هل حدث هذا مرة أخرى؟ كلا. كل ما هنالك أنني قد عدت مرة أخرى في حلمي التفسيري إلى لحظة التنوير نفسها، والتي قد منعني عنها العمى، حين بدا أنني قد نشرت جناحي للقاء صانع النجوم، وصعقني ضوء رهيب. غير أنني صرت أدرك الآن بوضوح أكبر ما قد حل بي. لقد كنت في مواجهة صانع النجوم بالفعل، لكنه قد ظهر لي الآن بصفته الروح الإبداعية؛ ومن ثم المحدودة. لقد بدا الآن في صورة الروح الأبدية الكاملة التي تضم جميع الأشياء وجميع الأزمان وتتأمل على الدوام ذلك الحشد اللانهائي التنوع الذي تتضمنه. لقد كان النور الذي غمرني وصعقني فأودى بي إلى العبادة العمياء هو قبس من خبرة الروح الأبدية كلية الإدراك، أو هذا هو ما بدا لي.
بضنى ورعب وموافقة أيضا، بل حتى بثناء، شعرت أو بدا أنني قد شعرت بشيء من مزاج الروح الأبدية إذ استوعبت جميع حيواتنا في رؤية حدسية أبدية واحدة. هنا لم يكن ثمة شفقة، ولا عرض بالخلاص ولا مساعدة طيبة. أو يمكننا أن نقول إنه هنا كانت الشفقة كلها والحب كله، لكنهما محكومان بانتشاء بارد. حيواتنا الخربة، حكايات حبنا، حماقاتنا، خياناتنا، دفاعاتنا البائسة والباسلة، كانت جميعها تحلل وتقيم وتوضع في مكانها بهدوء. صحيح أنها كانت تعاش جميعها بتفهم كامل، وفطنة وتعاطف تام، بل حتى بشغف، غير أن التعاطف لم يكن مطلقا في مزاج الروح الأبدية، أما التأمل فقد كان كذلك. الحب أيضا لم يكن مطلقا، أما التأمل فقد كان كذلك. وبالرغم من وجود الحب في مزاج الروح، فقد كان يتضمن الكراهية أيضا؛ فقد كان به ابتهاج قاس في تأمل كل هلع، وفرح في سقوط الأبرار. بدا أن مزاج الروح يضم جميع العواطف، لكنها محكومة ومقبوضة بإحكام في نشوة التأمل الباردة النقية الصافية.
يا له من مآل أن تكون هذه هي محصلة حيواتنا كلها: هذا التقييم العلمي، بل الفني الدقيق! بالرغم من ذلك، توجهت بالعبادة!
غير أن هذا لم يكن أسوأ ما في الأمر؛ فحين قلت إن مزاج الروح هو التأمل، قد عزوت إليها خبرة بشرية محدودة وعاطفة؛ مطمئنا بذلك نفسي، وإن كانت طمأنة باردة. غير أن الروح الأبدية كانت تعلو على الوصف في حقيقة الأمر. ما من شيء أيا ما كان يمكن أن يصفها بحق. حتى تسميتها ب «الروح» قد يكون وصفا لها بأكثر مما يمكن تبريره. بالرغم من ذلك، فإنكار ذلك الاسم سيكون خطأ بالتأكيد؛ فأيا ما كانت، فهي بالتأكيد أكثر من الروح، لا أقل منها؛ فهي أكثر لا أقل من أي معنى بشري ممكن لتلك الكلمة. ومن المستوى البشري، بل حتى من مستوى العقل الكوني، فإن هذا «الأكثر» الذي يلمح على نحو غامض وممض، كان لغزا رهيبا وعشقا آسرا.
الفصل السادس عشر
خاتمة: العودة إلى الأرض
استيقظت فوجدت نفسي على التل. كان ضوء مصابيح الشارع في ضاحيتنا يفوق ضوء النجوم. دقت الساعة دقة واحدة، ثم تلتها إحدى عشرة دقة أخرى. حددت مكان نافذتنا. وفي تلك اللحظة فيض من البهجة، بل من البهجة العارمة، قد غمرني كموجة، ثم حل علي شعور بالسلام.
يا لضآلة الأحداث الأرضية وأهميتها في الوقت ذاته! لقد تلاشى الواقع الفائق للكون في لحظة واحدة، واختفى ذلك المعين الجامح من الأكوان وكل ذلك الرذاذ المتمثل في العوالم. كل ذلك قد اختفى وتحول إلى خيال وإلى تجربة سامية بعيدة.
كم هي ضئيلة، ومهمة في الوقت ذاته، تلك البقعة الصخرية، بغشائها من المحيطات والهواء وغشائها المتقطع والمتنوع والمتهدج من الحياة؛ والتلال المبهمة، والبحر الغامض الذي لا أفق له؛ والمنارة النابضة المتغيرة السطوع؛ وشاحنات السكة الحديدية المجلجلة! مسدت يدي الخلنج بخشونته المحببة.
تلاشت الرؤية الفائقة للكون. لم يكن الواقع مثلما حلمت بأنه لا بد أن يكون، بل أكثر لطفا بدرجة بالغة، وأكثر رهبة وأكثر امتيازا، وأقرب إلى البيت على نحو لا متناه.
অজানা পৃষ্ঠা