زرت أنا وبفالتو، مع الجماعة المتزايدة من زملائنا المستكشفين، العديد من العوالم التي تنتمي إلى كثير من الأنواع الغريبة. لم نقض في بعضها سوى أسابيع من الزمن المحلي، وظللنا في بعضها لقرون أو قفزنا من نقطة في التاريخ إلى أخرى حسبما كان يقضي به اهتمامنا. كنا نحط على أحد العوالم التي اكتشفناها حديثا كسرب من الجراد، ويتخير كل منا مضيفا مناسبا. وبعد فترة من الملاحظة تطول أو تقصر، كنا نغادر لنحط مرة أخرى ربما على العالم نفسه في عصر آخر أو لنوزع مجموعتنا على العديد من العوالم التي يبعد بعضها عن بعض تباعدا كبيرا في الزمان والمكان.
حولتني هذه الحياة الغريبة إلى كائن مختلف للغاية عن ذلك الرجل الإنجليزي الذي صعد ليلا على أحد التلال في تاريخ معين من التاريخ البشري. ليس الأمر أن خبرتي اللحظية قد زادت بشدة فحسب، بل إنني أيضا قد تضاعفت، إذا صح هذا التعبير، وذلك من خلال الاتحاد الحميمي الغريب الذي كان بيني وبين زملائي؛ فمن ناحية ما، قد أصبحت الآن بفالتو وكل فرد من زملائي بقدر ما كنت ذلك الرجل الإنجليزي.
وهذا التغير الذي قد حل بنا جدير بأن يوصف بعناية، لا لأهميته الجوهرية فحسب، بل لأنه قد منحنا مدخلا لفهم العديد من الكائنات الموجودة في الكون والتي كانت طبيعتها ستظل مبهمة علينا لولاه.
في حالتنا الجديدة، كانت وحدتنا قد أصبحت تامة للغاية حتى إن ما كان يختبره الفرد كانت تختبره المجموعة بأكملها؛ ومن ثم فقد شاركت، بأنويتي الجديدة، في مغامرات ذلك الرجل الإنجليزي، وفي مغامرات بفالتو، ومغامرات الجميع بالسهولة نفسها، وصرت أتمتع أيضا بجميع ذكرياتهم عن وجودهم السابق المنفصل في عوالمهم الأصلية.
قد يسأل قارئ ذو عقل فلسفي النزعة: «أتعني أن العديد من الأفراد الذين يتعرضون لهذه الخبرات قد أصبحوا فردا واحدا له تيار واحد من الخبرات؟ أم تعني أنه قد ظل هناك العديد من الأفراد يتعرضون لخبرات منفصلة من الناحية العددية، لكنهم يتعرضون للخبرات نفسها؟» أنا لا أعرف الإجابة عن هذا السؤال، لكنني أعرف أنني، أنا الإنجليزي، وكذلك كل فرد من زملائي، قد غدونا نمتلك تدريجيا خبرات أحدنا الآخر، وقد صرنا نتمتع أيضا بذكاء أكثر نقاء. أما ما إذا كنا، نحن المختبرين، قد ظللنا أفرادا عديدين أم أصبحنا واحدا، فذلك ما لا أعرفه. بالرغم من ذلك، فأنا أعتقد أن هذا السؤال من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها أبدا حقا؛ إذ إنه في النهاية لا يحمل أي معنى.
في أثناء ملاحظتي الجماعية للعوالم العديدة، وبالقدر نفسه في أثناء استبطاني لعملياتي الذهنية الجماعية، يشكل فرد أو آخر من المستكشفين، وربما مجموعة منهم أيضا، الأداة الأساسية للانتباه؛ فيوفرون من خلال طبيعتهم وخبراتهم الخاصة مادة يتأملها الجميع. كنا في بعض الأحيان حين نتمتع بدرجة استثنائية من الانتباه والحماس، يفيق الواحد منا على حالة من الإدراك والتفكير والخيال والإرادة هي أكثر نقاء من أي خبرة قد عرفها أي منا على حالته الفردية؛ ومن ثم فبالرغم من أن الفرد منا كان على نحو ما متطابقا مع كل فرد من أصدقائه، كان يصبح أيضا بطريقة ما عقلا ذا رتبة أعلى من أي منا على حدة. بالرغم من ذلك، فلم يبد في هذه «اليقظة» من شيء أكثر غرابة في نوعه عن أي من تلك المرات العديدة التي يختبرها المرء في حياته العادية حين يربط العقل بسرور بين العديد من الخبرات التي كان بعضها منعزلا عن بعض حتى ذلك الوقت، أو يكتشف في الأشياء المبعثرة نمطا أو معنى لم يكن قد لاحظه من قبل.
ولا ينبغي للقارئ أن يفترض أن هذه الوحدة الذهنية الغريبة قد طمست الشخصيات الفردية للمستكشفين. إن اللغة البشرية لا تضم مصطلحات دقيقة لوصف علاقتنا الغريبة. لن يكون من الصحيح أن أقول إننا قد فقدنا طبيعتنا الفردانية، أو ذبنا في طبيعة فردانية مشتركة، وسيكون من غير الصحيح أيضا أن أقول إننا قد ظللنا أفرادا متمايزين. وبالرغم من أن الضمير «أنا» قد أصبح الآن ينطبق علينا جميعا، كان الضمير «نحن» ينطبق علينا في الوقت نفسه. في أحد الجوانب، وهو وحدة الوعي، كنا بالتأكيد فردا واحدا يمر بالخبرات، غير أن بعضنا في الوقت ذاته كان مميزا عن البعض الآخر على نحو مهم وممتع للغاية. فمع وجود «أنا» المشترك الواحد، كان هناك أيضا إذا صح التعبير، «نحن» متنوعة ومتشعبة، صحبة مميزة تتألف من شخصيات شديدة التنوع، كل منهم كان يعبر بإبداع عن مساهمته الخاصة في مشروع الاستكشاف الكوني بأكمله، بينما يجتمعون جميعا في نسيج من العلاقات الشخصية البالغة الرقة. وأنا أدرك جيدا أن هذا التفسير للمسألة سيبدو للقراء متناقضا، مثلما يبدو لي بالفعل. غير أنني لا أستطيع أن أجد طريقة أخرى للتعبير عن الحقيقة التي أتذكرها بوضوح، وهي أنني كنت عضوا محددا في جماعة، ومالكا للخبرة المجمعة لتلك الجماعة في الوقت ذاته.
سأشرح الأمر بطريقة مختلفة بعض الشيء. بالرغم من أننا كنا فردا واحدا فيما يتعلق بوحدة الوعي، فقد كنا أفرادا مختلفين فيما يتعلق بالسمات المبتكرة والمتنوعة التي تميز كل منا، وتراقبنا جميعا «الأنا» المشتركة. وكان كل منا بصفته «الأنا» المشتركة، يختبر مجموعة الأفراد بأكملها، بما في ذلك ذاته الفردية، على أنها مجموعة من الأشخاص الفعليين الذين يختلفون في الطباع والخبرة الخاصة. كان كل منا يختبر الجميع على أنهم جماعة فعلية، تربط بينهم علاقات من العاطفة والنقد المتبادل كما حدث بيني وبين بفالتو على سبيل المثال. بالرغم من ذلك، فعلى مستوى آخر من التجربة، وهو مستوى التفكير الإبداعي والخيال، كان من الممكن للانتباه الموحد المشترك أن ينسحب من نسيج العلاقات الشخصية هذا، وبدلا من ذلك، كان يركز بالكامل على استكشاف الكون. يمكن القول إننا كنا نختلف فيما يتعلق بالحب، ونتوحد فيما يتعلق بالمعرفة والحكمة والعبادة. في الفصول التالية والتي تناقش الخبرات الكونية لهذه «الأنا» المشتركة، سيكون من الصواب منطقيا أن أشير إلى العقل المستكشف بصيغة المتكلم المفرد على الدوام وأن أقول ببساطة: «قد فعلت كذا وكذا، واعتقدت هذا وذاك.» غير أني سأظل أستخدم صيغة المتكلم الجمع بوجه عام للحفاظ على الانطباع الحقيقي للمشروع المشترك، ولتفادي الانطباع الخاطئ بأن المستكشف هو الإنسان المؤلف لهذا الكتاب فحسب.
لقد عاش كل منا حياته الفردية النشطة الخاصة في عالم ما من العوالم الكثيرة. وقد ظلت الحياة المتخبطة القصيرة التي عاشها كل منا بمفرده في عالمه الأصلي البعيد تحتفظ بتألق ووضوح غريبين، كالوضوح الذي يجده البالغون في ذكريات الطفولة. ليس الأمر ذلك فحسب، بل كان الواحد منا يعزو إلى حياته السابقة الخاصة ضرورة وأهمية كانت تطغى عليهما، في صفته الجماعية، أمور ذات أهمية كونية أكبر. والآن، كان لهذا الوضوح والتألق، والضرورة والأهمية في كل حياة ضئيلة خاصة، أهمية كبيرة لدى «الأنا» المشتركة التي كان يشارك فيها كل منا. لقد كانت تنير الخبرة المشتركة بوضوحها وعواطفها المثيرة للشفقة. ذلك أنه فقط في الحياة الخاصة التي عاشها كل منا كساكن أصلي لأحد العوالم، قد حارب بالفعل، إذا صح التعبير، في حرب الحياة كجندي خاص يعترك عن قرب مع العدو. لقد كان تذكر هذه الفردانية الخاصة المقيدة السجينة المعماة التواقة هو ما مكننا من مراقبة مجريات الأحداث الكونية لا كمشهد فحسب، بل بشعور الحرقة المريرة في كل حياة فردية وهي تومض وتختفي؛ ومن ثم فقد ساهمت، أنا الرجل الإنجليزي، في العقل المشترك بذكرياتي الواضحة على الدوام لجميع تصرفاتي التافهة في عالمي الخاص المضطرب، وقد اتضحت لي، «الأنا» المشتركة، الأهمية الحقيقية لهذه الحياة البشرية العمياء، والتي يعوض نقصها جوهرتها الصغيرة المعيبة المتمثلة في الاتحاد، بنقاء لم يكن لذلك الرجل الإنجليزي أن يناله من قبل وهو في سباته البدائي ولا يستطيع أن يستعيده الآن من جديد. كل ما أستطيع أن أتذكره الآن هو أنني نظرت، بصفة «الأنا» المشتركة، إلى حياتي الأرضية بدرجة أكبر من النقد وأقل من الذنب عما أشعر به حين أنظر إليها وأنا في حالتي الفردية، ونظرت إلى شريكتي في هذه الحياة بفهم أوضح وأكثر موضوعية لتأثيرنا المتبادل، بقدر أكبر من العاطفة كذلك.
لا يزال هناك جانب آخر للخبرة المشتركة للمستكشفين ينبغي أن أذكره. لقد انطلق كل منا في هذه المغامرة العظيمة في البداية أملا في معرفة الدور الذي لعبه الاتحاد في الكون ككل. كان لا يزال علينا معرفة هذا الأمر، لكن في هذه الأثناء، ظهر أمر آخر كان علينا معرفته والذي صار أكثر إلحاحا على نحو متزايد. إن الخبرات الكثيرة التي مررنا بها في العوالم الكثيرة وكذلك صفاؤنا الذهني الجديد؛ قد ولدا فينا صراعا حادا بين الفكر والعاطفة. من الناحية الفكرية، كانت فكرة أن «إلها» ما منفصلا عن الكون نفسه قد صنع الكون قد بدت الآن أقل فأقل جدارة بالتصديق. من الناحية الفكرية، لم يكن لدينا من شك بأن الكون ذاتي الاكتفاء، وأنه نظام ليس له أساس منطقي ولا خالق. بالرغم من ذلك، فمثلما قد يشعر الإنسان بالحقيقة المادية لحبيب أو لعدو يتصوره، كنا نشعر على نحو متزايد في الحضور المادي للكون بالحضور المادي لما أسميناه بصانع النجوم. وبالرغم من الفكر، عرفنا أن الكون بأكمله أصغر على نحو لا نهائي من الوجود الكلي، وأن هذا الوجود الكلي اللانهائي هو الذي يبطن كل لحظة في الكون. وبعاطفة جامحة، كنا نسعى دائما إلى تدقيق النظر في كل حدث ضئيل بعينه في الكون لكي نرى ملامح ذلك الوجود اللانهائي الذي أسميناه بصانع النجوم؛ إذ لم نجد له اسما أكثر دقة. غير أننا لم نجد شيئا مهما أمعنا النظر. بالرغم من أن الحضور الرهيب يواجهنا في الكون بأكمله وفي كل جزء محدد منه على نحو لا سبيل إلى الشك به، فقد كانت سمته اللانهائية تمنعنا من أن نعزو له أي سمة أخرى، أيا كانت.
অজানা পৃষ্ঠা