ولكن إذا مدحت الراهبات فأحذر من أن تذكر لهن أثداء وأعجاز إذ لاشيء لهن من ذلك. فأن طول الاعتكاف والاحتجاب قد صيرهن مخالفات لسائر النساء. ونحن معاشر العباد أعلم بهن. فقال له الفارياق سألتك بالله معبود أهل السماوات والأرض هل جميع القسيسن
1 / 43