تقديم
1 - الأرض
2 - السفر بين النجوم
3 - الأرض الأخرى
4 - السفر مجددا
5 - عوالم لا حصر لها
6 - إشارات صانع النجوم
7 - المزيد من العوالم
8 - نظرة على المستكشفين
9 - اتحاد العوالم
10 - رؤية المجرة
11 - نجوم وأوبئة
12 - روح كونية ناقصة
13 - البداية والنهاية
14 - أسطورة الخلق
15 - الصانع وأعماله
16 - خاتمة: العودة إلى الأرض
تقديم
1 - الأرض
2 - السفر بين النجوم
3 - الأرض الأخرى
4 - السفر مجددا
5 - عوالم لا حصر لها
6 - إشارات صانع النجوم
7 - المزيد من العوالم
8 - نظرة على المستكشفين
9 - اتحاد العوالم
10 - رؤية المجرة
11 - نجوم وأوبئة
12 - روح كونية ناقصة
13 - البداية والنهاية
14 - أسطورة الخلق
15 - الصانع وأعماله
16 - خاتمة: العودة إلى الأرض
صانع النجوم
صانع النجوم
تأليف
أولاف ستيبلدون
ترجمة
الزهراء سامي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
تقديم
في وقت تكون فيه أوروبا في خطر كارثة أسوأ من كارثة عام 1914، قد يدان كتاب كهذا باعتباره مصدر تشتيت عن الحاجة العاجلة للدفاع عن الحضارة ضد الهمجية الحديثة.
عاما بعد عام وشهرا بعد شهر، تصبح أزمة حضارتنا المتشرذمة المتزعزعة أكثر خطورة. إن الفاشية بالخارج تزداد ضراوة ووحشية في مشاريعها الخارجية، وتزداد في طغيانها على مواطنيها، وتزداد همجية في امتهانها لحياة العقل. وحتى في بلدنا نجد أن لدينا ما يدفع إلى الخوف من الميل نحو العسكرة وتحجيم الحرية المدنية. وعلاوة على هذا، مع مرور العقود نجد أنه ما من خطوة حازمة قد أخذت لتخفيف الظلم الواقع في نظامنا الاجتماعي. إن نظامنا الاقتصادي البالي يودي بالملايين إلى اليأس.
في هذه الظروف يصعب على الكتاب أن يؤدوا رسالتهم بشجاعة وبرأي متزن في الوقت ذاته. البعض لا يفعل شيئا سوى أن يهزوا أكتافهم وينسحبوا من الصراع الأساسي في عصرنا. وهؤلاء الذين يحولون أذهانهم عن القضايا الأهم في العالم ينتهي بهم الأمر ليس إلى إنتاج أعمال تفتقر إلى العمق والأهمية بالنسبة إلى معاصريهم فحسب، بل تفتقر أيضا إلى الصدق؛ ذلك أن هؤلاء الكتاب سيحاولون إقناع أنفسهم إما شعوريا وإما لا شعوريا بأن الأزمة التي يواجهها البشر لا وجود لها، أو أنها أقل أهمية من أعمالهم، أو أنها لا تخصهم في شيء على أي حال. غير أن هذه الأزمة موجودة بالفعل، وهي ذات أهمية فائقة، وهي تخصنا جميعا. فهل يمكن لأي شخص يتمتع بأي قدر من الذكاء والوعي أن يرى العكس دون خداع للذات؟
بالرغم من ذلك، فأنا أكن تعاطفا شديدا مع بعض أولئك «المفكرين» الذين يصرحون بأنهم لا يملكون مساهمة نافعة يشاركون بها في هذا الصراع، ولهذا فهم يفضلون ألا يخوضوا فيه. وأنا في حقيقة الأمر واحد منهم. وما يمكنني أن أقوله في دفاعنا عن أنفسنا هو أنه بالرغم من غياب نشاطنا المباشر أو فعاليتنا في دعم القضية، فنحن لا نتجاهلها. وهي بالتأكيد تحوز على انتباهنا باستمرار وبصورة مفرطة، غير أننا قد اقتنعنا بعد طول عهد من المحاولة والخطأ أن أكثر ما يمكن أن نقدمه لخدمة القضية هو العمل بطريقة غير مباشرة. والأمر يختلف لدى بعض الكتاب؛ إذ يخوضون ببسالة في الصراع ويستخدمون قدراتهم في الدعاية للقضية، أو حتى يحملون السلاح دفاعا عنها. وإذا كانوا يتمتعون بالقدرات المناسبة، وكان النضال المحدد الذي يشاركون فيه هو في حقيقة الأمر جزء من المشروع العظيم المتمثل في الدفاع عن الحضارة (أو بنائها)، فقد يساهمون بعمل قيم بالتأكيد. ثم إنهم قد يجنون حظا واسعا من الخبرة والتعاطف الإنساني، مما يعزز كثيرا من قدراتهم الأدبية. غير أن تلهفهم على خدمة القضية قد يؤدي في حد ذاته إلى تعميتهم عن أهمية امتلاك وتعزيز ما يمكن تسميته مجازيا، حتى في زمن الأزمة هذا، ب «الوعي بالذات الذاتي النقد للنوع البشري» أو محاولة النظر إلى حياة الإنسان ككل وعلاقتها ببقية الأشياء. وينطوي هذا على الرغبة في النظر في جميع الشئون والمثل والنظريات البشرية بأقل درجة ممكنة من التحيز البشري. وهؤلاء الذين يكونون في خضم الصراع ينزعون في نهاية المطاف إلى التحزب، حتى إن كان ذلك في قضية عظيمة وعادلة. إنهم بنبل يغفلون جزءا من تلك الموضوعية، تلك القوة المتمثلة في التقييم العقلاني، والتي هي في نهاية الأمر من أثمن القدرات البشرية. وربما يكون ذلك هو المطلوب في حالتهم؛ فالنضال المستميت يتطلب من الموضوعية أقل مما يتطلبه من الإخلاص. بالرغم من ذلك، ينبغي على بعض من يؤمنون بالقضية أن يخدموها بأن يسعوا إلى التحلي بروح أكثر هدوءا مع التحلي بالولاء الإنساني. وربما نجد أن محاولة رؤية عالمنا المضطرب على خلفية من النجوم تزيد في نهاية المطاف من أهمية الأزمة البشرية الحالية، لا تقلل منها. وربما تعزز أيضا من إحسان بعضنا تجاه بعض.
انطلاقا من هذا الاعتقاد حاولت أن أبني تصورا خياليا للكيان الكلي المهيب والحيوي أيضا للأشياء. وأنا أعرف جيدا أنه تصور غير واف بدرجة مثيرة للسخرية وطفولي في بعض الجوانب، حتى عند النظر إليه من زاوية الخبرة البشرية المعاصرة. وفي عصر أهدأ وأكثر حكمة، قد يبدو جنونيا. بالرغم من ذلك، ورغم طبيعة هذا التصور الأولية المبسطة، وما يتسم به من بعد، فربما لا يكون غير ذي صلة تماما.
وبالرغم من احتمالية إثارة القلاقل مع كلا التوجهين؛ اليميني واليساري؛ فقد استخدمت في بعض الأحيان أفكارا وكلمات محددة مشتقة من الدين، وحاولت تأويلها في ضوء الاحتياجات الحديثة. لقد استخدمت مثلا الكلمتين السيئتي السمعة بشدة بالرغم من قيمتهما الثمينة: «روحاني» و«عبادة» اللتين قد أصبحتا بذيئتين لدى التوجه اليساري مثلما كانت الكلمات الجنسية القديمة الجيدة بذيئة لدى التوجه اليميني، غير أنني قد استخدمتهما للتعبير عن تجربة ينزع اليمين إلى إفسادها واليسار إلى إساءة فهمها. يمكنني القول إن هذه التجربة تنطوي على التجرد من جميع الغايات الخاصة والاجتماعية والعرقية، وليس ذلك بالمعنى الذي يدفع الإنسان إلى رفضها، بل تجعله يقدرها بطريقة جديدة. إن «الحياة الروحانية» تبدو في جوهرها محاولة لاستكشاف التوجه الملائم لخبرتنا ككل ثم تبنيه، مثلما نشعر أن الإعجاب هو الاستجابة الملائمة تجاه كائن بشري قد حسن نموه. وهذه المبادرة يمكن أن تؤدي إلى زيادة صفاء الوعي وتحسينه؛ ومن ثم فقد يكون لها تأثير عظيم ونافع على السلوك. ومما لا شك فيه أن هذه الخبرة الإنسانية الفائقة إذا لم تولد الإرادة الحازمة لخدمة إنسانيتنا التي تستفيق من غفلتها، مع شيء من الإذعان للقدر، فلن تكون إلا فخا وخدعة.
قبل أن أختم هذا التقديم لا بد لي أن أعبر عن امتناني للبروفيسور إل سي مارتن والسيد إل إتش مايرز والسيد إي في ريو لما قدموه من نقد نافع ومتعاطف والذي بناء عليه قد أعدت كتابة العديد من الفصول. وحتى الآن أجد أنني لا أزال مترددا في إلحاق أسمائهم بعمل كهذا، والذي إذا قيم بمعايير الرواية فسيكون سيئا للغاية. وهو في حقيقة الأمر ليس رواية على الإطلاق.
وقد استوحيت بعض الأفكار المتعلقة بالكواكب الاصطناعية من الكتاب الرائع الصغير «العالم والجسد والشيطان» للسيد جيه دي برنال. وأرجو ألا يستهجن بشدة معالجتي لهذه الأفكار.
أما زوجتي فيجب أن أشكرها على عملها في مراجعة البروفات ولعفويتها وإخلاصها لي.
أولاف ستيبلدون
مارس 1937
الفصل الأول
الأرض
(1) نقطة البدء
ذات ليلة حين شعرت بالمرارة، خرجت ذاهبا إلى التل. أبطأ الخلنج المعتم من حركة قدمي. في الأسفل، امتدت مصابيح الضاحية. والنوافذ ذات الستائر المسدلة كانت عيونا مغلقة تشاهد داخليا حياة الأحلام. وبعد الظلام الممتد على مستوى البحر، كان ثمة منارة تومض. وفي الأعلى كان هناك ظلام. ميزت منزلنا، جزيرتنا الصغيرة في تيارات العالم المضطربة والمريرة. هناك، على مدار عقد ونصف من الزمان، أنا وزوجتي، اللذان نختلف للغاية في سماتنا الأساسية، قد نضجنا ونما أحدنا في الآخر لما كان بيننا من دعم وتغذية مشتركة، في نظام تكافلي معقد. هناك خططنا مهامنا العديدة كل يوم، وروينا غرائب اليوم ومضايقاته. هناك تراكمت خطابات يجب الرد عليها، وجوارب يجب رتقها. هناك ولد الأطفال؛ تلك الحيوات المفاجئة الجديدة. وهناك، تحت ذلك السقف، كانت حياتانا، نحن الاثنين - اللتان كانتا تعاند أحيانا كل منهما الأخرى - حياة واحدة طوال الوقت لحسن الحظ؛ حياة أكبر وأكثر وعيا من حياة أي منا بمفرده.
كل ذلك كان جيدا بالتأكيد. بالرغم من ذلك، كان هناك شعور بالمرارة. وتلك المرارة لم تغزنا من العالم الخارجي فحسب، بل نمت داخل دائرتنا السحرية أيضا؛ ولهذا فالرعب من لا جدوانا ومن انعدام واقعيتنا، لا من هذيان العالم فحسب، قد دفعني للخروج والذهاب إلى التل .
كنا نسرع دائما من مهمة صغيرة عاجلة إلى أخرى، غير أن المحصلة كانت واهية. أيمكن أن نكون قد أخطأنا فهم وجودنا بأكمله؟ أيمكن أننا كنا بطريقة ما، نعيش انطلاقا من فرضيات خاطئة؟ وهذه الشراكة القائمة بيننا على وجه التحديد، هذه الدعامة التي تبدو رائعة التأسيس للتحرك في هذا العالم، ألم تكن في نهاية المطاف سوى دوامة صغيرة من الحياة المنزلية الراضخة المنعزلة، التي تدور على سطح الفيض العظيم دون جدوى، وهي ذاتها لا تحمل عمقا ولا أهمية؟ أيمكن أن نكون بالرغم من كل شيء قد خدعنا أنفسنا؟ هل نكون كالكثيرين من غيرنا لم نعش في حقيقة الأمر خلف تلك النوافذ السارحة الفكر سوى حلم؟ في عالم مريض، حتى المعافى يكون مريضا. ونحن الاثنان؛ إذ كنا ندور في حياتنا الصغيرة دون تفكير في معظم الأحيان، ونادرا بوعي صاف أو عزم قوي، كنا نتاج عالم مريض.
غير أن حياتنا تلك لم تكن كلها محض خيال تام وعقيم. ألم تكن مغزولة من ألياف الواقع الفعلية والتي جمعناها في جميع مرات ذهابنا وإيابنا عبر بابنا، وجميع معاملاتنا مع الضاحية والمدينة والمدن الأبعد وكذلك أطراف الأرض؟ ألم نكن نحن نغزل معا تعبيرا أصيلا عن طبيعتنا؟ ألم تنتج حياتنا كل يوم خيوطا متينة إلى حد ما من العيش النشط، والتي قد تداخلت في الشبكة النامية؛ نمط الإنسانية المعقد الدائم التكاثر؟
كنت أنظر إلى «علاقتنا» بحماس هادئ ونوع من الرهبة المبتهجة. كيف يمكنني أن أصف علاقتنا حتى لنفسي دون ازدرائها أو إهانتها بزخرف النزعة العاطفية المبهرج؟ ذلك أن توازننا الدقيق من الاعتمادية والاستقلالية، ذلك الاتصال المشترك الناقد بعقلانية والساخر بدهاء والمحب مع ذلك، كان بالتأكيد عينة مصغرة للرفقة الحقيقية، وكان في أسلوبه البسيط بالرغم من كل شيء مثالا فعليا وحيا على الهدف السامي الذي يسعى إليه العالم.
العالم بأكمله؟ الكون بأكمله؟ في الأعلى كشف الظلام عن نجمة. شعاع واحد مرتعش من الضوء قد انبعث من آلاف الأعوام قد أتعب الآن أعصابي بالرؤية وقلبي بالخوف. ففي كون مثل هذا الكون أي أهمية قد تكون لرفقتنا الواهية، الوليدة الصدفة، السريعة الزوال؟
لكن الآن قد استغرقت بصورة غير عقلانية في نوع غريب من العبادة. لم يكن ذلك التقديس تجاه النجمة بالتأكيد؛ فهي محض أتون لم يمنحه تلك القداسة الزائفة سوى بعده، بل كان تجاه شيء آخر، أبرزه للقلب التناقض الشديد بيننا وبين النجمة، لكن ما ذاك الذي قد يمثل أهمية على هذا النحو؟ إن الفكر حين أمعن النظر فيما يكمن وراء النجمة لم يكتشف أي «صانع نجوم»؛ لم يكن هناك سوى العتمة؛ لم يكن ثمة حب ولا حتى قدرة، فقط عدم. بالرغم من ذلك، سبح القلب.
بنفاد صبر دفعت عني هذه الحماقة، وارتددت من الملغز إلى المعروف والملموس. منحيا العبادة بعيدا وكذلك الخوف والمرارة، قررت أن أفحص «علاقتنا» الغريبة تلك بقدر أكبر من الموضوعية، تلك الحقيقة المثيرة للإعجاب على نحو مدهش، والتي ظلت بالنسبة إلينا أساسية للكون، بالرغم من أنها بدت أمرا تافها للغاية بالنسبة إلى النجوم.
حتى عند التفكير في الأمر دون التطرق إلى خلفيتنا الكونية المهينة، فنحن في نهاية المطاف تافهان وربما حتى سخيفان. لم نكن سوى حدث عادي، مبتذل للغاية ومحترم للغاية. لقد كنا زوجين فحسب، نتدبر أمرنا كي نعيش معا دون أعباء لا داعي لها. كان الزواج في عصرنا مريبا. وقد كان زواجنا، بأصله الرومانسي التافه، مريبا على نحو مضاعف.
التقينا للمرة الأولى حين كانت زوجتي طفلة. تلاقت عيوننا. نظرت إلي للحظة بانتباه هادئ؛ حتى إنني تخيلت برومانسية أن تلك النظرة ربما كانت تحمل إدراكا غامضا عميقا. على أي حال، رأيت أنا في تلك النظرة قدري، أو هكذا أقنعت نفسي في حمى سن المراهقة. أجل! كم بدا اتحادنا مقدرا! أما الآن، فعند النظر في الماضي، كم يبدو تصادفيا! صحيح أننا كنا متلائمين في علاقة زواجنا التي امتدت لفترة طويلة، كشجرتين قريبتين إحداهما من الأخرى قد نما جذع كل منهما إلى الأعلى معا في جذع واحد، بحيث كل منهما يشوه شكل الآخر، وفي نفس الوقت يدعمه. الآن قيمت زوجتي بموضوعية على أنها محض إضافة مفيدة لحياتي الشخصية، لكنها مدعاة للغضب في معظم الأحيان. لقد كنا في المجمل رفيقين رشيدين. وقد ترك أحدنا للآخر قدرا من الحرية؛ فاستطعنا أن نتحمل قربنا المتواصل معا.
تلك كانت علاقتنا. وعند ذكرها بهذه الطريقة، لم تبد مهمة للغاية في فهم الكون. غير أنني كنت أعرف في قرارة نفسي أنها كذلك. حتى النجوم الباردة، وحتى الكون بأكمله بجميع أبعاده الهائلة العقيمة لم يستطع أن يقنعني بأن هذه الذرة الثمينة التي تمثل رفقتنا - بالرغم من افتقارها إلى المثالية، وبالرغم من قصر أجلها كما لا بد لها أن تكون - ليست بالمهمة.
لكن أيمكن فعلا أن يكون لاتحادنا الذي يتعذر وصفه أي أهمية تتجاوز وجوده هو ذاته؟ هل أثبت مثلا أن الطبيعة الجوهرية للبشر هي الحب لا الكره والخوف؟ أكان برهانا على أن جميع الرجال والنساء في شتى أنحاء العالم قادرون على دعم مجتمع نسيجه الحب، بالرغم من أن الظروف قد تمنعهم من ذلك؟ وهل أثبت مثلا، وهو نفسه من نتاج الكون، أن الحب أساسي للكون بطريقة ما؟ وهل قدم، من خلال تميزه الجوهري، ضمانا ما بأننا، نحن الاثنين، داعماه الواهيان، لا بد أننا نتمتع بطريقة ما بحياة أبدية؟ هل أثبت فعلا أن الحب هو الرب وأن الرب ينتظرنا في السماء؟
كلا! إن رفقة روحينا البسيطة الودودة المثيرة للغضب والمثيرة للضحك، والثمينة رغم خلوها من الزخرفة، لم تثبت أيا من هذه الأشياء، ولم تكن ضمانا محددا على أي شيء سوى صحتها غير المثالية؛ لم تكن سوى تمثيل ضئيل وساطع للغاية لاحتمال واحد من بين الكثير من احتمالات الوجود. تذكرت حشود النجوم التي لا ترى. تذكرت اضطراب الكراهية والخوف والمرارة في عالم الإنسان. تذكرت أيضا خلافنا المتكرر. وذكرت نفسي بأننا يجب أن نختفي سريعا مثلما تختفي الموجات الصغيرة التي يشكلها النسيم على المياه الساكنة.
مرة أخرى رحت أفكر في التقابل الغريب بيننا وبين النجوم. إن قدرة الكون التي لا يمكن حسابها قد عززت على نحو غريب من أهمية تلك الومضة الخاطفة المتمثلة في رفقتنا، ومن مغامرة البشرية الخاطفة غير الأكيدة. وهاتان بدورهما، قد أسرعتا من حركة الكون.
جلست على الخلنج. العتمة من فوقي تتراجع الآن بالكامل. وفي مؤخرتها، بدأ شعب السماء المحرر الظهور من الاختباء، نجمة تلو النجمة.
على جميع الجوانب، امتدت التلال المبهمة، أو ما خمنت أنه البحر الرتيب، إلى ما وراء مدى البصر. غير أن الخيال الطائر طيران الصقر قد تبعها في انحنائها إلى الأسفل تحت الأفق. تخيلت أنني كنت على حبة صغيرة من الصخر والمعدن قد غلفتها المياه والهواء، وأنها تدور في ضوء الشمس والظلام. وعلى القشرة الخارجية من تلك الحبة الصغيرة، كانت حشود البشر تعيش جيلا بعد جيل في شقاء وعمى، مع دفقات متقطعة من البهجة وصفاء الروح. وكل تاريخهم بما فيه من ارتحال، وإمبراطوريات وفلسفات وعلوم شامخة، وثورات اجتماعية، وشغف متزايد للرفقة، لم يكن سوى ومضة في يوم واحد من حياة النجوم.
لو كان للمرء أن يعرف ما إذا كانت تلك المجموعات المتلألئة تضم حبات أخرى من الصخر والمعدن تسكنها الروح، وما إذا كان بحث البشر المتخبط عن الحكمة والحب هو محض اختلاجة تافهة، أم جزء من حركة كونية! (2) الأرض بين النجوم
في الأعلى، زالت العتمة. امتدت النجوم في السماء دون انقطاع من الأفق إلى الأفق. ظهر كوكبان دون أن يومضا. كانت المجموعات النجمية الأكثر بروزا تؤكد فرديتهما. مجموعة «الجبار» بكتفيها وقدميها الشامخة، وحزامها وسيفها، ومجموعة «بنات نعش الكبرى»، ومجموعة «ذات الكرسي» المتعرجة، ومجموعة «الثريا» التي تعكس الحميمية، كلها تشكلت مثلما ينبغي لها تماما في الظلام. وامتدت مجموعة «درب التبانة» عبر السماء كطوق مبهم من الضوء.
أكمل الخيال ما عجز البصر وحده عن بلوغه. حين نظرت إلى الأسفل، بدا أنني أستطيع أن أرى عبر كوكب شفاف، عبر الخلنج والصخر الصلب، وعبر مقابر الأنواع المندثرة، وعبر البازلت المنصهر المتدفق في الأسفل وصولا إلى لب الأرض من الحديد، ثم مرة أخرى يبدو أني كنت ما أزال أنظر في الأسفل، عبر الطبقات الجنوبية وصولا إلى المحيط الجنوبي والأراضي الجنوبية، وعبر جذور أشجار الصمغ وأقدام سكان الجانب الآخر من العالم المعكوسة أوضاعها، وعبر مظلاتهم الزرقاء التي ثقبتها الشمس، وصولا إلى الليل الأبدي حيث توجد الشمس والنجوم معا. وهناك في الأسفل على مسافة بعيدة للغاية بدرجة تبعث على الدوار، كانت تقبع المجموعات النجمية تحت الأرضية، كأنها أسماك في أعماق بحيرة. قبتا السماء قد امتزجتا في كرة جوفاء واحدة، سكانها من النجوم، وسوداء حتى بجوار الشمس الساطعة. القمر الصغير كان خطا منحنيا متوهجا. الطوق الكامل الخاص بدرب التبانة كان يحيط بالكون. في حالة غريبة من الدوار، نظرت إلى نوافذ بيتنا الصغيرة المتوهجة طلبا للاطمئنان. كانت ما تزال هناك، وكذلك الضاحية بأكملها والتلال. غير أن النجوم كانت تضيء عبرها كلها. بدا الأمر وكأن جميع الأشياء الأرضية قد صنعت من الزجاج أو من مادة بلورية أكثر شفافية ونقاء. بصوت خافت، دقت ساعة الكنيسة معلنة حلول منتصف الليل. قرعت الضربة الأولى وراحت تتلاشى إلى صوت خافت.
كان الخيال الآن قد حفز إلى نمط جديد غريب من الإدراك. عندما أخذت أنظر من نجمة إلى نجمة، لم أعد أرى السماء سقفا وأرضا مرصعين بالجواهر، بل عمقا يتجاوز عمق الشموس البراقة. وبالرغم من أن معظم الأضواء العظيمة والمألوفة في السماء قد سطعت وكأنها جيراننا القريبة، فقد بدت بعض النجوم اللامعة في حقيقة الأمر بعيدة وكبيرة، بينما كانت بعض المصابيح الخافتة ظاهرة فقط بسبب قربها الشديد. في كل جانب، كانت المسافة الواقعة في المنتصف محتشدة بجموع وتيارات من النجوم، لكن حتى هذه النجوم قد بدت الآن قريبة؛ إذ إن درب التبانة قد تراجعت إلى مسافة عظيمة للغاية. ومن بين الفجوات في أجزائها الأقرب، ظهر ممر تلو الممر من الضباب اللامع، وآفاق عميقة من التجمعات النجمية.
الكون الذي وضعني فيه القدر لم يكن غرفة لامعة، بل دوامة مدركة من تيارات النجوم. كلا! لقد كان أكثر من ذلك. حين حدقت بين النجوم في الظلمة الخارجية، رأيت أيضا دوامات أخرى من نفس النوع والتي بدت كمحض نقاط وبقع من الضوء؛ تلك المجرات التي تناثرت عن بعد في الفراغ إلى أعماق سحيقة لا يمكن سبر غورها، وامتدت إلى مسافات بعيدة للغاية حتى إن عين الخيال لم تجد حدا للمجرة الكونية الشاملة التي تضم جميع المجرات. بدا الكون لي الآن فراغا تطفو فيه رقاقات نادرة من الثلج، وكل منها يمثل كونا.
عند التحديق في أبعد وأخفت كون في سرب الأكوان، بدا أنني أراه بالخيال ذي القوة التلسكوبية الفائقة على أنه مجموعة من الشموس، وبالقرب من إحدى هذه الشموس، كان ثمة كوكب، وعلى الجانب المظلم من هذا الكوكب، كان ثمة تل، وقد كنت أنا على هذا التل. إن علماء الفضاء يؤكدون لنا أنه في هذا الكيان المتناهي الذي لا حدود له، والذي ندعوه بالكون، لا تؤدي خطوط الضوء المستقيمة إلى اللانهاية، وإنما إلى مصدرها. تذكرت بعد ذلك أنه إذا كان بصري يعتمد على الضوء المادي لا ضوء الخيال، فالأشعة التي تأتي إلي «من حول» الكون لا تظهرني، بل تظهر أحداثا قد توقفت منذ وقت طويل قبل تشكل الأرض، أو ربما حتى قبل تشكل الشمس.
متجاهلا الآن ثانية هذه الأبعاد الهائلة، رحت أبحث مرة أخرى عن النوافذ ذات الستائر المنسدلة لمنزلنا، والذي، بالرغم من أن النجوم كانت قد تخللته، بدا لي أكثر واقعية من كل المجرات. غير أن بيتنا كان قد اختفى مع الضاحية بأكملها والتلال أيضا وكذلك البحر. الأرض التي كنت أجلس عليها نفسها، كانت قد اختفت. وبدلا منها، كان يكمن تحتي بعيدا ظلام رقيق. أنا نفسي كنت على ما يبدو قد تحررت من جسدي؛ إذ لم أستطع أن أرى جسدي ولا أن ألمسه. وحين أردت تحريك أطرافي، لم يحدث شيء. لم يكن لدي أطراف. الإحساس الداخلي المألوف بجسدي، والصداع الذي كان قد تملكني منذ الصباح، قد حل محلهما خفة وابتهاج غامضان.
حين أدركت بالكامل التغير الذي حل بي، تساءلت عما إذا كنت قد مت ودخلت إلى وجود جديد غير متوقع على الإطلاق. أزعجني بشدة هذا الاحتمال في البداية. وبذعر مفاجئ ، أدركت أنني إذا كنت قد مت بالفعل فلن أعود إلى ذرتي الثمينة المتجسدة في الاتحاد. صدمني عنف انزعاجي، غير أنني سرعان ما رحت أطمئن نفسي بفكرة أنني لست ميتا على الأرجح بالرغم من كل شيء، بل في نوع ما من الإغماء وقد أفيق منه في أي لحظة؛ ولهذا فقد قررت ألا أنزعج بهذا التغير العجيب دونما داع، وأن أراقب، على نحو علمي، كل ما سيحدث لي.
لاحظت أن الظلام الذي قد حل محل الأرض كان يتضاءل ويتكثف. لم تعد النجوم تحت الأرضية ظاهرة من خلاله. وسرعان ما أصبحت الأرض من تحتي كسطح طاولة ضخم مستدير؛ قرص واسع من الظلام تحيط به النجوم. كنت على ما يبدو أحلق مبتعدا عن كوكبي الأصلي بسرعة مذهلة. الشمس التي كانت تظهر للخيال قبل ذلك في السماء السفلية، قد كسفتها الأرض مرة أخرى على نحو مادي أكثر. وبالرغم من أنني كنت الآن على ارتفاع مئات الأميال من الأرض بالتأكيد، فلم أكن أواجه أي مشكلة بسبب غياب الأكسجين والضغط الجوي. لم أكن أشعر بشيء سوى انتشاء متزايد وحالة مبهجة من جيشان الأفكار. اللمعان الاستثنائي للنجوم قد أثارني. وسواء بفعل غياب الأجواء المعتمة أو بفعل حساسيتي المتزايدة أو كلا الأمرين، فقد اتخذت السماء سمة غير معتادة. بدا أن النجوم جميعها قد توهجت بقدر أكبر من اللمعان. توهجت السماء. كانت النجوم الكبيرة كمصابيح سيارة بعيدة. لم تعد درب التبانة مغرقة بالظلام، بل نهرا مطوقا من حبيبات الضوء.
الآن، على امتداد الطرف الشرقي للكوكب والذي قد صار الآن بعيدا تحتي، ظهر هناك خط خافت من الضياء، والذي صار، وأنا أستمر في الارتفاع، يزداد حيوية ويتحول إلى اللونين البرتقالي والأحمر. يبدو أنني لم أكن أتحرك باتجاه الأعلى فحسب، بل باتجاه الشرق أيضا، وكنت أدور بسرعة في ذلك الوقت. سرعان ما ظهرت الشمس في الأفق وأخذت تلتهم هلال الفجر الضخم بسطوعها. غير أنه حين زادت سرعتي، رأيت الشمس والكوكب يبتعد أحدهما عن الآخر، بينما راح خط الفجر يزداد سمكا ويتحول إلى مساحة عريضة غبشاء من ضوء الشمس. ازدادت هذه المساحة كقمر تراه وهو يزداد، إلى أن أصبح نصف الكوكب مضيئا. بين منطقتي الليل والنهار، كان ثمة حزام من الظل ذي لون دافئ، وعرضه كعرض شبه قارة، والذي أصبح الآن يحدد منطقة الفجر. وإذ واصلت الارتقاء والسفر باتجاه الشرق، رأيت اليابسة تتأرجح باتجاه الغرب مع حركة اليوم، إلى أن حلقت فوق المحيط الهادي وقت الظهيرة. بدا كوكب الأرض الآن كأنه فلك عظيم ساطع أكبر بمئات المرات من البدر. وفي مركزه كانت هناك بقعة براقة من الضوء التي هي صورة الشمس منعكسة في المحيط. كان محيط الكوكب مساحة لا متناهية من الضياء الأغبش الذي يتلاشى في ظلام الفضاء المحيط. وكان الجزء الأكبر من نصف الأرض الشمالي، والذي كان يميل بعض الشيء باتجاهي، امتدادا فسيحا من الثلج وقمم السحب. استطعت أن أرى أجزاء من حدود اليابان والصين، والتي تحد بلونيها البني والأخضر الغامضين المحيط بلونيه الأزرق والرمادي الغامضين. باتجاه خط الاستواء حيث الهواء أنقى، كان المحيط داكنا. ثم كانت ثمة دوامة صغيرة من الغيوم الساطعة كانت على الأرجح السطح العلوي لإعصار. بعدها ظهرت الفلبين وغينيا الجديدة بدقة شديدة. واختفت أستراليا في الطرف الجنوبي المبهم المعالم.
كان المشهد من أمامي مثيرا على نحو غريب. القلق الشخصي قد طمسته مشاعر الدهشة والإعجاب؛ فما يتمتع به كوكبنا من جمال خالص قد أدهشني. لقد كان لؤلؤة عظيمة في سواد لامع. كان مثل درة أو حجر الأوبال الكريم. كلا، لقد كان أجمل بكثير من أي جوهرة. لقد كانت ألوانه أكثر روعة وأكثر أثيرية. وكان يعبر عن الرقة والبراعة والتعقيد والتناغم الموجودة في الكائن الحي. غريب أنني في بعدي هذا قد بدا لي أنني كنت أشعر، كما لم أشعر من قبل، بالحضور الحيوي للأرض ككائن حي لكنه مغيب ويتوق على نحو مبهم للاستيقاظ.
فكرت أن أيا من المعالم الظاهرة في هذه الجوهرة السماوية الحيوية لا يكشف عن وجود الإنسان. بعض المراكز الأكثر ازدحاما بالبشر كانت تتجلى أمامي، حتى وإن لم تكن ظاهرة. وأسفل مني، كانت تقبع مناطق صناعية ضخمة تسود الهواء بالدخان. بالرغم من ذلك، فكل هذه الحياة المكتظة، والمشروعات البشرية الضخمة، لم تترك أي أثر على ملامح الكوكب. فمن هذه الإطلالة المرتفعة من خارج الأرض، لم يكن شيء ليبدو مختلفا عما كانت عليه الأرض قبل فجر الإنسانية. ما من ملاك زائر أو مستكشف من كوكب آخر كان سيخمن أن هذا الفلك اللطيف ممتلئ بالآفات والأوبئة، وبوحوش ملائكية بشكل أولي، تعذب أنفسها وتسود العالم.
الفصل الثاني
السفر بين النجوم
بينما رحت أتأمل كوكبي الأصلي على تلك الحال، واصلت التحليق لأعلى في الفضاء. ظهرت الأرض وهي تتضاءل على مسافة بعيدة، وبينما أسرعت باتجاه الشرق بدا أنها تدور تحتي. جميع معالمها تحركت باتجاه الغرب، إلى أن ظهر الغروب وإقليم الأطلسي الأوسط بعدها بوقت قصير على طرفها الشرقي، ثم ظهر الليل. وفي غضون دقائق قليلة، كما بدا لي، تحول الكوكب إلى نصف بدر هائل، وسرعان ما تحول إلى هلال ضبابي متضائل يقع بجوار الهلال الضئيل الحاد لقمره.
بدهشة أدركت أنني حتما أسافر بسرعة مذهلة وتكاد تكون مستحيلة. كان تقدمي سريعا للغاية حتى إنه بدا أنني أمر بوابل مستمر من الشهب. لم تكن مرئية إلى أن صارت تواكبني تقريبا؛ إذ إنها لم تكن تضيء إلا من خلال ضوء الشمس المنعكس، وقد ظهرت للحظة فحسب كأنها بقع من الضوء أو مصابيح ترى من قطار سريع. التقيت بالكثير منها في تصادم وجها لوجه، لكنها لم تؤثر في. كتلة صخرية ضخمة غير منتظمة الشكل، بحجم منزل، هي التي أخافتني للغاية. تضخمت الكتلة المضيئة أمام بصري، وظهر منها على مدار كسر من الثانية سطح خشن ومتكتل، ثم غطتني. بل الأحرى أنني أستنتج أنها لا بد أن تكون قد غطتني، غير أن مروري كان سريعا للغاية حتى إنني سرعان ما وجدت نفسي أخلفها بالفعل فور أن رأيتها في المسافة الواقعة في المنتصف.
سريعا أصبحت الأرض محض نجم. وأنا أقول سريعا غير أن إحساسي بمرور الوقت قد أصبح الآن مشوشا للغاية؛ فالدقائق والساعات وربما حتى الأيام بل الأسابيع أيضا قد أصبحت الآن متماثلة.
بينما كنت لا أزال أحاول جمع شتات نفسي، اكتشفت أنني تخطيت مدار المريخ بالفعل وكنت أندفع عبر طريق من الكويكبات. بعض هذه الكواكب الضئيلة قد أصبحت الآن قريبة للغاية حتى إنها بدت كنجوم عظيمة تتدفق بين المجموعات النجمية. ظهر واحد أو اثنان منها بشكل محدودب، ثم اتخذت الشكل الهلالي قبل أن تختفي خلفي.
كان المشتري الذي يقع على مسافة بعيدة أمامي يزداد سطوعا بالفعل، وقد غير موقعه بين النجوم الثابتة. بدت الكرة العظيمة الآن كالقرص الذي سرعان ما أصبح أكبر من الشمس المتضائلة. وكانت أقماره الأربعة الكبرى لآلئ صغيرة تطفو بجانبه. الآن بدا سطح الكوكب كاللحم المقدد المقلم بفعل مناطق الغيوم التي توجد فيه. عتمت الغيوم على محيطه بأكمله. صرت الآن موازيا له ومررت به. ونظرا لما يتسم به غلافه الجوي من عمق هائل، فقد امتزج الليل والنهار كل منهما في الآخر دون حد يمكن تمييزه. وفي مناطق متفرقة من نصفه الشرقي غير المضيء، رأيت مساحات مبهمة من الضوء المحمر، لعلها هي الوهج الذي يرتفع إلى الأعلى عبر الغيوم الكثيفة بفعل الثورانات البركانية.
في غضون بضع دقائق، أو ربما سنوات، أصبح المشتري نجما من جديد ثم اختفى في بريق الشمس التي كانت لا تزال متوهجة، رغم تضاؤلها. لم يكن هناك أي من الكواكب الخارجية الأخرى بالقرب من مساري، غير أنني سرعان ما أدركت أنني قد قطعت بالفعل مسافة بعيدة للغاية حتى إنني قد تجاوزت مدار بلوتو. لم تعد الشمس الآن سوى أكثر النجوم سطوعا فحسب، وراحت تخبو خلفي.
وأخيرا صار لدي وقت للقلق. لم يعد هناك من شيء ظاهر سوى السماء المرصعة بالنجوم. كانت كوكبات «بنات نعش الكبرى» و«ذات الكرسي» و«الجبار» و«الثريا» تهزأ مني بألفتها وبعدها. أصبحت الشمس الآن محض نجم بين النجوم الساطعة الأخرى. لم يتغير شيء. أكان مصيري أن أبقى على تلك الحال إلى الأبد في الفضاء، وعي دون جسد؟ هل مت ؟ أكان ذلك عقابي على عيشي لحياة عقيمة للغاية؟ أكانت تلك عقوبة الرغبة العنيدة في الانعزال عن جميع الشئون والأهواء والانحيازات البشرية؟
في الخيال، رحت أكافح للعودة إلى قمة التل في ضاحيتي. رأيت منزلنا. فتح الباب. خرجت امرأة إلى الحديقة التي يضيئها ضوء البهو. ووقفت للحظة تتفحص الطريق، ثم عادت إلى المنزل. غير أن ذلك كله كان محض خيال، أما في الواقع، فلم يكن هناك شيء سوى النجوم.
بعد برهة لاحظت أن الشمس وجميع النجوم الموجودة بجوارها قد اصطبغت بالحمرة. أما النجوم الموجودة على القطب الآخر للسماء، فقد اصطبغت باللون الأزرق الثلجي. تجلى لذهني تفسير هذه الظاهرة العجيبة. كنت لا أزال أتحرك بسرعة كبيرة حتى إن الضوء نفسه لم يكن عديم التأثير بالكامل على مساري. التموجات التي كانت خلفي كانت تستغرق وقتا طويلا كي تلحق بي؛ ولهذا فقد كانت تؤثر علي كذبذبات أبطأ مما كانت عليه عادة؛ لذا فقد بدت لي حمراء اللون. أما تلك التي التقت بي في مساري الرأسي فقد كانت مكتظة وقصيرة وبدت لي زرقاء اللون.
بعد برهة قصيرة، اكتست السماء بحلة استثنائية؛ إذ أصبحت جميع النجوم التي تقع خلفي مباشرة باللون الأحمر القاني، وتلك التي تقع أمامي مباشرة باللون البنفسجي. الياقوتات من خلفي وأحجار الجمشت من أمامي. وحول الكوكبات الياقوتية، امتدت منطقة من النجوم التوبازية، وحول الكوكبات الجمشتية، امتدت منطقة من النجوم التي تشبه الياقوت الأزرق. بجوار مساري على جميع الجوانب، خبت الألوان إلى الأبيض المعتاد في ماسات السماء المألوفة. ولأنني كنت أتحرك في مستوى المجرة تقريبا، فقد كان طوق درب التبانة أبيض على كلا الجانبين، وبنفسجيا أمامي وأحمر من خلفي. وبعد وقت قصير، خبت النجوم التي أمامي وخلفي مباشرة، ثم اختفت، مخلفة في السماء ثقبين خاليين من النجوم، يحيط بكل منهما منطقة من النجوم الملونة. كانت سرعتي لا تزال تزداد على ما يبدو. وكان الضوء من النجوم الأمامية والخلفية يصلني الآن بأشكال تتجاوز نطاق رؤيتي البشرية.
بينما زادت سرعتي، ظلت البقعتان عديمتا النجوم من أمامي ومن خلفي، كل بطوقها الملون، تغزوان المنطقة المتوسطة ذات النجوم المعتادة والتي كانت توجد بمحاذاتي على الجانبين. بين هذه النجوم شعرت بوجود حركة. بفعل تأثير مساري، بدا أن النجوم الأقرب تنجرف ببطء على خلفية النجوم الأبعد. ظل هذا الانجراف يتسارع إلى أن صارت السماء المرئية بأكملها للحظة مخططة بنجوم طائرة. بعد ذلك تلاشى كل شيء. أعتقد أن سرعتي كانت عظيمة للغاية مقارنة بسرعة النجوم لدرجة أنه لم يكن لضوء أي منها تأثيره المعتاد علي.
بالرغم من أنني ربما كنت أحلق الآن بسرعة أكبر من سرعة الضوء نفسه، فقد بدا الأمر وكأنني أطفو في قاع بئر عميقة راكدة. أرعبني الظلام البهيم، والفقدان التام للإحساس، هذا إذا كان بإمكاني أن أطلق لفظ «الرعب» على الاشمئزاز وتوجس الشر الذي كنت أشعر به الآن دون الشعور بأي من المرافقات الجسدية له من الشعور بالارتجاف أو التعرق أو اللهاث أو خفقان القلب. بيأس ورثاء للذات، تقت إلى البيت، تقت مرة أخرى إلى الوجه الذي كان مألوفا لي بشدة. كنت أستطيع رؤيتها الآن بعين عقلي، وهي تجلس بجوار النار وتحيك، وقد ارتسمت تقطيبة صغيرة من القلق بين حاجبيها. تساءلت هل كان جسدي يرقد الآن ميتا على الخلنج؟ أيجدونه هناك في الصباح؟ كيف ستواجه هذا التغير العظيم في حياتها؟ ستتلقاه بوجه شجاع بكل تأكيد، لكنها ستعاني.
لكن بينما كنت أقاوم بشدة فكرة تفكك ذرة رفقتنا الثمينة، كنت أدرك أن ثمة شيئا بداخلي، روحي الجوهرية، كان يرغب بشدة في ألا يتراجع عن هذه الرحلة المذهلة، بل أن يستمر فيها. لم يكن الأمر أن رغبتي في المغامرة يمكن أن تفوق ولو للحظة اشتياقي إلى عالم البشر المألوف. لقد كنت من النوع المحب بشدة للبقاء في البيت؛ بحيث ما كان من شيمي السعي إلى المخاطر والتعب لرغبة محضة فيهما، لكن الخوف من المغامرة غلبها إدراك الفرصة التي منحها لي القدر، ليس لاستكشاف أغوار الكون المادي فحسب، بل أيضا لاستكشاف الدور الفعلي للحياة والعقل بين النجوم. تملكني الآن نهم شديد، لا للمغامرة وإنما للتفكر في قيمة الإنسان، أو أي كائنات أخرى شبيهة به في الكون. وكنزنا البيتي الثمين هذا، هذا الأقحوان الكريم الذي يصنع الربيع بجوار طريق الحياة الحديثة القاحل، قد حثني على قبول مغامرتي الغريبة بسرور؛ إذ أليس من الممكن أن أكتشف أن الكون بأكمله ليس مكانا من الغبار والرماد فحسب مع ملامح من الحياة غير المكتملة هنا وهناك، وإنما يكمن بالفعل خلف تلك الأرض البوار العطشى، عالم من الزهور؟
أكان الإنسان بالفعل هو نقطة نمو الروح الكونية، مثلما كان يرغب في أن يكون في بعض الأحيان، وإن كان ذلك من الناحية الزمنية على الأقل؟ أم هو نقطة واحدة فقط من ملايين نقاط النمو؟ أم أن البشرية لا تمثل في الرؤية الكونية أي أهمية بأكثر مما تمثله الفئران في كاتدرائية؟ وهل كانت غاية الإنسان الحقيقية هي السلطة أم الحكمة أم الحب أم العبادة أم ذلك كله؟ أم أن فكرة الغاية ليس لها أي جدوى في سياق الكون؟ هذه الأسئلة العويصة سوف أجيب عنها. ثم إنني يجب أن أتعلم أن أرى بوضوح أكبر بعض الشيء، وأن أواجه على نحو أكثر صوابا بعض الشيء (هكذا قد صغت الأمر لنفسي) ما يدفعنا إلى العبادة حين نتلقى منه أي نفحة على الإطلاق.
لم أكن أبدو الآن لذاتي ذاتية الأهمية أنني فرد منعزل يشتهي التعظيم، وإنما مبعوث من البشرية، كلا، بل عضو استكشاف، مجس قد قذفه العالم البشري الحي كي يتواصل مع رفاقي في الفضاء. مهما يكن من أمر، فلا بد لي من الاستمرار، حتى وإن كانت حياتي الأرضية التافهة ستنتهي قبل أوانها، وتعيش زوجتي وأطفالي بدوني. لا بد لي من الاستمرار، وحتما سوف أعود بطريقة ما ذات يوم، ولو بعد قرون من السفر بين النجوم.
الآن وقد عدت إلى الأرض بالفعل بعد مغامرات هي الأكثر إدهاشا، حين أعيد النظر في تلك المرحلة من الشعور بالتمجيد، يفزعني التناقض بين الكنز الروحاني الذي كنت أطمح إلى تقديمه لرفاقي من البشر، وبين شح ما قدمته بالفعل. وربما يعود هذا الفشل إلى حقيقة أنه بالرغم من أنني قد قبلت تحدي المغامرة بالفعل، فأنا لم أقبله إلا بتحفظات بيني وبين نفسي. الآن أدرك أن الخوف والتلهف على الراحة قد عتما من سطوع إرادتي. قراري الذي اتخذته بشجاعة كبيرة، قد ثبت أنه واه بالرغم من كل شيء. فكثيرا ما أفسحت شجاعتي المتزعزعة المجال للحنين إلى كوكبي الأصلي. وكثيرا ما كنت أشعر في مسار أسفاري بأن طبيعتي العادية الهيابة قد جعلتني أغفل عن أبرز جوانب الأحداث.
من بين جميع ما اختبرته في أسفاري، لم يكن مفهوما لي بوضوح سوى قدر ضئيل حتى وقت حدوثه، وحينها، مثلما سأذكر لاحقا، كانت قد عززت من قدراتي الأصلية كائنات تتمتع بتطور جبار يفوق القدرات البشرية. أما الآن وقد عدت مرة أخرى إلى كوكبي الأصلي، ولم تعد تلك التعزيزات متوفرة، فأنا لا أستطيع حتى أن أستعيد الكثير من الرؤى العميقة التي توصلت إليها من قبل؛ ولهذا فقد اتضح أن روايتي التي تحكي عن الاستكشاف البشري الأوسع نطاقا على الإطلاق، في نهاية الأمر لا يمكن التعويل عليها بأكثر مما يمكننا التعويل على ترهات أي عقل قد جن إذ اختبر ما لا يقدر على استيعابه.
لأعود الآن إلى قصتي. لست أدري كم من الوقت قد قضيت في الجدال مع نفسي، لكن بعد أن اتخذت قراري، سرعان ما اخترقت النجوم مجددا العتمة التامة. كنت على ما يبدو في حالة سكون؛ إذ كنت أرى النجوم في كل اتجاه بلونها المعتاد.
غير أن تغيرا عجيبا قد حل بي؛ فسرعان ما اكتشفت أنني أستطيع التحرك نحو أي نجم بمجرد رغبتي في الاقتراب منه، وبسرعة لا بد أنها كانت أكبر كثيرا من سرعة الضوء المعتادة. وقد كنت أعرف أن هذا محال من الناحية الفيزيائية. لقد أكد لي العلماء أن الحركة بسرعة أكبر من الضوء عبث لا معنى له. ولهذا، فقد استنتجت أن حركتي لا بد أنها كانت ظاهرة ذهنية على نحو ما وليست مادية، مما جعلني أستطيع أن أشغل نقاطا متتالية دون وسيلة تنقل مادي. وبدا لي من الجلي أيضا أن ضوء النجوم التي كنت أراها الآن، لم يكن ضوءا معتادا وماديا؛ إذ إنني لاحظت أن وسيلة سفري الجديدة والحثيثة لم يكن لها أي أثر على الألوان المرئية للنجوم. ومهما بلغت سرعتي، فقد ظلت النجوم على ألوانها الماسية، غير أنها كانت أكثر سطوعا ووضوحا مما كانت عليه في الرؤية المعتادة.
فور أن تيقنت من قدرتي الجديدة على التنقل، رحت أستخدمها بحماس شديد. قلت لنفسي إنني أقدم على رحلة من البحث الميتافيزيقي والفلكي، لكن اشتياقي للأرض كان يخل بهدفي؛ فقد حول انتباهي دونما داع إلى البحث عن الكواكب، ولا سيما الكواكب من النوع الأرضي.
بصورة عشوائية وجهت مساري إلى إحدى النجوم القريبة الأكثر سطوعا. كان تقدمي سريعا للغاية حتى إن بعض الأجرام السماوية الأصغر والتي كانت أقرب إلي، راحت تتدفق بمحاذاتي كالشهب. تحركت بالقرب من الشمس العظيمة دون شعور بحرارتها. على سطحها المبرقش، كنت أستطيع أن أرى ببصري الخارق، بالرغم من البريق السائد، مجموعة من البقع الشمسية الضخمة الداكنة، وكل منها حفرة كان يمكن أن تلقى فيها عشرات من كواكب الأرض. حول حافة النجم بدت البروزات في الغلاف اللوني كأنها ريش ووحوش بدائية وأشجار متقدة، كلها تقف في ترقب أو مهابة، على كرة أصغر جدا من أن تكفيها. وفيما وراء ذلك، نشرت الهالة الشاحبة لهيبها في الظلام. وبينما رحت أدور حول النجم في مسار زائدي المقطع، رحت أبحث بتوتر عن كواكب، لكنني لم أجد أيا منها. بحثت مجددا بدقة، ورحت أتقدم إلى الأمام وأنحرف قريبا وبعيدا. في المدارات العريضة، قد يكون من السهل جدا أن تغفل عن جسم صغير مثل الأرض. لم أجد شيئا سوى الشهب والقليل من المذنبات الواهية. وقد كان ذلك هو الأكثر إحباطا؛ إذ إن النجم قد بدا من النوع نفسه الذي تنتمي إليه الشمس المألوفة. كنت آمل بيني وبين نفسي ألا أعثر على كواكب فحسب، بل أن أعثر على الأرض بالتحديد.
مرة أخرى انطلقت في محيط الفضاء متوجها إلى نجم آخر قريب. ومرة أخرى شعرت بخيبة الأمل. لم أقترب إلا من أتون آخر موحش. هذا النجم أيضا لم يكن يضم تلك الحبات الدقيقة التي تأوي الحياة.
الآن كنت أسرع من نجم إلى آخر، ككلب ضال يبحث عن سيده. اندفعت هنا وهناك عازما على إيجاد شمس تدور حولها كواكب، والتي من بينها يوجد موطني. فتشت نجمة تلو النجمة، وقد تجاوزت عددا كبيرا منها بنفاد صبر قبل أن أدرك أنها كبيرة وهشة وصغيرة السن للغاية لأن تكون شمس الأرض. كان بعضها نجوما عملاقة محمرة غير واضحة المعالم عرضها أكبر من مدار المشتري، وبعضها أصغر وأكثر وضوحا ولها سطوع ألف شمس، وكان لونها أزرق. كنت قد تعلمت أن شمسنا من النوع المتوسط، غير أنني وجدت الآن من الشموس الضخمة الصغيرة السن عددا أكبر بكثير من الشموس الصغيرة المصفرة المتوسطة السن. من الواضح أنني كنت أمكث في منطقة متكدسة بالنجوم الحديثة.
رحت أراقب سحبا ضخمة من الغبار لا لشيء إلا لكي أتجنبها، كانت في ضخامة الكوكبات تخفي تيارات النجوم؛ وكذلك رقعا ممتدة من الغاز المتوهج الشاحب التي تضيء في بعض الأحيان بفعل ضوئها وأحيانا بفعل الضوء المنعكس من النجوم. كثيرا ما كانت هذه القارات المتكونة من السحب اللؤلؤية اللون تنتج بداخلها عددا من لآلئ الضوء الباهتة التي هي أجنة النجوم المستقبلية. نظرت دونما اهتمام إلى العديد من مجموعات النجوم التي تشكلت مثنى وثلاث ورباع، والتي كان بها عدد متساو تقريبا من الشركاء الذين يتراقصون في اتحاد وثيق. وذات مرة، مرة واحدة فقط، وجدت واحدا من هذه الثنائيات النادرة التي لم يكن أحد الشريكين فيها بأكبر من الأرض، لكنه كان ضخما كنجم عظيم ولامعا للغاية. كنت أجد في أرجاء هذه المنطقة من المجرة، نجما محتضرا هنا أو هناك يخمد معتما، ورأيت في بعض الأنحاء أيضا النجوم المنطفئة الميتة المغلفة بقشرة. لم أستطع رؤية هذه النجوم إلا بعد أن وصلت إليها، وحتى حينها لم أرها إلا بشكل خافت بفعل الضوء المنعكس للسماء بأكملها. لم أحاول قط الاقتراب منها أكثر؛ إذ إنها لم تكن بذات أهمية لدي في تلهفي المحموم للأرض. ثم إنها كانت تبعث في الرهبة؛ إذ تنذر بموت الكون، لكن ما طمأنني أنني لم أجد منها إلا عددا قليلا للغاية.
لم أعثر على أي كوكب. كنت أعرف جيدا أن ميلاد الكواكب يحدث بفعل الاقتراب الشديد لنجمين أو أكثر وأن مثل تلك الحوادث لا تحدث إلا نادرا. ذكرت نفسي أن وجود نجوم لها كواكب في المجرة هو حتما حدث نادر كوجود الأحجار الكريمة بين حبات الرمال على شاطئ البحر. فماذا كان احتمال أن أعثر على أحدها؟ بدأت عزيمتي تخور. الصحراء المروعة للعتمة والنار العقيمة، والفراغ العظيم الذي لا يخترقه الوميض إلا قليلا، وما في الكون بأكمله من عبث هائل، كل ذلك قد أثقل قلبي بصورة مريعة. والآن قد أضيف إلى ذلك كله مصدر جديد للكدر؛ إذ بدأت قدرتي على التنقل تخور. لم أكن أستطيع القيام بأي حركة على الإطلاق بين النجوم إلا بجهد عظيم وببطء شديد، ثم ازداد هذا البطء بدرجة عظيمة. سرعان ما سأجد نفسي مثبتا في الفضاء كحشرة طائرة في إحدى المجموعات، لكنني سأكون وحيدا تماما وللأبد. أجل، كان ذلك بالتأكيد جحيمي الخاص.
جمعت شتات نفسي. ذكرت نفسي أنه حتى إذا كان هذا سيكون هو قدري، فما هو بأمر خطير. ستظل الأرض على خير حال بدوني، وحتى إذا لم يكن هناك أي عالم آخر آهل بالحياة في أي مكان آخر بالكون، فالأرض نفسها لا تزال عامرة بالحياة، وقد تنبثق منها حياة أوسع وأكثر اكتمالا. وبالرغم من أنني قد فقدت كوكبي الأصلي، فذلك العالم المحبوب لا يزال حقيقيا. ثم إن مغامرتي بأكملها كانت معجزة؛ أوليس من الممكن أن تستمر المعجزة وأتعثر في طريقي بأرض أخرى؟ تذكرت أنني انطلقت في رحلة حج علوية، وأنني مبعوث البشرية إلى النجوم.
ومع استعادتي للشجاعة، عادت إلي قدرتي على التنقل. من الجلي أنها كانت تتوقف على وجود إطار ذهني من النشاط والانفصال عن الذات؛ لذا فقد أخمدها ما انتابني من رثاء للذات والتوق إلى الأرض.
عازما على استكشاف منطقة أخرى من المجرة حيث قد يوجد عدد أكبر من النجوم الأقدم؛ ومن ثم أمل أعظم في وجود كواكب، انطلقت في اتجاه عنقود بعيد ومليء بالنجوم. ونظرا لشحوب أفراد هذه الكرة المرقطة من الضوء وغير واضحة المعالم، فقد خمنت أنها تقع حتما على مسافة بعيدة للغاية. سافرت أكثر فأكثر في الظلام. وبالرغم من أنني لم أنحرف قط عن طريقي للبحث، فلم يأخذني مساري عبر محيط الفضاء بالقرب من أي نجم بالدرجة التي تكفي لأن أراه قرصا. كانت أضواء السماء تتدفق بعيدا عني كأنها أضواء سفن بعيدة. وبعد رحلة فقدت خلالها كل حساب للزمن، وجدت نفسي في صحراء شاسعة خالية من النجوم، كانت فجوة بين تيارين من النجوم، وصدعا في المجرة. كان درب التبانة يحيط بي، وفي كل اتجاه ينتشر غبار النجوم البعيدة المعتاد، غير أنه لم يكن هناك من أضواء واضحة سوى زغب الضوء الصادر من العنقود البعيد الذي كان هدفي.
أزعجتني تلك السماء غير المألوفة بما ولدته من شعور بازدياد انفصالي عن موطني. لقد كان مما يبعث على الطمأنينة بعض الشيء أن أرى، فيما وراء أبعد نجوم مجرتنا، تلك البقع المتناهية الصغر والتي هي مجرات غريبة أبعد كثيرا من أبعد الخبايا المنعزلة في درب التبانة، وأن أتذكر أنه بالرغم من سفري السريع والإعجازي، ما أزال داخل حدود مجرتي الأم، داخل تلك الخلية الصغيرة من الكون نفسها التي لا تزال تعيش فيها رفيقة حياتي. بالمناسبة، كنت مندهشا من أن العديد من المجرات الغريبة كانت تبدو للعين المجردة، ومن أن أكبرها كان علامة ضبابية شاحبة أكبر من القمر في السماء الأرضية.
على النقيض من المجرات البعيدة والتي لم تؤثر كل تلك المسافة التي قطعتها في مظهرها، كان عنقود النجوم أمامي يتمدد الآن في مجال البصر. وبعد أن عبرت الفراغ الشاسع بين تياري النجوم، سرعان ما واجهني العنقود كغيمة ضخمة من حبات الماس. الآن كنت أمر بمنطقة أكثر ازدحاما، ثم انفرج العنقود نفسه أمامي مغطيا السماء الأمامية بأكملها بأضوائه الغفيرة. ومثلما تقابل سفينة تقترب من الميناء غيرها من السفن والقوارب، اقتربت ومررت بنجم تلو النجم. حين تخللت إلى قلب العنقود، أصبحت في منطقة أكثر ازدحاما من أي منطقة قد استكشفتها. كانت السماء تتوهج من كل جانب بالشموس التي بدا العديد منها ألمع من كوكب الزهرة في سماء الأرض. شعرت بابتهاج مسافر يدخل ميناء ليلا بعد أن عبر المحيط، ليجد نفسه محاطا بأضواء مدينة كبيرة. في تلك المنطقة المكتظة، أخبرت نفسي بأنه لا بد أن العديد من حوادث الاقتراب الشديد قد وقعت بين النجوم، وتشكلت العديد من الأنظمة الكوكبية. ومرة أخرى رحت أبحث عن نجوم متوسطة العمر من نوع الشمس الخاصة بالأرض. كل ما مررت به حتى الآن كانت نجوما عملاقة صغيرة السن، ضخمة في حجم النظام الشمسي بأكمله. وبعد المزيد من البحث، عثرت على بضعة نجوم من المحتمل أن تطابق ما أبحث عنه، لكن أيا منها لم يضم أي كوكب. وعثرت أيضا على العديد من النجوم المزدوجة والثلاثية، التي تدور في مداراتها التي لا تحصى، والقارات العظيمة من الغاز حيث تتكثف النجوم الجديدة. وفي النهاية، عثرت أخيرا على أحد الأنظمة الكوكبية. وبقدر لا يحتمل من الأمل، درت فيما بين هذه العوالم، لكن جميعها كان أكبر من المشتري، وكانت جميعها منصهرة. ومن جديد، رحت أسرع من نجم إلى آخر. لا بد أنني قد زرت الآلاف، لكن ذلك كله كان دون جدوى. مغتما ووحيدا، هربت خارجا من العنقود، والذي تضاءل خلفي إلى كرة من الزغب الأبيض الذي تتلألأ بقطرات الندى. من أمامي، حجبت بقعة عظيمة من الظلام جزءا من درب التبانة والمناطق المجاورة الآهلة بالنجوم، خلا القليل من الأضواء القريبة التي كانت تقع بيني وبين الظلمة المعتمة. لاحت الحواف المتلاطمة لتلك الغيمة الضخمة من الغاز أو الغبار بفعل الأشعة الساقطة من النجوم الساطعة خلفها. أثار ذلك المشهد في مشاعر الرثاء للذات على العديد من الليالي التي قضيتها في البيت ورأيت فيها حواف الغيوم المعتمة وقد أضفى عليها ضوء القمر لونا فضيا مثل تلك الغيوم. غير أن الغيوم التي كانت تقع قبالتي الآن لم تكن لتبتلع عوالم بأكملها أو عددا لا يحصى من الأنظمة الكوكبية فحسب، بل مجموعات نجمية بأكملها.
خذلتني شجاعتي مرة أخرى. ومبتئسا حاولت أن أتجاهل تلك الأبعاد الهائلة بإغلاق عيني، غير أنه لم تكن لي عينان ولا جفنان. كنت قد خرجت من جسدي، ولست سوى وعي متجول. حاولت أن أستحضر في ذهني الجزء الداخلي من منزلي الصغير حيث الستائر منسدلة والنيران تتراقص. حاولت أن أقنع نفسي بأن كل هذا الرعب والظلام والمسافة والوهج العقيم كان حلما، وأنني كنت أغفو بجوار النار وقد أستيقظ في أي لحظة، وأنها سوف تطل علي في أثناء حياكتها وتلمسني وتبتسم، لكنني كنت ما أزال سجين النجوم.
بالرغم من قواي الخائرة، شرعت في بحثي مرة أخرى. وبعد أن كنت قد تجولت من نجم إلى نجم لفترة قد تكون أياما أو سنوات أو دهور، وجهني الحظ أو ربما روح حارسة إلى نجم معين شبيه بالشمس، وحين نظرت إلى الخارج من هذا المركز، رأيت نقطة صغيرة من الضوء تتحرك مع حركتي على السماء المرسومة. وحين وثبت باتجاهها، رأيت غيرها وغيرها. كان هذا بالفعل نظاما كوكبيا يشبه كثيرا ذلك الذي أنتمي إليه. كم كنت مهووسا بالمعايير البشرية حتى إنني اتجهت على الفور إلى الأشبه من هذه العوالم بالأرض! ومن المثير للدهشة أنه قد بدا شبيها بالأرض فعلا إذ راح قرصه يتضخم من أمامي أو من تحتي. كان غلافه الجوي أقل كثافة من غلافنا الجوي بالتأكيد؛ إذ كانت أشكال القارات والمحيطات غير المألوفة ظاهرة بوضوح.
مثلما يحدث على الأرض، انعكست صورة الشمس ساطعة على البحر المظلم. وامتدت رقع من الغيوم هنا وهناك فوق البحار واليابسة، والتي كانت مرقطة باللونين الأخضر والبني مثلما هي الحال على كوكبي. بالرغم من ذلك، فحتى من على هذا الارتفاع، رأيت أن المناطق الخضراء أكثر زهوا وزرقة من نظيرتها الأرضية. لاحظت أيضا أن مساحة المحيطات على هذا الكوكب أقل من مساحة اليابسة، وأن مراكز القارات العظيمة تتشكل بصورة أساسية من الصحاري اللامعة ذات اللون الأبيض القشدي.
الفصل الثالث
الأرض الأخرى
(1) على الأرض الأخرى
حين هبطت ببطء باتجاه سطح الكوكب الصغير، وجدت نفسي أبحث عن أرض كانت تبشر بأنها ستكون شبيهة بإنجلترا. غير أنني فور أن أدركت ما كنت أفعله، ذكرت نفسي بأن الظروف هنا ستكون مختلفة تماما عن الظروف الأرضية وأنه من غير المحتمل على الإطلاق أن أجد كائنات ذكية هنا. وإن كانت مثل هذه الكائنات موجودة، فلن أستطيع فهمها على الأرجح. ربما ستكون عناكب ضخمة أو كائنات هلامية زاحفة. فكيف يمكن أن أرجو أن أتواصل على الإطلاق مع مثل تلك الكائنات المخيفة؟
بعد أن طفت بصورة عشوائية لبعض الوقت فوق السحب الخفيفة والغابات والسهول والمروج الملونة وتلك البقاع الصحراوية اللامعة، اخترت بلدة بحرية تقع في المنطقة المعتدلة؛ شبه جزيرة زاهية الخضرة. حين كدت أهبط إلى الأرض، أذهلني اخضرار الريف. هنا كان يوجد بكل تأكيد نباتات تشبه نباتاتنا في طبيعتها الجوهرية، غير أنها كانت مختلفة بعض الشيء في التفاصيل. ذكرتني الأوراق السمينة أو حتى البصلية، بنبتاتنا الصحراوية، غير أن الأغصان هنا كانت رفيعة وسلكية. ربما كانت السمة الأبرز في هذه النباتات هي لونها الفاقع الذي يجمع بين الأزرق والأخضر، كلون الكروم التي أضيفت لها أملاح النحاس. كنت سأكتشف لاحقا أن هذه النباتات قد تعلمت بالفعل حماية نفسها من الميكروبات والآفات الشبيهة بالحشرات والتي قد خربت في الماضي هذا الكوكب الذي يميل إلى الجفاف، باستخدام كبريتات النحاس.
رحت أنساب فوق سهل لامع قد تناثرت عليه شجيرات باللون الأزرق البروسي. السماء أيضا قد اصطبغت بدرجة داكنة من الأزرق لا ترى بها على الأرض إلا من الارتفاعات الشاهقة. رأيت بعضا من السحب المنخفضة الرقيقة، والتي كنت أعزو طبيعتها الخفيفة إلى رقة الغلاف الجوي. وقد دعم من هذا التفسير حقيقة أنه بالرغم من هبوطي على الكوكب في ضحى يوم صيفي، فقد وجدت أن نجوما عدة قد تمكنت من اختراق السماء الشبيهة بسماء الليل. جميع الأسطح الظاهرة كانت شديدة الإضاءة، وظلال الشجيرات القريبة كانت سوداء تقريبا. وبعض الأجسام البعيدة الشبيهة بالمباني، غير أنها لم تكن على الأرجح سوى محض صخور، قد بدت وكأنها منحوتة بالأبنوس والثلج. كان المنظر بأكمله يتسم بجمال استثنائي مدهش.
كنت أحلق دون جناحين على سطح الكوكب عبر فسحات الغابات، وعلى بقاع من الصخور المتكسرة، وعلى ضفاف الجداول. كنت قد وصلت الآن إلى منطقة واسعة تغطيها صفوف أنيقة متوازية من نباتات شبيهة بالسرخس تحمل كميات كبيرة من الجوز على السطح السفلي لأوراقها. كان من المستحيل تقريبا أن أصدق أن هذا النظام الدقيق للنباتات لم يخضع لتخطيط ينم عن ذكاء. أم يكون هذا في النهاية محض ظاهرة طبيعية غير معروفة على كوكبي؟ كانت دهشتي شديدة لدرجة أن قدرتي على التنقل، والتي كانت خاضعة على الدوام للتدخل العاطفي، قد بدأت تخور الآن. ترنحت في الهواء كرجل مخمور. محاولا التماسك، رحت أسير متعثرا على المحاصيل المصفوفة باتجاه جسم كبير بعض الشيء كان يقع على مسافة مني بجوار شريط من الأرض الجرداء. وسرعان ما دهشت وذهلت إذ اتضح أن هذا الجسم ما هو إلا محراث. لقد كان آلة غريبة بعض الشيء، غير أنه لم يكن هناك من سبيل للخطأ في شكل النصل، والذي كان صدئا ومن الواضح أنه مصنوع من الحديد. كان به مقبضان حديديان، وسلاسل لربط دابة الحمل. كان من الصعب أن أصدق أنني أبعد عن إنجلترا بالكثير من السنين الضوئية. حين نظرت حولي، رأيت طريقا ترابيا لا لبس فيه، وقطعة من القماش الرث القذر معلقة على شجيرة. بالرغم من ذلك؛ ففي الأعلى كانت السماء غير السماء الأرضية تسطع بها النجوم في الظهيرة.
تبعت الطريق الذي كان يمتد عبر غابة صغيرة من الشجيرات الغريبة التي كانت أوراقها السمينة المتدلية تحمل ثمارا شبيهة بالكرز على امتداد حوافها. وفجأة بالقرب من منعطف على الطريق، التقيت برجل. أو هكذا قد بدا في البداية لبصري المذهول والمتعب من رؤية النجوم. لم أكن سأندهش للغاية من السمت البشري الغريب لهذا الكائن إن كنت قد فهمت في هذه المرحلة المبكرة من مغامرتي تلك القوى التي كانت تتحكم بها. لقد قادتني بعض التأثيرات التي سأصفها فيما بعد إلى أن أكتشف أولا تلك العوالم الأكثر شبها بعالمي. وفي هذه الأثناء، يمكن للقارئ أن يتخيل دهشتي إزاء هذا اللقاء العجيب. لقد كنت أفترض دوما أن الإنسان كائن فريد من نوعه. لقد أنتجته مجموعة متشابكة من الظروف المعقدة بدرجة لا يمكن تصورها، ولم يكن من المفترض أن مثل تلك الظروف ستتكرر في أي مكان آخر بالكون. بالرغم من ذلك، فهنا على أول عالم أستكشفه على الإطلاق، التقيت بأحد المزارعين. حين اقتربت منه، رأيت أنه لا يشبه الرجل الأرضي بتلك الدرجة التي بدا عليها من بعيد، غير أنه كان إنسانا على أي حال. أيكون الرب قد أسكن الكون بأكمله بنوعنا؟ أيكون قد خلقنا حقا على صورته؟ كان ذلك أمرا لا يصدق. إن طرح مثل هذه الأسئلة أثبت أنني قد فقدت توازني العقلي.
ولأنني كنت محض وعي بلا جسد، فقد كنت أستطيع أن أرى دون أن أرى. رحت أحلق بالقرب منه بينما راح يخطو على الطريق. كان منتصبا يسير على قدمين وكان بصورة عامة يشبه البشر بكل تأكيد. لم تكن لدي وسيلة لقياس طوله، لكن طول قامته كان في النطاق الأرضي المعتاد تقريبا، فلم يكن أصغر من قزم أو أكبر من عملاق على الأقل. كان ممشوق القوام، وساقاه رفيعتين كساقي طائر ويحيط بهما سروال خشن ضيق. كان عاريا فيما فوق الخصر، فظهر صدره الذي كان كبيرا على نحو غير ملائم، وأشعث بشعر يميل إلى الاخضرار. كان له ذراعان قصيرتان لكنهما قويتان، وعضلات كتفين ضخمة. كانت بشرته داكنة وتميل إلى الاحمرار، ويغطيها الكثير من الزغب الأخضر الفاقع. ملامحه بأكملها كانت غليظة؛ إذ كانت تفاصيل عضلاته وأوتاره ومفاصله مختلفة شديدة الاختلاف عما هي عليه لدينا. رقبته كانت طويلة ومرنة على نحو غريب. أما رأسه، فأفضل ما يمكنني وصفه به هو أن الجزء الأكبر من الجمجمة والذي كان يغطيه شعر كثيف بدا أنه قد انزلق إلى الخلف وإلى الأسفل على القفا. عيناه البشريتان للغاية كانتا تحدقان من تحت إطار شعره. فمه البارز على نحو غريب، والذي كان شبيها بالفوهة، قد جعله يبدو وكأنما كان يصفر. بين العينين بل أعلاهما على الأدق، كان هناك منخاران كبيران شبيهان بمنخاري الخيل، وقد كانا يتحركان باستمرار. أما جسر الأنف، فقد كان يمثله ارتفاع في الشعر الكثيف والذي يصل من المنخارين في الخلف إلى أعلى الرأس. لم تكن هناك من أذنين ظاهرتين، وقد اكتشفت لاحقا أن أعضاء السمع تنفتح على المنخارين.
من الواضح أنه بالرغم من أن التطور على هذا الكوكب الشبيه بالأرض قد اتخذ في المجمل مسارا شديد الشبه بالمسار الذي أدى إلى ظهور نوعي، فلا بد أيضا من وجود العديد من الاختلافات.
لم يكن الرجل يرتدي حذاء فحسب، بل قفازين أيضا بدا أنهما كانا مصنوعين من جلد خشن. كان حذاؤه قصيرا للغاية. وقد اكتشفت بعد ذلك أن أقدام هذه السلالة أو «البشر الآخرين» مثلما سميتهم، كانت أشبه بأقدام النعام أو الجمال. كان مشط القدم يتكون من ثلاثة أصابع كبيرة تنمو معا. وبدلا من الكعب، كان هناك إصبع آخر عريض وقصير وممتلئ. كانت اليدان بلا راحتين، كل منهما تتألف من ثلاثة أصابع غضروفية، وإصبع إبهام.
ليس الهدف من هذا الكتاب أن أروي مغامراتي، بل أن أقدم فكرة عن العوالم التي زرتها؛ ولهذا فلن أروي بالتفصيل كيف استقر بي الحال بين البشر الآخرين؛ فالحديث عن نفسي تكفيه بضع كلمات. حين درست هذا المزارع لبعض الوقت، بدأت حقيقة عدم إدراكه الكامل لوجودي تتملك مني على نحو غريب. وبوضوح مؤلم، أدركت أن الهدف من رحلة حجي ليس هو الملاحظة العلمية فحسب، بل أيضا الحاجة إلى إجراء تبادل ذهني وروحاني من نوع ما مع عوالم أخرى للانتفاع بالثراء والتواصل المشترك. كيف عساي أن أتمكن من تحقيق هذه الغاية ما لم أستطع إيجاد طريقة ما للتواصل؟ فقط بعد أن تبعت رفيقي إلى منزله وقضيت أياما عديدة في ذلك المنزل الحجري الدائري الصغير ذي السقف المصنوع من الخوص المغطى بالطين، اكتشفت القدرة على الدخول إلى عقله، ورؤية الأشياء من خلال عينيه، والإحساس من خلال أعضائه الحسية جميعها، وإدراك عالمه مثلما يدركه هو، وكذلك متابعة الكثير من أفكاره وحياته العاطفية. وبعدها بوقت طويل حين «سكنت» العديد من أفراد هذه السلالة على نحو سلبي، اكتشفت كيف أعلن عن وجودي وحتى أن أتحدث داخليا مع مضيفي.
ذلك الاتصال «التخاطري» الداخلي والذي كان سينفعني في جميع رحلاتي، كان في البداية صعبا وغير فعال ومؤلما. غير أنني قد تمكنت مع الوقت من أن أعايش تجارب مضيفي بحيوية ودقة، مع الحفاظ على فرديتي، وذكائي النقدي ورغباتي ومخاوفي. فقط حين كان الطرف الآخر يدرك حضوري بداخله، كان يستطيع بفعل خاص من إرادته أن يبقي بعض الأفكار سرا عني.
من المنطقي جدا أنني قد وجدت هذه العقول الغريبة غير مفهومة في بادئ الأمر؛ فإدراكاتها الحسية كانت تختلف عن نظيراتها المألوفة لي في جوانب مهمة. كانت أفكارها وجميع مشاعرها وأحاسيسها غريبة بالنسبة إلي. إن الأساس التقليدي لهذه العقول؛ أي، المفاهيم الأكثر شيوعا فيها، كان يستند إلى تاريخ غريب ويعبر عنه في لغات يجدها العقل الأرضي مضللة بعض الشيء.
قضيت على «الأرض الأخرى» العديد من «السنوات الأخرى» متجولا من عقل إلى عقل ومن بلد إلى بلد، غير أنني لم أكتسب أي فهم واضح لنفسية البشر الآخرين ودلالة تاريخهم إلى أن التقيت بأحد فلاسفتهم، وهو رجل عجوز لكنه كان لا يزال يتمتع بعنفوان الشباب، وكانت آراؤه الغريبة وغير المستساغة قد حالت دون أن ينال التقدير والمكانة. القدر الأكبر من مضيفي حين كانوا يدركون وجودي، كانوا إما أن يظنوا أنني روح شريرة أو رسول إلهي. أما الأكثر تثقيفا منهم، فقد افترضوا أنني محض مرض أو عرض من أعراض الجنون؛ ولهذا فقد ذهبوا على الفور إلى «مسئول الصحة العقلية» المحلي. وبعد أن قضيت حسب التقويم المحلي قرابة عام من الوحدة المريرة بين عقول رفضت أن تعاملني على أنني بشر، حالفني الحظ إذ لاحظ الفيلسوف وجودي. أحد مضيفي الذي كان يشكو من أنه يعاني من سماع «أصوات» ورؤية رؤى من «عالم آخر» قد توجه إلى العجوز طلبا للمساعدة. بفالتو، كان هذا هو اسم الفيلسوف على وجه التقريب، قد «عالجه» بأن دعاني إلى قبول الضيافة في عقله حيث قال إنه سيسعده بشدة أن يستضيفني. وببالغ السرور قد تواصلت أخيرا مع كائن أدرك طبيعتي البشرية. (2) عالم منشغل
ثمة الكثير من السمات المهمة في مجتمع هذا العالم التي يجب أن توصف؛ لذلك، لا أستطيع أن أقضي الكثير من الوقت في وصف ملامح الكوكب الواضحة وسلالته. كانت الحضارة قد بلغت من النمو مرحلة شبيهة جدا بما بلغته لدينا. كنت دائم الاندهاش بمزيج التشابه والاختلاف. من خلال الترحال في أرجاء الكوكب، وجدت أن الزراعة قد انتشرت في معظم المناطق المناسبة، وأن الصناعة كانت أكثر تقدما بالفعل في الكثير من البلدان. على المروج، كانت هناك قطعان ضخمة من كائنات شبيهة بالثدييات ترعى وتعدو. أما الثدييات الأكبر، أو أنصاف الثدييات، فكانت تربى في أفضل المراعي من أجل لحمها وجلدها. وأنا أصفها بأنها «أنصاف ثدييات»؛ لأن هذه الكائنات لم تكن ترضع صغارها بالرغم من أنها كانت تلد. بدلا من ذلك، فقد كانت الأم تبصق الطعام الممضوغ المجتر والمعالج كيميائيا في معدتها، في فم الصغار كنفثة من سائل مهضوم مسبقا. وقد كانت تلك أيضا هي الطريقة التي تطعم بها أمهات البشر صغارها.
كانت وسيلة التنقل الأهم في الأرض الأخرى هي القطارات البخارية، غير أن القطارات في هذا العالم كانت ضخمة للغاية حتى إنها كانت تبدو كصفوف كاملة من المنازل وهي تتحرك. كان هذا التقدم الملحوظ في السكك الحديدية يعود على الأرجح إلى الرحلات العديدة التي تقطع عبر الصحاري وطولها الكبير. كنت أسافر في بعض الأحيان على السفن البخارية في المحيطات القليلة والصغيرة، غير أن وسائل المواصلات البحرية كانت بوجه عام متأخرة. لم تكن الدافعة المروحية معروفة في هذا العالم، وكانت عجلات التجديف تستخدم بدلا منها. وكانت محركات الاحتراق الداخلي تستخدم في الانتقال على الطرق والصحاري. لم يتمكنوا من الطيران بسبب الغلاف الجوي الرقيق، لكن الدفع الصاروخي كان مستخدما بالفعل في نقل البريد لمسافات بعيدة، والقصف البعيد المدى في الحروب، وقد يستخدم في الملاحة الجوية يوما ما.
كانت زيارتي الأولى لعاصمة إحدى الإمبراطوريات العظيمة في الأرض الأخرى تجربة رائعة. كل شيء كان غريبا للغاية ومألوفا للغاية في الوقت ذاته. كانت هناك الشوارع والمتاجر والمكاتب المتعددة النوافذ. في هذه المدينة القديمة، كانت الشوارع ضيقة وحركة السيارات مكتظة للغاية حتى إن الأماكن المخصصة للمشاة قد شيدت لها طرق مرتفعة خاصة قد تدلت بجوار نوافذ الطابق الأول وبامتداد الشوارع.
الحشود التي تدفقت على طرق المشاة تلك قد تنوعت مثلما هي الحال لدينا. كان الرجال يرتدون سترات طويلة من القماش وسراويل، من المدهش أنها كانت تشبه سراويل أوروبا، غير أن الطية التي تميز سراويل ذوي الشأن كانت على جانب الساق. كانت النساء بلا أثداء ومرتفعات المنخارين كالرجال، غير أن ما كان يميزهن هو شفاههن الأنبوبية والتي كانت وظيفتها البيولوجية هي توصيل الغذاء للطفل الرضيع. وبدلا من التنانير، كن ترتدين سراويل ضيقة حريرية ذات لون أخضر لامع، وألبسة داخلية صغيرة مبهرجة. وقد كان تأثير ذلك على بصري الذي لم يعتد على هذه المناظر بذيئا بدرجة لا توصف. في الصيف، كان أفراد كلا الجنسين غالبا ما يسيرون في الشوارع عراة حتى الخصر، لكنهم كانوا يرتدون القفازات على الدوام.
إذن، هنا جمع من الأفراد الذين بالرغم من غرابتهم، كانوا يتسمون بالجوهر الإنساني بقدر ما يتسم به سكان لندن. كانوا يباشرون شئونهم الخاصة بثقة تامة، دون دراية بأن ثمة مشاهدا من عالم آخر كان يرى أنهم جميعا منفرون بافتقارهم إلى الجبين، وبمناخيرهم الكبيرة المرتفعة المرتعشة، وعيونهم الشديدة الشبه بالعيون البشرية وأفواههم الشبيهة بالفوهة. ها هم كانوا هناك، أحياء منشغلين، يتسوقون ويحدقون ويتحدثون. الأطفال كانت تجرجرهم أيدي أمهاتهم، والعجائز بوجوههم التي يغطيها الشعر الأبيض انحنوا على عصي السير. وراح الشباب يحدقون في الفتيات. وكان من اليسير تمييز الأثرياء من الفقراء عن طريق ملابسهم الأحدث والأغنى، وكذلك وضعيتهم الواثقة، المتغطرسة في بعض الأحيان.
كيف يمكنني أن أصف في بضع صفحات الطابع المميز لعالم غفير وعظيم يختلف عن عالمي أشد الاختلاف ويشبهه أشد الشبه في الوقت ذاته؟ فهنا، يولد الأطفال كل ساعة مثلما يحدث على كوكبي. وهنا أيضا كهناك، كانوا يطالبون بالغذاء، وقريبا جدا سيطالبون بالصحبة. لقد اكتشفوا ماهية الألم والخوف والوحدة والحب. لقد كبروا وقد شكلتهم ضغوطات من أقرانهم إما قاسية أو هينة، فإما أن يصبحوا جيدي التربية، كرماء، متزنين، أو معاقين ذهنيا حانقين وانتقاميين عن غير قصد. وجميعهم دون استثناء كانوا يتلهفون باستماتة على نعيم الرفقة الحقيقية، وقليلون جدا هنا، ربما حتى أقل من نظرائهم في عالمي، هم من وجدوا ما هو أكثر من نكهته المتلاشية. كانوا يعوون مع القطيع ويصيدون مع القطيع. ومن سغبهم المادي والعاطفي، كانوا يتشاجرون على الصيد ويقطع كل منهما الآخر إربا؛ إذ جنوا من الجوع ماديا أو ذهنيا. أحيانا كان بعضهم يتوقف ويتساءل عن الغاية من كل هذا؛ ومن ثم تتبع ذلك معركة من الكلمات، وما من إجابة واضحة. فجأة يصيبهم الهرم وينتهون، ولأن الفترة الممتدة من الميلاد إلى الوفاة محض لحظة لا تحس في الزمن الكوني، فقد كانوا يتلاشون.
ولأن هذا الكوكب من النوع الأرضي في جوهره، فقد أنتج سلالة بشرية في جوهرها، أو بشرية من نوع مختلف عن النوع الأرضي، إذا صح التعبير. كانت هذه القارات متنوعة كقارتنا، وكانت تسكنها سلالة متنوعة كالسلالة البشرية. جميع ما يظهر في تاريخنا من أنماط الحياة الروحانية وسماتها كان له ما يكافئه في تاريخ البشر الآخرين. ومثلما هو الحال لدينا، فقد كانت هناك عصور مظلمة وعصور تنوير، مراحل من التقدم وأخرى من التأخر، ثقافات تسود فيها النزعة المادية، وأخرى يغلب عليها الطابع الفكري أو الجمالي أو الروحاني. وقد كانت هناك أعراق «شرقية» وأخرى «غربية». كانت هناك إمبراطوريات وجمهوريات وديكتاتوريات. غير أن كل ذلك كان مختلفا عما يوجد على الأرض. العديد من الاختلافات كان سطحيا بالطبع، غير أن بعضها كان جوهريا وعميقا واستغرق مني فهمها وقتا طويلا، ولكني لن أصفها الآن. لا بد لي أن أبدأ بالحديث عن التركيب البيولوجي للبشر الآخرين. لقد كانت الطبيعة الحيوانية تكمن في صميمهم مثلنا إلى حد كبير. كانوا يستجيبون بالغضب والخوف والكراهية والرقة والفضول وغير ذلك مثلما نستجيب. لم يكونوا يختلفون عنا في الحواس سوى أنهم كانوا أقل حساسية لرؤية الألوان وأكثر حساسية لرؤية الأشكال مقارنة بنا. لقد بدت لي الألوان الفاقعة في الأرض الأخرى عبر عيون سكانها الأصليين باهتة للغاية. وقد كانوا ضعاف السمع أيضا بعض الشيء؛ فبالرغم من أن أعضاءهم السمعية كانت حساسة للأصوات الخافتة بقدر حساسيتنا لها، لم تكن تحسن التمييز. إن الموسيقى التي نعرفها لم تتطور قط في هذا العالم.
عوضا عن ذلك، تطورت حاستا الشم والتذوق لديهم على نحو مذهل. لم تكن هذه الكائنات تتذوق بأفواهها فحسب، وإنما بأيديها التي كانت رطبة وسوداء حينذاك، وبأقدامها أيضا؛ ومن ثم فقد وهبوا تجربة ثرية وحميمية للغاية مع كوكبهم. لقد كانت مذاقات المعادن والأخشاب والأراضي الحامضية والحلوة والعديد من الصخور وذلك العدد الضخم من النكهات القوية أو الخفيفة للنباتات تتهشم تحت أقدامهم العارية المسرعة، مما شكل عالما بأكمله لا يعرف البشر الأرضيون عنه شيئا.
الأجهزة التناسلية كانت هي أيضا مزودة بأعضاء للتذوق. كانت هناك العديد من أنماط السمات الكيميائية المميزة لكل من الذكور والإناث، وكل منها يثير جاذبية الجنس الآخر بشدة. كان يمكن تذوق هذه السمات على نحو خافت من خلال لمس الأيدي أو الأقدام بأي جزء من أجزاء الجسد، ويكون تذوقها بشدة مذهلة في الجماع.
إن هذا الثراء المدهش في الخبرة التذوقية قد جعل من الدخول إلى أفكار البشر الآخرين بشكل كامل أمرا شديد الصعوبة بالنسبة إلي. فقد كان التذوق يمثل جزءا مهما للغاية في خيالهم وإدراكهم، بقدر ما كانت حاسة البصر مهمة بالنسبة إلينا. العديد من الأفكار التي كان الإنسان الأرضي يتوصل إليها عن طريق البصر، والتي لا تزال تحمل بعض آثار أصلها البصري حتى في أكثر أشكالها تجردا، كان البشر الآخرون يتصورونها من خلال التذوق. فكلمة «لامع» التي نستخدمها لوصف الأشخاص والأفكار، يترجمونها بكلمة معناها الحرفي هو «لذيذ». وبدلا من كلمة «صاف» يستخدمون مصطلحا كان الصيادون في العصور البدائية يستخدمونه للإشارة إلى مطاردات الصيد بالتذوق التي تؤخذ جريا. أما «الإشراق الإلهي» فقد كانوا يعبرون عنها بمصطلح «تذوق مروج السماء». العديد من مفاهيمنا غير البصرية كانوا يعبرون عنها من خلال التذوق أيضا. كانوا يشيرون إلى «التعقيد» بمصطلح «متعدد النكهات» وهو مصطلح كان يستخدم في الأساس للتعبير عن تشوش المذاق حول بركة شرب تتردد عليها العديد من أنواع الحيوانات. أما كلمة «التنافر» فقد كانوا يعبرون عنها بكلمة مشتقة من كلمة تعني الاشمئزاز الذي كان يشعر به بعض أنواع البشر بعضهم تجاه بعض بسبب نكهاتهم.
الاختلافات بين الأعراق، والتي كانت تتجسد في عالمنا في المظهر الجسماني بصورة أساسية، كان جميعها تقريبا يتمثل لدى البشر الآخرين في المذاق والرائحة. ولأن أعراق البشر الآخرين كانت أقل تمركزا بكثير في مواقع محددة مقارنة بأعراقنا، فقد شكل الصراع بين الجماعات التي كانت نكهاتها بغيضة بعضها لبعض دورا عظيما في التاريخ. فقد نزع كل عرق إلى الاعتقاد بأن نكهته هي التي تمثل جميع الصفات الذهنية الراقية، وأنها علامة يمكن الاعتماد عليها بالتأكيد للدلالة على القيمة الروحانية. وقد كانت الاختلافات في المذاق والرائحة في العصور السابقة علامات حقيقية على الاختلافات بين الأعراق بكل تأكيد، أما في العصور الحديثة، وفي المناطق الأكثر تطورا، فقد حدثت تغيرات كبيرة. ليس الأمر أن الأعراق ما عادت تتمركز في أماكن محددة فحسب، بل تسببت أيضا الحضارة الصناعية في حدوث مجموعة من التغيرات الجينية لم تترك للفروقات العرقية القديمة أي جدوى. وبالرغم من أن هذه النكهات القديمة لم تعد تحمل الآن أي دلالة عرقية على الإطلاق، والواقع أن أفراد العائلة الواحدة قد يحملون نكهات يجدونها كريهة على نحو متبادل، فقد ظلت تنتج الآثار العاطفية التقليدية. في كل بلد كانت هناك نكهة محددة تعد هي السمة المميزة للعرق السائد في ذلك البلد، ويعد ما سواها من النكهات بغيضا إن لم يكن بالفعل مستهجنا.
في البلد الذي ألممت بأكبر قدر من المعرفة عنه، كانت النكهة العرقية القويمة نوعا من الملوحة لا يمكن للإنسان الأرضي أن يتصورها. كان مضيفي ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم ملح الأرض نفسه، لكن الحقيقة أن أول ريفي «سكنته» كان هو الرجل الملحي الوحيد الأصلي الخالص الذي ينتمي إلى النوعية القويمة ممن قابلتهم. أما الغالبية العظمى من مواطني هذا البلد فقد كانوا يكتسبون المذاق والرائحة الصحيحين بسبل صناعية. وأولئك الملحيون بعض الشيء على الأقل وينتمون إلى إحدى النوعيات الملحية وإن لم تكن المثالية، كانوا دائما ما يفضحون خداع جيرانهم من ذوي اللذوعة أو الحلاوة أو المرارة. من سوء الحظ أنه بالرغم من إمكانية إخفاء مذاق الأطراف بدرجة مناسبة، لم يكن من الممكن تغيير نكهة الجماع؛ ولهذا فقد كان حديثو الزواج عرضة لأن يكتشفوا بشأن أحدهم الآخر الاكتشافات الأكثر تدميرا في ليلة الزفاف. ونظرا لأنه في الغالبية العظمى من الزيجات لم يكن لدى أي من الطرفين النكهة القويمة؛ فقد كان كلاها مستعدا لأن يتظاهر أمام العالم بأكمله بأن كل شيء على ما يرام، غير أن ذلك غالبا ما كان يتحول إلى تنافر مقزز بين نوعي المذاق. تفشت الاضطرابات العصبية في الجماعة السكانية بأكملها نتيجة لتلك الزيجات المأساوية السرية. وفي بعض الأحيان، حين يكون أحد الطرفين ينتمي إلى النكهة القويمة بدرجة ما، فإن هذا الشريك الملحي الأصلي يندد ساخطا بالطرف المحتال، وعندئذ تشترك المحاكم والنشرات الإخبارية والجمهور في احتجاجات يقوم بها من يظنون أنهم الأقوم أخلاقيا.
بعض النكهات «العرقية» كانت جلية للغاية فلم يكن يفلح إخفاؤها. إحداها على وجه التحديد، وقد كانت تشبه الحلاوة المرة، كانت تعرض مالكها للاضطهاد المفرط في جميع البلدان خلا أكثرها تسامحا. في الماضي، جنى العرق الحلو المر سمعة من المكر والانتهازية، وقد كان أفراده يتعرضون للذبح بين الحين والآخر على أيدي جيرانهم الأقل ذكاء. بالرغم من ذلك، ففي الاضطراب البيولوجي العام في العصور الحديثة، قد تظهر النكهة الحلوة المرة في أي عائلة. والويل حينها يكون للطفل الملعون ولجميع أقربائه! كان الاضطهاد حتميا إلا أن تكون العائلة ثرية بالدرجة الكافية لأن تبتاع من الدولة «تمليحا فخريا» (أو «تحلية فخرية» في الدولة المجاورة)، وذلك هو ما كان يزيل وصمة العار.
في البلاد الأكثر استنارة، كان أمر الخرافة العرقية بأكمله قد بدأ يصبح مثيرا للريبة؛ فنشأت حركة بين النخبة المثقفة لتكييف الأطفال على تقبل جميع أنواع النكهات البشرية، والتخلي عن مزيلات الروائح والمذاق، والتخلي حتى عن الأحذية والقفازات، والتي فرضها العرف الحضاري.
من سوء الحظ أن حركة التسامح هذه قد أعاقتها إحدى نتائج المجتمع الصناعي. في المراكز الصناعية المكتظة وغير الصحية، ظهر نوع جديد من الرائحة والمذاق يبدو أنه كان طفرة بيولوجية. وفي غضون أجيال قليلة، سادت هذه النكهة الحامضية اللاذعة والتي لا يمكن إخفاؤها في جميع أحياء الطبقة العاملة الأكثر حقارة. وقد كانت هذه النكهة بالنسبة إلى حاسة التذوق شديدة الحساسية لدى الموسرين تعد مثيرة للاشمئزاز بدرجة طاغية. لقد أصبحت في واقع الأمر، رمزا غير واع بالنسبة إليهم يحرك جميع المشاعر الدفينة بالذنب والخوف والكراهية والتي كان المضطهدون يشعرون بها تجاه المضطهدين.
في هذا العالم، مثلما في عالمنا، كانت نسبة ضئيلة من السكان هي التي تتحكم في الغالبية العظمى من سبل الإنتاج الأساسية من الأرض والمناجم والمصانع والسكك الحديدية والسفن، لمنفعتها الخاصة. وهؤلاء الأفراد من ذوي الحظوة قادرين على إرغام سواد الناس على العمل لحسابهم تحت طائلة الجوع. كانت المهزلة المأساوية الكامنة في مثل ذلك النظام تقترب بالفعل. الملاك كانوا يوجهون طاقة العمال على نحو متزايد إلى إنتاج المزيد من سبل الإنتاج بدلا من إشباع احتياجات الحياة الفردية. فالآلات قد تجلب الربح إلى الملاك، أما الخبز فلا يجلبه. ومع ازياد منافسة الآلة مع الآلة، تضاءل الربح؛ ومن ثم الأجور، وعلى إثرهما تضاءل الطلب الفعلي على السلع. دمرت السلع التي لم تجد لها سوقا، بالرغم من أن البطون كانت خاوية والظهور عارية. تزايدت البطالة والفوضى والقمع الصارم، مع تفكك النظام الاقتصادي. يا لها من قصة مألوفة !
ومع تدهور الأوضاع، وانخفاض قدرة الحركات الخيرية والمؤسسات الخيرية التابعة للدولة على مواجهة الكتلة المتزايدة من البطالة والفقر أكثر فأكثر، زاد ما يوفره العرق الجديد المنبوذ من منفعة نفسية لاحتياجات الكراهية لدى الأعراق المقدسة والتي لا تزال مزدهرة وذات نفوذ. وقد انتشرت نظرية مفادها أن هؤلاء الكائنات البائسة قد ظهرت نتيجة لتلوث عرقي منهجي سري قد حدث بسبب المهاجرين الرعاع وأنهم لا يستحقون أي اهتمام من أي نوع؛ ولهذا فلم يكن مسموحا لهم بالعمل إلا في أكثر الأشغال انحطاطا وظروف العمل الأكثر قسوة. وحين أصبحت البطالة مشكلة اجتماعية خطيرة، أصبحت الغالبية العظمى من أفراد العرق المنبوذ دون عمل يعانون من الفقر المدقع. وقد كان من السهل الاعتقاد بالطبع بأن البطالة لم تحدث بسبب انهيار الرأسمالية، وإنما بسبب افتقار هؤلاء المنبوذين إلى أي قيمة أو جدارة.
في وقت زيارتي، كانت الطبقة العاملة قد أصبحت موصومة تماما بأنها الطبقة المنبوذة، وقد كانت هناك حركة قوية تسير على قدم وساق بين طبقات الأثرياء والمسئولين داعية إلى تأسيس العبودية للمنبوذين وأنصاف المنبوذين حتى يمكن معاملتهم علنا كالماشية والتي كانت تمثل حقيقتهم في واقع الأمر. وفي ضوء خطر استمرار التلوث العرقي، حث بعض السياسيين على ذبح المنبوذين جميعا، أو إجراء تعقيم شامل لهم على الأقل. أما البعض الآخر فقد أوضح أنه نظرا لأن إمدادات العمالة الرخيصة أمر ضروري للمجتمع، فسوف يكون الخيار الأكثر حكمة هو تقليل أعدادهم فحسب وذلك من خلال قيادتهم إلى الموت المبكر بالعمل في وظائف لن يقبل بها أفراد «العرق النقي». ويجب أن يحدث هذا على أي حال في أوقات الرخاء، أما في أوقات الانتكاس، فمن الممكن ترك الفائض من السكان للموت جوعا، أو استخدامهم في المختبرات الفيسيولوجية.
الأشخاص الذين جرءوا على اقتراح هذه السياسة في بادئ الأمر، تعرضوا للجلد بسياط السخط الشعبي الشديد، غير أن سياستهم قد طبقت في واقع الأمر. لم يحدث ذلك بصورة مباشرة، وإنما بالموافقة الضمنية، وبغياب أي خطة أخرى بناءة بدرجة أكبر.
في المرة الأولى التي أخذت فيها إلى أفقر مناطق المدينة، دهشت حين رأيت أنه بالرغم من وجود مساحات كبيرة من المناطق العشوائية الفقيرة والتي كانت أقذر من أي شيء في إنجلترا، فقد كان فيها أيضا العديد من البنايات العظيمة النظيفة التي تليق بأن تكون جزءا من فيينا. كانت هذه المباني محاطة بالحدائق، والتي كانت مزدحمة بالخيام والأكواخ الوضيعة. كان العشب باليا والشجيرات محطمة والورود مداسة. وكان الرجال والنساء والأطفال يتسكعون في كل مكان متسخين ومهترئي الثياب.
عرفت أن هذه البنايات الراقية قد بناها قبل الأزمة الاقتصادية العالمية (عبارة مألوفة، أليس كذلك؟!) أحد أصحاب الملايين، والذي كان قد جنى ثروته عن طريق التجارة في عقار يشبه الأفيون. قدم المباني إلى مجلس المدينة، وقد مات واستقبلته السماء من طريق النبلاء. الأكثر استحقاقا والأقل بغضا من الفقراء قد أسكنوا في هذه البنايات كما ينبغي لهم، غير أن بعض الاحتياطات قد اتخذت بتعيين إيجار مرتفع بالدرجة التي تكفي لاستبعاد العرق المنبوذ. بعد ذلك حلت الأزمة. وواحدا تلو الآخر، تعذر على المستأجرين الدفع وطردوا. وفي غضون عام، كانت البنايات خالية تقريبا.
تلا ذلك سلسلة عجيبة للغاية من الأحداث، ومثلما كنت سأكتشف، كان أحدها من السمات المميزة لهذا العالم الغريب. بالرغم من أن الرأي العام الموقر كان انتقاميا تجاه العاطلين، فقد كان عطوفا للغاية تجاه المرضى. حين كان المرء يصاب بمرض، يكتسب حرمة خاصة، وتكون له أحقية على جميع الأصحاء؛ ولهذا ففور أن كان أي من هؤلاء المخيمين التعساء يرزح تحت وطأة مرض خطير، كان ينقل كي يتلقى الرعاية المناسبة بجميع موارد العلوم الطبية. وسرعان ما اكتشف الفقراء المعدمون كيفية سير الأمور، وفعلوا كل ما في وسعهم كي يمرضوا. وقد نجحوا نجاحا عظيما فامتلأت المستشفيات بهم سريعا؛ ولهذا فقد جهزت هذه البنايات سريعا لاستقبال ذلك الفيضان المتزايد من المرضى.
عند مشاهدة هذه الأحداث الهزلية وغيرها، تذكرت نوعي. غير أنه بالرغم من تشابه البشر الآخرين معنا في جوانب عديدة، فقد شككت بدرجة كبيرة في أن ثمة عاملا لا يزال غامضا علي قد حكم عليهم بإخفاق لن يخشاه نوعي الأرقى أبدا. الآليات النفسية والتي كانت الفطنة والحس الأخلاقي في حالتنا يخففان من حدتها، قد برزت في هذا العالم بإفراط باهظ. غير أنه ليس من الصحيح أن البشر الآخرين كانوا أقل ذكاء أو فضيلة من البشر من نوعي. لقد كانوا في التفكير المجرد والابتكار العملي أندادا لنا على أقل تقدير. إن العديد مما توصلوا إليه من أوجه التقدم الحديثة في الفيزياء والفلك قد تجاوز حدود إنجازاتنا الحالية. بالرغم من ذلك، فقد لاحظت أن الجانب النفسي كان أكثر فوضوية مما هي الحال لدينا، وكان التفكير الاجتماعي مشوها على نحو غريب.
في مجال الإذاعة والتلفزيون، على سبيل المثال، كان البشر الآخرون يتفوقون علينا بدرجة كبيرة في الجانب التقني، غير أن استخدامهم لاختراعاتهم المذهلة كان مفجعا. في البلاد المتحضرة، كان الجميع فيما عدا الطائفة المنبوذة يحملون جهاز استقبال للجيب. ولأن البشر الآخرين لم يعرفوا الموسيقى، فقد بدا هذا أمرا غريبا، لكن لأنهم كانوا يفتقرون إلى وجود الصحف؛ فقد كانت الإذاعة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن لرجل الشارع أن يعرف بها نتائج اليانصيب والألعاب الرياضية، والتي كانت قوام غذائه العقلي. وعلاوة على ذلك، فقد احتلت مكانة الموسيقى ثيمات شمية وذوقية كانت تترجم إلى أنماط من الموجات الأثيرية التي تبثها جميع المحطات الوطنية الكبيرة، ثم تستعيد صيغتها الأصلية في أجهزة الاستقبال الجيبية وبطاريات التذوق التي يمتلكها السكان. كانت هذه الآلات تقدم محفزات معقدة لأعضاء التذوق والشم في اليد. وقد كان هذا النوع من الترفيه فعالا للغاية حتى إن المرء كان غالبا ما يرى الرجال والنساء على حد سواء يجلسون وقد وضعوا يدا في جيبهم. وقد كان ثمة طول موجي محدد مخصص لتهدئة الأطفال الصغار.
طرح جهاز استقبال جنسي في السوق، وكانت البرامج تذاع له في العديد من البلاد لكن ليس فيها كلها. كان هذا الاختراع الاستثنائي توليفة من الإذاعة واللمس والتذوق والرائحة والصوت. لم يكن يعمل عن طريق أعضاء الحس، بل من خلال التحفيز المباشر لمراكز الدماغ الملائمة. كان المستقبل يرتدي قبعة رأس قد صممت خصيصى لتنقل إليه من استوديو بعيد عناقات امرأة مثيرة ومتجاوبة، مثلما كان يختبرها آنذاك بالفعل «مذيع للحب»، أو تكون قد سجلت كهرومغناطيسيا على شريط فولاذي في مناسبة سابقة. ظهرت خلافات بشأن أخلاقية البث الجنسي. سمحت بعض البلدان ببث البرامج للذكور دونا عن الإناث، رغبة في الحفاظ على براءة الجنس الأطهر. وفي بلدن أخرى، نجح رجال الدين في القضاء على المشروع بأكمله على أساس أن البث الجنسي، حتى وإن كان للرجال فقط، سيكون بديلا شيطانيا لتجربة دينية منشودة يحرسونها بغيرة وتسمى الاتحاد العفيف، والتي سوف أتحدث عنها في تتمة هذا الكتاب. لقد أدرك رجال الدين جيدا أن سلطتهم تتوقف بدرجة كبيرة على قدرتهم على توليد تلك النشوة المغرية في رعيتهم عن طريق الطقوس وغيرها من الأساليب النفسية.
أصحاب النزعة العسكرية أيضا كانوا يعارضون الاختراع الجديد بشدة؛ إذ إنهم رأوا في الإنتاج الرخيص الفعال للقاءات الجنسية الوهمية خطرا أشد من موانع الحمل، وهو أن إمدادات الجنود الذين يعدون طعاما للمدافع سوف تتضاءل.
ونظرا لأن البث في البلاد الأكثر احتراما كان يخضع لتحكم الجنود المتقاعدين أو الصالحين من رجال الكنيسة، فقد استخدم الجهاز الجديد في بادئ الأمر في الولايات التي تتسم بالنزعة التجارية وسوء السمعة بدرجة أكبر. ومن محطات البث في هذه الأماكن، كانت لقاءات «نجوم إذاعة الحب» المشهورين، وحتى لقاءات الأرستقراطيين المفلسين، تبث مع إعلانات الأدوية المسجلة ببراءة اختراع التي تباع دون وصفة طبية والقفازات المضادة للمذاق ونتائج اليانصيب والنكهات ومزيلات المذاق.
بعد فترة قصيرة، طبق مبدأ تحفيز الدماغ عن طريق موجات الراديو على نطاق أوسع؛ فأذيعت برامج الخبرات الأكثر إثارة أو خطورة في جميع البلاد، وكان يمكن التقاطها عن طريق أجهزة الاستقبال البسيطة التي كانت في متناول الجميع خلا العرق المنبوذ؛ ومن ثم فحتى العامل باليومية وعامل المصانع كان يستطيع الاستمتاع بملذات الولائم دون تحمل النفقات أو ما يليها من تخمة؛ ومباهج الرقص المتقن دون مشقة تعلم فن الرقص؛ وإثارة سباقات السيارات دون التعرض للخطر . في منزل شمالي محاط بالثلج، كان يستطيع التنعم بالشمس على الشواطئ الاستوائية ويمكن أن ينغمس في الألعاب الرياضية الشتوية في المناطق الاستوائية. سرعان ما اكتشفت الحكومات أن الاختراع الجديد قد منحها نوعا رخيصا وفعالا من السلطة يتحكمون به في رعاياهم. فأحوال العشوائيات يمكن أن تحتمل إذا كان هناك إمداد لا ينضب من الرفاهية الوهمية، والإصلاحات التي تبغضها السلطات يمكن أن تنحى جانبا إذا صورت على أنها معادية لنظام الإذاعة الوطني. الإضرابات وأعمال الشغب يمكن أن تفض في أغلب الأحوال بمجرد التهديد بإغلاق استوديوهات البث، أو من خلال غمر الأثير في لحظة حاسمة بنوع مبتكر من الحلاوة والعذوبة.
إن حقيقة أن «جناح اليسار» السياسي كان يعارض التوسع في تطوير الترفيه الإذاعي قد جعلت الحكومات والطبقات المالكة للأراضي أكثر استعدادا لقبوله. أما الشيوعيون - إذ أدت جدلية التاريخ على هذا الكوكب الشبيه بالأرض على نحو غريب إلى إنتاج جماعة جديرة بذلك الاسم - فقد أدانوا المشروع بشدة. لقد كان في رأيهم مخدرا رأسماليا قد أعد للحول دون منح الحكم الديكتاتوري والحتمي للطبقة العاملة بدلا من الحكومات.
وقد أتاحت المعارضة المتزايدة من جانب الشيوعيين الفرصة في رشوة معارضة أعدائهم الطبيعيين وهم رجال الدين والجنود. وقد جرى الاتفاق على أن تشغل الشعائر الدينية في المستقبل حصة أكبر من وقت البث، وأن تخصص قيمة العشر من رسوم الترخيص لصالح الكنائس. بالرغم من ذلك، فقد رفض رجال الدين عرض تجربة الاتحاد العفيف. وكتنازل إضافي، جرى الاتفاق على أن جميع الأفراد المتزوجين من أطقم العمل في هيئات البث، يجب أن يثبتوا، تحت طائلة الفصل من العمل، أنهم لم يقضوا ليلة واحدة بعيدا عن زوجاتهم (أو أزواجهم). وجرى الاتفاق أيضا على اقتلاع جميع هؤلاء الموظفين الحاصلين على درجة الليسانس والذين كان يشتبه في تعاطفهم مع تلك المبادئ السيئة السمعة مثل السلمية وحرية التعبير. وقد أرضي الجنود أيضا بإعانة من الدولة للأمومة، وفرض ضريبة على العزوبية، وبث منتظم للدعاية العسكرية.
خلال أيامي الأخيرة على الأرض الأخرى، ابتكر نظام يمكن للمرء من خلاله أن يتقاعد على السرير مدى الحياة ويقضي وقته بأكمله في استقبال البرامج الإذاعية، مع تعيين فريق من الأطباء من طرف هيئة البث يشرفون على تغذيته وكل وظائفه الجسدية، وعوضا عن التمرينات يتلقى خدمات التدليك بصفة دورية. كانت المشاركة في المشروع رفاهية باهظة الثمن في البداية، غير أن مبتكريه كانوا يأملون في أن يجعلوه متاحا للجميع في وقت غير بعيد، بل كان من المتوقع أيضا أن يصبح مشرفو الرعاية الطبية والخدمية غير ضروريين بمرور الوقت. وسوف يتم توفير نظام ضخم من الإنتاج الأوتوماتيكي للغذاء وتوزيعه غذاء سائلا في أنابيب تؤدي إلى أفواه المشاركين الراقدين، مع توفير نظام صرف صحي معقد. ويمكن استخدام التدليك الكهربائي حسب الرغبة من خلال الضغط على زر ما. وسيتم الاستغناء عن الإشراف الطبي ويحل محله نظام تعويض غددي أوتوماتيكي سيمكن حالة دم المريض من تنظيم نفسها أوتوماتيكيا من خلال سحب أي مواد كيميائية لازمة لتحقيق التوازن الفيسيولوجي الصحيح، من أنابيب العقاقير المشتركة.
حتى في حالة البث نفسه لن يكون العنصر البشري مطلوبا عما قريب؛ إذ ستكون الخبرات الممكنة بأكملها قد سجلت بالفعل من الأمثلة الحية الأكثر إبهارا. وسوف تبث هذه التجارب باستمرار في عدد كبير من البرامج البديلة.
ربما تظل هناك حاجة إلى وجود عدد قليل من الفنيين والمنظمين للإشراف على النظام، لكن عند توزيعهم بالشكل الملائم، لن ينطوي عمل أي فرد من أفراد طاقم عمل «الهيئة العالمية للبث» إلا على بضع ساعات من النشاط الممتع كل أسبوع.
وإذا دعت الحاجة إلى وجود أجيال مستقبلية، فسوف ينتج الأطفال عن طريق التوالد الخارجي. سيكون على «المدير العالمي للبث» أن يقدم مواصفات نفسية وفيسيولوجية ل «سلالة الاستماع» المثالية. وسيتلقى الأطفال المنتجون وفقا لهذا النمط التعليم عن طريق برامج إذاعية خاصة تعدهم لحياة البلوغ الإذاعية. إنهم لن يغادروا مهودهم أبدا إلا في مرورهم بالأحجام المختلفة من الأسرة وصولا إلى الأسرة ذات الحجم الكامل في مرحلة النضوج. في الجزء الأخير من الحياة، إذا لم تكن العلوم الطبية قد نجحت في التحايل على الكهولة والموت، فسوف يمكن للفرد على الأقل أن يضمن نهاية دون ألم من خلال الضغط على زر مناسب.
انتشر الحماس لهذا المشروع المذهل في جميع البلاد المتحضرة بسرعة، غير أن بعض القوى الرجعية كانت تعارضه بشدة. لقد أكدت فئة المتدينين التقليديين وكذلك فئة القوميين أصحاب النزعة العسكرية أن عظمة الإنسان في أن يكون نشطا. ورأى المتدينون أن الروح لا يمكن أن تكون مهيأة للحياة الأبدية إلا من خلال ضبط النفس واحتقار الجسد والصلاة المستمرة. وصرح القوميون من كل بلد أن أتباعهم قد منحوا أمانة مقدسة لحكم الأنواع الأدنى، وأن المناقب العسكرية فقط هي التي يمكن في كل الأحوال أن تضمن ذهاب الأرواح إلى «فالهالا».
وبالرغم من أن العديد من كبار رجال الاقتصاد قد أيدوا وجود نعيم الإذاعة في بادئ الأمر باعتدال باعتباره مسكنا للعمال الساخطين، فقد انقلبوا الآن ضده. كانت شهوتهم هي السلطة، ولكي يحظوا بالسلطة كانوا يحتاجون إلى عبيد يسيطرون على كدحهم من أجل مغامراتهم الصناعية العظيمة؛ ولهذا فقد اخترعوا آلة تكون مسكنا ومحفزا في الوقت ذاته. فقد سعوا من خلال وسائل الدعاية جميعها إلى أن يثيروا الولع بالقومية والكراهية العرقية. لقد ابتكروا «الفاشية الأخرى» في واقع الأمر، بكامل أكاذيبها، وهوسها العجيب بالسلالة والدولة، واحتقارها للعقل وتمجيدها للسيادة الوحشية، وجاذبيتها لدوافع الصغار المضللين: الخسيسة منها والطيبة في الوقت ذاته.
كان ثمة جماعة صغيرة ومرتبكة في كل بلد، والتي تعارض كل معارضي نعيم الإذاعة هؤلاء وتعارض على نحو متساو نعيم الإذاعة نفسه، تؤكد أن الهدف الحقيقي من النشاط الإنساني هو خلق مجتمع عالمي من الأشخاص اليقظين الذين يتسمون بالذكاء الإبداعي وتجمع بينهم روابط البصيرة والاحترام، والمهمة المشتركة في تحقيق إمكانيات الروح البشرية على الأرض. كان القدر الأكبر من تعاليمهم هو إعادة تأكيد لتعاليم عرافين دينيين من ماض راق بعيد، لكنها قد تأثرت أيضا بالعلوم المعاصرة على نحو عميق. بالرغم من ذلك، فقد أساء العلماء فهم هذه الجماعة، ولعنها رجال الدين، وسخر منها ذوو النزعة العسكرية، وتجاهلها مؤيدو نعيم الإذاعة.
الآن في هذا الوقت، كان التخبط الاقتصادي يدفع الإمبراطوريات التجارية العظيمة في الأرض الأخرى إلى منافسة أكثر استماتة على الأسواق. وقد اجتمعت هذه المنافسات الاقتصادية مع العواطف القبلية القديمة المتمثلة في الخوف والكراهية والفخر لتتسبب في سلسلة لا تنتهي من أشباح الحرب كان كل منها يهدد بموقعة هرمجدون عالمية.
وفي هذا الظرف أوضح المتحمسون لمشروع الإذاعة أن الحرب لن تحدث أبدا إذا قبلت سياستهم، أما إذا اندلعت الحرب العالمية، فسوف تؤجل سياستهم إلى أجل غير مسمى. لقد اختلقوا حركة عالمية داعية للسلام، وكان التأييد لنعيم الإذاعة قويا للغاية حتى إن المطالبة بالسلام قد اكتسحت جميع البلدان. وأخيرا تأسست «هيئة عالمية للبث» للترويج لإنجيل الإذاعة، وإيجاد الاختلافات بين الإمبراطوريات، والاستيلاء على سيادة العالم في نهاية المطاف.
وفي هذه الأثناء، كان «المتدينون» المتحمسون وكذلك ذوو النزعة العسكرية المخلصون يشعرون بالقلق عن وجه حق من وضاعة الدوافع الكامنة خلف النزعة العالمية الجديدة، غير أنهم كانوا مخطئين بالدرجة نفسها في سلوكهم؛ إذ عزموا على إنقاذ «البشر الآخرين» رغما عنهم من خلال تحريض الشعوب على الحرب؛ فجميع قوى الدعاية والفساد المالي قد سخرت على نحو ملحمي من أجل إثارة عواطف القومية. بالرغم من ذلك، فقد أصبح الطمع لنعيم الإذاعة شاملا وقويا للغاية بحلول ذلك الوقت، حتى إن حزب الحرب لم يكن لينجح لولا ثروة كبار مصنعي الأسلحة وخبرتهم في تأجيج الصراع.
اندلعت المشاكل بنجاح بين إحدى الإمبراطوريات التجارية القديمة وبين دولة أخرى كانت قد بدأت حديثا في تبني أسس الحضارة الآلية، غير أنها قد أصبحت قوة عظمى بالفعل، وقد كانت قوة في أمس الحاجة إلى الأسواق. الإذاعة، التي كانت من قبل هي القوة الأساسية الدافعة إلى التوجه الكوني، قد أصبحت فجأة هي المحفز الأساسي للقومية في جميع البلاد. صباحا وظهرا ومساء، كان كل شعب من الشعوب المتحضرة يتلقى التأكيدات بأن الأعداء، والذين هم بالطبع ذوو نكهات كريهة ودونية، يخططون لتدميرهم. مخاوف التسلح وقصص الجواسيس وروايات السلوكيات الوحشية والسادية لدى الشعوب المجاورة، قد خلقت في جميع البلدان الكراهية والشك غير الناقد مما يعني أن الحرب قد أصبحت حتمية. نشأ خلاف حول السيطرة على أحد الأقاليم الحدودية. وفي تلك الأيام الحاسمة، تصادف وجودي أنا وبفالتو في مدينة حدودية كبيرة. لن أنسى أبدا كيف أن الجماهير قد انغمست في كراهية تكاد تكون جنونية. جميع الأفكار المتعلقة بالأخوة الإنسانية وحتى تلك المتعلقة بالأمان الشخصي، قد اكتسحها التعطش الشديد الوحشي للدماء. الحكومات التي أصابها الهلع قد بدأت في قذف قنابل صاروخية طويلة المدى على جيرانها الخطرين. وفي غضون بضعة أسابيع كان العديد من عواصم الأرض الأخرى قد دمرت من الهواء. الشعوب جميعها قد بدأت الآن في بذل كل ما في وسعها لكي تحدث من الضرر أكثر مما تتلقاه.
أما عن أهوال هذه الحرب، ودمار مدينة تلو المدينة، والمضيفين الذين أصابهم الهلع وراحوا يتضورون جوعا واندفعوا حشودا إلى الريف المفتوح ينهبون ويقتلون، والمجاعة والمرض، وتدهور الخدمات الاجتماعية، وظهور الديكتاتوريات العسكرية العديمة الرحمة، والتدهور المستمر بل الكارثي للثقافة وجميع مظاهر التهذيب والعطف في العلاقات الشخصية؛ فما من حاجة للحديث بالتفصيل عن كل ذلك.
وعوضا عن ذلك، سوف أحاول أن أفسر حتمية المصيبة التي حلت بالبشر الآخرين. إن نوعي البشري لم يكن ليسمح لنفسه بالطبع إذا تعرض لظروف مشابهة بأن يكتسح بالكامل هكذا. لا شك أننا نواجه احتمالية وقوع حرب تكاد لا تقل دمارا عن تلك الحرب، لكن مهما كانت الفاجعة التي تنتظرنا، لا بد أننا سنتعافى منها بالتأكيد. ربما نكون حمقى، لكننا دائما ما نتمكن من تفادي السقوط في هاوية الجنون الشامل. ففي اللحظة الأخيرة، يفرض التعقل ذاته من جديد مترددا، غير أن الأمر ليس كذلك في حالة البشر الآخرين. (3) مستقبل السلالة
كلما طالت المدة التي قضيتها على الأرض الأخرى، زاد شكي في أنه لا بد من وجود اختلاف كامن هام بين السلالة البشرية هذه وبين السلالة البشرية التي أنتمي إليها. ومن الواضح أن هذا الاختلاف كان يتمثل بطريقة ما في التوازن. لقد كانت سلالتنا تتسم بوجه عام بدرجة أفضل من التكامل، وقدر أكبر من هبة المنطق السليم، مع نزعة أقل للانغماس في المغالاة من خلال الانفصام الذهني.
وربما يكون المثال الأبرز على المغالاة لدى البشر الآخرين هو ذلك الدور الذي كان يشغله الدين في مجتمعاتهم الأكثر تقدما. لقد كان للدين سلطة أكبر بكثير من تلك التي كانت له على كوكبي، وقد كانت تعاليم الأنبياء القدماء قادرة على أن تشعل الحماسة حتى في قلبي الغريب فاتر الهمة. غير أن الدين، الذي كنت ألاحظه حولي في المجتمع المعاصر، كان بعيدا كل البعد عن التنوير.
يجب أن أبدأ بتوضيح أن حاسة التذوق قد أدت دورا عظيما في تطور الدين على الأرض الأخرى. وقد حظيت الآلهة القبلية بالطبع بسمات المذاق الأكثر تأثيرا في أفراد القبائل. وحين ظهرت عقائد التوحيد بعد ذلك، ارتبطت صفات الإله في القوة والحكمة والعدل والإحسان بوصف مذاقه. وفي الأدبيات الصوفية، غالبا ما كان الإله يشبه بالنبيذ القديم المعتق، وقد اقترحت بعض الروايات عن التجارب الدينية أن تلك النشوة المتعلقة بالتذوق تشبه، من نواحي عديدة، تلك المتعة الموقرة التي يجدها متذوقو النبيذ لدينا في تذوق بعض النبيذ النادر العتيق.
ومن سوء الحظ أنه نظرا إلى تعدد أنواع المذاق البشرية، فلم يكن هناك أي اتفاق واسع النطاق فيما يتعلق بمذاق الإله. شنت الحروب الدينية من أجل تحديد ما إذا كان مذاق الإله في فئة الحلو أم المالح، أو ما إذا كانت نكهته السائدة هي واحدة من العديد من السمات الذوقية التي لا يستطيع نوعي تصورها. أصر بعض المعلمين على أنه لا يمكن تذوقه إلا بالقدمين، بينما أصر آخرون على أنه لا يمكن تذوقه إلا باليدين أو الفم، وأصر غيرهم على أنه لا يمكن تذوقه إلا من خلال تلك التوليفة المعقدة اللطيفة من النكهات الذوقية والتي تعرف باسم الاتحاد العفيف، وهي نشوة حسية، جنسية الطابع في الأساس، يجري تحفيزها من خلال تأمل الاتصال مع الإله.
وأوضح معلمون آخرون أنه بالرغم من أنه يمكن تذوق الإله بالفعل، فإن جوهره لا يتجلى لأي أعضاء جسدية على الإطلاق، بل للروح المجردة فقط. وأوضحوا أيضا أن نكهته أكثر لطفا من نكهة المحبوب وأشهى منها؛ إذ إنها تتضمن أعطر النكهات البشرية وأكثرها روحانية، وما هو أكثر من ذلك دون نهاية.
وقد ذهب البعض إلى أبعد من ذلك كثيرا فصرحوا أنه لا ينبغي تصور الإله على أنه شخص على الإطلاق، بل على أنه بالفعل هذه النكهة. كان بفالتو يقول: «إما أن الإله هو الكون، أو أنه نكهة الإبداع التي تتخلل كل شيء.»
قبل ذلك بعشرة أو خمسة عشر قرنا، حين كان الدين، وفقا لمعلوماتي، يمثل أهمية كبرى، لم يكن هناك كنائس ولا كهنوت، غير أن الأفكار الدينية كانت تسيطر على حياة الناس بدرجة أجد أنها لا تصدق. بعد ذلك ظهرت الكنائس والكهنوت لتؤدي دورا هاما في الحفاظ على ما كان يبدو الآن أنه وعي ديني متضائل. وبعد فترة لاحقة سبقت الثورة الصناعية بقرون قليلة، سيطر الدين المؤسسي على معظم الشعوب المتحضرة، حتى إنها كانت تنفق ثلاثة أرباع الدخل الكلي على صيانة المؤسسات الدينية. وبالطبع كانت الطبقات العاملة، التي استعبدها الملاك في مقابل مبلغ زهيد، تعطي الجزء الأكبر من أجورها الهزيلة لرجال الدين وتعيش في بؤس مهين ما من مبرر له.
أحدث العلم والصناعة إحدى تلك الثورات الفكرية المفاجئة والمتطرفة والتي كانت من السمات المميزة للبشر الآخرين. حطمت الكنائس جميعها تقريبا أو حولت إلى مصانع مؤقتة أو متاحف صناعية. الإلحاد، الذي كان سببا للاضطهاد قبل وقت قريب، قد أصبح أمرا شائعا، وتحولت أفضل العقول إلى اللاأدرية. بالرغم من ذلك، فبعد فترة بدأت معظم الشعوب الصناعية تعود مرة أخرى إلى الدين، وقد كان ذلك على ما يبدو لمواجهة رعب الثقافة المادية والتي كانت أكثر سوادوية وتماديا مما كانت عليه لدينا بدرجة كبيرة. وتأسست العلوم الطبيعية على أساس روحاني. وأصبحت الكنائس القديمة مقدسة مرة أخرى، وتأسست العديد من الأنظمة الدينية الجديدة حتى إنها سرعان ما أصبحت في عدد دور السينما على كوكبنا. وقد استوعبت الكنائس الجديدة فن السينما بالطبع، وقدمت أفلاما متواصلة قد مزجت ببراعة بين الانغماس في الملذات الحسية والدعاية الكنسية.
في وقت زيارتي كانت الكنائس قد استعادت سلطتها الضائعة بأكملها. كانت الإذاعة تنافسها في وقت ما بالفعل، لكن الكنائس قد نجحت في استيعابها. كانت ما تزال على موقفها من رفض بث تجربة الاتحاد العفيف التي كانت قد اكتسبت حظوة جديدة بسبب الاعتقاد الشائع بأنها روحانية للغاية بما لا يتيح نقلها عبر الأثير. غير أن رجال الدين الأكثر تقدما قد اتفقوا على أنه إذا تأسس نظام «نعيم الإذاعة» العالمي ذات يوم، فقد يمكن التغلب على هذه الصعوبة. وفي هذه الأثناء، ظلت الشيوعية على عرفها اللاديني. بالرغم من ذلك، ففي البلدين الشيوعيين العظيمين، كانت «اللادينية» التي تنظم بصورة رسمية، تصير دينا في كل شيء خلا الاسم؛ فقد صارت لها مؤسساتها وكهنوتها وطقوسها ومبادئها الأخلاقية ونظام الغفران الخاص بها ومعتقداتها الميتافيزيقية والتي لم تكن أقل في الطابع الخرافي بالرغم من طبيعتها المادية الخالصة. أما نكهة الإله فقد استبدل بها نكهة الطبقة العاملة.
لقد كان الدين إذن قوة حقيقية للغاية في حياة هذه الشعوب جميعها. بالرغم من ذلك، فقد كان ثمة شيء محير في ورعهم. لقد كان صادقا من جانب ما، بل نافعا أيضا؛ ففي الإغراءات الشخصية القليلة والاختيارات الأخلاقية النمطية والواضحة للغاية، كان البشر الآخرون يلتزمون بما يمليه الضمير عليهم أكثر مما يلتزم به نوعي بدرجة كبيرة. غير أنني قد اكتشفت أن الإنسان الآخر النموذجي المعاصر لا يلتزم بما يمليه عليه ضميره إلا في المواقف التقليدية، أما في المواقف التي تعكس الحس الأخلاقي الأصيل؛ فقد كان يفتقر إلى الضمير على نحو غريب؛ ولهذا فبالرغم من أن السخاء العملي والرفقة السطحية كانا أكثر من المعتاد لدينا، فإن أكثر أشكال الاضطهاد العقلي شيطانية كانت تقترف دون أي تأنيب للضمير. كان على الأفراد الأكثر حساسية أن يأخذوا حذرهم على الدوام، وكانت الأنواع الأعمق من الحميمية والاعتماد المشترك غير مستقرة ونادرة. في هذا العالم الشغوف بالاجتماعية، كانت الوحدة تلاحق الروح. لقد كان البشر «يجتمعون معا» باستمرار، لكنهم لم يجتمعوا حقا قط. كان الجميع مرتعبين من الاختلاء بأنفسهم، ومع ذلك، فبالرغم من الاعتقاد العالمي بأهمية الرفقة، ظلت هذه الكائنات الغريبة بعيدة بعضها عن بعض، كالنجوم، حتى عندما يكونون معا؛ فكل منهم كان يبحث في عيني جاره عن صورة نفسه، ولم ير أي شيء غيرها قط، وإن رأى غيرها، ارتعب وغضب غضبا شديدا.
من الحقائق المحيرة أيضا بشأن الحياة الدينية لدى البشر الآخرين في وقت زيارتي، هي أنه بالرغم من أن الجميع كانوا مؤمنين وكان الكفر يلقى بالرعب، فقد كان التوجه العام نحو الإله تجاريا يوحي بالازدراء. لقد افترض البشر أنهم يستطيعون شراء نكهة الإله إلى الأبد بالمال أو بالطقوس. وعلاوة على ذلك، فالإله الذي كانوا يعبدونه باللغة الرائعة المتأملة التي تنتمي إلى عصر سابق، أصبح يصور الآن على أنه صاحب عمل عادل لكنه غيور أو والد متساهل أو حتى كمحض طاقة مادية. أما الوقاحة الأكبر فقد تمثلت في الاعتقاد بأن الدين لم يكن على هذه الدرجة من الانتشار والاستنارة في أي عصر سابق. لقد ساد اعتقاد حظي باتفاق العالم بأكمله تقريبا بأن فهم التعاليم العميقة التي تعود إلى عصر النبوة بمعانيها الأصلية التي قصدها الأنبياء أنفسهم، لم يبدأ سوى الآن. فقد زعم الكتاب والمذيعون المعاصرون بأنهم يعيدون تأويل النصوص الدينية لتناسب الاحتياجات الدينية المستنيرة في عصر كان يسمي نفسه ب «عصر الدين العلمي.» والآن بعد الاستسلام الذي كان يميز حضارة البشر الآخرين قبل اندلاع الحرب، كنت أشعر عادة بوجود تململ وقلق غامضين فيما بينهم. لا شك أن الناس في معظم الأحوال راحوا يباشرون أمورهم بالاهتمام المستغرق القانع ذاته مثلما هي الحال على كوكبي. لقد كانوا منشغلين للغاية بكسب الرزق والزواج وإقامة الأسرة ومحاولة استغلال كل منهم للآخر، بما لا يترك وقتا للتشكك الواعي بشأن الهدف من الحياة. بالرغم من ذلك، فكثيرا ما كانت تبدو عليهم تصرفات من نسي شيئا مهما للغاية وهو يحاول تذكره ببالغ الجهد، أو من كان واعظا مسنا يستخدم العبارات المؤثرة القديمة دون إدراك واضح لدلالتها. صرت أشك على نحو متزايد بأن هذه السلالة، بالرغم من انتصاراتها، كانت تعيش الآن على أفكار ماضيها العظيمة، وتتفوه بأفكار لم تعد تتمتع بالإحساس اللازم لفهمها، وتشيد بلسانها بمثل لم يعد من الممكن أن ترغب فيها بإخلاص، وتتصرف في إطار نظام من المؤسسات التي لم تكن لينجح معظمها إلا بواسطة عقول لها طابع أرقى بعض الشيء. وقد كنت أشتبه في أن هذه المؤسسات قد تأسست على يد سلالة لا تتمتع بقدر أكبر من الذكاء فحسب، بل بقدرة أقوى وأكثر شمولا على التعاون مما كان ممكنا في ذلك الوقت على الأرض الأخرى. لقد بدا أنها كانت تتأسس على افتراض أن البشر عطوفون في المجمل ومنطقيون ويتمتعون بالقدرة على ضبط النفس.
كثيرا ما سألت بفالتو عن هذا الموضوع، لكنه كان يتجنب سؤالي على الدوام. ويجب أن أذكر أنه بالرغم من قدرتي على الوصول إلى جميع أفكاره ما دام لم يرغب قطعا في حجبها، فقد كان يستطيع دوما أن يفكر على انفراد إذا بذل مجهودا خاصا. طالما شككت بأنه يخفي شيئا عني إلى أن أخبرني أخيرا بالحقائق الغريبة والمأساوية.
كان ذلك بعد أيام قليلة من قصف عاصمة بلده. رأيت نتائج ذلك القصف عبر عيني بفالتو والنظارات الواقية في قناع الغاز الذي كان يرتديه. لم نشهد الحادث المرعب نفسه، لكننا حاولنا الرجوع إلى المدينة للمشاركة في أعمال الإنقاذ. لم يكن هناك سوى قدر ضئيل يمكن القيام به. كانت الحرارة التي ما تزال تشع من قلب المدينة المتوهج عظيمة للغاية حتى إننا لم نستطع أن نخترق ما وراء الضاحية الأولى. وحتى هناك كانت الشوارع مدمرة تغص بالمباني المنهارة. وظهرت الأجساد البشرية مسحوقة ومحترقة هنا وهناك بين كتل حجارة البناء الساقطة. اختفت الغالبية العظمى من السكان تحت الأنقاض، ورقد العديد منهم في المساحات المفتوحة مختنقين بالغاز. تجولت فرق الإنقاذ دون جدوى، وبين سحب الدخان، كانت الشمس الأخرى تظهر بين الحين والآخر مع نجم نهاري.
بعد التسلق بين الأطلال لبعض الوقت، ساعيا إلى تقديم المساعدة دون جدوى، جلس بفالتو. بدا أن الخراب المحيط بنا قد «فك عقدة لسانه»، إذا جاز لي أن أستخدم هذه العبارة للتعبير عن الصراحة المفاجئة في الإفصاح لي عن تفكيره. كنت قد قلت شيئا مفاده أن العصور المستقبلية سوف تنظر إلى كل هذا الجنون والدمار في الماضي بدهشة. تنهد الرجل عبر قناع الغاز الذي كان يرتديه وقال: «الأرجح أن سلالتي التعيسة قد أهلكت الآن نفسها إلى الأبد دون رجعة.» اعترضت على قوله؛ ذلك أنه بالرغم من أن مدينتنا هي الأربعون من المدن التي دمرت، فلا بد أن الانتعاش سيأتي ذات يوم، وستكون هذه السلالة قد تجاوزت هذه الأزمة أخيرا، وتخطو إلى الأمام وهي تزداد قوة على قوة. حينها أخبرني بفالتو بالأمور الغريبة التي قال إنه قد هم بإخباري بها مرات عديدة لكنه كان يمتنع دائما عن ذلك. وبالرغم من أن العديد من العلماء والطلاب في المجتمع العالمي المعاصر قد كان يساورهم شك غامض بشأن الحقيقة، فلم يكن يعرفها بوضوح سواه مع قلة آخرين.
قال: إن النوع كان يخضع على ما يبدو لتقلبات طبيعية غريبة وطويلة الأمد، تقلبات قد استمرت إلى ما يقرب من عشرين ألف عام. بدا أن جميع السلالات في جميع أنواع المناخ تتمتع بهذا الإيقاع الشاسع للروح وتعاني منه في الوقت ذاته. كان السبب مجهولا، ورغم أنه بدا أنه يعود لقوة تؤثر في الكوكب بأكمله في الوقت ذاته، ربما كان ينبع في حقيقة الأمر من نقطة انطلاق واحدة لكنه ينتشر بسرعة في جميع البلاد. منذ وقت قريب للغاية، اقترح أحد العلماء المتقدمين أن السبب قد يعود إلى اختلافات في شدة «الأشعة الكونية». وقد أثبتت الأدلة الجيولوجية أن تلك التقلبات في الإشعاع الكوني قد حدثت بالفعل، وربما كان السبب فيها هو حدوث اختلاف في عنقود مجاور من النجوم الصغيرة السن. كان لا يزال من غير المؤكد ما إذا كان هذا الإيقاع النفسي قد تصادف مع هذا الإيقاع الفلكي أم لا، لكن العديد من الحقائق كانت تؤدي إلى الاستنتاج بأن الروح البشرية تتدهور مع زيادة درجة العنف في هذه الأشعة.
لم يكن بفالتو مقتنعا بهذه القصة. لقد كان يميل بصفة عامة إلى الرأي القائل بأن التفاوت في عقلية البشر كان يعود إلى أسباب داخلية عميقة. وأيا كان التفسير الحقيقي، فمن شبه المؤكد أن درجة عالية من الحضارة قد تحققت مرات عديدة في الماضي، وأن ثمة تأثيرا قويا قد أضعف من النشاط العقلي للنوع البشري مرارا وتكرارا. وفي حضيض هذه الموجات الضخمة، كان البشر الآخرون يهوون إلى حالة من البلادة العقلية والروحانية هي أكثر انحطاطا من أي شيء قد عرفته سلالتي البشرية منذ أن ظهرت من الأنواع الأدنى من البشر. بالرغم من ذلك، ففي ذروة الموجة، يبدو أن القدرات الفكرية للبشر، ونزاهتهم الأخلاقية وكذلك بصيرتهم الروحانية كانت تسمو إلى درجة يجب أن نعترف بأنها تفوق قدرات البشر.
مرة تلو الأخرى، كانت السلالة تنبثق من الوحشية، وتجتاز مرحلة الثقافة الهمجية لتدخل في مرحلة من البراعة والقدرة على الإحساس على مستوى العالم. شعوب بأكملها كانت تتمتع في الوقت ذاته بقدرة متزايدة باستمرار على الكرم ومعرفة الذات وضبطها وكذلك على التفكير المتبصر المحايد، والمشاعر الدينية النقية.
ونتيجة لذلك، كان العالم يزدهر بأكمله في غضون قرون قليلة بمجتمعات حرة وسعيدة. كان البشر العاديون يتمتعون بصفاء ذهني منقطع النظير، ومن خلال العمل الجماعي، يتخلصون من جميع أشكال الظلم الاجتماعي الفادح، وأعمال القسوة الفردية. الأجيال اللاحقة التي تتمتع بالتعقل الأصيل وتنعم ببيئة مواتية، كانت تخلق عالما طوباويا تسكنه كائنات يقظة.
بعد فترة قصيرة، ينقض الغزل شيئا فشيئا، ويتبع العصر الذهبي بعصر فضي. بعد العيش على إنجازات الماضي، يفقد قادة الفكر أنفسهم في غابة من الإبهام، أو يسقطون منهكين إلى الركاكة. في الوقت نفسه، يتراجع الحس الأخلاقي. يصبح البشر في المجمل أقل صدقا وأقل اهتماما بشأن بالبحث عن الذات، وأقل حساسية لاحتياجات الآخرين، أي أنهم يصبحون في واقع الأمر أقل قدرة على الشعور بالاتحاد مع الآخرين. النظام الاجتماعي الذي كان يعمل بكفاءة ما دام المواطنون يتمتعون بمستوى معين من الإنسانية يقتلعه الظلم والفساد. يبدأ الطغاة ونظم حكم الأقلية الاستبدادية في تحطيم الحرية، وتمنحهم الطبقات المتشبعة بالكراهية إلى حد الجنون عذرا جيدا لذلك. وشيئا فشيئا، بالرغم من أن المنافع المادية للحضارة قد تبقى متقدة على مدار قرون، سيخبو لهيب الروح إلى محض ومضة في قلة من الأفراد المتفرقين. ثم تأتي من بعد ذلك الهمجية المحضة، ويتبعها حضيض الوحشية الحيواني.
بدا في المجمل أن قمم الموجات الأحدث قد حققت إنجازات أكبر من سابقاتها في الماضي «الجيولوجي،» أو هذا ما أقنع به بعض العلماء في مجال علم الإنسان أنفسهم على الأقل. لقد اعتقدوا بيقين أن ما وصلت إليه الحضارة الحالية من ذروة هي الأكثر براعة على الإطلاق، وأن أفضل ما فيها لم يأت بعد، وأن معرفتها العلمية الفريدة ستكتشف كيفية الحفاظ على عقلية السلالة من تكرار التدهور.
لا شك بأن الوضع الحالي الذي قد وصل إليه النوع كان استثنائيا؛ فلم يذكر أن العلم أو الميكنة قد تقدما إلى مثل هذه الدرجة في أي من الدورات السابقة. إن ما يمكن استنتاجه من الأطلال المبعثرة للدورة السابقة أن الاختراعات الميكانيكية لم تتجاوز قط تلك الميكنة البدائية التي عرفناها نحن في منتصف القرن التاسع عشر. أما الدورات الأسبق، فقد كان من المعتقد أن ثوراتها الصناعية قد توقفت عند مراحل أكثر بدائية.
والآن، فبالرغم من أن الدوائر الفكرية كانت تفترض بصفة عامة أن الأفضل لم يأت بعد، فقد كان بفالتو وأصدقاؤه مقتنعين بأن أوج الموجة قد حدث بالفعل قبل قرون عديدة. كانت الغالبية العظمى من البشر الآخرين ترى بالطبع أن العقد السابق على الحرب هو الأفضل والأكثر تحضرا من أي عصر مضى؛ فقد كانوا يرون أن الحضارة والميكنة هما الشيء نفسه، ولم تحدث مثل هذه الدرجة من التفوق في الميكنة من قبل. كانت مزايا الحضارة العلمية جلية واضحة. لقد نالت الطبقة المحظوظة قدرا أكبر من الراحة، ونعمت بصحة أفضل، ومكانة أرفع، وفترة أطول من الشباب، ونظام شاسع ومعقد من المعرفة التقنية لا يستطيع أي فرد أن يعرف منه سوى الصورة العامة أو جزء ضئيل للغاية من تفاصيله. وعلاوة على ذلك، فزيادة وسائل الاتصال قد جعلت البشر جميعا على اتصال. كانت الخصائص المحلية للجماعات تختفي قبل الإذاعة والسينما والجراموفون. ومقارنة بهذه العلامات المبشرة، كان من السهل إغفال حقيقة أنه بالرغم من أن تحسين الظروف قد عزز من البنية البشرية، فإنه قد جعل جوهرها أقل استقرارا مما كان عليه في السابق؛ فقد كانت بعض الأمراض التحللية تزداد ببطء لكن على نحو أكيد. أمراض الجهاز العصبي على وجه التحديد قد أصبحت أكثر انتشارا وأكثر فتكا. كان الساخرون يقولون إن أعداد المستشفيات العقلية ستتخطى أعداد الكنائس، لكن الساخرين هم محض مهرجين. وقد كان العالم بأكمله يتفق تقريبا على أن كل شيء قد أصبح على ما يرام الآن، بالرغم من الحروب والمشكلات الاقتصادية والثورات الاجتماعية، وأن المستقبل سيكون أفضل.
قال بفالتو: إن الحقيقة كانت على العكس من ذلك بالتأكيد. فمثلما قد ارتبت، كان ثمة دليل قاطع على أن معدل الذكاء والنزاهة الأخلاقية قد تراجع على مستوى العالم، وسوف يستمر هذا التراجع على الأرجح. كانت السلالة تعيش على ماضيها بالفعل. فجميع الأفكار البارزة العظيمة في العالم المعاصر قد تولدت قبل قرون. ومنذ ذلك الوقت، خضعت هذه الأفكار لاستخدامات قد غيرت من شكل العالم بالتأكيد، غير أن أيا من هذه الاختراعات المثيرة لم يتأسس على النوع الصارم من التغلغل في مسار الأفكار بأكمله في عصر سابق. أقر بفالتو أنه كان هناك مؤخرا فيض من الاكتشافات والنظريات العلمية الثورية، لكنه قال إن أيا منها لم يكن يتضمن أي مبادئ جديدة في حقيقة الأمر. كانت جميعها توليفات معادة من المبادئ المعروفة. لقد كانت المنهجية العلمية التي اخترعت قبل عدة قرون وسيلة خصبة للغاية حتى إنها قد تستمر في إنتاج ثمار خصبة على مدار قرون في المستقبل حتى وإن كان ذلك على يد أفراد يفتقرون إلى القدرة على أي درجة عالية من الأصالة.
غير أن تدهور المقدرة العقلية لم يكن جليا في مجال العلوم بقدر ما كان جليا في النشاط الأخلاقي والعملي. أنا نفسي قد تعلمت بمساعدة بفالتو أن أتذوق بدرجة ما، أدب تلك الفترة الرائعة التي وقعت قبل عدة قرون، حين بدا أن البلاد جميعها تزدهر بالفن والفلسفة والدين، وحين قام شعب تلو الآخر بتغيير نظامه الاجتماعي والسياسي بأكمله من أجل توفير قدر من الحرية والرخاء يتمتع به جميع أفراده، وحين قامت الدولة تلو الدولة بنزع السلاح بشجاعة مخاطرة بالدمار لكنها قد جنت السلام والرخاء، وحين حلت قوات الشرطة، وتحولت السجون إلى مكتبات أو كليات، وحين أصبحت الأسلحة وحتى الأقفال والمفاتيح محض قطع تعرض في المتاحف، وحين كشفت جماعات الكهنوت الأربع العظيمة والراسخة عن أسرارها للعالم وأعطت ثروتها للفقراء وقادت الحملة المنتصرة للمجتمع أو تبنت الزراعة أو الحرف اليدوية أو التدريس، حسبما لاءم المؤيدين المتواضعين لدين المجتمع العالمي الجديد الذي لم يعرف رجال دين ولا إيمانا ولا إلها، وكذلك عبادته الصامتة. وبعد ما يقرب من خمسمائة عام، بدأت الأقفال والمفاتيح والأسلحة والمذاهب في العودة. لم يخلف العصر الذهبي سوى تقليد جميل ومذهل، ومجموعة من المبادئ التي بالرغم من إساءة فهمها الآن مع الأسف، ظلت هي أفضل القوى المؤثرة في عالم مضطرب.
أكد العلماء الذين عزوا السبب في التدهور العقلي إلى زيادة الأشعة الكونية أنه إذا كانت السلالة قد اكتشفت العلم قبل قرون عدة حين كان لا يزال أمامها فترة الحيوية العظيمة، لأصبح كل شيء على ما يرام. سرعان ما كانت ستتمكن من حل المشكلات الاجتماعية التي تنطوي عليها الحضارة الصناعية. لم تكن ستخلق عالما طوباويا ينتمي إلى «العصور الوسطى» بل يمتاز بالنزعة الآلية المتقدمة. وكانت ستكتشف على الأرجح طريقة للتكيف مع الزيادة في الأشعة الكونية وتحول دون التدهور، لكن العلم قد أتى متأخرا للغاية. أما بفالتو، على الجانب الآخر، فقد كان يخمن أن التدهور يعود إلى عامل في الطبيعة البشرية ذاتها. كان ينزع إلى الاعتقاد بأنه أحد عواقب الحضارة، وأن العلم في تغييره لبيئة النوع البشري بأكملها، إلى الأفضل على ما يبدو، قد جلب عن غير قصد أوضاعا معادية للنشاط الروحاني. لم يبد أنه يعرف ما إذا كان سبب الكارثة هو زيادة الأغذية الصناعية، أم زيادة الضغط العصبي في الأجواء الحديثة، أم التدخل في الانتقاء الطبيعي، أم التربية الأرق التي يتلقاها الأطفال أم سبب آخر. ربما ينبغي ألا نعزوه إلى أي من هذه التأثيرات الحديثة بعض الشيء؛ إذ أشارت الأدلة إلى أن التدهور قد بدأ منذ بداية عصر العلم، إن لم يكن قبل ذلك. ربما يكون ثمة عامل مجهول في أوضاع العصر الذهبي نفسه هو الذي قد بدأ الفساد. وقد اقترح بفالتو أيضا أنه من الممكن أن يكون الاتحاد الأصيل نفسه هو ما أنتج سمه الخاص؛ أن شباب البشر الذين نشئوا في مجتمع مثالي، في إحدى «مدن الإله» على الأرض بحق، لا بد أن يثوروا في نهاية المطاف على الكسل الأخلاقي والفكري، وعلى التفرد الرومانسي والشر المطلق، وأنه فور تجذر هذه النزعة، عزز العلم والحضارة الآلية من التدهور الروحاني.
قبل أن أغادر الأرض الأخرى بفترة قصيرة، اكتشف أحد علماء الجيولوجيا حفرية مخطط لجهاز راديو معقد للغاية. بدا أن المخطط طبع على لوح حجري قد صنع قبل ما يقرب من عشرة ملايين عام. ولم يترك المجتمع المتقدم الذي صنعه أي أثر آخر. كان هذا الاكتشاف صادما للعالم الذكي، غير أن الرأي المطمئن قد انتشر بأن نوعا غير بشري وأقل تحملا قد نال قبل فترة طويلة ومضة من الحضارة. وقد جرى الاتفاق على أن الإنسان لن يسقط أبدا عن هذه القمة من الثقافة فور أن وصل إليها.
أما بفالتو فقد كان يرى أن الإنسان كان يتسلق إلى الارتفاع نفسه تقريبا من وقت إلى آخر، ليسقط عنه مرة أخرى بفعل نتيجة غامضة لإنجازاته.
حين اقترح بفالتو هذه النظرية بين أطلال مدينتنا الأصلية، اقترحت أن الإنسان سيجتاز هذه النقطة الحرجة من مسيرته ذات مرة حتى وإن لم تكن هذه المرة. حينها تحدث بفالتو بشأن أمر آخر بدا أنه يدل على أننا نشهد الفصل الأخير من هذه المسرحية المتكررة الطويلة الأمد . لقد كان العلماء يعرفون أنه بسبب قوة الجاذبية الضعيفة في عالمهم، كان الغلاف الجوي الخفيف بالفعل يتلاشى بصورة مستمرة. وعاجلا أو آجلا، سيكون على البشرية أن تواجه مشكلة إيقاف التسرب المستمر للأكسجين الثمين. لقد تكيفت البشرية حتى الآن بنجاح مع قلة كثافة الغلاف الجوي المستمرة، غير أن البنية البشرية قد بلغت الحد الأقصى من القدرة على التكيف في هذا الصدد. وإذا لم تعوض الخسارة قريبا، فسوف تتداعى السلالة لا محالة. كان الأمل الوحيد أن يتم اكتشاف وسيلة ما للتعامل مع مشكلة الغلاف الجوي قبل بداية العصر التالي من الهمجية. كانت احتمالية تحقيق ذلك ضئيلة للغاية، وقد دمرت الحرب هذا الأمل الضئيل؛ إذ أعادت عقارب ساعة البحث العلمي بمقدار قرن إلى الوراء حين كانت الطبيعة البشرية هي ذاتها تتدهور وقد لا تتمكن أبدا من معالجة مشكلة بهذه الصعوبة.
ألقت بي فكرة الكارثة التي كانت تقبع على نحو شبه مؤكد في انتظار البشر الآخرين في رعب من الشك بشأن الكون الذي يمكن أن يحدث فيه شيء كهذا. إن دمار عالم بأكمله من الكائنات الذكية لم يكن بالفكرة الغريبة بالنسبة إلي، غير أن ثمة فارقا كبيرا بين احتمالية مجردة وخطر ملموس لا مهرب منه. كنت إذا شعرت بالفزع من المعاناة وتفاهة الأفراد على كوكبي الأصلي، تعزيت بفكرة أن التأثير الجماعي لمساعينا العمياء كلها على الأقل لا بد أن يكون هو الصحوة البطيئة للروح البشرية لكنها ستكون صحوة مجيدة. هذا الأمل، هذا اليقين، كان هو التعزية الوحيدة الأكيدة. أما الآن، فقد رأيت أنه ما من ضمان على أي انتصار كهذا. لقد بدا من المؤكد أن الكون، أو صانع الكون، لا يبالي بمصير العوالم. إن وجود النضال والمعاناة والضياع على نحو لا نهائي، هو أمر يقبل بكل تأكيد وسرور؛ فتلك هي التربة التي تنمو فيها الروح. أما أن يكون كل هذا النضال في نهاية الأمر محض عبث، أن يهوي عالم بأكمله من الأرواح الحساسة ويموت، فذلك شر مطلق. وأنا في حالة الهلع هذه، بدا لي أن «الكراهية» هي بلا شك «صانع النجوم».
غير أن بفالتو لم يكن يرى الأمر كذلك. لقد قال: «حتى إذا دمرتنا القوى، فمن نحن حتى ندينها؟ إذن يكون للكلمة العابرة أن تحكم على المتحدث الذي يصيغها. ربما تستخدمنا القوى لغاياتها العليا، ربما تستخدم قوتنا وضعفنا وفرحنا وألمنا لهدف لا يمكننا أن نتصوره لكنه ممتاز.» غير أنني اعترضت على ذلك قائلا: «أي هدف قد يبرر مثل هذا الخراب والعبث؟ وكيف يسعنا ألا نصدر الأحكام؟ وكيف نصدر الأحكام إن لم نصدرها بناء على قلوبنا والتي نحكم بها على أنفسنا؟ سيكون من الوضاعة أن نثني على صانع النجوم بعد معرفتنا بأنه كان عديم الإحساس حتى إنه لم يهتم بشأن مصير عوالمه.» صمت بفالتو في عقله للحظة، ثم نظر إلى الأعلى وأخذ يبحث بين غيوم الدخان عن نجمة نهارية. بعد ذلك حدثني في عقله قائلا: «إذا كان قد أنقذ العوالم كلها وعذب إنسانا واحدا، فهل كنت لتسامحه؟ أو إذا كان قاسيا بعض الشيء فقط على طفل واحد غبي؟ ما علاقة ألمنا أو فشلنا به؟ صانع النجوم! إنه اسم جيد بالرغم من أننا لا يمكننا أن نفهم معناه. يا صانع النجوم حتى إن دمرتني، فلا بد لي أن أمجدك، وحتى إذا عذبت أغلى أحبائي. وحتى إذا عذبت عوالمك الجميلة بأكملها ودمرتها، تلك اللمحات الصغيرة التي من نسج خيالك، فلا بد لي أن أمجدك؛ إذ إن جاء هذا منك، فلا بد أن يكون صوابا. أما إن جاء مني فسيكون خطأ، لكنه منك سيكون صوابا.»
نظر مرة أخرى إلى الأسفل حيث المدينة المدمرة ثم تابع: «حتى إذا لم يكن هناك صانع نجوم بالرغم من كل شيء، وإذا كانت تلك المجموعة الهائلة من المجرات قد انبثقت إلى الوجود من تلقاء نفسها، وحتى إذا كان هذا العالم الضئيل البغيض الذي نسكنه هو الموطن الوحيد للروح فيما بين النجوم وكان محكوما بالخراب، في تلك الحالات وغيرها، فلا بد لي أن أمجد، لكن إذا لم يكن هناك من صانع نجوم، فماذا أمجد ؟ لا أدري. سأصفه فقط بأنه نكهة ومذاق الوجود البارز، غير أن وصفه بذلك هو وصف موجز للغاية.»
الفصل الرابع
السفر مجددا
لا بد أنني قد قضيت عدة سنوات على الأرض الأخرى، وهي فترة أطول بكثير مما انتويت أن أقضيه هناك حين التقيت أول مرة بأحد فلاحيها يمشي عبر الحقول. كثيرا ما كنت أتوق إلى العودة إلى البيت مجددا. كنت أتساءل بقلق مؤلم عن أحبائي كيف يكونون، وأي تغيرات سأكتشفها إن كان لي أن أعود على الإطلاق. كان من المفاجئ لي أن تظل الأفكار المتعلقة بالبيت بهذا القدر الكبير من الإلحاح بالرغم مما عاينته على الأرض الأخرى من خبرات جديدة وكثيرة. لقد بدا الوقت كلحظة منذ أن كنت جالسا على التل أنظر إلى أضواء ضاحيتنا. بالرغم من ذلك، فقد مرت عدة سنوات. سيكون الأطفال قد تغيروا بدرجة يتعذر معها التعرف عليهم. ماذا عن أمهم؟ كيف تكون قد جرت بها الأمور؟
كان بفالتو مسئولا بصفة جزئية عن مكوثي الطويل على الأرض الأخرى؛ فهو لم يكن ليسمح بمغادرتي إلى أن يفهم كلانا عالم الآخر فهما حقيقيا. كنت أحفز خياله باستمرار كي يتصور الحياة على كوكبي بأكبر قدر ممكن من الوضوح، وقد اكتشف فيه المزيج نفسه من الروعة والهزلية، الذي اكتشفته في عالمه. والحق أنه كان بعيدا عن الاتفاق معي في أن عالمه هو الأكثر تنفيرا في المجمل.
لم تكن الدعوة إلى الكشف عن المعلومات هي الاعتبار الوحيد الذي يربطني ببفالتو. لقد أصبحت أشعر نحوه بصداقة قوية للغاية. في الأيام الأولى من شراكتنا، كانت هناك بعض المتاعب أحيانا؛ فبالرغم من أن كلانا كان كائنا بشريا متحضرا يحاول دائما أن يتصرف بكياسة وكرم، فقد كانت علاقتنا الحميمية المفرطة تجهدنا في بعض الأحيان. كنت أنا على سبيل المثال أجد شغفه بفن التذوق الرفيع الخاص بعالمه مرهقا للغاية. لقد كان يجلس باستمرار ليمرر أصابعه الحساسة على الأحبال المتشبعة كي يشعر بالمذاق الذي كان يمثل لديه تلك البراعة العظيمة في الشكل والرمزية. شعرت بالفضول في بداية الأمر، ثم تأثرت بالناحية الجمالية، لكن بالرغم من مساعدته الصبورة لم أتمكن قط في تلك المرحلة المبكرة من أن أندمج بصورة كلية وتلقائية في جماليات المذاق. وعاجلا أم آجلا، كنت أشعر بالإرهاق أو الضجر. ثم إن صبري كان ينفد بسبب حاجته الدورية إلى النوم؛ فأنا عن نفسي لم أعد أشعر بتلك الحاجة منذ أن خرجت عن جسدي. كنت أستطيع بالطبع أن أنفصل عن بفالتو وأجول العالم بمفردي، لكنني كثيرا ما كنت أستاء من ضرورة الانفصال عن تجارب العالم المثيرة لمجرد توفير الوقت الذي يتطلبه جسد مضيفي للتعافي. أما بفالتو، من جانبه، كان يمتعض في الأيام الأولى من شراكتنا على الأقل، من قدرتي على مشاهدة أحلامه؛ إذ كان يستطيع في أثناء صحوه أن ينحي أفكاره عن ملاحظتي، أما في نومه فقد كان عاجزا عن ذلك. سرعان ما تعلمت تلقائيا أن أمتنع عن ممارسة هذه القوة، وحين تطورت علاقتنا الحميمية إلى احترام متبادل، لم يعد يعتز بهذه الخصوصية بشدة. وبمرور الوقت، أصبح كلانا يشعر أن تذوق نكهة الحياة بمعزل عن الآخر يعني أن يفقد نصف ما فيها من ثراء وحذق. لم يكن أحدنا يثق بحكمه أو دوافعه بصورة كلية إلا أن يكون الآخر حاضرا ليقدم نقدا لا يعرف الهوادة وإن كان وديا.
توصلنا إلى خطة ترضي صداقتنا واهتمامه بعالمي وتوقي إلى البيت في الوقت ذاته. لم لا نحاول بطريقة ما أن نزور كوكبي معا؟ لقد سافرت من هناك، فلماذا لا نسافر إليه معا؟ وبعد فترة نقضيها على كوكبي، يمكننا أن نتابع مغامرتنا الأكبر معا من جديد.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، كان علينا أن ننفذ مهمتين مختلفتين تماما. تقنية السفر بين النجوم، والتي لم أتمكن أنا منها إلا بالصدفة وبصورة عشوائية، يجب أن نتقنها الآن تماما. ويجب أيضا بطريقة ما أن نحدد موقع النظام الكوكبي الذي أنتمي إليه على الخرائط الفلكية التي وضعها البشر الآخرون.
وقد ثبت أن هذه المشكلة الجغرافية، أو بالأحرى الفلكية، لا يمكن حلها. فمهما فعلت، لم أستطع أن أتوصل إلى بيانات بشأن التوجيه. بالرغم من ذلك، فقد قادتنا المحاولة إلى اكتشاف مذهل، ومخيف بالنسبة إلي، وهو أنني لم أسافر عبر المكان فحسب، بل عبر الزمن نفسه. في المقام الأول، بدا في المعرفة الفلكية الفائقة التقدم لدى البشر الآخرين أن النجوم التي تبلغ درجة النضج التي تبلغها شمسنا وشمس البشر الآخرين كانت نادرة. غير أن المعرفة الفلكية الأرضية كانت توضح أن هذا النوع من النجوم هو الأكثر انتشارا على امتداد المجرة. فكيف يكون هذا ممكنا؟ بعد ذلك توصلت إلى اكتشاف آخر محير؛ لقد ثبت لدى علماء فلك الأرض الأخرى أن المجرة تختلف اختلافا صارخا عما أتذكره عنها من وصف علماء الفلك الأرضيين لها. وفقا للبشر الآخرين، كان النظام الشمسي أقل فلطحة بكثير مما نراه. بينما يخبرنا علماء الفلك الأرضيون أنه يشبه قطعة بسكويت دائرية يبلغ عرضها خمسة أضعاف سمكها، يرى علماء فلك الأرض الأخرى أنها أشبه بكعكة. أنا نفسي كثيرا ما كنت أتعجب من عرض درب التبانة في سماء الأرض الأخرى ولا نهائيته. وقد أدهشني أيضا أن علماء فلك الأرض الأخرى كانوا يعتقدون أن المجرة تحتوي على قدر كبير من المادة الغازية التي لم تتكثف بعد على هيئة نجوم. أما علماء الفلك الأرضيون، فقد كانوا يرون أن النجوم هي التي تمثل القدر الأكبر منها.
أسافرت حينئذ عن غير قصد إلى مكان أبعد كثيرا عما كان يفترض بي ودخلت إلى مجرة مختلفة وأحدث؟ ربما في فترة الظلام حين اختفت أحجار جمشت السماء وياقوتاتها وماساتها، زادت سرعتي وسافرت في الفضاء بين المجرات. في بداية الأمر، بدا أن ذلك هو التفسير الوحيد، غير أن حقائق معينة قد أجبرتنا على استبعاده لصالح تفسير أكثر غرابة.
أقنعتني المقارنة بين علم الفلك لدى البشر الآخرين وبين ذكرياتي المشتتة عن علم الفلك الأرضي أن كون المجرات الكامل الذي عرفوه كان يختلف عن كون المجرات الكامل الذي عرفناه. لقد كان الشكل المعتاد للمجرات أكثر استدارة وأكثر امتلاء بالغازات بدرجة كبيرة؛ لقد كان في واقع الأمر أكثر بدائية مما هي الحال لدينا بدرجة كبيرة.
إضافة إلى ذلك، بدا العديد من المجرات في سماء الأرض الأخرى قريبا للغاية، حتى إن تلك المجرات كانت تبدو بقعا واضحة من الضوء حتى للعين المجردة. وقد أوضح علماء الفلك أن العديد مما يطلق عليها «الأكوان» كان أقرب إلى «الكون» الأم بدرجة أكبر كثيرا من أقرب كون معروف في معرفتنا الفلكية.
كانت الحقيقة التي تجلت الآن لبفالتو ولي مربكة بلا شك. كان كل شيء يشير إلى حقيقة أنني سافرت باتجاه منبع نهر الزمن ورسوت بنفسي في تاريخ بالماضي السحيق حين كانت الغالبية العظمى من النجوم ما تزال صغيرة السن. ويمكن تفسير القرب الشديد بين العديد من المجرات في المعرفة الفلكية لدى البشر الآخرين من خلال نظرية «تمدد الكون». لقد كنت أعرف جيدا أن هذه النظرية الجذرية ليست سوى نظرية مبدئية وغير مرضية على الإطلاق، لكن هنا على الأقل يكمن دليل آخر واضح يقترح أنها لا بد أن تكون صحيحة من ناحية ما. في الحقب المبكرة، كانت المجرات متكدسة معا بالطبع. لم يكن هناك من شك أنني نقلت إلى عالم قد وصل إلى مرحلة البشرية قبل أن يخرج كوكبي الأصلي من رحم الشمس بفترة طويلة جدا.
ذكرني إدراكي الكامل لبعدي الزمني عن بيتي بحقيقة، أو احتمالية على الأقل، من الغريب أنني كنت قد نسيتها من فترة طويلة. من المحتمل أنني كنت ميتا. وقد كنت أتوق الآن بشدة إلى العودة إلى البيت. كان البيت في هذه الأثناء واضحا للغاية وقريبا للغاية، وبالرغم من أن المسافة إليه كانت ستحسب بالفراسخ النجمية ومليارات السنين، كان قريبا على الدوام. من المؤكد أنني إذا استيقظت فقط، فسوف أجد نفسي هناك على قمة تلنا مجددا، غير أنني لم أستيقظ. عبر عيني بفالتو، كنت أدرس خرائط النجوم وصفحات من نص غريب. حين نظر إلى أعلى، رأيت أمامنا، رسما هزليا لكائن بشري له وجه يشبه الضفدع، لم يكن يشبه الوجه إلا من بعيد، وصدر كصدر الحمام الهزاز، وكان عاريا إلا من زغب يميل لونه إلى الخضرة. ثمة سروال قصير حريري أحمر كان يغطي الساقين المغزليتين، واللتين كانتا مطوقتين بجورب حريري أخضر. هذا الكائن الذي لا تراه العين الأرضية إلا وحشا، كان في الأرض الأخرى امرأة شابة جميلة. أنا نفسي حين رأيتها عبر عيني بفالتو اللطيفتين، رأيت أنها جميلة بالفعل. بالنسبة إلى عقل قد تعود على الأرض الأخرى، كانت ملامحها وجميع إيماءاتها توحي بالذكاء والبديهة. من الجلي أنني إذا استطعت أن أشعر بالإعجاب تجاه امرأة مثلها، فلا بد أنني نفسي قد تغيرت.
سيكون من المضجر أن أذكر التجارب التي تمكنا من خلالها أن نتعلم ونتقن فن التحكم بالطيران في الفضاء ما بين النجوم. يكفي القول إننا قد تعلمنا بعد مغامرات عديدة أن نحلق من الكوكب متى أردنا، وأن نوجه مسارنا بالاستعانة بإرادتنا فحسب في كل حدب وصوب بين النجوم. بدا أننا حين نعمل معا نتمتع بالسهولة والدقة بدرجة أكبر كثيرا عما كان أي منا يتمتع بهما حين ينطلق في الفضاء بمفرده. بدا أن رفقة عقلينا تعزز من قوانا حتى في التنقل المكاني.
لقد كانت تجربة غريبة للغاية أن يجد المرء نفسه في أعماق الفضاء لا يحيط به سوى الظلام والنجوم، ويظل بالرغم من ذلك على تواصل شخصي حميم مع رفيق غير مرئي. بينما كانت مصابيح السماء البراقة تومض خلفنا، كان أحدنا يفكر للآخر بشأن خبراتنا أو نتناقش بشأن خططنا أو يشارك كل منا بذكرياته عن عالمه الأصلي. كنا نستخدم لغتي أحيانا ولغته في أحيان أخرى. وأحيانا لم نكن نحتاج إلى كلمات على الإطلاق، بل كنا فقط نتشارك تدفق الصور في عقلينا.
لا بد أن هذه الرياضة المتمثلة في الطيران بلا جسد هي الأكثر إثارة على الإطلاق من بين جميع الرياضات. صحيح أنها لم تكن تخلو من الخطر، لكننا سرعان ما اكتشفنا أن خطرها نفسي لا مادي. ففي حالتنا غير المادية، لم يكن التصادم بالأجسام السماوية يهم إلا قليلا. أحيانا في المراحل المبكرة من مغامرتنا، كنا نسقط عن غير قصد في أحد النجوم، ويكون داخله ساخنا بدرجة لا يمكن تصورها بالتأكيد، غير أننا لم نكن نختبر إلا السطوع.
أما الأخطار النفسية لهذه الرياضة، فقد كانت خطيرة؛ فسرعان ما اكتشفنا أن الإحباط والإرهاق الذهني والخوف، كلها من الأمور التي تقلل من قوانا المتعلقة بالحركة. لقد وجدنا أنفسنا غير مرة في الفضاء لا نستطيع حراكا كسفينة مهجورة في المحيط، وقد كان الخوف الذي أثاره فينا هذا المأزق كبيرا حتى إنه لم تكن هناك من إمكانية للتحرك إلى أن اختبرنا نطاق اليأس بأكمله، ثم عبرنا إلى اللامبالاة ومنها إلى الهدوء ورباطة الجأش.
كان ثمة خطر أشد من ذلك، غير أنه لم يحق بنا إلا مرة واحدة، وهو الخلاف العقلي. لقد حدث بيننا نزاع حاد بشأن الهدف من خططنا المستقبلية، ولم يفض بنا إلى عدم القدرة على الحركة فحسب، بل إلى اضطراب عقلي مروع. لقد أصبحت حواسنا مشوشة، وضللتنا الهلاوس. وتلاشت لدينا القدرة على التفكير المترابط. وبعد نوبة من الهذيان قد امتلأت بشعور غامر بالفناء الوشيك، وجدنا أنفسنا على الأرض الأخرى مجددا؛ بفالتو في جسده مستلقيا على سريره مثلما غادره، ومن جديد كنت أنا وعيا بلا جسد أحوم في مكان ما فوق سطح الكوكب. كان كلانا في حالة من الرعب الجنوني الذي قد استغرقنا وقتا طويلا للتعافي منها. ومرت شهور قبل أن نجدد شراكتنا ومغامرتنا.
عرفنا تفسير هذه الحادثة المؤلمة بعد ذلك بفترة طويلة. يبدو أننا قد بلغنا درجة عميقة من التوافق العقلي بحيث عندما نشأ النزاع كان الأمر يشبه بالانفصال في عقل واحد، أكثر مما يشبه الخلاف بين فردين منفصلين. ومن هنا، أتت العواقب الخطيرة للأمر.
حين زادت مهارتنا في الطيران بلا جسد، وجدنا متعة كبيرة في الانزلاق هنا وهناك بين النجوم. تذوقنا متع التزلج والطيران في الوقت ذاته. ومن أجل المرح فحسب، رحنا نقوم مرة تلو الأخرى بتتبع أشكال ضخمة على هيئة العدد ثمانية باللغة الإنجليزية حول الشريكين اللذين يشكلان «نجما مزدوجا». كنا نظل بلا حراك لفترات طويلة في بعض الأحيان لكي نشاهد عن قرب تزايد أحد النجوم المتغيرة ونقصانه. وكثيرا ما كنا ننغمس في عنقود مزدحم ونمر بين شموسه كسيارة تنساب بين أضواء المدينة. وكثيرا ما كنا نتقافز على أسطح متموجة خافتة اللمعان من الغاز، أو بين نتف ونتوءات خفيفة، أو ننغمس في الضباب لنجد أنفسنا في عالم من ضوء الفجر الخالي من أي معالم. أحيانا كانت قارات الغبار المظلمة تبتلعنا دون إنذار؛ فتحجب عنا الكون. وذات مرة، بينما كنا نجتاز منطقة مزدحمة في السماء، توهج أحد النجوم إلى لمعان فائق متحولا إلى «نجم مستعر». ولأنه كان محاطا على ما يبدو بسحابة من الغاز غير المضيء، فقد رأينا بالفعل دائرة الضوء المتسعة التي أشعت نتيجة لانفجار النجم. وإذ كنا نتحرك بالخارج بسرعة الضوء، فقد ظهر بفعل انعكاس الضوء من الغاز المحيط؛ بحيث بدا كبالون منتفخ من الضوء يخبو مع انتشاره.
لم تكن تلك سوى بضعة من مشاهد النجوم التي أبهجتنا بينما كنا نتزلج هنا وهناك بين جيران «الشمس الأخرى» بسلاسة وكأننا على جناحي طائر. كان ذلك خلال فترة تدربنا على مجال الطيران بين النجوم. وحين أصبحنا بارعين فيه، وصلنا لما هو أبعد من ذلك، وتعلمنا أن نسافر بسرعة كبيرة للغاية حتى إن النجوم الأمامية والخلفية قد تلونت مثلما كانت الحال في طيراني اللاإرادي في وقت سابق، ثم ساد الظلام بعد فترة قصيرة. ليس ذلك فحسب، بل إننا قد بلغنا أيضا تلك المرحلة من الرؤية الروحانية والتي اختبرتها أيضا في رحلتي السابقة، والتي يمكن التغلب من خلالها على تقلبات الضوء المادي.
قادنا طيراننا في إحدى المرات إلى الخارج حيث حدود المجرة وإلى الفراغ فيما وراءها. كانت النجوم القريبة تصبح لبعض الوقت أقل فأقل. كان نصف الكرة الخلفي من السماء قد أصبح الآن مكتظا بأضواء خافتة، أما أمامنا فقد امتد السواد خاليا من النجوم لا يقطعه سوى عدد قليل من بقع الضوء المنعزلة؛ شذرات قليلة منفصلة من المجرة، أو «المجرات الفرعية» من الكواكب. وبخلاف هذه البقع، كان الظلام تاما خلا نصف درزينة من البقع الباهتة التي كنا نعرف أنها أقرب المجرات الغريبة.
ظللنا ساكنين لفترة طويلة في الفراغ منبهرين بالمشهد. لقد كانت تجربة مؤثرة بلا شك أن نرى «كونا» بأكمله يمتد أمامنا ويحتوي على مليار نجم وربما الآلاف من العوالم المأهولة؛ وأن نعرف أن كل بقعة ضئيلة في السماء السوداء كانت هي نفسها «كونا» من هذا النوع، وأنه لا يزال هناك منها الملايين التي لا تظهر فقط بسبب بعدها الشديد.
أي أهمية كانت تمثلها هذه الضخامة والتعقيد الماديان؟ في نفسها، لم تكن تمثل في الظاهر شيئا سوى العبث والانعزال، لكننا قد قلنا لأنفسنا، متأثرين بالرهبة والأمل، إنها تعد بدرجة أكبر من التعقيد والحذق والتنوع في العالم المادي. كان ذلك وحده يكفي مبررا، غير أن هذا الوعد المذهل كان مرعبا أيضا بالرغم مما كان يثيره في النفس من إلهام.
كفرخ يتطلع ببصره من فوق حافة العش للمرة الأولى، ثم يعود إلى عشه الصغير مرة أخرى مختبئا من العالم الكبير، انبثقنا من وراء حدود ذلك العش الصغير من النجوم والذي ظل البشر يعرفونه على نحو خاطئ لفترة طويلة على أنه «الكون». والآن قد عدنا لندفن أنفسنا مرة أخرى في حدود مجرتنا الأصلية المريحة.
لما أثارت تجاربنا العديد من المشكلات النظرية التي لم نستطع حلها دون دراسة أكثر توسعا لعلم الفلك، قررنا أن نعود إلى الأرض الأخرى، لكن بعد بحث طويل وعقيم أدركنا أننا قد ضللنا موقعنا تماما. كانت النجوم كلها متشابهة بدرجة كبيرة فيما عدا أن القليل منها في هذه الحقبة المبكرة كانت قديمة ومعتدلة مثل الشمس الأخرى. وفي بحثنا الذي كنا نجريه بصورة عشوائية وبسرعة كبيرة للغاية، لم نجد كوكب بفالتو ولا كوكبي، ولا أي نظام شمسي آخر. محبطين، توقفنا مرة أخرى في الفضاء لنفكر في مأزقنا. في كل جانب، واجهنا سواد السماء الأبنوسي المرقط بالماسات بلغز كبير. أي شرارة من غبار النجوم هذا كله هو الشمس الأخرى؟ ومثلما هو المعتاد في سماء هذه الحقبة المبكرة، كانت خطوط من المادة السديمية ترى في جميع الاتجاهات، غير أن أشكالها كانت غير مألوفة ولم تجد نفعا في التوجيه.
لم يقلقنا أننا ضللنا طريقنا بين النجوم. كنا في غاية الابتهاج بمغامرتنا، وكان كل منا سببا لرفع الروح المعنوية لدى الآخر. فخبراتنا الحديثة قد أسرعت من حياتنا العقلية وزادت من تنظيم عقلينا معا. كان كل منا لا يزال يشعر بالآخر وبنفسه على أنهما كائنان منفصلان في معظم الأحيان، غير أن الجمع بين ذكرياتنا وطباعنا أو الدمج بينها، قد بلغ الآن درجة كبيرة، حتى إننا كثيرا ما كنا نغفل عن تبايننا. فعقلان بلا جسد يشغلان الموقع البصري نفسه، ويمتلكان الذكريات والرغبات نفسها، وكثيرا ما يقومان بالأفعال العقلية نفسها في الوقت نفسه، قلما يمكن تصور أنهما كائنان منفصلان. بالرغم من ذلك، فمن الغريب أيضا أن هذه الهوية النامية قد أصبحت على درجة من التعقيد بسبب التفاهم المتبادل والصحبة اللذين يزدادان شدة باستمرار.
إن اختراق أحدنا لعقل الآخر لم يزد من ثرائنا العقلي فحسب، بل ضاعفه؛ إذ إن الواحد منا لم يكن يعرف باطنه وباطن الآخر فحسب، بل كان يعرف أيضا التناغم الطباقي لدى كل منهما وعلاقته بالآخر. وبطريقة ما لا أستطيع وصفها بدقة، قد نتج عن اتحاد عقلينا بالفعل عقل ثالث، وبالرغم من أنه كان متقطعا، فقد كان على مستوى غير ملحوظ أكثر وعيا من أي منا في حالته المعتادة. كل منا، بل كلانا، قد «استيقظ» الآن ليصبح هذه الروح الفائقة. جميع الخبرات التي مر بها كل منا، قد اتخذت دلالة جديدة في ضوء الآخر، وأصبح عقلانا معا عقلا جديدا أكثر تبصرا وأكثر وعيا بالذات. في هذه الحالة من الصفاء الشديد، بدأنا، أو بالأحرى بدأ «الأنا» الجديد، بتمعن في استكشاف الإمكانيات النفسية لأنواع أخرى من الكيانات والعوالم الذكية. ومع القدرة الجديدة على التبصر، اكتشفت في وفي بفالتو تلك السمات الجوهرية للروح والسمات العرضية التي فرضها العالم المميز لكل منا عليه. وسرعان ما أثبتت هذه المغامرة الخيالية أنها وسيلة فعالة للغاية للبحث الكوني.
لقد بدأنا ندرك الآن بوضوح أكبر حقيقة طالما ارتبنا فيها. في رحلتي السابقة بين النجوم والتي أحضرتني إلى الأرض الأخرى، كنت قد استخدمت عن غير قصد طريقتين مختلفتين للسفر، وهما طريقة الطيران بلا جسد عبر الفضاء، وطريقة سأطلق عليها اسم «الجذب المادي». وقد تمثلت الثانية في الإسقاط التخاطري للعقل على نحو مباشر في عالم غريب، قد يكون بعيدا في الزمان والمكان، لكنه «يتلاءم» ذهنيا مع عقل المستكشف في وقت مغامرته. ومن الجلي أن هذه الطريقة هي التي أدت الدور الأكبر بالفعل في توجيهي إلى الأرض الأخرى. إن التشابه البارز بين سلالتينا قد شكل «جذبا ماديا» قويا كان فعالا بدرجة تتفوق كثيرا على فعالية تجولي العشوائي بأكمله بين النجوم. وهذه الطريقة هي التي كنا نمارسها أنا وبفالتو ونتقنها.
لاحظنا الآن أننا لم نعد في وضع السكون بل ننجرف ببطء. وقد راودنا أيضا شعور غريب بأننا في واقع الأمر على مقربة ذهنية من نوع ما مع كائنات ذكية غير مرئية، بالرغم من أننا كنا في ظاهر الأمر معزولين في صحراء شاسعة من النجوم والسدم. وإذ ركزنا على هذا الشعور بالحضور، وجدنا أن سرعتنا في الانجراف تزداد، وأننا إذا حاولنا بقوة تغيير مساره عن عمد، كنا في نهاية المطاف نعود ثانية إلى الاتجاه الأصلي فور أن تتوقف جهودنا. وسرعان ما تحول انجرافنا إلى طيران سريع. ومرة أخرى، تحولت النجوم الأمامية إلى اللون البنفسجي، والخلفية إلى اللون الأحمر. ومرة أخرى، اختفت كلها.
في ظلمة وصمت مطبقين، تناقشنا بشأن وضعنا. من الجلي أننا كنا الآن نجتاز الفضاء بسرعة أكبر من سرعة الضوء نفسه. من المحتمل أيضا أننا كنا بطريقة غير مفهومة نجتاز الوقت. في الوقت نفسه، كان إحساسنا بالقرب من كائنات أخرى يشتد أكثر فأكثر، رغم أنه لم يقل إرباكا لنا. ومرة أخرى، ظهرت النجوم. وبالرغم من أنها راحت تسبح مرورا بنا كالشرار المتطاير، فقد كانت عديمة اللون وعادية. ثمة ضوء لامع كان يقع أمامنا مباشرة. تضخم، ثم صار ضياء وهاجا، ثم قرصا واضحا. وبمجهود من الإرادة، أبطأنا من سرعتنا، ثم درنا حول هذه الشمس بحذر، ورحنا نبحث هناك. ومما بعث فينا السرور أنها كانت مأهولة بالعديد من الحبات التي قد توجد بها حياة. مسترشدين بإحساسنا المبين بالحضور العقلي، اخترنا أحد هذه الكواكب، وهبطنا باتجاهه ببطء.
الفصل الخامس
عوالم لا حصر لها
(1) تعدد العوالم
كان الكوكب الذي هبطنا عليه الآن بعد سفرنا الطويل بين النجوم هو الأول من كواكب عديدة سنزورها. أقمنا في بعضها وفقا للتقويم المحلي بضعة أسابيع فقط وفي أخرى عدة سنين، ونحن نسكن معا في عقل أحد سكانها الأصليين. وحينما كان يأتي وقت الرحيل، كثيرا ما كان مضيفنا يرافقنا في مغامراتنا التالية. ومع مرورنا من عالم إلى عالم، ومع تراكم الخبرة فوق الخبرة كالطبقات الجيولوجية، بدا أن تلك الرحلة الغريبة بين العوالم تمتد إلى العديد من الحيوات. بالرغم من ذلك، كانت أفكارنا عن كوكبينا الأصليين دائما معنا. لا شك بأنني عن نفسي لم أقدر تلك الجوهرة الصغيرة المتمثلة في الاتحاد الشخصي والتي خلفتها؛ حق قدرها إلا بعد أن وجدت نفسي منفيا على هذه الحال. كان علي أن أفهم كل عالم على أفضل نحو ممكن بالاستناد إلى العالم البعيد الذي حدثت عليه حياتي، والأهم من ذلك، بمعيار تلك الحياة المشتركة التي صنعناها معا أنا وهي.
قبل أن أحاول وصف، أو بالأحرى استرجاع، التنوع الهائل للعوالم التي دخلتها، يجب أن أذكر بضع كلمات عن حركة المغامرة نفسها. بعد التجارب التي سجلتها للتو، كان من الجلي أن طريقة الطيران بلا جسد لم تكن ذات فائدة كبيرة. لا شك بأنها قد أتاحت لنا إدراك المعالم المرئية في مجرتنا على نحو فائق الوضوح، وقد استخدمناها كثيرا في توجيه أنفسنا حين كنا نتوصل إلى اكتشاف جديد عن طريق الجذب النفسي. بالرغم من ذلك، فلما كانت لا تمنحنا سوى حرية التنقل في المكان دون الزمان، ولما كانت الأنظمة الكوكبية نادرة للغاية، فقد كان من غير المرجح على الإطلاق أن تؤدي طريقة الطيران المادي العشوائي وحدها إلى أي نتائج. أما طريقة الجذب المادي، فقد ثبت أنها فعالة للغاية فور أن أتقناها. لقد كانت هذه الوسيلة تعتمد على النطاق الخيالي لعقلينا. في بداية الأمر حين كانت قدرتنا الخيالية محدودة للغاية وتقتصر على خبرات عالمينا، لم نتمكن إلا من التواصل مع العوالم الشديدة الشبه بعالمينا. إضافة إلى ذلك، ففي هذه المرحلة التدريبية من عملنا، كنا نتوصل دوما إلى هذه العوالم حين كانت تمر بالأزمة الروحانية نفسها، والتي تكمن وراء مأزق الإنسان الأرضي اليوم. بدا أنه من أجل الدخول إلى أي عالم على الإطلاق، لا بد من وجود تشابه عميق أو تطابق بين نفسينا وبين المضيفين.
مع مرورنا من عالم إلى عالم، ازداد فهمنا بدرجة كبيرة للمبادئ التي تقوم عليها مغامرتنا، وقدراتنا على استخدامها. إضافة إلى ذلك، في كل عالم من العوالم التي زرناها، نشدنا مساعدا جديدا يمدنا بالرؤى عن عالمه ويوسع من نطاق خيالنا للتوسع في استكشاف المجرة. وقد كانت لطريقة «كرة الثلج» هذه التي زاد بها عدد رفقتنا أهمية كبيرة؛ إذ إنها قد عظمت قوانا. لقد توصلنا في المراحل الأخيرة من الاستكشاف إلى اكتشافات يمكن أن نقول إنها تفوق على نحو لا نهائي نطاق أي عقل بشري منفرد لا يحظى بأي مساعدة.
في بداية الأمر، ظننت أنا وبفالتو أننا نقدم على مغامرة خاصة للغاية، وحتى مع جمعنا المساعدين بعد ذلك، ظللنا نعتقد أننا وحدنا المبادرون بالاستكشاف الكوني. بالرغم من ذلك، فبعد فترة من الوقت، جمعنا تواصل مادي مع مجموعة أخرى من المستكشفين الكونيين والذين هم من السكان الأصليين لعوالم لم نكن قد عرفناها بعد. وبعد عدد من التجارب الصعبة والمرهقة في معظم الأحيان، اتحدت قوانا مع قوى هؤلاء المغامرين ودخلنا في ارتباط حميمي في البداية، ثم بعد ذلك في الاتحاد العقلي الغريب الذي كنت قد اختبرته أنا وبفالتو بالفعل إلى حد ما في رحلتنا الأولى بين النجوم.
حين صادفنا المزيد والمزيد من هذه المجموعات، أدركنا أنه بالرغم من بدء هذه البعثات الصغيرة كل على حدة، فقد كان مقدرا لها جميعا أن تلتقي عاجلا أم آجلا. إذ بالرغم من اختلاف هذه المجموعات بعضها عن بعض في بداية الأمر، فقد اكتسبت كل منها بالتدريج قوة تخيلية فائقة والتي، عاجلا أم آجلا، كانت تتمكن من التواصل مع المجموعات الأخرى.
وبمرور الوقت، اتضح أننا - نحن السكان الفرديين لمجموعة من العوالم الأخرى - كنا نؤدي دورا صغيرا في إحدى الحركات الكبرى التي كان الكون يسعى من خلالها إلى التعرف على ذاته، وإلى أن تتجاوز رؤيته حدود ذاته أيضا.
وإذ أقول هذا، فأنا لا أزعم على الإطلاق أن مشاركتي في هذه العملية الشاسعة من الاستكشاف الذاتي الكوني تجعل من هذه القصة التي يتعين علي أن أرويها حقيقية بالمعنى الحرفي. ومن الجلي أنها لا تستحق أن ترى على أنها جزء من الحقيقة الموضوعية المطلقة بشأن الكون. فأنا، الفرد البشري، لا أستطيع أن أشارك في تلك التجربة التي تفوق قدرات البشر والتي تتمثل في «الأنا» المشتركة التي كان يدعمها عدد لا نهائي من المستكشفين، إلا بطريقة سطحية ومغلوطة للغاية. فما من شك أن هذا الكتاب هو تصوير مزيف سخيف لمغامرتنا الفعلية. وبالرغم من أننا كنا وما زلنا حشدا غفيرا قد استدعينا من حشد غفير من الأجسام السماوية؛ فنحن لا نمثل سوى نسبة ضئيلة من تنوع الكون بأكمله. ولهذا فحتى اللحظة السامية في خبرتنا والتي بدا لنا حينها أننا قد وصلنا إلى صميم الواقع، لم تمنحنا في الواقع سوى بضع شذرات من الحقيقة، والتي هي رمزية لا حرفية.
قد تكون روايتي لذلك الجزء من مغامرتي والذي قادني إلى التواصل مع عوالم من النوع البشري إلى حد ما دقيقة نسبيا، أما ذلك الجزء الذي يتناول الأجسام السماوية الأكثر غرابة، فلا بد أنه بعيد عن الحقيقة. إنني ربما وصفت الأرض الأخرى بدرجة من الزيف تزيد قليلا عما يقترفه المؤرخون في روايتهم للعصور السابقة للجنس البشري. أما العوالم الأقل شبها بعوالم البشر، وأنواع الكائنات العديدة الرائعة التي صادفناها في أعلى المجرة وأسفلها وأرجاء الكون بأكمله وحتى فيما وراءه، فسوف أضطر إلى أن أذكر من الأمور ما سيعد زيفا مطلقا إذا أخذت بالمعنى الحرفي. ولا يسعني إلا أن أرجو أن يكون لديهم ذلك النوع من الحقيقة والذي نجده نحن أحيانا في الأساطير.
لما كنا قد تحررنا الآن من المكان، فقد رحنا نتجول بالقدر نفسه من السلاسة في أرجاء المسارات القريبة في هذه المجرة والبعيدة أيضا. أما عن كوننا لم نتواصل مع عقول في مجرات أخرى حتى وقت متأخر، فلم يكن ذلك بسبب أي قيود قد فرضها الفضاء، وإنما على ما يبدو بسبب محدودية تفكيرنا المتأصلة والمحدودية الغريبة لاهتمامنا، وهو ما جعلنا لفترة طويلة معادين لتأثير العوالم التي تقع وراء حدود درب التبانة. وسوف أذكر المزيد عن هذا القيد الغريب حين أصف كيف تمكنا في النهاية من التغلب عليه.
وإضافة إلى التحرر من المكان، تحررنا أيضا من الزمان. إن بعض العوالم التي استكشفناها في هذه المرحلة المبكرة من مغامرتنا، قد توقفت عن الوجود قبل أن يتشكل كوكبي الأصلي بفترة طويلة، وبعضها كان معاصرا له، والبعض الآخر لم يكن قد ولد إلى أن بلغت مجرتنا شيخوختها، حين كانت الأرض قد دمرت وانطفأ عدد كبير من النجوم بالفعل.
بينما رحنا نبحث في أرجاء الزمان والمكان، مكتشفين المزيد والمزيد من الحبات النادرة التي تدعى بالكواكب، وبينما رحنا نشاهد السلالة بعد السلالة تناضل للوصول إلى درجة معينة من الوعي الصافي لتذعن بعدها إلى حادثة خارجية ما، أو عيب في طبيعتها في أكثر الأحوال، طغى علينا الشعور بعبثية الكون والعشوائية فيه. بضعة عوالم قد بلغت مثل هذه الدرجة من اليقظة بالفعل حتى إنها قد تجاوزت نطاق معرفتنا. غير أن العديد من هذه العوالم الأكثر براعة قد وجدت في الحقبة المبكرة من حياة المجرات، وما من شيء كان يمكن أن نكتشفه فيما بعد في المراحل المتأخرة للكون قد أشار إلى أن أي مجرات، فضلا عن الكون بأكمله، قد بلغت من يقظة الروح ما بلغته تلك العوالم البارعة المبكرة، أو يمكن حتى أن تبلغها في نهاية المطاف. لم نتمكن من اكتشاف الذروة المجيدة، لكن الهزلية المبكية، والتي لم يكن هذا الانتشار الكبير للعوالم سوى مقدمة لها، إلا في مرحلة متأخرة للغاية من بحثنا.
في المرحلة الأولى من مغامرتنا، حين، مثلما قلت، كانت قدراتنا على الاستكشاف التخاطري غير مكتملة بعد، اتضح أن جميع العوالم التي دخلناها كانت تعاني من تبعات الأزمة الروحانية نفسها التي عرفناها جيدا في كواكبنا الأصلية. وقد صرت أرى أن هذه الأزمة تتمثل في جانبين. لقد كانت جزءا من نضال الروح كي تصير قادرة على الاتحاد الحقيقي على نطاق عالمي، وهي في الوقت نفسه مرحلة في المهمة التي تطول على مدار العصور والتي تتمثل في امتلاك الموقف الروحاني الصحيح، والملائم في نهاية المطاف، تجاه الكون.
في كل عالم من هذه العوالم التي لا تزال تنمو في «الشرنقة»، كان الملايين من الأشخاص ينبثقون إلى الوجود واحدا تلو الآخر، لينجرفوا متلمسين الطريق لبضع لحظات من الزمن الكوني قبل أن يتلاشوا. وقد كان معظمهم قادرا، لدرجة متواضعة على الأقل، على النوع الحميمي من الاتحاد، وهو العاطفة الشخصية، غير أن جميعهم تقريبا كانوا يرون الغريب شيئا باعثا على الخوف والكراهية. وحتى حبهم الحميمي كان متقطعا ويفتقر إلى الرؤية. وفي جميع الأحوال تقريبا، لم يكونوا يبتغون لأنفسهم سوى الراحة من التعب أو الضجر، الخوف أو الجوع. ومثلما هي الحال مع سلالتي، فهم لا يستفيقون تماما من ذلك السبات البدائي الذي تشهده الكائنات الأدنى من الإنسان. القليل منهم فقط في مناطق متفرقة هم الذين كانوا يختبرون بين الحين والآخر لحظات من اليقظة الحقيقية التي تعزيهم أو تحركهم أو تعذبهم. وعدد أقل من هؤلاء هم الذين كانوا يحظون برؤية واضحة ومستمرة، حتى وإن كانت لجانب جزئي من الحقيقة، وقد كانوا في الغالبية العظمى من الأحيان يعدون أن أنصاف الحقائق التي توصلوا إليها هي حقائق مطلقة. ومع نشر حقائقهم الجزئية الصغيرة، يربكون رفاقهم الفانين ويضللونهم بقدر ما يساعدونهم.
كل روح فردية، في هذه العوالم جميعها تقريبا، قد بلغت في مرحلة ما من حياتها ذروة متواضعة من الوعي والاستقامة الروحانية لتسقط مرة أخرى بسرعة أو ببطء إلى اللاشيء أو العدم. أو هكذا بدا الأمر. ومثلما هي الحال في عالمي وفي هذه العوالم الأخرى كلها، كانت الحياة تقضى في السعي وراء غايات مبهمة تظل دوما على مقربة من التحقيق. وقد كانت هناك مساحات شاسعة من الضجر والإحباط، مع لحظات نادرة من البهجة هنا وهناك. كانت هناك نشوة الانتصارات الشخصية، والاتصال والحب المتبادلين، والرؤى الفكرية، والإبداع الجمالي. وكانت هناك أيضا النشوة الدينية، غير أن هذا النوع من النشوة، كان كغيره من الأشياء في هذه العوالم، قد أربكته التأويلات الخاطئة. وكانت هناك أيضا تلك النشوة المجنونة النابعة من الكراهية والقسوة التي توجه ضد الأفراد والمجموعات. في بعض الأحيان خلال المرحلة المبكرة من مغامرتنا، كنا نشعر بالتعاسة الشديدة بسبب ضخامة القسوة والمعاناة في أرجاء العوالم حتى إن شجاعتنا قد خارت واضطربت قدراتنا التخاطرية وانزلقنا نحو الجنون.
بالرغم من ذلك، فلم تكن غالبية هذه العوالم بأسوأ من عالمنا؛ فهي كعالمنا قد بلغت تلك المرحلة التي قد تعاني فيها الروح، التي استفاقت على نحو جزئي من البهيمية لكنها ما تزال بعيدة عن النضج، بيأس شديد وتتصرف بأقصى درجات القسوة. وكعالمنا أيضا، كانت هذه العوالم المأساوية بالرغم من حيويتها، والتي زرناها في مغامراتنا الأولى، تعاني من عدم قدرة العقول التي تسكنها على مجاراة الظروف المتغيرة. لقد كانوا متأخرين على الدوام يطبقون المفاهيم والمثل القديمة على الأوضاع الحديثة بما لا يتلاءم معها. ومثلنا أيضا، كانوا يعانون دوما من حاجتهم الملحة إلى درجة من الاتحاد تستلزمها أحوالهم، لكن أرواحهم الفقيرة الجبانة الأنانية لم تكن لتتمكن من نيلها بأي حال. العلاقات بين الأزواج والدوائر الصغيرة من الرفاق فقط هي التي كانوا يتمكنون فيها من تعزيز الاتحاد الحقيقي والرؤى المشتركة والاحترام والحب. أما في قبائلهم وأممهم، فقد كانوا يتوهمون الاتحاد المزيف للقطيع بكل سهولة، وينبحون معا بالخوف والكراهية.
كانت درجة التشابه بيننا وبين هذه السلالات تتجلى على نحو واضح في سمة معينة على وجه التحديد، وهو أن كلا منهم قد نشأ عبر خليط غريب من العنف واللين. إن دعاة العنف ودعاة اللين يهيمنون عليهم في هذا الاتجاه وذاك. في وقت زيارتنا، كان العديد من هذه العوالم تعاني من أزمة بشأن هذا الصراع. في الماضي القريب، كان هناك توجه إلى اللين والتسامح والحرية، غير أن السياسة قد فشلت لافتقارها إلى وجود غاية صادقة، إلى اقتناع بالروح، إلى وجود خبرة احترام حقيقية للطابع الفردي. ازدهرت جميع أنواع الأنانية وحب الانتقام سرا في البداية، ثم ازدهرت علنا بعد ذلك على أنها فردانية صارخة. وفي نهاية الأمر، تحولت الشعوب في غضب عن الفردانية وانغمست في اتباع القطيع. وفي الوقت نفسه، ومقتا لفشل اللين، بدأت الشعوب في تمجيد العنف وقسوة البطل المرسل من عند الإله والقبيلة المسلحة علنا. وهؤلاء الذين كانوا يظنون أنهم يؤمنون باللين صنعوا أسلحة لقبائلهم لمواجهة تلك القبائل الأجنبية التي كانوا يتهمونها بالإيمان بالعنف. وقد هدد أسلوب العنف فائق التطور بتدمير الحضارة، وعاما بعد عام، فقد اللين أي دعم. قلة فقط هم الذين استطاعوا إدراك أنه لا بد من إنقاذ عالمهم، لا بالعنف على المدى القصير، بل باللين على المدى الطويل. وعدد أقل من ذلك هم الذين استطاعوا إدراك أنه من أجل أن يكون اللين فعالا، فلا بد أن يكون دينا، وأنه لا يمكن للسلام الدائم أن يحل أبدا حتى يستفيق الكثيرون إلى حالة صفاء الوعي والتي لم يكن قد تمكن من الوصول إليها في كل هذه العوالم حتى الآن إلا قلة قليلة.
إذا أردت أن أصف جميع العوالم التي استكشفناها على نحو مفصل، فسوف يتحول هذا الكتاب إلى عالم من المكتبات. ولهذا لا يمكنني أن أخصص سوى بضع صفحات لأنواع العوالم الكثيرة التي مررنا بها في تلك المرحلة المبكرة من مغامرتنا في جميع أرجاء مجرتنا، وعلى مدار عمرها بأكمله. ومن الجلي أن بعض هذه الأنواع لم يظهر سوى عدد قليل جدا من المرات، وبعضها الآخر ظهر عشرات أو مئات المرات.
أكثر الأنواع عددا في العوالم الذكية هو النوع الذي يضم الكوكب الذي يألفه قراء هذا الكتاب. لقد أشاد النوع البشري الأرضي بنفسه مؤخرا وأرعبها؛ إذ تخيل أنه وإن لم يكن الكائن الذكي الوحيد في الكون، فهو فريد من نوعه على الأقل، وأن العوالم التي تلائم الحياة الذكية من أي نوع نادرة للغاية حتما. لقد اتضح أن هذه الرؤية خاطئة للغاية. مقارنة بعدد النجوم الهائل الذي لا يمكن تخيله، نجد أن العوالم الذكية نادرة للغاية بالفعل، لكننا قد اكتشفنا آلاف العوالم التي تشبه الأرض بدرجة كبيرة وتسكنها كائنات من النوع البشري في جوهرها، وإن كان ظاهرها لا يتفق مع النوع الذي ندعوه بالبشر في معظم الأحوال. كان البشر الآخرون من النوع الشبيه بالبشر على نحو جلي للغاية. بالرغم من ذلك، ففي المراحل الأخيرة من مغامرتنا حين لم يعد بحثنا مقتصرا على العوالم التي وصلت إلى الأزمة الروحانية المألوفة، صادفنا بضعة من الكواكب التي تسكنها سلالات تكاد تكون متطابقة مع النوع البشري أو بالأحرى مع الهيئة التي كان عليها الإنسان في أولى مراحل وجوده. لم نصادف هذه العوالم الشديدة الشبه بعالم البشر في مرحلة سابقة؛ إذ إنها قد دمرت بسبب حادثة ما قبل أن تصل إلى المرحلة التي بلغتها عقليتنا.
بعد فترة طويلة من نجاحنا في توسيع نطاق بحثنا من أقراننا في المرتبة العقلية بين العوالم إلى من هم أدنى مرتبة منا فيها، ظللنا غير قادرين على التواصل مع أي من الكائنات التي كانت قد تجاوزت بالكامل المرحلة التي وصل إليها النوع البشري الأرضي؛ ومن ثم، فبالرغم من أننا تتبعنا تاريخ العديد من العوالم خلال العديد من الحقب، ورأينا العديد منها يصل إلى نهاية كارثية أو يسقط إلى الركود والتدهور المحتوم، فقد كان ثمة عدد قليل من العوالم التي مهما كان ما قد نفعله، كنا قد فقدنا التواصل معها في تلك اللحظة التي بدت فيها جاهزة لقفزة إلى الأمام نحو عقلية أكثر تطورا. لم يحدث، إلا في مرحلة متأخرة للغاية من مغامرتنا حين أصبح كياننا المشترك نفسه ثريا بفعل تدفق العديد من الأرواح الأسمى، أن تمكنا من التقاط خيوط تراجم العوالم الجليلة تلك مجددا. (2) أنواع غريبة من السلالات البشرية
بالرغم من أن جميع العوالم التي دخلناها في المرحلة الأولى من مغامرتنا كانت في خضم الأزمة التي يعرفها عالمنا جيدا؛ فقد سكن بعضها سلالات تشبه الإنسان بيولوجيا، بينما سكن بعضها الآخر سلالات شديدة الاختلاف عنه. كانت السلالات التي تشبه البشر على نحو أكثر وضوحا تسكن كواكب ذات حجم وطبيعة مشابهين لحجم الأرض والأرض الأخرى. غير أن جميع السلالات، أيا كانت التقلبات التي شهدها تاريخها البيولوجي، قد شكلتها الظروف في نهاية المطاف إلى البنية المنتصبة والتي يتضح أنها الأكثر ملاءمة لمثل هذه العوالم. في جميع الأحوال تقريبا، كان الطرفان السفليان يستخدمان للتنقل، والطرفان العلويان للتناول والتحكم. وعادة ما كانت توجد رأس من نوع ما تضم الدماغ وأعضاء الإدراك عن بعد، وفتحات الأكل والتنفس أحيانا. وفيما يتعلق بالحجم، فنادرا ما كانت هذه الأنواع الشبيهة بالبشر أكبر من أكبر الغوريلات التي لدينا، ونادرا ما كانت أصغر كثيرا من القرود، غير أننا لم نستطع تقدير الحجم بأي درجة من الدقة؛ إذ لم نكن نمتلك معايير معروفة للقياس.
كانت الفئة الشبيهة جدا بالبشر هذه تضم تنويعات كبيرة؛ فقد صادفنا بشرا يغطيهم الريش ويشبهون البطاريق والذين قد انحدروا من سلالات كانت تطير بالفعل، ووجدنا على بعض الكواكب الصغيرة بشرا طائرين قد احتفظوا بقدرتهم على الطيران، غير أنهم كانوا قادرين على حمل دماغ بشري ملائم. وحتى على بعض الكواكب الكبيرة التي كانت أغلفتها الجوية طافية على نحو استثنائي، كان هناك بشر يطيرون بأجنحة لهم. وقد صادفنا أيضا نوعا من البشر قد تطور من سلف شبيه بالبزاق في سلالة من اللافقاريات لكنهم كانوا من الثدييات. احتفظ هذا النوع من البشر بالصلابة والمرونة الضروريتين للأطراف من خلال عظام سلكية داخلية رقيقة «شبيهة بالسلال».
وعلى كوكب صغير للغاية لكنه شبيه بالأرض، اكتشفنا سلالة شبيهة بالبشر كانت على الأرجح فريدة من نوعها. فهنا، بالرغم من أن الحياة قد تطورت على نحو شديد الشبه بما حدث على الأرض، كانت الحيوانات العليا كلها تختلف اختلافا ملحوظا عن النوع المألوف في سمة واضحة. فلم تكن هذه السلالة تتمتع بسمة ازدواج الأعضاء واسعة النطاق والتي تتميز بها جميع أنواع الفقاريات لدينا؛ ومن ثم فقد كان الإنسان في هذا العالم أشبه بنصف إنسان أرضي. كان يقفز على ساق متينة واحدة تنحدر منها قدم رحاء واحدة، ويحافظ على اتزانه بذيل كذيل الكنغر. من صدره، تبرز ذراع واحدة وتتفرع إلى ثلاثة سواعد وأصابع للإمساك. وفوق فمه، يوجد منخار واحد، وفوقه أذن واحدة، وفوق رأسه خرطوم ثلاثي الشعب مرن يحمل ثلاث أعين.
في بعض الأحيان، كنا نجد نوعا مختلفا للغاية ومنتشرا إلى حد ما من السلالة الشبيهة بالبشر على كواكب أكبر من الأرض. ونظرا إلى زيادة قوة الجاذبية، فسوف تظهر في البداية هناك حيوانات تسير على ستة أرجل بدلا من أربعة، كما هو مألوف، وسوف تتكاثر بعد ذلك إلى حيوانات صغيرة سداسية الأرجل من حافرات الجحور، وآكلات عشب أنيقة وسريعة سداسية الأرجل، وحيوانات ماموث سداسية الأرجل ذات أنياب، والعديد من أنواع آكلات اللحوم المختلفة السداسية الأرجل. وقد كان البشر في هذه العوالم ينحدرون عادة من كائن صغير يشبه الأبوسوم، والذي كان قد استخدم الزوج الأول من أزواج أطرافه الثلاثة في بناء الأعشاش أو التسلق. وبمرور الوقت، أصبح الجزء الأمامي من جسمه منتصبا، وبصورة تدريجية، اتخذ هيئة تشبه هيئة كائن رباعي الأرجل مع جذع بشري في مكان الرقبة. في واقع الأمر، لقد أصبح قنطورا له أربعة أرجل وذراعان قويان. كان من الغريب جدا أن يجد المرء نفسه في عالم قد صممت فيه جميع المرافق ووسائل الراحة التي أنتجتها الحضارة لتلائم بشرا على هذه الهيئة.
في أحد هذه العوالم، والذي كان أصغر من الباقين بعض الشيء، لم يكن البشر على هيئة قنطور، وإن كان القنطور أحد أسلافهم البعيدين. في مراحل التطور السابقة على البشر، صغر الضغط البيئي الجزء الأفقي من جسم القنطور حتى أصبحت الساقان الأماميتان والخلفيتان أقرب فأقرب، وصارا في النهاية زوجا متينا واحدا من السيقان؛ ومن ثم فقد أصبح البشر وأسلافهم القريبون ذوي قدمين، وأرداف كبيرة تذكر بالأرداف المستعارة التي كانت تستخدم في العصر الفيكتوري، وسيقان ما تزال هيئتها الداخلية تعكس أصلهم «القنطوري».
ثمة نوع شديد الانتشار من العوالم الشبيهة بعوالم البشر يجب أن أصفه بقدر أكبر من التفصيل؛ إذ إنه يؤدي دورا مهما في تاريخ مجرتنا. البشر، في هذه العوالم، بالرغم من أنهم كانوا يختلفون بدرجة كبيرة في الهيئة والحظ في عوالم محددة، قد تطوروا جميعا من حيوان بحري له خمسة أطراف وهو أشبه بنجم البحر. وبمرور الوقت، كان هذا الكائن سيخصص طرفا منها للإدراك، والأربعة الباقية للتنقل. وبعد ذلك، ستتكون له رئتان وجهاز هضمي معقد وجهاز عصبي متكامل. وبعد فترة أطول، سينتج طرف الإدراك دماغا، بعد أن تصبح الأطراف الأخرى متكيفة على الجري والتسلق. أما الأشواك اللينة التي كانت تغطي جسد سلفه نجم البحر، فقد كانت تتطور في معظم الحالات إلى نوع من الفراء الشائك. وحين يحل الموسم المناسب، ينشأ كائن منتصب ذكي ذو قدمين وأعضاء للرؤية والشم والسمع والتذوق، وأعضاء للإدراك الحسي الكهربي في بعض الحالات. وبخلاف غرابة وجوهها، وحقيقة أن الفم كان يوجد عامة على البطن، فقد كانت هذه الكائنات بشرية بدرجة كبيرة. غير أن أجسادها كانت تغطى عادة بالأشواك اللينة أو الشعر السميك التي كانت تميز هذه العوالم. ولم تعرف هذه العوالم استخدام الملابس إلا حماية من البرد في المناطق القطبية. لا شك بأن وجوهها كانت تنزع إلى الاختلاف عن الوجوه البشرية؛ فقد كان الرأس الطويل غالبا ما يحمل إكليلا يتكون من خمس عيون. وكانت الأنوف الفردية الكبيرة المستخدمة في التنفس والشم، والتحدث أيضا، تشكل حلقة أخرى تحت العيون.
كان مظهر هذه «الشوكيات البشرية» يخفي طبيعتها؛ فبالرغم من أن وجوهها لم تكن بشرية المظهر، لم يكن نمط عقولها الأساسي مختلفا عن ذلك الخاص بعقولنا. كانت حواسها كثيرة الشبه بحواسنا، خلا أنها قد طورت في بعض العوالم حساسية لونية أكثر تنوعا على نطاق أوسع كثيرا. والسلالات التي كانت تتمتع بالحاسة الكهربية قد شكلت لنا بعض الصعوبة؛ إذ كان علينا أن نتعلم نطاقا جديدا بأكمله من الصفات الحسية ونظاما شاسعا من الرمزية غير المألوفة كي نتمكن من فهم تفكيرها. كانت الأعضاء الكهربية تكشف اختلافات طفيفة للغاية في الشحنة الكهربية مقارنة بجسم الكائن نفسه. وقد كانت هذه الحاسة تستخدم في الأصل للكشف عن الأعداء المزودين بأعضاء كهربية للهجوم. بالرغم من ذلك، فقد كانت أهميتها لدى البشر اجتماعية في المقام الأول؛ فقد كانت تمد المرء بمعلومات عن الحالة العاطفية لجيرانه. وإضافة إلى ذلك، كانت تستخدم في الرصد الجوي.
ولا بد لي من أن أصف بقدر أكبر من التفصيل، مثالا على هذا النوع من العوالم الذي يصور هذه السلالة بوضوح ويقدم في الوقت ذاته بعض الخواص المميزة المثيرة لها.
أنا أعتقد أن المدخل لفهم هذه السلالة هو ملاحظة طريقتها الغريبة في التكاثر، والتي كانت ذات طبيعة مشتركة في جوهرها. كان كل فرد قادرا على إنتاج فرد جديد لكن في مواسم محددة فقط، وبعد التحفيز بنوع من حبوب اللقاح ينبعث من القبيلة بأكملها وتحمله الرياح. ولم تكن ذرات الغبار الفائقة الصغر التي تتكون منها حبوب اللقاح هذه بالخلايا الجنسية، بل «جينات»، أي، العوامل الأولية للوراثة. كانت حبوب اللقاح تعطر أحياء القبيلة بعطر خفيف على الدوام، بالرغم من ذلك، ففي أوقات العواطف الجماعية العنيفة، كانت حبوب اللقاح تزداد كثافة للغاية حتى إنها تصبح مرئية في واقع الأمر كالضباب الرقيق. وفي تلك المرات النادرة فقط، يصبح الحمل ممكنا. تخرج حبوب اللقاح زفيرا من جميع الأفراد ويتنفسها شهيقا هؤلاء الناضجون للإخصاب، ويشعر بها الجميع عطرا غنيا رقيقا والذي ساهم فيه كل فرد برائحته المميزة. ومن خلال آلية نفسية وفيسيولوجية غريبة، يستثار الفرد الذي ينتابه الشبق إلى اشتهاء التحفيز بكامل عطر القبيلة أو عطر الغالبية العظمى من أفرادها، وإذا لم تكن غيوم حبوب اللقاح على الدرجة الكافية من التعقيد، فلن يحدث الحمل. كان الإخصاب المختلط يحدث في فترات الحروب بين القبائل، وفي الغدو والرواح الذي لا يتوقف بين القبائل في العالم الحديث.
في هذه السلالة إذن، يمكن لأي فرد أن ينجب طفلا. وبالرغم من أن كل طفل له أم واحدة، فالقبيلة كلها آباؤه. كان الآباء الذين ينتظرون إنجاب طفل يحظون بمكانة مقدسة ويشترك الجميع في العناية بهم. حين ينفصل الطفل «الشوكي» أخيرا عن جسد الوالد، يشترك الجميع أيضا في العناية به مع بقية النشء في القبيلة. وفي المجتمعات المتحضرة، كان يعهد بعنايته إلى الممرضين والمعلمين المحترفين.
لن أتوقف كي أروي الآثار النفسية المهمة لمثل هذا النوع من التكاثر. إن مشاعر البهجة والامتعاض التي نشعر بها عند ملامسة أجساد أفراد آخرين من نوعنا لم تكن معروفة لديهم. وعلى الجانب الآخر، كان الأفراد يتأثرون على نحو عميق بالعطر القبلي الذي تتغير رائحته على الدوام. من المحال أن أصف ذلك النوع الغريب من الحب الرومانسي الذي كان يشعر به كل فرد تجاه القبيلة بصفة دورية. كان إحباط هذه العاطفة وقمعها ومنعها هو مصدر أرقى إنجازات هذه السلالة وأحقرها في الوقت ذاته. منحت الأبوة المشتركة للقبيلة وحدة وقوة لا تعرفهما السلالات التي تتسم بقدر أكبر من الفردانية. كانت القبائل البدائية مجموعات من بضع مئات أو آلاف من الأفراد، غير أن أعدادها قد زادت بدرجة كبيرة في العصور الحديثة. بالرغم من ذلك، فقد كان لا بد لشعور الولاء للقبيلة أن يظل مستندا على الدوام على العلاقات الشخصية لأفرادها، إن كان له أن يظل شعورا صحيا. وحتى في القبائل الكبيرة، كان كل فرد على الأقل «صديقا لصديق صديق» لكل فرد آخر من أفراد القبيلة. وقد أتاح الهاتف والإذاعة والتلفزيون للقبائل الكبيرة التي تبلغ حجم مدننا الصغيرة أن تحافظ على درجة كافية من الاتصال الشخصي بين أفرادها.
بالرغم من ذلك، فدائما ما كانت هناك مرحلة تصبح زيادة نمو القبيلة بعدها أمرا كريها؛ فحتى في أصغر القبائل وأكثرها ذكاء، كان ثمة توتر دائم بين عاطفة المرء الفطرية تجاه القبيلة، واحترامه للطبيعة الفردية فيه وفي رفاقه. وبينما كانت القبائل الصغيرة والقبائل الكبيرة التي تتسم بأجواء صحية تحافظ على جمال الروح القبلية وعقلانيتها من خلال الاحترام المتبادل والذاتي للأفراد، ففي القبائل الكبيرة والتي لا تتسم أجواؤها بالعقلانية، كان التأثير الشديد للقبيلة يؤدي على الأرجح إلى طمس الطابع الشخصي. وقد يفقد الأفراد أحيانا كل وعي بذواتهم وبذوات رفاقهم بوصفهم أفرادا، ويصبحون محض أعضاء مغيبين للقبيلة؛ ومن ثم يتفكك المجتمع إلى قطيع من الحيوانات تسيره غرائزه.
على مدار التاريخ، أدركت أفضل العقول في السلالة أن الإغراء الأكبر هو إذعان الفردانية للقبيلة؛ فراح الأنبياء يحثون البشر مرارا وتكرارا على أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، غير أن وعظهم قد ضاع هباء في الغالبية العظمى من الأحيان. لم تكن أعظم الأديان في هذا العالم الغريب أديانا للحب بل للذات. وبينما يتوق البشر في عالمنا إلى مدينة طوباوية يحب البشر فيها بعضهم، فقد كان البشر «الشوكيون» ينزعون إلى تمجيد الشغف الديني لاكتساب القوة لأن «يتصرف المرء وفقا لطبيعته» دون الاستسلام لإرادة القبيلة. وتماما مثلما نستعيض عن أنانيتنا المتأصلة بالتبجيل الديني للمجتمع، كانت هذه السلالة تستعيض عن «جماعيتها» المتأصلة بالتبجيل الديني للذات.
لا شك بأن دين الذات في أنقى صوره وأكثرها تطورا لا يختلف عن دين الحب في أفضل صوره. فالحب ينطوي على الرغبة في توفير الإشباع الذاتي للمحبوب، وأن يجد المرء في فعل الحب نفسه زيادة عرضية لذاته تبعث فيها الحيوية. وعلى الجانب الآخر، فإن صدق المرء مع ذاته وتحقيق إمكاناتها كلها ينطوي على فعل الحب؛ فهو يستلزم ضبط الذات الخاصة لخدمة ذات أكبر تحتضن الاتحاد في روح السلالة وتحقيق الإشباع لها.
غير أن دين الذات لم يكن ذا فعالية مع البشر «الشوكيين» بأكثر مما كان دين الحب ذا فعالية لدينا. إن مبدأ «أحب جارك مثلما تحب نفسك» غالبا ما يولد فينا النزعة لأن يرى المرء جاره بوصفه محض محاكاة رديئة لذاته، مما يؤدي إلى كراهيته إذ ثبت منه ما هو خلاف ذلك. وفي حالتهم، كان مبدأ «كن مخلصا لذاتك» كان يولد النزعة لأن يخلص المرء لعقلية القبيلة فحسب. وقد تسببت الحضارة الصناعية الحديثة في تضخم العديد من القبائل بأكثر من الحد المحمود، وقد قدمت أيضا «القبائل الصناعية الفائقة» أو «قبائل القبائل»، والتي تناظر لدينا الأمم والطبقات الاجتماعية. ونظرا لأن الوحدة الاقتصادية كانت تتمثل في القبيلة ذات الطابع الشيوعي لا الفرد، فقد كانت الطبقة المسئولة عن التوظيف هي مجموعة صغيرة من القبائل الصغيرة التي تنعم بالرخاء، وكانت الطبقة العاملة مجموعة كبيرة من القبائل الكبيرة الفقيرة. وقد كان لأيديولوجيات القبائل الفائقة سلطة مطلقة على جميع عقول الأفراد الذين يخضعون لسيطرتها.
في المناطق المتحضرة، أوجدت القبائل الصناعية الفائقة والقبائل الطبيعية المفرطة النمو استبدادا ذهنيا صاعقا. عندما يتعلق الأمر بالقبيلة الطبيعية، على الأقل إذا كانت صغيرة ومتحضرة بحق، يمكن للمرء أن يتصرف بناء على ذكائه ومخيلته. ومع أقربائه الفعليين في القبيلة، قد يدعم درجة من الاتحاد الحقيقي لا نعرفها على كوكب الأرض. ويمكنه في حقيقة الأمر أن يكون ناقدا يحترم ذاته وذوات الآخرين. أما في جميع الأمور التي تتعلق بالقبائل الفائقة سواء أكانت أمورا وطنية أم اقتصادية، فكان يتصرف على نحو مختلف تماما. فجميع الأفكار التي تأتي إليه بموافقة الوطن أو الطبقة يقبلها هو وجميع رفاقه بحماسة ودون نقد. وفور أن يصادف أحد رموز القبيلة الفائقة التي ينتمي إليها أو شعاراتها، كان يتوقف عن كونه شخصية بشرية، ويصبح أشبه بحيوان لا يفكر ولا يقدر إلا على إصدار ردود فعل نمطية. في الحالات المتطرفة، كان عقله يغلق تماما إزاء التأثيرات المعارضة لاقتراح القبيلة الفائقة؛ فيواجه النقد بالغضب الأعمى أو لا يسمعه على الإطلاق. إن الأشخاص الذين يكونون قادرين في المجتمع الحميمي لقبيلتهم الأصلية الصغيرة على التعاطف وتبادل رؤى مشتركة رائعة؛ قد يتحولون فجأة، استجابة للرموز القبيلة، إلى أدوات للتعصب والكراهية الجامحين الموجهين ضد أعداء الوطن أو الطبقة. وفي هذه الحالة، قد يضحون بذواتهم في سبيل المجد المزعوم للقبيلة الفائقة. كما أنهم يبدون قدرا كبيرا من البراعة في تدبير طرق لإشباع شهوتهم في الانتقام من الأعداء الذين قد يكونون في الظروف المواتية مثلهم على القدر نفسه من العطف والذكاء.
في وقت زيارتنا لهذا العالم، بدا أن عواطف العامة ستدمر الحضارة تماما ودون رجعة. لقد كانت شئون هذا العالم تدار على نحو متزايد تحت سيطرة الهوس المنتشر للقبلية الفائقة، ولم تكن تدار بذكاء في حقيقة الأمر، بل وفقا للإلزام العاطفي النسبي لشعارات لا معنى لها. لا ينبغي لي أن أتوقف لأصف كيف أنه بعد فترة من الفوضى، بدأ نمط جديد من الحياة ينتشر أخيرا في هذا العالم المضطرب. ولم يكن ذلك ليحدث إلا بعد أن تفككت القبائل الفائقة بفعل القوى الاقتصادية المتعلقة بالصناعة الآلية، وبسبب الصراع المحموم فيما بينها. والآن قد تغير أفق السلالة بأكمله.
كان هذا العالم هو أول عالم قد اختبرنا فيه ما عذبنا من فقدان التواصل مع السكان الأصليين؛ حين اكتنفتهم، حالما توصلوا إلى إقامة ما يشبه العالم الطوباوي من الناحية الاجتماعية، أول تحركات مؤلمة للروح قبل أن يتقدموا إلى مستوى ذهني يتعذر علينا الوصول إليه، أو كان يتعذر على استيعابنا في ذلك الوقت على الأقل.
من العوالم «الشوكية» الأخرى الموجودة في مجرتنا، عالم كان يبشر بمستقبل واعد بأكثر من المستوى المتوسط، والذي سطع نجمه مبكرا غير أن قد تحطم بفعل اصطدام فلكي؛ فقد صادف نظامه الشمسي بأكمله قطعة سديم كثيفة، وانصهرت أسطح جميع الكواكب الموجودة فيه. وفي العديد من العوالم الأخرى التي تنتمي إلى هذا النوع، رأينا النضال الساعي إلى تحقيق درجة أكبر من اليقظة الذهنية يفشل فشلا ذريعا. فقد أفنت طوائف القطيع الانتقامية المؤمنة بالخرافات أفضل العقول في السلالة وخدرت البقية بعادات ومبادئ ذات أثر مدمر للغاية حتى إن المصادر الحيوية للرقة والقدرة على التكيف والتي تقوم عليها جميع مظاهر التقدم الذهني قد دمرت إلى الأبد.
آلاف عديدة من العوالم الأخرى الشبيهة بعوالم البشر، إلى جانب تلك العوالم «الشوكية» قد انتهت قبل الأوان أيضا. لقد سقط أحدها في كارثة غريبة وربما يستحق إشارة موجزة. هنا في هذا العالم وجدنا سلالة شديدة الشبه بالبشر، وحين وصلت حضارته إلى المرحلة والطابع الشديدي الشبه بما وصلت إليه حضارتنا، وهي تلك المرحلة التي لا تستقي فيها المثل التي تتبعها الجماهير أي إرشاد من التقاليد الراسخة ، والتي تسخر فيها العلوم الطبيعية للصناعة الفردانية، اكتشف فيها علماء الأحياء تقنية التلقيح الاصطناعي. الآن في هذا الوقت هناك، انتشر هوس واسع النطاق باللاعقلانية والغريزة والقسوة، و«الإنسان الشرس» البدائي «الإلهي». وقد كانت تلك الشخصية تحظى بالإعجاب الشديد خاصة حين جمعت بين القسوة وقوة التحكم في الجماهير. خضعت العديد من البلدان لطغاة من هذا النوع، وحتى في البلاد التي توصف بالديمقراطية، كان هذا النوع هو المفضل للذوق الشعبي.
وفي هذين النوعين من البلاد، كانت النساء يشتهين «الرجال الشرسين» عشاقا لهن وآباء لأطفالهن. ونظرا لأن النساء في البلاد «الديمقراطية» قد حظين بدرجة كبيرة من الاستقلال الاقتصادي، فقد أدى إقبالهن على الإخصاب من «الرجال الشرسين» إلى تحويل الأمر برمته إلى عمل تجاري؛ فقد كانت الوكالات توظف الذكور الذين ينتمون إلى النوع المفضل وترتبهم في خمس درجات من الجاذبية. وبتكلفة متوسطة تحدد وفقا لدرجة الأب، تتمكن أي امرأة من الحصول على الإخصاب من «رجل شرس». لقد كانت الدرجة الخامسة رخيصة للغاية حتى إن أشد النساء فقرا فقط هن اللاتي كن يحرمن منها. كانت تكلفة الجماع الفعلي حتى مع ذكر من أدنى الفئات أكبر كثيرا بالطبع؛ إذ إن العرض كان محدودا بمقتضى الحال.
في البلاد غير الديمقراطية اتخذت الأمور منحنى مختلفا. في كل من هذه البلاد، ظهر طاغية من النوع العصري وجمع حول شخصه افتتان الشعب بأكمله. كان البطل المرسل من عند الإله، بل كان هو نفسه ذا أصل إلهي. كل امرأة كانت تتوق بشغف لأن تناله إن لم يكن حبيبا لها، فأبا لأطفالها على الأقل. في بعض البلاد، لم يكن يسمح بالتلقيح الاصطناعي من «السيد» إلا كتمييز فائق للنساء من النوع المثالي. أما النساء العاديات من جميع الطبقات، فقد كان يحق لهن التلقيح من المزرعة الأرستقراطية المعتمدة ل «الرجال الشرسين». وفي بلاد أخرى، كان «السيد» نفسه يتنازل ويصبح أبا للجيل المستقبلي بأكمله.
تسببت هذه العادة الغريبة المتمثلة في الأبوة الاصطناعية من «الرجال الشرسين» والتي كانت تنفذ دون توقف في جميع البلاد على مدار جيل وعلى نحو أقل انتظاما على مدار فترة أطول كثيرا، في تغيير تركيب السلالة الشبيهة بالبشر بأكملها. فمن أجل الحفاظ على القدرة التكيفية في بيئة دائمة التغير، لا بد للسلالة أن تحافظ على وجود تلك المسحة الخفيفة لكن المؤثرة من سمتي الإحساس والأصالة فيها، مهما بلغت التكلفة. وفي هذا العالم، أصبح هذا العامل الثمين الآن مخففا للغاية حتى إنه لم يعد مؤثرا؛ ومن ثم، فقد كانت مشكلات العالم المعقدة للغاية يجري التعامل معها على نحو سيئ على الدوام؛ لذا تدهورت الحضارة. ودخلت السلالة في مرحلة يمكن أن نسميها بالهمجية الزائفة التحضر، والتي كانت في جوهرها أدنى من الحضارة البشرية وغير قادرة على التغيير. استمر هذا الوضع على مدار ملايين السنوات، إلى أن انتهت السلالة أخيرا بفعل حيوان صغير شبيه بالفأر لم تستطع أن تصمم أي وسيلة للحماية منه.
لن أتوقف كي أذكر المصائر الغريبة للكثير من العوالم الأخرى الشبيهة بعوالم البشر. وسوف أكتفي بذكر أن برعم التعافي قد نجا على نحو متزعزع في بعض هذه العوالم بالرغم من تدمير الحضارة إثر عدد متتابع من الحروب الوحشية. وفي أحدها، بدا أن التوازن المؤلم بين القديم والجديد يطول إلى الأبد. وفي عالم آخر، حيث كان العلم قد وصل إلى مرحلة متقدمة للغاية لا تتناسب مع أمان سلالة غير ناضج، فجر السكان كوكبهم وسلالتهم دون قصد. وفي العديد من هذه العوالم، اختصرت العملية الجدلية للتاريخ بفعل غزو سكان كوكب آخر للكوكب واحتلالهم له. هذه المصائب وغيرها مما سيلي ذكره في الوقت المناسب، قد بددت الشعوب التي تسكن عوالم المجرة.
واختصارا، سوف أذكر أنه في واحد أو اثنين من هذه العوالم الشبه البشرية، قد ظهرت خلال الأزمة العالمية المعهودة وبصورة طبيعية، سلالة بيولوجية جديدة وفائقة والتي استولت على السلطة بالذكاء والتعاطف فحسب، وتولت مسئولية الكوكب، وأقنعت السكان الأصليين بالتوقف عن التكاثر وملأت هي الكوكب بأكمله بنوعها الراقي، وشكلت سلالة بشرية تتمتع بالعقلية المشتركة، وتقدمت سريعا إلى خارج حدود استكشافنا وفهمنا المثقل بالأعباء. وقبل أن يفشل تواصلنا معها، أدهشنا ما لاحظناه، وهو أنه حينما خلفت السلالة الجديدة السلالة القديمة واستولت على النشاط السياسي والاقتصادي الشاسع في ذلك العالم، أدركت على نحو يبعث على الضحك ما يكمن في هذا العيش العشوائي المحموم من عبث. وأمام أعيننا، راح النظام القديم يتخلى عن مكانه لنظام جديد أبسط، يعيش فيه مجموعة سكانية «أرستقراطية» صغيرة تخدمها الآلات؛ مجموعة قد تحررت من الكدح والرفاهية على حد سواء، وتبغي استكشاف الكون والعقل.
وقد حدث هذا التغير إلى حياة أبسط في العديد من العوالم الأخرى، ولم يكن ذلك بفعل تدخل من نوع جديد، بل بانتصار العقلية الجديدة في معركتها ضد العقلية القديمة فحسب. (3) النوتيات
مع تقدم استكشافنا وجمعنا للمزيد والمزيد من المساعدين من العوالم العديدة التي دخلناها، ازدادت رؤيتنا الخيالية للأشكال الغريبة من الطبيعة. وبالرغم من أن بحثنا كان لا يزال منحصرا في السلالات التي تعاني من الأزمة الروحانية المألوفة لنا، فعلى نحو تدريجي، اكتسبنا القدرة على التواصل مع كائنات عقولها ذات نسيج يختلف كثيرا عن نسيج العقل البشري. ولا بد لي الآن أن أحاول تقديم وصف للأنواع الأساسية لهذه العوالم الذكية «غير البشرية». في بعض الحالات، كان الاختلاف عن السلالات البشرية صارخا من الناحية الجسدية، وملحوظا للغاية من الناحية الذهنية، غير أنه لم يكن كبيرا للغاية كما في الحالات التي سأصفها في الفصل التالي.
عادة ما تكون الهيئة الجسدية والذهنية للكائنات الواعية تعبيرا عن طبيعة الكوكب التي تعيش عليه؛ ففي بعض الكواكب المائية الكبيرة على سبيل المثال، وجدنا أن الحضارة قد قامت على يد كائنات بحرية. في هذه العوالم الضخمة، لم يكن لأي كائن من سكان اليابسة في ضخامة الإنسان أن يحيا ويزدهر؛ إذ كانت الجاذبية ستثبتهم إلى الأرض. أما في المياه، فلم يكن هناك مثل ذلك القيد على الضخامة. وقد كانت إحدى السمات المميزة لهذه العوالم الكبيرة هي غياب الارتفاعات الكبيرة والانخفاضات من سطحها إلا فيما ندر بسبب التأثير الساحق للجاذبية؛ ومن ثم فقد كانت تغطيها في معظم الأحوال محيطات سطحية تقطعها بين الحين والآخر أرخبيلات من جزر صغيرة منخفضة.
سوف أصف مثالا واحدا على هذا النوع من العوالم، وهو أكبر الكواكب التي تدور حول شمس عظيمة. وإذا كنت أتذكر على النحو الصحيح، فقد كان هذا النجم يقع بالقرب من قلب المجرة المكتظ، وقد ولد في مرحلة متأخرة من تاريخ المجرة، وأنتج عددا من الكواكب حين غلفت الحمم المحترقة العديد من النجوم الأقدم بالفعل. وبسبب قوة الإشعاع الشمسي، أصبح (أو سيصبح) المناخ على كواكبه القريبة عاصفا. على أحد هذه الكواكب، اكتسبت أحد الكائنات الشبيهة بالرخويات التي تعيش في المياه الساحلية الضحلة القدرة على الانسياب في صدفتها الشبيهة بالقارب على سطح البحر؛ ومن ثم تبقى على مقربة من النباتات المنجرفة التي تتغذى عليها. وبمرور العصور، تكيفت صدفتها بصورة أفضل مع الملاحة البحرية. ودعمت عملية الانسياب بشكل أولي من الإبحار من خلال غشاء يمتد من ظهر الكائن. وبمرور الوقت، تكاثر هذا النوع من «النوتيات» إلى مجموعة من الأنواع ظل بعضها صغير الحجم، ووجد البعض الآخر في زيادة الحجم أمرا مواتيا وتطور إلى سفن حية. وتسيد أحد هذه الأنواع الذكية ذلك العالم العظيم.
كان الهيكل يتمثل في مركبة انسيابية الشكل تتخذ هيئة سفينة القرن التاسع عشر الشراعية السريعة في أوجها، ويفوق حجمها حجم أكبر الحيتان على كوكبنا. في المؤخرة، كان ثمة مجس أو زعنفة قد تطورت إلى دفة كانت تستخدم أيضا في بعض الأحيان بمثابة مروحة دافعة كذيل السمكة. ولكن بالرغم من أن هذه الأنواع كلها كانت تتمكن من الإبحار بنفسها دون مساعدة بدرجة معينة، فقد كانت وسيلتها المعتادة للتنقل لمسافات بعيدة هي نشر شراعها الكبير. كانت الأغشية البسيطة التي امتلكتها أنواع الأسلاف قد أصبحت جهازا من الأشرعة الشبيهة بالورق والصواري وقوائم الصواري العظمية، وقد كان يخضع للتحكم العضلي الإرادي. وقد زاد من درجة التشابه بين هذا النوع والسفينة، هو العينان اللتان تتجهان إلى الأسفل كل منهما على أحد جانبي مقدم السفينة. وقد كان رأس الصاري الأساسي يحمل عينين هو أيضا من أجل البحث في الأفق. كانت هذه الكائنات تمتلك في دماغها عضوا يتمتع بالحساسية المغناطيسية يوفر لها وسيلة موثوقة للتوجيه. وعلى الطرف الأمامي من المركبة، كان يوجد مجسان طويلان لتناول الأشياء والتحكم فيها، واللذان كانا ينثنيان باسترخاء على الجانبين في أثناء التنقل. أما عند الاستخدام، فقد كانا يشكلان ذراعين نافعين للغاية. قد يبدو من الغريب أن يكون نوع على هذه الشاكلة قد طور مثل هذا الذكاء الإنساني. بالرغم من ذلك، فقد اجتمع عدد من الحوادث في غير واحد من العوالم التي تنتمي إلى هذا النوع لتؤدي إلى هذه النتيجة؛ فقد تسبب التغير من النظام النباتي في الغذاء إلى النظام الحيواني في زيادة دهاء الحيوانات بدرجة كبيرة سعيا للحصول على الكائنات الغائصة الأكثر سرعة. وتطورت حاسة السمع على نحو مذهل مما مكنها من سماع حركة الأسماك التي تقع على مسافات كبيرة بآذانها التي تقع تحت الماء. وعلى طول جانبي قاع السفينة، تطور خط من أعضاء التذوق كان يستجيب إلى تركيب المياه الدائم التغير، ويمكن الصياد من تتبع فريسته. أدت دقة السمع والتذوق مع النظام الغذائي المتنوع الغذاء والتنوع الكبير في السلوكيات والنزعة الاجتماعية القوية إلى تهيئة الظروف لتطور الذكاء.
أما الحديث، تلك الأداة الجوهرية للعقلية المتطورة، فقد اتخذ نمطين مختلفين في هذا العالم. في التواصل القصير المدى، كان ثمة انبعاثات غازية إيقاعية تحت الماء تصدر من فتحة في مؤخرة الكائن تسمع وتحلل من خلال الآذان التي تقع تحت الماء. أما التواصل الطويل المدى، فقد كان يتم من خلال الإشارات البصرية التي كانت تصدر من مجس سريع الحركة يقع في رأس الصاري.
تنظيم رحلات الصيد المشتركة، واختراع المصائد، وصنع الصنارات والشباك، وممارسة الزراعة في البحر وعلى الشواطئ على حد سواء، وبناء الورش والموانئ الحجرية، واستخدام الحرارة البركانية لصهر المعادن، والرياح لتسيير الطواحين، وشق القنوات في الجزر المنخفضة بحثا عن المعادن والأراضي الخصبة، والاستكشاف التدريجي لعالم ضخم ورسم الخرائط له، واستغلال الإشعاع الشمسي في القوة الميكانيكية، كل هذه الإنجازات وغيرها الكثير قد كانت نتيجة للذكاء وفرصة لتطوره في الوقت نفسه.
لقد كانت تجربة غريبة تلك التي تمثلت في الدخول إلى عقل سفينة ذكية ورؤية الزبد يشكل حلقات تحت الأنف بينما تندفع المركبة عبر الأمواج، وتذوق التيارات المرة أو اللذيذة التي تتدفق بجانبي المرء، والشعور بضغط الهواء على الأشرعة بينما المرء يغالب النسيم، وسماع أصوات همهمة أسراب الأسماك البعيدة واندفاعها تحت الماء، وبالطبع سماع صوت تكوين قاع البحر من خلال الأصداء التي كان يبعث بها إلى الآذان تحت المائية. وقد كان من الغريب والمرعب أن يلقى المرء في إعصار ويشعر بالصواري وهي تتعرض للضغط والأشرعة وهي تهدد بالتمزق، بينما تضرب الأمواج الصغيرة الغاضبة لذلك الكوكب الضخم هيكل السفينة. وكان من الغريب أيضا أن يشاهد المرء السفن العظيمة الحية الأخرى وهي تشق طريقها، وتجنح وتعدل أشرعتها ذات اللون الأصفر أو البني المائل إلى الحمرة وفق اختلافات الرياح، ومن الغريب جدا أن يدرك أنها ليست بأشياء من صنع البشر بل كائنات واعية تسعى وراء غاية.
في بعض الأحيان كنا نرى اثنتين من السفن الحية تتقاتلان، وتمزق أشرعة إحداهما الأخرى بمجسات تشبه الثعابين، وتطعن كل منهما «ظهر» الأخرى اللين بسكاكين معدنية، أو تطلق إحداهما النار على الأخرى من مسافة باستخدام المدافع. وقد كان من المربك والمبهج أن يشعر المرء في الحضور الأنثوي لسفينة شراعية سريعة رشيقة التوق إلى الاتصال وأن تقوم معها في عرض البحر، بالانحراف والتمايل، والمطاردة والصيانة، والملامسة الرقيقة الخاطفة للمجسات، وهو ما كان يشكل فعل الحب في هذه السلالة. وكان من الغريب أن يأتي المرء بمحاذاتها، ويجذبها بالقرب منه موثقا إياها إلى جانبه، ويصعد على متنها بأسلوب جنسي. كان من المحبب أيضا أن يرى المرء واحدة من السفن الأم يحيط بها صغارها. ويجب أن أذكر بهذه المناسبة أن الصغار كانوا ينطلقون من أسطح السفينة الأم عند الميلاد على هيئة قوارب صغيرة، أحدها من جانب الميمنة والآخر من جانب الميسرة. وبداية من ذلك الوقت، يرضعان من جانبيها. عند اللعب، يسبح الصغار بجوار الأم كالأفراخ الصغيرة، أو ينشرون أشرعتهم غير الناضجة بعد. وفي حالات الطقس السيئ أو الأسفار الطويلة، تأخذ الأم الصغار على متنها. وفي وقت زيارتنا، كانت الأشرعة الطبيعية قد بدأت تدعم بوحدة للطاقة ومروحة دافعة تثبتان إلى مقدم السفينة. انتشرت المدن الكبيرة من أسطح السفن الصلبة على طول العديد من السواحل، وانتشلت من المناطق النائية. أبهجتنا الطرق المائية الواسعة التي حلت محل الشوارع في هذه المدن. وكانت تكتظ بالملاحة الشراعية والآلية، ويبدو الأطفال فيها كزوارق الصيد والقطر بين الكبار الضخام.
هذا العالم هو الذي اكتشفنا فيه داء اجتماعيا على أكثر الصور فداحة، وقد يكون هو الأكثر انتشارا بين أدواء العالم كلها، وهو انقسام السكان إلى طائفتين لا تفهم إحداهما الأخرى بسبب تأثير القوى الاقتصادية. لقد كان الاختلاف بين البالغين من الطائفتين عظيما للغاية حتى إنهما قد بدوا لنا في البداية نوعين مختلفين، وقد ظننا أننا نشهد انتصار طفرة بيولوجية قوية وجديدة على سابقتها. غير أن ذلك كان بعيدا كل البعد عن الحقيقة.
من الناحية الشكلية، كان الأسياد يختلفون اختلافا كبيرا عن العمال، مثلما تختلف ملكات النمل وذكوره عن الشغالات في نوعيهما. كان شكلهم الانسيابي أكثر أناقة ودقة. وكانوا يتمتعون بامتداد أكبر للشراع، وبسرعة أكبر في الطقس الجيد. أما في البحار الهائجة، فقد كانوا أقل قدرة على الإبحار نظرا لهيئتهم الممشوقة، غير أنهم كانوا أكثر براعة وشجاعة في الملاحة. كانت مجساتهم التناولية أقل في الكتلة العضلية لكنها أقدر على القيام بتعديلات أدق، وكانت حواسهم أكثر رهافة. وبالرغم من أن قلة منهم فقط هي التي ربما تكون قد تفوقت على أفضل العمال في التحمل والشجاعة، فإن الغالبية العظمى منهم كانت أقل جلدا من الناحيتين الجسدية والذهنية، وكانت عرضة لعدد من الأمراض التحللية التي لم تكن تؤثر أبدا في العمال، وهي أمراض تصيب الجهاز العصبي بصفة أساسية. وعلى الجانب الآخر، إذا أصيب أي منهم بأحد الأمراض المعدية المتوطنة في العمال لكنها نادرا ما كانت تؤدي إلى الوفاة فيهم، فقد كانت تقتله على نحو شبه مؤكد. وقد كانت هذه الطائفة أيضا أكثر عرضة للاضطرابات الذهنية لا سيما المتعلقة منها بأهمية الذات العصابية. لقد كان تنظيم العالم بأكمله والتحكم فيه من مسئولياتهم. أما العمال، فبالرغم من أنهم كانوا يعانون من الأمراض والاضطرابات العصابية التي تولدت من بيئتهم المزدحمة، فقد كانوا في المجمل أكثر قوة على الجانب النفسي. غير أنهم كانوا يعانون من إحساس شديد الوطأة بالدونية. وبالرغم من أنهم كانوا يبدون الذكاء والمهارة في القيام بالحرف اليدوية والمهام الصغيرة النطاق جميعها، فقد كانوا عرضة للإصابة بشلل ذهني غريب حينما تواجههم مهام ذات نطاق أوسع.
لقد كانت العقلية التي تتمتع بها كل من الطائفتين تختلف عن الأخرى اختلافا صارخا. كان الأسياد أكثر نزوعا إلى المبادرة الفردية ورذائل الأثرة. أما العمال فقد كانوا أكثر إدمانا للعقلية الجمعية ورذائل الانصياع إلى التأثير المنوم للقطيع. لقد كان الأسياد في المجمل أكثر حكمة وتبصرا واستقلالا واعتمادا على الذات، بينما كان العمال أكثر اندفاعا وأكثر استعدادا للتضحية بأنفسهم في سبيل قضية اجتماعية، وغالبا ما يكونون أكثر وعيا بالأهداف الصائبة للنشاط الاجتماعي، كما أنهم كانوا يتصرفون تجاه الأفراد الذين يعانون من الشدائد بسخاء منقطع النظير.
في وقت زيارتنا، كانت بعض الاكتشافات الحديثة تلقي بالعالم إلى البلبلة. فحتى ذلك الوقت، كان الاعتقاد السائد أن الطبيعة المختلفة لكل من الطائفتين ثابتة لا تقبل التغيير وفقا للقانون الإلهي وقوانين الوراثة البيولوجية. بالرغم من ذلك، فقد ثبت الآن أن الأمر ليس كذلك، وأن السبب في الاختلافات الجسدية والذهنية بين الطائفتين يعود بالكامل إلى التنشئة. فمنذ زمن سحيق والطائفتان تنشآن بطريقة غريبة للغاية. بعد الفطام، يصبح الأطفال الذين قد ولدوا من جانب الميسرة في الأم، بصرف النظر عن طائفة أبويهم، من طائفة الأسياد، أما الذين ولدوا من جانب الميمنة، فهم يتلقون التربية ليصبحوا من طائفة العمال. ولأن طائفة الأسياد لا بد أن تكون بالطبع أصغر كثيرا من طائفة العمال، فقد وفر هذا النظام عددا غزيرا للغاية من الأسياد المحتملين. وقد تم التغلب على هذه المشكلة على النحو التالي. كان الأطفال المولودون من جانب الميمنة لوالدين من العمال وهؤلاء الذين من جانب الميسرة لوالدين من الأسياد، يتلقون التربية على يد والديهم، أما الأطفال المولودون من جانب الميسرة، والذين قد يكونون في المستقبل أبناء أرستقراطيين لوالدين من العمال، فقد كان يجري التخلص منهم في معظم الأحوال من خلال طقس للتضحية بالأطفال. وقلة منهم فقط هي التي كانت يستبدل بها أطفال الميمنة لوالدين من الأسياد.
مع تقدم الصناعة، وزيادة الحاجة إلى إمدادات كبيرة من العمالة الرخيصة، وانتشار الأفكار العلمية وضعف الدين، جاء الاكتشاف الصادم بأن أطفال الميسرة من الطائفتين إذا تلقوا التنشئة على أنهم من العمال، فلن يكون بينهم أي اختلاف من الناحيتين الجسدية والذهنية عن العمال. ومع حاجة أقطاب الصناعة إلى عدد كبير من العمالة الرخيصة، فقد أبدوا الآن سخطهم الأخلاقي بشأن طقس التضحية بالأطفال، محرضين على تربية الفائض من أطفال الميسرة ليصبحوا من العمال رحمة بهم. وبعد فترة قصيرة، زعم عدد من العلماء المضللين بأنهم قد توصلوا إلى الاكتشاف الأكثر تدميرا والقائل بأنه عند تنشئة أطفال الميمنة على أنهم من الأسياد، فإنهم يطورون الهيئة الرشيقة والأشرعة الكبيرة والتكوين الدقيق الحساس، والعقلية الأرستقراطية التي تتمتع بها طائفة الأسياد. حاول الأسياد منع هذه الأنباء من الانتشار إلى العمال، غير أن عددا من أفراد طائفتهم الشاعريين قد أفشوها إلى الخارج، وبشروا بنظام مستحدث ومحرض من المساواة الاجتماعية.
خلال زيارتنا، كان العالم في حالة مريعة من الارتباك. في المحيطات المتأخرة، ظل النظام القديم مسلما به، أما المناطق المتقدمة من الكوكب، فقد نشب فيها كلها نضال مستميت. في أحد الأرخبيلات الكبيرة، منحت إحدى الثورات الاجتماعية السلطة إلى العمال، وقام منها نظام ديكتاتوري متفان بالرغم من قسوته، يحاول تخطيط حياة المجتمع بحيث يصبح الجيل التالي متجانسا من نوع جديد يجمع بين الصفات المرغوبة في العمال والأسياد. وفي مكان آخر، تمكن الأسياد من إقناع العمال بأن الأفكار الجديدة خاطئة ووضيعة وسوف تؤدي حتما إلى الفقر والشقاء في العالم. وقد نجحوا بمهارة في استمالة الشك المبهم لكن المتزايد بأن «العلم المادي» مضلل وسطحي ، وأن الحضارة الآلية تسحق السمات الروحانية للسلالة. ونشرت الدعاية البارعة تصورا لدولة مشتركة تتكون من «جانبي الميمنة والميسرة» ويربط بينهما ديكتاتور شعبوي، والذي قيل إنه سينال السلطة «بالحق الإلهي وبإرادة الشعب».
لا ينبغي بي أن أتوقف كي أحكي عن الصراع المستميت الذي اندلع بين هذين النوعين من التنظيم الاجتماعي. وفي تلك الحملات العالمية، تدفقت العديد من الموانئ وتيارات المحيطات حمراء من أثر المذابح. وتحت وطأة حرب تؤدي إلى الموت، تحطم كل ما كان فاضلا، وتحطمت كل مظاهر الإنسانية والرقة لدى الجانبين بفعل الضرورة العسكرية. من جانب، انتصرت على الرغبة المتقدمة لبناء عالم موحد يعيش كل امرئ فيه حياة حرة ومكتملة في خدمة المجتمع العالمي؛ الرغبة المتقدة لعقاب الجواسيس والخونة والمهرطقين. وعلى الجانب الآخر، تمكن القادة الرجعيون من تحويل التطلع الغامض والمضلل مع الأسف، إلى حياة أرقى وأقل في السمت المادي إلى الانتقام من الثوريين.
وبسرعة كبيرة، انهار النسيج المادي للحضارة. ولم تتمكن روح هؤلاء «البشر السفن» من الانطلاق مجددا في مغامرة الروح العظيمة إلا بعد أن انحدرت السلالة إلى الهمجية دون البشرية، ثم تطهرت من التقاليد المخبولة للحضارة المريضة، مع حضور الثقافة الحقيقية. وبعد العديد من آلاف السنوات، تسامت إلى ذلك المستوى الأرقى من الوجود والذي سأصفه فيما بعد بأفضل ما يمكنني.
الفصل السادس
إشارات صانع النجوم
لا ينبغي بنا أن نفترض أن المصير المعتاد للسلالات الذكية في المجرة هو الانتصار. لقد تحدثت حتى الآن بصفة أساسية عن المصائر الموفقة لعوالم الشوكيات والنوتيات والتي عبرت بنجاح إلى الحالة الأكثر يقظة، حتى إنني لم أذكر المئات بل الآلاف من العوالم التي أصابتها الكارثة، إلا في أندر المواضع. ولم يكن هناك من بد من هذا الاختيار إذ إن المجال المتاح لي محدود للغاية، ولأن هذين الصنفين من العوالم مع العوالم الأغرب التي سأذكرها في الفصل التالي كانت ستؤثر في مصير المجرة بأكملها تأثيرا عظيما. بالرغم من ذلك، فقد كانت هناك العديد من العوالم الأخرى ذات المرتبة «البشرية» تتمتع بتاريخ غني كتلك العوالم التي ذكرتها. لم تكن حياة الأفراد فيها أقل اختلافا عما هي عليه في الأماكن الأخرى، ولم تكن أيضا أقل ازدحاما بالمتاعب والمسرات. بعضها قد انتصر، وبعضها قد عانى من السقوط في مرحلته الأخيرة بسرعة أو ببطء، مما منحها رونق المأساة، لكن لأن هذه العوالم لا تؤدي دورا مميزا في صلب قصة مجرتنا، فينبغي أن نتغاضى عن ذكرها، وكذلك العدد الأكبر من العوالم التي لم ترق حتى إلى المرتبة «البشرية». ولو هممت بذكر مصائرها، لوقعت في الخطأ نفسه الذي يقع فيه أي مؤرخ يحاول وصف كل حياة خاصة ويغفل النمط العام للمجتمع بأكمله.
لقد ذكرت بالفعل أنه مع ازدياد ما تعرضنا له من خبرات خاصة بدمار العوالم، زاد شعورنا بالإحباط على إثر ما يبدو لنا في الكون من عبث وعشوائية. إن العديد من العوالم تكون قد اقتربت للغاية من تحقيق السلام الاجتماعي والرخاء، بعد معاناة طويلة مع المتاعب، ثم ينتزع الكأس منها إلى الأبد. وكثيرا ما كانت تحل الكوارث بسبب عيب تافه في المزاج أو الطبيعة البيولوجية. إن بعض السلالات كان يفتقر إلى الذكاء، وبعضها كان يفتقر إلى الإرادة الاجتماعية؛ فلم يتمكن من التأقلم مع المشكلات التي يطرحها المجتمع العالمي الموحد. وبعضها تحطم بفعل نوع حديث الظهور من البكتيريا قبل أن تصل علومه الطبية إلى مرحلة النضج. بعضها قد فني إثر التغير المناخي، وفني العديد منها بسبب تلاشي الغلاف الجوي. وفي بعض الأحيان كانت النهاية تأتي بفعل تصادم مع سحب كثيفة من الغبار أو الغاز أو مع أسراب من الشهب الضخمة. وتحطم عدد غير قليل من العوالم إثر سقوط أحد الأقمار. إن الجسم الأصغر، الذي يشق طريقه دهرا بعد دهر عبر غيمة متخلخلة ومنتشرة من الذرات الحرة في جميع أرجاء الفضاء النجمي، يفقد قوته الدافعة. ويتقلص مداره ببطء في البداية، ثم يتقلص بسرعة؛ فيتسبب في حدوث حركات مد هائلة في محيطات الجسم الأكبر ويغرق القدر الأكبر من حضارته. بعد ذلك، بسبب الضغط المتزايد لقوة جذب الكوكب، يبدأ القمر العظيم في التفكك . في البداية، يلقي بمحيطه طوفانا على رءوس البشر، ثم يلقي بجباله ثم يلقي بشظايا لبه الضخمة المتأججة. وإن لم تأت نهاية العالم بأي من هذه الطرق، فإنها تأتي بطريقة أخرى لا محالة، غير أن ذلك لم يكن يحدث على الأرجح حتى آخر أيام المجرة. وإذ ينكمش مدار الكوكب على نحو مهلك، تصبح العوالم جميعها في النهاية على درجة قريبة للغاية من الشمس فلا تعود ظروفها صالحة للحياة، وعصرا بعد عصر تجف الكائنات الحياة جميعها حتى الموت وتشويها الشمس.
كثيرا ما تملكت منا مشاعر الفزع والهلع والرعب بينما كنا نشهد هذه الكوارث العظيمة. وقد كان التياع الشفقة الذي كنا نشعر به إزاء آخر الناجين في هذه العوالم جزءا من المشاعر التي صادفناها.
كانت العوالم الأكثر تطورا في هذه العوالم المنحورة في غير حاجة إلى شفقتنا؛ إذ إن سكانها قد بدوا قادرين على ملاقاة نهاية كل ما كانوا يعتزون به بسلام، بل حتى بسرور راسخ غريب لم نستطع استيعابه بأي نحو في تلك المرحلة المبكرة من مغامرتنا. غير أن قلة قليلة جدا فقط هي التي تمكنت من بلوغ هذه الحالة، وقلة قليلة فقط من بين العدد العظيم من العوالم استطاع أن يبلغ السلام الاجتماعي والاكتمال الذي كان الجميع يتلمسونه. علاوة على ذلك، ففي العوالم الأقل تطورا كان عدد قليل للغاية من الأفراد هم الذين جنوا أي شعور بالرضا من الحياة حتى في الحدود الضيقة لطبيعتهم غير الكاملة. ولا شك بأن واحدا أو اثنين هنا وهناك في العوالم جميعها، لم يجد السعادة فقط، بل ذلك السرور الذي يتجاوز كل قدرة على الفهم. أما بالنسبة إلينا نحن الذين قد سحقت نفوسنا الآن من أثر ما شهدناه في آلاف السلالات من المعاناة والعبث، فقد بدا لنا أن هذا السرور نفسه، ذلك الانتشاء الذي كان يشعر به عدد متفرق من الأفراد أو عوالم بأكملها، هو شعور مزيف بالرغم من كل شيء، وأن هؤلاء الذين شعروا به قد كانوا مخدرين لا بد بفعل سلامهم الروحي الخاص وغير المعتاد؛ فمن المؤكد أنه قد عطل حساسيتهم تجاه كل هذه الأهوال من حولهم.
كان الدافع الذي يعززنا في رحلتنا هو الشغف الذي دفع البشر على الأرض في الماضي إلى البحث عن الإله. أجل، لقد غادرنا جميعا كواكبنا الأصلية كي نستكشف ما إذا كانت، فيما يتعلق بالكون ككل، الروح التي نعرفها جميعا في قلوبنا على نحو غامض، ولا نجلها إلا على نحو متقطع متردد، الروح التي نصفها أحيانا على الأرض بالبشرية، هي «سيد الكون»، أم شيء شرير؛ تحظى بالإجلال أم معلقة على صليب؟! والآن قد أصبح من الجلي لنا أنه إذا كان للكون أي سيد على الإطلاق، فليس ذلك بالروح، بل شيء آخر لم تكن غايته في خلق ينبوع لا نهائي من العوالم تتسم بالأبوة والرعاية تجاه الكائنات التي صنعها، بل هي غاية غريبة وغير إنسانية وخبيثة.
بالرغم من ذلك، فبينما كنا نشعر بالإحباط، شعرنا أيضا بالرغبة الشديدة في معرفة تلك الروح التي تمثل بالفعل روح هذا الكون ومواجهتها بشجاعة. إننا بينما كنا نتابع رحلتنا مرورا مرة بعد أخرى من مأساة إلى مهزلة ومن مهزلة إلى مجد، ومن مجد إلى مأساة أخيرة في أغلب الأحوال، انتابنا الشعور بأن ثمة سرا رهيبا مقدسا، لكنه في الوقت ذاته غاشم على نحو لا يمكن تصوره وفتاك، يقبع خارج متناول أيدينا. ومرة تلو الأخرى، تمزقنا بين الرعب والإعجاب الشديدين، بين الغضب الأخلاقي ضد الكون (أو صانع النجوم) وبين العبادة المفرطة.
شهدنا هذا الصراع نفسه في جميع العوالم التي كانت لها نفس وضعنا الفكري. وإذ شاهدنا هذه العوالم ومراحل نموها في الماضي، ورأيناها وهي تتلمس طريقها للوصول إلى المستوى الأعلى من النمو الروحاني على أفضل نحو قد نفعله، تمكنا أخيرا من أن نرى بوضوح المراحل الأولى في رحلة أي عالم. حتى في العصور الأكثر بدائية في أي عالم ذكي معتاد، كانت بعض العقول لديها الدافع للبحث عن شيء كوني وتمجيده. في البداية، كان هذا الدافع مشوشا بالرغبة الشديدة لنيل الحماية من قوة عظيمة. ومثلما هو متوقع ، افترضت الكائنات أن الشيء الذي يستحق الإعجاب لا بد أن يكون هو «القوة»، وأن العبادة هي محض استرضاء؛ ومن ثم فقد بدءوا في تصور الطاغية العظيم في الكون، وتصوروا أنهم أبناؤه المفضلون. بالرغم من ذلك، ومع مرور الوقت، أصبح من الجلي لأنبيائهم أن «القوة» المحضة ليست هي الشيء الذي يعشقه القلب المسبح. بعد ذلك، صارت النظرية تتوج «الحكمة» أو «القانون» أو «الاستقامة». وبعد عصر من الطاعة لشبح مشرع أو القانون الإلهي ذاته، اكتشفت الكائنات أن هذه المفاهيم أيضا لا تفي لوصف التمجيد الفائق الذي يجده القلب في جميع الأشياء، ويعلي من قدره بصمت في جميع الأشياء.
أما الآن، ففي جميع العوالم التي زرناها، تفتحت طرق بديلة أمام العباد. رجا بعضهم أن يلاقوا إلههم المحتجب من خلال التأمل الساعي إلى البحث الداخلي فحسب. ومن خلال تطهير أنفسهم من جميع الرغبات الوضيعة والتافهة، والسعي من أجل رؤية جميع الأمور بموضوعية وبشعور التعاطف الكوني، قد أملوا في أن يتوحدوا مع روح الكون. كثيرا ما كانوا يسافرون بعيدا على طريق اليقظة وتحقيق الكمال في الذات، غير أن هذا الاستغراق الذاتي قد جعل الغالبية منهم لا يشعرون بمعاناة رفاقهم الأقل يقظة، ولا يعبئون بالمشروع المشترك لنوعهم. وقد كان هذا الطريق إلى الروح هو الذي احتشدت حوله جميع العقول الأكثر حيوية في الكثير من العوالم.
ولأن الكائنات كانت تولي أفضل الاهتمام للحياة الداخلية بالكامل، فقد تعرقل التقدم المادي والاجتماعي، ولم تتطور علوم الحياة والطبيعة المادية على الإطلاق. ولم يتوصلوا على الإطلاق إلى القوة الميكانيكية ولا إلى القوة الطبية والبيولوجية. ونتيجة لهذا، فقد تعرضت هذه العوالم للكساد، وبعد فترة، طالت أم قصرت، استسلمت إلى حوادث كان من الممكن جدا تجنبها.
كان هناك طريق ثان للتفاني قد تبنته الكائنات التي تتمتع بعقلية عملية أكثر. كانت هذه الكائنات، في جميع العوالم، تولي الانتباه إلى الكون من حولها بسرور. وبصفة أساسية، وجدت ما تعبده في رفاقهم من الكائنات، وفي الرابطة المشتركة المتمثلة في الرؤى المتبادلة والحب المتبادل بين الأشخاص. وقد كانت هذه الكائنات تعلي من قيمة الحب في أنفسها وفي بعضها بعضا قبل كل شيء آخر.
وقد أخبرهم أنبياؤهم أن هذا الشيء الذي كانوا يعشقونه على الدوام، الروح الكونية، «الخالق»، «المجيد»، «الحكيم»، هو «المحب» أيضا. فليمارسوا إذن عبادتهم على وجه عملي في حب أحدهم للآخر، وفي خدمة «إله الحب». وعلى مدار عصر طال أو قصر، كانوا يسعون سعيا واهنا إلى أن يحب بعضهم بعضا وأن يصبح كل منهم فردا ينتمي للآخر. راحوا ينسجون النظريات التي تؤيد نظرية «إله الحب،» وأقاموا جماعات الكهنوت والمعابد في خدمة الحب، ولأنهم كانوا يتوقون إلى الخلود، فقد أخبروا أن الحب هو الطريق الوحيد لنيل الحياة الأبدية. ولهذا، أسيء فهم الحب المجرد الذي لا يوجد فائدة مباشرة منه.
في معظم العوالم، سادت هذه العقول العملية على العقول المتأملة. وبعد وقت طال أو قصر، أنتج الفضول العملي والحاجة الاقتصادية العلوم المادية. وإذ راحت هذه الكائنات تسبر أغوار كل نطاق بهذه العلوم، لم تجد أي إشارة ل «إله الحب» في أي مكان، لا في الذرة ولا في المجرة ولا في قلب الإنسان أيضا. ومع حمى الميكنة واستغلال الأسياد للعبيد والأهواء التي تميل إلى الحروب بين القبائل، والإهمال المتزايد لجميع الأنشطة التي تتطلب قدرا أكبر من يقظة الروح أو التقليل من قدرها، خبا لهب التمجيد الضئيل في قلوبهم بأكثر مما خبا في أي عصر سابق؛ لقد خبا إلى القاع حتى إنهم لم يعودوا يرونه. أما لهب الحب فقد ذرا به التيار القسري للعقيدة منذ فترة طويلة، لكنه الآن قد اختنق من أثر البلادة الشديدة للكائنات تجاه أحدهم الآخر، وتقلص ليصبح محض دفء محترق كثيرا ما كان يساء فهمه على أنه شهوة فحسب. وبضحك وغضب مريرين، أطاحت الكائنات المعذبة الآن بصورة «إله الحب» من قلوبها.
لذا، فمن دون الحب والعبادة، واجهت الكائنات التعيسة مشكلات عالمها الآلي الذي أضنته الكراهية، والتي كانت تزداد باستمرار.
كانت تلك هي الأزمة التي عرفناها جيدا في عوالمنا، ولم تتمكن العديد من العوالم في مختلف أنحاء المجرة من التغلب عليها. بالرغم من ذلك، ففي بضعة منها، حدثت معجزة لم نكن قد تمكنا بعد من أن نتخيلها بوضوح، وارتقت بمستوى العقول المتوسطة في هذه العوالم إلى مستوى ذهني أرقى. وسوف أتحدث عن هذا لاحقا، أما الآن، فسوف أكتفي بأن أذكر أننا لاحظنا في هذا العدد القليل من العوالم التي حدث فيها ذلك الأمر قبل أن تصبح هذه العقول خارج متناولنا، شعورا جديدا بشأن الكون، شعورا كان من الصعب علينا للغاية أن نتشاركه معهم. ولم نتمكن من متابعة مصائر هذه العوالم إلى أن تعلمنا أن نستحضر في أنفسنا شيئا من هذا الشعور.
غير أنه مع تقدمنا في رحلتنا، بدأت رغباتنا تتغير. أصبحنا نتساءل عما إذا كنا آثمين في طلبنا لأن تحظى الروح البشرية الإلهية التي كنا نعلي من قدرها في أنفسنا وفي رفاقنا الفانين في جميع العوالم الأخرى بسيادة الكون. صار طلبنا لأن يكون «الحب» متوجا خلف النجوم يقل أكثر فأكثر، وصارت رغبتنا في مجرد العبور فاتحين قلوبنا لأن نتقبل الحقيقة التي قد تتراءى لذهننا، أيا ما كانت، بشجاعة تزيد أكثر فأكثر.
كانت هناك لحظة في آخر المرحلة المبكرة من رحلتنا قال فيها بعضنا لبعض من خلال التفكير والشعور معا: «إذا كان «الحب» هو صانع النجوم، فسوف نعرف أن ذلك لا بد أن يكون صحيحا، لكن إذا لم يكن هو الحب، إذا كان شيئا آخر أو روحا غير بشرية، فلا بد أن يكون ذلك هو الصواب. وإذا لم يكن أي شيء، وإذا كانت النجوم وكل ما سواها ليست بمخلوقاته بل كائنات ذاتية الوجود، وإذا كانت الروح المعشوقة ليست سوى كائن بديع قد اختلقته عقولنا، فلا بد أن يكون ذلك هو الصواب وما من احتمالية أخرى. فنحن لا نعرف ما إذا كانت المكانة العليا للحب على العرش أم على الصليب؟! ونحن لا نستطيع أن نعرف أي روح هي التي تحكم؛ فعلى العرش يجلس الظلام، لكننا نعرف أن الحب مصلوب بالفعل في يباب النجوم، وعلى وجه حق من أجل إثبات وجوده، ومن أجل مجد العرش أيضا. نحن نعتز في قلوبنا بالحب وكل ما هو إنساني، لكننا نمجد العرش أيضا وما عليه من ظلام. وسواء أكان هو «الحب» أم لا، فإن قلوبنا تمجده، محلقة خارج حدود المنطق.»
غير أنه قبل أن تتمكن قلوبنا من الانسجام جيدا مع هذا الشعور الجديد الغريب، كان لا يزال علينا أن نتوغل بعيدا في فهم العوالم ذات المرتبة البشرية بالرغم من تنوعها. والآن ينبغي علي أن أحاول أن أقدم نبذة عن أنواع متعددة من العوالم التي تختلف كثيرا عن عوالمنا، لكنها ليست أكثر نضجا من الناحية الجوهرية.
الفصل السابع
المزيد من العوالم
(1) سلالة تكافلية
على بعض الكواكب الكبيرة، التي كان المناخ فيها أكثر حرارة من مناطقنا الاستوائية بدرجة كبيرة بسبب قربها من شمس عنيفة، كنا نجد في بعض الأحيان سلالة ذكية شبيهة بالأسماك. كان من المربك لنا أن نكتشف أن عالما مائيا يمكن أن يرقى إلى المرتبة البشرية من الناحية الذهنية، وإلى هذه الدرجة من التعقيد في الروح والتي كنا نصادفها الآن كثيرا.
كانت المحيطات الشديدة الضحالة التي تغمرها الشمس في هذه الكواكب الضخمة توفر تنوعا هائلا في المواطن الطبيعية، وثروة هائلة من الكائنات الحية. كانت المناطق النباتية الخضراء، التي يمكن تصنيفها إلى مناطق استوائية وشبه استوائية ومعتدلة وقطبية، تتعرض للشمس في أرضيات المحيطات الساطعة. كانت هناك سهول وغابات تحت الماء. في بعض المناطق، كانت الأعشاب الضخمة تمتد من قاع البحر حتى الأمواج. وفي هذه الأدغال، كان ضوء الشمس الأزرق الساطع يتقلص إلى ظلام يكاد يكون تاما. كانت هناك بعض الكتل الضخمة التي تشبه الشعاب المرجانية منخربة بالممرات وتتدفق بجميع الأشكال من الكائنات الحية، ترفع قممها المستدقة وأبراجها المدببة إلى السطح. سكن المستويات المتعددة من المياه أنواع لا تحصى من الكائنات الشبيهة بالأسماك بجميع أحجامها بداية من سمك الإسبرط إلى الحيتان، بعضها ينساب على القاع، وبعضها يجرؤ على القفز بين الحين والآخر إلى الهواء المتأجج. في أكثر المناطق عمقا وأشدها ظلمة، كانت هناك جماعات من الوحوش البحرية بعضها مضيء وبعضها بلا عيون يقتات على الجثث التي لا يتوقف سقوطها من المستويات الأعلى. فوق عالمها العميق، كانت تقبع عوالم أخرى تتسم بالمزيد من السطوع والألوان حيث كانت الجماعات السكانية الزاهية تنعم في الشمس وتتجول في الأنحاء وتصطاد بالتحرك السريع. كان الذكاء في هذه الكواكب عادة ما يتمثل في كائن اجتماعي عادي، لا هو بالسمك ولا بالأخطبوط ولا هو بالحيوان القشري، بل هو مزيج من الأنواع الثلاثة، مزود بمجسات للتناول وعيون حادة ودماغ حاذق. كان يصنع الأعشاش من الحشائش في أصداع الشعاب المرجانية، أو يبني معاقل من الحجارة المرجانية. بمرور الوقت، كانت تظهر المصايد والأسلحة والأدوات والزراعة تحت المائية، وبدايات الفن البدائي، وطقوس الدين البدائي. ويتبع ذلك التقدم المتذبذب المعتاد للروح من الهمجية إلى الحضارة.
كان أحد هذه العوالم تحت المائية مثيرا للاهتمام على نحو استثنائي. ففي المرحلة المبكرة من حياة مجرتنا، حين كان عدد قليل من النجوم فقط هو الذي تكثف من النوع الشمسي «العملاق» إلى النوع المعتاد، وحين لم يكن قد ولد سوى عدد قليل من الكواكب، اقترب نجم مزدوج ونجم مفرد في عنقود نجمي مكتظ، اقترب بالفعل كل منهما من الآخر، وبلغت الشعيرات المتقدة لكل منهما إلى الآخر وأنجبا نسلا من الكواكب. ومن هذه العوالم، أنتج جرم ضخم ومائي للغاية بمرور الوقت سلالة سائدة لم تتمثل في نوع واحد بل شراكة تكافلية بين كائنين غريبين للغاية. أحدهما كان يأتي من أصل شبيه بالأسماك، أما الآخر فقد كان يبدو في مظهره شبيها بالقشريات. وفي البنية، كان يشبه سلطعونا له أقدام ذات أرياش أو عنكبوت بحري. وعلى عكس القشريات في كوكبنا، لم يكن مغطى بدرع هش، بل بجلد ثخين. عند البلوغ، تصبح هذه الصديرية المتينة صلبة بعض الشيء خلا منطقة المفاصل، أما في مرحلة الشباب، فتظل طيعة لتناسب الدماغ الذي لا يزال في مرحلة النمو. كان هذا الكائن يعيش على السواحل والمياه الساحلية في العديد من جزر الكوكب. كان كلا النوعين في الرتبة البشرية من الناحية الذهنية ، غير أن كلا منهما كان له طابعه الخاص وقدراته. في العصور البدائية، بلغ كل منهما بطريقته الخاصة في النصف الذي يسكنه من ذلك الكوكب المائي الكبير، ما يمكن أن نسميه بالمرحلة الأخيرة في العقلية دون البشرية. كان النوعان قد التقيا في ذلك الوقت، وقد تقاتلا قتالا مستميتا، وكانت أرض معركتهما هي المياه الضحلة الساحلية. إن سلالة «القشريات» كانت برمائية بصورة أولية، ولم تكن تستطيع البقاء تحت الماء لفترة طويلة، في حين لم تكن سلالة «الأسماك» تستطيع الخروج منها. لم تتنافس السلالتان إحداهما مع الأخرى على الحياة الاقتصادية تنافسا جديا؛ إذ كانت سلالة «الأسماك» تتغذى على النباتات بصفة أساسية، وكانت سلالة «القشريات» من آكلات اللحوم بصفة أساسية، غير أن إحداهما لم تكن تطيق وجود الأخرى. كانت كلتاهما تبلغان من المرتبة البشرية ما يجعلهما تدركان أنهما منافستان أرستقراطيتان إحداهما للأخرى في عالم دون بشري، غير أنهما لم يبلغا منها ما يجعلهما تدركان أن طريق الحياة لكل منهما يكمن في التعاون مع الأخرى. كانت الكائنات الشبيهة بالأسماك والتي سأدعوها باسم السمكيات أو السلالة السمكية تتمتع بالسرعة في الانتقال واتساع مداه. وكانت تتمتع أيضا بما يجلبه الحجم الكبير من مزايا الأمن. أما «القشريات» الشبيهة بالسلطعون أو العنكبوت، والتي سأطلق عليها اسم العنكبوتيات أو السلالة العنكبوتية، فقد كانت تتمتع بقدر أكبر من البراعة اليدوية، وكذلك القدرة على الوصول إلى اليابسة. كان التعاون بين السلالتين سيصبح مفيدا للغاية لكلتيهما؛ إذ إن أحد الأغذية الأساسية التي تقتات عليها العنكبوتيات كانت تتطفل على السمكيات.
بالرغم من إمكانية تبادل العون، فقد سعت كل من السلالتين إلى إبادة إحداهما الأخرى، وكادتا أن تنجحا. وبعد عصر من تبادل القتل الأعمى، راحت بعض الأصناف المحددة من النوعين والتي كانت أقل شراسة وأكثر مرونة، تكتشف بالتدريج فائدة التآخي مع العدو.
كانت تلك هي بداية شراكة مميزة للغاية. وسرعان ما أخذت العنكبوتيات في الركوب على ظهور السمكيات السريعة؛ ومن ثم فقد استطاعت الوصول إلى مساحة أكبر من أراضي الصيد.
ومع مرور العصور، صاغ النوعان أحدهما الآخر ليشكلا اتحادا يتسم بتكامل جيد. راح الكائن العنكبوتي الصغير، والذي لم يكن حجمه يزيد عن قرد الشمبانزي، يركب في تجويف مريح خلف جمجمة الكائن السمكي الكبير، مما يجعل ظهره انسيابيا مع الخطوط المحددة لجسم الكائن الأكبر. كانت مجسات الكائن السمكي متخصصة في التناول الواسع النطاق، أما مجسات الكائن العنكبوتي، فقد كانت للأعمال الدقيقة. تطورت بينهما أيضا علاقة من الاعتماد المتبادل الكيميائي الحيوي؛ فمن خلال غشاء في جراب الكائن السمكي، كانت تحدث عملية من تبادل الإفرازات الصماوية. وقد أتاحت هذه العملية للكائن العنكبوتي أن يصبح مائيا بالكامل؛ فقد كان يستطيع البقاء تحت الماء لأي فترة من الوقت ويصل إلى أي عمق ما دام يحافظ على التواصل المتتابع مع مضيفه. إضافة إلى ذلك، فقد حدثت أيضا وسيلة تكيفية ذهنية مذهلة بين النوعين؛ أصبحت السمكيات في المجمل تميل إلى الانطوائية، وصارت العنكبوتيات تميل إلى الانبساطية.
حتى فترة البلوغ، كان الصغار من النوعين كائنات فردية حرة، لكن مع تطور الجهاز التكافلي لديها، يبحث كل منها عن شريك من النوع المقابل. وكان الاتحاد الذي يتبع ذلك يستمر على مدى الحياة لا يقطعه سوى فترات التزاوج الجنسي القصيرة. كان التكافل نفسه يشكل نوعا من النشاط الجنسي الطباقي، غير أنه كان ذهنيا خالصا؛ إذ كان على كل فرد أن يبحث عن شريك من نوعه بالطبع من أجل إتمام عملية التزاوج والتكاثر. بالرغم من ذلك، فقد وجدنا أنه حتى الشراكة التكافلية كانت تتكون دائما من ذكر من نوع وأنثى من النوع الآخر، وقد كان الذكر، أيا كان نوعه، يتصرف بتفان أبوي تجاه صغار شريكته التكافلية.
ليس لدي من المجال ما يكفي لوصف التبادل الذهني الاستثنائي بين هذه الأزواج الغريبة. لا يمكنني سوى القول إنه بالرغم من اختلاف النوعين في التركيب الحسي والطباع، وبالرغم من حدوث بعض النزاعات المأساوية في حالات استثنائية، فقد كانت الشراكة العادية أكثر حميمية من الزواج البشري وأكثر تمديدا للفرد من أي صداقة بين اثنين ينتميان إلى عرقين بشريين مختلفين. في مراحل معينة من نمو الحضارة، حاولت بعض العقول الخبيثة أن تثير نزاعا واسع الانتشار بين النوعين ولاقت نجاحا مؤقتا، غير أن المشاكل نادرا ما كانت تتعمق لكي تصل إلى ما وصلت إليه «حرب الجنسين» لدينا؛ فقد كان كل نوع ضروريا للغاية للنوع الآخر. لقد ساهم كل منهما في ثقافة عالمهما بقدر متساو، وإن لم يكن متساويا في جميع الأوقات. في العمل الإبداعي من جميع الأنواع، كان أحد الشريكين يقدم القدر الأكبر من الابتكار، بينما يقدم الآخر القدر الأكبر من النقد والرقابة. ونادرا ما يكون أحد الشريكين سلبيا تماما في أي عمل من الأعمال. الكتب، أو المخطوطات على وجه الدقة، والتي كانت تصنع من لب الأعشاب البحرية، تحمل توقيع الأزواج في جميع الأحوال تقريبا. وبصفة عامة، كان الشركاء من العنكبوتيات يتفوقون في المهارات اليدوية والعلوم التجريبية والفنون البلاستيكية والتنظيم الاجتماعي العملي. أما الشركاء من السمكيات، فقد كانوا يتفوقون في الأعمال النظرية والفنون الأدبية وموسيقى ذلك العالم تحت المائي والتي كانت متطورة على نحو مدهش وفي النوع الأكثر إلغازا من الدين. بالرغم من ذلك، فلا ينبغي الأخذ بصحة هذا التعميم على نحو صارم.
بدا أن هذه العلاقة التكافلية قد منحت السلالة المزدوجة درجة من المرونة الذهنية هي أعلى كثيرا مما كنا نتمتع به، وقابلية أسرع للرفقة. لقد مرت بمرحلة الحروب بين القبائل بسرعة، والتي كانت الأسراب المتجولة من الأزواج التكافليين خلالها يداهم كل منها الآخر كجماعات من فرسان العالم تحت المائي؛ إذ كانت العنكبوتيات، التي تركب على ظهور أزواجها من السمكيات، تهاجم العدو بالسيوف والرماح المصنوعة من العظام، بينما تصارع شريكاتها بالمجسات القوية. غير أن مرحلة الحرب بين القبائل كانت وجيزة للغاية. وحين تحقق نمطا مستقرا من الحياة مع الزراعة تحت المائية والمدن المبنية من الشعاب المرجانية، كان الصراع بين المدن هو الاستثناء لا القاعدة. وبمساعدة قدرتها الكبيرة على التنقل وسهولة التواصل بلا شك، سرعان ما تمكنت السلالة المزدوجة من بناء اتحاد عالمي غير مسلح من المدن. ومما أدهشنا أيضا أننا قد عرفنا أنه في أوج الحضارة السابقة على الحضارة الآلية في هذا الكوكب، حين كان الانقسام إلى أسياد وعبيد اقتصاديين سيصبح خطيرا في عوالمنا، كانت الروح التعاونية للمدينة تتغلب على جميع المساعي الفردية. وسرعان ما أصبح هذا العالم نسيجا متكافلا ومستقلا من البلديات المحلية.
في ذلك الوقت، بدا أن الصراع الاجتماعي قد اختفى إلى الأبد، غير أن الأزمة الأكثر خطورة على السلالة لم تكن قد أتت بعد.
لم تقدم البيئة تحت المائية فرصا كبيرة للسلالة التكافلية للتقدم؛ فجميع مصادر الثروة قد استثمرت ونظمت. وقد حافظوا أيضا على عدد السكان عند الحد المثالي الذي يضمن الرخاء في العالم. وكان النظام الاجتماعي مرضيا لجميع الطبقات، وبدا ثابتا على الأرجح. وكانت الحياة الفردية مكتملة ومتنوعة. والثقافة التي تأسست على تقليد عظيم، قد أصبحت الآن معنية بالكامل بالاستكشاف المفصل لمجالات التفكير العظيمة التي مهد الأسلاف المبجلون السبيل لها قبل عصور طويلة، وقيل إن ذلك كان بإلهام مباشر من الإله التكافلي. كان أصدقاؤنا في هذا العالم تحت المائي، وهم مضيفونا الذهنيون، ينظرون من عصرهم المضطرب إلى هذا العهد بحنين في بعض الأحيان، وبرعب في معظمها؛ إذ بدا ذلك لهم عند تأمل الماضي أنه يوضح العلامات الخافتة الأولى على تدهور جذري. لقد نجحت السلالة في التكيف مع بيئتها الثابتة على نحو مثالي؛ حتى إن الذكاء والفطنة ما عادا ثمينين وكان من الممكن أن يبدآ في الخفوت سريعا. بالرغم من ذلك، فقد بدا في الوقت الحاضر أن القدر قد قضى بشيء آخر.
في العالم تحت المائي، كان احتمال اقتناء القوة الميكانيكية بعيدا. بالرغم من ذلك، فسوف يذكر أن السلالة العنكبوتية كانت تستطيع العيش خارج الماء. ففي العصور السابقة على التكافل، كان أسلافهم يخرجون بين الحين والآخر إلى الجزر من أجل الغزل والأبوة وطلب الفرائس. ومنذ تلك العصور، تضاءلت قدرتهم على تنفس الهواء لكنها لم تختف تماما؛ فقد ظل أفراد السلالة العنكبوتية يخرجون من أجل التزاوج الجنسي، ومن أجل بعض التمرينات الرياضية الشعائرية. وفي ذلك السياق الأخير، توصلوا إلى الاكتشاف العظيم الذي غير مسار التاريخ؛ ففي إحدى المسابقات، أدى احتكاك بعض الأسلحة الحجرية التي اصطدمت بعضها ببعض إلى إصدار شرر ونيران بين الحشائش التي سفعتها الشمس.
وفي تتابع سريع للغاية، توصلوا إلى صهر المعادن، فالمحرك البخاري، فالتيار الكهربي. حصلوا على الطاقة في البداية من خلال احتراق نوع من الخث المتكون على السواحل من خلال النباتات البحرية المكتظة، ثم حصلوا عليها من الرياح العنيفة والدائمة بعد ذلك، ثم من المصائد الشمسية الكيميائية للضوء، والتي كانت تمتص الإشعاع الشمسي الغزير. وقد كانت هذه الاختراعات من صنع السلالة العنكبوتية بالطبع. وبالرغم من أن السلالة السمكية قد ظلت تؤدي دورا عظيما في منهجة المعرفة، فقد حرمت من المهام العملية العظيمة في العلوم التجريبية والاختراعات الآلية التي كانت تجري فوق البحار. وبعد وقت قصير، كانت السلالة العنكبوتية توصل كابلات كهربية من محطات الطاقة الموجودة على الجزر إلى المدن الموجودة تحت المياه. استطاعت السلالة السمكية أن تشارك في هذا العمل على الأقل، غير أن عملها كان ثانويا بالضرورة؛ إذ لم يكن شركاؤهم من السلالة العنكبوتية يتفوقون عليهم في الهندسة الكهربية فحسب، بل في قدراتهم العملية الأصلية أيضا.
على مدار قرنين من الزمان أو أكثر، استمر النوعان في التعاون، وإن حمل ذلك التعاون توترا متزايدا. فالإضاءة الصناعية والنقل الآلي للسلع على أرض المحيط، والتصنيع الواسع النطاق، كل ذلك قد أنتج زيادة هائلة في مرافق الحياة في المدن تحت المائية. واكتظت الجزر بالمباني المخصصة للعلم والصناعة، وتقدمت علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء تقدما كبيرا. وبدأ علماء الفلك في وضع خريطة للمجرة، واكتشفوا كوكبا مجاورا يوفر فرصا رائعة لاستقرار السلالة العنكبوتية فيه، والتي كانت تأمل في أن تتمكن من التكيف مع المناخ الغريب دون صعوبة كبيرة، وأن تنفصل عن شركائها التكافليين. أدت المحاولات الأولى من الرحلات الصاروخية إلى مزيج من المآسي والنجاحات. وطالبت إدارة الأنشطة الخارجة عن نطاق البحار بزيادة كبيرة للغاية في عدد أفراد السلالة العنكبوتية.
نشب النزاع بين النوعين لا محالة، وفي عقل كل فرد من النوعين أيضا. وقد كان في أوج هذا النزاع، وفي الأزمة الروحانية التي استطعنا بسببها الوصول إلى هذه العقول في مرحلتنا الابتدائية، أن دخلنا هذا العالم لأول مرة. لم تكن السلالة السمكية قد استسلمت بعد بيولوجيا إلى موقعها الأدنى، غير أنها كانت تبدي من الناحية النفسية بالفعل علامات على التردي الذهني العميق. لقد هاجمها الإحباط وفتور العزيمة الشديدان، واللذان كثيرا ما يقوضان سلالاتنا البدائية حين تجد أنها تجاهد في فيضان الحضارة الأوروبية. بالرغم من ذلك، ولأن العلاقة بين السلالتين في النظام التكافلي كانت حميمية للغاية، أكثر بكثير من أقوى علاقة حميمية بين أي بشريين على الإطلاق، فقد تأثرت بشدة السلالة العنكبوتية بمحنة السلالة السمكية. أما في عقول أفراد السلالة السمكية، فكان انتصار شركائهم لفترة طويلة مصدرا لمشاعر مختلطة من الانزعاج والابتهاج. لقد كان أفراد كلا النوعين ممزقين بين دوافع متضاربة؛ فبينما كان يتوق كل كائن عنكبوتي إلى أن يشارك في الحياة الجديدة المليئة بالمغامرة، كان يتوق أيضا، بدافع من العاطفة المحضة والتشابك التكافلي، إلى مساعدة قرينه السمكي في أن ينال حظا مساويا من تلك الحياة. علاوة على ذلك، فقد كان جميع أفراد السلالة العنكبوتية مدركين لاعتمادهم الخفي على أقرانهم، وقد كان اعتمادهم هذا فيسيولوجيا ونفسيا معا. فقد كان أفراد السلالة السمكية هم الذين يساهمون في التكافل الذهني بالجزء الأكبر من القدرة على معرفة الذات والبصيرة المشتركة، والتأمل الذي كان ضروريا للغاية للحفاظ على التفاعل لطيفا وعاقلا. إن ذلك قد أصبح جليا للغاية من حقيقة أن صراعا داخليا قد نشب بالفعل بين أفراد السلالة العنكبوتية، وراحت كل جزيرة تنزع إلى التنافس مع الأخرى، بينما تتنافس إحدى المؤسسات الصناعية الكبيرة مع الأخرى.
لم أستطع أن أغفل عن ملاحظة أنه لو كان هذا الانقسام العميق في المصالح قد حدث على كوكبي، بين جنسينا مثلا، لكان الجنس صاحب الأفضلية قد سحق الآخر إلى الاستعباد بكل عزم وتصميم. وقد كاد أن يتحقق هذا «الانتصار» من جانب السلالة العنكبوتية بالفعل. تفككت المزيد والمزيد من العلاقات، وراح كل فرد يحاول إمداد نظامه من خلال العقاقير بالمواد الكيميائية التي يوفرها النظام التكافلي في المعتاد. بالرغم من ذلك، فلم يكن هناك من بديل للاعتمادية الذهنية، وتعرض الشركاء المنفصلون إلى اضطرابات ذهنية خطيرة سواء أكانت خفية أم ظاهرة. ومع ذلك، فقد نما عدد كبير من السكان تمكنوا من العيش بدون الاتصال التكافلي إلى حد ما. والآن اتخذ الصراع منحنى عنيفا إذ هاجم المتشددون من النوعين بعضهم بعضا، وأثاروا المتاعب بين المعتدلين، ثم سادت من بعد ذلك فترة من الحروب البائسة والمشوشة. في كلا الجانبين، كانت هناك أقلية صغيرة مكروهة تدعو إلى «التكافل الحديث» والذي يكون فيه كلا النوعين قادرا على المساهمة في الحياة المشتركة حتى في ظل الحضارة الآلية. وقد استشهد العديد من هؤلاء المصلحين في سبيل اعتقادهم.
كان النصر على المدى الطويل سيكون حليف السلالة العنكبوتية؛ إذ إنها كانت تتحكم في مصادر القوة. بالرغم من ذلك فسرعان ما بدا أن محاولة فصل الرابطة التكافلية ليست بالأمر الناجح كما بدا من قبل. فحتى في وقت الحرب، لم يستطع القادة منع التآخي المنتشر بين القوات المتخاصمة. كان أعضاء الشراكات التي انفرط عقدها يلتقون خلسة لينتزعوا بضع ساعات أو لحظات من رفقة بعضهم لبعض. وكان الأعضاء الأرامل أو الذين قد هجرهم رفاقهم من كلا النوعين يغامرون بخوف لكن بشغف للدخول إلى معسكرات العدو بحثا عن أقران جدد. وكانت جماعات بأكملها تستسلم للغرض نفسه. وقد عانت السلالة العنكبوتية من الأمراض العصبية أكثر مما عانت من أسلحة العدو. وعلاوة على ذلك، كانت الحروب الأهلية والثورات الاجتماعية على الجزر قد جعلت من تصنيع الذخائر أمرا شبه مستحيل.
الفرقة الأكثر حزما من السلالة العنكبوتية قد حاولت الآن إنهاء الصراع بتسميم المحيط؛ فتسممت الجزر بدورها بملايين الجثث المتحللة التي ارتفعت إلى سطح البحر وارتمت على الشواطئ. السم والطاعون وقبلهما الأمراض العصبية، قد أوقفت الحرب، ودمرت الحضارة، وكادت تفني كلا النوعين. ناطحات السحاب المهجورة التي اكتظت بها الجزر قد بدأت في الانهيار إلى أكوام من الحطام. أما المدن تحت المائية، فقد غزتها الأدغال تحت المائية وكذلك أنواع متعددة من كائنات شبيهة بالقروش تنتمي إلى السلالة السمكية والتي كانت ما تزال في المرحلة دون البشرية. وبدأ نسيج المعرفة الرقيق يتحلل إلى شذرات من الخرافة.
والآن قد حانت الفرصة أخيرا للدعاة إلى التكافل العصري. كانوا قد تمكنوا بصعوبة من الحفاظ على وجود سري لهم وعلى شراكاتهم الفردية في المناطق البعيدة غير المأهولة من الكوكب. والآن قد خرجوا بشجاعة لينشروا إنجيلهم بين التعساء الذين تبقوا من سكان العالم. انتشر التزاوج وإعادة التزاوج بين الأنواع انتشارا كاسحا. وأبقت الزراعة البدائية تحت المائية والصيد على حياة الشعوب المتشتتة بينما كان يجري إخلاء القليل من المدن المرجانية وإعادة بنائها، وهكذا قد جرى تجديد الأدوات اللازمة لإقامة حضارة بسيطة لكن واعدة. كانت تلك حضارة مؤقتة دون قوة آلية، غير أنها كانت تعد نفسها بمغامرات عظيمة في «العالم الأعلى» فور أن تكون قد أرست المبادئ الأساسية للتكافل المعدل.
بالنسبة إلينا، فقد بدا أن مصير ذلك المشروع هو الفشل؛ إذ كان من الجلي للغاية أن المستقبل للكائن الأرضي لا البحري، لكننا كنا مخطئين. لن أخوض في تفاصيل النضال البطولي الذي تمكنت السلالة من خلاله من إعادة صياغة طبيعتها التكافلية كي تلائم الحياة العملية التي كانت تكمن أمامها. كانت المرحلة الأولى هي إصلاح محطات الطاقة الموجودة على الجزر، والتنظيم المتقن لمجتمع مائي خالص مزود بالطاقة، لكن ما كان لعملية إعادة البناء هذه أن تجدي نفعا دون دراسة متأنية للعلاقات الجسدية والذهنية بين النوعين. كان لا بد من تعزيز التكافل حتى لا ينشأ هذا الصراع بين النوعين في المستقبل على الإطلاق. ومن خلال المعالجة الكيميائية في مرحلة الطفولة المبكرة، أصبح كل من النوعين أكثر اعتمادا على الآخر، وأصبحت الشراكة بينهما أكثر متانة. ومن خلال طقس نفسي محدد شبيه بالتنويم المغناطيسي المتبادل، يصبح الشركاء حديثو الاتحاد بعده في حالة تبادل ذهني سرمدية. وهذا الاتحاد بين النوعين، والذي كان كل فرد يعرفه في تجربة حميمية مباشرة، قد أصبح بمرور الوقت هو التجربة الأساسية في جميع مظاهر الثقافة والدين. فإله التكافل الذي كان يظهر في جميع الأساطير البدائية، قد نصب من جديد بصفته رمزا للطابع المزدوج للكون، وقد قيل إن هذه الازدواجية تتألف من الحكمة والإبداع متحدين في روح الحب الإلهية. وقد تأكد أن الهدف المنطقي الوحيد للحياة الاجتماعية هو خلق عالم من الشخصيات اليقظة الحساسة الذكية التي يتفهم بعضها البعض الآخر، وتتحد معا وراء الغاية المشتركة المتمثلة في استكشاف الكون وتنمية الإمكانات المتعددة للروح البشرية. وقد كان الصغار يساقون إلى اكتشاف هذا الهدف بأنفسهم على نحو غير محسوس.
وعلى نحو تدريجي وحذر للغاية، أعيدت جميع العمليات الصناعية والأبحاث العلمية التي كانت تنتمي إلى عصر سابق، غير أن ذلك قد حدث مع اختلاف عما سبق. لقد خضعت الصناعة للهدف الاجتماعي الواعي. أما العلم الذي كان مسخرا للصناعة من قبل، فقد أصبح رفيقا حرا للحكمة.
ومرة أخرى، تكدست الجزر بالمباني والعمال المتحمسين من السلالة العنكبوتية، لكن جميع المناطق المائية الضحلة الساحلية قد امتلأت بالكثير من المنازل السكنية حيث كان الشركاء التكافليون يستريحون ويجددون نشاطهم مع أقرانهم. وفي أعماق المحيطات، حولت المدن القديمة إلى مدارس وجامعات ومتاحف ومعابد وقصور للفن وللاستمتاع. هناك، كان الصغار من النوعين يكبرون معا. وهناك كان البالغون من النوعين يلتقون باستمرار من أجل الترويح والتحفيز. وهناك أيضا، بينما كان أفراد السلالة العنكبوتية منشغلين على الجزر، كان أفراد السلالة السمكية يقومون بعملهم في التعليم وإعادة تشكيل ثقافة العالم النظرية بأكملها؛ إذ أصبح من الجلي الآن أن طباعهم ومواهبهم في هذا المجال يمكن أن تساهم مساهمة ضرورية في الحياة المشتركة. وبهذا، كانت الأعمال المتعلقة بالأدب والفلسفة والتعليم غير العلمي تجرى بصفة أساسية في المحيط، بينما كانت الصناعة والبحث العلمي والفنون البلاستيكية هي الأكثر انتشارا على الجزر.
بالرغم من هذا الاتحاد الوثيق بين كل زوجين، كان من المحتمل أن يؤدي هذا التقسيم الغريب للعمل بمرور الوقت إلى تجديد الصراع لولا التوصل إلى اكتشافين جديدين. كان الأول هو تطوير التخاطر؛ فبعد عدة قرون من «عصر الحرب»، توصلوا إلى اكتشاف إمكانية تحقيق اتصال تخاطري كامل بين فردي كل زوج من الأزواج. وبمرور الوقت، توسع هذا الاتصال ليشمل السلالة المزدوجة بأكملها. كانت أولى نتائج هذا التغيير هي زيادة كبيرة في تسهيل التواصل بين الأفراد في جميع أنحاء العالم؛ ومن ثم زيادة كبيرة في الفهم المتبادل والاتحاد على الغاية الاجتماعية، لكن قبل فقدنا للتواصل مع هذه السلالة السريعة التقدم، وجدنا دليلا على وجود نتيجة أعمق كثيرا وأبعد أثرا للتخاطر العالمي؛ فقد علمنا أنه في بعض الأحيان، كان الاتصال التخاطري بين السلالة بأكملها يؤدي إلى حدوث ما يشبه يقظة متناثرة لعقل عالمي مشترك يشارك فيه جميع الأفراد.
أما الاكتشاف العظيم الثاني الذي توصلت إليه السلالة، فقد كان من نتائج الأبحاث المتعلقة بالوراثة. لم يتمكن أفراد السلالة العنكبوتية الذين كان عليهم أن يظلوا قادرين على العمل على اليابسة وعلى كوكب ضخم من تحقيق أي تحسن كبير في وزن الدماغ وتعقيده، أما أفراد السلالة السمكية الذين كانوا يتسمون بالضخامة بالفعل وكانت المياه ترفعهم، فلم يخضعوا لهذا القيد. وبعد فترة طويلة من التجارب التي كانت تبوء بالفشل الذريع في معظم الأحيان، جرى إنتاج سلالة «السمكيات الفائقة». وبمرور الوقت، أصبحت السلالة السمكية بأكملها تتألف من هذه الكائنات. وفي هذه الأثناء، فإن أفراد السلالة العنكبوتية الذين كانوا الآن يستكشفون كواكب أخرى في النظام الشمسي خاصتهم ويستعمرونها، لم يتطوروا وراثيا في جانب التعقيد العام للدماغ، بل تطورت لديهم تلك المراكز المحددة في الدماغ التي كانت تدعم الاتصال التخاطري؛ ومن ثم بالرغم من التركيب الدماغي الأبسط الخاص بهم، تمكنوا من الحفاظ على تواصل تخاطري كامل حتى مع أقرانهم كبيري الدماغ الذين يعيشون بعيدا للغاية عنهم في محيطات كوكبهم الأم. والآن، قد شكلت الأدمغة البسيطة والمعقدة نظاما واحدا، تكون فيه كل وحدة مهما كانت بساطة مساهمتها، حساسة للنظام الكلي.
وقد كانت تلك المرحلة، التي استبدلت فيها السلالة السمكية الأصلية وحلت محلها السلالة السمكية الفائقة، هي التي فقدنا فيها الاتصال بهذا العالم في النهاية. كانت خبرة السلالة المزدوجة قد جاوزت تماما قدرتنا على استيعابها. وفي مرحلة متأخرة للغاية من رحلتنا، اتصلنا بهم ثانية على مستوى أعلى من الوجود. كانوا قد اشتركوا في ذلك الوقت بالفعل في ذلك المشروع الضخم المشترك، والذي كان يضطلع به، مثلما سأذكر لاحقا، «اتحاد عوالم المجرة». في هذا الوقت، كانت السلالة التكافلية تتألف من مجموعة ضخمة من المغامرين العنكبوتيين المنتشرين في العديد من الكواكب، ومجموعة يبلغ عددها قرابة الخمسين ألف مليون من سلالة السمكيات الفائقة والذين يعيشون حياة من المباهج المائية والنشاط الذهني المكثف في محيط عالمهم الأصلي العظيم. وحتى في هذه المرحلة، كان لا بد من الحفاظ على التواصل الجسدي بين الشركاء التكافليين، وإن كان ذلك على فترات زمنية طويلة. وكان هناك تدفق مستمر من السفن الفضائية بين المستعمرات والعالم الأصلي. ودعم أفراد السلالة السمكية مع ذلك الجمع الغفير من زملائهم على عدد من الكواكب؛ وجود عقل للسلالة. وبالرغم من أن السلالة التكافلية بأكملها قد غزلت خيوط الخبرة المشتركة، فقد كانت السلالة السمكية وحدها هي التي كانت تحيك هذه الخيوط في نسيج واحد في موطنهم الأولي في المحيط، ثم يتشارك فيها بعد ذلك نوعا السلالة كلاهما. (2) كائنات مركبة
أحيانا في مسار مغامرتنا، كنا نأتي على عوالم تسكنها كائنات ذكية، كانت شخصيتها المطورة تعبيرا عن مجموعة من الكائنات الحية لا عن كائن فردي فحسب. وفي معظم الأحيان، يكون هذا الوضع قد نشأ عن ضرورة الجمع بين الذكاء وخفة الجسد الفردي. إذا كان هناك كوكب كبير قريب بعض الشيء من شمسه أو يؤرجحه قمر كبير للغاية، فسوف تجتاحه تيارات المد والجزر الضخمة من المحيط. وسوف تخضع مساحات شاسعة من سطحه إلى الغرق والتعري بصفة دورية. في هذا العالم، يكون الطيران أمرا مرغوبا للغاية، لكن نظرا لقوة الجاذبية، فلن يتمكن من الطيران سوى كائن صغير؛ أي أن كتلة صغيرة نسبيا من الجزيئات هي التي ستتمكن من الطيران؛ ومن ثم فلم يكن من الممكن حمل دماغ كبير بالدرجة التي تكفي لإجراء الأنشطة «البشرية» المعقدة.
في تلك العوالم، كان الأساس العضوي للذكاء في معظم الأحيان هو سرب من الكائنات الطائرة التي لا يزيد حجمها عن حجم العصافير. وقد كان عقل فردي واحد فقط من المرتبة البشرية يتملك مجموعة من أجساد الأفراد. لقد كان جسم هذا العقل متعددا، أما العقل نفسه فقد كان على تلك الدرجة نفسها من التماسك التي يتمتع بها العقل البشري. ومثلما كانت أسراب طيور الدريجة والطيطوي تتدفق وتتدحرج وتحلق وتختلج على مصبات الأنهار في كوكبنا، كذلك كانت تفعل تلك الغيوم المتحركة من الكائنات الطائرة فوق المناطق المزروعة الكبيرة التي غمرها المد في هذه العوالم، وكل غيمة منها تمثل مركزا واحدا للوعي. وبعد وقت قصير، مثلما هي الحال مع طيورنا الخواضة المجنحة، تستقر تلك الطيور الصغيرة، ويتضاءل حجم الغيمة الكبير إلى محض غشاء فوق الأرض، كرواسب على طول هامش المد المنحسر.
كانت الحياة في هذه العوالم تقسم على إيقاع تيارات المد والجزر. فخلال التيارات الليلية، كانت غيوم الطيور تنام جميعها على الأمواج. وخلال التيارات النهارية، كانت تنغمس في الرياضات الهوائية والممارسات الدينية. بالرغم من ذلك، في المرتين اللتين تجف فيهما الأرض خلال اليوم، كانت تزرع الطين المنقوع، أو تباشر جميع عمليات الصناعة والثقافة في مدنها المصنوعة من الخلايا الخرسانية. لقد كان من المثير لنا أن نرى كيف أنهم كانوا يتمكنون ببراعة من إبعاد جميع أدوات الحضارة عن تلف المياه قبل عودة تيارات المد والجزر.
اعتقدنا في البداية أن الاتحاد العقلي بين هذه الكائنات الطائرة الصغيرة ذو طبيعة تخاطرية، غير أنه لم يكن كذلك في حقيقة الأمر. لقد كان يقوم على أساس اتحاد في مجال كهرومغناطيسي معقد؛ في واقع الأمر على موجات «راديو» تتخلل المجموعة بأكملها. لقد كانت كل موجة من أمواج الراديو التي يرسلها كل كائن فردي أو يستقبلها؛ تماثل التيار العصبي الكيميائي الذي يحافظ على اتحاد الجهاز العصبي البشري. كان كل دماغ يدوي بالإيقاعات الأثيرية لبيئته، وكان كل منها يساهم بطابعه المميز في النمط المعقد للمجموع الكلي. وما دام السرب في نطاق لا يتجاوز ميلا مكعبا، ظل الأفراد في اتحاد ذهني، يؤدي كل منهم دوره بصفته مركزا متخصصا في «الدماغ» المشترك. وإذا حدث وابتعد بعض الأفراد عن السرب، مثلما كان يحدث أحيانا في الطقس العاصف، فقدوا تواصلهم العقلي وصاروا عقولا متفرقة ضعيفة للغاية، بل كانوا ينحدرون في ذلك الوقت إلى حيوانات غريزية بسيطة للغاية أو إلى نظام من الاستجابات اللاإرادية الموجه بالكامل من أجل مهمة استعادة التواصل مع السرب.
قد يكون من السهل تخيل أن الحياة العقلية لهذه الكائنات المركبة تختلف للغاية عن كل ما صادفناه حتى الآن. لقد كانت مختلفة ومتماثلة في الوقت ذاته؛ فمثل البشر، كانت غيمة الطيور قادرة على الغضب والخوف والجوع والرغبة الجنسية والحب الشخصي وجميع العواطف التي يشعر بها القطيع، غير أن وسط هذه الخبرات كان مختلفا عن أي شيء عرفناه حتى إننا وجدنا صعوبة كبيرة في تمييزها.
كان الجنس على سبيل المثال محيرا للغاية؛ فقد كانت كل غيمة ثنائية الجنس، وبها المئات من الوحدات الجنسية المتخصصة من الذكور والإناث، التي يتجاهل بعضها بعضا لكنها تكون على درجة عالية من الاستجابة لحضور غيوم الطيور الأخرى. وقد وجدنا أن مشاعر السرور والخزي من التواصل الجسدي لدى هذه الكائنات المتعددة الغريبة لا تكتسب بالاتحاد الجنسي الفعلي بين الأعضاء الجنسيين المتخصصين فحسب، بل تحدث أيضا على نحو في غاية اللطف، من خلال التداخل الهوائي لغيمتين تطيران في أثناء أداء تمارين الغزل في الهواء.
الأهم لنا من هذا التشابه السطحي معنا هو ما يكمن من تشابه في المرتبة الذهنية. لا شك بأننا لم نكن لنتمكن من التواصل معهم على الإطلاق لولا التشابه الجوهري في المرحلة التطورية الخاصة بهم مع تلك التي كنا نعرفها جيدا في عوالمنا. لقد كانت كل غيمة من هذه الغيوم ذات العقول المتنقلة المؤلفة من طيور صغيرة تمثل بالفعل فردا في رتبتنا الروحية تقريبا، أو كائنا بشريا للغاية ممزقا بين الوحش والملاك، وقادرا على الشعور بنشوات الحب والكراهية تجاه ما سوى غيمته من غيوم الطيور، وقادرا على الحكمة والحماقة ونطاق المشاعر البشرية بأكملها من الاحتيال إلى التأمل الوجدي.
حين أمعنا النظر بقدر استطاعتنا فيما وراء هذا التشابه الشكلي للروح الذي مكننا من التواصل مع غيوم الطيور هذه، اكتشفنا على نحو مؤلم معنى الرؤية بمليون عين في الوقت نفسه، ومعنى الشعور بنسيج الغلاف الجوي بمليون جناح في الوقت نفسه. تعلمنا كيفية تأويل المدركات المركبة للسهول الطينية والمستنقعات والمناطق الزراعية الواسعة التي كان يرويها تيار المد والجزر مرتين يوميا. أعجبتنا التوربينات الضخمة التي تعمل بفعل تيار المد والجزر، ونظام النقل الكهربي للحمولات المشحونة. واكتشفنا أن الغابات المؤلفة من الأعمدة الخرسانية العالية أو المنارات والمنصات القائمة على الركائز والتي كانت تقف في أكثر مناطق المد والجزر ضحالة، هي دور حضانة يحظى فيها الصغار بالرعاية إلى أن يتمكنوا من الطيران.
وشيئا فشيئا، تعلمنا أن نفهم جانبا من التفكير العجيب لهذه الكائنات الغريبة، والذي كان في نسيجه التفصيلي مختلفا كل الاختلاف عن تفكيرنا، غير أن نمطه ودلالته العامين متشابهان للغاية. المجال لا يسمح، وما ينبغي لي أن أحاول حتى أن أرسم مسودة لما كانت عليه أكثر هذه العوالم تقدما من تعقيد ضخم؛ فلا يزال هناك الكثير مما ينبغي قوله عن أمور أخرى. وسوف أكتفي فقط بأن أذكر أنه نظرا لأن الفردانية في غيوم الطيور هذه كانت أكثر خطورة من الفردانية البشرية، فغالبا ما كانت تفهم على نحو أفضل، ويحكم عليها على نحو عادل. لقد كان الخطر المستمر على غيوم الطيور هو التفكك الجسدي والذهني؛ ومن ثم فقد كان مبدأ الذات المترابطة بارزا للغاية في جميع ثقافات هذه العوالم. وعلى الجانب الآخر، كان الخطر المتمثل في تعرض ذات إحدى غيوم الطيور للغزو والانتهاك الماديين على يد جيرانها، مثلما يحدث حين تتداخل إحدى محطات الراديو مع محطة أخرى، قد أرغم هذه الكائنات على أن تحتاط من غرق الذات الفردية للغيمة وسط حشود الغيوم بأكثر مما كنا نحتاط من إغراءات القطيع. مع ذلك، ولأن هذه السلالة كانت تحتاط جيدا من هذا الخطر، تطور مبدأ المجتمع العالمي دون صراع مصيري مع القبلية الباطنية ، كما حدث معنا في ذلك الصراع الذي نعرفه جيدا في عوالمنا، وإنما كان صراعا بين الفردانية والمبدأين التوءمين المتمثلين في المجتمع العالمي والعقل العالمي.
في وقت زيارتنا، كان الصراع العالمي ينشب بالفعل بين الحزبين في كل منطقة من مناطق الكوكب. كان دعاة الفردانية أقوى في أحد نصفي الكوكب، ويذبحون جميع المؤيدين لمبدأ العقل العالمي، ويحشدون قواهم للهجوم على النصف الآخر. في النصف الآخر، كان يسود حزب العقل العالمي لا بالأسلحة، بل بقصف لأمواج الراديو، إن صح التعبير. لقد كان نمط التموجات الأثيرية الصادرة من الحزب يفرض نفسه بالقوة المحضة على جميع المتمردين؛ فكان جميع الثوار يتعرضون إلى التلف الذهني من خلال القصف بأمواج الراديو أو يمتصهم كما هم نظام الراديو المشترك. كانت الحرب التي تلت ذلك مدهشة للغاية بالنسبة إلينا؛ فقد استخدم دعاة الفردانية المدفعية والغاز السام، بينما كان حزب العقل العالمي يستخدم هذه الأسلحة بوتيرة أقل كثيرا من استخدامه للراديو، والذي كان هو دونا عن عدوه، يستطيع تشغيله لإحراز نتائج لا يمكن مقاومتها. لقد كان نظام الراديو يتمتع بدرجة كبيرة من التعزيز والتكيف على الاستجابة الفيسيولوجية للوحدات الطائرة؛ فقبل أن يتمكن دعاة الفردانية من إحداث أي ضرر فادح، كانوا يجدون أنفسهم قد انجرفوا، إن جاز التعبير، إلى فيض غامر من أمواج الراديو المحفزة، وتتلاشى فردانيتهم. أما الوحدات الطائرة التي تؤلف أجسادهم المركبة، فقد كانت تدمر، إذا كانت متخصصة في الحرب، أو يعاد تنظيمها إلى غيوم جديدة تنتمي بولائها إلى العقل العالمي.
وبعد هزيمة دعاة الفردانية بفترة قصيرة، فقدنا التواصل مع هذه السلالة، ولم نتمكن على الإطلاق من استيعاب خبرات مجتمع العقل العالمي الناشئ ولا مشكلاته الاجتماعية، ولم نستعد التواصل معها ثانية إلا في مرحلة متأخرة للغاية من مغامرتنا.
بعض العوالم الأخرى التي كانت تسكنها سلالات من غيوم الطيور كانت أقل حظا؛ فقد انتهى معظمها لسبب أو لآخر. لقد جلبت الضغوطات المتعلقة بالحياة الصناعية أو القلاقل الاجتماعية في العديد منها وباء من الجنون، وكانت تؤدي أحيانا إلى تفكك الفرد إلى مجموعة من الطيور ذات الاستجابات اللاإرادية فحسب. وهذه الكائنات الصغيرة البائسة التي لم تكن تمتلك القدرة على التصرف على نحو مستقل ذكي، كانت تقتل جماعات بفعل القوى الطبيعية والمفترسات. وبعد فترة قصيرة، أصبح المجال خاليا أمام نوع من الديدان أو الأميبا كي تدشن من جديد تلك المغامرة الكبرى للتطور البيولوجي تجاه المستوى البشري.
في مسار استكشافنا، أتينا أيضا على بعض الأنواع الأخرى من الأفراد المركبة. لقد وجدنا على سبيل المثال أن الكواكب الضخمة الجافة للغاية كانت تسكنها في بعض الأحيان شعوب من كائنات شبيهة بالحشرات كان كل لفيف من أعشاشها يمثل جسدا متعددا لعقل واحد. كانت هذه الكواكب ضخمة للغاية حتى إنه لم يكن من الممكن لأي كائن متنقل أن يزيد حجمه عن الخنفساء، ولم يكن لأي طائر أن يزيد حجمه عن النملة. في هذه الحشود الذكية التي كانت تفي بدور البشر في هذه العوالم، كانت الأدمغة المجهرية التي تتمتع بها الوحدات الشبيهة بالحشرات مختصة بالوظائف المجهرية داخل المجموعة، مثلما يتخصص الأفراد في أعشاش النمل في العمل أو القتال أو التكاثر وغير ذلك. كانت الوحدات جميعها متحركة، غير أن كل طائفة منها كانت تؤدي وظائف «عصبية» محددة في حياة المجموع. لقد كانت في واقع الأمر أشبه بأنواع مميزة من الخلايا في جهاز عصبي.
في هذه العوالم، مثلما كانت الحال في عوالم غيوم الطيور، كان علينا أن نهيئ أنفسنا على الوعي الموحد لحشد ضخم من الوحدات. وبعدد لا يحصى من الأقدام المسرعة، زحفنا على الممرات الخرسانية المتناهية الصغر، وبعدد لا يحصى من قرون الاستشعار المخصصة للتناول، شاركنا في العمليات الصناعية أو الزراعية الدقيقة، وفي إبحار السفن الصغيرة التي لا يزيد حجمها عن حجم الدمى في القنوات والبحيرات الموجودة في هذه العوالم المسطحة. ومن خلال عدد لا يحصى من العيون المركبة، شاهدنا سهول النباتات الشبيهة بالطحالب، أو درسنا النجوم بالتلسكوبات الدقيقة أو التلسكوبات الطيفية.
لقد كانت حياة الحشد العاقل منظمة على نحو مثالي حتى إن جميع الأنشطة الاعتيادية في الصناعة والزراعة قد أصبحت تؤدى على مستوى اللاوعي بالنسبة إلى العقل، كعملية الهضم مثلا بالنسبة إلى الإنسان. لقد كانت الوحدات الحشرية الصغيرة نفسها تؤدي هذه الأنشطة على نحو واع وإن لم تكن تفهم دلالتها، أما عقل الحشد فلم يعد يتمتع بالقدرة على الاعتناء بها. لقد كان اهتمامه ينصب على نحو شبه كامل على الأنشطة المتعلقة بالتحكم الواعي الموحد، وكان معنيا في واقع الأمر بالابتكار العملي والنظري من جميع الأنواع وبالاستكشاف المادي والذهني أيضا.
في وقت زيارتنا لأبرز هذه العوالم الحشرية كانت الجماعة السكانية تتألف من أمم عديدة عظيمة من الحشود. وكان لكل حشد فردي منها عشه الخاص، ومدينته المتناهية الصغر وهي منطقة تبلغ مساحتها قرابة الفدان أرضيتها منخربة بالغرف والممرات على عمق قدمين. وكانت المنطقة المحيطة بها تخصص لزراعة الغذاء النباتي الشبيه بالطحالب. ومع زيادة حجم الحشد، كان يمكن في بعض الأحيان تأسيس مستعمرات خارج نطاق نظام الراديو الفيسيولوجي للحشد الأصلي؛ ومن ثم تظهر مجموعات فردية جديدة. بالرغم من ذلك، فلم نجد في هذه السلالة ولا في سلالة غيوم الطيور، أي شيء مماثل للأجيال المتتابعة من العقول الفردية التي نجدها في عوالمنا. فداخل المجموعة العاقلة، كانت الوحدات الحشرية تموت باستمرار، وتحل محلها مجموعات جديدة، غير أن عقل المجموعة كان خالدا على الأرجح. كانت الوحدات يخلف بعضها بعضا، أما ذات المجموعة فكانت تبقى، وتصل ذاكرتها بعيدا في الماضي إلى أجيال لا تحصى من الوحدات، وتخبو وهي تعود إلى الوراء إلى أن تضيع في ذلك الزمن السحيق حين كان «النوع البشري» ينبثق من «النوع دون البشري»؛ ومن ثم فلم تحتفظ الحشود المتحضرة من جميع الفترات التاريخية السابقة إلا بذكريات مبهمة ومتجزئة.
حولت الحضارة الجحور القديمة الفوضوية إلى مدن تحت أرضية مخططة بعناية، وحولت قنوات الري القديمة إلى شبكة واسعة من الطرق المائية لنقل البضائع من منطقة إلى أخرى، وقدمت القوة الميكانيكية من خلال احتراق الخضراوات والمواد، وصهرت المعادن من النتوءات الصخرية والرواسب الطميية، وقدمت أيضا ذلك النسيج الاستثنائي من الآلات الدقيقة التي تكاد تكون مجهرية الحجم، والتي حسنت كثيرا من مستويات الراحة والصحة في المناطق الأكثر تقدما، وقدمت أيضا أشكالا متنوعة من المركبات الشبيهة بجراراتنا وقطاراتنا وسفننا، كما أنها قد خلقت أيضا ذلك الفارق الطبقي بين المجموعات التي ظلت تعتمد على الزراعة بصفة أساسية وبين المجموعات التي كانت تعتمد على الصناعة بصفة أساسية، وتلك المجموعات التي تخصصت في التنظيم الذكي لأنشطة البلد. وهذه الفئة الأخيرة هي التي أصبحت بمرور الوقت الفئة البيروقراطية الاستبدادية في البلد. ونظرا لضخامة حجم الكوكب، والصعوبة الشديدة للسفر على مسافات طويلة بالنسبة إلى كائنات في مثل هذا الحجم الصغير الذي كانت عليه الوحدات الحشرية؛ فقد تطورت الحضارات بصورة مستقلة في عدد من المناطق المنعزلة، وحين تمكنت أخيرا من التواصل معا، كان العديد من هذه الحضارات قد بلغ مرحلة متقدمة للغاية في التصنيع بالفعل ويمتلك «أحدث» الأسلحة. ويمكن للقارئ أن يتخيل بسهولة ما حدث حين تكون هناك سلالات ذات أصل بيولوجي مختلف في معظم الأحوال، ويختلف بعضها عن بعض كل الاختلاف في العادات والأفكار والمبادئ، ثم تجد نفسها فجأة على تواصل ونزاع. سيكون من المضجر للغاية أن أصف جنون الحرب التي تلت. بالرغم من ذلك، من المهم أن أذكر أننا، نحن الزائرين التخاطريين الذين أتينا من مناطق بعيدة للغاية في الزمان والمكان، كنا نستطيع التواصل مع هؤلاء المضيفين المتحاربين بسهولة تفوق سهولة التواصل بين مضيف وآخر. ومن خلال هذه القدرة، تمكنا بالفعل من القيام بدور مهم في تاريخ هذا العالم. قد يكون من المحتمل فعلا أن وساطتنا هي التي أنقذت هذه السلالات من التدمير المتبادل. فبعد أن أخذنا مواضعنا في العقول «الرئيسية» في طرفي الصراع، عملنا بصبر على تحفيز بعض الرؤى المتعلقة بعقلية العدو في عقول مضيفينا. ونظرا لأن هذه السلالات قد تجاوزت بالفعل مستوى الاجتماعية التي نعرفها على الأرض؛ وكان عقل الحشد قادرا على الاتحاد الحقيقي حينما يتعلق الأمر بحياة سلالته، كان إدراكه لحقيقة أن العدو ليس همجيا بل إنسانا في جوهره كافيا للقضاء على الرغبة في القتال.
راحت العقول «الرئيسية » التي أنارتها «الرسل الإلهية» تعظ بالسلام على نحو بطولي. وبالرغم من أن العديد منها قد استشهد بسرعة، فقد انتصرت قضيتها. توصلت السلالات إلى صلح فيما بينها خلا شعبين ضخمين ومتأخرين ثقافيا بعض الشيء. لم نستطع أن نقنع هاتين السلالتين، ولأنهما كانتا قد أصبحتا بحلول ذلك الوقت متخصصتين بشدة في الحرب، فقد كانتا تشكلان تهديدا خطيرا للغاية. كانتا تنظران إلى روح السلام الجديدة على أنها نقطة ضعف فحسب من جانب العدو، وعزمتا على استغلالها وغزو بقية ذلك العالم. غير أننا قد شهدنا في ذلك الوقت من الإثارة ما يصعب على الإنسان الأرضي تصديقه بكل تأكيد، والتي كانت ممكنة في هذا العالم فحسب بسبب تلك الدرجة العالية من الصفاء الذهني، والتي كانت موجودة بالفعل لدى كل سلالة من هذه السلالات. تحلت السلالات المسالمة بالشجاعة لنزع السلاح؛ فدمرت ما لديها من أسلحة ومصانع ذخيرة بأكثر الطرق روعة ووضوحا. وقد حرصت أيضا على أن تشهد حشود العدو التي أسرت لديها هذه الأحداث. وبعد ذلك، حررت هؤلاء الأسرى، وطلبت منهم سرد تجاربهم معها للعدو. وقد جاء رد العدو على ذلك متمثلا في غزو أقرب البلاد المنزوعة السلاح، وشرع في فرض الثقافة العسكرية عليها بعنف من خلال الدعاية والاضطهاد. بالرغم من ذلك، فمع حالات الإعدام والتعذيب الجماعية، لم تحصل هاتان السلالتان على النتيجة المتوقعة؛ فبالرغم من أن السلالتين المستبدتين لم تكونا أكثر تطورا من الإنسان الأرضي في النزعة الاجتماعية على نحو ملحوظ، كانت الضحايا أكثر تفوقا بكثير. لم يؤد القمع إلى شيء سوى أن عزز من إرادة المقاومة السلبية. وشيئا فشيئا، بدأ الاستبداد يضعف، ثم انهار فجأة. انسحب الغزاة آخذين معهم عدوى السلمية. وفي غضون وقت قصير للغاية، أصبح ذلك العالم اتحادا فيدراليا واحدا ينتمي أعضاؤه إلى أنواع مختلفة.
وبحزن أدركت أنه بالرغم من أن جميع الكائنات المتحضرة على الأرض تنتمي إلى النوع البيولوجي نفسه، فحدوث تلك النتيجة السعيدة للصراع أمر مستحيل؛ وذلك ببساطة لأن القدرة على تشكل الاتحاد في عقل الفرد ما تزال ضعيفة للغاية . وتساءلت أيضا ما إذا كانت السلالات الحشرية الطاغية كانت ستحظى بنجاح أكبر في فرض ثقافتها على البلاد التي غزتها إن كان هناك جيل مميز من الحشود الناشئة الطيعة التي يمكن أن تسيطر عليه.
حين اجتاز هذا العالم الحشري أزمته، بدأ يتقدم بسرعة كبيرة في البنية الاجتماعية، وفي تطوير العقل الفردي حتى إننا وجدنا صعوبة متزايدة في الحفاظ على التواصل معه، ثم فقدنا التواصل برمته في النهاية. بالرغم من ذلك، فحين تقدمنا نحن أنفسنا فيما بعد، أتينا على هذا العالم مرة أخرى وتواصلنا معه.
بالنسبة إلى العوالم الحشرية الأخرى، فلن أذكر عنها شيئا إذ لم يقدر لأي منها أن تؤدي دورا مهما في تاريخ المجرة.
ولكي أكمل صورة السلالات التي لا يكون للعقل الفردي فيها جسم واحد له امتداد مادي، يجب أن أشير إلى نوع آخر مختلف للغاية وأكثر غرابة. في هذا النوع، كان جسد الفرد يتألف من مجموعة كبيرة من الوحدات الحيوية الفرعية البالغة الصغر، والتي تنظم في نظام مشترك من أمواج الراديو. ومن هذا النوع ظهرت السلالة التي تسكن الآن كوكب المريخ الموجود في نظامنا الشمسي. ولأنني قد وصفت هذه الكائنات بالفعل في كتاب آخر، ووصفت أيضا تلك العلاقات المأساوية التي ستجمعهم بنسلنا في المستقبل البعيد، فلن أذكر المزيد عنها هنا سوى أننا لم نتواصل معهم إلا في مرحلة متأخرة للغاية من مغامرتنا، حين اكتسبنا مهارة الوصول إلى كائنات تختلف عنا في الحالة الروحانية. (3) البشر-النباتات وسلالات أخرى
قبل أن أنتقل إلى رواية قصة مجرتنا ككل (بالحد الذي أستطيع استيعابه) ينبغي أن أذكر نوعا آخر غريبا للغاية من العوالم. لم نجد من هذا العالم سوى القليل من الأمثلة، والقليل منها فقط هو ما نجا حتى وصل إلى الزمن الذي بلغت فيه الإثارة في المجرة أوجها، لكن أحدها على الأقل كان له (أو سيكون له) أثر عظيم على نمو الروح في هذه الحقبة المثيرة.
على بعض الكواكب الصغيرة التي يغمرها الضوء والحرارة من شمس قريبة أو ضخمة، اتخذ التطور مسارا مختلفا للغاية عن ذلك الذي نعرفه. لم تنفصل الوظائف النباتية والحيوانية في نوعين عضويين مختلفين، بل أصبحت الكائنات كلها نباتا وحيوانا في الوقت ذاته.
في هذه العوالم، كانت الكائنات العليا أشبه بنباتات ضخمة متحركة، لكن الفيضان العنيف للإشعاع الشمسي قد جعل إيقاع نموها أسرع كثيرا من نمو نباتاتنا. وربما يكون تشبيه هذه الكائنات بالنباتات وصفا مضللا؛ إذ إنها كانت تشبه الحيوانات بالقدر نفسه. كان لها عدد محدد من الأطراف وشكل محدد للجسم، غير أن بشرتها كانت كلها خضراء أو مخططة بالأخضر، وكانت تحمل كتلا عظيمة من الأوراق في مكان ما من أجسادها وفقا للنوع الذي تنتمي إليه. وبسبب ضعف قوة الجاذبية على هذه الكواكب الصغيرة، كانت الحيوانات-النباتات غالبا ما تدعم بنى شاسعة فائقة على أطراف أو جذوع نحيلة للغاية. وبصفة عامة، فقد كانت الأنواع المتحركة من هذه الكائنات مزودة بكمية أقل من الأوراق مقارنة بالأنواع الساكنة منها بنحو أو بآخر.
في هذه العوالم الصغيرة الحارة، تسبب الدوران المضطرب للماء والغلاف الجوي في حدوث تغييرات سريعة في الأرض يوما بعد يوم. جعلت العواصف والفيضانات من القدرة على التنقل من مكان لآخر أمرا مرغوبا للغاية بالنسبة إلى سكان هذه العوالم؛ ومن ثم فالنباتات المبكرة التي تمكنت بفضل وفرة الإشعاع الشمسي، من تخزين مقدار من الطاقة يكفيها على مدى الحياة للاستخدام في مستوى متوسط من الأنشطة العضلية، قد تطورت لديها قدرات الإدراك الحسي والتنقل. وظهرت العيون والآذان النباتية والأعضاء النباتية للتذوق والشم واللمس على سيقانها وأوراقها. أما فيما يتعلق بالقدرة على التنقل، فقد كان بعضها يسحب جذوره البدائية من الأرض ويزحف هنا وهناك بحركة تشبه حركة اليرقانة. وبعضها كان ينشر أوراقه وينجرف على الرياح، ومن هذه الأنواع تطورت على مدار العصور كائنات تستطيع الطيران بالفعل. وفي هذه الأثناء، تحولت بعض الجذور لدى الأنواع السائرة إلى سيقان عضلية، رباعية أو سداسية أو أكثر من ذلك. أما بقية الجذور فقد زودت بآلات للحفر كانت تستطيع الانتشار في الأرض بسرعة في المواقع الجديدة. بالرغم من ذلك، فثمة طريقة أخرى من الجمع بين الجذور والقدرة على التنقل ربما تكون أكثر تميزا. كان الجزء الهوائي من الكائن يفصل نفسه عن جذوره المغروسة وينطلق على الأرض أو الهواء كي يغرس جذوره من جديد في تربة بكر. وحين يستنفد الكائن الموقع الثاني، كان ينطلق بحثا عن موقع ثالث ثم إلى غيره وغيره، أو يعود إلى موقعه الأصلي والذي من المحتمل أن يكون قد استعاد خصوبته بحلول ذلك الوقت. وهناك، يربط نفسه من جديد بجذوره القديمة الخاملة ويبعث فيها النشاط من جديد.
وقد طورت العديد من الأنواع بالطبع عادات افتراسية، وأعضاء خاصة للهجوم، مثل الفروع العضلية القوية كالأصلات والتي كانت تستخدم للتضييق وإحكام القبض، وكذلك المخالب والقرون والكلابات الضحمة المثلمة. في هذه الكائنات «اللاحمة»، تقلص انتشار الأوراق إلى حد كبير، وكانت تستطيع طي أوراقها بعيدا إلى الخلف على نحو مريح. وفي الأنواع الأكثر تخصصا في الافتراس، كانت الأوراق نحيلة ولم تكن لها أي فائدة سوى القيمة الجمالية. وقد كان من المدهش أن نرى كيف أن البيئة قد فرضت على هذه الكائنات الغريبة أشكالا تذكر بنمورنا وذئابنا. وكان من المثير للاهتمام أيضا أن نرى تدمير هذا التخصص الفائق في الهجوم أو الدفاع أو التكيف الفائق عليه لنوع تلو الآخر، وكيف أن ظهور الذكاء «البشري» بعد فترة طويلة من الوقت جاء على يد كائن ليس بالضخم ولا بالمهاجم، بل كانت هبتاه الوحيدتان هما الذكاء والتعقل تجاه العالم المادي وتجاه رفاقه. وقبل أن أصف ازدهار «البشرية» في هذا النوع من العوالم، ينبغي أن أذكر مشكلة خطيرة تواجه الحياة المتطورة على جميع الكواكب الصغيرة، والتي تحدث غالبا في مرحلة مبكرة. وقد صادفنا هذه المشكلة بالفعل على الأرض الأخرى. فنظرا لضعف الجاذبية والحرارة المرتفعة للشمس، تهرب جزيئات الغلاف الجوي بسهولة كبيرة إلى الفضاء. ولا شك بأن معظم العوالم الصغيرة تفقد كل هوائها ومائها قبل أن تصل الحياة عليها إلى المرحلة «البشرية» بفترة طويلة، وقبل أن يستقر وجودها أصلا في بعض الأحيان. أما بعض الكواكب الأخرى التي كانت أقل صغرا، والتي ربما تكون قد زودت بالغلاف الجوي على نحو كامل في مراحلها المبكرة، وإن كان ذلك بعد وقت طويل للغاية نظرا للانكماش البطيء الثابت لمداراتها، فقد تزداد حرارتها للغاية حتى إنها لا تتمكن من الإبقاء على الجزيئات العنيفة الاهتياج التي تؤلف غلافها الجوي. في بعض هذه الكواكب، تتطور مجموعة كبيرة من أشكال الحياة في الحقب المبكرة، ثم تختفي من الوجود نتيجة لما تتعرض له من الظمأ الشديد والاختناق اللذين يحدثان بسبب ما يشهده الكوكب من الجفاف والتعرية لفترات طويلة. بالرغم من ذلك، ففي الحالات المواتية على نحو أفضل، تتمكن الحياة من تكييف نفسها تدريجيا على الظروف القاسية على نحو متزايد. في بعض العوالم، على سبيل المثال، ظهرت آلية بيولوجية أدت إلى حبس ما تبقى من الغلاف الجوي داخل مجال كهرومغناطيسي قوي تولد عن الكائنات الحية التي تسكن العالم. وقد استغنت عوالم أخرى عن الحاجة إلى الغلاف الجوي برمته، وصار البناء الضوئي وجميع عمليات الأيض في الحياة تجري عن طريق السوائل فقط. وقد حفظت آخر الغازات المتلاشية في هيئة سائل يخزن في مسالك ضخمة من الكتل الإسفنجية التي تقع بين الجذور، ويغطيه غشاء منيع.
هاتان الطريقتان البيولوجيتان الطبيعيتان قد حدثتا في عالم أو أكثر من عوالم الحيوانات-النباتات التي قد بلغت المرحلة «البشرية». وليس لدي من المجال ما يتسع إلا لذكر مثال واحد، وهو أهم هذه العوالم المميزة، وهو أحد العوالم التي تلاشى فيها الغلاف الجوي بأكمله قبل ظهور الذكاء.
لقد كان دخول هذا العالم ومعرفته من خلال الحواس والطباع الغريبة لسكانه الأصليين مغامرة أكثر إرباكا في بعض الجوانب من جميع استكشافاتنا السابقة. ونظرا لانعدام الغلاف الجوي، فحتى في وجود ضوء الشمس بأكمله، كانت السماء مظلمة بظلمة الفضاء الواقع بين النجوم، وكانت النجوم تتوهج. وبسبب ضعف الجاذبية، وغياب عملية تشكيل الهواء والماء والجليد على سطح الكوكب المتغضن المتضائل، فقد كان المنظر الطبيعي يتألف من كتل من الجبال المطوية، والبراكين البدائية الخامدة، والفيضانات المتجمدة وأكوام الحمم البركانية، والوهاد التي تشكلت بفعل سقوط الشهب الضخمة. وأي من هذه المعالم لم تصقل كثيرا بفعل تأثيرات الغلاف الجوي والجليد. علاوة على ذلك، فضغوطات قشرة الكوكب دائمة التغير قد حطمت العديد من الجبال إلى أشكال من الجبال الجليدية المذهلة. على أرضنا حيث توجد الجاذبية الشبيهة بكلب صيد لا يكل، والذي يسحب صيده بقوة أكبر كثيرا، لم تكن هذه القباب والقمم ذات الصخور الثقيلة لتصمد على الإطلاق. وبسبب انعدام الغلاف الجوي، كانت الأسطح المكشوفة للصخور الشديدة السطوع، وجميع الأخاديد والظلال سوداء كالليل.
تحولت العديد من الوديان إلى خزانات تبدو أنها من الحليب؛ إذ كانت أسطح هذه البحيرات مغطاة بطبقة سميكة من مادة دبقة بيضاء لكي تحول دون فقدان الماء بالتبخر. وفيما حولها من جميع الجهات تجمعت جذور هؤلاء الأشخاص الغريبين الذين يسكنون هذا العالم كأرومات الأشجار في غابة قد قطعت أشجارها وأخليت. كانت الأرومات كلها مغلفة بالغراء الأبيض. وكانت مساحات التربة جميعها مستخدمة، وقد عرفنا أنه بالرغم من أن بعضها قد تكون النتيجة الطبيعية للعمليات التي حدثت في العصور الماضية بفعل الهواء والمياه، فقد كان الجزء الأكبر منها اصطناعيا قد صنع من عمليات ضخمة تتمثل في استخراج المعادن وتفتيتها. لا شك بأن الصراع التنافسي للحصول على نصيب من التربة النادرة في هذا العالم الصخري في العصور البدائية وبالطبع على مدار جميع مراحل التطور «القبل البشري» قد كان أحد العوامل الأساسية التي حثت على ظهور الذكاء.
كنا نرى البشر-النباتات المتحركين محتشدين نهارا في الأودية ناشرين أوراقهم إلى الشمس، ولم نكن نراهم يعملون إلا ليلا، متحركين على الصخور العارية أو منشغلين بالماكينات وغيرها من الأشياء الصناعية من أدوات حضارتهم. لم يكن هناك أبنية ولا أسيجة مسقوفة تحمي من الطقس؛ إذ لم يكن هناك من طقس. بالرغم من ذلك، فقد كانت الهضاب والمصاطب الصخرية تمتلئ بجميع أشكال الأدوات التي لم نكن نفهمها على الإطلاق.
كان الكائن النموذجي من البشر-النباتات منتصبا مثلنا. وكان يحمل على رأسه عرفا كبيرا من الريش الأخضر، والذي كان يمكن طيه معا على هيئة ثمرة خس رومي ضخمة ومحبوكة، أو نشره لالتقاط الضوء. ومن تحت هذا العرف، تبرز ثلاث عيون مركبة. وتحت هذه العيون، توجد ثلاثة أطراف خضراء ملتوية شبيهة بالأذرع تتفرع عند نهاياتها أيد تستخدم للتناول. وكان الجذع الرشيق المرن المغلف بحلقات صلبة تنزلق إحداها في الأخرى عند انحناء الجسم، ينقسم إلى ثلاث سيقان للحركة. اثنتان من الأقدام الثلاث كانت لهما وظيفة الفم أيضا، وكان يمكنهما امتصاص العصارة من الجذر أو التهام المواد الخارجية. أما القدم الثالثة، فقد كانت عضوا للإخراج. ولم تكن الإفرازات الثمينة تهدر أبدا، بل كانت تمر عبر وصلة خاصة تقع بين القدم الثالثة والجذر. كانت الأقدام تضم أعضاء التذوق والسمع أيضا؛ إذ لم يكن الصوت ينتشر فوق الأرض لانعدام الهواء.
في النهار، كانت هذه الكائنات الغريبة تحيا حياة النباتات بصفة أساسية، وفي الليل تحيا حياة الحيوانات. في كل صباح، بعد ليلة طويلة وباردة، تتدفق الجماعة السكانية بأكملها إلى مساكنها في الجذور. يسعى كل فرد إلى جذره ويثبت نفسه فيه ويقف على مدار اليوم متقد الحرارة ممددا أوراقه. كان ينام حتى الغروب، غير أن نومه لم يكن نوما دون أحلام، بل نوعا من الغيبة التي كان سيتضح في الأجيال المستقبلية أن طبيعتها التأملية الباطنية ينبوع سلام للعديد من العوالم. وفي أثناء نومه، كانت تيارات العصارة تتسارع ذهابا وإيابا في جذعه تنقل المواد الكيميائية بين الجذور والأوراق، وتغمره بإمداد مركز من الأكسجين وتزيل عنه نواتج عملية الأيض الهدمي الماضية. وحين تختفي الشمس مرة أخرى وراء الصخور، ويتبدى منها للحظة وهج النتوءات الشمسية المتقدة، كان يستيقظ ويطوي أوراقه ويغلق الممرات المؤدية إلى جذوره ويفصل نفسه عنها، ويسعى في شئون الحياة المتحضرة. كان الليل في هذا العالم أكثر سطوعا من ضوء القمر في عالمنا؛ إذ لم يكن هناك ما يحجب النجوم، وكانت العديد من العناقيد النجمية الكبيرة تتدلى في سماء الليل. بالرغم من ذلك، كان الضوء الصناعي يستخدم في الأعمال الدقيقة، لكن عيبه الأساسي أنه غالبا ما كان يبعث العامل على النوم.
لا ينبغي لي أن أحاول حتى أن أعرض صورة عامة للحياة الاجتماعية الغنية والغريبة لهذه الكائنات. سأكتفي فقط بأن أذكر أننا قد وجدنا هنا، مثلما وجدنا في كل مكان آخر، جميع المحاور الثقافية المعروفة على الأرض، غير أنها قد اتخذت في عالم النباتات المتنقلة هذا شكلا غريبا ونمطا محيرا. لقد وجدنا هنا، مثلما وجدنا في كل مكان آخر، مجموعة من الأفراد المنشغلين للغاية بمهمة الحفاظ على وجود أنفسهم ومجتمعهم. هنا قد وجدنا مشاعر الاعتداد بالذات والكراهية والحب ومشاعر الحشود وحب الاستطلاع الفكري وغير ذلك. وهنا أيضا، مثلما هي الحال في جميع العوالم الأخرى التي زرناها حتى الآن، وجدنا سلالة تعاني من آلام الأزمة الروحانية الكبيرة التي كنا نعرفها في عوالمنا الخاصة، وشكلت قناة التواصل التي أتاحت لنا إمكانية الوصول التخاطري إلى عوالم أخرى. غير أن الأزمة هنا قد اتخذت نمطا مختلفا عن جميع ما صادفناه حتى الآن. كنا قد بدأنا في حقيقة الأمر في توسيع قدراتنا على الاستكشاف التخيلي.
بالرغم من أنني لن أذكر تفاصيل أي شيء آخر، فلا بد لي أن أحاول وصف هذه الأزمة؛ فهي مهمة للغاية لفهم أمور يصل تأثيرها إلى ما هو أبعد كثيرا من هذا العالم الصغير.
إننا لم نبدأ في فهم حياة هذه السلالة إلى أن تعلمنا كيفية استيعاب الطابع الذهني لطبيعتها الحيوانية-النباتية المزدوجة. باختصار، كانت الطبيعة الذهنية للبشر-النباتات في كل عصر من العصور تعبيرا عن التوتر المتفاوت بين جانبي طبيعتهم؛ بين الطبيعة الحيوانية النشطة الحازمة المحبة للبحث الموضوعي والتي تتسم بالإيجابية الأخلاقية، وبين الطبيعة النباتية السلبية المذعنة بشدة والتي تتسم بالتأمل الذاتي. لا شك بأن السلالة قد تمكنت من سيادة عالمها من خلال الإقدام الحيواني والذكاء البشري العملي، غير أن هذه الإرادة العملية دائما ما كانت تلطف منها وتثريها تجربة تعد نادرة للغاية بين البشر. ففي كل يوم من الأيام على مدار العصور، لم تسلم هذه الكائنات طبيعتها الحيوانية المتقدة إلى النوم اللاواعي أو المليء بالأحلام الذي تعرفه الحيوانات فحسب، بل كانت تسلمها أيضا إلى نوع خاص من الوعي عرفنا أن النباتات هي التي تختص به. حين تنشر تلك الكائنات أوراقها، فإنها تمتص الإكسير الجوهري للحياة على نحو مباشر، والذي لا تتلقاه الحيوانات إلا بصورة غير مباشرة عن طريق لحم فرائسها المشوه؛ ومن ثم يبدو أنها تمكنت من الحفاظ على تواصل مادي مباشر مع مصدر الوجود الكوني بأكمله. وبالرغم من أن هذه الحالة كانت مادية، فقد كانت روحانية أيضا على نحو ما. لقد كان لها تأثير واسع النطاق على جميع سلوكياتها. وإذا جاز لي أن أستخدم اللغة اللاهوتية، فيمكن أن أسمي هذه الحالة بالتواصل الروحاني مع الإله. في وقت الليل المليء بالمشاغل، كانوا يسعون في شئونهم كأفراد منعزلين؛ إذ لم يحظوا بتجربة حالية مباشرة لوحدتهم الضمنية، غير أن ذاكرة حياتهم النهارية كانت تحميهم دائما في المعتاد من أسوأ تجاوزات الفردانية.
لقد استغرق منا الأمر وقتا طويلا لكي نفهم أن حالة هذه الكائنات النهارية المميزة لم تكن تتمثل في اتحادها كعقل واحد للمجموعة سواء أكانت قبيلة أم سلالة. لم يكن وضعها مماثلا للوحدات الطائرة المتمثلة في غيوم الطيور، ولا مماثلا للعقول العالمية التخاطرية والتي كنا سنكتشف بعد ذلك أنها قد أدت دورا كبيرا للغاية في تاريخ المجرة. لم يكن الإنسان-النبات في حياته النهارية يكتسب مبادئ رفاقه من البشر-النباتات وأفكارهم؛ ومن ثم يستيقظ بوعي أكثر شمولا وإدراكا للبيئة وللجسد المتعدد للسلالة. على العكس من ذلك، كانت استجابته تتوقف تماما فيما يتعلق بجميع الظروف الموضوعية خلا فيضان ضوء الشمس الذي يغمر أوراقه المفترشة. وقد كانت هذه التجربة تمنحه انتشاء قويا يقترب في طبيعته من الانتشاء الجنسي، ذلك الانتشاء الذي يبدو فيه أن الفاعل والمفعول به قد صارا كيانا واحدا؛ لقد كان انتشاء الاتحاد الذاتي مع المصدر المحتجب للوجود المتناهي بأكمله. في هذه الحالة، كان الإنسان-النبات يستطيع التأمل في حياته الليلية النشطة ويستطيع أن يصبح واعيا بتعقيدات دوافعه على نحو أوضح كثيرا مما يتمكن منه ليلا. في هذا الوضع النهاري ، لم يكن يصدر أي أحكام أخلاقية على نفسه ولا على الآخرين، بل كان يراجع جميع مظاهر السلوك البشري ذهنيا بسرور تأملي موضوعي، بصفتها أحد العوامل الموجودة في الكون. بالرغم من ذلك، فحين كان يأتي الليل مجددا ومعه المزاج الليلي النشط، كانت رؤاه النهارية الهادئة عن نفسه وعن الآخرين تحفز بالاستحسان أو الاستهجان الأخلاقي.
والآن في مسار هذه السلالة بأكمله، كان ثمة توتر ما بين كلا الجانبين الكامنين في طبيعتها. إن كل إنجازاتها الثقافية الراقية قد تحققت في العصور التي كان كلا الجانبين قويين فيها دون أن يتغلب أحدهما على الآخر. بالرغم من ذلك، ومثلما هي الحال في الكثير جدا من العوالم الأخرى، أدى تطور العلوم الطبيعية وإنتاج القوة الميكانيكية من ضوء الشمس الاستوائي إلى ظهور اضطراب فكري خطير. إن تصنيع عدد لا يحصى من وسائل الراحة والرفاهية، وانتشار السكك الحديدية الكهربية على مستوى العالم بأكمله، وتطوير الاتصالات اللاسلكية، ودراسة الفلك والكيمياء الحيوية الميكانيكية، والطلبات الملحة للحرب والثورة الاجتماعية، كل هذه التأثيرات قد عززت من العقلية النشطة وأضعفت من العقلية التأملية. وقد بلغ الأمر ذروته حين اكتشفت إمكانية التخلي عن النوم النهاري برمته؛ فقد كان من الممكن حقن منتجات البناء الضوئي الصناعي في جسم الكائن الحي كل صباح؛ كي يتسنى للإنسان-النبات أن يقضي اليوم بأكمله في العمل النشط. وسرعان ما بدأ استخراج جذور البشر واستخدامها كمواد خام في التصنيع؛ إذ ما عادوا يحتاجون إليها لأغراضها الطبيعية.
لا ينبغي لي أن أضيع الوقت في وصف هذا المأزق الشنيع الذي حل بهذا العالم الآن. يبدو أن البناء الضوئي الصناعي لم يكن ينتج أحد الفيتامينات الأساسية للروح بالرغم من حفاظه على نشاط الجسد؛ فانتشر مرض الآلية والحياة الآلية الخالصة بين الجماعة السكانية. وقد شهد العالم بالطبع حمى النشاط الصناعي؛ فقد اندفع البشر-النباتات في أرجاء كوكبهم بجميع أنواع المركبات التي تعمل بالدفع الآلي، وزينوا أنفسهم بأحدث المنتجات الصناعية، واستغلوا الحرارة البركانية المركزية للحصول على الطاقة، وأبدوا براعة كبيرة في تدمير أحدهم الآخر، واندفعوا في الآلاف غيرها من المساعي المحمومة بحثا عن نعيم كان يفلت منهم على الدوام.
بعد عدد لا يحصى من المتاعب، بدءوا يدركون أن أسلوب عيشهم بأكمله غريب على طبيعتهم النباتية الجوهرية. وجرؤ القادة والأنبياء على التنديد بالميكنة وبالثقافة العقلانية العلمية السائدة وبالبناء الضوئي الاصطناعي. وبحلول ذلك الوقت، كانت جذور السلالة بأكملها قد دمرت، غير أن العلوم الحيوية قد وجهت بعد ذلك بفترة قصيرة إلى مهمة توليد جذور جديدة للجميع من العينات الصغيرة المتبقية من الجذور. وشيئا فشيئا، تمكنت السلالة بأكملها من العودة إلى البناء الضوئي الطبيعي. وتلاشت الحياة الصناعية من العالم مثلما يتلاشى الجليد في ضوء الشمس. وبالعودة إلى حياتهم القديمة المتبدلة بين النباتية والحيوانية، وجد البشر-النباتات الذين أنهكتهم الحياة الصناعية وشوشت أذهانهم، في خبرتهم النهارية الهادئة سعادة غامرة. وفي المقابل، أدى ما عرفوه من شقاء في حياتهم الحديثة إلى تكثيف النشوة التي يجدونها في خبرتهم النباتية؛ فقد اجتمعت براعتهم الفكرية التي اكتسبتها عقولهم اللامعة من التحليل العلمي مع الطابع الخاص لحياتهم النباتية المنتعشة لتمنح خبرتهم الكلية صفاء جديدا. ولفترة قصيرة، بلغوا مستوى من الصفاء الروحاني كان سيصبح مثالا وكنزا في العصور المستقبلية للمجرة.
بالرغم من ذلك، فحتى الحياة التي تتسم بأسمى مستويات الروحانية لها إغراءاتها. كانت حمى التصنيع والعقلانية المفرطة قد سممت البشر-النباتات على نحو خفي للغاية حتى إنهم حين ثاروا عليها في النهاية قد ابتعدوا عنها للغاية؛ فسقطوا في فخ الجانب الأوحد للحياة النباتية مثلما سقطوا في فخ الجانب الحيواني من قبل. وشيئا فشيئا، راحوا يقللون من الوقت الذي ينفقونه في المساعي «الحيوانية» إلى أن أصبحوا يقضون كامل أيامهم ولياليهم بصفتهم أشجارا، ومات الذكاء الحيواني النشط المستكشف المعالج فيهم إلى الأبد.
ولفترة من الوقت، عاشت السلالة في حالة مبهمة ومرتبكة من نشوة الاتحاد السلبي مع مصدر الوجود الكوني. وقد كانت الآلية الحيوية القديمة العمر المتمثلة في حفظ الغازات الضرورية للكوكب على هيئة سائل؛ راسخة وتلقائية على نحو جيد حتى إنها استمرت في العمل لفترة طويلة دون أي انتباه لها. بالرغم من ذلك فقد أدى التصنيع إلى زيادة عدد سكان العالم بما يفوق الحد الذي يمكن للإمداد الصغير من المياه والغازات أن يقوم بوظيفته بسهولة. كان دوران المواد يتم بسرعة خطيرة. وبمرور الوقت، ضعفت الآلية للغاية، وبدأت التسريبات في الحدوث ولم يصلحها أحد. وشيئا فشيئا، هربت المياه الثمينة وغيرها من المواد المتطايرة من الكوكب. وشيئا فشيئا، جفت الخزانات وظمئت الجذور الإسفنجية وذوت الأوراق، وتحول سكان هذا العالم الهانئين الذين ما عادوا بشرا، من النشوة إلى المرض والقنوط والارتباك الجاهل ثم إلى الموت.
بالرغم من ذلك، مثلما سأوضح، فلم تكن إنجازاتهم غير ذات أثر على حياة مجرتنا. لقد ثبت أن وجود «المجتمعات البشرية النباتية»، إذا جاز لي أن أدعوها بذلك، لم يكن بالأمر النادر الحدوث؛ فقد سكن بعضها عوالم غريبة للغاية لم أذكرها بعد. من المعروف جيدا أن الكوكب الصغير القريب من شمسه غالبا ما يفقد مسار دورانه بفعل حركة المد والجزر الناتجة عن الشمس عليه. وتصبح أيامه أطول فأطول إلى أن يظل أحد نصفيه في النهاية مواجها للشمس بصفة مستمرة. كان عدد غير قليل من هذا النوع من الكواكب مأهولا في أرجاء مجرتنا، وكان العديد منها قد سكنته «المجتمعات البشرية النباتية».
كل هذه العوالم التي لم تكن لها الدورة اليومية المعتادة لم تكن ملائمة للغاية للحياة؛ إذ كان أحد نصفيها شديد الحرارة على الدوام، والنصف الآخر شديد البرودة على الدوام. كان يمكن لدرجة حرارة النصف المضيء أن تصل إلى درجة حرارة الحديد المنصهر، أما الجزء المظلم فلم يكن يسمح لأي مواد بالاحتفاظ بحالتها السائلة إذ لم تكن تزيد درجة حرارته عن الصفر المطلق إلا بدرجة أو اثنتين. وبين النصفين يقع حزام ضيق، بل شريط فحسب، وهو الذي يمكن أن نصفه بالمعتدل. هنا كانت الشمس الضخمة الحارقة تختبئ دائما بعض الشيء خلف الأفق. وعلى الجانب الأكثر برودة من هذا الشريط، بعيدا عن الأشعة القاتلة الصادرة من قرص الشمس الفعلي، لكن مع الإضاءة من الهالة الشمسية والدفء من توصيل الحرارة من الأرض الواقعة باتجاه الشمس، لم تكن الحياة مستحيلة على الدوام.
دائما ما كانت العوالم المأهولة من هذا النوع تصل إلى مرحلة متقدمة من التطور البيولوجي قبل أن تفقد دورانها اليومي بفترة طويلة. ومع زيادة طول اليوم، كانت الحياة تضطر إلى التكيف مع درجات الحرارة الأكثر تطرفا في الليل والنهار. لقد كانت أقطاب هذه العوالم إذا لم تمل كثيرا باتجاه مسير الشمس، تظل على درجة حرارة ثابتة نسبيا؛ ومن ثم فقد أصبحت هي القلاع التي تنطلق منها الكائنات الحية إلى المناطق الأقل ملاءمة للحياة. تمكنت العديد من الأنواع من الانتشار نحو خط الاستواء من خلال الوسيلة البسيطة المتمثلة في دفن أنفسها والبقاء في حالة «سبات» طوال الليل والنهار، ولا تفيق منها إلا عند الفجر والغروب لتباشر حياة شديدة النشاط. ومع طول الأيام إلى شهور، تكيفت بعض الأنواع على التنقل السريع، فصارت ترتحل في أرجاء الكوكب متتبعة الفجر والغروب. لقد كان من الغريب رؤية هذه الأنواع الاستوائية الأكثر خفة وهي تمر بسرعة على السهول في ضوء الشمس المعتدل. كانت سيقانها في معظم الأحيان في طول صواري السفن ورفعها. وكانت تنحرف بين الحين والآخر وقد مددت رقابها الطويلة كي تختطف كائنا يهرول أو تقتلع حزمة من أوراق الأشجار. لم تكن هذه الهجرة المستمرة السريعة لتصبح ممكنة في عوالم أقل ثراء بالطاقة الشمسية.
لم يبد أن الذكاء البشري قد تحقق في أي من هذه العوالم ما لم يتحقق بالفعل قبل أن يصبح الليل والنهار طويلين للغاية وفارق الحرارة بينهما شاسعا. في العوالم التي تمكن فيها البشر-النباتات أو غير ذلك من الكائنات من بناء الحضارة والعلم قبل تأخر الدوران على نحو مفرط، بذلت جهود كبيرة للتكيف مع الصعوبات المتزايدة في البيئة. في بعض الأحيان، كانت الحضارة تتراجع إلى القطبين فحسب، مخلفة الجزء الباقي من الكوكب مهجورا. وفي أحيان أخرى، ظهرت المستوطنات تحت الأرضية في مناطق أخرى لا يخرج السكان منها إلا عند الفجر والغروب لزراعة الأرض. وفي بعض الأحيان، كان يوجد نظام من السكك الحديدية يمتد على خطوط العرض المتوازية ينقل الجماعة السكانية المهاجرة من مركز زراعي إلى آخر بعد الغسق.
بالرغم من ذلك، فحين يفقد الكوكب دورانه بالكامل في النهاية، تتكدس الحضارة المتوطنة على طول الحزام الثابت بين الليل والنهار. وبحلول ذلك الوقت أو حتى قبله، يكون الكوكب قد فقد غلافه الجوي أيضا. ويمكننا أن نتخيل بوضوح أن سلالة تناضل للبقاء على قيد الحياة في هذه الظروف العسيرة لن تستطيع الحفاظ على أي ثراء أو تفوق في الحياة الذهنية.
الفصل الثامن
نظرة على المستكشفين
زرت أنا وبفالتو، مع الجماعة المتزايدة من زملائنا المستكشفين، العديد من العوالم التي تنتمي إلى كثير من الأنواع الغريبة. لم نقض في بعضها سوى أسابيع من الزمن المحلي، وظللنا في بعضها لقرون أو قفزنا من نقطة في التاريخ إلى أخرى حسبما كان يقضي به اهتمامنا. كنا نحط على أحد العوالم التي اكتشفناها حديثا كسرب من الجراد، ويتخير كل منا مضيفا مناسبا. وبعد فترة من الملاحظة تطول أو تقصر، كنا نغادر لنحط مرة أخرى ربما على العالم نفسه في عصر آخر أو لنوزع مجموعتنا على العديد من العوالم التي يبعد بعضها عن بعض تباعدا كبيرا في الزمان والمكان.
حولتني هذه الحياة الغريبة إلى كائن مختلف للغاية عن ذلك الرجل الإنجليزي الذي صعد ليلا على أحد التلال في تاريخ معين من التاريخ البشري. ليس الأمر أن خبرتي اللحظية قد زادت بشدة فحسب، بل إنني أيضا قد تضاعفت، إذا صح هذا التعبير، وذلك من خلال الاتحاد الحميمي الغريب الذي كان بيني وبين زملائي؛ فمن ناحية ما، قد أصبحت الآن بفالتو وكل فرد من زملائي بقدر ما كنت ذلك الرجل الإنجليزي.
وهذا التغير الذي قد حل بنا جدير بأن يوصف بعناية، لا لأهميته الجوهرية فحسب، بل لأنه قد منحنا مدخلا لفهم العديد من الكائنات الموجودة في الكون والتي كانت طبيعتها ستظل مبهمة علينا لولاه.
في حالتنا الجديدة، كانت وحدتنا قد أصبحت تامة للغاية حتى إن ما كان يختبره الفرد كانت تختبره المجموعة بأكملها؛ ومن ثم فقد شاركت، بأنويتي الجديدة، في مغامرات ذلك الرجل الإنجليزي، وفي مغامرات بفالتو، ومغامرات الجميع بالسهولة نفسها، وصرت أتمتع أيضا بجميع ذكرياتهم عن وجودهم السابق المنفصل في عوالمهم الأصلية.
قد يسأل قارئ ذو عقل فلسفي النزعة: «أتعني أن العديد من الأفراد الذين يتعرضون لهذه الخبرات قد أصبحوا فردا واحدا له تيار واحد من الخبرات؟ أم تعني أنه قد ظل هناك العديد من الأفراد يتعرضون لخبرات منفصلة من الناحية العددية، لكنهم يتعرضون للخبرات نفسها؟» أنا لا أعرف الإجابة عن هذا السؤال، لكنني أعرف أنني، أنا الإنجليزي، وكذلك كل فرد من زملائي، قد غدونا نمتلك تدريجيا خبرات أحدنا الآخر، وقد صرنا نتمتع أيضا بذكاء أكثر نقاء. أما ما إذا كنا، نحن المختبرين، قد ظللنا أفرادا عديدين أم أصبحنا واحدا، فذلك ما لا أعرفه. بالرغم من ذلك، فأنا أعتقد أن هذا السؤال من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها أبدا حقا؛ إذ إنه في النهاية لا يحمل أي معنى.
في أثناء ملاحظتي الجماعية للعوالم العديدة، وبالقدر نفسه في أثناء استبطاني لعملياتي الذهنية الجماعية، يشكل فرد أو آخر من المستكشفين، وربما مجموعة منهم أيضا، الأداة الأساسية للانتباه؛ فيوفرون من خلال طبيعتهم وخبراتهم الخاصة مادة يتأملها الجميع. كنا في بعض الأحيان حين نتمتع بدرجة استثنائية من الانتباه والحماس، يفيق الواحد منا على حالة من الإدراك والتفكير والخيال والإرادة هي أكثر نقاء من أي خبرة قد عرفها أي منا على حالته الفردية؛ ومن ثم فبالرغم من أن الفرد منا كان على نحو ما متطابقا مع كل فرد من أصدقائه، كان يصبح أيضا بطريقة ما عقلا ذا رتبة أعلى من أي منا على حدة. بالرغم من ذلك، فلم يبد في هذه «اليقظة» من شيء أكثر غرابة في نوعه عن أي من تلك المرات العديدة التي يختبرها المرء في حياته العادية حين يربط العقل بسرور بين العديد من الخبرات التي كان بعضها منعزلا عن بعض حتى ذلك الوقت، أو يكتشف في الأشياء المبعثرة نمطا أو معنى لم يكن قد لاحظه من قبل.
ولا ينبغي للقارئ أن يفترض أن هذه الوحدة الذهنية الغريبة قد طمست الشخصيات الفردية للمستكشفين. إن اللغة البشرية لا تضم مصطلحات دقيقة لوصف علاقتنا الغريبة. لن يكون من الصحيح أن أقول إننا قد فقدنا طبيعتنا الفردانية، أو ذبنا في طبيعة فردانية مشتركة، وسيكون من غير الصحيح أيضا أن أقول إننا قد ظللنا أفرادا متمايزين. وبالرغم من أن الضمير «أنا» قد أصبح الآن ينطبق علينا جميعا، كان الضمير «نحن» ينطبق علينا في الوقت نفسه. في أحد الجوانب، وهو وحدة الوعي، كنا بالتأكيد فردا واحدا يمر بالخبرات، غير أن بعضنا في الوقت ذاته كان مميزا عن البعض الآخر على نحو مهم وممتع للغاية. فمع وجود «أنا» المشترك الواحد، كان هناك أيضا إذا صح التعبير، «نحن» متنوعة ومتشعبة، صحبة مميزة تتألف من شخصيات شديدة التنوع، كل منهم كان يعبر بإبداع عن مساهمته الخاصة في مشروع الاستكشاف الكوني بأكمله، بينما يجتمعون جميعا في نسيج من العلاقات الشخصية البالغة الرقة. وأنا أدرك جيدا أن هذا التفسير للمسألة سيبدو للقراء متناقضا، مثلما يبدو لي بالفعل. غير أنني لا أستطيع أن أجد طريقة أخرى للتعبير عن الحقيقة التي أتذكرها بوضوح، وهي أنني كنت عضوا محددا في جماعة، ومالكا للخبرة المجمعة لتلك الجماعة في الوقت ذاته.
سأشرح الأمر بطريقة مختلفة بعض الشيء. بالرغم من أننا كنا فردا واحدا فيما يتعلق بوحدة الوعي، فقد كنا أفرادا مختلفين فيما يتعلق بالسمات المبتكرة والمتنوعة التي تميز كل منا، وتراقبنا جميعا «الأنا» المشتركة. وكان كل منا بصفته «الأنا» المشتركة، يختبر مجموعة الأفراد بأكملها، بما في ذلك ذاته الفردية، على أنها مجموعة من الأشخاص الفعليين الذين يختلفون في الطباع والخبرة الخاصة. كان كل منا يختبر الجميع على أنهم جماعة فعلية، تربط بينهم علاقات من العاطفة والنقد المتبادل كما حدث بيني وبين بفالتو على سبيل المثال. بالرغم من ذلك، فعلى مستوى آخر من التجربة، وهو مستوى التفكير الإبداعي والخيال، كان من الممكن للانتباه الموحد المشترك أن ينسحب من نسيج العلاقات الشخصية هذا، وبدلا من ذلك، كان يركز بالكامل على استكشاف الكون. يمكن القول إننا كنا نختلف فيما يتعلق بالحب، ونتوحد فيما يتعلق بالمعرفة والحكمة والعبادة. في الفصول التالية والتي تناقش الخبرات الكونية لهذه «الأنا» المشتركة، سيكون من الصواب منطقيا أن أشير إلى العقل المستكشف بصيغة المتكلم المفرد على الدوام وأن أقول ببساطة: «قد فعلت كذا وكذا، واعتقدت هذا وذاك.» غير أني سأظل أستخدم صيغة المتكلم الجمع بوجه عام للحفاظ على الانطباع الحقيقي للمشروع المشترك، ولتفادي الانطباع الخاطئ بأن المستكشف هو الإنسان المؤلف لهذا الكتاب فحسب.
لقد عاش كل منا حياته الفردية النشطة الخاصة في عالم ما من العوالم الكثيرة. وقد ظلت الحياة المتخبطة القصيرة التي عاشها كل منا بمفرده في عالمه الأصلي البعيد تحتفظ بتألق ووضوح غريبين، كالوضوح الذي يجده البالغون في ذكريات الطفولة. ليس الأمر ذلك فحسب، بل كان الواحد منا يعزو إلى حياته السابقة الخاصة ضرورة وأهمية كانت تطغى عليهما، في صفته الجماعية، أمور ذات أهمية كونية أكبر. والآن، كان لهذا الوضوح والتألق، والضرورة والأهمية في كل حياة ضئيلة خاصة، أهمية كبيرة لدى «الأنا» المشتركة التي كان يشارك فيها كل منا. لقد كانت تنير الخبرة المشتركة بوضوحها وعواطفها المثيرة للشفقة. ذلك أنه فقط في الحياة الخاصة التي عاشها كل منا كساكن أصلي لأحد العوالم، قد حارب بالفعل، إذا صح التعبير، في حرب الحياة كجندي خاص يعترك عن قرب مع العدو. لقد كان تذكر هذه الفردانية الخاصة المقيدة السجينة المعماة التواقة هو ما مكننا من مراقبة مجريات الأحداث الكونية لا كمشهد فحسب، بل بشعور الحرقة المريرة في كل حياة فردية وهي تومض وتختفي؛ ومن ثم فقد ساهمت، أنا الرجل الإنجليزي، في العقل المشترك بذكرياتي الواضحة على الدوام لجميع تصرفاتي التافهة في عالمي الخاص المضطرب، وقد اتضحت لي، «الأنا» المشتركة، الأهمية الحقيقية لهذه الحياة البشرية العمياء، والتي يعوض نقصها جوهرتها الصغيرة المعيبة المتمثلة في الاتحاد، بنقاء لم يكن لذلك الرجل الإنجليزي أن يناله من قبل وهو في سباته البدائي ولا يستطيع أن يستعيده الآن من جديد. كل ما أستطيع أن أتذكره الآن هو أنني نظرت، بصفة «الأنا» المشتركة، إلى حياتي الأرضية بدرجة أكبر من النقد وأقل من الذنب عما أشعر به حين أنظر إليها وأنا في حالتي الفردية، ونظرت إلى شريكتي في هذه الحياة بفهم أوضح وأكثر موضوعية لتأثيرنا المتبادل، بقدر أكبر من العاطفة كذلك.
لا يزال هناك جانب آخر للخبرة المشتركة للمستكشفين ينبغي أن أذكره. لقد انطلق كل منا في هذه المغامرة العظيمة في البداية أملا في معرفة الدور الذي لعبه الاتحاد في الكون ككل. كان لا يزال علينا معرفة هذا الأمر، لكن في هذه الأثناء، ظهر أمر آخر كان علينا معرفته والذي صار أكثر إلحاحا على نحو متزايد. إن الخبرات الكثيرة التي مررنا بها في العوالم الكثيرة وكذلك صفاؤنا الذهني الجديد؛ قد ولدا فينا صراعا حادا بين الفكر والعاطفة. من الناحية الفكرية، كانت فكرة أن «إلها» ما منفصلا عن الكون نفسه قد صنع الكون قد بدت الآن أقل فأقل جدارة بالتصديق. من الناحية الفكرية، لم يكن لدينا من شك بأن الكون ذاتي الاكتفاء، وأنه نظام ليس له أساس منطقي ولا خالق. بالرغم من ذلك، فمثلما قد يشعر الإنسان بالحقيقة المادية لحبيب أو لعدو يتصوره، كنا نشعر على نحو متزايد في الحضور المادي للكون بالحضور المادي لما أسميناه بصانع النجوم. وبالرغم من الفكر، عرفنا أن الكون بأكمله أصغر على نحو لا نهائي من الوجود الكلي، وأن هذا الوجود الكلي اللانهائي هو الذي يبطن كل لحظة في الكون. وبعاطفة جامحة، كنا نسعى دائما إلى تدقيق النظر في كل حدث ضئيل بعينه في الكون لكي نرى ملامح ذلك الوجود اللانهائي الذي أسميناه بصانع النجوم؛ إذ لم نجد له اسما أكثر دقة. غير أننا لم نجد شيئا مهما أمعنا النظر. بالرغم من أن الحضور الرهيب يواجهنا في الكون بأكمله وفي كل جزء محدد منه على نحو لا سبيل إلى الشك به، فقد كانت سمته اللانهائية تمنعنا من أن نعزو له أي سمة أخرى، أيا كانت.
في بعض الأحيان كنا نميل إلى تصوره على أنه «قوة» خالصة، ونرمز إليه بيننا وبين أنفسنا بجميع الآلهة المتنوعة للقوة، والتي كنا نعرفها في عوالمنا الكثيرة. وأحيانا، كنا نشعر يقينا أنه «العقل» الخالص، وأن الكون ليس سوى تمرين من الرياضي الإلهي. وأحيانا، كان يبدو لنا أن الحب هو سمته الجوهرية، وتخيلناه على هيئة جميع شخصيات المسيح في جميع العوالم؛ المسيح البشري، ومسيح الشوكيات، ومسيح النوتيات، والمسيح المزدوج لدى السلالة المركبة، ومسيح الحشود لدى السلالة الحشرية. بالرغم من ذلك، فقد كان يبدو لنا بالقدر نفسه على أنه «إبداع» جامح أعمى وبارع في الوقت ذاته، ورقيق وقاس في الوقت ذاته، لا يعبأ إلا بأن يخلق ويخلق تلك المجموعة المتنوعة اللامتناهية من الكائنات، ويضع هنا وهناك بين ألف من التفاهات جمالا هشا. قد يرعى هذا الجمال لبعض الوقت بعناية أمومية، وفي نوبة غيرة مفاجئة من روعة مخلوقه، يدمر ما قد صنع.
غير أننا كنا نعرف جيدا أن هذه الخيالات كلها كانت خاطئة للغاية؛ فقد ظل شعورنا بحضور صانع النجوم مبهما، بالرغم من أنه كان ينير الكون على نحو متزايد، كضياء الشمس المحتجبة في الفجر.
الفصل التاسع
اتحاد العوالم
(1) عوالم طوباوية منشغلة
حل وقت حظي فيه ذهننا الجماعي الجديد بدرجة عالية للغاية من الصفاء حتى إنه تمكن من التواصل مع عوالم قد تفوقت على عقلية الإنسان الأرضي بدرجة كبيرة. ومن هذه التجارب السامية، لست أحتفظ، أنا الذي تقلصت مرة أخرى إلى حالة الكائن البشري الفردي مرة أخرى، إلا بذكرى مشوشة للغاية. لقد أصبحت كمن يعاني من أشد درجات الإرهاق الذهني ويحاول تذكر ألمع ما توصل إليه من أفكار ثاقبة وهو في حالة الحيوية الذهنية التي فقدها؛ فلا يستطيع أن يستعيد منها سوى أصداء خافتة وتألق مبهم. بالرغم من ذلك، فحتى الذكريات الأكثر تشتتا عن التجارب الكونية التي تعرضت لها وأنا في تلك الحالة من الصفاء الذهني تستحق الذكر.
كان تسلسل الأحداث في العالم الذي نجح في تحقيق اليقظة بوجه عام على النحو التالي بنحو أو بآخر. أعتقد أن نقطة البدء كانت مأزقا كالذي تعيشه أرضنا في الوقت الحالي. لقد طرحت جدلية التاريخ العالمي أمام السلالة مشكلة لم تتمكن العقلية التقليدية من التغلب عليها على الإطلاق. لقد غدا الوضع العالمي معقدا للغاية على محدودي الذكاء، وكان يستلزم درجة عالية من النزاهة الفردية في الحكام وفي المحكومين، والتي لم تتحقق حتى الآن إلا لعدد قليل من العقول. كان الوعي قد تعرض ليقظة عنيفة من سباته البدائي ليصبح في حالة من الفردانية المفرطة، والوعي الشديد بالذات لكنه محدود النطاق للغاية مع الأسف. وقد صارت الفردانية مع الروح القبلية التقليدية تهددان الآن بتدمير العالم. فقط بعد عذاب طويل الأمد من الضيق الاقتصادي والحروب الجنونية، تحققت المرحلة الثانية من اليقظة بينما تطاردها رؤية تزداد وضوحا لعالم أسعد. ولم تتحقق هذه المرحلة في معظم الحالات؛ إذ لم تتمكن «الطبيعة البشرية» أو ما يكافئها في العوالم العديدة من تغيير نفسها، ولم تتمكن البيئة من صياغتها من جديد.
بالرغم من ذلك، ففي عدد قليل من العوالم، استجابت الروح لما كانت فيه من مأزق بائس بمعجزة. أو لنقل، إذا كان القارئ يفضل ذلك، إن البيئة قد أعادت تشكيل الروح على نحو معجز. لقد حدثت هناك يقظة واسعة الانتشار وشبه مفاجئة إلى حالة جديدة من صفاء الوعي ونزاهة الإرادة. وتسمية هذا التغيير بالمعجز ليس سوى توضيح لحقيقة أنه لم يكن للعلم بأن يتنبأ به حتى مع تحقيق أكبر قدر ممكن من المعرفة ب «الطبيعة البشرية» مثلما تبدت في العصر السابق. غير أنه لم يبد للأجيال التالية إعجازيا، وإنما محض يقظة متأخرة من سبات معجز إلى تعقل عادي.
لقد ظهر هذا التحقق غير المسبوق للتعقل في البداية في صورة شغف واسع النطاق لنظام اجتماعي جديد يكون عادلا ويستوعب الكوكب بأكمله. ولم تكن تلك الحماسة الاجتماعية جديدة تماما بالتأكيد؛ فقد تصورتها أقلية صغيرة قبل وقت طويل، وحاولت، على فترات متقطعة، أن تكرس أنفسها لتحقيقها. أما الآن، فبسبب ضراوة الظروف وقوة الروح نفسها، سادت هذه الإرادة الاجتماعية أخيرا. وبينما كانت لا تزال متقدة، وكانت الأفعال البطولية لا تزال ممكنة لدى هذه الكائنات التي تيقظت دون سبب معروف، أعيد تنظيم البنية الاجتماعية بأكملها؛ لكي يتمكن كل فرد على الكوكب في خلال جيل أو جيلين من التعويل على وجود سبل العيش والفرصة في ممارسة حقوقه على نحو تام من أجل المتعة الشخصية أو من أجل خدمة المجتمع العالمي. وقد أصبح من الممكن الآن تربية الأجيال الجديدة على الشعور بأن نظام العالم ليس حكما استبداديا غريبا، بل تعبيرا عن الإرادة العامة، وأنهم قد ولدوا بالفعل في عالم نبيل، وهو أمر يطيب في سبيله العيش والمعاناة والموت. من الوارد جدا أن يرى قراء هذا الكتاب ذلك التغيير على أنه معجزة وذلك الوضع على أنه طوباوي.
هؤلاء الذين أتوا منا من كواكب أقل حظا، وجدوا في مشاهدة العالم تلو العالم وهو ينجح في الخروج من مأزق كان يبدو أنه لا فكاك منه، ومشاهدة الكائنات المحبطة المسممة بالكراهية من سكان العالم يتحولون إلى جماعة سكانية قد حظي كل فرد فيها بتربية سخية وذكية؛ ومن ثم لم يتشوه بالحسد والكراهية دون وعي، تجربة مبهجة ومريرة في الوقت ذاته. وبالرغم من أن تغييرا لم يحدث في السلالة الحيوية، فسرعان ما أنتجت البيئة الاجتماعية الجديدة جماعة سكانية قد تبدو على أنها تنتمي إلى نوع جديد. لقد كان الفرد الجديد يتفوق كثيرا على القديم من الناحية الجسمانية والذكاء والاستقلال الذهني والمسئولية الاجتماعية، وكذلك في نزاهة العقل والإرادة. وبالرغم من الخوف في بعض الأحيان من أن غياب كل أسباب الصراع الذهني الشديد قد يحرم العقل من جميع محفزات العمل الإبداعي ويؤدي إلى إنتاج بشر متواضعي الإمكانيات، فسرعان ما ظهر أن روح السلالة كانت بعيدة كل البعد عن الركود، وقد تمكنت الآن من اكتشاف مجالات جديدة للنضال والانتصار. راح سكان العالم من أفراد «الطبقة الأرستقراطية» التي ازدهرت بعد التغيير العظيم، يعيدون النظر في العصر السابق بفضول وتشكك، ووجدوا صعوبة كبيرة في تخيل الدوافع المتشابكة المشينة غير المقصودة في الغالب، والتي كانت هي المحرك الأساسي للتصرف لدى جميع البشر حتى الأكثر منهم حظا بين أسلافهم. لقد أدركوا أن جميع البشر في عصر ما قبل التغيير كانوا مصابين بأمراض ذهنية خطيرة وأوبئة متوطنة من التوهم والهوس بسبب التسمم وسوء التغذية العقلية. ومع تقدم البصيرة النفسية، أثارت النفسية القديمة ذلك النوع نفسه من الاهتمام، مثلما كانت الخرائط القديمة التي تظهر فيها الدول مشوهة بدرجة يكاد يستحيل معها تمييزها، تثيره لدى الأوروبيين في العصر الحديث. كنا ننزع إلى الاعتقاد بأن الأزمة النفسية التي يمر بها عالم اليقظة ما هي إلا ذلك الطريق الوعر من المراهقة إلى النضوج؛ إذ كانت تتمثل بصورة جوهرية في تجاوز الاهتمامات الصبيانية، ونبذ الدمى والألعاب الطفولية، واكتشاف الاهتمامات الموجودة في حياة البالغين. الوجاهة القبلية والسيادة الفردية والمجد العسكري والانتصارات الصناعية، كل ذلك قد فقد ما كان له من بهاء يبعث على الهوس، وبدلا من ذلك كله، أحبت الكائنات السعيدة الاندماج في التواصل الاجتماعي، والأنشطة الثقافية وفي المشروع المشترك المتمثل في بناء العالم. خلال المرحلة التاريخية التي تلت التغلب الفعلي على الأزمة الروحانية في عالم اليقظة، كان انتباه السلالة ينصب بصفة أساسية على إعادة بناء المجتمع بالطبع. كانت هناك العديد من المهمات البطولية التي ينبغي إنجازها. لم تقتض الحاجة نظاما اقتصاديا جديدا فحسب، بل أنظمة جديدة للتنظيم السياسي والقانون العالمي والتعليم. في العديد من الحالات، كانت هذه الفترة التي تشهد إعادة البناء تحت إرشاد من العقلية الجديدة، تشهد نزاعا خطيرا أيضا؛ فحتى الأفراد الذين يتفقون بصدق على هدف النشاط الاجتماعي، قد يختلفون بعنف على الوسيلة. بالرغم من ذلك، فقد كانت هذه النزاعات حين تظهر، برغم طبيعتها المحمومة، ذات طبيعة مختلفة للغاية عن النزاعات السابقة، والتي كانت بسبب الفردانية الشديدة والكراهية الشديدة للجماعات.
لاحظنا أن الأنظمة العالمية الجديدة كانت متنوعة للغاية. وقد كان ذلك متوقعا بالطبع إذ كانت هذه العوالم يختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا من الناحية البيولوجية والنفسية والثقافية. لقد كان النظام العالمي المثالي لسلالة من الشوكيات سيختلف بالطبع عن ذلك الخاص بالسلالة التكافلية من السمكيات والعنكبوتيات، والذي كان سيختلف أيضا عن ذلك الخاص بسلالة النوتيات، وهكذا. غير أننا قد لاحظنا أيضا هوية مميزة في جميع هذه العوالم الظافرة. على سبيل المثال، كانت جميعها شيوعية بالمعنى الفضفاض للكلمة؛ إذ كانت سبل الإنتاج في جميعها ملكية مشتركة لجميع الأفراد، ولم يكن لأي من الأفراد أن يتحكم في عمل الآخرين لمنفعة خاصة. وقد كانت هذه الأنظمة العالمية كلها ديمقراطية من ناحية ما؛ إذ كانت الكلمة الأخيرة في التصديق على السياسات للرأي العالمي. بالرغم من ذلك، فلم تكن هناك آلية ديمقراطية في الكثير من الحالات، ولم تكن هناك قناة شرعية للتعبير عن الرأي العالمي. بدلا من ذلك، يمكن لبيروقراطية متخصصة للغاية، أو حتى لديكتاتور عالمي، أن يقوم بشئون تنظيم نشاط العالم بسلطة شرعية مطلقة، غير أن ذلك كان يجري تحت إشراف مستمر من الإرادة الشعبية التي يعبر عنها الراديو. لقد أصابنا الذهول حين اكتشفنا أنه في العوالم اليقظة، يمكن حتى للديكتاتورية العالمية أن تكون ديمقراطية في جوهرها. لقد شهدنا بذهول مواقف قد واجهت فيها الحكومة العالمية «المطلقة» أمرا ذا أهمية استثنائية ومشكل في السياسة، وقد وجهت نداءات عاجلة طالبت فيها بقرار ديمقراطي رسمي، فما تلقت إلا ردا واحدا من جميع المناطق وهو: «لا يمكننا الإدلاء بالمشورة. يجب أن تقرروا بما تمليه عليكم خبرتكم المهنية، وسوف نلتزم بقراركم.»
كان القانون في هذه العوالم يتأسس على نوع مميز للغاية من التطبيق لا يمكن أن نتخيل أنه ينجح على الأرض. لم نشهد أي محاول لإنفاذ القانون بالعنف قط، إلا في حالات المختلين الخطرين مثلما كان يحدث أحيانا من العودة إلى عصر سابق. وفي بعض العوالم، كانت هناك مجموعة «معقدة» من القوانين التي تنظم الحياة الاقتصادية والاجتماعية للجماعات، وحتى الشئون الخاصة للأفراد. بدا لنا في بادئ الأمر أن الحرية قد اختفت من مثل هذه العوالم، لكننا اكتشفنا لاحقا أن ذلك النظام المعقد ككل ينظر إليه مثلما ننظر إلى قوانين لعبة ما أو مبادئ أحد الفنون أو ذلك العدد الضخم من العادات غير القانونية التي توجد في أي مجتمع قائم منذ فترة طويلة. في العموم، كان جميع الأفراد يلتزمون بالقانون إيمانا منهم بقيمته الاجتماعية بوصفه دليلا للسلوك. بالرغم من ذلك، إذا بدا للفرد في أي وقت من الأوقات أنه غير ملائم، فإنه يخالفه دون تردد. وقد يؤدي سلوكه إلى إهانة جيرانه أو إزعاجهم أو حتى يتسبب لهم في مشاكل خطيرة، وهم سيحتجون على ذلك بقوة على الأرجح. غير أن مسألة الإرغام لم تكن تطرأ على الإطلاق؛ فإذا فشل هؤلاء المعنيون بإقناع الشخص الذي تسبب سلوكه في أضرار اجتماعية، فيمكن أن تحكم في قضيته محكمة تحكيم تدعمها مكانة الحكومة العالمية. وإذا جاء القرار ضد المدعى عليه وأصر هو على الاستمرار في سلوكه غير القانوني، فلم يكن أحد يمنعه. غير أن سلطة الرقابة العامة والنبذ الاجتماعي كانت قوية للغاية، حتى إن تجاهل قرار المحكمة كان أمرا نادر الحدوث. لقد كان الشعور الرهيب بالانعزال يقع على المخالف للقانون موقع التعذيب بالنيران. إذا كان دافعه دنيئا في الأساس، فإنه سينهار عاجلا أم آجلا. أما إذا كانت القضية محض خطأ في التقدير أو إذا كان سلوكه قد نبع من حدس أرقى مما يستطيع أن يصل إليه رفاقه، فقد يثابر على مساره إلى أن ينتصر على الرأي العام.
وأنا لا أذكر هذه الغرائب الاجتماعية إلا لكي أقدم صورة عن الاختلاف الشاسع بين الروح في هذه العوالم الطوباوية والروح التي يألفها قراء هذا الكتاب. وقد يكون من السهل على القارئ أن يتخيل أننا قد صادفنا في تجوالنا تنوعا مدهشا من العادات والمؤسسات، غير أنني لا ينبغي أن أتوقف لوصف أي منها حتى وإن كان بارزا للغاية، بل سأكتفي بالوصف العام للأنشطة في العوالم اليقظة النموذجية كي أتمكن من المواصلة في سرد قصة المجرة بأكملها لا قصة عوالم محددة فيها فحسب. حين كان أحد العوالم اليقظة يجتاز مرحلة إعادة البناء الاجتماعي الجذري ويكتسب توازنا جديدا، فإنه يدخل في مرحلة من التقدم الاقتصادي والثقافي المطرد. كانت الآلية المتبعة، التي تستبد قبل ذلك بالعقل والجسد لكنها أصبحت لهما الآن خادما مخلصا، تؤمن لكل فرد حياة مكتملة ومتنوعة بدرجة تتجاوز كل ما قد عرفناه على الأرض بمقدار شاسع. كانت الاتصالات اللاسلكية والسفر بالصواريخ يمد كل عقل بمعرفة حميمية بجميع الأشخاص. وكانت القدرة الآلية التي تقلل الحاجة إلى العمال تقلل من حجم العمل المطلوب للحفاظ على الحضارة؛ فتختفي جميع الأعمال الشاقة التي تعوق العقل، ويكرس كل فرد من مواطني العالم أفضل طاقاته لخدمة المجتمع التي كانت جديرة بكائن ذكي ناضج. وقد كانت «خدمة المجتمع» تقبل التأويل على نحو واسع؛ فقد بدا أنها تسمح بمنح حيوات عديدة بأكملها للتعبير الذاتي المتهور النزق. وقد كان المجتمع يستطيع أن يتحمل قدرا كبيرا من مثل هذه الخسائر في سبيل ذلك العدد الضئيل من جواهر الأصالة الثمينة، والتي كانت تظهر فيه بين الحين والآخر.
كانت هذه المرحلة المزدهرة والمستقرة في العوالم اليقظة والتي صرنا نسميها بالمرحلة الطوباوية؛ هي الأسعد على الأرجح من بين جميع العصور في الحياة بأي عالم من العوالم. كان لا يزال هناك نوع أو آخر من المآسي، غير أنها لم تكن قط محنا عقيمة وواسعة الانتشار. وقد لاحظنا إضافة إلى ذلك أن المآسي عادة ما كانت ترى في العصور السابقة في سياق الألم الجسدي والموت المبكر، أما الآن فقد صارت ترى أيضا على أنها نتاج الصراع بين الشخصيات المختلفة والتوق وعدم التوافق المتبادل بينها؛ فأصبح النوع الأبسط من المصائب نادر الحدوث للغاية، وفي المقابل صار التواصل بين الأفراد في منتهى الحساسية والرقة. أما المآسي المادية الواسعة الانتشار مثل معاناة شعوب بأكملها وهلاكها كما نشهده في حالتي الحرب والطاعون، فلم تكن معروفة تقريبا إلا في تلك الحالات النادرة التي تتعرض فيها سلالة بأكملها إلى الهلاك بفعل حادثة فلكية، سواء أكان ذلك بسبب فقدان الغلاف الجوي أو انفجار كوكبها أو غرق نظامها الشمسي في مسار من الغاز أو الغبار.
ومن ثم، ففي هذه المرحلة السعيدة والتي كان يمكن أن تمتد لبضعة قرون أو حتى عدة آلاف من السنوات، كانت طاقة العالم بأكملها تكرس لتحقيق مجتمع عالمي مثالي ورفع قدرات السلالة بالسبل الثقافية وسبل تحسين النسل.
لن أذكر إلا القليل من المعلومات بشأن مشروع تحسين النسل في هذه العوالم؛ إذ إن القدر الكبير منها لن يكون مفهوما دون المعرفة الدقيقة للطبيعة الحيوية والكيميائية الحيوية لكل من هذه الجماعات السكانية غير البشرية. ويكفي القول إن المهمة الأولى لعلماء تحسين النسل قد تمثلت في منع استمرار الأمراض الوراثية والتشوهات الجسدية والعقلية. في الأيام التي سبقت التغير النفسي الكبير، غالبا ما كانت تتخلل جهودهم حتى المتواضعة منها حالات إساءة استخدام خطيرة. لقد كانت الحكومات تحاول اقتلاع بعض السمات التي كانت تمقتها، مثل الاستقلال العقلي. وكان المتحمسون الجاهلون يدافعون عن التدخل المتعسف المضلل في اختيار شركاء التزاوج. غير أن هذه العوالم قد أدركت تلك المخاطر وتجنبتها في العصور الأكثر استنارة. بالرغم من ذلك، فكثيرا ما كان مشروع تحسين النسل يؤدي إلى كوارث؛ فقد تعرضت إحدى السلالات الرائعة من الطيور الذكية إلى التراجع إلى المرتبة دون البشرية من خلال محاولة استئصال قابليتها للإصابة بأحد الأمراض العقلية الخبيثة. وقد تصادف أن العامل المسئول عن هذا المرض يرتبط ارتباطا جينيا غير مباشر بإمكانية النمو المعتاد للعقل في الجيل الخامس. أما مشروعات تحسين النسل الإيجابية، فلن أذكر منها إلا بعض التحسينات للنطاق الحسي ودقته لا سيما في البصر واللمس، واختراع حواس جديدة، وإجراء تحسينات على الذاكرة والذكاء العام وتمييز الوقت. صارت هذه السلالات قادرة على تمييز فترات أكثر دقة من الزمن، مع توسعة قبضتها الزمنية في الوقت ذاته من أجل استيعاب فترات زمنية أطول كثيرا مثل «الآن».
كانت العديد من العوالم قد كرست في البداية قدرا كبيرا من الطاقة للعمل في مشروع تحسين النسل هذا، لكنها قررت بعد ذلك أنه بالرغم مما قد يمنحه لها هذا المشروع من ثراء جدي في الخبرات، فإنه ينبغي تأجيله من أجل أمور أكثر أهمية. على سبيل المثال، مع زيادة التعقيد في الحياة، سرعان ما اتضحت الضرورة الشديدة لتأخير نضج العقل الفردي كي يتمكن من استيعاب خبراته المبكرة على نحو أكثر اكتمالا. لقد كان يقال: «قبل أن تبدأ الحياة، يجب أن توجد حياة من الطفولة.» وفي الوقت نفسه، بذلت جهود من أجل إطالة فترة النضوج بمقدار ثلاثة أو أربعة أضعاف طولها المعتاد، وكذلك تقليل الشيخوخة. وعاجلا أم آجلا كانت تظهر في جميع العوالم التي اكتسبت تلك القوة الكاملة في مجال تحسين النسل مناقشات عامة حادة بشأن الطول الأنسب لحياة الفرد. كان الجميع يتفقون على ضرورة إطالة الحياة، لكن كان فريق يرى بإطالتها بمقدار ثلاثة أضعاف أو أربعة فحسب، بينما أصر فريق آخر على أن أقل ما يمكن أن يوفر للسلالة ما كان يرغب فيه الجميع من عمق في الخبرة واستمرار لها هو مائة ضعف من فترة الحياة العادية. بل إن فريقا ثالثا كان ينادي بإلغاء الموت وإنتاج سلالة من الخالدين الذين لا يصيبهم الهرم. وقد قيل بأن ما يكمن في الجمود العقلي وتوقف التقدم بأكمله من خطر واضح يمكن تجنبه من خلال محاولة أن تكون الحالة الفيسيولوجية الثابتة لهؤلاء السكان الخالدين هي مرحلة النضوج المبكر للغاية.
وجدت العوالم المختلفة حلولا مختلفة لهذه المشكلة. لقد عينت بعض السلالات للفرد مدة لا تزيد عن ثلاثمائة عام من أعوامنا، وسمح غيرها له بخمسين ألف عام. وقد اختارت إحدى سلالات الشوكيات الخلود، لكنها قد زودت نفسها بآلية نفسية مبتكرة يتمكن من خلالها الفرد العتيق من إدراك حقيقة أنه بدأ في فقدان الاتصال مع الظروف المتغيرة؛ ومن ثم فسوف يشتهي القتل الرحيم ويمارسه، متنازلا عن مكانه بكل سرور إلى خليفة من نوع أحدث.
شهدنا أيضا العديد من الانتصارات الأخرى في تجارب تحسين النسل في مناطق مختلفة من العوالم. كان المستوى العام لذكاء الفرد قد ارتفع كثيرا بالطبع عما هو عليه لدى الإنسان الأرضي. بالرغم من ذلك، فذلك الذكاء الفائق والذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال مجتمع موحد من الناحية المادية، قد تطور بدرجة كبيرة على المستوى الأكثر عملية، وهو ذلك الخاص بالفردانية الواعية لعالم بأكمله. ولم يكن ذلك ممكنا بالطبع إلا بعد أن أصبح التماسك الاجتماعي للأفراد داخل المجتمع العالمي على درجة عالية من الترابط الوثيق الذي نشهده في اتحاد عناصر الجهاز العصبي. وقد استلزم أيضا تقدما عظيما للتخاطر. وهو أيضا لم يصبح ممكنا إلا بعد أن بلغت الغالبية العظمى من الأفراد نطاقا واسعا من المعرفة لا يوجد على الأرض. كانت القدرة الأخيرة والأكثر صعوبة التي اكتسبتها تلك العوالم في طورها الطوباوي، هي التحرر المادي من الزمان والمكان، تلك القدرة المحدودة على الملاحظة بصورة مباشرة وحتى المشاركة في أحداث تقع على مسافة مكانية وزمانية بعيدة من الملاحظ. لقد انتابتنا حيرة عظيمة على مدار رحلتنا الاستكشافية من حقيقة أننا، نحن الكائنات التي ينتمي معظمها إلى رتبة متواضعة للغاية، قد تمكنا من تحقيق هذه الحرية، والتي اكتشفنا الآن أن هذه العوالم فائقة التقدم قد واجهت صعوبة كبيرة في إتقانها. وقد عرفنا الآن تفسير ذلك. إن تلك المغامرة التي قمنا بها لم تكن لتتحقق بأيدينا دون مساعدة. لقد كنا نخضع على مدار رحلتنا الاستكشافية من دون قصد إلى تأثير نظام من العوالم كان قد حظي بهذه القدرة بعد عصور طويلة من البحث. ولم يكن من الممكن أن نتقدم خطوة واحدة دون ذلك الدعم المستمر الذي كان يقدمه لنا هؤلاء البارعون من أفراد السلالة التكافلية من السمكيات والعنكبوتيات، والتي أدت دورا أساسيا في تاريخ مجرتنا. لقد كان أفراد هذه السلالة هم من تحكموا في مغامرتنا بأكملها بحيث يتسنى لنا ذكر خبراتنا في عوالمنا الأصلية البدائية.
كان التحرر من الزمان والمكان، والقدرة على الاستكشاف الكوني والتأثير من خلال وسائل التواصل التخاطري، هي أقوى ما حققته العوالم الطوباوية المكتملة اليقظة من مكاسب وأخطرها في الوقت ذاته. بسبب استخدام هاتين القدرتين بغير حكمة، حلت الكارثة بالعديد من السلالات المجيدة ذات العقل الواحد. في بعض الأحيان، كان العقل العالمي المغامر يعجز عن الحفاظ على تعقله في مواجهة الشقاء واليأس اللذين صارا يغمرانه الآن تخاطريا من جميع بقاع المجرة. وفي بعض الأحيان، كانت الصعوبة وحدها في استيعاب الأمور الباطنية التي تكشف له تلقي به في انهيار عقلي لا شفاء منه. وفي بعض الأحيان، كان يهيم للغاية في مغامراته التخاطرية إلى أن يفقد الاتصال بحياته الخاصة على كوكبه الأصلي؛ ومن ثم يحرم المجتمع العالمي من عقله المرشد المشترك ويهوي إلى الفوضى والاضمحلال، ويموت العقل المستكشف نفسه. (2) نظرة على صراع العوالم
من بين العوالم الطوباوية المنشغلة التي وصفتها، كانت بضعة منها قد تأسست بالفعل قبل ميلاد الأرض الأخرى وازدهر عدد أكبر قبل أن يتشكل كوكبنا، لكن الكثير من العوالم الأكثر أهمية كانت في عصر زمني يقع بعيدا عنا في المستقبل، عصر قد جاء بعد تدمير آخر السلالات البشرية بفترة طويلة. لا شك بأن الكوارث في هذه العوالم اليقظة كانت أقل كثيرا مما هو معتاد في العوالم الأدنى مرتبة والأقل كفاءة؛ ولهذا بالرغم من أن الحوادث المميتة كانت تقع في جميع الحقب، ظل عدد العوالم اليقظة في مجرتنا في ازدياد مستمر بمرور الوقت. أما العدد الفعلي للمواليد من الكواكب، فقد بلغ الحد الأقصى (أو سيبلغه) في مرحلة متأخرة نسبيا من تاريخ المجرة بسبب فرص التقاء نجوم ناضجة وليست عجوزا، ثم تضاءل مرة أخرى. بالرغم من ذلك، ولأن التقدم المتأرجح من الحيوانية المحضة إلى النضج الروحاني لأحد العوالم يستغرق في المتوسط الآلاف من ملايين السنين، لم يبلغ السكان في العوالم الطوباوية اليقظة بالكامل الحد الأقصى إلا في مرحلة متأخرة للغاية حين كانت المجرة قد تخطت أوجها بعض الشيء بالفعل من الناحية الفيزيائية. إضافة إلى ذلك، فبالرغم من أن العوالم اليقظة القليلة قد نجحت أحيانا في الحقب المبكرة في التواصل أحدها مع الآخر، سواء أكان ذلك من خلال السفر بين النجوم أو التخاطر، فلم تشغل العلاقات القائمة بين العوالم الاهتمام الأساسي للعوالم اليقظة حتى مرحلة متأخرة نسبيا من تاريخ المجرة.
على مدار عملية التقدم التي يمر بها أحد العوالم اليقظة، كان ثمة خطر بالغ خفي ويسهل إغفاله، وهو أن الاهتمام قد يصبح «منصبا» على صعيد حالي من المساعي، فلا يحدث أي تقدم آخر. وقد يبدو من الغريب أن كائنات تتمتع بمعرفة نفسية تتجاوز ما يعرفه البشر بدرجة كبيرة تقع في شرك على هذا النحو. من الواضح أنه في كل مرحلة من مراحل التطور الذهني فيما عدا المرحلة الأعلى على الإطلاق، يكون العقل النامي حساسا وهدفا سهلا للانحراف عن المسار. وبصرف النظر عن طريقة حدوث هذا، فالحقيقة أن قلة فقط من العوالم التي حققت مرحلة متقدمة من التطور، حتى العوالم ذات العقلية المشتركة منها، قد انحرفت انحرافا كارثيا بطريقة غريبة، وهو ما أجده أمرا يصعب فهمه للغاية. ولا يمكنني سوى أن أفترض أن الحاجة الشديدة إلى الاتحاد الحقيقي والصفاء العقلي الحقيقي في هذه العوالم قد أصبحت على ما يبدو هوسية ومنحرفة؛ ومن ثم قد يتداعى سلوك هؤلاء المنحرفين المنتشين إلى شيء شديد الشبه بالقبلية والتعصب الديني. وسرعان ما يؤدي المرض إلى إبادة جميع العناصر التي كان يبدو أنها تتمرد على ثقافة المجتمع العالمي التي كانت تحظى بالقبول الواسع. وحين كانت هذه العوالم تتقن السفر بين النجوم، كانت ربما تنتابها رغبة متطرفة في فرض ثقافتها على المجرة بأكملها. وفي بعض الأحيان كان حماسها يصبح عنيفا للغاية حتى إنها كانت تشن الحروب الدينية القاسية على كل من يعارضها.
إن أشكال الهوس الناتجة من مرحلة أو أخرى من مراحل التقدم نحو الطوباوية وصفاء الوعي، حتى وإن لم تجلب كارثة عنيفة، كان يمكن أن تؤدي في أي مرحلة إلى أن تحيد بالعالم المتيقظ نحو الفشل. كان من الممكن أن يكرس الذكاء البشري الفائق لدى الأفراد المخلصين وشجاعتهم وثباتهم لأغراض العالم التافهة والمضللة؛ ومن ثم ففي الحالات المتطرفة، كان من الممكن أن يتخطى العالم حدود التعقل حتى وإن ظل طوباويا اجتماعيا وحافظ عقليا على فردانية فائقة. وبجسد صحي رائع وعقل مجنون، يمكن أن يتسبب في إحداث ضرر بالغ بجيرانه.
لم تصبح هذه المأساة ممكنة إلا بعد استقرار أمر السفر بين الكواكب والنجوم. قبل ذلك بفترة طويلة، في مرحلة مبكرة من تاريخ المجرة، كان عدد الأنظمة الكوكبية صغيرا للغاية ولم يبلغ منها مرحلة الطوباوية سوى نصف دزينة من العوالم التي كانت موزعة في جميع أنحاء المجرة على مسافات بعيدة جدا بعضها من بعض. عاش كل من هذه العوالم حياته في عزلة شبه كاملة لم يخفف منها سوى اتصاله التخاطري المتقلقل مع أقرانه. وفي مرحلة متأخرة بعض الشيء من تلك المرحلة المبكرة، حين أتقن أبناء المجرة الأكبر هؤلاء تأسيس مجتمعهم وطبيعتهم البيولوجية وصاروا على أعتاب الفردانية الفائقة، وجهوا اهتمامهم إلى السفر بين الكواكب. تمكن الواحد تلو الآخر من السفر بالصواريخ في الفضاء، ونجحوا في تربية جماعات سكانية متخصصة في استعمار الكواكب المجاورة. وفي مراحل لاحقة، وهي المرحلة الوسطى في تاريخ المجرة، صار عدد الأنظمة الكوكبية أكبر كثيرا مما كان عليه في المرحلة المبكرة، ونجح عدد كبير من العوالم الذكية في الخروج من الأزمة النفسية العظيمة التي لم يتخطها قط الكثير من العوالم. وفي هذه الأثناء، كانت بعض عوالم «الجيل» الأكبر من العوالم اليقظة، تواجه بالفعل المشكلات الشديدة الصعوبة فيما يتعلق بالسفر بين النجوم لا الكواكب فحسب. لقد غيرت هذه القدرة الجديدة سمت تاريخ المجرة بأكمله إلى الأبد. وحتى الآن، بالرغم من الاستكشاف التخاطري الأولي الذي تقوم به العوالم الأكثر يقظة، صارت حياة المجرة بوجه عام هي حياة عدد من العوالم المنعزلة التي لم يكن لأي منها تأثير على الآخر. ومع تقدم السفر بين النجوم، صارت الطباع الكثيرة المتفرقة التي تميز سير العوالم تمتزج تدريجيا في دراما تضمها جميعا.
كان السفر داخل النظام الكوكبي الواحد يتم في البداية من خلال مركبات صاروخية تدفع بأنواع الوقود العادية. وفي جميع المحاولات المبكرة كانت إحدى الصعوبات الكبيرة هي خطر الاصطدام بالشهب. وحتى المركبات الأكثر كفاءة، وأكثرها مهارة في الطيران والسفر في المناطق التي كانت خالية بعض الشيء من هذه القذائف غير المرئية القاتلة، كان من الممكن أن تصطدم وتنصهر. ولم يمكن التغلب على المشكلة إلى أن اكتشفت السبل التي تفتح كنز الطاقة دون الذرية؛ إذ أصبح حينها من الممكن حماية المركبة عن طريق غلاف واسع الانتشار من الطاقة كان يغير من اتجاه الشهب أو يفجرها على مسافة بعيدة. وبصعوبة كبيرة، قد ابتكرت أيضا وسيلة مشابهة بعض الشيء لحماية السفن الفضائية وطواقمها من ذلك الوابل المستمر القاتل من الإشعاع الكوني.
وعلى العكس من السفر بين الكواكب، كان السفر بين النجوم مستحيلا حتى اكتشاف الطاقة دون الذرية. من حسن الحظ أن العثور على ذلك المصدر للطاقة لم يحدث إلا في فترة متأخرة من تقدم العالم، حين كانت العقلية قد وصلت إلى النضج الكافي لاستخدام تلك الأداة التي تعد أخطر الأدوات المادية على الإطلاق دون التسبب في كارثة أبدية، غير أن الكوارث قد حدثت بالفعل. إن العديد من العوالم قد انفجرت عن غير قصد، ودمرت الحضارة في بعضها لبعض الوقت. بالرغم من ذلك، فبعد وقت طال أو قصر، تمكنت غالبية العوالم العاقلة من ترويض هذا الجني الجبار وتسخيره للعمل على نطاق ضخم لا في الصناعة فحسب، بل في مشروعات ضخمة كتغيير مدارات الكواكب من أجل تحسين المناخ. وكانت هذه العملية الخطيرة والدقيقة تتم عن طريق تشغيل جهاز صاروخي ضخم يطلق الطاقة دون الذرية في تلك الأزمنة والأماكن حتى يتراكم الارتداد الصادر عن الجهاز بالتدريج ليحول مسار الكوكب إلى الاتجاه المرغوب.
كان السفر بين النجوم ينفذ في البداية من خلال فصل كوكب عن مداره الطبيعي من خلال سلسلة من حركات الدفع الصاروخية المعينة في المكان والزمان المناسبين؛ ومن ثم إطلاقه إلى الفضاء الخارجي بسرعة تزيد عن السرعات المعتادة للكواكب والنجوم. وقد كان من الضروري وجود ما هو أكثر من ذلك؛ إذ إن الحياة على كوكب لا شمس له كانت ستصبح مستحيلة. في الأسفار القصيرة بين النجوم، كان يتم التغلب على هذه الصعوبة في بعض الأحيان عن طريق توليد الطاقة دون الذرية من مادة الكوكب نفسها، أما الأسفار الطويلة التي تمتد لآلاف السنوات، كانت الطريقة الوحيدة هي تكوين شمس صناعية صغيرة وقذفها في الفضاء كأنها قمر متوهج للعالم الحي. ولهذا الغرض، كان يتم تقريب أحد الكواكب غير المأهولة من الكوكب الأم لتشكيل نظام ثنائي، ثم تصميم آلية للتحكم في تفكك ذرات الكوكب العديم الحياة من أجل توفير مصدر ثابت للضوء والحرارة. وبعد ذلك، يتم إطلاق الجسمين اللذين يدور كل منهما حول الآخر، بين النجوم.
قد تبدو هذه العملية الدقيقة مستحيلة للغاية. ولئن كان لدي من المجال ما يكفي لذكر التجارب التي استمرت على مدار زمن طويل، وما سبق تحقيق هذا الإنجاز من حوادث قد دمرت العالم، فلربما تلاشى تشكك القارئ. بالرغم من ذلك، فلا بد لي أن أصف حقبا طويلة بأكملها من المغامرة العلمية والشجاعة الشخصية في جمل قليلة. ويكفي القول إنه قبل إتقان هذه العملية، قد انجرفت العديد من العوالم المأهولة لتتجمد بعد ذلك في الفضاء، أو احترقت بفعل شمسها الصناعية.
إن النجوم بعيدة جدا بعضها عن بعض حتى إننا نقيس المسافات بينها بالسنين الضوئية. ولئن كانت هذه العوالم المسافرة قد تحركت بسرعات مناظرة لسرعات النجوم نفسها فحسب، لاستغرقت أقصر رحلة بين النجوم ملايين الأعوام، لكن لأن الفضاء الواقع بين النجوم لا يبذل أي مقاومة تقريبا على الجسم المتحرك؛ ومن ثم لا يفقد الزخم، فقد أصبح من الممكن للعالم المسافر أن يزيد من سرعته بما يفوق سرعة أسرع النجوم، وذلك من خلال إطالة مدة الدفع الصاروخي الأصلي لسنوات عديدة. لا شك أنه رغم أن الرحلات الأولى التي قامت بها كواكب طبيعية ثقيلة، كانت رائعة وفقا لمعاييرنا، علي أن أسرد في مرحلة لاحقة قصة رحلات الكواكب الاصطناعية الصغيرة التي كانت تتحرك بسرعة تبلغ تقريبا نصف سرعة الضوء. وبسبب بعض «آثار النسبية» لم يكن من الممكن زيادة السرعة بعد هذه النقطة. بالرغم من ذلك، فحتى هذه السرعة قد جعلت من السفر إلى النجوم القريبة أمرا يستحق القيام به في حالة وجود أنظمة كوكبية أخرى تقع في هذا النطاق. وينبغي أن نتذكر أن العالم المكتمل اليقظة لم يكن يحتاج إلى التفكير وفقا للفترات القصيرة كحياة الإنسان. وبالرغم من أن الأفراد قد يموتون في مثل هذا العالم، كان العالم العاقل نفسه خالدا على نحو مهم للغاية.
لقد كان من المعتاد أن يضع خططه لتشمل فترات تبلغ ملايين السنين.
في العصور المبكرة كانت الرحلات الاستكشافية في المجرة من نجم إلى نجم أمرا صعبا ونادرا ما تنجح، لكن في مرحلة متأخرة حين صارت السلالات الذكية تسكن بالفعل العديد من آلاف الكواكب، وتجاوزت المئات منها المرحلة الطوباوية، طرأ وضع خطير للغاية. كان السفر بين النجوم في ذلك الوقت قد أصبح فعالا للغاية؛ إذ استخدمت مواد صناعية فائقة الخفة والمتانة في بناء مركبات استكشاف ضخمة في الفضاء يبلغ قطرها عدة أميال. وكان يمكن قذف هذه المركبات بفعل الصواريخ والتسارع التراكمي إلى أن تبلغ سرعتها نصف سرعة الضوء تقريبا. ومع كل هذا، لم يكن من الممكن إتمام الرحلة من طرف المجرة حتى طرفها الآخر في أقل من مائتي ألف عام، غير أنه لم يكن هناك من سبب للقيام بمثل هذه الرحلة الطويلة. لقد استغرقت الرحلات القليلة التي انطلقت للبحث عن أنظمة ملائمة أكثر من عشر تلك المدة، وكان العديد منها أقصر من ذلك كثيرا. لم تكن السلالات التي بلغت مرحلة الوعي المشترك واستقرت فيها تتردد في إرسال عدد من مثل هذه الرحلات الاستكشافية. وفي نهاية المطاف، كان من الممكن أن تطلق كوكبها نفسه عبر محيط الفضاء لكي يستقر في نظام بعيد قد أوصى به الرواد.
لقد كانت مسألة السفر بين النجوم آسرة للغاية حتى إنها كانت تمثل في بعض الأحيان هوسا لأحد العوالم الطوباوية المتطورة نسبيا. ولم يكن من الممكن أن يحدث ذلك إلا في حالة وجود شيء كريه في تكوين ذلك العالم؛ شغف سري وغير مشبع يدفع هذه الكائنات. وفي هذه الحالة قد تصبح السلالة مجنونة بالسفر.
كان يتم إعادة صياغة تنظيم هذا العالم الاجتماعي وتوجيهه بصرامة إسبرطية نحو المشروع المشترك الجديد. وتدريجيا، يبدأ كل أفراده المغيبين بفعل الهوس المشترك في نسيان حياة الاتصال الشخصي القوي والنشاط الذهني الإبداعي التي كانت همهم الأساسي حتى ذلك الوقت. أما مغامرة الروح بأكملها واستكشاف الكون وطبيعته بذكاء ناقد وإحساس رقيق، فقد كانت تبطئ تدريجيا إلى أن تتوقف تماما. ويزيد التعتيم على أعمق جذور العواطف والإرادة، والتي كانت في العالم المتعقل المكتمل اليقظة تقع في النطاق الآمن للتأمل الذاتي. في مثل ذلك العالم، تقل قدرة العقل المشترك التعس على فهم نفسه أكثر فأكثر، ويزداد سعيه وراء هدفه الوهمي. كانت جميع المحاولات للاستكشاف التخاطري للمجرة تهجر في ذلك الوقت، ويتخذ الشغف بالاستكشاف المادي صورة الدين. كان العقل المشترك يقنع نفسه بأنه يجب أن ينشر تعاليم ثقافته في المجرة بأكملها مهما كلفه ذلك من ثمن. وبالرغم من أن الثقافة نفسها تكون في طريقها إلى التلاشي، فقد كان العقل يعتز بالمفهوم المبهم للثقافة ويستخدمه كتبرير للسياسة العالمية.
وهنا علي أن أراجع نفسي خشية تقديم انطباع خاطئ. من الضروري أن نميز تمييزا واضحا بين العوالم المجنونة ذات التطور العقلي المنخفض بعض الشيء وتلك التي بلغت أعلى مراتب التطور العقلي؛ فقد كان من الممكن أن تصبح الأنواع المتواضعة شديدة الهوس بالسيادة المطلقة أو السفر المطلق، وفقا لنطاقها من الشجاعة والالتزام. أما ذلك العدد القليل للغاية من العوالم الأكثر تيقظا والتي كان يبدو أن هوسها بالمجتمع نفسه والصفاء الذهني نفسه وزيادة ذلك النوع من المجتمعات ونمط الصفاء الذهني الذي كان يحوز على أعلى درجات إعجابهم، فقد كانت حالتها أكثر مأساوية. عندئذ، لم يعد السفر سوى وسيلة لإنشاء إمبراطورية ثقافية ودينية.
لقد تحدثت كما لو أنني أثق بأن هذه العوالم الجبارة مجنونة بالفعل، وقد انحرفت عن طريق النمو العقلي والروحاني. غير أن مأساة هذه العوالم تكمن في رؤيتها لنفسها على أنها في منتهى التعقل والعملية والفضيلة، بينما كانت تبدو لأعدائها على أنها إما مجنونة أو شريرة بشدة. وقد مرت أوقات كدنا أن نقتنع فيها نحن - المستكشفين المذهولين - بأن هذه هي الحقيقة. لقد كان اتصالنا الحميمي مع هذه العوالم يمنحنا، إذا صح التعبير، البصيرة لرؤية التعقل الكامن في جنونها، أو أصل الفضيلة في شرها . لا بد لي من وصف هذا الجنون أو الشر بمصطلحات الجنون أو الرذيلة البشرية البسيطة، لكن الحقيقة أنه كان يفوق الطبيعة البشرية من ناحية ما؛ إذ كان يتضمن انحراف قدرات تفوق النطاق البشري للتعقل والفضيلة.
حين كان أحد هذه العوالم «المجنونة» يصادف أحد العوالم العاقلة، فإنه لم يكن يعبر بإخلاص إلا عن أكثر النوايا تعقلا وعطفا. إنه لم يكن يرغب إلا في الاتصال الثقافي، وربما التعاون الاقتصادي. وشيئا فشيئا، كان يحظى باحترام العالم الآخر لعطفه ونظامه الاجتماعي الرائع وغايته الديناميكية. كان كل عالم ينظر إلى الآخر على أنه مناصر للروح يتمتع بالنبل، وإن كان غريبا وغير مفهوم بعض الشيء. بالرغم من ذلك، كان يبدأ العالم العادي في أن يدرك تدريجيا أن ثقافة العالم «المجنون» تتضمن بديهيات خفية واسعة النطاق تبدو في منتهى الزيف والقسوة والعدائية والمعاداة للروح، وهي الدوافع التي تتحكم في علاقاته الخارجية. في هذه الأثناء، كان يتوصل العالم «المجنون» مع الأسف إلى استنتاج أن العالم الآخر يفتقر إلى التعقل بشدة وأنه كليل في القيم العليا ومعظم الفضائل البطولية، وأن حياته بأكملها فاسدة في حقيقة الأمر ولا بد من تغييرها لمصلحته، وإلا فتدميرها. وبهذا كان يدين كل واحد منهما الآخر مع الأسف، وإن استمر الاحترام والعاطفة متبادلين بينهما. غير أن العالم المجنون ما كان ليقنع بترك الأمور مثلما هي، بل كان يهاجم في نهاية المطاف بحماس مقدس سعيا إلى تدمير حضارة الآخر الخبيثة، وإبادة شعبه كذلك. من السهل علي الآن بعد وقوع الحدث وما اختبرته هذه العوالم المجنونة من سقوط روحاني أخير أن أدينهم كما يليق بالمنحرفين، لكن في المراحل المبكرة من هذه الأحداث المثيرة، كنا في حيرة تامة من أمرنا لا ندري لدى أي الجانبين يكمن التعقل.
استسلمت العديد من العوالم المجنونة إلى طيشها في السفر. وأما غيرها فقد سقط تحت وطأة البحث الممتد على مدار عصور طويلة في هوة الأمراض العصبية الاجتماعية والصراعات المدنية. بالرغم من ذلك، فقد نجحت قلة منها في نيل غايتها، وبعد أسفار امتدت لآلاف الأعوام تمكنت من الوصول إلى نظام كوكبي مجاور. غالبا ما كان الغزاة يعانون من محنة قاسية؛ فعادة ما تكون الحال أنهم قد استهلكوا القدر الأكبر من مادة شمسهم الاصطناعية الصغيرة، وأرغمهم الاقتصاد على تقليل حصتهم من الحرارة والضوء حتى إنهم حينما كانوا يعثرون في نهاية المطاف على نظام كوكبي ملائم يكون عالمهم الأصلي كاد أن يصير قطبيا بالكامل. عند الوصول، كانوا يتخذون موقعهم في البداية في مدار مناسب، وربما يقضون عدة قرون في التعافي. بعد ذلك، كانوا يستكشفون العوالم المجاورة بحثا عن أكثرها ملاءمة للحياة ويبدءون في تكييف أنفسهم أو نسلهم على الحياة عليه. وإذا حدث، مثلما كان يحدث في معظم الأحيان، وكان أي من هذه الكواكب قد سكنته بالفعل كائنات ذكية، فعاجلا أو آجلا كان يشتبك الغزاة معهم في نهاية المطاف؛ فإما أن يكون الصراع بدائيا على الحق في استغلال موارد الكوكب وإما أن يكون بشأن هوس الغزاة بنشر ثقافتهم الخاصة. فبحلول ذلك الوقت، تكون مهمة نشر الحضارة، وهي الدافع الظاهر لجميع مغامراتهم البطولية، قد أصبحت هوسا متصلبا. لم يكونوا ليتصوروا أن الحضارة الأصلية قد تكون أكثر ملاءمة للسكان الأصليين وإن كانت أقل تطورا من حضارتهم. ولم يكونوا ليتصوروا أيضا أن ثقافتهم، التي كانت فيما سبق تعبيرا عن عالم يقظ رائع، ربما تسقط بالرغم من قواهم الآلية وحميتهم الدينية المجنونة، أمام الثقافة الأبسط للسكان الأصليين، فيما يتعلق بجميع المتطلبات الجوهرية للحياة الذهنية.
رأينا العديد من أمثلة الدفاع المستميت التي قامت بها بعض العوالم البشرية الأدنى مرتبة ضد إحدى سلالات البشر الفائقين المجانين، والذين لم يكونوا مسلحين بما لديهم من الطاقة دون الذرية المنيعة فحسب، بل بأقصى درجات الذكاء والمعرفة والتفاني، وعلاوة على ذلك، كانوا يتمتعون بميزة عظيمة وهي أن جميع الأفراد يشاركون في العقل الموحد للسلالة. بالرغم من أننا كنا نعلي من قيمة تطور العقل أكثر من كل شيء؛ ومن ثم انحزنا إلى جانب الغزاة اليقظين وإن كانوا منحرفين، فسرعان ما انقسمت مشاعر التعاطف لدينا، ثم تحولت بالكامل تقريبا إلى السكان الأصليين بالرغم من ثقافتهم البدائية. وبالرغم من غبائهم وجهلهم وخرافاتهم وصراعاتهم الداخلية التي لا تنتهي ووهنهم الروحي وفظاعتهم، أدركنا أن فيهم قدرة قد فقدها الآخرون، وهي الحكمة الساذجة لكن المتزنة، والمكر الحيواني والوعد الروحاني. أما الغزاة بالرغم من براعتهم، فكانوا منحرفين بالفعل. وشيئا فشيئا، صرنا ننظر إلى الصراع كصراع بين قنفذ غير مدرب لكنه مبشر قد هاجمه مسلح مهووس بالدين.
بعد أن يستغل الغزاة جميع العوالم في النظام الكوكبي المكتشف حديثا، كانوا يشعرون بشهوة التبشير مرة أخرى. ومع إقناعهم لأنفسهم بأن واجبهم هو التقدم بإمبراطوريتهم الدينية في المجرة بأكملها، كانوا يفصلون بضعة كواكب ويرسلونها في الفضاء مع طاقم من الرواد، أو يقسمون النظام الكوكبي بأكمله ويبعثرونه في الخارج بحماس تبشيري. في بعض الأحيان، كانت أسفارهم تجمعهم بسلالة أخرى من العوالم الفائقة المجنونة؛ فتنتج عن ذلك حرب يفنى فيها أحد الجانبين أو حتى كلاهما.
وفي بعض الأحيان، كان المغامرون يأتون على عوالم من رتبتهم لكنها لم تخضع لهوس الإمبراطورية الدينية. عندئذ يبدأ السكان الأصليون تدريجيا في إدراك أنهم في مواجهة مع مجموعة من المخبولين، بالرغم من أنهم كانوا يلاقون الغزاة بالكياسة والمنطق في البداية؛ فيسرعون في تسخير حضارتهم في الحرب. يتوقف الأمر على تفوق الأسلحة والمكر العسكري، لكن إذا كان الصراع طويلا ومريرا، فقد يعاني السكان الأصليون من تلف عقلي بسبب فترة الحرب حتى وإن انتصروا، حتى إنهم لا يستعيدون تعقلهم أبدا.
كانت العوالم التي عانت من هوس الإمبريالية الدينية تسعى إلى السفر بين النجوم قبل أن ترغمها الضرورة الاقتصادية عليه بفترة طويلة. أما العوالم التي تتمتع بروح أكثر تعقلا، فغالبا ما كانت تكتشف عاجلا أو آجلا، مرحلة لم يكن من الضروري بعدها تحقيق زيادة في التطور المادي أو عدد السكان من أجل استخدام قدراتهم الراقية. وكانت هذه العوالم تكتفي بالبقاء داخل أنظمتها الكوكبية الأصلية في حالة من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي؛ ومن ثم فقد أتيح لها أن تمنح القدر الأكبر من ذكائها العملي إلى الاستكشاف التخاطري للكون. كان الاتصال التخاطري بين العوالم يغدو الآن أكثر دقة وموثوقية، وخرجت المجرة من حالتها البدائية التي كان يمكن لأي عالم فيها أن يظل منعزلا ويقضي حياته بأكملها في عزلة تامة. في واقع الأمر، مثلما أن النوع البشري يختبر الآن «تضاؤل» الأرض إلى حجم بلد، كانت المجرة بأكملها في تلك الفترة الدقيقة من حياتها «تتضاءل» إلى حجم عالم. كانت تلك الأرواح العالمية التي حققت النجاح الأكبر في الاستكشاف التخاطري قد صممت الآن «خريطة ذهنية» للمجرة بأكملها، وقد كانت دقيقة إلى حد كبير بالرغم من وجود عدد من العوالم الشاذة التي لم تكن نجحت في تحقيق اتصال مستمر معها بعد. وقد كان هناك أيضا نظام فائق التقدم من العوالم كان قد «تلاشى» تماما على نحو غير مفهوم من الاتصال التخاطري. وسوف أذكر المزيد عن هذا الأمر في تتمة هذا الكتاب.
كانت القدرة التخاطرية للعوالم والأنظمة المجنونة قد تقلصت الآن بدرجة كبيرة. وبالرغم من أنها كانت تخضع عادة للملاحظة التخاطرية التي تقوم بها العوالم ذات الأرواح الأكثر نضجا بل وتأثرت بها أيضا إلى حد ما، كانت قد بلغت الآن درجة كبيرة للغاية من الاعتزاز بالذات حتى إنها لم تعد تعبأ باستكشاف الحياة الذهنية للمجرة. كان السفر المادي والقدرة الإمبريالية المقدسة سبيلين كافيين بالنسبة إليها للتواصل مع الكون المحيط.
وبمرور الوقت ظهرت عدة إمبراطوريات متنافسة كبيرة من العوالم المجنونة، كل منها يزعم الاضطلاع بمهمة إلهية ما لتوحيد المجرة بأكملها وإيقاظها. لم يكن هناك سوى فارق ضئيل بين الأيديولوجيات التي تتبناها هذه الإمبراطوريات، غير أن كلا منها كان يعارض الإمبراطوريات الأخرى بحمية دينية. ولما كانت هذه الإمبراطوريات قد نبتت في مناطق بعيدة بعضها عن بعض، فقد تمكنت بسهولة من السيطرة على جميع العوالم دون الطوباوية التي استطاعت الوصول إليها. وبهذه الطريقة قد انتشرت من نظام كوكبي إلى آخر حتى تواصلت كل إمبراطورية بالأخرى في نهاية المطاف.
تلت ذلك حروب لم يحدث مثلها في تاريخ مجرتنا. أساطيل من العوالم الطبيعية والاصطناعية راحت تدخل في مناورات فيما بين النجوم ليتفوق كل منها على الآخر، ويدمر كل منها الآخر بالطائرات النفاثة البعيدة المدى التي تستخدم الطاقة دون الذرية. وبينما راحت تيارات المعركة تجتاح الفضاء هنا وهناك، هلكت أنظمة كوكبية بأكملها. ولاقت العديد من أرواح العوالم نهاية مباغتة. وقتلت العديد من السلالات الأدنى التي لم يكن لها أي دور في الصراع في الحروب المقدسة التي نشبت حولها. غير أن المجرة شاسعة للغاية حتى إن هذه الحروب التي نشبت بين العوالم كان يمكن أن تعد في بادئ الأمر رغم فظاعتها حوادث نادرة أو محض فترات بائسة في مسيرة الحضارة الظافرة. لكن الداء قد انتشر، وراح المزيد والمزيد من العوالم العاقلة تعيد تنظيم أنفسها للدفاع العسكري بعد تعرضها لهجوم العوالم المجنونة. لقد كانوا محقين في اعتقادهم بأن الطرق السلمية وحدها لا يمكن أن تحل هذا الموقف؛ إذ إن العدو كان مختلفا عن أي جماعة بشرية في أنه كان مجردا تماما من «الإنسانية» ليكون عرضة للتعاطف. غير أنهم كانوا مخطئين في رجائهم بأن الجيوش يمكن أن تنقذهم. وبالرغم من أنه كان من الممكن للمدافعين أن ينالوا النصر في الحرب الناجمة، فكان الصراع نفسه طويلا للغاية وفتاكا في معظم الأحيان، حتى إن المنتصرين أنفسهم كانوا يتعرضون لتلف في الروح لا شفاء منه.
في مرحلة لاحقة قد تكون هي الأكثر فظاعة في حياة مجرتنا، ذكرت رغما عني حالة الحيرة والقلق التي تركتها خلفي على الأرض. وقليلا قليلا، كانت المجرة بأكملها التي تمتد مساحة ما يقرب من تسعين ألف سنة ضوئية، وتضم ما يزيد على ثلاثين ألف مليون نجم وعلى ما يزيد عن مائة ألف نظام كوكبي (بحلول هذا التاريخ) والآلاف من السلالات الذكية، قد شلها الخوف من الحرب وذاقت عذاب اندلاعها على نحو متكرر.
بالرغم من ذلك، فقد كان وضع المجرة أشد بؤسا مما كان عليه وضع عالمنا الصغير اليوم في أمر واحد، وهو أن أيا من أممنا ليس بفرد فائق يقظ. وحتى تلك الشعوب التي تعاني من هوس مجد القطيع تتألف من أشخاص يتسمون بالتعقل في حياتهم الخاصة. وقد يدفع تغير الأحوال هؤلاء الأشخاص إلى مزاج أقل جنونا، أو ربما تؤدي الدعاية الماهرة لفكرة وحدة البشرية إلى قلب الموازين. أما في هذا العصر القاتم من عصور المجرة، كانت العوالم المجنونة مصابة بالجنون حتى أعمق جذور تكوينها. لقد كان كل منها فردا فائقا، قد أعيد تنظيم تكوينه بالكامل ماديا وذهنيا بما في ذلك وحدة أجساد أفراده وعقولهم، من أجل هدف مجنون. بدا أنه من غير الممكن إقناع هذه الكائنات المجنونة بأن تثور على هذا الهدف المقدس المجنون الذي تتبناه سلالتها، بأكثر مما يمكن حث خلايا الدماغ لدى فرد مهووس بتأييد اللين. إن العيش في تلك الأيام على أحد هذه العوالم المتعقلة اليقظة وإن لم تكن في المرتبة الأعلى والنظام الأكثر استقرارا، كان يعني أن تشعر أن مأزق المجرة هو أمر ملح للغاية. وقد نظمت هذه العوالم المتعقلة المتوسطة نفسها في رابطة لمقاومة العداء، لكن لأنها كانت أقل تطورا من العوالم المجنونة في التنظيم العسكري، وأقل منها أيضا في النزعة إلى فرض الاستبداد العسكري على أفرادها؛ فقد كانت في موقف ضعيف للغاية.
إضافة إلى ذلك، صار العدو الآن متحدا؛ فقد تمكنت إحدى الإمبراطوريات من فرض سيادتها الكاملة على الإمبراطوريات الأخرى وألهمت العوالم المجنونة كلها بعاطفة مماثلة من الإمبريالية الدينية. وبالرغم من أن «الإمبراطوريات المتحدة» للعوالم المجنونة لم تكن تضم سوى أقلية من عوالم المجرة، لم يكن لدى العوالم المتعقلة أي أمل في تحقيق نصر سريع؛ إذ كانت مفككة وغير بارعة في الحرب. وفي هذه الأثناء، كانت الحرب تقوض الحياة الذهنية لأفراد الرابطة نفسها. كانت الضرورات الملحة والفجائع قد بدأت في طمس جميع القدرات الدقيقة والمتطورة من عقولهم. وراحوا يصيرون أقل قدرة على أداء أنشطة كالاتصال الشخصي والمغامرة الثقافية والتي كانوا ما يزالون يدركون بتعاسة أنها الطريقة الصحيحة للحياة. لما وجدت الغالبية العظمى من عوالم الرابطة أنها قد وقعت في شرك بدا أن لا فكاك منه، بدأت تشعر بيأس أن الروح التي كانوا يعتقدون بأنها إلهية، الروح التي تسعى للترابط الحقيقي واليقظة الحقيقية، لم يكن مقدرا لها الانتصار بالرغم من كل شيء؛ ومن ثم فهي ليست روح الكون الجوهرية. سرت الإشاعات بأن الصدفة العمياء تحكم كل شيء، أو ربما ذكاء شيطاني. بدأ البعض يعتقدون أن صانع النجوم لم يخلق إلا لشهوة التحطيم. وإذ أضعفهم هذا الظن الفظيع، سقطوا هم أنفسهم في هوة الجنون. وبهلع تخيلوا أن العدو كان، مثلما يزعم بالفعل، أداة لغضب الإله، وهو يعاقبهم على رغبتهم الدنيئة في تحويل المجرة بأكملها، بل الكون بأكمله إلى فردوس من الكائنات الكريمة التامة اليقظة. وتحت تأثير هذا الشعور المتزايد بالقوة الشيطانية المطلقة، وحتى الشعور الأكثر تدميرا المتمثل في الشك في صواب مبادئهم، أصيب أفراد الرابطة بالقنوط. استسلم بعضهم للعدو، واستسلم بعضهم للشقاق الداخلي ففقدوا وحدتهم الذهنية. بدا أن حرب العوالم ستنتهي على الأرجح بفوز المجانين. وقد كان ذلك سيحدث بالفعل لولا تدخل نظام العوالم البعيد البارع الذي قد ذكرت من قبل أنه قد انسحب منذ زمن بعيد من الاتصال التخاطري مع بقية المجرة. لقد كان هذا هو نظام العوالم الذي تأسس في ربيع المجرة على يد السلالة التكافلية من السمكيات والعنكبوتيات. (3) أزمة في تاريخ المجرة
على مدار هذه الفترة من التوسع الإمبريالي، تمكن عدد قليل من أنظمة العوالم التي بلغت مرتبة عالية للغاية وإن كانت أقل يقظة من السلالات التكافلية في المجرة الفرعية، من مراقبة الأحداث تخاطريا من بعيد. وقد رأت حدود الإمبراطورية تتقدم نحوها بثبات، وعرفت أنها سوف تتورط قريبا. كانت تمتلك المعرفة والقدرة على هزيمة العدو في الحرب، وقد تلقت نداءات ملحة للمساعدة غير أنها لم تفعل شيئا. لقد كان تنظيم هذه العوالم بأكمله من أجل السلام والأنشطة الملائمة لعالم يقظ، وكانت تعرف أنها إذا اختارت أن تعيد صياغة هيكلها الاجتماعي بأكمله وإعادة توجيه عقولها؛ فقد تضمن النصر العسكري. وكانت تعرف أيضا أنها بهذه الطريقة سوف تنقذ العديد من العوالم من الغزو والاستبداد والدمار المحتمل لأفضل ما فيها. غير أنها كانت تعرف أيضا أنها بإعادة بناء تنظيمها من أجل حرب مستميتة، وبإهمال جميع الأنشطة التي كانت ملائمة لها من أجل عصر كامل من الصراع، فإنها سوف تدمر أفضل ما فيها يقينا، أكثر مما سيدمره العدو فيها بالاستبداد. وكانت تعرف أيضا أنها بتدمير ذلك، فإنها تقتل ما تعتقد أنه البذرة الأكثر أهمية في المجرة؛ ومن ثم فقد تعهدت بنبذ الإجراءات العسكرية.
وحين واجه أحد هذه الأنظمة العالمية الأكثر تطورا في النهاية أصحاب الهوس الديني من العوالم المجنونة، رحب السكان الأصليون بالغزاة، وأعادوا تكييف مداراتهم الكوكبية بأكملها لاستيعاب الكواكب الواردة، وحثوا القوة الأجنبية على توطين جزء من جماعتها السكانية في كواكبهم الأصلية الخاصة التي توفر ظروفا مناخية مناسبة، وعملوا في السر تدريجيا على إخضاع السلالة المجنونة بأكملها عبر النظام الشمسي المشترك إلى دورة من التنويم الإيحائي التخاطري والتي كانت فعالة للغاية حتى إن عقلها المشترك قد تفكك تماما. وأصبح الغزاة محض أفراد غير منظمين مثلما نعرفه على الأرض؛ ومن ثم فقد أصبحوا مرتبكين قصيري النظر تمزقهم الخلافات ولا يتأسس حكمهم على غاية عليا، وصاروا مهووسين بالنفس بدلا من المجتمع. وقد كان يرجى أنه عند إبادة العقل المشترك المجنون، فسرعان ما سيفتح أفراد السلالة الغازية عيونهم وقلوبهم لمبادئ أكثر نبلا. من سوء الحظ أن المهارة التخاطرية التي كانت تتمتع بها السلالة الفائقة لم تكن تكفي للغوص في الأعماق إلى شرنقة الروح التي طمرت لفترة طويلة داخل هذه الكائنات، ومنحها الهواء والدفء والنور. ولأن الطبيعة الفردانية لهؤلاء الأفراد البائسين كانت هي نفسها نتاج عالم مجنون، فقد ثبت أنهم غير قادرين على الخلاص ولا على التواصل المتعقل؛ لذا فقد أبعدوا ليحددوا مصيرهم التعس في عصور من الصراعات القبلية والانهيار الثقافي لينتهي بهم الأمر إلى الانقراض، والذي يحل بالكائنات التي تفشل في التكيف على الظروف الجديدة.
بعد مراوغة العديد من بعثات الغزو بهذه الطريقة، شاع في عوالم الإمبراطوريات المتحدة المجنونة ما يفيد بأن بعض العوالم التي يبدو أنها مسالمة هي في حقيقة الأمر أشد خطرا من جميع الأعداء الآخرين؛ إذ من الجلي أنها تتمتع بقدرة غريبة على «تسميم الروح». وقد عزم الإمبرياليون على إبادة هؤلاء الأعداد الأشداء، وصدرت التعليمات إلى قوات الهجوم بتجنب جميع المداولات التخاطرية وتفجير العدو من على مدى بعيد. وقد رأوا أن الطريقة الأنسب لتنفيذ ذلك هو تفجير شمس النظام المحكوم عليه بالهلاك؛ فعند تحفيز ذرات الغلاف الضوئي بشعاع فعال، سيبدأ في التفكك وسرعان ما سيؤدي اللهب المنتشر إلى إلقاء النجم في حالة «النجم المستعر» مما يؤدي إلى حرق جميع كواكبه.
لقد كان نصيبنا أن نشهد الهدوء الاستثنائي، بل الانتشاء والبهجة اللتين تقبلت بهما هذه العوالم احتمال فنائها على أن تمتهن نفسها بالمقاومة. وقد شهدنا فيما بعد الأحداث الغريبة التي أنقذت مجرتنا من الكارثة، لكن المأساة قد حلت أولا.
من نقاط المراقبة التي اتخذناها في عقول المهاجمين والواقع عليهم الهجوم، راقبنا فناء سلالات من أنبل ما صادفنا حتى ذلك الوقت، ثلاث مرات لا مرة واحدة فقط، وكان ذلك على يد سلالة من المجانين الذين كانوا يتمتعون بالمرتبة الذهنية العالية نفسها تقريبا. شهدنا فناء ثلاثة عوالم، بل ثلاثة من أنظمة العوالم التي يسكن كل منها مجموعة متنوعة من السلالات المتخصصة. ومن هذه الكواكب المحكوم عليها بالهلاك، شاهدنا بالفعل الشمس وهي تندلع بانفجار ضخم وتتضخم على مدار الساعة. وقد شعرنا بالفعل من خلال أجساد مضيفينا بالحرارة التي تزداد بسرعة كبيرة، ورأينا الضوء الذي يغشي الأبصار بعيونهم. رأينا الحياة النباتية تذوي والبحار تبدأ في التبخر. سمعنا الأعاصير الغاضبة تحطم كل بناء وترمي بالأنقاض إلى الأمام وشعرنا بها. وبرهبة وتعجب، اختبرنا بعضا من النشوة والسلام الداخلي اللذين لاقت بهما الشعوب الملائكية الهالكة نهايتها. إن هذا الانتشاء الملائكي الذي اختبرناه في ساعة المأساة هو بالتأكيد ما منحنا البصيرة الواضحة لمعرفة التوجه الأكثر روحانية تجاه القدر. لم نعد نطيق العذاب الجسدي الناتج عن الكارثة بعد وقت قصير للغاية فاضطررنا إلى الانسحاب من تلك العوالم الشهيدة. غير أننا تركنا تلك الشعوب الهالكة أنفسها وهي متقبلة لا العذاب الجسدي فحسب، بل فناء مجتمعها الرائع بآماله اللانهائية أيضا . تركناها وهي متقبلة لتلك المرارة وكأنها إكسير الخلود لا مرارة قاتلة. إننا لم نفهم المعنى الكامل لهذا الانتشاء إلا للحظة واحدة حين كانت مغامرتنا قد أوشكت على الانتهاء.
لقد كان من الغريب بالنسبة إلينا أن أيا من هذه الضحايا الثلاث لم يحاول المقاومة. الحق أن أيا من سكان هذه العوالم لم يفكر للحظة واحدة في احتمالية المقاومة. لقد بدا أن التوجه الذي اتخذوه جميعا في معالجة الكارثة يتمثل فيما سأحاول التعبير عنه فيما يلي: «إن الانتقام سيعني أن نجرح روحنا المشتركة إلى حد لا يمكن علاجه، ونحن نفضل الموت على ذلك. إن طابع الروح الذي بنيناه سيحطم لا محالة سواء أكان ذلك بقسوة المعتدي أو بلجوئنا إلى التسلح. من الأفضل أن نهلك على أن ننتصر مع ذبح روحنا. وبالرغم من أن تلك هي الحال؛ فالروح التي تمكنا من الوصول إليها عادلة وهي محبوكة في نسيج الكون على نحو لا يمكن تدميره. إننا نموت ونحن نمجد الكون الذي يمكن فيه على الأقل تحقيق إنجاز كإنجازنا. نموت ونحن نعرف أن الوعد بمجد أكبر سيبقى بعدنا في مجرات أخرى. إننا نموت ونحن نسبح لصانع النجوم أو محطم النجوم.» (4) انتصار في مجرة فرعية
بعد تدمير نظام العوالم الثالث، وبينما كان نظام رابع يستعد لنهايته، حدثت معجزة أو ما بدا على أنه معجزة وغيرت مسار الأحداث بأكمله في مجرتنا. وقبل أن أحكي عن ذلك التحول في مجرى الأمور، لا بد لي من العودة بقصتي إلى الوراء وتتبع تاريخ نظام العوالم الذي كان سيقوم الآن بالدور الأهم في أحداث المجرة.
سيذكر أنه على «جزيرة» بعيدة عن «قارة» المجرة، عاشت السلالة التكافلية الغريبة من السمكيات والعنكبوتيات. كانت هذه الكائنات هي من أقام الحضارة الأقدم في المجرة تقريبا. لقد بلغوا المستوى «البشري» من التطور الذهني قبل «البشر الآخرين»، وبالرغم من أنهم قد عانوا من الكثير من النوائب، فقد تمكنوا من تحقيق تقدم عظيم على مدار الآلاف من ملايين السنين في مسيرتهم. لقد أشرت في آخر ذكر لهم أنهم قد أسكنوا جميع الكواكب الموجودة في نظامهم بسلالات متخصصة من العنكبوتيات كان كل منها في اتحاد تخاطري دائم مع شعب السمكيات الذي يسكن محيطات الكوكب الأم. وبمرور العصور، قل عددهم كثيرا إلى أن كادوا يفنون تماما، مرة بسبب تجارب فيزيائية جريئة للغاية ومرة بسبب الاستكشاف التخاطري الطامح للغاية، غير أنهم قد تمكنوا بمرور الوقت من اجتياز ذلك كله وتحقيق تطور ذهني لا نظير له في مجرتنا. صار كونهم المتمثل في الجزيرة الصغيرة؛ ذلك العنقود النائي من النجوم، تحت سيطرتهم بالكامل. ضم هذا الكون العديد من الأنظمة الكوكبية الطبيعية التي كان بالعديد منها عوالم وجد مستكشفو السلالة العنكبوتية الأوائل حين زاروها تخاطريا أنها مأهولة بسلالات أصلية لم تصل إلى المرحلة الطوباوية. تركت هذه السلالات لمصيرها فيما عدا أنه في بعض الأزمات التي واجهتها في تاريخها مارست السلالة التكافلية عليها سرا من بعيد تأثيرا تخاطريا ربما ساعدها في مواجهة الصعوبات بقوة أكبر. وبهذا، حين بلغ أحد هذه العوالم الأزمة التي يعاني منها النوع البشري في الوقت الحالي، فقد مر بها بسهولة تبدو طبيعية، ليصل مباشرة إلى مرحلة الوحدة العالمية وبناء العالم الطوباوي. حرصت السلالة التكافلية حرصا كبيرا على إخفاء وجودها عن السلالات البدائية خشية أن تفقد استقلالها العقلي؛ ومن ثم فحتى حين كان أفراد السلالة التكافلية يرتحلون بين هذه العوالم في المركبات الصاروخية ويستخدمون الموارد المعدنية الموجودة في الكواكب المجاورة غير المأهولة، كانوا يتركون العوالم الذكية دون الطوباوية خارج حدود الزيارة. ولم يسمح لهذه العوالم باكتشاف الحقيقة إلا بعد أن بلغت هي نفسها المرحلة الطوباوية وراحت تستكشف الكواكب المجاورة. في ذلك الوقت، كانت قد أصبحت على استعداد لاستقبالها بابتهاج لا خيبة وخوف. منذ ذلك الوقت فصاعدا، كان العالم الطوباوي الناشئ يرتقي بسرعة من خلال الاتصال التخاطري والمادي أيضا، إلى المرتبة الروحانية التي كانت قد بلغتها السلالة التكافلية نفسها، وكان يشارك على قدم المساواة في نظام العوالم التكافلية.
بعض هذه العوالم السابقة على الطوباوية التي لم تكن خبيثة لكنها لم تستطع تحقيق تقدم أكبر، قد تركت في سلام وأبقي عليها لأغراض البحث العلمي مثلما نحفظ الحيوانات البرية في الحدائق الوطنية. وحقبة بعد حقبة، صارت هذه الكائنات المقيدة بعدم جدواها، تعاني عبثا من أجل مواكبة الأزمة التي تعرفها أوروبا الحديثة حق المعرفة. وفي دورة تلو الأخرى، كانت ستنبثق الحضارة من الهمجية وتؤدي الميكنة إلى تواصل الشعوب معا تواصلا مربكا، وتغذي الحروب القومية والطبقية من الرغبة في نظام عالمي أفضل، غير أنها تغذيه بلا جدوى. ثم كانت ستقع الكارثة تلو الكارثة فتضعف من نسيج الحضارة، وتعود الهمجية تدريجيا من جديد. وحقبة تلو الأخرى، كانت ستتكرر العملية من جديد تحت المراقبة التخاطرية الهادئة التي تجريها السلالات التكافلية، والتي لم تشك الكائنات البدائية التي تقع تحت المراقبة في أمر وجودها على الإطلاق. وبهذا فقد تمكنا نحن أنفسنا من أن ننظر من الأعلى وكأن ننظر إلى حوض صخري حيث توجد بعض الكائنات البدائية التي تكرر بحماس ساذج مآسي قد مر بها أسلافهم قبل حقب طويلة.
كانت السلالة التكافلية تتمتع بما يكفي من الإمكانيات لئلا تمس قطع المتحف هذه؛ إذ كانت تمتلك تحت تصرفها الكثير من الأنظمة الكوكبية. وعلاوة على هذا، فقد كان تسلحها بالعلوم الفيزيائية الفائقة التطور وبالطاقة دون الذرية يمكنها من أن تبني في الفضاء كواكب اصطناعية صالحة للسكن الدائم. كانت هذه الكرات المجوفة الكبيرة المصنوعة من معادن فائقة اصطناعية وحجر الأدمنت الاصطناعي الشفاف تتنوع في الحجم، من البنيات الأولى الأصغر التي لم يكن حجمها يزيد عن كويكب صغير للغاية إلى كرات أكبر من الأرض بدرجة ملحوظة. ولم يكن لها غلاف جوي خارجي إذ كانت كتلتها خفيفة بوجه عام مما يمنع هروب الغازات. وثمة غطاء من القوة الطاردة كان يحميها من الشهب والأشعة الكونية. كان السطح الخارجي للكوكب، والذي كان شفافا بالكامل يغطي الغلاف الجوي. وتحته مباشرة، تتدلى محطات البناء الضوئي وآلات توليد الطاقة من الإشعاع الشمسي. كانت المراصد الفلكية، والآلات اللازمة للتحكم في مدار الكوكب، وكذلك «الأرصفة» الضخمة المخصصة للسفن العابرة للكواكب؛ تشغل جزءا من هذه الطبقة الخارجية. أما الجزء الداخلي من هذه العوالم، فقد كان يتألف من نظام من الكرات المتحدة المركز والتي تدعمها عوارض وأقواس عملاقة. وفيما بين هذه الكرات تتوزع الآلات المسئولة عن تنظيم الغلاف الجوي، وخزانات المياه الضخمة، ومصانع الغذاء والبضائع، ومتاجر المواد الهندسية، ومسارات تحويل المخلفات، والمناطق السكنية والترويحية، ومجموعة ضخمة من المختبرات والمكتبات والمراكز الثقافية. ولأن السلالة التكافلية كانت بحرية المنشأ، فقد كان هناك محيط مركزي قد شكل فيه نسل السلالة السمكية الأصلية والذي قد تعرض لتعديلات جوهرية وكان يتسم بالتقاعس الجسدي والنشاط الذهني «المسارات الدماغية الأرقى» في العالم الذكي. وهناك، كان الشركاء التكافليون يسعى بعضهم وراء بعض مثلما كان يحدث في المحيط البدائي في الكوكب الأم، ويتلقى الصغار من كلا النوعين التربية معا. ولأن سلالات هذه المجرة الفرعية لم تكن بحرية في الأصل، فقد صممت هذه الكواكب الاصطناعية بما يتلاءم مع طبيعتها الخاصة، وإن كان تصميمها ينتمي إلى النوع العام نفسه. بالرغم من ذلك، فقد وجدت السلالات كلها أنه من الضروري أن تغير من طبيعتها تغييرا كبيرا لتتلاءم مع الظروف الجديدة. وبمرور الحقب، تأسست مئات الآلاف من العويلمات التي تنتمي جميعها إلى هذا النوع لكنها كانت تزداد تدريجيا في الحجم والتعقيد. صار عدد كبير من النجوم التي لم يكن لها كواكب طبيعية محاطا بحلقات متحدة المركز من العوالم الاصطناعية. في بعض الحالات، كانت الحلقات الداخلية تضم العشرات من العوالم، وتضم الحلقات الخارجية الآلاف من العوالم التي تكيفت على الحياة على مسافة محددة من الشمس. ثمة قدر كبير من التنوع المادي والذهني كان يميز العوالم عن بعضها وإن كانت تنتمي إلى الحلقة نفسها. في بعض الأحيان، يشعر أحد العوالم القديمة نسبيا أو حتى حلقة بأكملها من العوالم، أن العوالم والسلالات الأحدث والتي كان تركيبها الفيزيائي والحيوي يضم مهارات متزايدة؛ قد تفوقت عليه في البراعة الذهنية. وعندئذ، إما أن يتابع هذا العالم حياته ببساطة في حالة من التخلف الحضاري، بينما تتحمله العوالم الأصغر وتحبه وتدرسه، أو يختار الموت والتنازل عن مواد كوكبه لصالح مشروعات جديدة.
ثمة نوع صغير للغاية وغير شائع بعض الشيء من العوالم الاصطناعية كان يتكون كليا من الماء. لقد كان يشبه أحد أحواض أسماك الزينة الذهبية الضخمة. وتحت طبقته الخارجية الشفافة، المرصعة بالآلات الصاروخية والأرصفة الكوكبية، يقبع محيط كروي تقطعه العوارض الهيكلية ويتخلله الأكسجين باستمرار. ثمة لب صلب صغير كان يمثل قاع المحيط، وكان شعب السمكيات وشعب العنكبوتيات الزائر يتدفقان في هذه المساحة المائية الضخمة المغلفة. كان كل فرد من شعب السمكيات يتلقى ربما زيارة عشرين من الشركاء الذين كانوا يقضون حياتهم العملية على عوالم أخرى. لقد كانت حياة السمكيات غريبة بالفعل؛ إذ كانوا محبوسين وأحرارا في الوقت ذاته. إن السمكي لم يكن يترك محيطه الأصلي أبدا، لكنه كان يتمتع بالاتصال التخاطري مع السلالة التكافلية بأكملها في جميع أرجاء المجرة الفرعية. إضافة إلى ذلك، فقد كان علم الفلك هو النوع الوحيد من النشاط العملي الذي مارسه شعب السمكيات؛ إذ كانت تتدلى تحت قشرة الكوكب الزجاجية مباشرة المراصد؛ حيث كان علماء الفلك السابحون يدرسون تركيب النجوم وتوزيع المجرات.
اتضح أن هذه العوالم الشبيهة ب «أحواض الأسماك الذهبية» انتقالية فحسب. قبل عصر الإمبراطوريات المجنونة بفترة قصيرة، بدأت السلالة التكافلية في إجراء التجارب لإنتاج عالم يجب أن يتكون من كائن مادي واحد. وبعد عصور من التجارب، أنتجوا عالما من نوع «حوض الأسماك الذهبية» يرتبط فيه المحيط بأكمله بشبكة ثابتة من أفراد شعب السمكيات الذين يرتبطون معا باتصال عصبي مباشر. وقد كان لهذا النسيج الحي الشامل الشبيه بالسليلة روابط ثابتة بآلات العالم ومراصده. وبهذه الطريقة شكل كائنا عالميا عضويا بالفعل، ولأن شعب السمكيات المتجانس كان يوفر معا عقلية موحدة تماما، فقد صار كل من هذه العوالم بالفعل بالمعنى الكامل كائنا عاقلا، وكأنه إنسان. وقد احتفظوا برابط جوهري من الماضي، وهو أن أفراد شعب العنكبوتيات لا سيما الذين تكيفوا منهم بنحو خاص على النظام التكافلي الجديد كانوا يزورونهم من كواكبهم البعيدة بين الحين والآخر ويسبحون عبر الدهاليز تحت المائية من أجل الاتحاد مع أقرانهم المرتكزين في المحيطات.
تزايد عدد نجوم العنقود أو المجرة الفرعية النائية المطوقة بحلقات العوالم، وتزايد عدد العوالم التي كانت من هذا النوع العضوي الجديد. كان القدر الأكبر من شعوب المجرة الفرعية من النسل العنكبوتي أو السمكي الأصلي، غير أن العديد منهم كان من النسل البشري، وانحدر عدد غير قليل منهم من سلالة الطيور أو الحشريات أو البشر-النباتات. وقد كان الاتصال بنوعيه؛ التخاطري والمادي، مستمرا بين العوالم وحلقات العوالم والأنظمة الشمسية. وكانت المركبات الصغيرة المدفوعة بالصواريخ تجوب بانتظام في كل نظام من الأنظمة الكوكبية. أما المركبات الأكبر أو العويلمات عالية السرعة، فقد كانت تسافر من نظام إلى آخر وتستكشف المجرة الفرعية بأكملها، بل كانت تسافر حتى عبر ذلك المحيط من الفراغ إلى الجانب الأساسي من المجرة، حيث كانت الآلاف فوق الآلاف من النجوم العديمة الكواكب تنتظر أن تحيط بها حلقات من العوالم.
الأمر الغريب أن التقدم الظافر للحضارة المادية والاستعمار كان قد أبطأ الآن، بل توقف في حقيقة الأمر. وظل الاتصال المادي بين عوالم المجرة الفرعية قائما لكنه لم يزد، وتوقف الاستكشاف المادي للحد المجاور من «القارة» المجرية. وفي نطاق المجرة الفرعية نفسها، لم تكتشف أي كواكب جديدة. واستمرت الأنشطة الصناعية لكن بوتيرة أقل، ولم يتم إحراز أي تقدم آخر في مقياس الرفاهية المادية. والواقع أن التصرفات والعادات قد غدت أقل اعتمادا على الأدوات المساعدة الميكانيكية. في العوالم التكافلية، صارت الشعوب العنكبوتية أقل عددا، أما الشعوب السمكية فقد عاشت في زنزاناتها في المحيط في حالة دائمة من التركيز والاتقاد الذهني، وهو ما شاركهم فيها بالطبع شركاؤهم من خلال الاتصال التخاطري.
كان هذا الوقت هو الذي ألغي فيه الاتصال التخاطري بين المجرة الفرعية المتقدمة وبين العدد القليل من العوالم اليقظة الموجودة في القارة إلغاء تاما. في العصور الحديثة، كان التواصل قد صار متقطعا للغاية. كان من الواضح أن عوالم المجرة الفرعية قد تفوقت على جيرانها حتى إن اهتمامها بتلك العوالم البدائية قد صار مقتصرا على أغراض الدراسة الأثرية فحسب، وتدريجيا قد طغت عليه تلك الحياة الآسرة التي يعيشها مجتمعها واستكشافها التخاطري للمجرات البعيدة. بالنسبة إلينا، نحن فريق المستكشفين، الذي كان يحاول بشدة الحفاظ على الاتصال بين عقلنا المشترك وبين العقول الفائقة التطور في تلك العوالم، صارت الأنشطة الراقية التي تقوم بها عوالم المجرة الفرعية صعبة المنال علينا في الوقت الحاضر. لم نشهد سوى ركود الأنشطة المادية والذهنية الأكثر بروزا في أنظمة العوالم هذه. بدا في البداية أن هذا الركود لا بد أنه قد حدث بفعل عيب غامض في طبيعتها. أكان ربما المرحلة الأولى من انهيار لا رجعة فيه؟ غير أننا قد بدأنا نكتشف بعد ذلك أن هذا الركود البادي ليس علامة على الموت بل على حياة أكثر نشاطا. لقد تحول الاهتمام عن التقدم المادي لأن ذلك قد فتح مجالات جديدة من الاستكشاف والنمو الذهني. والحق أن اتحاد العوالم العظيم، والذي كان أعضاؤه يتألفون من آلاف الأرواح العالمية، كان مشغولا في استيعاب ثمار تلك المرحلة الطويلة من التقدم المادي، وقد بدأ يجد الآن أنه قادر على أداء أنشطة مادية جديدة وغير متوقعة. كانت طبيعة هذه الأنشطة محجوبة عنا تماما في بداية الأمر، لكننا قد تعلمنا بمرور الوقت أن نترك أنفسنا لهذه الكائنات البشرية الفائقة كي ترتقي بنا حتى نتمكن على الأقل من الحصول حتى على لمحة غامضة عن تلك الأمور التي أسرتهم للغاية. بدا أنهم كانوا معنيين جزئيا بالاستكشاف التخاطري لتلك المجموعة الضخمة التي تتألف من عشرة ملايين من المجرات باستخدام أسلوب الانضباط الروحاني والذي كانوا يسعون إلى استخدامه للتوصل إلى رؤية أكثر تبصرا بطبيعة الكون والتمتع بدرجة أرقى من الابتكار. وقد عرفنا أن هذا ممكن لأن مجتمعهم المثالي من العوالم كان يتيقظ بانتباه إلى مستوى أرقى من الوجود، على هيئة عقل واحد مشترك يكون جسده هو عوالم المجرة الفرعية بأكملها. وبالرغم من أننا لم نستطع المشاركة في حياة هذا الوجود الراقي، فقد خمنا أن شغفه الأساسي لم يكن يختلف كليا عن توق أنبل أنواعنا البشرية إلى «الالتقاء بالرب وجها إلى وجه». لقد كان هذا الوجود الجديد يرغب في أن يتمتع بالفطنة والقوة لتحمل رؤية مصدر كل هذا الضوء والحياة والحب رؤية مباشرة. والحق أن شعب هذه العوالم بأكمله كان مستغرقا للغاية في رحلة طويلة وصوفية. (5) مأساة المنحرفين
كانت تلك هي حالة الأمور في «القارة» المجرية الأساسية حين ركزت الإمبراطوريات المتحدة المجنونة قواها على ذلك العدد الضئيل من العوالم والتي لم تكن عاقلة فحسب، بل أرقى في المرتبة الذهنية أيضا. لقد تحول انتباه السلالات التكافلية وزملائها في المجرة الفرعية الفائقة التحضر عن الشئون التافهة في «القارة» منذ فترة طويلة. وقد وجهته عوضا عن ذلك إلى الكون بأكمله وإلى انضباط الروح الداخلي. غير أن أول جريمة إبادة من ثلاث قد ارتكبتها الإمبراطوريات المتحدة في حق شعب أكثر تطورا منها بدرجة كبيرة، يبدو أنها قد أحدثت دويا كبيرا تردد صداه، إن جاز لنا القول، في جميع النطاقات الأرقى من الوجود. وحتى في الفترة الأكثر زخما من مسيرتها، كانت عوالم المجرة الفرعية تتمتع بالبصيرة. مرة أخرى تحول الانتباه إلى القارة المجاورة من النجوم بالاتصال التخاطري. وفي أثناء دراسة الموقف، حدثت جريمة الإبادة الثانية. كانت عوالم المجرة الفرعية تعرف أنها تتمتع بالقدرة لمنع أي كوارث أخرى. بالرغم من ذلك، فقد انتظرت بهدوء إلى أن وقعت جريمة الإبادة الثالثة، وهو ما أثار دهشتنا وهلعنا ولم نتمكن من استيعابه. والأكثر غرابة أن العوالم المنكوبة نفسها، لم ترسل بأي نداء لطلب المساعدة من عوالم المجرة الفرعية بالرغم من أنها كانت على اتصال تخاطري معها. كان الضحايا والمشاهدون على السواء يدرسون الموقف باهتمام هادئ، بل حتى بابتهاج واضح لا يختلف كثيرا عن الاستمتاع. ومن مستوانا الأدنى، بدا لنا في بادئ الأمر أن هذا الانسلاخ وهذه الرعونة الظاهرة، هي تصرفات بعيدة كل البعد عن الملائكية، بل وحشية في حقيقة الأمر. هنا كان يعيش عالم بأكمله من الكائنات الحساسة والذكية في خضم الحياة المتقدة والنشاط المشترك. هنا كان يعيش أحباء قد اجتمعوا حديثا، وعلماء في خضم أبحاث عميقة، وفنانون منهمكون في أوجه الفهم الراقية الجديدة وعمال يخوضون آلاف المشروعات العملية الاجتماعية التي لا يتصورها البشر. كان هذا العالم يزخر بالفعل بتنوع ثري من الحيوات الشخصية التي تؤلف عالما فائق التطور. لقد كان كل من هذه العقول الفردية يشارك في العقل المشترك للجميع؛ إذ يرى أنه الروح الجوهرية للسلالة لا فرد خاص فحسب. غير أن هذه الكائنات الهادئة قد واجهت دمار عالمها دون انزعاج يزيد عما يشعر به المرء منا لتنازله عن دوره في لعبة مثيرة. وفي عقول مشاهدي هذه المأساة الوشيكة لم نلحظ أي معاناة تنم عن التعاطف بل بعض من الشفقة الممتزجة بالدعابة، مثلما قد نشعر به تجاه لاعب تنس مميز قد هزم في الجولة الأولى من إحدى البطولات بسبب حادثة تافهة كالتواء الكاحل.
بعد صعوبة تمكنا من فهم مصدر هذا الهدوء الغريب. لقد كان الضحايا والمشاهدون على حد سواء منهمكين للغاية في الأبحاث الكونية، وعلى وعي كبير بثراء الكون وإمكانياته، وفوق ذلك كله كان التأمل الروحاني قد تملك منهم؛ حتى الدمار قد نظر إليه، حتى من جانب الضحايا أنفسهم، من وجهة النظر التي يدعوها البشر بالإلهية. كان انتشاؤهم البهيج ورعونتهم الظاهرية متجذرين في حقيقة أنهم كانوا يرون أن الحياة الشخصية وحتى حياة العوالم المفردة وموتها جوانب ضرورية تساهم في حياة الكون. فمن وجهة النظر الكونية، كانت الكارثة في نهاية الأمر أمرا تافها للغاية وإن كان محزنا. علاوة على ذلك، إذا كانت التضحية التي تبذلها مجموعة أخرى من العوالم حتى وإن كانت عوالم يقظة على نحو رائع، يمكن أن تؤدي إلى تحقيق فهم أعمق لجنون الإمبراطوريات المجنونة، فإنها تضحية تستحق القيام بها.
إذن فقد ارتكبت جريمة الإبادة الثالثة، ثم حدثت معجزة. لقد كانت المهارة التخاطرية لدى المجرة الفرعية أكثر تطورا بكثير من مهارة العوالم الفائقة المتناثرة في «القارة» المجرية. لقد كان باستطاعتها الاستغناء عن الاستعانة بالاتصال العادي، وكذلك التغلب على أي مقاومة. وكانت تتمكن من الوصول إلى الأعماق حيث شرنقة الروح المدفونة حتى لدى أكثر الأفراد انحرافا. ولم تكن تلك القدرة تدميرية فحسب وتستخدم لتفجير العقل المشترك بالتنويم الإيحائي، بل كانت قوة للتنوير والإيقاظ تؤثر في الجوهر المتعقل الخامل لدى جميع الأفراد. كانت هذه المهارة تمارس الآن على القارة المجرية مع تحقيق نتائج ظافرة لكنها مأساوية أيضا؛ فحتى هذه المهارة لم تكن كلية القدرة. لقد ظهر بين أفراد العوالم المجنونة هنا وهناك «مرض» عقلي غريب ومنتشر. لقد بدا للإمبرياليين التقليديين أنفسهم أنه درب من الجنون، غير أنه كان في حقيقة الأمر يقظة متأخرة وواهية إلى التعقل لدى كائنات كانت طبيعتها قد صيغت تماما من الجنون في بيئة مجنونة.
كان مسار «مرض» التعقل هذا في عالم مجنون يدور عادة على النحو التالي. كان الأفراد في شتى الأنحاء بينما يؤدون دورهم في الإجراءات المنضبطة والتفكير المشترك للعالم، يجدون في أنفسهم شكوكا وشعورا بالتقزز تجاه أعز الافتراضات في العالم الذي كانوا يعيشون فيه؛ إذ تتولد لديهم شكوك بشأن أهمية السفر المحطم للأرقام القياسية والإمبراطورية المحطمة للأرقام القياسية، وتقزز من عقيدة الانتصار الميكانيكي والخنوع الفكري وألوهية السلالة. ومع تزايد هذه الأفكار المزعجة، كان الأفراد يبدءون في الخوف على «تعقلهم» الخاص. وبعد وقت قصير، كانوا يبدءون بحذر في فحص حالة جيرانهم. وشيئا فشيئا، يصبح الشك أكثر انتشارا وأعلى صوتا. وفي نهاية المطاف، بالرغم من أن أقليات عديدة في كل عالم تظل تؤدي واجبها الرسمي، فإنها تفقد الاتصال مع العقل المشترك وتصبح محض أفراد منعزلين، لكنهم أفراد أكثر تعقلا من العقل المشترك الراقي الذي خرجوا من عباءته. أما الأغلبية التقليدية التي أرعبها هذا التفكك الذهني، فقد كانت تستخدم عندئذ تلك الأساليب المألوفة القاسية، والتي كانت تستخدم بنجاح كبير في المستعمرات الحدودية غير المتحضرة للإمبراطورية. كان المنشقون يعتقلون وإما أن يتم تدميرهم في الحال أو اعتقالهم في الكوكب الأقل ملاءمة للحياة على أمل أن يكون تعذيبهم تحذيرا فعالا للآخرين.
فشلت هذه السياسة. وانتشر المرض الذهني الغريب بسرعة أكبر وأكبر إلى أن صار عدد «المخبولين» يفوق عدد «العاقلين». تلت ذلك حروب أهلية واستشهاد جماعي لدعاة السلام المخلصين، وانقسام بين صفوف الإمبرياليين، وزيادة مستمرة ل «الخبل» في جميع عوالم الإمبراطورية. انهارت المؤسسة الإمبريالية بأكملها، ولأن العوالم الأرستقراطية التي كانت تشكل العمود الفقري للإمبراطورية صارت عاجزة، كعجز جنود النمل، فيما يتعلق بالحفاظ على نفسها دون ما تتلقاه من خدمة وتكريم من عوالم الرعايا، فقد حكم عليهم ضياع الإمبراطورية بالموت. وحين صار شعب مثل ذلك العالم عاقلا بأكمله تقريبا، كانت تبذل جهود كبيرة لإعادة تنظيم حياته من أجل الاكتفاء الذاتي والسلام. ربما كان المتوقع أن تلك المهمة على صعوبتها، لم تكن لتهزم شعبا من الكائنات التي كان ذكاؤها الخالص وولاؤها الاجتماعي أكبر من أي شيء قد عرف على الأرض على الإطلاق. بالرغم من ذلك، فقد كانت هناك صعوبات غير متوقعة، وقد كانت نفسية لا اقتصادية. لقد صممت هذه الكائنات للحرب والاستبداد والإمبراطورية، ومع أن التحفيز التخاطري من عقول أكثر تفوقا قد تمكن من إحياء بذرة الروح الخاملة فيهم، ومساعدتهم على إدراك تفاهة غاية عالمهم بأكملها، لم يتمكن التأثير التخاطري من إعادة تشكيل طبيعتهم إلى الدرجة التي تجعلهم يعيشون منذ ذلك الوقت من أجل الروح مع نبذ حياتهم القديمة. وبالرغم من تهذيب النفس البطولي، كانوا غالبا ما يهوون إلى حالة من الخمود كالحيوانات البرية عند استئناسها أو تتملكهم حالة من السعار فيمارس بعضهم على بعض غرائز الهيمنة التي كانت موجهة قبل ذلك إلى عوالم الرعايا. وقد كانوا يفعلون ذلك كله بوعي عميق بالذنب.
كان من المفجع لنا أن نشاهد معاناة هذه العوالم. إن هذه الكائنات الحديثة الاستنارة لم تتخل قط عن رؤيتها للترابط الحقيقي والحياة الروحانية، لكن بالرغم من أن هذه الرؤية كانت تتملكهم دوما، فقد فقدوا القدرة على تحقيقها في أفعالهم. علاوة على ذلك، مرت أوقات بدا لهم فيها تغير السريرة الذي عانوا فيه تغيرا إلى الأسوأ؛ ففي السابق كان جميع الأفراد ملتزمين تماما بالإرادة الجماعية، وسعيدين للغاية بتنفيذها دون البحث القلبي عن المسئولية الفردية، أما الآن، فقد صار الأفراد أفرادا فحسب، وكانوا جميعا معذبين بالشك المتبادل والنزعات العنيفة تجاه البحث عن الذات.
كانت مسألة هذا الصراع المروع في عقول هؤلاء الإمبرياليين السابقين تتوقف على درجة تأثير تخصصهم في الإمبراطورية عليهم. في بضعة من العوالم الناشئة التي لم يكن التخصص قد تعمق فيها، حدثت فترة الفوضى وتلتها فترة من إعادة التوجيه والتخطيط للعالم، إلى أن تلت ذلك فترة من الطوباوية المتعلقة في الوقت المناسب. غير أن ذلك المسار لم يكن ممكنا في معظم هذه العوالم؛ فإما أن الفوضى كانت تستمر إلى أن تبدأ السلالة في الانهيار، ويسقط العالم إلى المرحلة الإنسانية ثم دون الإنسانية ثم الحيوانية المحضة، أو، كما هي الحال في حالات قليلة فحسب، كان التباين بين المثالي والواقعي مؤلما للغاية فتنتحر السلالة بأكملها.
لم نستطع أن نتحمل لفترة طويلة مشهد تلك العوالم الكثيرة وهي تتحطم نفسيا، غير أن عوالم المجرة الفرعية التي تسببت في هذه الأحداث الغريبة وتابعت استخدام قواها في تنقية العقول ومن ثم تدميرها؛ قد راحت تشاهد صنيعها دون وجل. لقد شعروا بالشفقة مثلما نشعر تجاه طفل قد حطم لعبته، لكنهم لم يحزنوا على المصير الذي وصل إليه هؤلاء.
في غضون بضعة آلاف من الأعوام، كان كل عالم من العوالم الإمبريالية إما قد ارتقى بنفسه أو سقط في الهمجية أو انتحر. (6) طوباوية المجرة
إن الأحداث التي كنت أصفها قد حدثت، أو من وجهة النظر البشرية سوف تحدث، في تاريخ في المستقبل البعيد للغاية بمقدار بعدنا عن تكثف النجوم الأولى. والفترة التالية من تاريخ المجرة تغطي الفترة من سقوط الإمبراطوريات المجنونة إلى تحقيق الطوباوية في مجتمع المجرة بأكمله. وقد كانت هذه الفترة الانتقالية هي نفسها طوباوية من بعض الجوانب؛ إذ كانت عصرا من التقدم الظافر الذي تحقق على يد كائنات تتسم بطبيعة ثرية ومتناغمة، وتلقت تربية مواتية تماما، وكان مجتمعها المجري الدائم الاتساع هدفا مرضيا تماما للولاء. لم تكن تلك الفترة طوباوية فقط من ناحية أن مجتمع المجرة كان لا يزال يتوسع ويغير تركيبه باستمرار ليفي باحتياجات جديدة؛ اقتصادية وروحانية؛ فقرابة انتهاء هذه المرحلة، حلت مرحلة من الطوباوية الكاملة توجه فيها انتباه المجتمع المجري المكتمل إلى ما خارج حدوده بصفة أساسية حيث المجرات الأخرى. وسوف أحكي عن هذا في الوقت المناسب، وكذلك عن الأحداث المضطربة غير المتوقعة والتي حطمت ذلك النعيم.
أما الآن، فيجب أن نلقي نظرة على عصر التوسع؛ فإذ أدركت عوالم المجرة الفرعية أن الجوانب الثقافية لم تكن لتتطور أكثر من ذلك ما لم يزدد عدد شعوب العوالم اليقظة زيادة كبيرة وتتنوع مشاربهم، فقد بدأت تقوم الآن بدور فاعل في عملية إعادة تنظيم القارة المجرية بأكملها. ومن خلال الاتصالات التخاطرية، نقلت لجميع العوالم اليقظة عبر المجرة المعرفة الخاصة بالمجتمع الظافر الذي أسسته بنفسها، وناشدت الجميع بالانضمام إليها في تأسيس الطوباوية في المجرة. لقد قالت: إن كلا من العوالم الموجودة في شتى أنحاء المجرة يجب أن يكون فردا على درجة فائقة من الوعي، ولا بد لكل منها أن يساهم بخصوصيته الفردية وثروة خبراته بأكملها في الخبرة المجمعة للجميع. وحين اكتمل هذا المجتمع في نهاية المطاف، قالت إنه يجب أن يستمر في القيام بوظيفته في المجتمع الأكبر الذي يضم جميع المجرات، والمشاركة في الأنشطة الروحانية التي لم تحدد بعد إلا على نحو مبهم.
في العصر المبكر للتأمل، تمكنت عوالم المجرة الفرعية، أو بالأحرى عقل المجرة الفرعية الواحد الذي يتيقظ على فترات متقطعة، من التوصل إلى اكتشافات كان لها انعكاسات محددة على تأسيس المجتمع المجري؛ إذ كانت قد حددت الآن رؤيتها بضرورة أن يزيد عدد العوالم العاقلة في المجرة عن عدده الحالي بمقدار عشرة آلاف ضعف على الأقل. ومن أجل تحقيق جميع إمكانات الروح، رأت بوجوب وجود تنوع عظيم من أنواع العوالم، وآلاف العوالم من كل نوع. وقد تعلمت في مجتمع مجرتها الفرعية الصغير ما يكفي لأن تدرك أنه لا يستطيع استكشاف جميع مناطق الوجود سوى مجتمع ضخم للغاية، والذي لمحت هي نفسها عددا قليلا للغاية من أعضائه، لكن من بعيد فقط.
كانت العوالم الطبيعية في القارة المجرية مرتبكة ومنزعجة من ضخامة هذه الخطة. لقد كانت راضية عن نطاق الحياة الموجود. وقد أكدت أن الروح لا تعنيها الضخامة ولا الكثرة. وقد كان الرد على هذا أنه اعتراض واه يأتي من عوالم يتوقف إنجازها على التنوع الرائع في أفرادها. لقد كان التنوع في العوالم وكثرتها ضروريا على مستوى المجرة بقدر ما كان تنوع الأفراد وكثرتهم ضروريا على مستوى العالم، وبقدر ما كان تنوع الخلايا العصبية وكثرتها مهما على مستوى الفرد. وكانت النتيجة أن العوالم الطبيعية في «القارة» قد قامت بدور متضائل في الحياة المتقدمة للمجرة. وقد ظل بعضها في مستوى إنجازها الخاص المستقل. وانضم بعضها إلى العمل التعاوني الضخم، لكن دون حماس أو نبوغ. قلة فقط هي التي انضمت إلى المشروع بحماس وقدمت نفعا، والحق أن أحدها تمكن من تقديم مساهمة عظيمة. كان هذا العالم من إحدى السلالات التكافلية، لكن من نوع مختلف للغاية عن ذلك الذي أسس مجتمع المجرة الفرعية. كان النظام التكافلي فيه يتألف من نوعين كانا يسكنان في الأصل كواكب مختلفة في النظام الكوكبي نفسه. كانت إحدى السلالات الطائرة الذكية لما دفعها اليأس بسبب جفاف كوكبها الأصلي قد خططت لغزو عالم مجاور يسكنه نوع شبيه بالبشر. وهنا لا ينبغي لي أن أذكر كيف أنه بعد عصور من التناوب بين الخصومة والتعاون، تأسس نظام تكافلي اقتصادي ونفسي مكتمل.
إن بناء المجتمع العالمي المجري هو أمر يتجاوز إلى حد بعيد قدرة كاتب هذا الكتاب على الفهم. لا يمكنني الآن أن أتذكر على الإطلاق بوضوح ما اختبرته من هذه الأمور الغامضة وأنا في تلك الحالة الفائقة من الصفاء، والتي اختبرتها من خلال المشاركة في العقل المشترك للمستكشفين. حتى وأنا في تلك الحالة، كنت في حالة ذهول من المجهود الكبير المبذول من جانبي لفهم أهداف ذلك المجتمع العالمي الشديد التماسك.
إذا كان من الممكن الوثوق بذاكرتي على الإطلاق، فقد كانت هناك ثلاثة أنشطة تشغل هذه العوالم العاقلة في هذه المرحلة من تاريخ المجرة. كانت المهمة العملية الأساسية هي إثراء حياة المجرة نفسها وإحداث تناغم فيها وزيادة عدد العوالم الكاملة اليقظة وتنوعها ووحدتها الذهنية إلى الدرجة التي كان يعتقد بضرورة وجودها لانبثاق نمط من الخبرات يتسم بيقظة أكبر من أي شيء قد تحقق حتى ذلك الوقت. أما النوع الثاني من الأنشطة فهو ما كان يبتغى به تحقيق اتصال أكبر مع المجرات الأخرى من خلال الدراسة الفيزيائية والتخاطرية. أما النوع الثالث فهو التمرين الروحاني الملائم لكائنات من رتبة العقول العالمية. يبدو أن هذا النوع الأخير كان معنيا (أو سيكون معنيا) بتعميق الوعي الذاتي لدى كل روح عالمية فردية، وفي الوقت ذاته، بفصل إرادتها عن الإشباع الخاص المحض، ولكن ليس هذا كل ما في الأمر؛ ففي هذا المستوى الرفيع نسبيا من رقي الروح، مثلما هو الحال في مستوانا الروحي الأدنى على الإطلاق، كان لا بد أيضا من وجود انفصال جذري بدرجة أكبر عن مغامرة الحياة والعقل في الكون بأكملها. ذلك أنه مع تيقظ الروح، تزيد رغبتها في النظر إلى الوجود بأكمله لا بعيني المخلوق فحسب، بل من وجهة النظر الكونية بأكملها، وكأنما تنظر إليها من خلال عين الخالق.
في بادئ الأمر، كانت مهمة تأسيس الطوباوية المجرية تستهلك تقريبا كل طاقة العوالم اليقظة. صارت المزيد والمزيد من النجوم تطوق بحلقات متحدة المركز من اللآلئ المثالية وإن كانت اصطناعية. وقد كانت كل لؤلؤة منها عالما فريدا تسكنه سلالة فريدة. من هذا الوقت فصاعدا، صار المستوى الأعلى من الفردانية المستمرة يتمثل في نظام يضم مئات العوالم لا عالما واحدا فقط. وبين هذه الأنظمة، كانت تدور محادثة سلسلة ومبهجة مثلما يحدث بين الأفراد من البشر.
في هذه الظروف، صار معنى أن تكون فردا واعيا، هو أن تستمتع على الفور بالانطباعات الحسية الموحدة لجميع السلالات التي تسكن نظاما من العوالم. ولأن الأعضاء الحسية للعوالم لم تكن تستقبل المدركات «على نحو مجرد» فحسب، بل من خلال أدوات اصطناعية تتمتع بنطاق ودقة فائقين أيضا، لم يكن الفرد الواعي يدرك تركيب المئات من الكواكب فحسب، بل تركيب النظام الكوكبي بأكمله المتجمع حول شمسه أيضا. وكان يدرك الأنظمة الأخرى أيضا، مثلما كان البشر يحس بعضهم ببعض؛ إذ كانت الأجسام البراقة لغيره من الأشخاص «متعددي العوالم» مثله، تبدو عن بعد وهي تدور وتنساب.
بين هذه الأنظمة الكوكبية العاقلة، وقعت تنويعات لا نهائية من الاتصال الشخصي. فمثلما هي الحال بين أفراد البشر، وقعت حوادث الحب والكراهية، وتوافق الطباع وتنافرها، والحميمية التي تبعث على السعادة وتلك التي تبعث على الحزن، وحوادث التعاون والخلاف في المشروعات الشخصية وكذلك في المشروع الضخم المشترك المتمثل في بناء طوباوية المجرة.
في بعض الأحيان، كانت تحدث بين أنظمة العوالم الفردية علاقات ذات طابع جنسي إلى حد كبير، مثلما كان يحدث بين الشركاء التكافليين، غير أن الجنس الفعلي لم يؤد أي دور فيها. كانت الأنظمة المتجاورة تقذف في محيط الفضاء بالعويلمات الصغيرة المتحركة أو حتى عوالم كبيرة أو سلاسل من العوالم، لكي تتخذ بعضها مدارات حول شموس بعض وتؤدي أدوارا حميمية في علاقات تكافلية، أو بالأحرى علاقات من «الاتحاد النفسي»، في الحياة الخاصة بعضها لبعض. ومن آن لآخر، كان يهاجر نظام بأكمله إلى نظام آخر ويستقر بعوالمه في حلقات تقع بين حلقات النظام الآخر.
وحد الاتصال التخاطري المجرة بأكملها، وبالرغم من الميزة العظيمة التي كان التخاطر يتسم بها وهي عدم تأثره بالمسافة، فهو لم يكن مثاليا على ما يبدو في جوانب أخرى. لقد كان يستكمل، إلى حد كبير، بالسفر المادي؛ ولذا كان هناك تدفق مستمر من العويلمات المتجولة يتقاطر عبر المجرة بأكملها في كل اتجاه.
لم تتم مهمة تأسيس الطوباوية في المجرة دون احتكاكات. لقد كانت الأنواع المختلفة من السلالات تميل إلى تبني سياسات مختلفة في المجرة. وبالرغم من أن الحرب كانت قد صارت أمرا مستحيلا في ذلك الوقت، فقد كان نوع الخلاف الذي نعرفه بين الأفراد أو الجماعات في الدولة الواحدة أمرا شائعا. كان هناك، على سبيل المثال، صراع دائم بين الأنظمة الكوكبية التي يتركز اهتمامها الأساسي في بناء الطوباوية، وتلك التي كان اهتمامها الأساسي ينصب على الاتصال مع المجرات الأخرى، وتلك التي كان شاغلها الأساسي روحانيا. وإضافة إلى هذه الفئات الكبيرة، كانت هناك مجموعات من الأنظمة الكوكبية التي كانت تميل إلى تقديم رخاء أنظمة العوالم الفردية على تقدم مشروع المجرة. لقد كانت تهتم بمسألة الاتصال الشخصي بين العوالم والأنظمة وإشباع طاقتها الشخصية أكثر مما كانت تهتم بتنظيم أو استكشاف التطهير الروحاني. وبالرغم من أن وجودها كان عادة مثارا لسخط المتحمسين، فقد كان نافعا إذ كان ضمانا ضد المغالاة وضد الاستبداد.
في أثناء ذلك العصر من طوباوية المجرة، ظهر تأثير مفيد آخر وبدأ في أن يؤثر بالكامل على العوالم المنشغلة. كان البحث التخاطري قد توصل إلى البشر-النباتات الذين انقرضوا قبل فترة طويلة، والذين انتهى أمرهم بسبب مغالاتهم في الهدوء الروحاني. والآن قد تعلمت العوالم الطوباوية الكثير من هذه الكائنات العتيقة لكن الحساسة على نحو فريد. ومنذ ذلك الوقت، قد حيك نمط الخبرة النباتي تماما في نسيج العقل المجري، ولكن بدون أعراضه الخطيرة.
الفصل العاشر
رؤية المجرة
بدا لنا الآن أن متاعب العوالم العديدة في هذه المجرة قد انتهت أخيرا، وأن الرغبة في دعم طوباوية المجرة قد أصبحت الآن عامة، وأن المستقبل سيجلب بلا شك مجدا بعد مجد. وقد كنا متيقنين من حدوث التقدم نفسه في المجرات الأخرى. ومن سذاجتنا رحنا نتطلع إلى النصر السريع والنهائي والمكتمل للروح المجاهدة في جميع أنحاء الكون، بل إننا قد تصورنا أيضا أن صانع النجوم قد ابتهج بإتقان صنعه. وإذ رحنا نستخدم مثل هذه الرموز بقدر ما كنا نستطيع للتعبير عما لا يمكن وصفه، تخيلنا أنه قبل البداية، كان صانع النجوم وحيدا، وأنه قد قرر من أجل الحب والاتحاد أن يصنع مخلوقة مثالية لتكون رفيقة له. وقد تخيلنا أنه صنعها من شغفه بالجمال ورغبته في الحب، لكنه أيضا قد جلدها في أثناء الصنع وعذبها كي يتسنى لها في نهاية المطاف الانتصار على جميع الشدائد؛ فتتمكن من تحقيق ذلك الكمال الذي لم يتمكن هو بعظمته قط من تحقيقه. وقد تصورنا أن تلك المخلوقة هي الكون. ومن سذاجتنا بدا لنا أننا قد شهدنا بالفعل الجزء الأكبر من النمو الكوني، وأنه لم يتبق سوى ذروة ذلك النمو، وهي أن يصبح الاتحاد التخاطري بين جميع المجرات هو روح الكون المفردة المكتملة اليقظة، والتي تكون مثالية ولائقة بأن يتأملها صانع النجوم إلى الأبد ويستمتع بها.
بدا لنا ذلك كله صوابا على نحو مهيب، غير أننا لم نجد فيه أي متعة. كنا قد تشبعنا بمشهد التقدم المستمر والظافر في العصر المتأخر في مجرتنا، ولم يعد لدينا من حب للاستطلاع بشأن المضيفين في المجرات الأخرى. من شبه المؤكد أنهم كانوا شديدي الشبه بالمضيفين في مجرتنا. لقد كنا في حقيقة الأمر في أشد حالات الإرهاق وخيبة الأمل؛ فعلى مدار الكثير جدا من العصور، تابعنا مصائر العديد من العوالم. وفي معظم الأحيان اختبرنا عواطفها، التي كانت جديدة عليها، لكنها كانت مكررة بالنسبة إلينا في معظمها. لقد تشاركنا معهم جميع أنواع المعاناة، وكذلك جميع أنواع المجد والعار. والآن حين بدا أن المثل الكوني الأعلى، وهو التيقظ الكامل للروح، على شفا الإدراك، وجدنا أننا قد سئمناه بعض الشيء. ماذا يهم إن كانت الروح المثالية تدري بدراما الوجود الضخمة بأكملها على نحو دقيق وتتلذذ بها أم لا؟ ماذا يهم أن نكمل نحن أنفسنا رحلتنا أم لا؟
على مدار الكثير جدا من الحقب، تمكنت رفقتنا الموزعة في جميع أرجاء المجرة بصعوبة من الحفاظ على عقليتنا الواحدة المشتركة. كنا في جميع الأوقات على الرغم من تعددنا «أنا» واحدة، هي المراقب الوحيد للعوالم الكثيرة، غير أن الحفاظ على هذه الهوية كان يصبح في حد ذاته أمرا مضنيا. كان النعاس يغلب على هذه «الأنا» وكنا «نحن» الأفراد المتعددين نتوق إلى عوالمنا الأصلية الصغيرة، إلى بيوتنا، إلى مخابئنا، إلى البلادة الحيوانية التي كانت تعزلنا عن جميع الأمور الضخمة. أنا، الرجل الإنجليزي على وجه التحديد، كنت أتوق إلى النوم بأمان في تلك الغرفة حيث كنت أنا وهي ننام معا؛ فتتلاشى مطالب اليوم الملحة جميعها، ولا يتبقى سوى النوم وذلك الوعي الغامض المسالم لكل منا بالآخر.
وبالرغم من أنني كنت متعبا بما يفوق قدرتي على التحمل، فقد جافاني النوم. ظللت بحكم الضرورة مع زملائي ومع العوالم الكثيرة المنتصرة. وببطء، استفقنا من نعاسنا على اكتشاف؛ لقد اتضح لنا تدريجيا أن المزاج السائد على ذلك العدد الهائل للغاية من أنظمة العوالم الطوباوية كان في صميمه مختلفا كل الاختلاف عن مزاج النصر. لقد وجدنا أن العوالم جميعها على اقتناع عميق بضآلة جميع الكائنات المتناهية وعجزها مهما بلغت درجة سموها. التقينا في أحد العوالم بشاعر من نوع ما، وحين أخبرناه بمفهومنا عن الهدف الكوني قال: «حين تستيقظ الكون، إن كانت ستستيقظ على الإطلاق، فلن تجد أنها هي المحبوبة الوحيدة لصانعها، بل محض فقاعة صغيرة تنساب بغير هدى على محيط الوجود اللانهائي السحيق.»
ما قد بدا لنا في أول الأمر على أنه مسيرة جبارة للأرواح العالمية الشبيهة بالإله، والتي كل موارد الكون في أيديها والخلود بالكامل بانتظارها، صار يبدو لنا الآن تدريجيا على شاكلة مختلفة للغاية. لقد جلب التقدم العظيم في القدرة الذهنية وتحقق العقلية المشتركة على مستوى الكون، تغيرا في خبرة الزمن؛ فقد توسع النطاق الزمني للعقل بدرجة كبيرة للغاية. لقد كانت العوالم المتيقظة تشعر بالحقبة على أنه يوم مزدحم فحسب. لقد كان شعورها بمرور الزمن يشبه ما قد يشعر به رجل يبحر بزورق في نهر بطيء عند منابعه، لكنه يتحول إلى جنادل بعد ذلك ويصبح أسرع فأسرع، إلى أن يندفع بعد مسافة ليست بالكبيرة على هيئة شلال أخير في البحر، أي النهاية الأبدية للحياة، والتي تتمثل في انقراض النجوم. ومع مقارنة الفترة الصغيرة المتبقية بالمهمة العظيمة التي كانت ترغب بشدة في تنفيذها؛ وهي تحقيق اليقظة الكاملة للروح الكونية، رأت أنه في أحسن الظروف ما من وقت لديها لتضيعه، والأكثر ترجيحا أن أوان تحقيق هذه المهمة قد فات بالفعل. وقد راودها توجس غريب بأن كارثة غير متوقعة تكمن في انتظارها. فكان يقال في بعض الأحيان: «إننا لا نعرف حتى ما تخبئه النجوم لنا، فما بالنا بصانع النجوم!» وكان يقال في بعض الأحيان: «يجب علينا ألا نطمئن ولو للحظة واحدة، إلى صحة أفضل ما توصلنا إليه من معارف عن الوجود؛ فهي ليست سوى وعي بالألوان التي ترسمها رؤيتنا على غشاء فقاعة واحدة في طبقة واحدة من الزبد على محيط الوجود.» إن هذا الشعور بحتمية عدم كمال جميع المخلوقات وجميع إنجازاتها، قد منح اتحاد عوالم المجرة سحرا وقداسة، وكأنه زهرة رقيقة قصيرة الأجل. وبشعور متزايد بالجمال المتداعي، كنا نحن أنفسنا نتعلم الآن كيفية النظر إلى تلك الطوباوية البعيدة. وفي تلك الحالة المزاجية مررنا بخبرة مميزة.
كنا قد انطلقنا في عطلة من الاستكشاف طالبين الراحة من التحليق غير المتجسد في الفضاء. بعد أن جمعنا رفقتنا من جميع العوالم، تمركزنا بأنفسنا في وعي واحد متحرك، ثم رحنا ننساب وندور فيما بين النجوم والسدم، على هيئة كائن واحد. الآن كان الهوى قد ساقنا إلى الاندفاع نحو الفضاء الخارجي. أسرعنا حتى تحولت النجوم الأمامية إلى اللون البنفسجي، والخلفية إلى اللون الأحمر، ثم حتى تلاشت النجوم الأمامية والخلفية كلتاهما، وحتى اختفت جميع المعالم الظاهرة بفعل السرعة الجنونية التي كنا نحلق بها. وفي الظلمة التامة، تفكرنا في منشأ المجرات ومصيرها، وفي التناقض المروع بين الكون وحيواتنا المنزلية الضئيلة التي كنا نتوق إلى العودة إليها.
الآن كنا في فترة من الراحة، وقد اكتشفنا حينئذ أن موقعنا ليس كما توقعناه. فالمجرة التي انطلقنا منها كانت تقع خلفنا بالفعل على مسافة بعيدة، ولم تكن تزيد في الحجم عن غيمة كبيرة لكنها لم تكن بالشكل الحلزوني البارز الذي كان ينبغي أن تكون عليه. وبعد فترة من الارتباك الذهني، أدركنا أننا كنا ننظر إلى المجرة في مرحلة مبكرة للغاية من وجودها، بل قبل أن تصبح مجرة بالفعل على الإطلاق. إن الغيمة لم تكن غيمة من النجوم بل غيمة رقيقة مستمرة من الضوء. رأينا في قلبها بريقا مبهما راح يخبو بهدوء في المناطق الخارجية المعتمة ويندمج دون حد واضح في السماء السوداء. وحتى السماء نفسها كانت غريبة بعض الشيء؛ فبالرغم من أنها كانت خالية من النجوم، اكتظت بعدد كبير من الغيوم الشاحبة . بدا أن المسافة بيننا وبينها أكبر مما هي عليه بيننا وبين المكان الذي أتينا منه، لكن العديد منها قد تكتل في مجموعة كبيرة في حجم كوكبة الجبار في سماء الأرض. كانت السماء مكتظة للغاية حتى إن العديد من الأجسام الضخمة قد التحمت أطرافها الرقيقة بعضها ببعض، والعديد منها لم يكن يفصل بينها سوى قنوات من الفراغ التي بدت من خلالها آفاق من السدم الأكثر بعدا، والتي كان بعضها بعيدا للغاية حتى إنها لم تكن تبدو إلا كبقعة من الضوء.
كان من الواضح أننا سافرنا عبر الزمن إلى الماضي حين كانت السدم العظيمة ما تزال جيرانا قريبة بعضها من بعض، قبل أن تكون الطبيعة التفجرية للكون قد فعلت ما هو أكثر من فصل هذه السدم من المادة الأولية الملتحمة المكتظة.
وبينما رحنا نشاهد، اتضح لنا أن الأحداث كانت تتكشف أمامنا بسرعة مذهلة. كانت كل غيمة تنكمش على نحو ظاهر وتنسحب بعيدا، وكانت تغير شكلها أيضا. كل مدار مبهم المعالم كان يسطح بعض الشيء ويصبح أكثر تحديدا. وإذ كانت السدم تتراجع ومن ثم تتضاءل؛ فقد صارت تبدو الآن كغيوم عدسية الشكل مائلة من جميع الزوايا. بالرغم من ذلك، فحتى في أثناء مشاهدتنا، كانت تنسحب بعيدا إلى أعماق الفضاء؛ حتى صار من الصعب مراقبة تغيراتها. سديمنا الأصلي فقط هو الذي ظل بجوارنا على هيئة شكل بيضوي ضخم يمتد إلى منتصف السماء. وعلى هذا، قد ركزنا انتباهنا الآن.
بدأت الاختلافات تتضح فيه؛ صارت الغيوم الرقيقة في بعض المناطق أكثر سطوعا، وفي البعض الآخر أقل سطوعا، فتشكلت شرائط وتموجات خافتة كالزبد على موج البحر. تحركت هذه المعالم المبهمة ببطء مثلما تتحرك قطع السحاب على التلال. صار من الواضح الآن أن التيارات الداخلية في السديم تتبع في مجملها نمطا مشتركا. كان ذلك العالم العظيم من الغاز يدور حول نفسه ببطء في واقع الأمر، على نحو شديد الشبه بالإعصار. ومع دورانه حول نفسه، كان يستمر في التسطح. كان يبدو الآن كصورة ضبابية لحصاة مسطحة ومقلمة بالخطوط، تصلح للعبة «رمي الحصى على الماء»، تقع على مسافة قريبة للغاية من العين فلا تتضح معالمها. لاحظنا الآن بحاسة بصرنا الجديدة والمدهشة، أن نقاطا مجهرية من الضوء الأقوى كانت تظهر الآن في مناطق متفرقة على الغيمة، لا سيما في المناطق الخارجية. وفي أثناء مشاهدتنا، ازداد عددها وأظلمت المسافات فيما بينها. وبهذه الطريقة، ولدت النجوم.
كانت الغيمة العظيمة ما تزال تتمدد وتتسطح. وسرعان ما صارت قرصا من تيارات النجوم الدوارة وجدائل من الغاز غير المتكاثف، وهي آخر الأنسجة المتفككة من السديم الأولي. استمرت هذه في الحركة ضمن الكيان الكلي من خلال نشاطها شبه المستقل، فراحت تغير أشكالها وتزحف كالكائنات الحية، وتمدد أقدامها الكاذبة وتختفي بوضوح مثلما تختفي الغيوم، لكنها كانت تفسح المجال لأجيال جديدة من النجوم. كان قلب السديم يتكاثف الآن إلى كتلة أصغر تزداد معالمها وضوحا. صار كرة ضخمة محتقنة بالبريق. وفي أرجاء القرص، ظهرت عقد وتكتلات من الضوء كانت هي أجنة عناقيد النجوم. وانتثرت في السديم بأكمله تلك الكرات الزغبية الرقيقة الشبيهة بكرات الزينة الخيالية المتلألئة، وكل منها كانت حبلى في حقيقة الأمر بكون صغير من النجوم.
استمرت المجرة؛ إذ صار من الممكن الآن تسميتها بهذا الاسم، في الدوران على نحو ظاهر بانتظام شديد. انتشرت جدائلها المؤلفة من تيارات النجوم على امتداد الظلام. الآن قد بدت كأنها قبعة ضخمة بيضاء عريضة الحافة، ذروتها كتلة لامعة، وحافتها حيز رقيق من النجوم. لقد كانت قبعة كاردينالية دوارة. كانت الجديلتان الطويلتان الدوارتان على الحافة تيارين حلزونيين طويلين من النجوم. وقد انفصلت أطرافهما المهترئة وأصبحت مجرات فرعية تدور حول النظام المجري الأساسي. تأرجح الكيان الكلي كقمة دوارة ومال أمامنا، وبدت الحافة كشكل بيضاوي يزداد ضيقا أكثر فأكثر، حتى صارت الآن حدا رفيعا فحسب، وشكل طرفها الأقصى الذي كان يتألف من مادة غير لامعة، خطا رفيعا مظلما من العقد ينتشر على امتداد المادة الداخلية المتوهجة المكونة للسديم والنجوم. وإذ دققنا النظر لكي نتمكن من رؤية نسيج هذه الأعجوبة اللامعة والمتلألئة - هذا النوع الأكبر على الإطلاق من الأجسام الموجودة في الكون - وجدنا أنه بالرغم من أن رؤيتنا الجديدة كانت تشمل المجرة بأكملها والمجرات البعيدة، فإنها كانت ترى كل نجم بمفرده على أنه قرص ضئيل يبتعد عن أقرب جيرانه بقدر ما تبتعد شجرة فلين في المحيط القطبي الشمالي عن أخرى في المحيط القطبي الجنوبي؛ ولهذا فبالرغم من الجمال السديمي البراق الذي يتخذه الشكل الإجمالي للمجرة، فقد بدت لنا فراغا يتناثر عليه وميض شحيح للغاية.
حين راقبنا النجوم عن كثب، رأينا أن تياراتها كانت تتداخل أحيانا بينما كانت هي تسبح في جماعات كأسراب الأسماك. وقد بدا بعد ذلك أن النجوم التي تسبح في تيارات مختلفة حين يقطع بعضها مسار بعض، يسحب بعضها بعضا فتتحرك في منحنيات ضخمة واسعة حين تمر من تأثير جار إلى آخر؛ لذا فبالرغم من بعد النجوم بعضها عن بعض، فمن المثير أنها كثيرا ما كانت تبدو كأنها كائنات حية دقيقة يفهم بعضها بعضا عن بعد. وفي بعض الأحيان كان بعضها يدور حول بعض في حركة زائدية المقطع أو يبتعد بعضها عن بعض، وفي حالات أكثر ندرة كانت تتحد لتكون أنظمة ثنائية.
كان الوقت يمر أمامنا بسرعة كبيرة، حتى إن الدهور كانت تمر في لحظات. كنا قد رأينا النجوم الأولى تتكاثف من النسيج السديمي كعمالقة حمر، بالرغم من أنها كانت تبدو من على بعد ضئيلة للغاية. عدد مدهش من هذه النجوم قد انفجر إربا، ربما بفعل قوة الطرد المركزي لدورانها، ليكون أنظمة ثنائية؛ بحيث أخذت السماء على نحو متزايد تمتلئ بهذه الأزواج الراقصة في السماء. وفي هذه الأثناء، كانت النجوم العملاقة تتقلص ببطء ويزداد سطوعها. كانت تتحول من اللون الأحمر إلى اللون الأصفر ثم إلى اللونين الأبيض البراق والأزرق. ومع تكاثف النجوم العملاقة الأخرى الأصغر سنا حولها، كانت تتقلص في الحجم أكثر فأكثر ويتغير لونها مرة أخرى إلى الأصفر والأحمر المحترق. الآن كنا نشاهد أقدم النجوم وهي تنطفئ الواحدة تلو الأخرى مثلما ينطفئ الشرر من النار. ازدادت حوادث الموت هذه ببطء لكن بثبات. وفي بعض الأحيان، كان أحد «المستعرات» يتوهج فيغطي على ضياء جميع جيرانه للحظة، ثم يخبو. وبين الحين والآخر، ينبض نجم «متغير» بسرعة لا يمكن تصورها. وبين الفينة والأخرى، كنا نرى أحد الأنظمة النجمية الثنائية ونجما آخر يقترب كل منهما من الآخر بشدة حتى إن أحدهما يصل بخيط من مادته باتجاه شريكه. ومع التدقيق ببصرنا الخارق للطبيعة، رأينا هذه الخيوط تنكسر وتتكاثف إلى كواكب. وقد كنا في غاية الدهشة من الحجم المتناهي الصغر لبذور الحياة هذه وندرتها بين العدد الضخم من النجوم العديمة الحياة.
غير أن النجوم نفسها كانت تعطي انطباعا لا يقاوم بالحيوية. من الغريب أن حركات هذه الأشياء المادية الخالصة، تلك الكرات النارية، التي تدور وتسير وفقا للقوانين الهندسية لجزيئاتها المتناهية الصغر، تبدو حيوية للغاية وباحثة للغاية. غير أن المجرة بأكملها كانت هي نفسها حيوية للغاية؛ إذ كانت شديدة الشبه بكائن حي، بزخارفها الدقيقة من تيارات النجوم التي تشبه التيارات الموجودة في الخلية الحية، وأكاليلها الممتدة كاللوامس، ونواتها من الضوء. لا بد أن هذا الكائن العظيم الجميل هو كائن حي، ولا بد أن له خبرة ذكية عن نفسه وعما سواه من أشياء.
في خضم هذه الأفكار الجامحة تحققنا من خيالنا، متذكرين أن الحياة لا يمكن أن تحظى بموطئ قدم إلا على تلك الحبات النادرة المسماة بالكواكب، وأن كل هذه الثروة من الجواهر المتململة ليست سوى كتل من النيران.
بعاطفة واشتياق متزايدين، وجهنا انتباهنا بدقة أكبر إلى أولى الحبات الكوكبية وهي تتكاثف من خيوط اللهيب الدوارة لكي تصبح في البداية قطرات سائلة تدور وتنبض، ثم تغلفها قشرة من الصخور، وتغطيها طبقة رقيقة من المحيطات، ويحيط بها غلاف جوي. تمكن نظرنا الثاقب من رؤية مياهها الضحلة تختمر بالحياة التي سرعان ما انتشرت إلى المحيطات والقارات الخاصة بها. ورأينا قلة من هذه العوالم المبكرة تبلغ الرتبة البشرية في الذكاء، وسرعان ما أصبحت هذه العوالم تعاني من الصراع الأعظم من أجل الروح، والذي لم يخرج منه منتصرا سوى عدد أقل.
في تلك الأثناء، أدى ميلاد الكواكب الجديدة، والذي كان حدثا نادرا بين النجوم، ولكن كان في المجمل منتشرا، إلى ظهور عوالم جديدة وسير جديدة. رأينا الأرض الأخرى، بنجاحتها وإخفاقاتها المتكررة، ثم اختناقها الأخير. رأينا العديد من العوالم الأخرى الإنسانية الطابع، مثل شوكيات الجلد والقنطورية وغيرها. رأينا الإنسان البشري العادي على أرضه الصغيرة يتخبط عبر العديد من المراحل المتغيرة بين البلادة والصفاء الذهني ثم البلادة المدقعة من جديد. ومن حقبة إلى أخرى، كان شكله الجسدي يتغير كما تتغير أشكال الغيوم. ورأيناه في صراعه المستميت مع الغزاة القادمين من المريخ، وبعد لحظة تضمنت المزيد من عصور الظلام وعصور من النور، رأيناه قد هرب بعيدا إلى كوكب الزهرة غير المؤهل للحياة خوفا من سقوط القمر. وبعد فترة أخرى، بعد دهر لم يكن سوى تنهيدة في حياة الكون، هرب قبل انفجار الشمس إلى كوكب نبتون، ليغرق هناك في الحيوانية الخالصة من جديد على مدار دهور أخرى. بالرغم من ذلك، فقد نهض منها مرة أخرى ووصل إلى أرقى مستويات ذكائه فقط ليحترق كحشرة عث في نار بفعل كارثة لا يمكن مقاومتها.
كل هذه القصة البشرية الطويلة بما فيها من أقوى العواطف والمآسي في الحياة لم تكن سوى جهد تافه عقيم مهمل على ما يبدو، لم يستمر إلا لبضع لحظات في حياة المجرة. وحين انتهت هذه القصة، استمرت مجموعة الأنظمة الكوكبية في الحياة، مع حدوث كارثة، أو ميلاد كوكبي جديد بين النجوم، أو حلول مصيبة جديدة هنا وهناك.
قبل الحياة البشرية المضطربة وبعدها، رأينا العشرات بل المئات أيضا من السلالات الأخرى الإنسانية الطابع، والتي كانت حفنة منها فقط هي التي قدر لها التيقظ إلى مدى روحاني يتجاوز أعلى ما وصل إليه البشر، وأداء دور في «اتحاد عوالم المجرة». كنا نرى هذه السلالات الآن من بعيد وهي على كواكبها الصغيرة الشبيهة بالأرض، المتناثرة بين تيارات النجوم الضخمة، وهي تناضل من أجل التغلب على كل تلك المشكلات العالمية، الاجتماعية منها والروحانية، التي يواجهها الإنسان في عصرنا «الحديث» للمرة الأولى. وبالمثل، رأينا مرة أخرى العديد من أنواع السلالات الأخرى، كالسلالة النوتية، والبحرية، والطائرة، والمركبة، والتكافلية النادرة، وكذلك كائنات أكثر ندرة تشبه النباتات. ومن كل نوع منها، قلة فقط هي التي فازت بالوصول إلى المرحلة الطوباوية وشاركت في المشروع المشترك العظيم للعوالم، هذا إن قام أي منها بذلك على الإطلاق. أما البقية، فقد انهارت في الطريق.
من مكان مراقبتنا البعيد، كنا نرى الآن في جزيرة بإحدى المجرات الفرعية انتصار السلالات التكافلية. هنا تحققت أخيرا بذرة اتحاد حقيقي بين العوالم. الآن قد بدأت نجوم هذا الكون الواقع على جزيرة في أن تطوق بلآلئ حية إلى أن أصبحت المجرة الفرعية بأكملها حية بالعوالم. في هذه الأثناء، اندلع في النظام الرئيسي ذلك الجنون الفظيع المعدي الخاص بتكوين إمبراطوريات، والذي شاهدنا تفاصيله بالفعل. غير أن ما قد بدا قبل ذلك على أنه حرب الجبابرة، والتي ناورت فيها العوالم العظيمة في الفضاء بسرعة لا تصدق ودمرت بعض الشعوب بعضها في محارق، بدا الآن على أنها حركة مندفعة لبضع من الشرارات المجهرية؛ بضعة من الكائنات المجهرية اللامعة المحاطة بحشود لا مبالية من النجوم.
بالرغم من ذلك، فقد رأينا الآن نجما ينفجر ويحطم كواكبه. لقد قتلت الإمبراطوريات شيئا أرقى من نفسها. وقد ارتكبت هذا القتل ثانيا وثالثا، ثم اختفى هذا الجنون الإمبريالي وانهارت الإمبراطوريات تحت تأثير المجرة الفرعية. وسرعان ما استحوذ على انتباهنا المجهد ذلك الظهور الرائع للطوباوية في المجرة بأكملها. وقد اتضح لنا هذا بصفة أساسية على هيئة زيادة مستمرة في الكواكب الاصطناعية. ازدهر النجم تلو النجم بمدار مزدحم تلو الآخر من هذه الجواهر الحيوية، تلك البراعم الحبلى بالروح. وكوكبة نجمية تلو الأخرى، بدت المجرة بأكملها حية بالكثير من العوالم، التي يسكن كلا منها سلالة كبيرة فريدة من الأفراد الأذكياء ذوي الحساسية الذين يوحدهم مجتمع حقيقي، والذي كان هو نفسه كائنا حيا تملكه روح مشتركة. وكل نظام من العديد من المدارات المأهولة كان هو نفسه كائنا مشتركا. وقد كانت المجرة بأكملها المنسوجة في وشيج تخاطري واحد، كائنا ذكيا متلهفا يتمثل في الروح المشتركة، تلك «الأنا» الواحدة لجميع أفراده المتنوعين الكثيرين السريعي الزوال. كان هذا المجتمع الشاسع بأكمله ينظر الآن إلى ما هو أبعد من ذاته باتجاه رفاقه من المجرات. وإذ قرر السعي خلف مغامرة الحياة والروح في الدائرة الكونية الأوسع على الإطلاق، فقد كان على تواصل تخاطري مستمر مع رفاقه، وفي الوقت نفسه بينما كان يتصور جميع الأشكال الغريبة من الطموح العملي، بدأ يستفيد من الطاقات الكامنة في نجومه على نطاق لم يكن متخيلا قبل ذلك الوقت. لم يتوقف الأمر عند إحاطة جميع الأنظمة الشمسية بنسيج رقيق من المصائد الضوئية التي كانت تركز الطاقة الشمسية الهاربة للاستخدام الذكي؛ ومن ثم فقد كانت المجرة بأكملها معتمة، بل إن العديد من النجوم التي لم تكن تصلح لأن تكون شموسا قد فككت وسلبت منها مخزوناتها الجبارة من الطاقة دون الذرية.
وفجأة، استحوذ على انتباهنا حدث قد بدا، حتى من على بعد، أنه متعارض بوضوح مع الطوباوية. انفجر نجم كان محاطا بالكواكب مدمرا جميع حلقات العوالم خاصته ثم غرق بعد ذلك في حالة من الوهن والشحوب. حدث نفس الشيء لنجم ثان ثم لثالث، وكذلك لنجوم أخرى في مناطق مختلفة من المجرة.
ومن أجل التقصي بشأن سبب هذه الكوارث المحيرة، فقد قمنا طوعا مرة أخرة بتوزيع أنفسنا على مراكزنا بين العوالم المتعددة.
الفصل الحادي عشر
نجوم وأوبئة
(1) المجرات العديدة
كان «اتحاد عوالم المجرة» قد سعى إلى تحسين تواصله مع المجرات الأخرى. وكانت وسيلة الاتصال الأبسط هي الاتصال التخاطري، غير أنه قد بدا من المرغوب أيضا أن يكون هناك اتصال مادي عبر ذلك الفراغ الهائل الذي يفصل هذه المجرة عن التي تليها. وفي المحاولة المتمثلة في إرسال مبعوثين في مثل هذه الرحلات، جلب اتحاد العوالم على نفسه وباء النجوم المتفجرة.
قبل أن أصف هذه السلسلة من الكوارث، ينبغي أن أقول شيئا عن ظروف المجرات الأخرى مثلما عرفناها من خلال المشاركة في تجربة مجرتنا.
لقد أوضح الاستكشاف التخاطري منذ فترة طويلة وجود عوالم عاقلة في بعض المجرات الأخرى على الأقل. والآن، بعد تجارب طويلة، كانت عوالم مجرتنا قد اكتسبت من خلال عملها لتحقيق هذا الغرض بصفتها عقلا مجريا واحدا، معرفة في غاية التفصيل عن الكون بأكمله. وقد ثبتت صعوبة هذا الأمر بسبب ما يتسم به التوجه الذهني لدى عوالم كل مجرة من المجرات من ضيق أفق غير متوقع. لم يكن هناك من اختلاف كبير في التركيب الفيزيائي والبيولوجي الأساسي للمجرات؛ إذ يضم كل منها مجموعة متنوعة من السلالات تنتمي إلى الأنواع العامة نفسها كالسلالات الموجودة في مجرتنا. بالرغم من ذلك، فقد أنتج اتجاه التطور على المستوى الثقافي في كل من مجتمعات المجرات خصوصيات ذهنية هامة غالبا ما تكون عميقة الترسخ حتى إنها تصبح غير متعمدة؛ ولهذا فقد كان من الصعب للغاية على المجرات المتطورة في البداية أن تتواصل مع بعضها. لقد كانت الثقافة السائدة في مجرتنا هي ثقافة السلالات التكافلية والتي تطورت في مجرة فرعية سعيدة على نحو استثنائي. وبالرغم من أهوال العصر الإمبريالي، فقد كانت ثقافة مجرتنا تتسم بنوع من اللطف جعل من إقامة الاتصال التخاطري مع المجرات الأكثر مأساوية أمرا صعبا. إضافة إلى ذلك، فقد كانت تفاصيل المفاهيم والقيم الأساسية التي يقبلها مجتمع مجرتنا قد تطورت إلى حد كبير من الثقافة البحرية التي كانت قد سادت في المجرة الفرعية. وبالرغم من أن شعوب العوالم «القارية» كانت بشرية في الغالب، فقد تأثرت ثقافاتها الأصلية تأثرا عميقا بالعقلية المحيطية. ونظرا لندرة هذا النسيج الذهني المحيطي بين المجتمعات المجرية، فقد كانت مجرتنا أكثر انعزالا من معظم المجرات.
بالرغم من ذلك، فبعد عمل قد تطلب الكثير من الوقت والصبر، نجح مجتمع مجرتنا في عمل مسح مكتمل نسبيا للشعب الكوني للمجرات. وقد اكتشف في ذلك الوقت أن المجرات العديدة كانت في مراحل مختلفة من التطور الذهني والفيزيائي أيضا. لم تكن العديد من الأنظمة الحديثة للغاية، والتي كانت المادة السديمية فيها لا تزال أكثر من النجوم، تحتوي على أي كواكب بعد. أما بعض المجرات الأخرى فلم تكن الحياة فيها قد اقتربت من المستوى البشري على الإطلاق بالرغم من وجود عدد قليل من الحبات الحيوية. بعض المجرات الأخرى كانت قاحلة تماما من الأنظمة الكوكبية بالرغم من نضجها الفيزيائي؛ وذلك إما بسبب الصدفة المحضة أو بسبب التوزيع المتفرق للغاية لنجومها. وفي العديد من بين الملايين من المجرات، تمكن عالم ذكي واحد من نشر سلالته وثقافته عبر أنحاء المجرة، منظما المجرة بأكملها مثلما ينظم جنين البيضة في داخله جوهر البيضة بأكمله. تأسست الثقافة في هذه المجرات على نحو طبيعي للغاية، بناء على الافتراض القائل بأن الكون بأكمله سيؤهل بالسكان من هذا الجنين الواحد. وحين جرى التوصل إلى الاتصال التخاطري مع المجرات الأخرى في نهاية المطاف، كان تأثيره محيرا للغاية في بادئ الأمر. لم تكن المجرات التي تطور فيها اثنان أو أكثر من هذه الأجنة على نحو مستقل ثم تواصلت معا في النهاية بالعدد القليل. في بعض الأحيان، كانت النتيجة تتمثل في النظام التكافلي، وفي بعض الأحيان كان ينتج عن ذلك صراع لا نهائي أو حتى تدمير متبادل. وقد كان النوع الأكثر انتشارا على الإطلاق من المجتمعات المجرية هو ذلك المجتمع الذي تطورت فيه العديد من أنظمة العوالم على نحو مستقل، ثم تصارعت معا، وقتل بعضها بعضا، ونتج عنها الكثير من الاتحادات والإمبراطوريات، واصطدمت مرة تلو المرة بالفوضى الاجتماعية، وراحت تتصارع بين الفينة والأخرى بشيء من التردد نحو تحقيق الطوباوية المجرية. قلة منها قد حققت ذلك الهدف بالفعل، غير أنها قد اكتوت بالمرارة. عدد أكبر كان لا يزال في طور التخبط، بينما العديد كانت قد قوضته الحرب حتى إنه لم تكن هناك من إمكانية كبيرة للتعافي. وقد كانت مجرتنا ستنتمي إلى هذا النوع لولا الحظ الطيب للسلالات التكافلية.
ينبغي أن أضيف أمرين إلى هذا المسح المجري؛ أولهما: هو وجود أنواع معينة من المجتمعات المجرية المتقدمة للغاية التي كانت شاهدا تخاطريا على التاريخ بأكمله في مجرتنا وجميع المجرات الأخرى؛ ثانيهما: هو أن النجوم قد بدأت حديثا في الانفجار وتدمير أطواقها من العوالم في عدد غير قليل من المجرات. (2) كارثة في مجرتنا
بينما كان اتحاد العوالم في مجرتنا يحكم رؤيته التخاطرية، ويحسن من بنيته الاجتماعية والمادية في الوقت ذاته، أرغمته الكوارث غير المتوقعة التي راقبناها قبل ذلك من بعيد، على الالتزام بمهمة حفظ حيوات العوالم التي يتألف منها التزاما صارما.
كانت واقعة الحادثة الأولى هي محاولة لفصل نجم عن مساره الطبيعي وتوجيهه في رحلة عابرة للمجرات. كان الاتصال التخاطري مع أقرب المجرات الغريبة جديرا بالموثوقية إلى حد ما، غير أنه قد تقرر، مثلما قلت، أن الانتقال المادي بين العوالم سيكون ثمينا للغاية من أجل الفهم والتعاون المشتركين؛ ومن ثم فقد وضعت الخطط من أجل قذف العديد من النجوم بما يسكنها من أنظمة العوالم عبر محيط الفضاء الشاسع الذي كان يفصل بين الجزيرتين الطافيتين للحضارة. لا شك أن الرحلة كانت ستستغرق آلاف الأضعاف من الوقت الذي استغرقته أي محاولة سابقة. وعند اكتمالها، سيكون العديد من النجوم في كل مجرة قد توقفت عن السطوع بالفعل، وتكون نهاية الحياة في الكون قد لاحت في الأفق بالفعل. بالرغم من ذلك، فقد ساد الشعور بأن مشروع ربط المجرة بالأخرى في جميع أنحاء الكون على هذا النحو له ما يبرره بشدة؛ إذ سيؤدي إلى زيادة عظيمة في التفاهم المشترك بين المجرات في آخر مراحل الحياة الكونية وأصعبها.
بعد معجزات من التجارب والحسابات، أجريت المحاولة الأولى للسفر عبر المجرات. استخدم نجم قاحل من الكواكب كمستودع للطاقة العادية ودون الذرية أيضا. ومن خلال أجهزة بارعة يعجز عقلي عن فهمها عجزا شديدا، وجه هذا المخزون من الطاقة بطريقة معينة إلى نجم مختار بأطواق كوكبية، كي يميل به تدريجيا في اتجاه المجرة الغريبة. وقد كانت المهمة المعنية بضمان بقاء كواكب هذا النجم في مداراتها الفعلية خلال هذه العملية وخلال ما يليها من تسارع لشمسها، حساسة للغاية غير أنها أنجزت دون تدمير أكثر من اثني عشر عالما. بالرغم من ذلك، فمن سوء الحظ أنه فور توجيه النجم على النحو الصحيح، وبعد أن بدأ في اكتساب سرعته، انفجر. ثمة كرة من مادة وهاجة قد تمددت من الشمس بسرعة مذهلة وابتلعت جميع أطواق الكواكب ودمرتها. وحينها انحسر النجم.
على مدار تاريخ المجرة، كان السطوع والأفول المفاجئ لأحد النجوم أمرا شائعا للغاية. وكان من المعروف أنه يتألف من انفجار للطاقة دون الذرية من الطبقات السطحية للنجم. وقد كان يحدث هذا في بعض الأحيان بسبب تأثير جسم متجول صغير لا يزيد حجمه في معظم الأحوال عن حجم الكويكب، وأحيانا بسبب عوامل تتعلق بالتطور الفيزيائي للنجم نفسه. وفي كلتا الحالتين، كان اتحاد عوالم المجرة يستطيع أن يتنبأ بالحدث بدقة كبيرة وأن يتخذ خطوات لتغيير اتجاه الجسم المتطفل، أو لإبعاد نظام العوالم المهدد عن طريق الأذى. غير أن هذه الكارثة المحددة لم تكن متوقعة على الإطلاق، ولم يعرف لها سبب محدد. وقد أخلت بالقوانين الفيزيائية الراسخة.
وبينما كان اتحاد العوالم يحاول فهم ما قد حدث، انفجر نجم آخر. وقد كان هذا النجم هو شمس أحد أنظمة العوالم الرائدة. كانت المحاولات قد أجريت حديثا من أجل زيادة إخراج الإشعاع من هذا النجم، وقد ساد الاعتقاد بأن تلك الكارثة لا بد أنها تتعلق بهذه التجارب. وبعد فترة، انفجر المزيد والمزيد من النجوم، مدمرة جميع عوالمها. وفي العديد من الحالات، كانت المحاولات قد أجريت مؤخرا إما لتغيير مسار النجم أو الانتفاع بطاقته المخزنة.
انتشرت المشكلة، ودمرت العديد من أنظمة العوالم واحدا تلو الآخر. كانت جميع محاولات التدخل في آليات عمل النجوم قد نبذت الآن، غير أن وباء «المستعرات» قد استمر، بل ازداد. وفي جميع الحالات كان النجم المنفجر شمسا لنظام كوكبي.
في مرحلة «المستعر» المعتادة، لم يكن الانفجار يحدث نتيجة للاصطدام بل بفعل قوى داخلية، وكان من المعروف أنها تحدث في مرحلة شباب النجم أو نضوجه المبكر، ونادرا ما كانت تحدث أكثر من مرة في حياة النجم، هذا إن حدثت على الإطلاق. أما في هذه المرحلة المتأخرة من المجرة، كان عدد النجوم التي مرت بمرحلة «المستعر» الطبيعية يفوق عدد النجوم التي لم تمر بها؛ ومن ثم فقد كان من الممكن نقل أنظمة بأكملها من العوالم من النجوم الأحدث المعرضة للخطر وتوطينها في مدارات قريبة حول النجوم الأقدم. وبكمية ضخمة من الطاقة، أجريت هذه العملية مرات عدة. لقد وضعت الخطط البطولية لنقل مجتمع المجرة بأكمله من خلال الهجرة إلى النجوم الآمنة، وتطبيق القتل الرحيم على باقي شعوب العوالم التي لم يكن من الممكن استيعابها بتلك الطريقة.
وفي أثناء التنفيذ، فشلت هذه الخطة بسبب حلول سلسلة جديدة من الكوارث. إن النجوم التي انفجرت بالفعل، قد طورت القدرة على الانفجار مرة تلو الأخرى عند تطويقها بالكواكب. علاوة على ذلك، بدأ نوع جديد من الكوارث في الحدوث. لقد بدأت النجوم القديمة للغاية والتي كانت قد تجاوزت الفترة التي يمكن أن تحدث فيها الانفجارات منذ وقت طويل، تتصرف على نحو محير؛ إذ تنطلق نفثة من المواد المتوهجة من غلافها الضوئي، ومع دوران النجم تتجه هذه النفثة إلى الخارج على شكل دوامة زاحفة. في بعض الأحيان، كان هذا الشكل الخرطومي المتقد يتسبب في تكلس أسطح جميع الكواكب في جميع المدارات، مما يؤدي إلى قتل جميع مظاهر الحياة عليها. وفي بعض الحالات، إذا لم يحدث اجتياح هذا الشكل الخرطومي في مستوى المدارات الكوكبية، كان عدد من الكواكب يتمكن من الهروب من التدمير. بالرغم من ذلك، ففي العديد من الحالات التي لم يحدث فيها التدمير بالكامل منذ البداية، كان هذا الشكل الخرطومي يتمكن تدريجيا من الدخول إلى المستوى الكوكبي بقدر أكبر من الدقة ويدمر ما تبقى من العوالم.
وسرعان ما أصبح من الواضح أنه إذا لم يتم كبح جماح هذين النوعين من الأنشطة النجمية، فسوف تنتهي الحضارة أو ربما تندثر الحياة بأكملها من على المجرة. لم تقدم المعرفة الفلكية أي إشارة لسبب المشكلة أيا كان. كانت نظرية تطور النجوم تبدو مثالية للغاية، غير أنها لم تتضمن أيا من هذه الأحداث الفريدة. في هذه الأثناء، كان اتحاد العوالم قد انطلق في مهمة التفجير الاصطناعي لجميع النجوم التي لم تمر بمرحلة «المستعر» تلقائيا بعد. وقد كان المرجو أن يؤدي هذا إلى جعلها آمنة نسبيا، ثم استخدامها مرة أخرى بصفتها شموسا. أما الآن وقد أصبحت أنواع النجوم جميعها على الدرجة ذاتها من الخطر، فقد تخلى اتحاد العوالم عن هذه المهمة. وبدلا من ذلك، وضعت الترتيبات من أجل الحصول على الإشعاع اللازم للحياة من النجوم التي توقفت عن السطوع. إن التفكك المحكوم لذراتها سيجعل منها شموسا مرضية لفترة من الوقت على الأقل. وبالرغم من ذلك، فمن سوء الحظ أن وباء النفثات المتقدة كان يزداد بسرعة كبيرة. وراحت أنظمة العوالم الحية بأكملها تمحى من الوجود نظاما تلو النظام. وأخيرا، توصلت الأبحاث المستميتة إلى طريقة لتحويل مسار المجس المتقد بعيدا عن مستوى مدار الشمس. غير أن هذه العملية لم تكن مضمونة على الإطلاق. وإضافة إلى ذلك، فحتى إذا نجحت، فسوف تطلق الشمس نفثة متقدة أخرى بعد وقت طال أو قصر.
كانت حالة المجرة تتغير بسرعة كبيرة. حتى ذلك الوقت، كانت هناك كمية هائلة من الطاقة النجمية، غير أن هذه الطاقة كانت تهطل الآن كما يهطل المطر من غيمة رعدية. وبالرغم من أن انفجارا واحدا لم يكن يؤثر بشدة في قوة النجم، فإن تكرار الانفجارات كان يصبح أكثر إنهاكا مع ازديادها في العدد. كانت العديد من النجوم الحديثة تتداعى إلى الشيخوخة. وكانت الغالبية العظمى من النجوم قد تجاوزت الآن أوجها؛ فصار الكثير منها محض فحم مضيء أو رماد معتم. العوالم العاقلة كانت هي أيضا قد تناقص عددها بدرجة كبيرة؛ إذ بالرغم من جميع إجراءاتها المبتكرة للدفاع، كانت الأضرار ما تزال جسيمة. وقد كان هذا التناقص في عدد العوالم هو الأخطر؛ إذ إن اتحاد عوالم المجرة كان في أوجه على درجة عالية من التنظيم. لقد كان أشبه بالدماغ منه بالمجتمع في بعض الجوانب. وقد كادت تطمس الكارثة بعضا من «مراكز الدماغ» العليا، وقللت من فاعلية جميع المراكز بدرجة كبيرة. وقد أعاقت أيضا بشدة الاتصال التخاطري بين أنظمة العوالم من خلال إرغامها على التركيز على مشكلتها الفيزيائية العاجلة المتمثلة في الدفاع ضد الهجمات التي تتعرض لها من جانب شمسها. وكان العقل المشترك لاتحاد العوالم قد توقف الآن عن العمل.
التوجه العاطفي للعوالم قد تغير هو أيضا. اختفى الحماس تجاه تأسيس الطوباوية الكونية، وتلاشى معه الحماس لاستكمال مغامرة الروح من خلال اكتمال المعرفة وإشباع الملكة الإبداعية. والآن وقد بدا أن لا محيص عن الانقراض خلال فترة قصيرة نسبيا، ظهرت إرادة متزايدة لملاقاة المصير بسلام ديني. الآن بدت الرغبة في تحقيق الهدف الكوني البعيد الذي كان فيما سبق هو الدافع الأسمى لجميع العوالم المتيقظة نوعا من الترف بل الإثم؛ فكيف للكائنات الضئيلة المتمثلة في العوالم المتيقظة أن تلم بمعارف الكون بأكمله وبما هو إلهي؟ بدلا من ذلك، إن عليها أن تؤدي دورها في المسرحية وتحتفي بنهايتها المأساوية بشيء من التجرد والتلذذ الإلهي.
وهذه الحالة المزاجية المتمثلة في الاستسلام الجذل، والتي تليق بكارثة لا محيص عنها، قد تغيرت سريعا بفعل اكتشاف جديد. على مدار فترة طويلة، ساد الشك في بعض المناطق بأن هذا النشاط غير المنتظم للنجوم ليس تلقائيا في حقيقة الأمر بل هو عمدي، وأن النجوم حية في حقيقة الأمر وتحاول التخلص من آفة الكواكب. بدا هذا الاحتمال في البداية خياليا للغاية، غير أنه قد اتضح تدريجيا أن تدمير النظام الكوكبي لأحد النجوم هو النهاية التي تحدد فترة النشاط غير المنتظم. وقد كان من المحتمل بالطبع أن وجود العديد من الأطواق الكوكبية قد تسبب في حدوث الانفجار أو ظهور الطرف المتقد، بطريقة آلية محضة وإن كانت غير مفهومة. غير أن الفيزياء الفلكية لم تستطع أن تقترح أي آلية قد تؤدي إلى هذه النتيجة. كانت الأبحاث التخاطرية تجرى الآن من أجل اختبار نظرية الوعي النجمي، وإقامة اتصال مع النجوم العاقلة إن أمكن. كانت هذه المحاولة عقيمة تماما في بداية الأمر. لم يكن لدى العوالم أي دراية بالطريقة الصحيحة التي يمكن الوصول بها إلى عقول، إن كان لها أي وجود على الإطلاق، فستكون مختلفة تمام الاختلاف عن عقولنا. بدا من المحتمل للغاية أنه لا توجد أي عوامل في عقلية العوالم العاقلة ستكون على درجة كافية من الشبه بالعقلية النجمية لتشكيل وسيلة للتواصل. وبالرغم من أن العوالم قد استخدمت قدراتها التخيلية على أفضل نحو ممكن لديها، وبالرغم من أنها استكشفت جميع الممرات والدهاليز الباطنية لعقليتها، إن صح التعبير، وراحت تصغي في كل مكان أملا في الحصول على الإجابة، فإنها لم تستقبل شيئا. وبدأت نظرية الغائية النجمة تبدو غير معقولة. ومرة أخرى، بدأت العوالم تتجه إلى التعزي في القبول، بل الابتهاج به. بالرغم من ذلك، فقد استمر عدد قليل من أنظمة العوالم التي تخصصت في الأساليب النفسية، في أبحاثها، واثقة بأنها إذا تمكنت فقط من التواصل مع النجوم، فسوف يكون من الممكن تحقيق قدر من التفاهم والاتفاق المشترك بين أعظم مرتبتين عقليتين في المجرة. وأخيرا، تحقق التواصل المرتجى مع العقول النجمية. وهو لم يتحقق من خلال جهود العوالم العاقلة غير المصحوبة بالمساعدة لمجرتنا فحسب، بل تحقق جزئيا من خلال تأمل مجرة أخرى كانت العوالم والنجوم الموجودة فيها قد بدأ كل منها يدرك وجود الآخر.
كانت العقلية النجمية حتى لعقول العوالم مكتملة اليقظة غريبة بدرجة يصعب تصورها. أما بالنسبة إلي أنا البشري الضئيل، فكل ما كان مميزا فيها قد أصبح الآن عصيا جدا على الفهم. بالرغم من ذلك، فعلي الآن أن أحاول تلخيص سمتها الأبسط بأفضل ما أستطيع؛ إذ إنها من الأمور الجوهرية في قصتي. قامت العوالم العاقلة بأول تواصل لها مع النجوم التي بلغت المستوى الأعلى من الخبرة النجمية، غير أنني لن أتتبع الترتيب الزمني لاستكشافاتها. وعوضا عن ذلك، سوف أبدأ بعرض سمات الطبيعة النجمية والتي لم يتم التوصل إليها إلا على نحو متقطع بعد تواصل كان قد أصبح على درجة جيدة من التأسيس. ولعل الطريقة الأسهل التي يمكن للقارئ أن يدرك بها شيئا عن الحياة الذهنية للنجوم هي من خلال التعرف على الطبيعة النجمية الحيوية والفيسيولوجية. (3) النجوم
إن أفضل وصف للنجوم هو أنها كائنات حية، لكنها من نوع فيسيولوجي ونفسي عجيب للغاية. تتألف الطبقة الخارجية والطبقة الوسطى في النجم الناضج على ما يبدو من «أنسجة» محبوكة من تيارات الغازات المتوهجة. وهذه الأنسجة الغازية تعيش وتحافظ على الوعي النجمي من خلال اعتراض جزء من ذلك الفيضان الضخم من الطاقة، والذي يخرج من باطن النجم المحتقن العنيف النشاط. ولا بد أن أعمق الطبقات الحيوية هي شيء شبيه بالجهاز الهضمي الذي يحول الإشعاع الخام إلى الأشكال اللازمة للحفاظ على حياة النجم. وخارج المنطقة الهضمية هذه، تكمن طبقة تنسيقية يمكن أن نعدها دماغ النجم. الطبقات الخارجية بما فيها الهالة، تستجيب إلى المحفزات الشديدة الخفوت والتي تصدر عن البيئة الكونية للنجم، وإلى ضوء النجوم المجاورة وإلى تأثير الشهب وإلى ضغوطات المد والجزر التي تنجم عن تأثير جاذبية الكواكب أو النجوم الأخرى. لا يمكن لهذه التأثيرات بالطبع أن تنتج أي انطباع واضح إلا بفضل نسيج غريب من أعضاء الحس الغازية، والتي تميز بينها فيما يتعلق بالنوعية والاتجاه وتنقل هذه المعلومات إلى طبقة «الدماغ» الرابطة.
وبالرغم من أن الخبرة الحسية للنجوم غريبة للغاية علينا، فقد ثبت أنه من الممكن في النهاية فهمها بعض الشيء. لم نجد صعوبة مفرطة في الوصول التخاطري إلى الإدراك الحسي للنجم للدغدغات واللمسات والنقرات والشرارات اللطيفة التي كانت تصل إليه من بيئة المجرة. كان من الغريب أنه بالرغم من وجود جسم النجم في حالة من السطوع الشديد، فإن هذا الضوء المتدفق إلى الخارج لم يكن ذا تأثير على أعضائه الحسية على الإطلاق؛ إذ لم يكن يرى سوى الضوء الخافت الصادر من النجوم الأخرى. وقد كان هذا يوفر للنجم إدراكا حسيا لسماء محيطة تتألف من مجموعات نجمية وامضة، والتي لم تكن تقبع في الظلام، بل في ظلام مصطبغ بلون الأشعة الكونية الذي لا يمكن للبشر أن يتخيلوه. كانت النجوم أنفسها تتخذ مظهرا ملونا وفقا لنمطها وسنها. وبالرغم من أن الإدراك الحسي لدى النجوم كان مفهوما بالنسبة إلينا بعض الشيء، فقد كان الجانب الحركي من الحياة النجمية عصيا على فهمنا إلى حد كبير في البداية. كان علينا أن نكيف أنفسنا على طريقة جديدة تماما لرؤية الأحداث الفيزيائية؛ إذ بدا أن النشاط الحركي الإرادي العادي للنجوم لا يختلف على الإطلاق عن حركتها الفيزيائية العادية التي تدرسها علومنا، وهي الحركة المتعلقة بالنجوم الأخرى وبالمجرة ككل. لا بد أن النجم يكون واعيا على نحو مبهم بتأثير الجاذبية الخاص بالمجرة بأكملها، وتزداد دقة هذا الوعي فيما يتعلق بقوة «الشد» التي يبذلها عليه جيرانه القريبون منه، بالرغم بالطبع من أن هذا التأثير يكون في معظم الأحيان طفيفا بدرجة لا تسمح للأدوات البشرية بالكشف عنه. ويستجيب النجم لهذه التأثيرات بالحركة الإرادية، والتي تبدو لعلماء الفلك في العوالم العاقلة الضئيلة على أنها ميكانيكية محضة. بالرغم من ذلك، يشعر النجم دون شك وهو محق في شعوره هذا، بأن هذه الحركة هي تمثيل الإرادة الحرة لطبيعته النفسية الخاصة. كانت تلك على الأقل هي النتيجة التي تكاد لا تصدق والتي فرضت نفسها علينا بناء على الأبحاث التي أجراها اتحاد عوالم المجرة.
من هذا يبدو أن الخبرة المعتادة لأحد النجوم تتألف من إدراكه الحسي لبيئته الكونية، إلى جانب تغيرات إرادية مستمرة داخل جسمه وفي موقعه بالنسبة إلى غيره من النجوم. ولا شك بأن هذا التغير في الموقع يتألف بالطبع من الدوران والمرور. يمكننا إذن أن نتخيل الحياة الحركية للنجم على أنها حياة من الرقص أو التزلج الفني على الجليد، وهي تنفذ بمهارة فائقة وفقا لمبدأ مثالي ينبثق إلى الوعي من أعماق الطبيعة النجمية ويزداد وضوحا مع نضج عقل النجم.
لا يمكن للبشر فهم هذا المبدأ المثالي إلا من خلال تجليه العملي في المبدأ الفيزيائي المشهور والمعروف باسم «مبدأ الفعل الأدنى» وهو أن يتبع الجسم المسار الذي تكون فيه لقوة الجاذبية وغيرها من الظروف أقل تأثير ممكن. أما النجم نفسه، فمن خلال ما له من تأثير على المجال الكهرومغناطيسي للكون، يبدو أنه يرغب في اتخاذ هذا المسار المثالي وينفذ هذه الرغبة بانتباه ودقة في الاستجابة لا يختلفان عما يمارسه أحد السائقين وهو يشق طريقه بحرص بين حركة المرور على طريق متعرج، أو إحدى راقصات الباليه وهي تؤدي أكثر الحركات تعقيدا بأعلى درجات الاقتصاد في المجهود. من شبه المؤكد أن النجم يختبر سلوكه الفيزيائي بأكمله على أنه سعي نحو الجمال الشكلي، ممتلئ بالنعيم والانتشاء ويكلل دائما بالنجاح. وقد تمكنت العوالم العاقلة من اكتشاف هذا الأمر من خلال خبرتها الجمالية الشكلية. واقع الأمر أن هذه الخبرة هي أول ما مكنها من التواصل مع العقول النجمية. غير أن الإدراك الفعلي للصواب الجمالي (أو ربما الديني) للقانون الغامض، والذي تقبلته النجوم بكل حماس، قد ظل بعيدا عن النطاق الذهني للعوالم العاقلة. يمكننا أن نقول إنها اضطرت لتقبله من باب الثقة. من الجلي أن هذا القانون الجمالي كان يرمز من ناحية ما، إلى حدس روحاني قد ظل محتجبا عن العوالم العاقلة.
إن حياة الواحد من النجوم لا تقتصر على الحركة الفيزيائية فحسب، بل هي دون شك على نحو ما حياة ثقافية وروحانية. كل نجم يعي بطريقة ما وجود زملائه من النجوم على أنها كائنات واعية. وهذا الوعي المشترك حدسي وتخاطري على الأرجح، وإن كان من المحتمل أيضا أنه يحظى بدعم مستمر من الاستدلال عن طريق ملاحظة سلوكيات الآخرين. ومن العلاقات النفسية للنجوم، انبثق عالم بأكمله من الخبرات الاجتماعية والذي كان غريبا للغاية على العوالم العاقلة حتى إنه يكاد ألا يكون هناك ما يمكن قوله عنها.
ربما يكون هناك سبب للاعتقاد بأن السلوك الحر للنجم الفردي لا يتحدد بناء على القوانين الصارمة للرقص فحسب، بل يتأسس أيضا على الإرادة الاجتماعية للتعاون مع الآخرين. لا شك بأن العلاقة بين النجوم اجتماعية تماما. لقد ذكرتني بالعلاقة بين العازفين في الفرق الموسيقية الأوركسترالية، لكنها فرقة أوركسترالية تتألف من أفراد يتركز كامل اهتمامهم على المهمة المشتركة. من المحتمل، وليس من المؤكد، أن كل نجم في أدائه لدوره لا يكون مدفوعا بالدافع الجمالي أو الديني الخالص فحسب، بل أيضا بالرغبة في أن يوفر لشركائه فرصة شرعية للتعبير عن الذات. وإذا كان ذلك صحيحا، فإن هذا يعني أن النجم لا يختبر حياته على أنها التنفيذ المثالي للجمال الشكلي فحسب ، بل على أنها أيضا التعبير المثالي عن الحب. بالرغم من ذلك، فلن يكون من الحكمة أن ينسب للنجوم أي عاطفة أو شعور بالصداقة بأي معاني بشرية لهما. إن جل ما يمكن قوله باطمئنان، هو أن إنكار وجود عاطفة تجمع الواحدة منها بالأخرى، سيكون أكثر خطأ من تأكيد أنها قادرة على الحب بالفعل. اقترحت الأبحاث التخاطرية أن خبرة النجوم تختلف في نسيجها قلبا وقالبا عن خبرة العوالم العاقلة. وربما يكون حتى أن ينسب لها القدرة على التفكير أو الرغبة في أي شيء، هو نوع من إضفاء السمات البشرية عليها فحسب. بالرغم من ذلك، فلا يمكن الحديث عن خبرتها بأي مصطلحات أخرى.
من شبه المؤكد أن الحياة الذهنية للنجم هي تقدم من العقلية الطفولية المبهمة إلى الوعي المميز الذي تتسم به مرحلة النضج. والنجوم بأكملها، حديثة وقديمة، تتسم بعقلية «ملائكية»، بمعنى أنها جميعا ترغب بحرية وسعادة في «الإرادة الخيرة» والتي تتمثل في نمط الأفعال الصائبة الذي توصلت له حتى الآن، غير أن النجوم الضخمة قليلة الكثافة، والصغيرة في السن، كانت تبدو بطريقة ما ساذجة من الناحية الروحانية أو طفولية مقارنة بالنجوم المحنكة الأكبر سنا، وإن كانت تؤدي دورها في رقصة المجرة على نحو مثالي؛ ولهذا فبالرغم من عدم وجود شيء كالخطيئة بين النجوم، وليس هناك اختيار متعمد للمسار المعروف بأنه خطأ من أجل تحقيق غاية معروف أنها غير ملائمة، فهناك الجهل وما ينتج عنه من الانحراف عن النمط المثالي مثلما يتجلى للنجوم التي تتسم بعقلية أكثر نضجا بعض الشيء. غير أن الطبقة الأكثر تيقظا من النجوم كانت على ما يبدو تتقبل هذا الانحراف من جانب الصغار؛ إذ كانت ترى أنه هو نفسه من العوامل المرغوبة في نمط الرقص في المجرة. ومن وجهة نظر العلوم الطبيعية كما تعرفها العوالم العاقلة، فإن سلوك النجوم الصغيرة السن يكون على الدوام بالطبع تعبيرا دقيقا عن طبيعتها الشابة، ويكون سلوك النجوم الأكبر سنا تعبيرا عن طبيعتها أيضا. بالرغم من ذلك، فمن أكثر ما يثير الدهشة أن الطبيعة الفيزيائية للنجم في أي مرحلة من مراحل نموه، تكون بصفة جزئية تعبيرا عن التأثير التخاطري لغيره من النجوم. لا يمكن قط الكشف عن هذه الحقيقة من خلال الفيزياء المحضة في أي عصر من العصور؛ إذ يقوم العلماء عن جهل باشتقاق القوانين الفيزيائية الاستقرائية المتعلقة بالتطور النجمي من بيانات تعد في حد ذاتها تعبيرا ليس عن التأثيرات الفيزيائية المعتادة فحسب، بل أيضا عن التأثيرات الفيزيائية غير المعروفة لنجم على آخر.
في العصور المبكرة من الكون، اضطر «الجيل» الأول من النجوم إلى أن يجد طريقه من الطفولة إلى النضج دون مساعدة، أما «الأجيال» اللاحقة فقد أرشدتها خبرة النجوم الأكبر سنا، كي يتسنى لها المرور بسرعة أكبر وعلى نحو شامل أكثر من مرحلة إبهام الوعي إلى صفائه فيما يتعلق بطبيعتها الروحانية، وللكون الروحاني الذي كانت تسكنه. ومن المرجح للغاية أن آخر النجوم التي تكثفت من السديم البدائي، قد تقدمت (أو سوف تتقدم) بسرعة أكبر من تلك التي تقدمت بها سابقاتها، وقد كان الاعتقاد السائد لدى المضيف النجمي أنه في الموعد المناسب، حين تكون النجوم الحديثة قد بلغت مرحلة النضج، فإنها سوف تتفوق على أرقى الرؤى الروحانية التي توصلت إليها النجوم الأكبر سنا منها. ثمة سبب وجيه للقول بأن الرغبتين المهيمنتين لدى كل النجوم هما الرغبة في أداء دورها في الرقصة المشتركة على نحو مثالي، والرغبة في السعي إلى الأمام من أجل الوصول إلى الرؤية الكاملة بشأن طبيعة الكون. كانت الرغبة الأخيرة هي أكثر ما تمكنت العوالم العاقلة من فهمه في العقلية النجمية. تحدث الذروة في حياة النجم حين يكون قد مر بالمرحلة الطويلة من الشباب، والتي يسميه علماء الفلك من البشر خلالها ب «العملاق الأحمر». وقرب نهاية هذه المرحلة، يتضاءل النجم بسرعة إلى حالة القزم التي تمر بها شمسنا الآن. ويبدو أن التغير الفيزيائي العنيف هذا يأتي مصحوبا بتغيرات ذهنية بعيدة الأثر؛ ومن ثم بالرغم من أن النجم يؤدي دورا أقل جاذبية في إيقاعات الرقص في المجرة، فإنه على الأرجح يصبح واعيا على نحو أوضح وأعمق. إنه يصبح أقل اهتماما بشعائر الرقص النجمي، وأكثر اهتماما بدلالته الروحية المفترضة. وبعد هذه المرحلة الطويلة جدا من النضج الفيزيائي، تأتي أزمة أخرى. يتضاءل النجم إلى الحالة المتناهية الدقة والكثافة والتي يدعوها علماؤنا الفلكيون باسم «القزم الأبيض». بدا في أبحاث العوالم العاقلة أن عقلية النجم خلال الأزمة الفعلية منيعة لا يمكن النفاذ إليها. بدا أنها أزمة من اليأس والأمل المعاد توجيهه؛ ومن ثم فقد كان عقل النجم يطرح على نحو متزايد نوعا مربكا وحتى مخيفا من السلبية؛ انعزالا باردا وحتى تشاؤميا، وهو ما شككنا بأنه ليس سوى رهبة من نشوة مخفية عنا. وأيا كان كنه الأمر، يواصل النجم المسن أداء دوره في الرقصة بدقة، لكن مزاجه يتغير على نحو عميق. إن ولع الشباب بالنواحي الجمالية، وإرادة النضج الأكثر هدوءا والمتقدة في الوقت ذاته، وما تشهده مرحلة النضج من تفان في السعي النشط نحو الحكمة، كل ذلك يتلاشى الآن. ربما يكون النجم قد أصبح راضيا في ذلك الوقت عن إنجازه، كما هو عليه، ولا يبغي سوى الاستمتاع بالكون المحيط بهذه الحالة من التجرد والرؤى التي توصل إليها. ربما يكون هذا هو الوضع، لكن العوالم العاقلة لم تستطع الجزم بما إذا كان العقل النجمي المسن يتجاوز فهمها نتيجة لتفوق إنجازه، أم عن اضطراب مبهم في الروح. يظل النجم في هذه الحالة من التقدم في السن لفترة طويلة جدا، يفقد خلالها طاقته تدريجيا وينسحب ذهنيا إلى داخل ذاته، إلى أن يغرق في غيبوبة مستغلقة من الشيخوخة. وأخيرا ينطفئ نوره وتتحلل أنسجته إلى الموت. ومنذ ذلك الوقت يستمر في الانسياب في أنحاء الفضاء، غير أنه يفعل ذلك على نحو غير واع يراه زملاؤه الواعون كريها.
ذلك الوصف التقريبي للغاية، سيبدو أنه وصف للحياة العادية للنجم الاعتيادي، غير أنه توجد تنويعات عديدة داخل النوع العام. إن النجوم تختلف في حجمها الأصلي وفي التركيب، ومن المحتمل أنها تختلف أيضا في تأثيرها النفسي على جيرانها. ومن أكثر الأنواع الغريبة انتشارا، هو نوع النجم المزدوج الذي يتألف من كرتين عظيمتين من النيران تتراقصان معا في الفضاء، وتقتربان من التلامس في بعض الأحيان. وكجميع العلاقات بين النجوم، تكون هذه الشراكات مثالية وملائكية. بالرغم من ذلك، فمن المحال أن نجزم بما إذا كان أفرادها يختبرون أي شيء قد يدعى عن وجه حق، مشاعر الحب الشخصي، أو ما إذا كان ينظر أحدهما إلى الآخر باعتباره شريكا لأداء مهمة مشتركة فحسب. لقد أوضحت الأبحاث بكل تأكيد أن الكائنين يتحركان في مساريهما الملتفين في حالة من السرور المشترك، والسعادة بالتعاون الوثيق في تدابير المجرة، لكن هل هناك مشاعر حب فيما بينهما؟ محال أن نجزم بذلك. في الوقت المناسب، ومع فقدان الزخم، يتلامس النجمان بالفعل. ثم فيما يبدو على أنه وهج موجع من الألم والفرح، يندمجان. وبعد فترة من غياب الوعي، ينتج النجم الجديد الكبير أنسجة حية جديدة، ويتخذ مكانه بين الصحبة الملائكية. وقد ثبت أن النجوم المتغيرة «القيفاوية» الغريبة هي الأكثر إرباكا من بين جميع أنواع النجوم؛ إذ يبدو أن هذه النجوم هي وغيرها من النجوم المتغيرة الأخرى التي تعيش على مدار فترة أطول كثيرا، تتبدل ذهنيا بين الحماس والهدوء، في تناغم مع إيقاعها الفيزيائي. أما ما يتعدى ذلك، فهو مما لا يمكننا الجزم به على الإطلاق.
ثمة حدث واحد لا يقع إلا لأقلية صغيرة من النجوم في مسار حياة الرقص التي تعيشها، يتمتع بأهمية نفسية كبيرة على ما يبدو. وهو يتمثل في الاقتراب الشديد لنجمين أو ربما ثلاثة بعضها من بعض، وما يتبع ذلك من قذف للشرر من أحدها تجاه الآخر. في هذه اللحظة الشبيهة ب «قبلة الفراشة» هذه، وقبل تفكك الشرر وميلاد الكواكب، فإن كل نجم يختبر على الأرجح شعورا بانتشاء مادي شديد القوة لكن يعجز البشر عن فهمه. ويبدو أن النجوم التي تمر بهذه التجربة يفترض أنها تكتسب إدراكا واضحا بدرجة فريدة لاتحاد الروح والجسد. أما النجوم «البكر» فبالرغم من أنها لم تنعم بهذه المغامرة الرائعة، فلا يبدو أنها ترغب في الإخلال بقوانين الرقص المقدسة من أجل تدبير فرص لمثل هذه اللقاءات. كل منها يتمتع برضا ملائكي فيما يتعلق بأداء دوره المخصص، ومشاهدة انتشاء هذه النجوم التي فضلها القدر. لا شك بأن وصف عقلية النجوم هو وصف ما لا يمكن فهمه باستخدام الاستعارات البشرية التي يمكن فهمها لكنها تزيف الحقيقة. وتتخذ هذه النزعة أهمية كبيرة في وصف العلاقات الدرامية بين النجوم وبين العوالم العاقلة؛ إذ يبدو أنه تحت تأثير هذه العلاقات، اختبرت النجوم للمرة الأولى مشاعر تشبه المشاعر البشرية على نحو سطحي. وما دام المجتمع النجمي كان محصنا من تدخل العوالم العاقلة، ظل كل فرد فيه يتصرف باستقامة تامة ويحظى بنعيم تام في التعبير المثالي عن طبيعته وعن الروح المشتركة. حتى الشيخوخة والموت كانا يقبلان بهدوء؛ إذ كانت جميع النجوم ترى أنهما جوهريان في نمط الوجود، وما كان يرغب فيه كل نجم، لم يكن الخلود لا لنفسه ولا للمجتمع، بل التحقق المثالي للطبيعة النجمية. غير أنه في النهاية حين بدأت العوالم العاقلة من كواكبها في أن تتدخل على نحو ملحوظ في طاقة النجوم وحركتها، دخل على الأرجح إلى خبرات النجوم شيء جديد وفظيع وعلى درجة كبيرة من الإبهام والتعقيد. وجدت النجوم المصابة نفسها في صراع عقلي مشتت. فلسبب لم تستطع تحديده وجدت نفسها تخطئ، بل وجدت أنها ترغب في أن تخطئ. لقد أذنبت في واقع الأمر. وبالرغم من أنها كانت ما تزال تعشق الصواب، كانت تختار الخطأ.
قلت إن الخطب لم يكن مسبوقا، غير أن ذلك ليس صحيحا تماما. يبدو أن شيئا لا يختلف كليا عن ذلك الخزي العام قد حدث في الخبرة الخصوصية تقريبا لكل نجم من النجوم. غير أن كل من كان يعاني قد نجح في الاحتفاظ بخزيه سرا إلى أن يصبح محتملا مع الاعتياد أو ينجح النجم في التغلب على مصدره. وقد كان من المدهش بالطبع أن نجد كائنات تختلف طبيعتها للغاية في العديد من الجوانب عن الطبيعة البشرية ولا يمكن فهمها، تشبه «البشر» بدرجة صارخة في هذا الجانب على الأقل.
في الطبقات الخارجية للنجوم الصغيرة السن، دائما ما تظهر كائنات دقيقة مستقلة من النيران، وهي لا تظهر على النحو المعتاد فحسب، بل تظهر أيضا على شكل طفيليات. ولا يزيد حجم هذه الكائنات في معظم الأحيان عن حجم غيمة في الهواء الأرضي، لكنها تبلغ حجم الأرض نفسها في بعض الأحيان. تتغذى هذه «السمادل» على الطاقات المتدفقة من النجم مثلما تتغذى عليها أنسجة النجم الأساسية نفسها، أو تتغذى ببساطة على هذه الأنسجة مباشرة. وككل مكان آخر، تنطبق قوانين التطور البيولوجي هنا أيضا، وقد تظهر بمرور الوقت سلالات من الكائنات الذكية الشبيهة باللهب. وحتى مع عدم وصول الحياة السمدلية إلى هذا المستوى، كان من الممكن أن يبدو أثرها على أنسجة النجم على هيئة مرض في البشرة وأعضاء الحس أو حتى في الأنسجة الأعمق خاصتها. يبدأ النجم بعد ذلك في اختبار مشاعر لا تختلف عن المشاعر البشرية من الخزي والذعر، وبقلق وصبغة شديدة الشبه بالطبيعة البشرية، يخفي سره عن المتناول التخاطري لرفاقه.
لم تتمكن السلالات السمدلية على الإطلاق من سيادة عوالمها المتقدة باللهب. إن العديد منها كان يخضع بعد وقت طال أو قصر إما إلى كارثة طبيعية أو إلى صراع داخلي ضروس أو إلى أنشطة التطهير الذاتي التي يقوم بها مضيفها القوي. على الجانب الآخر، كان ينجو البعض منها، لكن يتسبب في حالة أقل خطرا نسبيا؛ فلا يزعج النجوم إلا بتهيج خفيف ومسحة طفيفة من عدم الصدق في جميع تعاملاتها بعضها مع بعض. كانت الثقافة العامة للنجوم تتجاهل الآفة السمدلية تماما. لقد كان كل نجم يعتقد أنه هو وحده من يعاني وأنه الآثم الوحيد في المجرة. وقد كان للآفة تأثير واحد غير مباشر على التفكير النجمي، وهو أنها قدمت له فكرة النقاء؛ فقد صار كل نجم يعلي من قيمة مثالية المجتمع النجمي بدرجة أكبر بسبب شعوره السري بعدم النقاء.
حين بدأت الكواكب العاقلة تتلاعب بالطاقة النجمية وبالمدارات النجمية على نحو خطير، لم تكن النتيجة خزيا خاصا، بل فضيحة علنية. لقد صار من الواضح لدى جميع الملاحظين أن الجاني قد انتهك قوانين الرقص. قوبلت الاضطرابات الأولى بالارتباك والرعب. وانتشر بين جموع النجوم البكر أنه إذا كانت نتيجة الصلات بين النجوم، والتي هي مقدرة بشدة والتي انبثقت منها الكواكب الطبيعية، هي هذا الشذوذ المخزي، فربما كانت التجربة الأصلية نفسها آثمة إذن. اعترضت النجوم المخطئة بأنها ليست آثمة وإنما ضحية لتأثير مجهول من الحبات التي تدور حولها. غير أنها كانت تشك بنفسها سرا. أيمكن أن تكون منذ زمن بعيد، في نشوة اجتياح نجم لنجم آخر، قد انتهكت في نهاية الأمر قانون الرقص؟ وقد اعتقدت أيضا أنها كانت تستطيع أن تفعل شيئا بخصوص هذه الانحرافات التي كانت تخلق الآن هذه الفضيحة العلنية، كانت تستطيع إذا أصرت على رغبتها بالدرجة الكافية، أن تتمالك نفسها وتحافظ على مساراتها الحقيقية بالرغم من المهيجات التي أثرت فيها.
في هذه الأثناء، زادت قوة العوالم العاقلة. وراحت بجرأة توجه الشموس لتناسب أغراضها. وقد بدا للشعب النجمي بالطبع أن هذه النجوم المخطئة مجاذيب خطرين. حلت الأزمة مثلما قلت بالفعل، حين قذفت العوالم بأول رسول لها باتجاه المجرة المجاورة. ارتعب النجم المندفع من سلوكه الجنوني؛ فانتقم بالطريقة الوحيدة التي يعرفها. لقد انفجر إلى حالة «المستعر» ونجح في تدمير كواكبه. من وجهة النظر النجمية التقليدية، كان هذا التصرف إثما عظيما؛ إذ كان تدخلا أثيما في النظام الإلهي المعد لحياة النجوم. بالرغم من ذلك، فقد كان يحقق الغاية المطلوبة، وسرعان ما تبنته النجوم اليائسة الأخرى. أتى من بعد ذلك عصر الهلع الذي قد وصفته من قبل من وجهة نظر اتحاد العوالم. ولم يكن الأمر بأقل بشاعة من وجهة النظر النجمية؛ فسرعان ما صارت حالة المجتمع النجمي ميئوسا منها. لقد ضاع ما كان في الأيام الخوالي من مثالية وسعادة. وتفككت «مدينة الإله» وتحولت إلى مكان للكراهية وتبادل الاتهامات واليأس. وصارت حشود النجوم الحديثة السن أقزاما مبتسرة حانقة، بينما أصيب معظم الكبار بالخرف. تحول نمط الرقص إلى الفوضى. ظل الشغف القديم تجاه قوانين الرقص موجودا، غير أن مفهومها كان ضبابيا. أذعنت لحياة الروحانية إلى الضرورة المتمثلة في الإجراءات العاجلة. ظل الشغف بتكوين رؤى بشأن طبيعة الكون قائما أيضا، غير أن الرؤى نفسها قد صارت ضبابية. علاوة على ذلك، تلاشى الشعور الساذج السابق بالثقة الذي كان يشعر به الصغار والناضجون على حد سواء، ذلك اليقين بأن الكون مثالي وأن القوة التي تكمن خلفه هي قوة فاضلة، وحل محله اليأس. (4) التكافل المجري
كانت تلك هي حالة الأمور حين حاولت العوالم العاقلة للمرة الأولى أن تقوم باتصال تخاطري مع النجوم العاقلة. ولست في حاجة لأن أروي المراحل التي تطور مجرد الاتصال من خلالها إلى نوع متزعزع وواه من التواصل. لا بد أن النجوم قد بدأت تدرك بمرور الوقت أنها ليست في مواجهة مع قوى فيزيائية فحسب، ولا هي في مواجهة مع شياطين بعد، بل هي في مواجهة مع كائنات، بالرغم مما يكمن في طبيعتها من غرابة شديدة، تتشابه في صميمها مع طبيعتها النجمية. شعر بحثنا التخاطري على نحو غامض بالدهشة التي انتشرت بين الشعب النجمي. وبدا أنه انبثق منها تدريجيا رأيان أو سياستان أو حزبان.
كان أحد هذين الحزبين مقتنعا بأن الكواكب العاقلة مخادعة بالتأكيد، وأن الكائنات التي يتجسد تاريخها في الإثم والصراع والقتل لا بد وأن تكون شيطانية الجوهر، وأن التفاوض معها سيؤدي إلى كارثة. وقد حث هذا الحزب والذي كان يمثل الأغلبية في البداية، على مواصلة الحرب إلى أن يتم تدمير كل الكواكب.
أما الحزب الذي كان يمثل الأقلية فقد كان يطالب بالسلام. وأكد أن الكواكب كانت تسعى بطريقتها الخاصة إلى الهدف نفسه الذي تسعى إليه النجوم. لقد اقترح أيضا أن هذه الكائنات الدقيقة بخبرتها الأكثر تنوعا وطول عهدها في التعامل مع الشر، يمكن أن تتمتع ببعض الرؤى التي تفتقر إليها النجوم، تلك الملائكة الساقطة. ألا يمكن أن يخلق هذان النوعان من الكائنات معا مجتمعا تكافليا مجيدا، ويحققا معا تلك الغاية الأعز لديهما، وهي اليقظة الكاملة للروح؟ مر وقت طويل إلى أن استمعت الأغلبية إلى هذا الرأي. استمر الدمار وأهدرت الطاقات الثمينة الموجودة في المجرة. ودمرت أنظمة العوالم الواحد تلو الآخر. سقط النجم تلو الآخر في هوة الفناء والسبات. في هذه الأثناء، تبنى اتحاد العوالم موقفا سلميا؛ فما عاد يستغل الطاقة النجمية أو يغير المدارات النجمية أو يفجر النجوم على نحو اصطناعي.
بدأ الرأي النجمي في التغير. هدأت حملة الإبادة وتم التخلي عنها. تلا ذلك فترة من «الانعزالية» تركت فيها النجوم، التي قد عزمت على جمع شتات مجتمعها المبعثر، أعداءها السابقين بمفردهم. وتدريجيا، بدأت محاولة تدريجية للمؤاخاة بين الكواكب وشموسها. وبالرغم من أن كلا النوعين من الكائنات كان كل منهما مختلفا للغاية عن الآخر، حتى إنهما لم يتمكنا من فهم السمات المميزة لكل منهما على الإطلاق؛ فقد كانا يتمتعان بدرجة عالية من صفاء الوعي تقيهما من الانخراط في العواطف القبلية المحضة. لقد قررا التغلب على جميع المعوقات وأن يدخلا إلى نوع جديد من الاتحاد. وسرعان ما أصبحت رغبة كل نجم هي أن يطوق بالكواكب الاصطناعية وأن يدخل في نوع من شراكة «الاتحاد النفسي» مع رفاقه الذين يطوقونه؛ إذ كان قد اتضح الآن للنجوم أن «الآفات» كان لديها الكثير الذي يمكن أن تعطيه إياها. كانت خبرة كل من نوعي الكائنات مكملة لخبرة الآخر من نواح عديدة. كانت النجوم ما تزال تحتفظ بفحوى الحكمة الملائكية التي بلغتها في عصرها الذهبي. في حين برعت الكواكب في الجانب التحليلي والمجهري وفي الإحسان الذي اكتسبته من معرفتها بأسلافها الضعاف الذين اختبروا المعاناة. علاوة على ذلك، كانت النجوم في أشد حالات الحيرة من قدرة رفاقها الضئيلة على أن يتقبلوا كونا من الواضح أنه ممتلئ بالشر، ليس باستسلام فحسب، بل ببهجة أيضا.
في الوقت المناسب، ضم المجتمع التكافلي من النجوم والأنظمة الكوكبية المجرة بأكملها. غير أنه كان مجتمعا جريحا في بداية الأمر، وصارت المجرة مسلوبة الخصوبة إلى الأبد. لم يتبق من ملايين الملايين من النجوم الموجودة فيها، سوى قلة فقط هي التي لا تزال في أوجها. صارت جميع الشموس الممكنة مطوقة بالكواكب. وحفزت العديد من النجوم الميتة على تفكيك ذراتها لبناء شموس اصطناعية. واستخدم العديد غيرها على نحو أكثر اقتصادية. وتمت تربية سلالات خاصة من الكائنات الذكية أو صنعت لكي تسكن أسطح هذه العوالم العظيمة. وبعد فترة قصيرة، صارت النجوم التي انفجرت من قبل تعج بشعوب تنتمي إلى عدد لا يحصى من الأنواع والتي قد أنشأت حضارة صارمة. عاشت هذه الشعوب على طاقة البراكين الموجودة في عوالمها الضخمة. راحت الكائنات الدقيقة المصممة بالطرق الاصطناعية، والشبيهة بالديدان تزحف بدأب على السهول حيث لم تكن الجاذبية الشديدة تسمح حتى لحجر بأن يرتفع عن المستوى العام. لقد كانت الجاذبية عنيفة للغاية بالتأكيد، حتى إن الأجساد الصغيرة لهذه الديدان كان من الممكن أن تتمزق عند سقوطها لمسافة نصف بوصة فحسب. وفيما عدا الإضاءة الاصطناعية، عاش سكان العوالم النجمية في ظلام أبدي لا يخفف منه سوى ضوء النجوم، ووهج الثورانات البركانية والوميض الفسفوري المنبعث من أجسادها. قادتها حفاراتها تحت الأرضية إلى مراكز البناء الضوئي الشاسعة التي حولت الطاقة الحبيسة داخل النجوم إلى استخدامات الحياة والعقل. لم يكن الذكاء في هذه العوالم الضخمة خاصية الأفراد المنفصلين بالتأكيد، بل خاصية الحشود العاقلة. وكما هي الحال لدى السلالة الحشرية، حين كانت هذه الكائنات الضئيلة تنفصل عن الحشد، تصبح حيوانات غريزية فحسب، لا تدفعها سوى رغبتها العارمة في العودة إلى الحشد.
لم تكن الحاجة إلى إعمار النجوم الميتة بالسكان لتنشأ لولا أن الحرب قد قلصت على نحو خطير من عدد الكواكب العاقلة وعدد الشموس التي يمكن أن تضم أنظمة كوكبية جديدة إلى الحد الأدنى اللازم لتوفير حياة مشتركة بكامل تنوعها. لقد كان اتحاد العوالم وحدة منظمة بدقة كان لكل عنصر فيها وظيفته الخاصة، ولما لم يكن من الممكن إعادة العوالم المفقودة، فقد كان من الضروري إنتاج عوالم جديدة لتعيض عنها في تأدية الوظائف، وإن كان ذلك بدرجة تقريبية على الأقل.
وتدريجيا تغلب المجتمع التكافلي على الصعوبات الضخمة التي واجهها في إعادة التنظيم وبدأ يوجه انتباهه إلى السعي نحو تلك الغاية التي هي الغاية النهائية لجميع العقول اليقظة، وهي الهدف الذي تناصره حتما وبكل سرور لأنه كامن في طبيعتها الجوهرية. ومنذ ذلك الوقت، منح المجتمع التكافلي كامل انتباهه وأفضله إلى تحقيق أعلى درجة من يقظة الروح.
غير أن هذه الغاية التي كانت الصحبة الملائكية من النجوم واتحاد العوالم الطموح يأملان في تحقيقها في الماضي على مستوى الكون بأكمله لا على مستوى المجرة فحسب، قد بدأت تقل أهميتها. لقد أدركت النجوم والعوالم أن الحشد الكوني من المجرات يقترب من نهايته، لا المجرة الأم لهما وحدها. إن الطاقة الفيزيائية التي كانت ترى من قبل على أنها مخزون لا ينضب، صار توفرها يقل للحفاظ على الحياة. لقد كانت على نحو متزايد توزع نفسها بالتساوي على الكون بأكمله. ولم تتمكن الكائنات العاقلة من كبح نقصانها إلا بين الحين والآخر وبصعوبة. وسرعان ما سيتحول الكون إلى الشيخوخة الفيزيائية؛ لذا كان لا بد من التخلي عن جميع الخطط الطموحة. لم يعد أمر السفر المادي بين المجرات مطروحا؛ فتلك المشروعات سوف تستهلك الكثير من القدر الضئيل الذي تبقى من الثروة بعد إسراف الدهور السابقة. تخلت العوالم أيضا عن التنقل غير الضروري داخل المجرة نفسها. وظلت العوالم على مقربة من شموسها، وراحت الشموس تبرد على نحو مستمر، وكلما زادت برودتها، قلصت العوالم التي تدور حولها من مداراتها للحصول على الدفء.
وبالرغم من الفقر الفيزيائي للمجرة، فقد كانت طوباوية من نواحي عدة. كان المجتمع التكافلي المؤلف من النجوم والعوالم يعيش في تناغم مثالي. صار الصراع بين النوعين ذكرى من الماضي البعيد، وأصبح ولاؤهما بالكامل للهدف المشترك. لقد عاشا حياتهما الخاصة في تعاون حيوي وخلافات ودية ومنفعة متبادلة. وقام كل بدوره في استكشاف الكون وفهمه وفقا لقدراته. كانت النجوم الآن تحتضر بسرعة أكبر مما كانت تفعل من قبل؛ إذ أصبح الجمع الكبير من النجوم الناضجة حشدا من الأقزام البيضاء العجز. وعند موتها، كانت تهب أجسادها لخدمة المجتمع، لاستخدامها كمستودعات للطاقة دون الذرية، أو كشموس صناعية أو حتى عوالم مأهولة بالشعوب الذكية من الديدان. صارت العديد من الأنظمة الكوكبية تتمركز الآن حول شموس صناعية. كان هذا البديل كافيا من الناحية المادية، غير أن الكائنات التي صارت تعتمد ذهنيا على الشراكة مع نجم حي كانت تنظر إلى الشموس الصناعية التي هي أفران فحسب، بقنوط ويأس. ولما كانت الكواكب تتوقع تبدد النظام التكافلي على مستوى المجرة، فقد راحت تبذل كل ما في وسعها كي تستوعب الحكمة الملائكية للنجوم. بالرغم من ذلك، فبعد بضعة دهور فحسب، اضطرت الكواكب نفسها إلى أن تبدأ في تقليص عددها. لم يعد بإمكان العوالم الكثيرة أن تحتشد على مقربة كافية من شموسها الآخذة في البرودة. وسرعان ما ستبدأ القوة الذهنية للمجرة في الذبول لا محالة، بعد أن كانت قد تمكنت حتى الآن من الحفاظ على وجودها في أعلى المستويات.
غير أن مزاج المجرة لم يكن حزينا، بل مبتهجا. كان التكافل قد حسن من فن التبادل التخاطري بدرجة كبيرة، وأخيرا صارت أنواع الروح المتعددة التي تؤلف مجتمع المجرة ترتبط ارتباطا وثيقا في الرؤية المشتركة؛ فانبثق من تنوعها المتناغم عقل حقيقي للمجرة تفوق مستواه الذهني على عقل النجوم والعوالم بالدرجة التي تفوق بها عقل هذين النوعين على عقل الأفراد منهما.
أما عقل المجرة، والذي لم يكن سوى عقل كل فرد من النجوم والعوالم والكائنات الدقيقة التي تسكنها، والذي تمتع من كل هذا بالثراء واليقظة إلى مستوى أرقى من البصيرة، فقد رأى أن لم يتبق لديه سوى وقت قصير يعيشه. وإذ راح ينظر إلى الماضي ويراجع تاريخ المجرة عبر العصور، وعبر الآفاق الزمنية المكتظة بالشعوب المتعاونة المتنوعة، رأى أنه هو نفسه نتاج عدد لا يحصى من الصراعات والأحزان والآمال الخائبة. وقد واجه جميع الأرواح المعذبة في الماضي بابتسامة الرضا، لا بالشفقة ولا بالندم، فكان شعوره في ذلك شبيها بما قد يشعر به المرء تجاه محن طفولته. وقد قال داخل عقل كل فرد من أفراده: «إن شقاءها الذي بدا لها شرا عقيما هو الثمن الضئيل لمستقبلي الآتي. صائب وعذب وجميل هو الكيان الذي تحدث فيه هذه الأشياء؛ فأنا الفردوس الذي يجد فيه جميع أسلافي على اختلافهم الثواب، وتتحقق فيه رغبة قلوبهم. وفي الوقت القليل الذي يتبقى لي، سأسعى أنا وجميع رفاقي في الكون بأكمله لكي نتوج الكون بالرؤية المثالية البهيجة، ونسبح صانع المجرات والنجوم والعوالم بما يليق به من حمد.»
الفصل الثاني عشر
روح كونية ناقصة
حين تمكنت مجرتنا أخيرا من القيام باستكشاف تخاطري كامل لكون المجرات، اكتشفت أن حالة الحياة في الكون متداعية. عدد قليل فقط من المجرات هو الذي كان في شبابه، وكان معظمها قد تخطى أوجه منذ زمن بعيد. كان عدد النجوم الميتة المعتمة يفوق عدد النجوم الحية المضيئة بدرجة كبيرة في جميع أنحاء الكون. كان الصراع بين النجوم والعوالم في العديد من المجرات أشد فداحة مما كان عليه في مجرتنا؛ فلم يتحقق السلام إلا بعد أن تداعى كلا الجانبين بما يتجاوز الأمل في التعافي. بالرغم من ذلك، ففي معظم المجرات الأصغر سنا، لم يكن هذا الصراع قد ظهر بعد، وقد كانت هناك جهود تبذل بالفعل من جانب أكثر الأرواح المجرية يقظة من أجل أن تعرف المجتمعات النجمية والكوكبية الكثير عن بعضهما البعض قبل أن يندفعا إلى الصراع.
كانت الروح المشتركة لمجرتنا قد انضمت الآن إلى الزمرة الصغيرة المؤلفة من الكائنات الأكثر يقظة في الكون، تلك العصبة المتشرذمة من الأرواح المجرية المتقدمة والتي كان هدفها أن تخلق مجتمعا كونيا حقيقيا له عقل واحد يشكل روحا مشتركة تتألف من عوالمه الكثيرة المتنوعة، وأنواع ذكائه الفردية. وبهذا فقد كانت تأمل في اكتساب قوى البصيرة والإبداع التي لا يمكن تحقيقها على مستوى المجرة فحسب.
بفرح عظيم، وجدنا أنفسنا الآن، نحن المستكشفين الكونيين الذين كنا قد جمعنا بالفعل في العقل المشترك لمجرتنا، في اتحاد حميمي مع مجموعة من العقول المجرية الأخرى. كنا نختبر الآن، أو بالأحرى كنت أختبر الآن، الانسياب البطيء للمجرات على نحو شديد الشبه بما يشعر به المرء عند تأرجح أطرافه. من مجموعة نقاط المراقبة التي أشغلها، شاهدت العواصف الثلجية العظيمة في ملايين المجرات وهي تتدفق وتدور وتستمر في الابتعاد بعضها عن بعض في «تمدد» لا يهدأ للفضاء. وبالرغم من أن اتساع الفضاء كان يزداد مقارنة بحجم المجرات والنجوم والعوالم، فإنه لم يبد لي وأنا في جسدي المركب المتناثر في الفضاء بأكبر من قاعة مقببة كبيرة.
تغير شعوري بالزمن أيضا؛ فمثلما حدث قبل ذلك، صارت الدهور الآن تبدو وجيزة للغاية كالدقائق. تصورت حياة الكون بأكملها لا على أنها رحلة طويلة وبطيئة بشدة تمتد من مصدر بعيد ومبهم إلى أبدية مجيدة أكثر بعدا، بل بدت لي على أنها سباق قصير، بائس ومتهور، ضد الزمن الراكض.
وإذ صرت في مواجهة المجرات المتخلفة العديدة، شعرت بأنني ذكاء وحيد في برية من الهمج والوحوش. الآن قد أطبق علي لغز الوجود وعبثه والرعب منه بقسوة شديدة. لقد بدا لي، أنا روح تلك الفرقة الصغيرة من المجرات المتيقظة، والمحاطة في آخر أيام الكون بالحشود غير المتيقظة المحكوم عليها بالهلاك، أنه ما من أمل في تحقيق أي انتصار في أي مكان آخر. فقد هيئ لي أنني قد اطلعت على حدود الكون بأكمله؛ فلا يمكن أن يكون هناك من «مكان آخر». كنت أعرف إجمالي المادة الكونية على وجه التحديد. وبالرغم من أن «تمدد» الفضاء كان يسحب معظم المجرات بعيدا بعضها عن بعض بالفعل بسرعة كبيرة تفوق قدرة الضوء على رأب الصدع، فقد أبقاني الاستكشاف التخاطري على اتصال مع حدود الكون بأكمله. كان العديد من أعضائي قد تفرق بعضها عن بعض من الناحية المادية بفعل الفجوة المنيعة التي خلقها «التمدد» المتواصل، غير أنها كانت ما تزال في اتحاد تخاطري.
الآن قد بدوت لنفسي، أنا العقل المشترك لمجموعة من المجرات، على أنني العقل العقيم المعاق للكون نفسه. لا بد أن الكون الشاسع الذي دعمني قد تمدد ليحتضن الوجود بأكمله. ولا بد أن عقل الكون الكامل اليقظة في ذروة التاريخ الكوني قد بلغ المستوى الأعلى من المعرفة والعبادة. غير أن ذلك لم يحدث؛ فحتى الآن في هذه المرحلة المتأخرة من الكون، حين كانت القدرة الفيزيائية قد استنفدت بأكملها تقريبا، كنت قد وصلت إلى مرحلة متواضعة من النمو الروحاني فحسب. كنت ما أزال يافعا من الناحية الذهنية، غير أن جسدي الكوني كان قد بدأ في التداعي بالفعل. كنت كجنين يعاني في البيضة الكونية، وكان صفار البيضة يتداعى بالفعل.
وإذ رحت أنظر إلى الماضي في آفاق الدهور، صار انبهاري بطول الرحلة التي قادتني إلى حالتي الحالية أقل من انبهاري بسرعتها وارتباكها، بل حتى بقصرها. اطلعت على أول العصور قبل أن تولد النجوم، بل قبل أن تتشكل السدم من الفوضى، غير أنني ظللت عاجزا عن رؤية أي مصدر واضح، ولم أر غير لغز مبهم بقدر إبهام أي لغز يواجه سكان الأرض الضئال.
وبالمثل، حين حاولت سبر أغوار وجودي، وجدت لغزا مستغلقا. وبالرغم من أن وعيي بذاتي كان متيقظا إلى درجة تتجاوز مستوى الوعي الذاتي لدى البشر بمقدار ثلاثة أضعاف؛ إذ تيقظ من مستوى العقل الفردي إلى مستوى العقل العالمي ثم إلى العقل المجري ومنه إلى العقل الكوني العقيم، فقد كان جوهر طبيعتي غامضا.
بالرغم من أن عقلي كان يجمع الآن حكمة كل العوالم في كل العصور، وبالرغم من أن حياة جسدي الكوني نفسها كانت حياة مجموعات لا نهائية التنوع من العوالم، ومجموعات من الكائنات الفردية الذين يتسمون بتنوع لا نهائي، وبالرغم من أن نسيج حياتي اليومية كان يتمثل في مغامرة مبهجة ومبتكرة، فإن هذا كله لم يكن يمثل أي شيء؛ فمن حولي كانت تقبع مجموعة المجرات غير الناجحة، وحتى جسدي نفسه كان قد صار هزيلا للغاية نتيجة لموت نجومي، وكانت الدهور تمر بي بسرعة قاتلة. لا بد أن نسيج عقلي الكوني سيتحلل سريعا، وسوف أسقط بعدها لا محالة عن حالة الصفاء العقلي التي أعتز بها وإن لم تكن مثالية، وعندها سأهبط عبر جميع مراحل الطفولة الثانية للعقل، إلى الموت الكوني.
كان من الغريب للغاية أنني، أنا الذي كنت أعرف الحدود الكاملة للزمان والمكان، وكنت أعد النجوم الطوافة كالأغنام دون أن أغفل أيا منها، أنا الأكثر تيقظا من بين الكائنات، أنا المجد الذي أعطت الحشود الغفيرة في جميع العصور حيواتها لتحقيقه، وعبدته حشود غفيرة؛ أنظر الآن حولي بتلك الرهبة الطاغية نفسها، وذلك التعبد المرتبك الذي يعقد الألسن، والذي يشعر به البشر المسافرون في الصحراء تحت النجوم.
الفصل الثالث عشر
البداية والنهاية
(1) عودة إلى السدم
بينما كانت المجرات اليقظة تسعى إلى تحقيق الاستفادة الكاملة من المرحلة الأخيرة من صفاء وعيها، وبينما كنت - أنا العقل الكوني المعيب - أسعى إلى ذلك أيضا، بدأت أمر بتجربة جديدة وغريبة. بدا أنني كنت أتعثر تخاطريا بكائن أو كائنات من رتبة لم أستطع أن أفهمها في بداية الأمر.
افترضت في البداية أنني قد تواصلت عن غير قصد مع كائنات من الرتبة دون البشرية في العصر البدائي على أحد الكواكب الطبيعية؛ فربما تواصلت مع كائنات أميبية دقيقة دنيا تطفو في بحر أولي. لم أكن واعيا بأي شيء سوى مشاعر الشغف الصريحة للجسد؛ كالتلهف على امتصاص الطاقة الفيزيائية للحفاظ على الحياة، والتلهف على الحركة والتواصل، والتلهف على الحصول على الضوء والدفء.
رحت أدفع عني هذه الأشياء التافهة على عجل، غير أنها ظلت تطاردني وتصبح أكثر توغلا ووضوحا. وتدريجيا راحت تتحلى بعنفوان مادي شديد وثقة إلهية لم تتمتع بها أي من الأرواح على مر العصور منذ أن ظهرت النجوم.
لن أذكر المراحل التي عرفت من خلالها أخيرا معنى هذه التجربة. لقد اكتشفت تدريجيا أنني لم أتواصل مع كائنات دقيقة ولا حتى مع عقول عالمية أو نجمية أو مجرية، بل مع عقول السدم العظيمة قبل أن تتحلل مادتها إلى نجوم لتكون المجرات.
صرت الآن قادرا على تتبع تاريخها منذ أن تيقظت للمرة الأولى، حين كانت توجد على هيئة غيوم منفصلة من الغازات، تطير بعيدا بعضها عن بعض بعد فعل الخلق الانفجاري، حتى الوقت الذي سقطت فيه في الشيخوخة والموت حين ولدت حشود النجوم من مادتها.
في مرحلتها الأولى، حين كانت هي الغيوم الأقل كثافة من الناحية الفيزيائية، لم تكن عقليتها بأكثر من اشتهاء مبهم للحركة وإدراك فاتر للاحتقان الطفيف للغاية في مادتها الفارغة. شاهدتها وهي تتكثف إلى كرات متماسكة ذات معالم أكثر تحديدا ثم إلى أقراص عدسية الشكل تظهر عليها خطوط براقة وصدوع قاتمة. ومع تكثف هذه الكرات، اكتسب كل منها قدرا أكبر من الترابط، وصار تركيبها أكثر تناغما. وبالرغم من أن الاحتقان كان طفيفا للغاية، فقد جلب قدرا أكبر من التأثير المتبادل على ذراتها والتي لم تكن قد أصبحت متراصة مقارنة بحجمها كالنجوم الموجودة في الفضاء. كل سديم قد صار الآن تجمعا كبيرا من الإشعاع الخافت؛ نظاما واحدا من الموجات الشاملة النفاذ والتي تنتشر من ذرة إلى ذرة.
وعلى المستوى الذهني، بدأت هذه الوحوش العظيمة، هؤلاء الجبابرة الأميبيون، في أن تتيقظ الآن على حالة غامضة من وحدة الخبرة. وفقا للمعايير البشرية، بل حتى وفقا لمعايير العقول العالمية والنجمية، كانت خبرة السدم بطيئة الحركة على نحو لا يصدق؛ فنظرا لأحجامها العملاقة، وبطء مرور التموجات التي كانت ترتبط بوعيها من الناحية الفيزيائية، كانت تشعر بالألف عام كأنها لحظة فحسب. أما الفترات التي يدعوها البشر بالحقب البيولوجية، والتي تتضمن ظهور أنواع واندثار أخرى، فقد كانت تشعر بها مثلما نشعر نحن بالساعات.
كل من هذه السدم العظيمة كان يدرك وجود جسده العدسي الشكل على أنه كتلة واحدة محتشدة بالتيارات الوخازة. كل منها كان يشتهي استغلال قدراته الطبيعية، والتخلص من ضغط الطاقة الفيزيائية التي تتدفق داخله بهدوء، وكذلك التعبير الحر عن جميع قدراته في الحركة، وكان يشتهي أيضا شيئا أكثر من ذلك.
بالرغم من أن هذه الكائنات الأولية كانت تتشابه في طبيعتها المادية والذهنية على نحو غريب مع الكائنات الأولية الدقيقة التي كانت تعيش على الكواكب، فقد كانت تختلف عنها اختلافا بارزا في الوقت نفسه؛ أو لنقل على الأقل إنها كانت تتميز بسمة، حتى أنا، العقل الكوني البدائي، قد أغفلتها في الكائنات الدقيقة. وقد كانت تلك السمة هي نوع من الإرادة أو الرغبة التي لا يمكن أن أصفها إلا بالاستعارات العرجاء.
بالرغم من أن هذه الكائنات كانت في أفضل أحوالها بسيطة للغاية من الناحيتين الفيزيائية والفكرية، فقد كانت تتمتع بهبة أجد نفسي مضطرا إلى وصفها بأنها وعي ديني بدائي لكنه قوي. لقد كانت تحكم هذه الكائنات رغبتان كلتاهما دينية الجوهر. كانت ترغب في الاتحاد بعضها مع بعض، أو تشعر بالأحرى بدافع أعمى تجاه ذلك، وكانت تشعر أيضا بتوق قوي أعمى إلى أن تجتمع مرة أخرى في المصدر الذي جاءت منه.
كان الكون الذي تسكنه بالطبع بسيطا للغاية، بل كون قد أصابه الفقر. وقد كان صغيرا أيضا للغاية بالنسبة إليها. كان كل سديم منها يرى أن الكون يتألف من شيئين هما: جسد السديم نفسه، الذي كان عديم الملامح، وأجساد السدم الأخرى. في هذه المرحلة المبكرة للغاية من الكون، كانت السدم توجد على مقربة كبيرة بعضها من بعض؛ إذ كان حجم الكون في هذه المرحلة صغيرا بالنسبة إلى أجزائه، سواء أكانت السدم أو الإلكترونات. السدم التي قد صارت في عصر الإنسان في حجم الطيور في السماء على أكثر تقدير، كانت مقيدة في ذلك العصر وكأنها داخل قفص ضيق؛ ولهذا فقد كان لكل منها تأثير بارز على رفاقه. ومع زيادة التنظيم وتماسك الوحدة المادية في كل منها، صارت تميز بصورة أسرع بين نمطها الموجي الأصلي وبين الأنماط الشاذة التي يفرضها جيرانها على ذلك النمط. ومن خلال نزعة قد غرست فيها عند انبثاقها من الغيمة السلف المشتركة، كان تفسيرها لهذا التأثير هو أن ثمة وجودا لسدم أخرى عاقلة.
وبهذا، فقد كان بعض السدم في أوجه يدرك وجود بعضها بوصفها كائنات منفصلة، وقد كان هذا الإدراك قويا للغاية وإن كان مبهما. لقد كان بعضها يدرك وجود بعض، لكن تواصلهما معا كان شحيحا وبطيئا للغاية. ومثلما يعبر بعض السجناء المحبوسين في زنازين منفصلة لبعض السجناء الآخرين عن شعور الرفقة بالطرق على جدران زنازينهم، حتى إنهم قد يتوصلون مع الوقت إلى نظام أولي للإشارات، فقد كانت السدم تعبر عن علاقتها بعضها ببعض بممارسة ضغط الجاذبية لبعضها على بعض، أو عن طريق إصدار النبضات الطويلة الأمد من ضوئها. حتى في المرحلة المبكرة من وجود السدم، حين كان بعضها قريبا للغاية من بعض، كانت الرسالة تستغرق آلاف الأعوام كي تشكل نفسها من البداية إلى النهاية، وملايين الأعوام كي تصل إلى وجهتها. وحين كانت السدم في أوجها، كان صدى حديثها يتردد في الكون بأكمله.
في أولى المراحل على الإطلاق، حين كانت هذه الكائنات الضخمة ما تزال قريبة جدا بعضها من بعض وغير ناضجة في الوقت نفسه، لم تكن مناقشاتها تعنى بأي شيء سوى محاولة أن تكشف عن وجودها بعضها لبعض. وبجزل طفولي، راحت تتواصل بجهد لتعبر عن فرحتها بالحياة، ورغباتها الملحة وآلامها ونزواتها وسماتها الخاصة المميزة ورغبتها المشتركة في الاتحاد من جديد، والتوحد، مثلما كان يقول البشر أحيانا، في الإله.
بالرغم من ذلك، فحتى في هذه الأيام المبكرة، حين لم يكن قد نضج من السدم سوى عدد قليل، ولم يكن معظمها يتمتع بالوضوح الذهني، صار من الجلي للأكثر تيقظا منها أنها لا تقترب من الاتحاد على الإطلاق بل تتباعد على نحو منتظم. ومع ضعف التأثير الفيزيائي الذي يبذله أحدها على الآخر، صار كل سديم يشعر بأن رفاقه يتضاءلون مبتعدين عنه. وصارت الرسائل تستغرق وقتا أطول في الوصول ووقتا أطول من ذلك للحصول على الردود.
لو أن السدم تمكنت من التواصل التخاطري، لربما واجهت «تمدد» الكون دون يأس. غير أن هذه الكائنات كانت بسيطة للغاية على ما يبدو بدرجة لا تسمح لها بأن تقوم بتواصل ذهني مباشر وواضح بعضها مع بعض؛ ومن ثم فقد وجدت أن مصيرها إلى الانفصال. ونظرا لأن إيقاع حياتها بطيء للغاية، فقد بدا لها أنها لم تكد يجد بعضها بعضا حتى كان عليها أن تفترق. وبمرارة قد أسفت على عمى طفولتها؛ ذلك أنها حين بلغت مرحلة النضوج، لم تدرك عاطفة السعادة المشتركة التي ندعوها بالحب فحسب، بل أدركت جميعها أن الاتحاد الذهني أحدها مع الآخر هو الطريق إلى الاتحاد مع المصدر الذي جاءت منه.
وحين صار من الجلي أن الانفصال حتمي لا بد منه، حين كان الترابط الصعب المنال بين هذه الكائنات البسيطة يفشل بالفعل بسبب الصعوبات المتزايدة في التواصل ، وكانت السدم الأكثر بعدا تنفصل بالفعل بعضها عن بعض بسرعة كبيرة، اضطر كل منها بمقتضى الظروف أن يستعد لمواجهة لغز الوجود في عزلة مطلقة.
جاء من بعد ذلك دهر، أو بالأحرى فترة قصيرة بالنسبة إلى هذه الكائنات التي تعيش ببطء، قد سعت فيه (من خلال ضبط النفس فيما يتعلق بجسدها وكذلك من خلال الانضباط الروحاني) إلى العثور على الاستنارة الفائقة التي يجب على الكائنات المتيقظة كلها أن تسعى إليها.
بالرغم من ذلك، فقد ظهرت الآن مشكلة جديدة. اشتكت بعض السدم الأقدم من مرض غريب كان يعيق من تأملاتها بدرجة كبيرة. كانت الأهداب الخارجية في أجسداها الرقيقة قد بدأت تتكثف إلى عقد صغيرة صارت بمرور الوقت حبات من النيران الشديدة المحتقنة. وفي الفراغ البيني، لم يكن هناك من شيء سوى القليل من الذرات الضالة. في البداية، لم تكن الشكوى خطيرة، وكانت أشبه بطفح بسيط على البشرة البشرية، غير أنها قد امتدت بمرور الوقت إلى الأنسجة العميقة في السديم وصحبتها مشكلات ذهنية خطيرة. وعبثا قررت هذه الكائنات المحكوم عليها بالهلاك أن تستفيد من هذا الوباء لمصلحتها بالتعامل معه على أنه اختبار للروح قد أرسلته السماء. وبالرغم من أنها قد تمكنت لبعض الوقت من السيطرة على الوباء من خلال الاستهانة به على نحو بطولي، فإن آثاره المخربة قد أوهنت من عزيمتها في نهاية المطاف. والآن قد اتضح لها أن الكون مكان يقوم على العبث والهلع.
الآن كانت السدم الأصغر سنا تراقب الأكبر منها وهي تتساقط الواحد بعد الآخر إلى حالة من البلادة والارتباك كانت تنتهي على الدوام بالنوم الذي يدعوه البشر بالموت. وسرعان ما اتضح حتى إلى الأرواح الأكثر تفاؤلا أن هذا المرض ليس حادثة عارضة بل مصير متأصل في طبيعة السدم.
وواحدا تلو الآخر، فنت الوحوش السماوية العظيمة، وقد أفسحت المجال لظهور النجوم.
وإذ نظرت إلى تلك الأحداث الماضية من موقعي في المستقبل البعيد، حاولت، أنا العقل الكوني البدائي، أن أوصل للسدم الميتة أن موتها في الماضي السحيق أبعد ما يكون عن النهاية بل هو مرحلة مبكرة في حياة الكون. لقد كان أملي أن أواسيها بأن أمنحها تصورا عن المستقبل الشاسع المعقد، وعن تيقظي. بالرغم من ذلك، فقد اتضح أن التواصل معها أمر مستحيل. ومع أنها كانت تتمتع داخل دائرة خبرتها المعتادة بنوع من القدرات الفكرية، فقد كانت بلهاء تقريبا خارج هذه الدائرة. لقد كان الأمر شبيها بأن يحاول المرء أن يعزي الخلايا الجنسية التي انبثق هو نفسه منها بأن يخبرها عن مسيرته الناجحة في المجتمع البشري.
ولما ذهبت هذه المحاولة للمواساة عبثا، نحيت التعاطف جانبا، واكتفيت فقط بأن أتابع انهيار المجتمع السديمي إلى نهايته. وفقا للمعايير البشرية، طالت المعاناة بدرجة عظيمة للغاية؛ فقد بدأت بتفكك أقدم السدم إلى نجوم، واستمرت (أو سوف تستمر) إلى فترة طويلة بعد دمار آخر السلالات البشرية على كوكب نبتون. الواقع أن آخر السدم لم تسقط في هوة اللاوعي إلى أن تحولت العديد من جثث جيرانها بالفعل إلى مجتمعات تكافلية من النجوم والعوالم العاقلة. غير أن السدم نفسها، والتي كانت تعيش حياة بطيئة الوتيرة، قد شعرت بأن هذا الطاعون مرض متسارع. ووحدا تلو الآخر، وجدت هذه الوحوش الدينية العظيمة نفسها في مواجهة مع العدو المستتر، وحاربت ببسالة في معركة خاسرة إلى أن غلبها السبات. لم يعرف أي منها أن جسده المتفتت كان يعج بالكثير من الحيوات الأصغر والأسرع المتمثلة في النجوم، أو أنه قد امتلأ بالفعل بين الحين والآخر بحيوات أقصر وأسرع وأكثر ثراء على نحو كبير لكائنات كالبشر، والتي كانت عصورهم التاريخية المزدحمة مضغوطة بأكملها في اللحظات الأخيرة القليلة الكئيبة من حيوات هذه الوحوش البدائية. (2) اقتراب اللحظة الأسمى
إن اكتشاف الحياة السديمية قد أثر بعمق في العقل الكوني الابتدائي الذي أصبحت أنا عليه. بصبر، رحت أدرس هذه الوحوش التي تكاد تكون عديمة الشكل، مستوعبا داخل كياني المركب ما كانت تتسم به طبيعتها العميقة البسيطة من حماس. لقد كانت هذه الكائنات البسيطة تسعى إلى هدفها بعزم وحماس قد تفوقا على كل ما كانت تتمتع به جميع العوالم والنجوم. وبهذا الخيال المتقد دخلت إلى تاريخ تلك الكائنات حتى إنني أنا نفسي، العقل الكوني، قد تشكلت على نحو ما من جديد من خلال تأملها. حين تأملت من وجهة النظر السديمية ما تتسم به العوالم الحية من تعقيد شاسع ودقة شديدة، بدأت أتساءل عما إذا كانت الشطحات اللانهائية للعوالم تعود في حقيقة الأمر إلى ثراء وجودها أم إلى ضعف إدراكها الروحاني، إلى ما تتسم به طبيعتها من إمكانات هائلة التنوع أم إلى افتقارها إلى أي تحكم جاد في خبراتها. إن مؤشر البوصلة المثبت بمغناطيس ضعيف يظل يتأرجح مرارا وتكرارا إلى الشرق والغرب ويستغرق وقتا طويلا لتحديد اتجاهه الصحيح. أما المؤشر الحساس فإنه يستقر على الفور باتجاه الشمال. أيمكن أن يكون التعقيد الشديد لكل عالم بأفراده الضئيلين المعقدين هو ما قد أدى إلى تشويش إدراكه للاتجاه الصحيح للروح؟ أيمكن أن تكون بساطة هذه الكائنات الأولى العملاقة وعنفوانها الروحاني قد حققا شيئا ذا قيمة سامية للغاية لم يتمكن تعقيد العوالم ودقتها من تحقيقه على الإطلاق؟
لكن كلا! مهما كانت براعة العقلية السديمية بطريقتها الخاصة الغريبة، فقد كانت العقلية النجمية والكوكبية تتمتعان بفضائلهما الخاصة أيضا. ولا بد أن العقلية الكوكبية هي الأعلى فيما بينها؛ إذ إنها هي الأقدر على فهم العقليات الثلاث على أفضل نحو.
كنت الآن قد سمحت لنفسي باعتقاد أنني، إذ صرت أخيرا أضم في وجودي وعيا شديدا بالمرحلة الأولى من الحياة الكونية وليس بالمجرات العديدة فحسب، يمكنني الآن ببعض الإنصاف أن أرى نفسي العقل الابتدائي للكون بأكمله.
غير أن المجرات اليقظة التي دعمتني كانت ما تزال أقلية صغيرة من بين إجمالي عدد المجرات. من خلال التأثير التخاطري، واصلت تقديم المساعدة لتلك المجرات العديدة التي كانت على أعتاب النضج الذهني. لو أنني استطعت أن أضم في المجتمع الكوني للمجرات اليقظة مئات من المجرات بدلا من العشرات، فلربما تحليت أنا العقل الكوني بدرجة كبيرة من القوة وتمكنت من الارتقاء من حالتي الحالية المتمثلة في الطفولة الذهنية المقيدة إلى حالة أشبه بالنضج. لقد اتضح لي أنني كنت أنضج استعدادا لاستجلاء ما هو جديد، بالرغم من تلك الحالة الجنينية التي أنا عليها، وأنني قد أجد نفسي، مع محالفة الحظ، في حضور ما يدعى في اللغة البشرية لهذا الكتاب باسم صانع النجوم.
في هذا الوقت، كان توقي لذلك الحضور قد استبد بي بشدة. لقد بدا لي أن الحجاب الذي ظل يخفي مصدر جميع السدم والنجوم والعوالم وهدفها كان يتكشف بالفعل، وشعرت الآن بأن ذلك الذي ألهم الكثير من الكائنات المتنوعة بعبادته ولم يكشف عن نفسه بوضوح لأي منها بعد، ذلك الكيان الذي جاهدت جميع الكائنات بغير هدى من أجل الوصول إليه، وراحت تمثله لأنفسها بصور الكثير من الآلهة المتنوعة، على شفا أن يكشف عن نفسه لي، أنا روح الكون الناقصة التي لا تزال تنمو.
أنا من عبدني العديد من أعضائي الضئال، أنا من فاق إنجازي كل أحلامهم، كنت الآن مقهورا مدحورا لشعوري بضآلتي ونقصي. لقد كان حضور صانع النجوم المحتجب يتملكني بالفعل بقوة رهيبة. وكلما صعدت في مسار الروح، بدت القمم التي كانت تقع أمامي أكثر رقيا؛ ذلك أن ما كنت أظن قبل ذلك أنه القمة وقد تجلت لي بكاملها، قد بدت لي الآن أنها ليست سوى سفح. وفيما وراء ذلك، كان يقع السلم الحقيقي منحدرا متعرجا بالصخور جليديا يرتفع إلى الضباب القاتم. لا ينبغي بي أبدا أن أتسلق ذلك المنحدر، وبالرغم من ذلك، فلا بد لي من أن أتقدم إلى الأمام. التوق العارم قد تغلب على الرهبة.
في هذه الأثناء، راحت المجرات غير الناضجة واحدة تلو الأخرى تكتسب تحت تأثيري تلك الدرجة من الصفاء التي مكنتها من الانضمام إلى المجتمع الكوني وإثرائي بخبراتها المميزة. بالرغم من ذلك، بدا أن ضعف الكون مستمر من الناحية الفيزيائية؛ فحين بلغ نصف مجموع المجرات مرحلة النضج، بدا من الواضح أن قلة فقط هي التي ستنجح.
لم يتبق من النجوم الحية في أي من المجرات سوى عدد قليل للغاية. أما مجموعة النجوم الميتة، فقد خضع بعضها إلى التفكك الذري واستخدمت كشموس اصطناعية، وأحيطت بعدة آلاف من الكواكب الاصطناعية. غير أن الغالبية العظمى من النجوم كانت الآن مغلفة بقشرة ومأهولة هي نفسها. وبعد فترة، صار من الضروري أن يتم إخلاء جميع الكواكب؛ إذ كانت الشموس الاصطناعية تستهلك قدرا مفرطا من الطاقة؛ ومن ثم فقد قامت السلالات المتوطنة في الكواكب بتدمير نفسها سلالة تلو الأخرى، واهبة مادة عوالمها وجميع حكمتها إلى قاطني النجوم المطفأة. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا، صار الكون الذي كان يحتشد فيما سبق بالمجرات المتوهجة التي تحتشد كل منها بالنجوم، مؤلفا من جثث النجوم على نحو كامل. وانجرفت هذه الحبات القاتمة عبر الفراغ المظلم كدخان فائق الرقة يتصاعد من حريق منطفئ. وفوق هذه الذرات، هذه العوالم الضخمة، قد أوجدت الشعوب النهائية بإضاءتها الصناعية هنا وهناك وهجا خافتا، لا يرى حتى من أعمق حلقات الكواكب العديمة الحياة.
كان نوع الكائنات الأكثر انتشارا على الإطلاق في هذه العوالم النجمية، هو الحشد الذكي من الديدان الضئيلة أو السلالات الحشرية. بالرغم من ذلك، فقد كان هناك العديد من السلالات لكائنات أكبر حجما من نوع غريب للغاية قد تكيف مع الجاذبية العملاقة في عوالمها الضخمة. كان كل من هذه الكائنات يشبه بطانية حية، ويحمل سطحه السفلي مجموعة من الأرجل الضئيلة الحجم التي كانت تؤدي وظيفة الفم أيضا. كانت هذه الأرجل تحمل جسما لم يكن سمكه يزيد عن البوصة الواحدة في أي حال من الأحوال، بالرغم من أن عرضه كان يمكن أن يبلغ بضع ياردات بينما يصل طوله إلى عشر ياردات. عند الطرف الأمامي، كانت «أذرع» التناول تنتقل على أفواجها من الأرجل. كان السطح العلوي من الجسم يحتوي على مسامات للتنفس في شكل قرص العسل، ومجموعة متنوعة من أعضاء الحس. وبين السطحين، كانت تنتشر أعضاء الأيض والجزء الكبير من الدماغ. وإذا ما قورنت هذه الكائنات الشبيهة بالأمعاء مع أسراب الديدان وأسراب الحشرات، نجد أنها تتمتع باتحاد ذهني أكثر استقرارا ودرجة أكبر من تخصص الأعضاء، غير أنها كانت أكثر بطئا وأقل تكيفا على الحياة تحت الأرضية ، والتي كانت ستفرض بعد ذلك على جميع الشعوب.
هذه العوالم الضخمة القاتمة بغلافها الجوي الشديد الثقل ومحيطاتها الهائلة الاتساع التي لم تكن أمواجها حتى في أعتى العواصف لتزيد أبدا عن تلك التموجات الصغيرة التي نعرفها في الزئبق، قد اكتظت سريعا بالحضارات الشبيهة بقرص العسل من الديدان والحشرات المتنوعة، والملاجئ المتقلقلة للكائنات الشبيهة بالأمعاء. كانت الحياة على هذه العوالم شديدة الشبه بالحياة على «أرض مسطحة» ثنائية الأبعاد. حتى أقوى العناصر الاصطناعية كانت أضعف كثيرا من أن تسمح بأي بنى مرتفعة.
مع تقدم الوقت، نفدت الحرارة الداخلية للنجوم المغلفة بقشرة، وصار من الضروري دعم الحضارة عن طريق التفكيك الذري لقلب النجم الصخري؛ ومن ثم فقد صارت العوالم النجمية بمرور الوقت كرة جوفاء على نحو متزايد تقوم على نظام من الدعامات الداخلية الكبيرة. وواحدا تلو الآخر، راحت الشعوب، بل السلالات الجديدة المنحدرة من الشعوب القديمة، والتي تكيفت على نحو خاص، تأوي إلى ألباب النجوم الخامدة.
كانت هذه الشعوب، رغم انحباس كل منها في عالمه الأجوف، وانعزاله المادي عن بقية الكون، تدعم العقل الكوني تخاطريا. كانت هذه الشعوب هي جسدي. في «التمدد» الحتمي للكون، ظلت المجرات المظلمة على مدار دهور يتباعد بعضها عن بعض بسرعة كبيرة حتى إن الضوء نفسه لم يكن ليرأب الصدع الموجود بينها. غير أن هذا التفكك الهائل للكون كان أقل أهمية لهذه الشعوب النهائية من الانعزال الفيزيائي للنجوم بسبب توقف الإشعاع النجمي بالكامل وجميع أشكال السفر بين النجوم. حافظت جميع الشعوب الموجودة في العوالم العديدة على اتحادها التخاطري. كان الواحد منها يعرف الآخر على نحو حميمي بالرغم من جميع تنويعاتها. ومعا، دعمت العقل الكوني بوعيه لماضي الكون الحيوي المعقد بأكمله، وجهوده التي لا تكل من أجل تحقيق هدفه الروحاني قبل أن تؤدي زيادة الإنتروبيا إلى تدمير نسيج الحضارة المتأصل فيه.
كانت تلك هي حالة الكون حين اقترب من أسمى اللحظات في مسيرته، ومن الاستنارة التي كانت جميع الكائنات في جميع العصور تحاول جاهدة على غير هدى من أجل الوصول إليها . ومن الغريب أن تتمكن الشعوب التي عاشت في هذه الأيام الأخيرة فقيرة ومتكدسة وهي تتابع ما تبقى لها من طاقة، من تحقيق هذه المهمة التي أعيت الشعوب البارعة التي عاشت في الماضي. لا شك بأن مثلهم في ذلك كان كطائر النمنمة الذي تغلب على النسر في الطيران لأعلى ارتفاع. وبالرغم من ظروفهم الصعبة، تمكنت هذه الشعوب من الحفاظ على البنية الأساسية للمجتمع الكوني والعقلية الكونية. وبالبصيرة الفطرية، تمكنت من استخدام الماضي في تعميق الحكمة لديهم بما يفوق أي حكمة سابقة. إن اللحظة الأسمى في الكون لم تكن (أو لن تكون) لحظة بالمعايير البشرية، لكنها محض لحظة خاطفة وفقا للمعايير الكونية. حين كان تقريبا نصف الشعوب الموجودة في ملايين المجرات قد دخلت إلى المجتمع الكوني بصورة كلية، وصار من الجلي أنه من غير المتوقع أن ينضم المزيد، تلت فترة من التأمل الكوني. حافظت الشعوب على حضاراتها الطوباوية المقيدة، وعاشت حيواتها الخاصة في العمل والاتصال الاجتماعي، وقامت في الوقت نفسه بإعادة صياغة البنية الكلية للثقافة الكونية على المستوى العام. لن أروي شيئا عن هذه المرحلة، ويكفي القول إنه قد تم تعيين وظيفة ذهنية إبداعية محددة لكل مجرة وكل عالم، وأن الجميع كان يستوعب عمل الجميع. وقرب نهاية هذه الفترة، أنا، العقل المشترك، قد انبثقت بعد أن تشكلت من جديد، وكأنني قد خرجت من شرنقة؛ وللحظة وجيزة، كانت هي دون شك اللحظة الأسمى للكون، واجهت صانع النجوم.
لم يتبق للمؤلف البشري لهذا الكتاب من هذه اللحظة الأبدية الخالدة التي اختبرتها بصفتي العقل الكوني، سوى بعض من الغبطة المريرة، مع بضع ذكريات مفككة عن هذه الخبرة نفسها والتي منحتني تلك الغبطة.
لا بد لي من أن أحكي شيئا عن تلك الخبرة على نحو ما. ومثلما هو متوقع، أواجه هذه المهمة بشعور فظيع بعدم الأهلية. إن أعظم العقول البشرية عبر جميع عصور التاريخ البشري قد عجزت عن وصف اللحظات التي اختبرت فيها أعمق الرؤى. فكيف أجرؤ أنا على محاولة تنفيذ هذه المهمة؟ بالرغم من ذلك ، فلا بد لي أن أفعل. وحتى مع المخاطرة بما قد أناله من استهزاء وازدراء ولوم أخلاقي، وسيكون ذلك كله مستحقا عن جدارة، لا بد لي أن أذكر ما رأيت. إن البحار إذا تحطمت سفينته وجرفته عوامته دون حول منه أو قوة إلى سواحل مدهشة ثم إلى وطنه مجددا، فإنه لا يستطيع أن يبقى صامتا. ربما يعرض عنه المثقفون اشمئزازا من لهجته الفظة وأسلوبه غير المتقن. وقد يسخر الحكماء من عجزه عن التمييز بين الحقيقة والوهم. غير أنه لا بد أن يتحدث. (3) اللحظة الأسمى وما بعدها
في اللحظة الأسمى للكون، بدا لي أنا، العقل الكوني، أنني التقيت بمصدر جميع الأشياء المتناهية وهدفها.
من المؤكد أنني في تلك اللحظة لم أدرك وجود الروح اللامتناهية؛ أي، صانع النجوم، على نحو حسي. من الناحية الحسية، لم أدرك وجود أي شيء يختلف عما قد أدركته سابقا، وهو العديد من العوالم المأهولة بالسكان الواقعة في ألباب النجوم المحتضرة. بالرغم من ذلك، فمن خلال الوسط الذي يسمى في هذا الكتاب بالوسط التخاطري، كنت قد منحت الآن إدراكا أكثر عمقا. لقد شعرت بالحضور المباشر لصانع النجوم. وكنت قبل فترة قصيرة مثلما ذكرت بالفعل، قد تملكني بالفعل شعور قوي للغاية بحضور محتجب لكائن ما سواي، كائن يختلف عن جسدي الكوني وعقلي الواعي، كيان يختلف عن أعضائي الأحياء وحشود النجوم الخامدة. غير أن الحجاب قد ارتعش الآن وصار نصف شفاف للرؤية الذهنية. إن مصدر كل شيء وغايته، وهو صانع النجوم، قد تجلى لي الآن بإبهام على أنه كيان يختلف عن ذاتي الواعية، كيان يخضع لرؤيتي، غير أنني قد شعرت به أيضا في أعماق طبيعتي على أنه نفسي فحسب، وإن كان أكبر من كياني على نحو لا متناه بكل تأكيد.
بدا لي الآن أنني رأيت صانع النجوم على وجهين؛ رأيته باعتباره النسق الإبداعي الخاص بالروح والذي أدى إلى نشأتي أنا الروح الكونية، وأيضا بكل الرهبة رأيته كيانا أكبر من الإبداع على نحو لا يقارن؛ رأيته باعتباره الكمال الأبدي للروح المطلقة.
كم هي عقيمة وتافهة هذه الكلمات! غير أن الخبرة التي تصفها ليست كذلك على الإطلاق.
حين واجهت، أنا العقل الكوني، زهرة كل النجوم والعوالم، هذه اللانهائية التي تكمن في مستوى أعمق من أعمق جذوري وأعلى مما قد يمكن أن أبلغه على الإطلاق، قد فزعت مثلما يفزع همجي من البرق والرعد. وحين سقطت متذللا أمام صانع النجوم، كان عقلي مغمورا بفيض من الصور. الآلهة الخيالية لجميع السلالات في جميع العوالم احتشدت جميعها أمامي من جديد باعتبارها رموز العظمة والرقة والقوة الغاشمة والإبداع الأعمى والحكمة البصيرة. وبالرغم من أن هذه الصور لم تكن سوى خيالات قد اختلقتها عقول مبتكريها، فقد بدا لي أن كلا منها يجسد بالفعل سمة حقيقية لتأثير صانع النجوم على مخلوقاته.
بينما رحت أتأمل حشد الآلهة الذي انبثق أمامي كغيمة دخان من العوالم العديدة، تشكلت في عقلي صورة جديدة أو رمز جديد للروح اللانهائية. وبالرغم من أنها قد انبثقت من مخيلتي الكونية؛ فقد تولدت من خلال قوة أعظم من أناي. إن هذه الرؤية التي أربكتني بشدة، أنا العقل الكوني، ومنحتني شعورا ساميا بالانتشاء، لم يتبق منها للمؤلف البشري لهذا الكتاب سوى أقل القليل. بالرغم من ذلك، لا بد لي من أن أحاول أن أصورها من جديد في شبكة واهية من الكلمات بأفضل ما أستطيع.
بدا لي أنني عدت في الزمن إلى الماضي حيث لحظة الخلق. لقد شاهدت ميلاد الكون.
تفكرت الروح. بالرغم من أنها لا نهائية وأبدية، فقد قيدت نفسها بوجود متناه ومؤقت، وتفكرت في ماض لم يسعدها. لم تكن راضية عن بعض خلق سابق كان محجوبا عني، ولم تكن راضية أيضا عن طبيعته العابرة. وهذا الاستياء قد استفز الروح إلى خلق جديد.
أما الآن، فوفقا للرؤية الخيالية التي تصورها عقلي الكوني، فإن الروح المطلقة التي قصرت نفسها على الإبداع، قد جسدت من نفسها ذرة من إمكاناتها غير المحدودة. وهذا الكون المصغر قد حبل بجنين من الزمان والمكان الملائمين وجميع أنواع الكائنات الكونية. داخل هذا الكون النقطي، كانت مراكز القوة الفيزيائية المتنوعة وإن كانت محدودة العدد، والتي يعرفها البشر على نحو مبهم بالإلكترونات والبروتونات وغير ذلك، تقترن في بداية الأمر بعضها ببعض، وكانت خاملة. المادة التي كونت عشرة ملايين من المجرات كانت تكمن خاملة في نقطة.
ثم قال صانع النجوم: «ليولد الضوء.» فكان الضوء. من جميع مراكز القوة المقترنة والنقطية، انبثق الضوء وتوهج. انفجر الكون، محققا قدرته المتمثلة في الزمان والمكان. اندفعت مراكز القوة مبتعدة بعضها عن بعض مثلما تبتعد شظايا قنبلة متفجرة، غير أن كلا منها قد احتفظ بداخله على سبيل الذكرى والاشتياق، الروح الواحدة للكل، وأظهرت كل منها سمات لجميع القوى الأخرى على مدار المكان والزمان الكونيين بأكملهما.
لم يعد الكون الآن نقطة، بل صار كتلة من مادة تتسم بكثافة مهولة ونشاط إشعاعي عنيف للغاية، والتي ظلت تتمدد باستمرار. وقد كان روحا نائمة مفككة على نحو لا نهائي.
بالرغم من ذلك، فالقول بأن الكون كان يتمدد يعني أننا نقول بأن عناصره كانت تنكمش. إن مراكز القوى النهائية، والتي كانت مقترنة في البداية بالكون النقطي، هي نفسها التي ولدت المكان الكوني بتفككها بعضها عن بعض؛ فلم يكن تمدد الكون بأكمله سوى انكماش لجميع وحداته الفيزيائية وللأطوال الموجية لضوئه. وبالرغم من أن الكون كان محدد الحجم على الدوام؛ فقد كان بلا حدود أو مركز فيما يتعلق بتفاصيل موجاته الضوئية. ومثلما يكون سطح الكرة المنتفخة بلا حدود أو مركز، كذلك كانت كتلة الكون المنتفخة عديمة الحدود والمركز. ومثلما يتمركز السطح الكروي على نقطة خارجه، في «بعد ثالث»، كانت كتلة الكون مرتكزة على نقطة خارجه، في «بعد رابع».
انتفخت تلك الغيمة النيرانية المحتقنة المتفجرة إلى أن صارت في حجم كوكب، ثم في حجم نجم، ثم في حجم مجرة بأكملها، ثم في حجم عشرة ملايين من المجرات. ومع انتفاخه، صار أقل كثافة وأقل لمعانا وأقل اضطرابا. الآن تمزقت الغيمة الكونية بفعل ضغط التمدد المتعارض مع الالتصاق المتبادل بين أجزائها؛ فتقطعت إلى عدة ملايين من الغيوم الصغيرة، والتي شكلت حشد السدم العظيمة.
على مدار فترة من الوقت، كانت درجة القرب بين هذه الغيوم مقارنة بحجمها، شبيهة بدرجة القرب بين ندف الغيوم في سماء مرقطة. غير أن القنوات الموجودة بينها قد اتسعت إلى أن انفصلت الغيوم عن بعضها كانفصال الورود على شجيرة، كالنحل في سربه الطائر، كالطيور في رحلة للهجرة، كالسفن في البحر. راحت تتباعد بعضها عن بعض بسرعة تتزايد أكثر فأكثر. وفي الوقت نفسه، انكمشت كل غيمة إلى أن أصبحت في البداية كرة من الزغب ثم عدسة دوارة ثم دوامة من تيارات النجوم.
استمر الكون في التمدد إلى أن صارت المجرات الأبعد إحداها عن الأخرى تسبح مبتعدة بدرجة كبيرة، حتى إن الضوء الكوني الزاحف لم يعد قادرا على رأب الصدع بينها.
بالرغم من ذلك، فمن خلال الرؤية التخيلية، استطعت الحفاظ على مشاهدتها جميعا. كان الأمر كما لو أن ضوءا آخر، آنيا يفوق الضوء الكوني ولم يكن يصدر من داخل الفضاء الكوني، كان ينير كل الأشياء داخليا.
ومجددا، لكن هذه المرة في ضوء جديد بارد نافذ، رحت أراقب جميع حيوات النجوم والعوالم والمجتمعات المجرية، وحياتي أنا نفسي حتى اللحظة التي كنت أقف فيها الآن في مواجهة الكيان اللانهائي الذي يدعوه البشر بالإله، ويتصورونه وفقا لرغباتهم البشرية.
أنا، أيضا، كنت أسعى الآن إلى فهم الروح اللانهائية، أي، صانع النجوم، في صورة قد نسجتها طبيعتي المتناهية وإن كانت كونية. الآن قد بدا لي، بدا فحسب، أنني على حين غرة، قد تجاوزت الرؤية الثلاثية الأبعاد الملائمة لجميع الكائنات، وأنني قد رأيت صانع النجوم بحاسة البصر المادية. لقد رأيت في غير المكان الكوني المصدر المتوهج للضوء الفائق للكون كما لو أنه كان نقطة مهولة اللمعان، نجم أو شمس أعتى من الشموس كلها مجتمعة معا. بدا لي أن هذا النجم الساطع هو مركز كرة رباعية الأبعاد كان سطحها المنحني هو الكون الثلاثي الأبعاد. هذا النجم المتسيد على كل النجوم، هذا النجم الذي كان في واقع الأمر هو صانع النجوم، قد تجلى لإدراكي، أنا مخلوقه الكوني، للحظة واحدة قبل أن يحرق بهاؤه بصري. وفي تلك اللحظة، عرفت أنني قد رأيت بالفعل المصدر الفعلي لجميع الضوء والحياة والعقل الكوني، ومصدر الكثير جدا مما لم أكن قد حظيت بمعرفته بعد.
غير أن هذه الصورة، هذا الرمز الذي تخيله عقلي الكوني تحت وطأة الخبرة التي لا يمكن تصورها، قد تعطلت وتحولت في أثناء فعل التصور نفسه، ولقد كانت غير ملائمة للغاية مقارنة بحقيقة الخبرة. وإذ استدعيت في عماي لحظة الرؤية، وجدتني الآن أتخيل أن النجم الذي كان هو صانع النجوم، والمركز الجوهري للوجود بأكمله، قد بدا أنه ينظر إلي أنا مخلوقه، من عليائه اللامتناهي، وأنني حين رأيته نشرت أجنحة روحي الهزيلة على الفور وحلقت إليه، فما كان إلا أن عميت واحترقت وصعقت. كان قد بدا لي في لحظة الرؤية، أن جميع اشتياق الأرواح المتناهية وأملها في الاتحاد مع الروح اللامتناهية كان يمنح أجنحتي القوة. بدا لي أن صانع النجوم، صانعي، لا بد أن يتقدم لكي يلتقي بي ويرفعني إليه ويشملني في بهائه. لقد بدا لي أنني، روح العديد من العوالم وزهرة الكثير جدا من العصور، كنت الكنيسة الكونية، والتي صارت تليق أخيرا بأن تكون عروس الإله. غير أنني بدلا من ذلك قد عميت وحرقت وصعقت بالنور الرهيب.
لم يكن البريق المادي فقط هو الذي صعقني في تلك اللحظة الأسمى من حياتي. في تلك اللحظة، خمنت أي حالات الروح اللامتناهية هي التي صنعت الكون في حقيقة الأمر وظلت تدعمه باستمرار، مع مراقبة نموه المؤلم. وقد كان ذلك الاكتشاف هو ما صعقني.
إنني لم أقابل بالحب العطوف المرحب، بل بروح مختلفة للغاية. وفورا أدركت أن صانع النجوم لم يصنعني لأكون عروسه ولا حتى طفله العزيز، وإنما لغاية أخرى.
لقد بدا لي أنه تمعن النظر في من علياء ألوهيته بالاهتمام المتحفظ الشغوف الذي يوليه الفنان إذ يحكم على عمله النهائي؛ فيبتهج بإنجازه بهدوء، غير أنه يكتشف في النهاية ما يحتوي عليه تصوره المبدئي من عيوب غير قابلة للإصلاح؛ فيشتهي بالفعل خلقا جديدا.
حللتني نظرته ببراعة هادئة، ونحت جانبا عيوبي واستخلصت لثرائه الخاص جميع مظاهر التفوق القليلة التي حققتها في صراع العصور.
ومن ألمي، صرخت ثورة على صانعي القاسي. صرخت قائلا بأن المخلوق، في نهاية المطاف، أنبل من الخالق؛ فالمخلوق قد أحب واشتهى الحب حتى من النجم الذي كان هو صانع النجوم، لكن الخالق، صانع النجوم، لا هو أحب ولا كان في حاجة إلى الحب.
غير أنني بمجرد أن صرخت في تعاستي العمياء، أدركت بخزي حماقتي؛ إذ تجلى لي فجأة أن الفضيلة عند الخالق تختلف عن الفضيلة عند المخلوق. إن الخالق إن أحب مخلوقه، فإنما يكون بذلك يحب جزءا من نفسه فحسب، لكن المخلوق إن يمجد الخالق فهو يمجد كيانا غير محدود يتجاوزه. لقد رأيت أن الفضيلة عند المخلوق هي أن يحب ويعبد، أما الفضيلة عند الخالق فهي أن يخلق، وأن يكون هو الهدف اللامتناهي الذي يستعصي على إدراك مخلوقاته العابدة وفهمها.
ومجددا صرخت إلى صانعي، لكن في خزي وافتتان هذه المرة. وقلت: «يكفي، بل إن هذا أكثر مما يكفي بكثير، أن أكون مخلوقا لروح جميلة ورهيبة للغاية مثلك، روح لا متناهية القدرة تسمو طبيعتها على الإدراك، حتى وإن كان إدراك كون عاقل. يكفي أنني قد خلقت، وأنني للحظة قد جسدت الروح اللامتناهية العظيمة الإبداع. يكفي تماما أن أكون قد استخدمت، يكفي أنني كنت التخطيط المبدئي لنوع متقن من الخلق.»
بعد ذلك، حل بي سلام وبهجة غريبان.
حين نظرت إلى المستقبل، رأيت اضمحلالي وسقوطي، بنوع من الاهتمام الهادئ لا الحزن. رأيت شعوب العوالم النجمية تستنفد المزيد والمزيد من مواردها من أجل الحفاظ على حضاراتها المقتصدة. لقد استخدمت من المادة الموجودة في بواطن النجوم قدرا كبيرا للغاية حتى إنها قد تفككت؛ فتعرضت عوالمها إلى خطر الانهيار. وقد تحطمت بعض العوالم بالفعل إلى شظايا عند مراكزها الجوفاء؛ مما أدى إلى تدمير الشعوب المتوطنة فيها. كانت معظم العوالم تصنع من جديد قبل أن تصل إلى النقطة الحرجة، فكانت تقسم بصبر إلى أجزاء ويعاد بناؤها من جديد على نطاق أصغر. وواحدا تلو الآخر تحول كل نجم إلى عالم في الحجم الكوكبي فحسب، بل إن بعضها لم يكن يكبر عن حجم القمر. الشعوب نفسها قد تقلصت إلى محض واحد على مليون من أعدادها الأصلية، محتفظة داخل كل حبة جوفاء صغيرة بحضارة بسيطة في ظروف كانت تصبح أشد فقرا على نحو متزايد.
حين نظرت إلى الدهور المستقبلية من اللحظة الأسمى للكون، رأيت الشعوب ما تزال تحافظ بكل ما أوتيت من قوة على أساسيات ثقافتها القديمة، ولا تزال تعيش حيواتها الشخصية بحماس وابتكار لا نهائيين، ولا تزال تمارس الاتصال التخاطري بين العوالم، وكانت ما تزال تتشارك كل ما كان ذا قيمة من وجهة نظر أرواحها العالمية، وكانت ما تزال تدعم الاتحاد الكوني الحقيقي من خلال عقلها الكوني الوحيد. ورأيت نفسي ما أزال محتفظا بصفاء وعيي، لكن ذلك كان بصعوبة متزايدة، محاربا بداية الخمول والخرف. ولم يعد ذلك أملا في أن أرتقي إلى مرحلة أرقى مما قد وصلت إليها بالفعل، أو أن أضع أمام صانع النجوم جوهرة عبادة هي أليق بعض الشيء، وإنما كان ذلك بدافع الشغف بالتجربة والولاء للروح فحسب.
غير أن الانحلال قد تمكن مني في نهاية المطاف. واضطر العالم تلو العالم، في ضوء الصعوبات الاقتصادية المتزايدة، إلى تقليص شعبه إلى ما هو أقل من العدد اللازم لعمل عقليته المشتركة؛ ومن ثم، وكما هو الحال بالنسبة إلى مركز دماغي متحلل، لم تعد تلك العقلية قادرة على أداء دورها في التجربة الكونية.
وإذ رحت أتطلع للمستقبل من موقعي في اللحظة الكونية الأسمى، رأيت نفسي، أنا العقل الكوني، أهوي بثبات إلى الموت. بالرغم من ذلك، ففي عهدي الأخير هذا حين كانت جميع قواي آخذة في الضعف، وكان لعبء جسدي المتداعي وطأة شديدة على شجاعتي الواهنة، ثمة ذكرى مبهمة من صفاء الحقب الماضية كانت تعزيني. لقد كنت أعرف على نحو مبهم أن صانع النجوم كان لا يزال ينظر إلي، حتى في عصري الأخير المثير للشفقة هذا، نظرة تتسم بالشغف بالرغم من حياديتها.
وأنا لا زلت أستكشف المستقبل من لحظة نضجي الأسمى الذي لا يعرف الذبول، رأيت موتي، الانقطاع الأخير لهذه الاتصالات التخاطرية التي كان وجودي يعتمد عليها. وبعد ذلك، عاشت العوالم الناجية القليلة في عزلة مطلقة، وفي تلك الحالة الهمجية التي يدعوها البشر بالتحضر. وبعد ذلك، بدأت تتهاوى المهارات الأساسية للحضارة المادية في عالم تلو الآخر، لا سيما مهارات التفكيك الذري والبناء الضوئي. كانت العوالم إما أن تفجر مخزونها القليل المتبقي من المادة عن غير قصد وتتحول إلى كرة من الموجات الضوئية التي تنتشر ثم تخبو في الظلام الهائل، وإما أن تموت بتعاسة من الجوع والبرد. الآن لم يتبق في الكون بأكمله سوى الظلام وبقايا الغبار القاتمة التي كانت مجرات فيما سبق. مرت دهور لا تحصى. وشيئا فشيئا، انكمشت بقايا حبات الغبار تلك على نفسها بفعل تأثير جاذبية أجزائها، ومع بعض التصادمات المتقدة بين الحبات المتجولة، تكثفت في النهاية جميع المواد الموجودة في كل حفنة من الغبار لتصبح كتلة واحدة. أدى ضغط المناطق الخارجية الضخمة إلى تسخين مركز كل كتلة في هذه الكتل، مما أدى إلى حدوث نشاط توقدي، بل حتى انفجاري. بالرغم من ذلك، شيئا فشيئا، اتجهت آخر الموارد الموجودة في الكون بإشعاعها بعيدا عن هذه الكتل الآخذة في البرودة، ولم يتبق شيء سوى الصخور وتموجات خافتة للغاية من الإشعاع راحت تنتشر في جميع أرجاء الكون الدائم «التمدد»، وببطء شديد لا يسمح برأب الصدوع المتزايدة بين حبات الصخور المنعزلة.
في هذه الأثناء، ولأن جميع الكرات الصخرية التي كانت مجرات فيما سبق قد حملت إلى مكان بعيد للغاية عن التأثير الفيزيائي لرفاقها، ولم يعد هناك من عقول للحفاظ على الاتصال التخاطري بينها؛ فقد كانت كل منها في حقيقة الأمر تمثل كونا مستقلا بالكامل. ولأن جميع التغيرات قد توقفت، فقد توقف الزمن أيضا في كل من هذه الأكوان القاحلة.
ولأن هذا الوضع كان هو ما سيمثل النهاية الثابتة الأبدية على ما يبدو، فقد انسحبت بانتباهي المرهق مجددا إلى اللحظة الأسمى التي كانت هي حاضري في واقع الأمر، بل ماضي القريب على وجه الدقة. وبجميع قواي العقلية الناضجة، حاولت أن أرى بوضوح أكبر ما كان حاضرا أمامي في ذلك الماضي القريب؛ ففي تلك اللحظة التي رأيت فيها النجم المتوهج الذي كان هو صانع النجوم، لمحت في أم عين ذلك البهاء، مشاهد غريبة من الوجود، وكأنما في أعماق الماضي الكوني الفائق والمستقبل الكوني الفائق أيضا، يقبع كون وراء كون، وكل ذلك يوجد في الأبدية.
الفصل الرابع عشر
أسطورة الخلق
إن متجولا في بلد جبلي قد ضل طريقه في الضباب وراح يتلمس طرقه من صخرة إلى صخرة قد يخرج فجأة من بين الغيوم ليجد نفسه على شفا جرف شديد الانحدار. إنه سيرى في الأسفل وديانا وتلالا وسهولا وأنهارا ومدنا متشابكة، وسيرى البحر بجميع جزره ومن فوقه الشمس. وهكذا قد انبثقت أنا، في اللحظة الأسمى في خبرتي الكونية، من ضباب محدوديتي لأجد كونا فوق كون، ولأجد النور الذي لا يضيء الحياة فقط، بل يمنحها للجميع. وبعدها، أطبق علي الضباب من جديد.
يستحيل علي أن أصف هذه الرؤية الغريبة التي تستعصي على إدراك أي عقل محدود وإن كان عقلا كونيا. إنني، أنا الفرد البشري الضئيل، قد نزعت الآن منها إلى الأبد، ثم إنها كانت شديدة الإرباك حتى على العقل الكوني نفسه. غير أنني إن لم أقل شيئا عن مضمون اللحظة الأسمى لمغامرتي، فإنني أكون بذلك قد ناقضت روح الكل. وبالرغم من أن اللغة البشرية وربما الفكر البشري نفسه لا يستطيعان بطبيعتهما استيعاب الحقيقة الميتافيزيقية، فثمة شيء لا بد لي من أن أحاول التعبير عنه، وإن كان ذلك بالمجاز فحسب.
كل ما أستطيع فعله هو أن أذكر، على أفضل نحو أتمكن منه بقدراتي البشرية الهزيلة، شيئا عما تلا تلك الرؤية من تأثير غريب عنيف على مخيلتي الكونية حين كان الصفاء الشديد قد غشاني بالفعل وصرت أتلمس طريقي محاولا تذكر ما ظهر أمامي. في عمائي، حفزت الرؤية من عقلي المبتلى انعكاسا مذهلا منها: صدى أو رمز أو أسطورة أو حلم مجنون بدائي ومضلل على نحو يدعو للازدراء، وبالرغم من ذلك كله، فإنني أعتقد أنه لا يخلو من الأهمية. إن هذه الأسطورة الهزيلة، أو تلك الحكاية الرمزية، سأروي منها ما أتذكره وأنا في حالتي البشرية. غير أنني لا أستطيع القيام بما هو أكثر من ذلك، بل إنني لا أستطيع أن أنفذ ما قلته هذا بما يليق. لقد حاولت كتابة سرد لحلمي هذا مرات عديدة لا مرة واحدة، ثم كنت أمزق ما أكتب في كل مرة لرداءته الشديدة. وبشعور تام بالفشل، سأحاول ذكر القليل فقط من سماته الأكثر وضوحا.
إن أسطورتي قد مثلت إحدى سمات رؤيتي الفعلية على نحو شديد الإرباك والرداءة. لقد أعلنت أن اللحظة الأسمى في خبرتي وأنا في حالة العقل الكوني، كانت تنطوي على الأبدية بداخلها، وكانت الأبدية تنطوي بداخلها على مجموعة من التسلسلات الزمنية المستقلة تماما بعضها عن بعض؛ فبالرغم من أن جميع الأزمان في الأبدية هي الحاضر، وبالرغم من أن الروح اللامتناهية - لما تتسم به من كمال - لا بد أن تنطوي بداخلها على الإنجاز الكامل لجميع الأكوان الممكنة، فإن هذا لم يكن ليحدث ما لم تتمكن الروح اللامتناهية المطلقة من أن تتصور وهي في حالتها المحدودة والزمنية والإبداعية، تلك السلسلة الشاسعة من الأكوان بأكملها، وتوجدها. من أجل الخلق، تنطوي الروح الأبدية اللامتناهية على الزمن في أبديتها، وتنطوي أيضا على تلك السلسلة الممتدة من الأكوان بأكملها.
في حلمي، كان صانع النجوم نفسه، في صفة الروح الأبدية المطلقة، يتأمل جميع أعماله بصورة لا زمنية، لكنه كان يقوم أيضا في النسق المحدود الإبداعي للروح المطلقة، بتجسيد أكوانه واحدا تلو الآخر في تسلسل زمني ملائم لمغامرة كل منها ونموه. بعد ذلك، كان يهب كل عمل من أعماله، أي، كل كون، زمنه الخاص المميز، على نحو يجعل من تسلسل الأحداث بأكمله في أي كون من الأكوان ظاهرا لصانع النجوم لا من داخل الزمن الكوني نفسه فحسب، بل من الخارج أيضا، من الزمن الملائم لحياته هو، مع وقوع جميع الدهور الكونية في الوقت نفسه معا. ووفقا للحلم الغريب أو الأسطورة الغريبة التي تملكت عقلي، كان صانع النجوم في نسقه المحدود الإبداعي روحا متيقظة متطورة في حقيقة الأمر. إن حقيقة أن يكون كذلك، ويكون في الوقت نفسه كاملا على نحو أبدي، لهو أمر لا يمكن أن يتصوره البشر بالطبع، لكن عقلي المثقل بالرؤية التي تفوق مستوى البشر، لم يجد طريقة أخرى لكي يعبر لنفسه عن غموض الخلق.
إذن، فقد أعلن لي حلمي أن صانع النجوم كامل ومطلق على نحو أبدي. بالرغم من ذلك، فقد كان في بداية الزمن الملائم لنمطه الإبداعي إلها صغيرا، متململا، ومتحمسا، وجبارا، لكنه كان يفتقر إلى وضوح الإرادة. كان يتمتع بجميع القوى الإبداعية؛ فكان باستطاعته أن يصنع جميع أنواع العوالم بمختلف السمات الفيزيائية والذهنية، غير أنه كان يفتقر فقط إلى المنطق؛ ومن ثم فقد كان باستطاعته أن يسن قوانين طبيعية في غاية الإدهاش، لكنه لم يكن يستطيع مثلا أن يجعل اثنين في اثنين يساوي خمسة. في مرحلته المبكرة هذه، كان مقيدا أيضا بعدم نضجه. كان لا يزال في سبات مرحلة الطفولة. وبالرغم من أن المصدر غير الواعي لعقليته المستكشفة والمبدعة على نحو واع لم يكن سوى جوهره الأبدي، فإنه لم يمثل على المستوى الواعي في بداية الأمر سوى الشغف الأعمى والمبهم للإبداع.
انطلق في بدايته على الفور في استكشاف قدرته. جسم من نفسه شيئا من مادته غير الواعية ليكون الوسيط لفنه، ثم صاغه بهدف واع؛ ومن ثم فقد راح مرة بعد أخرى يشكل الدمى من الأكوان واحدا تلو الآخر.
غير أن المادة الإبداعية غير الواعية لدى صانع النجوم لم تكن سوى روحه الأبدية نفسها؛ صانع النجوم في نسقه الأبدي الكامل؛ ومن ثم حدث في مراحل عدم نضجه أنه كان إذا استدعى من أعماقه المادة الخام لأحد الأكوان، اتضح أن المادة نفسها ليست عديمة الشكل بل غنية بالكثير من الإمكانات غير المحددة، سواء المنطقية أو الفيزيائية أو الحيوية أو النفسية. وفي بعض الأحيان، كانت هذه الإمكانات في بعض الأحيان تستعصي على الهدف الواعي لصانع النجوم الفتي . لم يكن يتمكن من التوفيق بينها على الدوام، فضلا عن تحقيقها على أرض الواقع. لقد بدا لي أن خصوصية الوسط نفسه هي التي غالبا ما كانت تعجز خطته، لكنها كانت تقدم المزيد من التصورات الخصبة مرارا وتكرارا. ووفقا لأسطورتي، ظل صانع النجوم يتعلم من مخلوقه مرة تلو الأخرى؛ ومن ثم فقد تفوق على مخلوقه، واشتهى أن ينفذ خطة أكبر. ومرة تلو الأخرى، راح ينحي كونا قد انتهى منه جانبا، ويستدعي من نفسه كونا جديدا.
في الجزء المبكر من حلمي، كان الشك ينتابني عديدا من المرات بشأن ما كان صانع النجوم يسعى إلى تحقيقه في خلقه. كنت أرى أن هدفه لم يكن واضحا له في البداية، وكان عليه هو نفسه أن يكتشفه تدريجيا، وكثيرا ما كان يبدو لي أن عمله تجريبي وهدفه مشوش. غير أنه قرب نهاية مرحلة نضجه، كان قد شاء أن يخلق على نحو مكتمل قدر الإمكان، وأن يستحضر القوة الكامنة في وسطه بأكملها، وأن يصوغ أعمالا متزايدة الدقة ومتزايدة التنوع المتناغم. ومع اتضاح هدفه بدرجة أكبر، بدا أيضا أنه ينطوي على الرغبة في خلق أكوان يمكن أن يتضمن كل منها إنجازا فريدا من الوعي والتعبير؛ ذلك أن تحقيق المخلوق للإدراك والإرادة كان على ما يبدو هو الأداة التي من خلالها انتقل صانع النجوم نفسه، كونا تلو الكون، إلى مرحلة أشد من الصفاء.
وعلى هذا النحو، ومن خلال تتابع مخلوقاته، قد حدث أن تقدم صانع النجوم من مرحلة إلى مرحلة في التطور من الطفولة الإلهية إلى النضج الإلهي.
وعلى هذا النحو فقد أصبح في النهاية، ما كان هو بالفعل في البداية - من وجهة النظر الأبدية - أساس جميع الأشياء وتاجها.
وعلى النحو غير العقلاني المألوف في الأحلام، كانت هذه الأسطورة أو الحلم التي انبثقت في ذهني تصور الروح الأبدية على أنها هي سبب تلك المجموعة اللانهائية من أشكال الوجود المحدودة، وهي نتيجتها في الوقت ذاته. وعلى نحو غير مفهوم، كانت جميع الأشياء المحدودة بالرغم من كونها خيالات الروح المطلقة من ناحية ما، هي في حد ذاتها جوهرية لوجود الروح المطلقة نفسها. فبدون هذه الأشياء، لم يكن للروح المطلقة وجود. أما عما إذا كانت هذه العلاقة المبهمة تمثل حقيقة مهمة أم أنها محض خيالات أحلام تافهة، فهذا ما لا أستطيع قوله.
الفصل الخامس عشر
الصانع وأعماله
(1) الخلق غير الناضج
وفقا للأسطورة الخيالية أو الحلم الذي انبثق من عقلي بعد خبرة اللحظة الأسمى، فإن الكون المحدد الذي صرت أعتبر أنه «ذاتي» يقع في مرتبة لا هي بالمبكرة ولا بالمتأخرة في السلسلة الشاسعة للمخلوقات. وبدا أنه، في بعض الجوانب، أول الأعمال الناضجة التي أبدعها صانع النجوم، غير أنه كان يبدو، في العديد من الجوانب، طفولي الروح مقارنة بأعماله اللاحقة.
وبالرغم من أن الأعمال المبكرة لا تعبر عن طبيعة صانع النجوم إلا في مرحلته غير الناضجة، فإنها في الغالب تقع في جوانب مهمة في اتجاه يختلف عن اتجاه التفكير البشري؛ ولهذا فأنا لا أستطيع الآن أن أستعيدها ثانية. إنها لم تترك لدي سوى انطباع مبهم بتعدد أعمال صانع النجوم وتنوعها. بالرغم من ذلك، فما تزال هناك بضعة أمور يمكن للبشر إدراكها ولا بد من تسجيلها.
في الوسط البدائي لحلمي، جاء الكون الأول على الإطلاق بسيطا للغاية على نحو مثير للدهشة. لقد بدا لي أن صانع النجوم الطفل، بعد أن أثارته قدرته غير المعبر عنها، قد تصور سمتين من ذاته وجسدهما. وبهاتين السمتين فقط، صنع أول كون دمية له. ولم يكن هذا الكون سوى إيقاع زمني وكأنه يتألف من الصوت والصمت. ومن دق الطبول الأول البسيط هذا، والذي كان منذرا بالآلاف من الأكوان، طور صانع النجوم بحماس طفولي، لكنه إلهي في الوقت ذاته، قرعا إيقاعيا منتظما؛ نمط معقد ومتغير من الإيقاع. بعد ذلك بفترة قصيرة، من خلال التأمل في الهيئة البسيطة لمخلوقه، تصور صانع النجوم إمكانية وجود كون أكثر براعة؛ ومن ثم فقد ولد أول المخلوقات في خالقه حاجة لم يتمكن قط من إشباعها؛ ومن ثم فقد أسدل صانع النجوم الطفل الستار على كونه الأول . وحين نظر إليه صانع النجوم من خارج الزمن الكوني الذي ولده، أبقى مسيرته بأكملها في الزمن الحاضر. وحين انتهى من تقييم عمله بهدوء، حول انتباهه عنه وراح يفكر مليا في كون ثان.
بعد ذلك، راح الكون تلو الآخر ينبثق من مخيلته المتقدة، وكل منها أثرى مما سبقه وأكثر دقة. في بعض المخلوقات الأولى، بدا أنه لا يهتم إلا بالجانب الفيزيائي من المادة التي جسدها من نفسه. كان غافلا عما بها من إمكانات فيزيائية. بالرغم من ذلك، ففي أحد الأكوان المبكرة، أدت أنماط السمة الفيزيائية التي لعب بها إلى تحفيز طبيعة فردانية وحياة لم تكن هذه الأنماط تمتلكها في حقيقة الأمر، أم هل يا ترى كانت تمتلكها؟ في كون لاحق، انبثقت الحياة الفعلية على نحو شديد الغرابة بالفعل. لقد كان ذلك كونا قد أدركه صانع النجوم من الناحية الفيزيائية مثلما كان يدرك البشر الموسيقى. لقد كان تسلسلا ثريا من السمات المتنوعة في الحدة والشدة. لعب صانع النجوم الطفل بهذه الدمية بسرور، مخترعا مجموعة لا نهائية من الألحان والنغمات المرافقة. بالرغم من ذلك، فقبل أن يتمكن من تحديد جميع الفوارق النمطية الدقيقة في هذا العالم الصغير من الموسيقى الرياضية الباردة، وقبل أن يكون قد خلق ما يزيد عن بضعة فقط من الأكوان الموسيقية العديمة الحياة، اتضح له أن بعض مخلوقاته تبدي علامات على تمتعها بحياة خاصة بها تتمرد على الهدف الواعي لصانع النجوم. بدأت موضوعات الموسيقى تكشف عن أنماط سلوكية لم تكن متوافقة مع القانون الذي قد سنه لها. بدا لي أنه كان يراقبها باهتمام شديد، وأنها استثارت فيه تصورات جديدة تتجاوز قدرة المخلوقات على تحقيقها؛ ولهذا فقد انتهى من هذا الكون وبطريقة جديدة. لقد خطط لأن تؤدي الحالة النهائية للكون إلى الحالة الأولى على الفور. ربط الحدث الزمني الأخير بالبداية؛ ومن ثم فقد شكل الزمن الكوني حلقة لا نهائية. وبعد أن تأمل عمله من خارج زمنه المناسب له، نحاه جانبا، وبدأ التفكير في خلق جديد.
في الأكوان التالية، تعمد وضع شيء من فطنته وإرادته؛ فقضى بأن تكون بعض الأنماط والإيقاعات المحددة هي الأجسام المادية لعقول تتمتع بالقدرة على الإدراك. يبدو أن هذه المخلوقات كان من المفترض أن تعمل معا لإنتاج التناغم الذي كان هو قد تخيله لهذا الكون، غير أن كلا منها قد سعى جاهدا لأن يصوغ الكون بأكمله بما يتفق مع صورته. تقاتلت المخلوقات قتالا مستميتا، وهي مقتنعة بصلاحها واستقامتها. وحين تضررت، عانت من الألم. ويبدو أن هذا كان أمرا لم يختبره صانع النجوم الصغير أو يتخيله. وباهتمام مستغرق مندهش، وبجذل يكاد أن يكون شيطانيا أيضا (مثلما بدا لي)، راح يراقب حماقات أولى مخلوقاته الحية ومعاناتها، إلى أن حولت هذا الكون بصراعاتها ومذابحها إلى الفوضى.
ومنذ ذلك الوقت، لم يتجاهل صانع النجوم قط إمكانية وجود الحياة في مخلوقاته. بالرغم من ذلك، فقد بدا لي أن العديد من تجاربه الأولى في الخلق الحيوي كانت تنحرف عن مسارها على نحو غريب، وأنه في بعض الأحيان، كان يعود لبرهة إلى الخيالات الفيزيائية الخالصة، تقززا على ما يبدو من الطبيعة الحيوية.
لا يمكنني أن أصف مجموعة الأكوان الأولى إلا باختصار شديد. ويكفي القول إنها قد انبثقت من خيال إلهي ما يزال في مرحلة الطفولة. لقد انبثقت واحدا تلو الآخر كأنها فقاعات زاهية مبهرجة الألوان لكنها عديمة القيمة والتي كانت ثرية بجميع أنواع التفاصيل الفيزيائية الدقيقة، وشاعرية ومأساوية في معظم الأحيان بما فيها من مظاهر الحب والكراهية والرغبات والطموحات والمشروعات المشتركة لأولى الكائنات التجريبية الواعية التي خلقها صانع النجوم.
كانت العديد من هذه الأكوان المبكرة أكوانا لا مكانية، غير أنها كانت فيزيائية بالرغم من ذلك. وقد كان عدد غير قليل من هذه الأكوان اللامكانية، ينتمي إلى النوع «الموسيقي»، والذي كان المكان يمثل فيه على نحو غريب ببعد مماثل للحدة الموسيقية، وهو ثري بمجموعة متنوعة من الفروقات اللحنية. كانت المخلوقات يبدو بعضها لبعض على أنه أنماط وإيقاعات معقدة من السمات اللحنية. كانت تستطيع تحريك أجسادها اللحنية في بعد الحدة، وفي أبعاد أخرى في بعض الأحيان لا يمكن للبشر تصورها. كان جسد الكائن يشبه نمطا لحنيا ثابتا بدرجة أو بأخرى، وكان يتمتع بالدرجة نفسها من المرونة والقدرة على التغير البسيط التي يتمتع بها الجسد البشري. وكان يستطيع أيضا أن يجتاز غيره من الأجساد الحية في بعد الحدة، مثلما تتقاطع سلاسل الموجات في بحيرة بعضها مع بعض. لكن رغم أن هذه الكائنات كانت تستطيع أن تتجاوز إحداها الأخرى فحسب، فقد كان يمكنها الشجار أيضا وتدمير الأنسجة اللحنية بعضها لبعض. لقد كان بعضها يعيش بالفعل على التهام الآخرين؛ ذلك أن الأجساد الأكثر تعقيدا كانت تحتاج إلى أن تضم في أنماطها الحيوية الأنماط الأبسط التي كانت تنتشر مباشرة من القوة الإبداعية لصانع النجوم في الكون بأكمله. استطاعت الكائنات الذكية استخدام عناصر مستخرجة من البيئة اللحنية من أجل تحقيق غاياتها؛ ومن ثم فقد صنعت أدوات ذات نمط لحني. استخدمت بعض هذه الأدوات في المتابعة الأكثر فعالية للأنشطة «الزراعية» التي تمكنت من خلالها من تعزيز وفرة غذائها الطبيعي. وبالرغم من أن هذه الأكوان اللامكانية أبسط للغاية وأكثر ضآلة على نحو لا يقارن من كوننا، فإنها كانت تتمتع بالثراء الكافي لإنتاج مجتمعات قادرة على «الصناعة اليدوية»، لا «الزراعة» فحسب، بل إنها قد تمكنت أيضا من إنتاج فن خالص يجمع بين سمات الغناء والرقص والشعر. كان أول ظهور للفلسفة بمعناها العام لا الفيثاغورثي، على أحد هذه الأكوان «الموسيقية». وفقا لحلمي، كان الزمن لا المكان، هو السمة الأكثر جوهرية في الغالبية الساحقة من أعمال صانع النجوم. ورغم أنه قد استبعد الزمن من بعض مخلوقاته الأولى، مجسدا تصميما ثابتا فحسب، فسرعان ما تخلى عن هذه الخطة. لقد كانت تقيد مهارته بنطاق صغير للغاية. ثم إنها كانت تستبعد إمكانية العقل والحياة، فلم تتوافق مع أي من اهتماماته سوى اهتماماته في المرحلة الأولى على الإطلاق.
أوضح حلمي أن المكان قد ظهر أولا باعتباره تطويرا لأحد الأبعاد اللامكانية في كون من النوع «الموسيقي». لم تكن الكائنات اللحنية في هذا الكون تستطيع التحرك إلى «الأعلى» و«الأسفل» على السلم الموسيقي فحسب، بل كانت تستطيع الحركة «جانبيا» أيضا. في الموسيقى البشرية، يمكن أن تبدو بعض الموضوعات المحددة أنها تقترب أو تبتعد وفقا لاختلافها في جهورية الصوت وجرسه الموسيقي. وعلى نحو مشابه لهذا، كانت الكائنات في هذا الكون «الموسيقي» تستطيع الاقتراب بعضها من بعض أو الابتعاد إلى أن تختفي نهائيا من مدى السمع. وعند تحركها «جانبيا» كانت تنتقل عبر بيئات لحنية دائمة التغير. وفي كون تال، أثريت هذه الحركة «الجانبية» للكائنات بخبرة مكانية حقيقية.
تلا ذلك أكوان تتمتع بسمات مكانية ذات أبعاد متعددة، أكوان إقليدية وغير إقليدية، أكوان تجسد تنوعا هائلا في المبادئ الهندسية والفيزيائية. في بعض الأحيان، كان الزمان أو الزمكان، هو الحقيقة الجوهرية في الكون، ولم تكن الكائنات سوى صور معدلة عابرة منها. وبالرغم من ذلك، ففي معظم الأحيان كانت الأحداث الكيفية هي الجوهرية، وكانت مترابطة على نحو مكاني-زماني. في بعض الحالات، كان نظام العلاقات المكانية لا نهائيا، وكان نهائيا في بعضها الآخر لكن دون حدود. في بعض الحالات، كان لمدى المكان المحدود قدر ثابت يتناسب مع مكونات المادة الذرية في الكون، وفي بعضها الآخر، مثلما هي الحال في كوننا، كان يبدو في العديد من الجوانب أنه «يتمدد». وفي بعض الأكوان الأخرى، كان المكان «ينكمش»؛ ومن ثم تكون نهاية مثل ذلك الكون، الذي قد يكون ثريا بالمجتمعات الذكية، هي اصطدام جميع أجزائه وتكدسها معا، ثم اجتماعها في النهاية معا وتلاشيها في نقطة عديمة الأبعاد.
في بعض الأكوان، كان التمدد والسكون النهائي يتبعان بالانكماش وأشكال جديدة تماما من النشاط الفيزيائي. في بعض الأحيان، مثلا، كانت اللاجاذبية تحل محل الجاذبية. إن جميع الكتل الكبيرة من المادة كانت تميل للانشطار، في حين كانت تهرب الكتل الصغيرة مبتعدة بعضها عن بعض. وفي مثل ذلك النوع من الأكوان، كان قانون الإنتروبيا ينعكس أيضا. فكانت الطاقة بدلا من أن تتوزع تدريجيا وعلى نحو متساو في جميع أنحاء الكون، تتراكم تدريجيا على الوحدات المادية النهائية. وقد شككت بمرور الوقت أن كوني قد تبع بكون معكوس من هذا النوع، والذي تكون فيه طبيعة الكائنات الحية بالطبع مختلفة بشدة عن كل ما يستطيع الإنسان أن يتخيله. غير أن ذلك انحراف عن السرد؛ إذ إنني أصف الآن أكوانا أبسط كثيرا قد جاءت في مرحلة مبكرة للغاية. كانت العديد من الأكوان سائلا مستمرا متدفقا تسبح فيه الكائنات الصلبة. وقد صمم بعضها الآخر على هيئة سلسلة من الدوائر المتحدة المركز، التي تسكنها أنواع متعددة من الكائنات. وقد كانت بعض الأكوان المبكرة نسبيا أكوانا شبه فلكية تتألف من فراغ يتناثر فيه عدد قليل للغاية من مراكز القوى صغيرة الحجم.
في بعض الأحيان، كان صانع النجوم يصوغ كونا ليس له أي طبيعة فيزيائية موضوعية واحدة. ولا يكون لمخلوقاته أي تأثير لبعضها على بعض على الإطلاق، وإنما يتصور كل من الكائنات، بفعل التحفيز المباشر من صانع النجوم، عالما فيزيائيا وهميا لكنه جدير بالثقة ونافع، ويكون هذا العالم خاصا به، وهو يسكنه كائنات من نسج خياله. كانت هذه العوالم الذاتية التي تمثل العبقرية الرياضية لصانع النجوم مترابطة على نحو منهجي بصورة مثالية.
لا ينبغي بي أن أستفيض أكثر من ذلك في ذكر التنوع الهائل في الأشكال الفيزيائية التي اتخذتها الأكوان الأولى. يكفي القول أن كل كون، بوجه عام، كان أكثر تعقيدا وعلى نحو ما أكثر ضخامة مما سبقه؛ إذ كانت الوحدات الفيزيائية النهائية في كل من هذه الأكوان تصير أصغر مقارنة بالمجموع، وأكثر عددا. كذلك، كانت الكائنات الفردية الواعية في كل منها بوجه عام تزداد في العدد والتنوع، وكان الأكثر تيقظا منها في كل كون يصل إلى عقلية أصفى من جميع الكائنات في الأكوان السابقة.
كانت الأكوان الأولى شديدة التنوع بيولوجيا ونفسيا. في بعض الحالات، كان هناك تطور بيولوجي مثل ذلك الذي نعرفه. تتطور أقلية صغيرة من الأنواع على نحو غير ثابت باتجاه امتلاك قدر أكبر من الفردية والوضوح الذهني. وفي بعض الأكوان الأخرى، كانت الأنواع ثابتة من الناحية البيولوجية، وإذا شهدت تقدما فإنه يكون ثقافيا خالصا. وفي بضعة من الأكوان الأكثر إلغازا، كان الكون يبلغ أقصى حالات اليقظة في البداية، وبهدوء، كان صانع النجوم يشاهد هذا الوعي الصافي وهو يتداعى.
في بعض الأحيان، كان الكون يبدأ بوصفه كائنا بدائيا مفردا ذا بيئة داخلية غير عضوية. وكان يتكاثر بعد ذلك بالانشطار إلى مجموعة متزايدة من الكائنات متزايدة الصغر ومتزايدة التفرد واليقظة. في بعض هذه الأكوان، كان التطور يستمر إلى أن تصبح الكائنات صغيرة للغاية بما لا يسمح بتكيفها مع تعقيد التركيب العضوي الضروري للعقول الذكية. وكان صانع النجوم حينها يشاهد هذه المجتمعات الكونية وهي تسعى باستماتة لتجنب ما قدر على سلالاتها من تداع.
في بعض الأكوان، كان الإنجاز الأهم هو وجود مزيج من المجتمعات التي لا يفهم أحدها الآخر والتي يتفانى كل منها في خدمة جانب واحد من جوانب الروح ويعادي كل ما سواه. وقد تحققت الذروة في بعض هذه الأكوان في صورة مجتمع طوباوي واحد يتكون من عقول مختلفة، وفي البعض الآخر في صورة عقل كوني مركب واحد.
في بعض الأحيان، كان يسر صانع النجوم أن يقضي بأن تكون جميع الكائنات في كون ما تمثيلا حتميا لتأثير البيئة على أسلافها وعليها. وفي بعض الأكوان الأخرى، كانت الكائنات تتمتع ببعض القدرة على الاختيار العشوائي، وبنزر يسير من إبداع صانع النجوم نفسه. كان هذا هو ما بدا لي في حلمي، لكن حتى في حلمي كنت أشك أن الأمر كان سيبدو لملاحظ أكثر دقة على أن كلا من النوعين مسير في حقيقة الأمر، ومع ذلك تلقائي ومبدع أيضا.
في معظم الأحوال، كان صانع النجوم بمجرد أن يسن المبادئ العامة لكون ما ويخلق حالته الأولية، يكتفي بمشاهدة ما يحدث بعد ذلك، لكنه كان يختار التدخل أحيانا إما بخرق أحد قوانين الطبيعة التي كان هو نفسه قد وضعها، أو بوضع مبادئ تكوينية جديدة ناشئة، أو بالتأثير في عقول مخلوقاته من خلال الوحي المباشر. وفقا لحلمي، كان الهدف من هذا التدخل في بعض الأحيان هو تحسين أحد التصميمات الكونية، غير أن الأغلب أن هذه التدخلات تكون موجودة في خطته الأصلية . في بعض الأحيان، كان صانع النجوم يطرح مخلوقات هي في حقيقة الأمر مجموعات من عدة أكوان مترابطة عبارة عن أنظمة فيزيائية من أنواع مختلفة للغاية، لكنها تترابط من خلال حقيقة أن الكائنات كانت تعيش حيواتها على نحو متتابع في كون تلو الآخر، وتتخذ في كل موطن طبيعي بنية فيزيائية أصلية، لكنها تحمل معها في تناسخها ذكريات خافتة ويسهل تحريفها لحالات وجودها السابقة. كان مبدأ التناسخ هذا يستخدم بطريقة مختلفة أيضا في بعض الأحيان؛ فحتى الأكوان التي لم تكن مترابطة بتلك الطريقة المنهجية كان يمكن أن توجد بها كائنات تحاكي ذهنيا على نحو غامض لكنه ملح خبرة نظائرها من الكائنات التي تعيش في كون آخر أو طبعها.
ثمة خط درامي للغاية قد استخدم في كون تلو الآخر. لقد ذكرت قبل ذلك أنه قد بدا في حلمي أن صانع النجوم غير الناضج قد بدا مبتهجا على نحو شيطاني بالفشل المأساوي لأولى تجاربه البيولوجية. وفي العديد من الأكوان التالية أيضا قد بدا مزدوج الرأي؛ فكلما فشلت خطته الإبداعية الواعية بفعل إحدى القدرات الكامنة غير المتوقعة في المادة التي جسدها من أعماق لا وعيه، بدا أن مزاجه لا يتضمن الإحباط فحسب، بل الرضا المندهش أيضا، وكأن ثمة شغفا خفيا قد أشبع على نحو غير متوقع. وقد أدت هذه الازدواجية في الرأي بعد فترة من الوقت إلى ظهور نمط جديد من الخلق. لقد أتت مرحلة في نمو صانع النجوم، مثلما بدا لي في حلمي، قد سعى فيها لأن يفصل نفسه إلى روحين مستقلتين؛ إحداهما روحه الجوهرية التي كانت تسعى إلى الخلق الإيجابي لقوالب روحانية وحيوية ووعي متزايد الصفاء على الدوام، أما الروح الأخرى فهي الروح المتمردة التدميرية الساخرة التي لا يمكن أن يكون لها أي وجود إلا على شكل طفيل لتتطفل على أعمال الروح الأخرى.
راح صانع النجوم يفصل بين هاتين النزعتين في نفسه مرارا وتكرارا، ويجسدهما بصفتهما روحين مستقلتين، وسمح لهما بأن يتصارعا في أحد الأكوان على السيادة. كان هذا الكون يتألف من ثلاثة عوالم مترابطة ويذكرنا بعض الشيء بالمعتقد المسيحي. كان أول هذه العوالم الثلاثة المترابطة مأهولا بأجيال من الكائنات التي تتمتع بدرجات متفاوتة من التعقل والذكاء والنزاهة الأخلاقية. هنا كانت الروحان تتصارعان على أرواح الكائنات. كانت الروح «الخيرة» تعظ وتساعد وتكافئ وتعاقب، وكانت الروح «الشريرة» تخادع وتغوي وتحطم الأخلاق. عند الموت، ذهبت الكائنات إلى أحد العالمين الآخرين، واللذين كانا يمثلان نعيما أبديا وجحيما أبديا. وهناك كانت هذه الكائنات تختبر لحظة أبدية تتمثل في نشوة الإدراك والعبادة أو في عذاب الندم الشديد.
حين مثل لي حلمي هذه الصورة البدائية الهمجية، شعرت بالرعب والتشكك في بادئ الأمر. كيف يمكن لصانع النجوم، حتى وإن كان في مرحلة الرعونة، أن يحكم على مخلوقاته بالمعاناة بسبب نقاط الضعف التي وضعها هو نفسه فيهم؟ كيف لهذا الإله المحب للعقاب أن يأمر بالعبادة؟ وعبثا حاولت أن أخبر نفسي أن الحلم ولا بد قد زيف الحقيقة تماما؛ إذ إنني كنت مقتنعا أنه في هذا الجانب لم يزيف الحقيقة، بل كان على نحو ما صحيحا، وإن كان ذلك بصورة رمزية على الأقل. بالرغم من ذلك، فحتى حين واجهت هذا الفعل الوحشي، حتى في نفوري شفقة ورعبا، كنت أمجد صانع النجوم.
ولكي أبرر عبادتي، أخبرت نفسي أن هذا اللغز المريع يتجاوز قدرتي على الفهم، وأن حتى هذه القسوة الشنيعة لا بد أن تكون على نحو ما هي الصواب إن جاءت من صانع النجوم. هل من الممكن أن تكون الهمجية من سمات صانع النجوم في مرحلة رعونته فحسب؟ أيتجاوزها بعد ذلك حين تتحقق ذاته بالكامل؟ كلا! كنت أعرف في أعماقي بالفعل أن هذه القسوة سوف تظهر حتى في الكون النهائي. أيمكن إذن أن تكون هناك حقيقة أساسية يمكن تبرير هذه الأفعال التي تبدو انتقامية في ضوئها، لكنني قد أغفلتها؟ أيكون الأمر ببساطة هو أن كل هذه المخلوقات ليست سوى صور من القوة الخالقة في حقيقة الأمر، وأن صانع النجوم في تعذيبه لمخلوقاته إنما يعذب نفسه على مدار مغامرته في التعبير عن الذات؟ أم يكون الأمر أن صانع النجوم نفسه، بالرغم من عظمته، محدود في جميع خلقه ببعض المبادئ المنطقية المطلقة، وأن أحد هذه المبادئ يتمثل في الرابطة الأزلية بين الخيانة والندامة في الأرواح نصف المتيقظة؟ أيكون قد تقبل في هذا الكون الغريب القيود الحتمية لفنه واستخدمها؟ أم أن احترامي لصانع النجوم كان موجها لروحه «الخيرة» دونا عن «الشريرة»؟ وهل كان يحاول في حقيقة الأمر أن يطرد الشر من نفسه من خلال خطة الانفصال تلك؟
كان التطور الغريب في هذا الكون يطرح مثل ذلك التفسير؛ فنظرا لأن معظم سكانه كانوا يمتلكون درجة منخفضة للغاية من الذكاء والنزاهة الأخلاقية، سرعان ما ازدحم الجحيم، بينما ظلت الجنة فارغة تقريبا. بالرغم من ذلك، فقد كان الجانب «الخير» من صانع النجوم يحب مخلوقاته ويشفق عليهم؛ ومن ثم فقد دخلت روحه «الخيرة» إلى العالم الدنيوي لتطهر المذنبين بمعاناته. وبهذا، فقد عمرت الجنة أخيرا بالسكان، غير أن الجحيم لم يخل منهم.
ألم أكن أعبد إذن سوى الجانب «الخير» في صانع النجوم؟ كلا! على نحو لا عقلاني لكن عن اقتناع، توجهت بعشقي لصانع النجوم بصفته التي تضم جانبي طبيعته المزدوجة؛ توجهت بالعشق إلى كلا جانبيه: «الخير» و«الشرير»، اللطيف والمريع، الإنساني على نحو مثالي واللاإنساني إلى أبعد الحدود. وكعاشق مفتون ينكر العيوب الفجة في محبوبه أو يختلق لها الأعذار، سعيت جاهدا إلى التلطيف من الجانب اللاإنساني لدى صانع النجوم، بل إنني افتخرت به على نحو إيجابي. أكان هناك إذن جانب قاس في طبيعتي؟ أم أن قلبي قد أدرك على نحو مبهم أن الحب، الذي هو الفضيلة الأسمى في المخلوقات، لا ينبغي أن يكون مطلقا في الخالق؟
واجهتني هذه المشكلة الملحة العويصة مرارا وتكرارا على مدار حلمي؛ فقد كان هناك كون على سبيل المثال سمح فيه للروحين بأن يتصارعا بطريقة جديدة وأكثر خفاء. في مرحلته المبكرة، لم يظهر في هذا الكون سوى السمات الفيزيائية، غير أن صانع النجوم قضى بأن تفصح إمكاناته الحيوية عن نفسها بصورة تدريجية في شكل أنواع محددة من الكائنات الحية التي ستظهر جيلا بعد جيل من السمات الفيزيائية الخالصة، وتتطور نحو الذكاء والصفاء الروحاني. وفي هذا الكون، سمح صانع النجوم لروحيه: «الخيرة» و«الشريرة» بأن يتنافسا حتى في عملية صنع الكائنات نفسها.
في العصور الأولى الطويلة، تصارعت الروحان على تطور الأنواع الكثيرة. عملت الروح «الخيرة» على إنتاج كائنات تتمتع بدرجة أعلى من التنظيم والفردانية والارتباط الدقيق بالبيئة، والبراعة في الفعل والوعي الواضح والشامل بالعالم وبأنفسهم وبالآخرين. أما الروح «الشريرة» فقد حاولت إحباط هذا المشروع.
تبدى الصراع بين الروحين في تركيب أعضاء جميع الأنواع وأنسجتها. أحيانا كانت الروح «الشريرة» تضع ما يبدو أنه سمات تافهة في الكائن لكنها خبيثة سامة تؤدي إلى هلاكه. كانت طبيعته تتضمن قابلية خاصة لإيواء الطفيليات، أو بعض مواطن الضعف في آلية الهضم، أو شيء من عدم الاستقرار في التنظيم العصبي. وفي بعض الحالات الأخرى، كانت الروح «الشريرة» تزود بعض الأنواع الأدنى بأسلحة خاصة لتدمير طلائع التطور حتى يذعنوا إما إلى مرض جديد أو إلى الأوبئة التي تسببها آفات هذا الكون، أو إلى الأكثر وحشية من أفراد نوعهم.
كانت الروح «الشريرة» تستخدم أحيانا خطة أكثر براعة تؤدي إلى تأثير عظيم. حين تكون الروح «الخيرة» قد توصلت إلى خطة واعدة، وطورت من بدايات صغيرة في الأنواع المفضلة لها تركيبا عضويا أو نمطا سلوكيا ما، فإن الروح «الشريرة» كانت تخطط لأن تبقي على استمرار عملية التطور لفترة طويلة للغاية بعد أن تكون قد بلغت المرحلة المثالية في تلبية احتياجاته. فتنمو الأسنان حتى تصبح كبيرة للغاية فيصبح تناول الطعام أمرا شديد الصعوبة، وتصبح الأصداف الواقية ثقيلة للغاية مما يعيق التنقل الحركي، وتصبح القرون ملتوية للغاية حتى إنها تضغط على الدماغ، ويصبح الدافع إلى الفردانية ملحا للغاية حتى إنه يدمر المجتمع أو يصبح الدافع الاجتماعي متملكا للغاية حتى يسحق الفردانية.
وبهذا ففي عالم تلو الآخر في هذا الكون، والذي كان قد تجاوز جميع الأكوان السابقة في التعقيد، كانت الغالبية الساحقة من الأنواع تتعرض عاجلا أو آجلا إلى الهلاك. بالرغم من ذلك، فقد وصل نوع واحد في بعض العوالم إلى المستوى «البشري» من الذكاء والوعي الروحانيين. وكان من المفترض أن تحميه هاتان القوتان من جميع الهجمات المحتملة، غير أن الروح «الشريرة» قد شوهت الذكاء والوعي الروحانيين كليهما على نحو شديد البراعة. ذلك أنه بالرغم من تكاملهما بحكم الطبيعة، فإنهما قد يتصارعان أيضا، أو يمكن المبالغة في أحدهما أو كليهما ليكون مهلكا كالقرون والأسنان الشديدة الطول في الأنواع السابقة؛ ومن ثم فالذكاء، الذي كان يؤدي من جانب إلى التحكم في القوى المادية وإلى البراعة الفكرية على الجانب الآخر، يمكن أن يؤدي إلى حدوث كوارث إذا انفصل عن الوعي الروحاني. غالبا ما كان التحكم في القوى المادية يؤدي إلى توليد هوس بالسلطة وتقسيم المجتمع إلى طبقتين غريبتين؛ الأسياد والعبيد. أما البراعة الفكرية فكانت يمكن أن تؤدي إلى توليد هوس بالتحليل والتجريد مع إغفال جميع ما لا يمكن للفكر أن يفسره. أما الوعي الروحاني نفسه، فحين كان يرفض النقد الفكري ومتطلبات الحياة اليومية، فإنه يصبح مختنقا بين الأحلام. (2) الخلق الناضج
وفقا للأسطورة التي تصورها عقلي حين عشت اللحظة الأسمى في خبرتي الكونية، فقد دخل صانع النجوم أخيرا في حالة من التأمل المستغرق مرت فيها طبيعته بتغير ثوري؛ ولهذا فأنا على الأقل كنت أحكم على الأمور من خلال هذا التغير العظيم الذي حل الآن بنشاطه الإبداعي.
بعد أن راجع صانع النجوم جميع أعماله السابقة بعين جديدة، رافضا كلا منها، مثلما بدا لي، بشعور مختلط من الاحترام ونفاد الصبر، اكتشف في نفسه تصورا جديدا وخصبا.
الكون الذي كان قد خلقه الآن هو الذي يتضمن قراء هذا الكتاب وكاتبه. وقد استخدم في صنعه العديد من المبادئ التي أثبتت كفاءتها في الأكوان السابقة، لكنه قد صاغها ونسجها معا بفن أكثر براعة لتشكل وحدة أكثر دقة وثراء من ذي قبل.
وقد بدا لي، في تخيلاتي، أنه قد أقبل على مشروعه الجديد بمزاج جديد. كانت الأكوان السابقة جميعها تبدو أنها قد صممت بإرادة واعية لتجسد مبادئ محددة، فيزيائية وبيولوجية ونفسية. ومثلما ذكرت من قبل، كثيرا ما كان هناك صراع بين غايته الفكرية والطبيعة الأولية التي كان قد استدعاها من أعماق وجوده المبهم من أجل مخلوقه. غير أنه في هذه المرة قد تعامل مع وسط الخلق بقدر أكبر من الحساسية. إن «المادة» الروحانية الخام التي جسدها من أعماقه الخفية من أجل تشكيل مخلوقه الجديد قد تشكلت بما يتلاءم أيضا مع هدفه، الذي لا يزال مبدئيا، بقدر أكبر من الذكاء المتفهم والاحترام لطبيعة مخلوقه وإمكاناته الكامنة، لكن مع التجرد في الوقت نفسه من متطلباته الأكثر تطرفا.
إن الحديث عن الروح الكونية الخالقة بهذه الطريقة يعطيها صفات بشرية على نحو طفولي. ذلك أن حياة هذه الروح، إن كان لها أي وجود على الإطلاق، لا بد أنها تختلف اختلافا تاما عن العقلية البشرية، ولا بد أنها تستعصي تماما على الإدراك البشري. بالرغم من ذلك، فبما أن هذه الرمزية الطفولية قد فرضت نفسها علي، فأنا أسجلها؛ إذ بالرغم من سذاجتها لربما تنطوي على انعكاس صادق للحقيقة، وإن كان انعكاسا مشوها.
في الكون الجديد، حدث نوع غريب من التباين بين زمن صانع النجوم والزمن الملائم للكون نفسه. قبل ذلك الوقت، كان يستطيع أن يعزل نفسه عن الزمن الكوني حين يكمل التاريخ الكوني نفسه، ويراقب العصور الكونية بأكملها على أنها وقت حاضر، لكنه لم يكن يستطيع أن يخلق المراحل اللاحقة في الكون قبل أن يكون قد خلق المراحل السابقة. أما في خلقه الجديد، فلم يكن محدودا بهذه القيود.
ولذلك، بالرغم من أن هذا الكون الجديد هو كوني، فقد نظرت إليه من زاوية مدهشة. لم يعد يبدو لي سلسلة مألوفة من الأحداث التاريخية التي تبدأ بالانفجار الفيزيائي الأولي وتتقدم إلى الموت الأخير. لم أعد أراه الآن من داخل تدفق الزمن الكوني، بل العكس. لقد شاهدت تشكيل الكون في الزمن الملائم لصانع النجوم، وقد كان تسلسل أحداث الخلق التي قام بها صانع النجوم مختلفا للغاية عن تسلسل الأحداث التاريخية.
في بداية الأمر، جسد من أعماق وجوده شيئا لا هو بالمادة ولا بالذهن، بل شيئا ثريا بالاحتمالات وبالسمات والومضات والتلميحات الموحية لخياله الإبداعي. لقد تأمل هذه المادة الراقية لفترة طويلة. لقد كانت وسطا يستلزم أن يكون الفرد والجميع فيه يعتمد أحدهما على الآخر على نحو في غاية الدقة، وأن جميع الأجزاء والشخصيات الموجودة فيه يتخلل بعضها بعضا، وأن يبدو كل شيء فيه محض تأثير في جميع الأشياء الأخرى، وألا يكون الكيان الكلي في الوقت ذاته سوى محصلة لمجموع الأجزاء الخاصة به، ويكون كل جزء فيه معرفا للكيان الكلي. لقد كانت مادة كونية لا بد أن تكون كل روح فردية فيها، على نحو ملغز، ذاتا مطلقة ونسجا خياليا من جانب الكيان الكلي في الوقت ذاته.
كان صانع النجوم الآن قد نحت هذا الوسط الأكثر دقة بصورة مبدئية ومنحه البنية العامة للكون. وهكذا صمم نظاما غير محدد بعد للزمان والمكان، وكأنه لم يمنح صيغته الهندسية بعد؛ فكان شيئا فيزيائيا غير متبلور لا يتمتع بما للقوانين الفيزيائية من تعقيد وليس له صفة أو اتجاه، وتوجه حيوي له تصور مميز ومغامرة ذهنية ملحمية، وذروة محددة على نحو مدهش من الصفاء الروحي. وهذا الأمر الأخير، بالرغم من أن موقعه في الزمن الكوني سيكون متأخرا في الأغلب، كان أول العوامل الكونية التي قد منحت شكلا دقيقا في التخطيط في تسلسل العمل الإبداعي. وقد بدا لي أن ذلك قد حدث لأن المادة الأولية نفسها قد كشفت بوضوح شديد عما بها من إمكانات لمثل هذا الشكل الروحاني. وهكذا قد تجاهل صانع النجوم التفاصيل الفيزيائية في عمله في البداية، وتجاهل العصور الأولى من التاريخ الكوني أيضا، وكرس مهارته في البداية بصورة كلية تقريبا إلى تشكيل الذروة الروحانية للكون بأكمله. وهو لم يحدد أيا من التوجهات النفسية المختلفة التي يجب أن تؤدي في الزمن الكوني إلى المرحلة الأكثر تيقظا للروح الكونية إلا بعد أن يضع تماما ملامح تلك المرحلة. وهو لم يخصص كامل انتباهه لوضع أنظمة التطور البيولوجي والتعقيد الفيزيائي والهندسي الأقدر على استثارة الإمكانات الأكثر دقة في الروح الكونية التي كانت ما تزال في مرحلة التشكيل المبدئي إلا بعد أن حدد محاور النمو الذهني الفائقة التنوع. بالرغم من ذلك، فحتى وهو يضع النظام الهندسي، كان يعود في بعض الأحيان ليعدل الذروة الروحانية نفسها ويزيدها جلاء. وهو لم يمنح تلك الذروة الروحانية الفردانية الواضحة المعالم إلا بعد أن أشرف على الانتهاء من البنية الفيزيائية والهندسية للكون بأكملها تقريبا.
بينما كان لا يزال يعمل في تفاصيل ذلك العدد الهائل من الحيوات الفردية المؤثرة، ومصائر البشر والسمكيات والنوتيات وبقية السلالات، صرت مقتنعا بأن موقفه تجاه مخلوقاته مختلف للغاية عما كان عليه في أي كون آخر. إنه لم يكن لا مباليا بشأنهم ولم يكن ببساطة يحبهم. كان لا يزال يحبهم بالتأكيد، لكن بدا أنه قد تجاوز كل رغبة في إنقاذهم من عواقب طبيعتهم المحدودة والتأثيرات القاسية للبيئة. كان يحبهم لكن دون شفقة؛ إذ رأى أن الفضيلة التي تميزهم هي طبيعتهم المحدودة، وخصوصيتهم الدقيقة، وتوازنهم المعذب بين البلادة والصفاء، وأن إنقاذهم من هذه الأمور يعني القضاء عليهم.
حين أضفى اللمسات الأخيرة على جميع العصور الكونية بداية من اللحظة الأسمى رجوعا إلى الانفجار الأولي ووصولا إلى الموت الأخير، تأمل صانع النجوم عمله، ورأى أنه حسن.
وبينما راح بحب، وانتقاد أيضا، يراجع كوننا في تنوعه اللانهائي وفي لحظته الوجيزة من الصفاء، شعرت بأنه قد امتلأ فجأة بمشاعر التبجيل للمخلوق الذي صنعه أو طرحه من أعماقه السرية من خلال نوع من التوليد الذاتي الإلهي. كان يعرف أن هذا المخلوق، بالرغم من عدم كماله، وبالرغم من أنه محض مخلوق، ومحض نسج خيالي من مقدرته الإبداعية، هو أكثر واقعية منه هو نفسه بطريقة ما. فماذا يكون هو نفسه مقارنة بهذا التألق المجسد سوى قدرة مجردة للخلق؟ إضافة إلى ذلك، فقد كان ذلك الشيء الذي صنعه متفوقا عليه ومعلما له أيضا في أحد الجوانب الأخرى؛ ذلك أنه حين تأمل هذا الشيء الذي هو أجمل أعماله وأكثرها براعة، بانتشاء وإجلال، كان لهذا العمل تأثير عليه قد غيره، تأثير قد نقى إرادته وعمقها. وحين حدد مزايا مخلوقه ومواطن ضعفه، نضج إدراكه هو ومهارته. أو على الأقل هكذا بدا الأمر لعقلي الحائر المترع بالرهبة.
ومن ثم فقد حدث مثلما كان يحدث غالبا من قبل، وهو أن صانع النجوم قد بدأ يمل من مخلوقه شيئا فشيئا. وصار استياؤه من ذلك الجمال الذي كان لا يزال يعتز به، يزداد بصورة مستمرة. بعد ذلك، وعلى نحو يبدو أنه صراع بين التبجيل ونفاد الصبر، وضع كوننا في مكانه الخاص بين أعماله الأخرى.
ومرة أخرى، استغرق في التأمل. ومرة أخرى، استحوذت عليه رغبة الخلق.
أما الأكوان العديدة التي تلت كوننا، فلن أقول عنها شيئا؛ إذ إنها تتجاوز قدرتي الذهنية في العديد من الجوانب. لم أستطع أن ألم بأي شيء عنها إلا أنها كانت تضم إلى جانب الكثير من الأشياء التي لا يمكن تصورها، بعض السمات التي لم تكن سوى تجسيدات رائعة لمبادئ كنت قد صادفتها من قبل؛ ومن ثم فقد فاتتني جميع الجوانب الأساسية التي تمثل بما بها من جدة.
يمكنني بالتأكيد أن أقول إن جميع هذه الأكوان، كما هو الحال بالنسبة إلى كوننا، بالغة الثراء وبالغة الدقة، وإن كلا منها يتضمن، بطريقة غريبة أو بأخرى، جانبين، أحدهما مادي والآخر ذهني؛ وإن كان الجانب المادي في العديد منها، رغم أهميته الشديدة لنمو الروح، أكثر شفافية وأكثر غرابة على نحو واضح مما هو عليه في كوننا. وفي بعض الحالات، كان ذلك ينطبق بالقدر نفسه على الجانب الذهني أيضا؛ إذ كانت الكائنات أقل عرضة بكثير لأن تخدع بغموض عمليتها الذهنية الفردية، وأكثر حساسية للشعور باتحادها الكامن.
يمكنني أن أقول أيضا إنه في هذه الأكوان جميعها، كان الهدف الذي بدا لي أن صانع النجوم يسعى إلى تحقيقه هو ثراء الوجود ورقته وعمقه وتناغمه. أما ما تعنيه هذه الكلمات بالتفصيل، فذلك مما أجد صعوبة في قوله. لقد بدا لي أنه في بعض الحالات، كما في كوننا، قد سعى إلى تحقيق هذه الغاية عن طريق عملية تطورية يكللها عقل كوني يقظ سعى إلى جمع ثروة الوجود الكوني بأكملها في وعيه وزيادتها بالنشاط الإبداعي. غير أن هذا الهدف قد تحقق في العديد من الحالات بمقدار أقل كثيرا من الجهد والمعاناة من جانب المخلوقات مقارنة بما حدث في كوننا، ودون الضياع التام الكارثي للحيوات وهو الأمر الذي يؤلمنا للغاية. بالرغم من ذلك، ففي بعض الأكوان الأخرى، بدا أن المعاناة تبلغ على الأقل تلك الدرجة نفسها من الفداحة والانتشار التي هي عليها في كوننا.
في مرحلة نضجه، تصور صانع النجوم العديد من الأشكال الغريبة للزمن. إن بعض الأكوان اللاحقة على سبيل المثال قد تضمنت في تصميمها بعدين زمنيين أو أكثر، وكانت حيوات المخلوقات فيها هي تسلسلات زمنية في أحد بعدي الزمن: «المساحة» أو «الحجم». كانت هذه الكائنات تختبر كونها على نحو غريب للغاية. كان كل منها يعيش لفترة وجيزة على أحد البعدين، ويختبر كل لحظة من حياته على أنها مشاهد متزامنة، والتي كانت بالرغم من تفرقها وغموضها، هي في حقيقة الأمر رؤية لتطور كوني «مستعرض» فريد للغاية يحدث على البعد الآخر. في بعض الحالات، كان لكل من الكائنات حياة نشطة في البعدين الزمنيين للكون. إن المهارة الإلهية، التي صممت «الحجم» الزمني بتلك الطريقة التي تتلاءم معا فيها جميع الأفعال التلقائية اللانهائية التي تصدر عن جميع الكائنات لتنتج نظاما متماسكا من حالات التطور المستعرضة، قد تجاوزت حتى براعة التجربة السابقة في «التناغم المسبق التأسيس».
في بعض الأكوان الأخرى، كان الكائن يمنح حياة واحدة فقط، لكنها تتمثل في «خط متعرج» ينتقل من بعد زمني إلى الآخر وفقا لنوعية الخيارات التي اتخذها الكائن؛ فكانت الخيارات القوية أو الأخلاقية تؤدي إلى اتجاه زمني محدد، بينما تؤدي الخيارات الضعيفة أو غير الأخلاقية إلى اتجاه آخر.
وفي أحد الأكوان البالغة التعقيد، كان الكائن متى واجه العديد من المسارات المحتملة للأفعال، اتخذها جميعا؛ فيخلق العديد من الأبعاد الزمنية المختلفة والعديد من المسارات التاريخية للكون. ولأن كل تسلسل تطوري في الكون كان يتضمن الكثير جدا من الكائنات، وكلا منها يواجه العديد من المسارات المحتملة بصفة مستمرة، وكانت توليفات جميع مساراتها لا حصر لها؛ فقد كانت كل لحظة في كل تسلسل زمني تنتج عددا لا نهائيا من الأكوان المختلفة.
في بعض الأكوان، كان كل كائن يتمتع بإدراك حسي للكون المادي بأكمله من عدة نقاط مكانية، أو حتى من جميع النقاط الممكنة. في الحالة الأخيرة، كان إدراك العقول جميعها يتطابق بالطبع في النطاق المكاني، لكنه كان يختلف من عقل إلى آخر في التعمق أو البصيرة. وقد كان هذا يتوقف على المقدرة الذهنية للعقول المحددة واستعدادها. وفي بعض الأحيان، لم تكن هذه الكائنات تتمتع بإدراك كلي الوجود فحسب، بل بإرادة كلية الوجود أيضا. كانت تستطيع القيام بالأفعال في جميع مناطق المكان، وإن كان ذلك بدقة وقوة تختلفان وفقا لمقدرتها الذهنية. لقد كانت على نحو ما، أشبه بأرواح غير متجسدة تطوف فوق الكون المادي كلاعبي الشطرنج أو كآلهة الإغريق فوق سهل طروادة.
في أكوان أخرى، لم يكن هناك ما يشبه الكون المادي المنهجي المألوف، بالرغم من وجود الجانب المادي بكل تأكيد. كانت الخبرة المادية للكائنات تتحدد بالكامل بناء على تأثيرها المتبادل على بعضها. لقد كان كل منها يغمر رفاقه ب «الصور» الحسية، وكانت نوعية هذه الصور وتسلسلها يتوقفان على القوانين النفسية التي تحكم تأثير كل عقل على الآخر.
في أكوان أخرى، كانت عمليات الإدراك الحسي والتذكر والتفكير وحتى الرغبة والمشاعر، مختلفة كل الاختلاف عما نعرفه حتى إنها تشكل في حقيقة الأمر عقلية ذات تنظيم مختلف تماما. وبالرغم من أنني على ما يبدو ما زلت أتذكر لمحات من هذه العقول، فلا يمكنني أن أذكر عنها أي شيء.
من الأحرى أن أقول إنه بالرغم من أنني لا أستطيع الحديث عن الأنماط النفسية الغريبة لهذه الكائنات، فثمة حقيقة غريبة عنها يمكنني أن أذكرها. بالرغم من أن أنسجتها الذهنية الأساسية والأنماط التي ترتبط بها معا تستعصي على الإدراك، استطعت أن أحظى بفهم عابر لأحد الجوانب في هذه الكائنات. بالرغم من اختلاف حيواتها عن حياتي، كانت تشبهني في جانب من الجوانب. إن جميع هذه الكائنات الكونية الأعلى مرتبة مني، والتي قد وهبت قدرا أكبر من القدرات، كانت تواجه باستمرار الوجود بالطريقة التي ما زلت أنا نفسي أسعى أحيانا إلى تعلمها؛ إنها، حتى في الألم والأسى، وحتى في النضال الأخلاقي والشفقة المتأججة، كانت تلاقي قرار القدر بابتهاج. ربما تكون الحقيقة الأكثر إدهاشا وتشجيعا في جميع خبراتي الكونية والفائقة للكون هي هذا التشابه وفهم أغرب الكائنات فيما يتعلق بالخبرة الروحانية الخالصة. بالرغم من ذلك، فسرعان ما اكتشفت أن هناك الكثير مما يجب علي أن أتعلمه في هذا الشأن. (3) الكون النهائي والروح الأبدية
عبثا راح انتباهي المجهد والمرهق يحاول أن يتبع الأكوان المتزايدة التعقيد والبراعة والتي، وفقا لحلمي، قد تصورها صانع النجوم. انطلق الكون تلو الكون من مخيلته المتقدة، وكل منها بروح مميزة متنوعة على نحو لا نهائي، وكل منها تصل في أعلى مستوياتها إلى حالة أكثر تيقظا من سابقاتها، وكل منها تستعصي على إدراكي بقدر أكبر.
بعد برهة، كشف لي حلمي أو أسطورتي، أن صانع النجوم قد خلق كونه النهائي والأكثر براعة على الإطلاق، والذي لم تكن غيره من الأكوان سوى تحضيرات بدائية له. لا يمكنني أن أقول عن هذا المخلوق الأخير سوى أنه كان يضم في نسيجه الأساسي، الأسس الجوهرية لجميع سابقيه، وأكثر منها بكثير. لقد كان شبيها بالحركة الأخيرة من إحدى السيمفونيات، والتي يمكن أن تتضمن من خلال دلالة محاورها، جوهر الحركات السابقة ومزيدا عليه، غير أن هذا التشبيه المجازي يخل بوصف براعة الكون النهائي وتعقيده إخلالا عظيما. لقد دفعت تدريجيا إلى الاعتقاد بأن العلاقة بينه وبين أي كون آخر سابق عليه، كالعلاقة بين كوننا وبين الإنسان، بل وذرة مادية واحدة. اتضح أن كل كون من الأكوان التي شاهدتها حتى الآن هو مثال واحد على رتبة متعددة الجوانب كأحد الأنواع البيولوجية أو رتبة تضم جميع ذرات عنصر واحد. بدا أن الحياة الداخلية في كل كون «ذري» تنطوي على النوع نفسه من الارتباط (والنوع نفسه من عدم الارتباط) بحياة الكون النهائي، كالعلاقة بين الأحداث في خلية دماغية، أو في أحد ذراتها، وبين حياة أحد العقول البشرية. وبالرغم من ذلك التباين العظيم، بدا أنني قد شعرت في ذلك الترتيب الهرمي المربك للأكوان بتطابق صارخ في الروح؛ فقد كان الهدف في هذه الأكوان كلها في النهاية يتضمن الاتحاد والعقل الإبداعي الصافي.
أجهدت ذكائي المتلاشي ليدرك شيئا عن تركيب الكون النهائي. وبإعجاب مختلط بالاعتراض، لمحت على نحو غير تام الأوجه الخفية الأخيرة في العالم والجسد والروح واتحاد هذه الكائنات الفردية الأكثر تنوعا والتي وصلت إلى أعلى مراحل اليقظة المتمثلة في المعرفة التامة للذات والبصيرة المشتركة، لكنني حين حاولت أن أصغي في ذاتي إلى موسيقى تلك الأرواح المجسدة في عدد لا يحصى من العوالم، لم تكن الأصداء التي وجدتها لمباهج لا يفي الحديث بالتعبير عنها فحسب، بل كانت أيضا لأحزان لا عزاء عنها؛ ذلك أن بعض هذه الكائنات النهائية لم تكن تعاني فحسب، بل إنها كانت تعاني في الظلام. وبالرغم مما كانت تتمتع به من قوة البصيرة الكاملة، كانت قوتها عقيمة. كانت الرؤية محجوبة عنها؛ فذاقت من المعاناة ما لم تذقه الأرواح الأدنى منها. لقد كانت شدة هذه التجربة القاسية لا تحتمل بالنسبة إلي، أنا الروح الواهنة لكون أدنى في المرتبة. وفي حسرة الرعب والشفقة، أوقفت بيأس عمل آذان عقلي. صرخت على ضآلتي في صانعي بأنه ما من مجد أبدي ومطلق يمكن أن يعوض حسرة هذه الكائنات. حتى إن كان البؤس الذي لمحته لم يكن في واقع الأمر سوى بضعة خيوط قاتمة قد حيكت في النسيج الذهبي لتثريه، وكان كل ما عدا ذلك نعيما؛ فقد صرخت قائلا بأن هذا العناء للأرواح المتيقظة، ما كان من المفترض له أبدا أن يحدث. تساءلت: بأي غل شيطاني ذاقت هذه الأرواح المجيدة العذاب، بل حرمت أيضا من العزاء الأسمى المتمثل في نشوة التأمل والتسبيح التي هي الحق الطبيعي للأرواح المكتملة اليقظة جميعها؟ لقد مر بي وقت نظرت فيه أنا نفسي، العقل المشترك لكون ذي مرتبة دنيا، إلى خيبات أفرادي الضئال وأحزانهم برصانة، واعيا بأن معاناة هذه الكائنات الناعسة ليست بالثمن الكبير مقابل ما قد ساهمت به أنا نفسي في الواقع من صفاء. غير أن الأفراد الذين كانوا يذوقون المعاناة في الكون النهائي بالرغم من عددهم القليل مقارنة بالعدد الكبير من المخلوقات السعيدة، فقد بدوا لي أنهم كائنات من رتبتي الكونية الذهنية نفسها، لا تلك الكائنات الواهنة التافهة التي ساهمت بأحزانها البليدة في صنعي. وهذا هو ما لم أستطع أن أتحمله.
بالرغم من ذلك، فعلى نحو مبهم، كنت أرى أن الكون النهائي جميل على أي حال ومثالي التكوين، وأن كل خيبة وحسرة فيه، مهما بلغت قسوتها على من يعاني منها، كانت تتجلى في النهاية دون أي إنقاص من الصفاء البالغ للروح الكونية نفسها. ومن هذه الناحية على الأقل، لم تكن المآسي الفردية عبثا.
غير أن هذا لم يكن شيئا. والآن، بدا أنني أرى، من خلال دموع التعاطف والاعتراض الشديد، روح الكون النهائي المثالي تواجه صانعها. وقد بدا أن التمجيد داخلها قد تغلب على التعاطف والاستياء. أما صانع النجوم، تلك القوة المظلمة والذكاء الصافي، فقد وجد في الجمال المتجسد في مخلوقه تحقيقا لرغبته. وفي البهجة المتبادلة بين صانع النجوم والكون النهائي، تولدت، على نحو شديد الغرابة، الروح المطلقة نفسها، والتي تكون فيها كل الأزمان حاضرة والوجود كله متضمنا؛ ذلك أن الروح التي نتجت عن هذا الاتحاد قد واجهت ذكائي المترنح بصفتها أساس جميع الأشياء المؤقتة المحدودة ونتاجها أيضا.
غير أن هذا الكمال الغامض والبعيد لم يمثل لي شيئا؛ ففي شفقتي على الكائنات النهائية المعذبة، وفي شعور بشري بالخزي والغضب، حنقت على حقي الطبيعي في الانتشاء بهذا الكمال اللاإنساني، وحننت إلى العودة إلى كوني الأدنى مرتبة، وإلى عالمي البشري المتخبط حيث أقف هناك كتفا إلى كتف مع نوعي نصف الحيواني في مواجهة قوى الظلام؛ أجل، وفي مواجهة ذلك الطاغية المنيع القاسي غير المبالي، والذي تقتصر أفكاره على إنتاج عوالم عاقلة ومعذبة.
ثم في خضم هذا الشعور بالتحدي، بينما صفقت وأحكمت إغلاق باب زنزانتي الصغيرة المظلمة المتمثلة في ذاتي المنفصلة، تهشمت جميع جدراني إلى الداخل وسحقت بفعل الضغط الناتج عن ضوء لا يمكن مقاومته، واحترق نظري مرة أخرى بصفاء لا يمكنه تحمله.
هل حدث هذا مرة أخرى؟ كلا. كل ما هنالك أنني قد عدت مرة أخرى في حلمي التفسيري إلى لحظة التنوير نفسها، والتي قد منعني عنها العمى، حين بدا أنني قد نشرت جناحي للقاء صانع النجوم، وصعقني ضوء رهيب. غير أنني صرت أدرك الآن بوضوح أكبر ما قد حل بي. لقد كنت في مواجهة صانع النجوم بالفعل، لكنه قد ظهر لي الآن بصفته الروح الإبداعية؛ ومن ثم المحدودة. لقد بدا الآن في صورة الروح الأبدية الكاملة التي تضم جميع الأشياء وجميع الأزمان وتتأمل على الدوام ذلك الحشد اللانهائي التنوع الذي تتضمنه. لقد كان النور الذي غمرني وصعقني فأودى بي إلى العبادة العمياء هو قبس من خبرة الروح الأبدية كلية الإدراك، أو هذا هو ما بدا لي.
بضنى ورعب وموافقة أيضا، بل حتى بثناء، شعرت أو بدا أنني قد شعرت بشيء من مزاج الروح الأبدية إذ استوعبت جميع حيواتنا في رؤية حدسية أبدية واحدة. هنا لم يكن ثمة شفقة، ولا عرض بالخلاص ولا مساعدة طيبة. أو يمكننا أن نقول إنه هنا كانت الشفقة كلها والحب كله، لكنهما محكومان بانتشاء بارد. حيواتنا الخربة، حكايات حبنا، حماقاتنا، خياناتنا، دفاعاتنا البائسة والباسلة، كانت جميعها تحلل وتقيم وتوضع في مكانها بهدوء. صحيح أنها كانت تعاش جميعها بتفهم كامل، وفطنة وتعاطف تام، بل حتى بشغف، غير أن التعاطف لم يكن مطلقا في مزاج الروح الأبدية، أما التأمل فقد كان كذلك. الحب أيضا لم يكن مطلقا، أما التأمل فقد كان كذلك. وبالرغم من وجود الحب في مزاج الروح، فقد كان يتضمن الكراهية أيضا؛ فقد كان به ابتهاج قاس في تأمل كل هلع، وفرح في سقوط الأبرار. بدا أن مزاج الروح يضم جميع العواطف، لكنها محكومة ومقبوضة بإحكام في نشوة التأمل الباردة النقية الصافية.
يا له من مآل أن تكون هذه هي محصلة حيواتنا كلها: هذا التقييم العلمي، بل الفني الدقيق! بالرغم من ذلك، توجهت بالعبادة!
غير أن هذا لم يكن أسوأ ما في الأمر؛ فحين قلت إن مزاج الروح هو التأمل، قد عزوت إليها خبرة بشرية محدودة وعاطفة؛ مطمئنا بذلك نفسي، وإن كانت طمأنة باردة. غير أن الروح الأبدية كانت تعلو على الوصف في حقيقة الأمر. ما من شيء أيا ما كان يمكن أن يصفها بحق. حتى تسميتها ب «الروح» قد يكون وصفا لها بأكثر مما يمكن تبريره. بالرغم من ذلك، فإنكار ذلك الاسم سيكون خطأ بالتأكيد؛ فأيا ما كانت، فهي بالتأكيد أكثر من الروح، لا أقل منها؛ فهي أكثر لا أقل من أي معنى بشري ممكن لتلك الكلمة. ومن المستوى البشري، بل حتى من مستوى العقل الكوني، فإن هذا «الأكثر» الذي يلمح على نحو غامض وممض، كان لغزا رهيبا وعشقا آسرا.
الفصل السادس عشر
خاتمة: العودة إلى الأرض
استيقظت فوجدت نفسي على التل. كان ضوء مصابيح الشارع في ضاحيتنا يفوق ضوء النجوم. دقت الساعة دقة واحدة، ثم تلتها إحدى عشرة دقة أخرى. حددت مكان نافذتنا. وفي تلك اللحظة فيض من البهجة، بل من البهجة العارمة، قد غمرني كموجة، ثم حل علي شعور بالسلام.
يا لضآلة الأحداث الأرضية وأهميتها في الوقت ذاته! لقد تلاشى الواقع الفائق للكون في لحظة واحدة، واختفى ذلك المعين الجامح من الأكوان وكل ذلك الرذاذ المتمثل في العوالم. كل ذلك قد اختفى وتحول إلى خيال وإلى تجربة سامية بعيدة.
كم هي ضئيلة، ومهمة في الوقت ذاته، تلك البقعة الصخرية، بغشائها من المحيطات والهواء وغشائها المتقطع والمتنوع والمتهدج من الحياة؛ والتلال المبهمة، والبحر الغامض الذي لا أفق له؛ والمنارة النابضة المتغيرة السطوع؛ وشاحنات السكة الحديدية المجلجلة! مسدت يدي الخلنج بخشونته المحببة.
تلاشت الرؤية الفائقة للكون. لم يكن الواقع مثلما حلمت بأنه لا بد أن يكون، بل أكثر لطفا بدرجة بالغة، وأكثر رهبة وأكثر امتيازا، وأقرب إلى البيت على نحو لا متناه.
بالرغم من ذلك، فمهما بلغت درجة زيف الرؤية في تفاصيل البناء، أو ربما حتى في شكلها الكلي، فقد كانت ذات دلالة في طابعها، بل ربما حتى كانت حقيقية في طابعها. لقد أرغمني الواقع نفسه على تخيل تلك الصورة، التي قد تكون مزيفة في كل محور ووجه، لكنها حقيقية في جوهرها.
ارتجفت النجوم بشحوب فوق مصابيح الشارع. أهي شموس عظيمة؟ أم ومضات خافتة في سماء الليل؟ كانت الشائعات تسري على نحو مبهم بأنها شموس. لقد كانت على الأقل أنوارا يهتدى بها، وتوجه العقل في خضم الاضطراب الأرضي، لكنها تخترق القلب برماحها الباردة.
وإذ جلست هناك على الخلنج، على بقعتنا الكوكبية، رحت أبتعد عن الهاويات التي انفتحت في كل جانب وفي المستقبل. الظلمة الصامتة والمجهول المبهم، كانا أكثر إثارة للهلع من جميع المخاوف التي حشدها الخيال. أمعن العقل النظر لكنه لم يستطع أن يرى شيئا مؤكدا؛ فما من شيء في الخبرة البشرية بأكملها يمكن أن يكون أكيدا سوى عدم التأكد نفسه؛ لا شيء سوى غموض يحده ضباب كثيف من النظريات. لم تكن علوم الإنسان سوى محض ضباب من الأعداد، ولم تكن فلسفته سوى محض ضباب من الكلمات. لم يكن فهمه لهذه البقعة الصخرية وجميع عجائبها سوى خيال متغير وكاذب. حتى الذات، ذلك المفهوم الذي يبدو أنه حقيقة أساسية، لم يكن سوى طيف خادع للغاية حتى إن أكثر البشر صدقا يجب أن يشك في صدقه؛ وواه للغاية حتى إن المرء ليشك في وجوده. أما ولاءاتنا، فيا لها من خداع للذات وضلال وسوء فهم! إنها مغلفة بالكراهية والطريق إليها ممتلئ بالهمجية. هؤلاء الذين نحبهم، وهؤلاء الذين تجمعنا بهم حميمية كاملة وسخية، يجب أن يدانوا بالغفلة والأنانية وإرضاء الذات. بالرغم من ذلك، فقد نظرت تحديدا إلى نافذتنا. لقد كنا سعيدين معا. لقد وجدنا كنزنا الثمين المتمثل في الترابط، أو لنقل إننا قد خلقناه. كانت هذه الخبرة هي صخرتنا الوحيدة في خضم تلاطم الخبرات. هذه الخبرة وليس الأبعاد الفلكية الهائلة والفائقة للكون، ولا حتى البقعة الكوكبية، فقط هذه الخبرة وحدها هي التي كانت الأساس الصلب للوجود. كان الارتباك على كل جانب؛ عاصفة تهب وأمواج عظيمة تغرق صخرتنا بالفعل. وفي جميع الأرجاء في الفوضى القاتمة، توجد وجوه وأياد مستجدية لا يرى إلا نصفها وتختفي.
ماذا عن المستقبل؟ إنه أسود بتلك العاصفة المتصاعدة من جنون العالم، وإن كانت مشوبة بومضات من أمل جديد قوي؛ أمل بوجود عالم عاقل ورشيد وأكثر سعادة. أي رعب ينتظرنا بين عصرنا وذلك المستقبل؟ إن الطغاة لن يفسحوا السبيل بوداعة. نحن الاثنان اللذان لم نألف سوى الأمن والهدوء، لا نتلاءم إلا مع عالم رحيم؛ حيث ما من أحد يذوق العذاب أو اليأس. لم نكن ملائمين إلا للطقس الجيد وممارسة الفضائل الودية على ألا تكون صعبة للغاية أو بطولية، وذلك في مجتمع آمن وعادل. بدلا من ذلك، وجدنا نفسينا في عصر صراع الجبابرة، حين كانت قوى الظلام التي لا تهدأ وقوى النور القاسية بسبب قنوطها، تتقاتلان في صراع على الموت في قلب العالم الممزق، وحين كان لا بد من اتخاذ قرارات خطيرة في أزمة تلو الأزمة، وحين لم تكن هناك من مبادئ بسيطة أو مألوفة ملائمة.
فيما وراء مصب نهرنا، ظهرت كتلة من النيران الحمراء من أحد المسابك. وفي المنطقة القريبة مني، أضفت الهيئة المظلمة لنباتات الجولق غموضا على أرض الضاحية التي أبلتها الأقدام.
في مخيلتي، رأيت وراء قمة تلنا، التلال البعيدة غير الظاهرة. رأيت السهول والغابات والحقول جميعها، كل بما فيه بمجموعته الضخمة المتنوعة من أوراق النباتات. رأيت الأرض بأكملها تنحني أسفل مني لتغطي كتف الكوكب. ارتبطت القرى معا من خلال شبكة من الطرق، والخطوط الفولاذية، والأسلاك الطنانة. وانتثرت قطرات من الضباب على شبكة عنكبوت. وهنا وهناك، كانت إحدى المدن تكشف عن نفسها على هيئة مساحة من الضوء، وكأنها نور سديمي قد تناثرت عليه النجوم.
فيما وراء السهول، كانت تقبع لندن المضطربة المضاءة بمصابيح النيون، وكأنها شريحة مجهرية قد استخرجت من ماء ملوث، وقد اكتظت بالحيوانات المجهرية المتطفلة. حيوانات مجهرية! لا شك بأن هذه المخلوقات كانت محض آفات في رأي النجوم ، لكن كلا منها كان بالنسبة إلى نفسه، وبالنسبة إلى غيره أحيانا، حقيقيا أكثر من النجوم كلها.
بالتحديق إلى ما وراء لندن، كشف الخيال عن ذلك الامتداد الباهت، المتمثل في القناة الإنجليزية ومن بعدها أوروبا بأكملها، الذي يقوم على مزيج من الزراعة والتصنيع غير النشط. وفيما وراء نورماندي المزروعة بأشجار الحور، امتدت باريس وقد مالت فيها أبراج كاتدرائية نوتردام قليلا بفعل انحناء الأرض. وعلى مسافة أبعد من ذلك، كان الليل الإسباني متوهجا بسبب دمار المدن. وبعيدا إلى اليسار، كانت تقع ألمانيا، بغاباتها ومصانعها وموسيقاها وخوذاتها الفولاذية. بدا أنني كنت أرى الشبان قد انتظموا معا بالآلاف في صفوف ضخمة، منتشين ومجذوبين يحيون الزعيم المغمور بالضياء. في إيطاليا أيضا، أرض الذكريات والأوهام، كان معبود العامة يأسر الشباب بسحره.
إلى اليسار البعيد كانت تقبع روسيا، وهي قطعة من عالمنا مقوسة على نحو لافت للنظر، شاحبة كالجليد في الظلام، وتمتد تحت النجوم والغيوم. ومن المؤكد أنني قد رأيت قباب الكرملين وهي في مواجهة الميدان الأحمر. هناك قد رقد لينين منتصرا. وعلى مسافة بعيدة عند سفح جبال الأورال، رأى الخيال السحب وكرات الدخان الحمراء الذي تغطي ماجنيتوستروي. وفيما وراء التلال، لمعت لمحة من الفجر؛ إذ كان النهار، الذي هو منتصف الليل عندي، يتدفق بالفعل باتجاه الغرب عبر آسيا، مغطيا بجبينه المتقدم بلونيه الذهبي والوردي على يرقات الدخان الضئيلة المتصاعدة من القطار السيبيري السريع. إلى الشمال، كان القطب الشمالي القاسي قساوة الحديد يقمع المنفيين في معسكراتهم. وبعيدا باتجاه الجنوب، قبعت الوديان والسهول الثرية التي كانت مهدا لنوعنا ذات يوم. غير أنني كنت أرى فيها الآن خطوطا للسكك الحديدية تمتد عبر الجليد. كان الأطفال الآسيويون في جميع القرى يستيقظون على يوم دراسي آخر، وعلى أسطورة لينين. إلى الجنوب أيضا، كانت جبال الهيملايا المكسوة بالجليد من وسطها حتى قمتها تطل من حشد التلال الموجود عند سفحها على الهند المكتظة بالسكان. رأيت القطن المتراقص، والقمح، والنهر المقدس الذي كان يحمل مياه جبل كاميت إلى ما وراء حقول الأرز ومناطق المياه الضحلة التي تعيش بها التماسيح، وإلى ما وراء كلكتا وملاحتها ومكاتبها، ليصبها في البحر. ومن منتصف الليل عندي، نظرت إلى الصين. أطلت شمس الصباح من الحقول المغمورة بالمياه وكست مقابر الأسلاف باللون الذهبي. اندفع نهر يانجتسي عبر مجراه كخيط لامع متغضن. وفيما وراء الحدود الكورية وعلى الجانب الآخر من البحر، وقف بركان جبل فوجي خاملا لم يبق منه سوى صورته. وفيما حوله، كان ثمة شعب بركاني يتدفق ويفور في تلك الأرض الضيقة كحمم بركانية في فوهة بركان. لقد صب بالفعل على آسيا فيضانا من الجيوش والتجارة. الآن قد انحسر الخيال وتحول إلى أفريقيا. رأيت خط المياه الذي صنعه الإنسان ليربط بين الغرب والشرق، ثم رأيت المآذن والأهرامات وأبا الهول المترقب على الدوام. كانت ممفيس القديمة نفسها الآن تدوي بشائعة ماجنيتوستروي. وعلى مسافة بعيدة باتجاه الجنوب، كان السود ينامون بجوار البحيرات العظيمة، والأفيال تسحق الغلال. وعلى مسافة أبعد؛ حيث كان الهولنديون والإنجليز ينتفعون بملايين الزنوج، قد أثارت تلك الحشود أحلام مبهمة بالحرية. وحين حدقت فيما وراء غرب أفريقيا بأكمله، وفيما وراء جبل تيبل المغطى بالغيوم، رأيت المحيط المتجمد الجنوبي أسود بالعواصف، ورأيت من بعده الجروف الجليدية بفقماتها وبطاريقها، ورأيت كذلك الحقول الجليدية العالية في القارة الوحيدة غير المأهولة بالسكان. واجه الخيال شمس منتصف الليل ثم عبر القطب الجنوبي واجتاز جبل إريباص وراح يتقيأ الحمم الساخنة على فرائه. ثم أسرع باتجاه الشمال فوق بحر الصيف، واجتاز نيوزيلندا، ذلك البلد البريطاني الأكثر حرية من بريطانيا لكن أقل وعيا منها، ثم أستراليا حيث يجمع الفرسان الحصفاء قطعانهم.
كنت ما أزال أحدق باتجاه الشرق من تلي، ورأيت المحيط الهادي وقد انتثرت عليه الجزر، ثم الأمريكتين حيث ساد نسل أوروبا قبل فترة طويلة نسل آسيا لما كان لهم من أفضلية في استخدام البنادق، ولما تولده البنادق من غرور. وبجوار المحيط البعيد على الشمال والجنوب، كان يقبع العالم الجديد القديم؛ نهر بليت ومدن نيو إنجلاند التي كانت هي المركز الذي يشع منه الأسلوب الجديد القديم في الحياة والتفكير. نيويورك المظلمة بالرغم من شمس العصر، بدت كعنقود من البلورات الطويلة، فكانت تشبه بذلك أثر ستونهنج، لكنها تتكون من نصب حجرية حديثة. وحولها احتشدت البواخر العظيمة كأنها أسماك تقضم عند أقدام الخواضين. رأيتها في البحر أيضا هي وسفن الشحن المنتفخة تتقدم في ضوء الغروب، وقد توهجت كواتها وأسطحها. كان الوقادون يتعرقون أمام الأفران، بينما يرتعش الحراس في أبراج المراقبة الموجودة أعلى الصواري، أما موسيقى الرقص التي كانت تنتشر من الأبواب المفتوحة، فقد أضعفتها الرياح.
الآن كنت أرى الكوكب بأكمله، تلك البقعة الصخرية بكامل حشودها المنشغلة، على أنها حلبة قتال، وثمة خصمان كونيان - روحان - كانا يستعدان بالفعل لصراع حاسم فيها. كانا قد اتخذا مظهرا أرضيا محليا تخفيا فيه، وأخذا يتقاتلان في عقولنا نصف المتيقظة. وفي مدينة تلو المدينة، وقرية تلو القرية، وعدد لا يحصى من المزارع والأكواخ والخصاص والعشش والسقائف المنعزلة، وفي كل شق يحرص فيه البشر على مصادر راحتهم وانتصاراتهم وأماكن هروبهم الصغيرة، كان الصراع العظيم في عصرنا يختمر بالفعل.
بدا أحد الخصمين على أنه إرادة المخاطرة في سبيل العالم الجديد المتعقل المبهج الذي طال الاشتياق إليه، والذي سيحظى فيه كل رجل وامرأة بالفرصة لعيش حياة مكتملة في خدمة الإنسانية. أما الخصم الآخر فقد بدا على نحو أساسي أنه الخوف الحسير من المجهول، أم يا ترى أنه كان أكثر خبثا من ذلك؟ أكان هو الرغبة الماكرة في التحكم الخاص والذي كان يحرض من أجل غاياته على العواطف البالية الانتقامية الكارهة للتعقل المتمثلة في العواطف القبلية؟
بدا أن جميع الأشياء الأعز لدينا لا بد أن تتحطم في العاصفة القادمة. جميع أشكال السعادة الخاصة، جميع صور الحب، جميع الأعمال الإبداعية في الفن، العلوم والفلسفة، والدراسة الفكرية والخيال التأملي وجميع أشكال البناء الاجتماعي الإبداعي، وكذلك كل ما ينبغي أن يعيش الإنسان من أجله في المعتاد، قد بدا حماقة وأضحوكة ومحض استمتاع ذاتي في وجود البلاء العام، لكن إن عجزنا عن الحفاظ على هذه الأشياء، فمتى ستوجد مجددا؟
كيف يمكن مواجهة مثل ذلك العصر؟ كيف نستجمع الشجاعة في ضوء أننا لا نقوى إلا على الفضائل البسيطة؟ كيف يمكن القيام بهذا، مع الحفاظ على سلامة عقلنا، ودون أن ندع الصراع يدمر في قلب المرء ما يحاول أن يقدمه للعالم، ألا وهو نزاهة الروح؟
ثمة ضوءان علينا الاسترشاد بهما. الأول هو ذرة الاتحاد المتوهجة الصغيرة خاصتنا، بكل ما تحمله من دلالة. أما الضوء الثاني، فهو ضوء النجوم البارد، رمز الحقيقة الفائقة للكون، بما له من انتشاء بلوري. من الغريب أنه في هذا الضوء الذي تقيم فيه حتى أعز قصص الحب ببرود - والذي فيه يجرى تأمل الهزيمة المحتملة لعالمنا نصف المتيقظ دون التخفيف من حدتها بالثناء على حكمة صانعه - لا تفقد الأزمة البشرية شيئا من أهميتها، بل تكتسب المزيد. ومن الغريب أن القيام بدور في هذا الصراع - هذا المجهود الوجيز الذي نحاول من خلاله أن تحظى سلالتنا ببعض من الصفاء قبل حلول الظلمة النهائية - يبدو أمرا أكثر أهمية وإلحاحا، وليس أقل.
অজানা পৃষ্ঠা