فلئنْ رأيتكَ موحشًا ... فلقدْ رأيتُ وأنتِ أهلُ
قال الجاحظ: رأيت جارية تباع في بغداد بسوق النخاسين، ينادي عليها، فدعوت بها وجعلت أقبلها، وكان على خدها خال، فأعجبتني، فقلت لها، ما اسمك؟ فقالت: مكه، قلت، وما هذا الخال الذي على خدك؟ قالت: الحجر الأسود، قلت مرادي أقبل الحجر الأسود، فقالت: إليك عني ألم تسمع إلى، قول الله تعالى: (لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) [النحل:٧] شكا رجل إلى أفلاطون حاله، فقال له ة إنك لن تجد الناش إلا رجلين: إما موقر في نفسه قدمه حطه، أو مقدَمًا في نفسه، أخره دهره، فارض. مما أنت فيه اختيارًا وإلا رضيت به اضطرارًا. قيل إن عيسى بن موسى: دعا جارية إلى فراشه، فلم يقدر على وطئها وعجز فأنشا يقول: [البسيط]
القلبُ يطمعُ والأسبابُ عاجزةٌ ... والنفسُ تهلكُ بينَ العجز والطمع
قال الأصمعي: كنت مع الرشيد بطريق مكة فرأى نارًا من بعيد عالية، فقال ما هذا النجم؟ فقالوا: هذه نار، فقال: كأنها نجم، ما أشك أن العرب قد قالت في هذا أشياء، أين الأصمعي، فأحضرت، وأنشدته لكثير: [الطويل]
نظرْتُ وأصحابي بأيلةٍ موهنًا ... وقدْ حانَ من نجمِ الثريَّا تصوبُ
لغرَّةَ نارًا ما تبوحُ كأنها ... إذا ما رمقناها من البعدِ كوكبُ
قال جعفر بن هشام بن عبد الملك يومًا سمعت مثل الأول إذا رمت عنها سلوةً فالشافع. من الحب ميعاد المقابر، فقلت أشعر منه الأحوص حيثُ يقول: [الطويل]
سيبقى لها في مضمر القلبِ والحشى ... سريرةُ حبٍ يومَ تبلى السرائرُ
دخل أعرابي على خالد بن صفوان، فقال: أصلح الله الأمير، الأمير يأمر بملء جرابي هذا حنطة، فقال املأه دراهم فمليء، فحمله وخرج إلى الناس، فقالوا: ما صنعت في حاجتك؟ قال: سألت الأمير ما يشبهني فأمر لي ما يشبهه ابن المعتز: [البسيط]
إني غريبٌ بدارٍ لا كرامَ بها ... كغربةِ الشعرة السوداء في الشمطِ
ما نشرحُ العينَ في شيءٍ تسرُّ بهِ ... ولستُ أبدي الرضا إلا على سخطِ
ما أحسن، قول الديلمي، وأجمله، وأكثر حكمته حيث يقول: [الطويل]
وعدد من الرحمنِ فضلًا ونعمةً ... عليكَ إذا ما جاءَ للخيرِ طالبُ
وإني امرؤٌ لا يُرتجى الخيرُ عندهُ ... يكن هينًا ثقلًا على من يصاحبُ
فلا تمنعنَّ ذا حاجةٍ جاءَ طالبًا ... فإنكَ لا تدري متى أنتَ راغبُ
إذا قلتَ في شيء نعمْ فأتمهُ ... فإنْ نعمَ دينًا على الحرِّ واجبُ
وإلا قفُلْ لا واسترحْ وترحْ بها ... لكيلا يقولُ الناس إنكَ كاذبُ
ومنْ ذا الذي يرجو الأباعدَ قربَهُ ... إذا هو لمْ تصلحْ عليهِ الأقاربُ
وكذلك للمقنع الكندي: [الكامل]
أبلُ الرجالَ إذا أردتَ إخاءهم ... وتوسَّمنَّ أمورهم وتفقدِ
فإذا ظفرْتَ يدي الأمانة والتقى ... فيهِ التدينُ قريرَ عينٍ فانشدِ
ومتى يريكَ ولا محالةَ زلةً ... فعلى أخيكَ بفضلٍ حلمكِ فاردُدِ
حُكى أن وفود العرب، وأهل الشعر، والأدب، لا يقبلون برَّ من يعطى بسؤال، ويسمح إذا حثّ على نوال. قال الأعشى.
مررتُ بأقوامٍ فعافت حياضهم قلوصى ... وكان الشرب منها بمائكا
وما ذاكَ إلا أنْ كفيكَ بالنَّدى ... تجودان بالإعطاء قبل سؤالكما
وهذا من جزل المديح سمو الكلام الجزل الصحيح، وقد أحسن كثير عزة حيثُ يقول: [الكامل]
عمَّ الرداءٌ إذا تبسَّمَ ضاحكًا ... ذلتْ لضحكته رقابُ المالِ
سعى ساع إلى كسرى فأجابه، إن كانت السعاية صحيحة فهي بك قبيحة، فإن كنت أردت النصح فخسرانك أكثر من الربح، ومعاذ الله أن أقبل من مهتوكٍ في مستور، ولولا أنك في خفارة شيبك لقابلناك مما يقابل به أمثالك: [الكامل]
ومُهَفهفٌ لما تملكَ مُهجتي ... هجرَ الوصالَ وأوصلَ الهجَرا
لو أنَّ فيهِ لمُستضامٍ نصرةً ... ما كانَ يظلمُ ردفُهُ الخصْرا
لبعضهم:
صن النفسَ وأحملها على ما يزينُها ... تعشْ سالمًا والقولُ فيكَ جميلُ
ولا ترين الناس إلا تجمُّلًا ... كبابِكَ دهرٌ أو جفاكَ خليلُ
يعزُّ غنيُّ النفسِ لو قلَّ مالُهُ ... ويغْنى غنيُّ المالِ وهو ذليلُ
1 / 37