حين أدركت بالكامل التغير الذي حل بي، تساءلت عما إذا كنت قد مت ودخلت إلى وجود جديد غير متوقع على الإطلاق. أزعجني بشدة هذا الاحتمال في البداية. وبذعر مفاجئ ، أدركت أنني إذا كنت قد مت بالفعل فلن أعود إلى ذرتي الثمينة المتجسدة في الاتحاد. صدمني عنف انزعاجي، غير أنني سرعان ما رحت أطمئن نفسي بفكرة أنني لست ميتا على الأرجح بالرغم من كل شيء، بل في نوع ما من الإغماء وقد أفيق منه في أي لحظة؛ ولهذا فقد قررت ألا أنزعج بهذا التغير العجيب دونما داع، وأن أراقب، على نحو علمي، كل ما سيحدث لي.
لاحظت أن الظلام الذي قد حل محل الأرض كان يتضاءل ويتكثف. لم تعد النجوم تحت الأرضية ظاهرة من خلاله. وسرعان ما أصبحت الأرض من تحتي كسطح طاولة ضخم مستدير؛ قرص واسع من الظلام تحيط به النجوم. كنت على ما يبدو أحلق مبتعدا عن كوكبي الأصلي بسرعة مذهلة. الشمس التي كانت تظهر للخيال قبل ذلك في السماء السفلية، قد كسفتها الأرض مرة أخرى على نحو مادي أكثر. وبالرغم من أنني كنت الآن على ارتفاع مئات الأميال من الأرض بالتأكيد، فلم أكن أواجه أي مشكلة بسبب غياب الأكسجين والضغط الجوي. لم أكن أشعر بشيء سوى انتشاء متزايد وحالة مبهجة من جيشان الأفكار. اللمعان الاستثنائي للنجوم قد أثارني. وسواء بفعل غياب الأجواء المعتمة أو بفعل حساسيتي المتزايدة أو كلا الأمرين، فقد اتخذت السماء سمة غير معتادة. بدا أن النجوم جميعها قد توهجت بقدر أكبر من اللمعان. توهجت السماء. كانت النجوم الكبيرة كمصابيح سيارة بعيدة. لم تعد درب التبانة مغرقة بالظلام، بل نهرا مطوقا من حبيبات الضوء.
الآن، على امتداد الطرف الشرقي للكوكب والذي قد صار الآن بعيدا تحتي، ظهر هناك خط خافت من الضياء، والذي صار، وأنا أستمر في الارتفاع، يزداد حيوية ويتحول إلى اللونين البرتقالي والأحمر. يبدو أنني لم أكن أتحرك باتجاه الأعلى فحسب، بل باتجاه الشرق أيضا، وكنت أدور بسرعة في ذلك الوقت. سرعان ما ظهرت الشمس في الأفق وأخذت تلتهم هلال الفجر الضخم بسطوعها. غير أنه حين زادت سرعتي، رأيت الشمس والكوكب يبتعد أحدهما عن الآخر، بينما راح خط الفجر يزداد سمكا ويتحول إلى مساحة عريضة غبشاء من ضوء الشمس. ازدادت هذه المساحة كقمر تراه وهو يزداد، إلى أن أصبح نصف الكوكب مضيئا. بين منطقتي الليل والنهار، كان ثمة حزام من الظل ذي لون دافئ، وعرضه كعرض شبه قارة، والذي أصبح الآن يحدد منطقة الفجر. وإذ واصلت الارتقاء والسفر باتجاه الشرق، رأيت اليابسة تتأرجح باتجاه الغرب مع حركة اليوم، إلى أن حلقت فوق المحيط الهادي وقت الظهيرة. بدا كوكب الأرض الآن كأنه فلك عظيم ساطع أكبر بمئات المرات من البدر. وفي مركزه كانت هناك بقعة براقة من الضوء التي هي صورة الشمس منعكسة في المحيط. كان محيط الكوكب مساحة لا متناهية من الضياء الأغبش الذي يتلاشى في ظلام الفضاء المحيط. وكان الجزء الأكبر من نصف الأرض الشمالي، والذي كان يميل بعض الشيء باتجاهي، امتدادا فسيحا من الثلج وقمم السحب. استطعت أن أرى أجزاء من حدود اليابان والصين، والتي تحد بلونيها البني والأخضر الغامضين المحيط بلونيه الأزرق والرمادي الغامضين. باتجاه خط الاستواء حيث الهواء أنقى، كان المحيط داكنا. ثم كانت ثمة دوامة صغيرة من الغيوم الساطعة كانت على الأرجح السطح العلوي لإعصار. بعدها ظهرت الفلبين وغينيا الجديدة بدقة شديدة. واختفت أستراليا في الطرف الجنوبي المبهم المعالم.
كان المشهد من أمامي مثيرا على نحو غريب. القلق الشخصي قد طمسته مشاعر الدهشة والإعجاب؛ فما يتمتع به كوكبنا من جمال خالص قد أدهشني. لقد كان لؤلؤة عظيمة في سواد لامع. كان مثل درة أو حجر الأوبال الكريم. كلا، لقد كان أجمل بكثير من أي جوهرة. لقد كانت ألوانه أكثر روعة وأكثر أثيرية. وكان يعبر عن الرقة والبراعة والتعقيد والتناغم الموجودة في الكائن الحي. غريب أنني في بعدي هذا قد بدا لي أنني كنت أشعر، كما لم أشعر من قبل، بالحضور الحيوي للأرض ككائن حي لكنه مغيب ويتوق على نحو مبهم للاستيقاظ.
فكرت أن أيا من المعالم الظاهرة في هذه الجوهرة السماوية الحيوية لا يكشف عن وجود الإنسان. بعض المراكز الأكثر ازدحاما بالبشر كانت تتجلى أمامي، حتى وإن لم تكن ظاهرة. وأسفل مني، كانت تقبع مناطق صناعية ضخمة تسود الهواء بالدخان. بالرغم من ذلك، فكل هذه الحياة المكتظة، والمشروعات البشرية الضخمة، لم تترك أي أثر على ملامح الكوكب. فمن هذه الإطلالة المرتفعة من خارج الأرض، لم يكن شيء ليبدو مختلفا عما كانت عليه الأرض قبل فجر الإنسانية. ما من ملاك زائر أو مستكشف من كوكب آخر كان سيخمن أن هذا الفلك اللطيف ممتلئ بالآفات والأوبئة، وبوحوش ملائكية بشكل أولي، تعذب أنفسها وتسود العالم.
الفصل الثاني
السفر بين النجوم
بينما رحت أتأمل كوكبي الأصلي على تلك الحال، واصلت التحليق لأعلى في الفضاء. ظهرت الأرض وهي تتضاءل على مسافة بعيدة، وبينما أسرعت باتجاه الشرق بدا أنها تدور تحتي. جميع معالمها تحركت باتجاه الغرب، إلى أن ظهر الغروب وإقليم الأطلسي الأوسط بعدها بوقت قصير على طرفها الشرقي، ثم ظهر الليل. وفي غضون دقائق قليلة، كما بدا لي، تحول الكوكب إلى نصف بدر هائل، وسرعان ما تحول إلى هلال ضبابي متضائل يقع بجوار الهلال الضئيل الحاد لقمره.
بدهشة أدركت أنني حتما أسافر بسرعة مذهلة وتكاد تكون مستحيلة. كان تقدمي سريعا للغاية حتى إنه بدا أنني أمر بوابل مستمر من الشهب. لم تكن مرئية إلى أن صارت تواكبني تقريبا؛ إذ إنها لم تكن تضيء إلا من خلال ضوء الشمس المنعكس، وقد ظهرت للحظة فحسب كأنها بقع من الضوء أو مصابيح ترى من قطار سريع. التقيت بالكثير منها في تصادم وجها لوجه، لكنها لم تؤثر في. كتلة صخرية ضخمة غير منتظمة الشكل، بحجم منزل، هي التي أخافتني للغاية. تضخمت الكتلة المضيئة أمام بصري، وظهر منها على مدار كسر من الثانية سطح خشن ومتكتل، ثم غطتني. بل الأحرى أنني أستنتج أنها لا بد أن تكون قد غطتني، غير أن مروري كان سريعا للغاية حتى إنني سرعان ما وجدت نفسي أخلفها بالفعل فور أن رأيتها في المسافة الواقعة في المنتصف.
سريعا أصبحت الأرض محض نجم. وأنا أقول سريعا غير أن إحساسي بمرور الوقت قد أصبح الآن مشوشا للغاية؛ فالدقائق والساعات وربما حتى الأيام بل الأسابيع أيضا قد أصبحت الآن متماثلة.
অজানা পৃষ্ঠা