هجع هجع الحمد لله. الحمد لله قد تخلصت من إنشاء هذه المقامة ومن رقمها أيضًا فأنها كانت باهضة. ولم يبقَ لي همّ منها سوى حث القارئ على مطالعتها. وهي وإن تكن خشنة غير مهلهلة كسجع الحريري إلا إنها تلبس على علاتها. وتحمد لإفادتها. وفي ظني أن الثانية تكون أحسن منها. والثالثة أحسن من الثانية. والرابعة أحسن من الثالثة. والخمسين أحسن من التاسعة والأربعين لا من هذا التهويل والتهويل لا تخف. إنما هي أربع لا غير كما وعدتك. والآن ينبغي أن أعصر يافوخي لا ستقطر منه أفكارًا ومعاني حسنة وألفاظًا رائقة مع تجنب الثرثرة. فإن العلماء يسمون ذلك فيما أظن إخلاء. ولكن قف هنا حتى أسألهم. ماذا تسمون الكلام الذي يتدفق بالمعاني ويبلّ قارئه حتى آتيكم به. فإن لم تسموه لي حالًا فلا تلوموني على نقيضه. فإني أنا من الموجود ودأبي أن أبحث عنه لا عن المعدوم. ولما كان اسم الإخلاء موجودًا ونقيضه معدومًا ناسب أن أعدل إليه عن غيره. إلى أن تتواطئوا على اسم ولكن لا بالخناق والتناوش. والنقار والتهاوش. وبالجلاد والجدال. وبالتماسك بالجيوب والأذيال بل بالرزانة والوقار. والأوان والاستبصار. فإن الرزين إذا وضع اسمًا لشيء جاء ذلك الاسم رزينًا مثله. فلا يمكن بعد انتقاله إلى آخر. بل ربما وقر بالاسم المسمى وإن يكن مما اتصف بالخفة والطيش. ألا ترى أن كلام الشاعر الرقيق يأتي رقيقًا. وكلام الضخم يأتي ضخمًا. كما قيل كلام الملوك ملوك الكلام. وشعر المرأة يأتي خالبًا للعقول لاعبًا بالألباب مثلها. ويستثنى من هذه القاعدة وضع الولد من قبل أبيه أي مادة توزيع الولد. لا أن الأب يحبل ويلد. وذلك أن الوالد قد يكون قبيحًا ويأتي ولده صبيحًا. وسببه أن الإيلاد لما كان من الأفعال التي لا تتم إلا بمشاركة اثنين أعني رجلًا وامرأة إذ التغليب هنا لا يخلو أيضًا من الإبهام. لم يكن للوالد مطلق التصرف في تهيئة ولده كما شاء. فقد يكون هو عند ذلك مقدرًا له شكلًا ارتضاه وتكون أمه حرسها الله مقدرة له شكلًا آخر بحسبما استحسنته وخلع صدرها إذ ذاك. فيأتي الولد خنفشاريًا. لا يقال أن الرجل لا يستحضر عند ذلك صورة معلومة لذهوله بشاغل المادة. فإن ذلك لا يصدق على من ألف شيئًا واحدًا بخصوصه. فإن طول ألفة الإنسان لشيء تعدل هواه فيه فيباشره برشده وروية. فمثله كمثل الطباخ الشبعان يطبخ خضض الطعام بإتقان وإحكام بخلاف الجائع فإنه يلهوج عمله ويلهوته.
1 / 42