وكانت هذه هي الجملة الوحيدة التي قالها على المائدة ... وكان الرد عليها رد والده الجاف: ينام معاك يا أخي ...
هذا يوم من أيام حياته أيضا، لا يقل أهمية في نظره عن يوم زواج أبيه، ولا يوم ميلاده، إنه لا يعرف شيئا عن يوم ميلاده؛ ولذلك فهو يمسك بالقلم، ويكتب في الصفحة الأولى من المفكرة بعد أن يغير التاريخ: «في يوم من الأيام ولدت ورفضت أمي أن تراني ... أغمضت عينيها عن الحياة في الوقت الذي فتحت أنا فيه عيني عليها ... إنني لم أر شيئا، ولم أعرف شيئا في ذلك اليوم ... ومن المؤكد أنه كان هناك صراخ وعويل كثير؛ فقد كانت أمي محبوبة من أبي جدا، ومن خالتي فاطمة ... وتقول خالتي فاطمة إن أمي كانت في غاية الشوق لكي تراني في الحياة، وليس خطئي أنني لم أحقق لها هذه الأمنية ... أبي يقول لي دائما: «يا قاتل أمه» ومعنى ذلك أني قتلتها ... إن خالتي فاطمة تؤكد أن هذا لم يحدث، وأن الطبيب هو الذي قتل أمي، أنا أكره الأطباء من كل قلبي، ولن أصبح طبيبا أبدا ...»
ثم يكتب عن اليوم الثاني: «خلع أبي الكرافتة السوداء التي لم أره يغيرها منذ وعيت ما حولي، وحلق ذقنه بعد الغداء مرة ثانية مع أنه حلقها في الصباح الباكر كعادته، وطلب من خالتي فاطمة - وهو خارج - أن تعيد تنظيف حجرته، ومنذ أيام كان قد أحضر أثاثا جديدا لهذه الغرفة، وحينما عاد أبي في المساء كان البيت كله منيرا، وحضر معه ثلاث سيدات ورجلان وطفلة صغيرة، ونامت الطفلة الصغيرة في حجرتي منذ تلك الليلة.»
ولم يجد ما يكتبه بعد ذلك عن هذا اليوم إلا سطرا واحدا أضافه في سذاجة: «عرفت في الصباح أن أبي قد اشترى لي أما جديدة.» ... أما اليوم الثالث فقد بدأ كتابته بإسهاب، كان لا يزال يذكر تفاصيل ما حدث على المائدة، فذكره بالحرف الواحد، وملأ الصفحة، وانتقل إلى الصفحة التالية، قال إنه بكى تلك الليلة طويلا، ولا يدري لماذا ... وكان كلما نظر إلى وجه محمود الخادم زاد في بكائه ... إنه لم يكن يحب «أسماء» ولكنه مع ذلك كان يحس في نومها في حجرته راحة، إنهما متساويان، أما اليوم فقد أصبح له زميل واحد ... هو محمود الخادم، وختم حديثه عن ذلك اليوم قائلا: «أصبحت وحدي منذ ذلك اليوم في وسط أسرة تكرهني.»
وأغلق بعد ذلك كتاب مذكراته، وكأنما أغلق هذا الماضي من حياته ... الأربعة عشر عاما في أربع صفحات ... يا لها من فكرة جميلة أن توضع الحياة في مثل هذا الحيز الصغير من صفحات «أجندة» قديمة!
وأخذ منذ ذلك اليوم يكتب مذكراته.
كل يوم كانت تتحول ساعات النهار وساعات الليل الأولى إلى بضعة سطور ... كتب في آخر أبريل يقول: «عادت أمي إلى المنزل هي وأسماء في الساعة السابعة مساء، وكنت أنا جالسا في حجرتي أذاكر الجغرافيا، وتقدمت أسماء مني، وقالت: ألا ترى ثيابي الجديدة ... ثياب الصيف، لقد جئنا بها من عند الخياطة الآن، واشترينا لكل ثوب حذاء ... ثم ... اترك ما بيدك، وتعال اتفرج.»
وتركت مكتبي، وذهبت إلى سريري، وكانت أسماء قد فكت اللفافات، ونثرت ما فيها على السرير ... وأخذت أجيل بصري ... ثلاثة أثواب بديعة من القماش الثمين، وثلاثة أزواج من الأحذية ... وشرائط وحقيبة يد، أمسكت بيدي ثوبا أتفرج عليه، وإذا بصوت أمي يصدمني قائلا: أنت مجنونة يا أسماء! تضعين الثياب الجديدة على السرير القذر؟ اجمعي ثيابك واذهبي إلى حجرتك ... ماذا يفهم هو من كل ذلك؟
وسارت أسماء وأمي، ورفعت عيني وحاولت أن أصعدهما في أركان الغرفة لأمنع قطرات الدمع العالقة بأجفاني أن تسقط على الأرض، فاصطدمت عيناي بمنظر لم تقو بعده على المقاومة، وانهارت الدموع ... إنه منظر بدلتي البني الثقيلة التي أوشكت أن تتناسل.
ليس هناك أمل في تغييرها ... إلا أن أعود لبدلتي الثانية الضيقة التي كان يجب أن تلقى في صندوق القمامات ... إن والدي طلب مني منذ أيام أن أغير بدلتي قائلا: «هو أنت مدام عندك بدلة جديدة لازم تلبسها لغاية ما تدوب؟ لم لا تلبس بدلة أخرى؟» والدي يعرف جيدا أنه منذ عام لم يشتر لي بدلة.
অজানা পৃষ্ঠা