الأكشاك الخشبية
وتحركت السفينة في هدوء
صفحات من مذكراته
حساب بين الخيرين
قفص الدجاج
كعكة في يد اليتيم
طريق الصخور
عنوان الفقيد
الجواد الذي خسر
الشعرات البيضاء
অজানা পৃষ্ঠা
سبعة في صورة
أقوى من الشرف
جاء الخريف
الأكشاك الخشبية
وتحركت السفينة في هدوء
صفحات من مذكراته
حساب بين الخيرين
قفص الدجاج
كعكة في يد اليتيم
طريق الصخور
অজানা পৃষ্ঠা
عنوان الفقيد
الجواد الذي خسر
الشعرات البيضاء
سبعة في صورة
أقوى من الشرف
جاء الخريف
صفحات مطوية
صفحات مطوية
تأليف
صلاح الدين ذهني
অজানা পৃষ্ঠা
تقديم
بقلم سليمان نجيب
يقول المثل القديم العاقل: «خذ الرفيق قبل الطريق»، وحينما تقودك العناية الإلهية إلى طريق ممهد ورفيق وديع هادئ صادق مستقيم بعيد النظر، فتلك هي نهاية الرضاء وعظيم الرعاية.
هكذا أريد أن أبدأ مقدمتي لتلك المجموعة من قصص الكاتب الفذ الرصين القوي اللين، صديقي وأخي الصغير المرحوم صلاح ذهني ...
فقد كان طريقي لمدة خمسة عشر عاما هو دار الأوبرا، ورفيقي في هذه الرحلة كلها صلاح، كانت نعمة من نعم الله على أن يرضى صلاح بالعمل معي ومعاونتي ...
كنا متجاورين ... مكتبه في غرفة خارج غرفتي التي لم أغلق بابها بيني وبينه يوما من الأيام، وكنت أحادثه بصوت عال، وحينما أريد أن أنزه عيني أناديه، لأتمم ما بدأته من قصة وحديث.
وحينما تعاشر صلاحا - رحمه الله - تتذكر توا المثل العربي الدارج الصادق الذي يقول: «قال: ما لك مربي؟ قال: من عند ربي.»
إنك تحس بنبوغه، وسرعة إدراكه وبديهته، وبعد نظره ولباقته بعد دقائق معدودات من معاشرتك له.
وبمناسبة المثل الذي ذكرت، أؤكد لك أن «صلاح» لو عاش وطال عمره لشاهدنا نبوغه فذا في نوعه، فقد كان - ككاتب - يسير بسرعة إلى المرتبة العليا كما كان كروائي، سليم الحبكة سليم العبارة، قوي الحوار، متين الفكرة.
أما صلاح - كناقد - فقد كان نظيفا من ألفه إلى يائه، دقيقا في انتقاده، دقيقا في تقديراته، ملهما في عباراته.
অজানা পৃষ্ঠা
عاشرته هذه السنين الطوال، فكانت تعليقاته كلها مما يذكرني بتعليقات صديقي المرحوم الشيخ عبد العزيز البشرى في متين بنائها نرويها ضاحكين مبتسمين.
ثم رأيته كأب مثالي يجود بنفسه وحياته ليتنعم بالعلم والتربية محمود وأمينة وفاطمة، فقد كان لهم أبا مثاليا وصديقا وفيا.
وكان موظفا أمينا لبقا، أما ككاتب، فإنك بعد أن تطالع هذه الصفحات سنلتقي أنا وأنت على هذه الجملة «طيب الله ثراك يا صلاح.»
الأكشاك الخشبية
كان يجب أن يملأ نفسي شعور الاشمئزاز، ولكن القدر أراد غير ما أردت ... ***
أريد أن أذكر بالضبط ما حدث في ذلك اليوم من أيام شهر يوليو سنة 1935 المكان الذي بدأت فيه القصة، وكيف بدأت؟ إن الذاكرة لا تسعفني، فبداية القصة غامضة، والمكان نفسه قد غيرته الأيام، ولو ملكت عصا ساحر فمحوت ذلك الصف الأنيق من أكشاك الاستحمام النظيفة ذات النظام الدقيق، والتي تمتد على شاطئ البحر الآن، ولو استطعت أن أحل مكانها تلك الأكشاك التي كان يقيمها الأهالي إذ ذاك كل حسب هواه، وغناه ... بعضها حقير تآكل خشبه، والبعض الآخر كبير زاهي الألوان كثير النقوش.
كان شاطئ البحر إذ ذاك كأنه معرض للطبقات، وكانت أزياء الناس نفسها كأزياء المهرجان، وإني ليتملكني الضحك الآن، وأنا أتخيل نفسي بلباس البحر الذي اشتريته إذ ذاك، وكنت أزهو به، كان مخططا باللونين الأبيض والأحمر، وكأنني أحد نزلاء السجون الأمريكية ... بل حين أتخيلها هي أيضا بلباس البحر العجيب من القطن الرخيص ... كان هذا اللباس أهم قطعة في أثاث الكابين الذي كان يملكه صديقنا عبد السلام، كان لباسا للطوارئ ... ما أكثر الطوارئ على شاطئ البحر في حياة عزب يملك كشكا خشبيا للاستحمام.
ولأعد للقصة ...
القصة حيث أذكر لا حيث بدأت، ففي عصر أحد الأيام أقبلت سامية، وكنا أربعة نجلس أمام الكابين، فحيت الثلاثة الآخرين بأسمائهم ... وحيتني أنا بالتحية نفسها، وإن لم تعرف الاسم، وارتاحت نفسي لبساطتها، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وعلى حين فجأة نهضت سامية تقول: ما حدش منكم ناوي ينزل البحر؟
وصمت الثلاثة، وأدرت رأسي في وجوههم، فوجدتهم يرفضون جميعا فتحرك لساني، وقلت: أنا ... إذا لم يكن لديك مانع ...
অজানা পৃষ্ঠা
وضحكت ضحكة ساحرة، وقالت: أنا ... وأي مانع ... تفضل ...
وتفضلت فدخلت الكابين، وخلعت ملابسي، وارتديت لباس البحر المخطط، وخرجت لكي أتلقى تعليقات الأصدقاء الثلاثة المضحكة، وما لبثت أن دخلت هي أيضا إلى الكابين، وخرجت بعد دقائق ترتدي المايوه المتهدل كأنه غضون في جسد عجوز جاوزت المائة، وجرت إلى الماء، وسرت أنا في وقار الخجل حتى لحقت بها، وأخذنا نضرب في الماء صامتين، وقالت سامية، وهي تجمع خصلات شعرها خلف رأسها: إن الماء لذيذ جدا في ساعة الغروب.
وأجبت، وأنا أنظر إلى جسدها البديع: لقد شرب كل حرارة الشمس في النهار، ولم يفقدها بعد، قالت: إني أحب دائما حمام الصباح الباكر، وساعة الغروب ... إن البحر يكون هادئا ودافئا ... أما ساعة الضحى والظهر فإنه يكون كحلقة السمك ...
ولفت نظري تعبيرها الأخير فقلت: أنت من الإسكندرية؟ - لي فيها الآن أربع سنوات ... أنت من الإسكندرية؟
وأجبت: أبدا ... سأعود بعد أسبوع واحد إلى القاهرة ...
وقضينا نصف ساعة في الماء وخرجنا، فهرولت هي إلى داخل الكابين، وجلست أنا على مقعد خشبي حتى ارتدت ملابسها وعادت، فدخلت بدوري ... وكنت أصلح رباط رقبتي أمام المرآة حين دخل عبد السلام ليقول لي: سنترك لك مفتاح الكابين؛ لأننا ذاهبون إلى سيدي بشر.
ووجدتني أجيب: وسامية؟
وأسرع عبد السلام يجيب ضاحكا: متخافش يا عم ... سنتركها لك ... حلال عليك ... إن لدينا موعدا مع ثلاثة أقمار. - تتركها لي ... لكنني ... - لكنك ماذا؟ تصرف يا أستاذ.
ودعوني الآن أقص عليكم كيف تصرفت ذلك المساء ... جلست أنا وسامية أمام الكابين نصف ساعة حتى أوشكت الشمس على المغيب، وظل عقلي يبحث عن الطريقة المثلى لقضاء ليلة ممتعة، وأعترف هنا أن ليالي الممتعة ... إلى تلك الليلة، لم تكن تتعدى سهرة على شاطئ النيل مع فتاة أحببتها ... سهرة تمتد حتى الساعة العاشرة والنصف، نئوب بعدها إلى منازلنا، حتى برمت الفتاة بسهراتي وملتها، فهجرتني برسالة وداع رقيقة معتذرة أن أهلها اكتشفوا السر وعرفت بعد ذلك أنها هي التي اكتشفت السر... أن حبي لها لن يستطيع أن يجلب إلى أذنيها وجيدها تلك الحلى التي رأيتها تتحلى بها بعد ذلك بشهور في صحبة شاب وارث يؤمن بالجدران الأربعة أكثر من إيماني أنا بشاطئ النيل السعيد، وللمصادفة المحضة أن النيل لا يصل إلى الإسكندرية، وأن سامية لم تقع في نفسي موقع فتاتي الأولى التي كان يخيل إلي كلما جلست معها، أني في حلم سعيد ...
ولذلك قلت: هل تمانعين في أن نذهب إلى السينما؟ - لا أمانع لكن لاحظ شيئا ... أريد أن أكون في منزلي قبل منتصف الليل ...
অজানা পৃষ্ঠা
وذهبت إلى السينما، واخترت بخبرتي في خلوة العشاق البريئة مقعدين يتيمين في أقصى الصالة يقعان بين المدخل، وبين عمود ضخم من البناء ...
وأطفئت الأنوار، وبدأت قصة الشاشة، واستمرت قصتنا في فصلها الثاني، ومددت يدي فطوقت سامية في حذر ورقة ... وأعترف أن أهدافي إذ ذاك لم تكن تعدو الإحساس بخصر دافئ يشاركني في السهرة، وبأنني لست وحيدا، وإنما أجلس إلى فتاة ... ولكنني لم أكد ألف يدي حولها حتى سحبت نفسها في فزع قائلة: لا لا ... هنا لا ... يمسكونا بعدين، خلينا أما نخرج من السينما، عندنا وقت لنصف الليل.
وحددت هذه الجملة في حديثها خطوط الفصل الثالث من قصة تلك الليلة، فحينما انتهى العرض خرجنا وركبنا الترام إلى حيث أقيم أنا في الفندق المتواضع ... وصعدت سامية معي درج الفندق دون أي تردد أو خوف، ودخلت معي إلى حجرتي في شجاعة، كأنها تأتي أمرا عاديا من أمور حياتها العادية ... وكان يجب أن يملأ رأسي شعور الاشمئزاز، فقد عرفت بالضبط ما هو موضع سامية في المجتمع، ومن هي بالنسبة لأصدقائها ... ومن هي بالنسبة إلي ... صيد ساعة لا أكثر ولا أقل ... وكان يجب إذا لم يملأني الاشمئزاز أن يكف عقلي عن التفكير فيها، وأن أترك لحواسي أن تتمتع بذلك الغذاء الجسدي الناضج ... كان يجب هذا أو ذاك ... ولكن القدر أراد غير ما أردت، وأصر على أن يصنع من القصة القصيرة ذات الفصل الواحد الستار الذي ينزل قبل الختام حرصا على آذان الناس، وأذواقهم النظيفة ...
أصر القدر على أن يصنع من هذه القصة المتداولة الحدوث قصة طويلة ذات عدة فصول ... وتكون النتيجة ... هي ما يحدث دائما حين يحاول المرء أن يجعل القصة القصيرة ذات الموضوع التافه قصة طويلة ذات أربعة فصول ... أن تتغير فصول القصة، وأن يتلف موضوعها، وأن تنتهي نهاية سخيفة ... لقد وقع القدر في الخطأ نفسه، أطال القصة فتعثرت في الطريق ... بل تعثر بطلها نفسه الذي هو أنا، وبدأ في الكثير من أجزائها أحمق غاية الحمق ... وجلست سامية على مقعد، وجلست أمامها أتأمل وجهها الوسيم، وقد خلا من كل مسحة شر أو إثم ... لم تكن سامية قد أوغلت بعد في عامها العشرين، ومع ذلك فها هي ذي أمامي امرأة ... وسألتها وأنا أشعل سيجارتي: هل أنت متزوجة؟
وأجابت دون تردد: أبدا ... لم أتزوج ...
ومرة أخرى رفض عقلي أن يشمئز ... بل لعله زاد تسلطا على حواسي ... - أهلك في الإسكندرية؟
وأجابت: آه ... ولا ...
وأصر عقلي على أن يضيع الوقت في سماع القصة ... وفي توسيع فصولها. - لا أفهم ... هل تعنين أنهم ماتوا؟
وفتحت بهذا السؤال ستار القصة عن مشهد مؤثر، فقد انهمرت دموع سامية ... وعلا نشيجها ... وطار من جو الغرفة آخر ظل للبهجة ... وقمت بدور الرجل النبيل فخففت عنها، وأخذت أواسيها حتى جفت آخر دمعة، ونطقت أول حرف من مأساة حياتها الدامية، مأساة حياتها الدامية! أليس هذا تعبيرا جميلا يهز المشاعر؟ ثم، ألم أصبح أنا - بفضل سلطان عقلي على حواسي - ممثلا تراجيديا يجيد أن يبكي، ويبكي الجماهير أيضا؟ ألم أصبح شيئا آخر غير هذا الشاب الذي صعد درج الفندق قافزا لينعم بغذاء شهي لجسده الجائع؟ شيئا نبيلا يسمع قصة دامية، فتعجبه فيصر على أن يضع لها نهاية سعيدة؟
وتملكني كبرياء الخالق الذي يصنع القصص، وأنا أسمع ختام رواية سامية، وقال عقلي لنفسي: «إن القصة لم تنته، ولا يمكن أبدا أن تنتهي قصة على هذا الشكل السخيف ... فتاة يغرر بها شاب فيجعلها تترك أهلها، وتندفع في هواه حتى لا تفرق بين جسدها وقلبها، فإذا بالنذل (رأيي أنا في صديق سامية الأول) ... فإذا بالنذل يمضغها لحما، ثم يلفظها عظما، وتملكني الزهو، وأنا أتأمل عقلي، وهو يلقي هذا السؤال في تحد وبراعة ... وكانت نفسي أسلمت آخر رغبة لها في قوام سامية وجسدها ... أسلمتها في يأس؛ لأنها كانت شديدة الإيمان بعقلي إذ ذاك ... وقلت لسامية بنفسي وعقلي ولساني معا: لا يا سامية! لا تسخطي هكذا على الحياة البشرية، ليس كل الناس وحوشا كصديقك محيي، لقد كنت صغيرة، وغرر بك ... أنا معك أنك لن لا تستطيعي العودة إلى أهلك ... ولكنك أيضا لا يجب أن تستمري في هذه الحياة. - وكيف أعيش؟
অজানা পৃষ্ঠা
وما زلت أذكر إلى الآن أروع جملة نطقت بها على مسرح الحياة، حين أجبت سامية في حزم وعزم وتؤدة: ستعيشين، كما كان يجب أن تعيشي قبل أن يغرر بك النذل محيي.
وطويت ستار هذا الفصل بيدي، وأنا أطفئ نور حجرتي بعد أن أوصلت سامية إلى منزلها، وعدت إلى حجرتي لأنام هادئا مطمئن الضمير قرير العين، ورفع الستار عن الفصل قبل الأخير، وأنا أؤكد أنه قبل الأخير لكي أطمئنكم على أن الرواية لن تطول حتى يعلو تثاؤبكم، وتتحرك أجسادكم في قلق كأنها تدعوني لأختصر القصة ... إني لن أختصر القصة؛ لأنها من تلقاء نفسها أوشكت على النهاية ...
إن ستار هذا الفصل يفتح في شقة صغيرة بشارع ضيق من شوارع القاهرة التي يسميها الناس، امتهانا لأصحابها، حواري وأزقة، إنه ليس زقاقا ضيقا، وليس حارة حقيرة، وإنما هو شارع متواضع، والشقة نفسها ثلاث حجرات، والأثاث هو الأثاث نفسه الذي كان عندي قبل بداية القصة، لم يزد عليه غير بضعة أوان وأدوات الزينة لامرأة ترضى من زينتها بالقليل، وأنا وسامية وخادمة صغيرة في هذه الشقة ... أنا وسامية زوجان، دخلت هي بيت الزوجية لتمحو آثامها، وتتطهر من ماضيها، ودخلت أنا بيت الزوجية لأضيف إلى كتاب حياتي صفحة بيضاء أتقرب بها إلى الله، وما أجمل أن يصنع الإنسان الخير! وما أجمل أن يكون الزواج حسنة من الحسنات، ومنة على الزوجة! أليس ذلك فارقا كبيرا بيني وبين الكثيرين؟ أن أعيش من زوجة تشعر في الصباح وفي المساء أنني لست زوجا فحسب، وإنما ملاك رحمة يأسو الجراح؟
واستمر هذا الفصل - بمنظره نفسه الذي سردته لكم - عاما كاملا، ويجب أن أعترف أن كل ما جد على سامية هو حياة الشرف.
إن مواردي لم تكن لتسمح بأن تبدو سامية خيرا مما كانت من قبل، ولا أن تأكل خيرا مما كانت تأكل ... كنا نذهب كل أسبوع مرة إلى السينما، ونتنزه بقية الأيام على شاطئ النيل السعيد حيث أخرج لساني لذكرى الفتاة التي أحببتها ذات يوم، وأنا أقول: هربت مني لتنعمي بحياة الرذيلة ... وها هي ذي امرأة قد هربت من حياة الرذيلة لتحيا حياتي المتواضعة، يا قصيرة النظر، إنها قد وجدت من يئويها ... أما أنت فهل ستجدين يوما من يئويك؟
وكان قلبي يفيض بالفرح والسرور، وأنا لا أسمع جوابا على هذا السؤال ... وأحس بالرثاء للهاربة المسكينة، وفي خلال العام لم يحدث بيني وبين سامية أي خلاف، وإن كنت ألحظ أحيانا وجومها وشرودها، وألحظ أحيانا أخرى نزعة كآبة تجعلها تقضي ساعات نزهتنا على شاطئ النيل ساكنة لا تتكلم ... وكنت أعلل ذلك دائما بأنه قلق السعيد على سعادته خوفا من أن تفلت يوما من بين يديه، أو ندم الخاطئ على خطئه الماضي يشتد وطأة كلما ازداد نقاء وطهارة ... ظل هذا تعليلي طوال الأيام الأخيرة من عام زواجنا الأول حتى كان يوم عيد زواجنا فأردت أن أزيدها عطفا، وقررت أن أحتفل بهذا اليوم ... قررت فيما بيني وبين نفسي، ولم أقل شيئا ... وأخذت أفكر كيف أحتفل بعيد الزواج فخطر لي أول الأمر أن أقيم وليمة صغيرة، وأدعو أصحابي ليروا بعيونهم ما فعلت من مجد ... ولكني استبعدت الخاطر لعدة أسباب، فأعز أصدقائي بينهم عبد السلام، وقد حل بيننا جفاء خفيف اصطنعته بنفسي لكي أبعد عن حياتي الجديدة ظلال الماضي المعتمة في حياة سامية ... أما بقية الأصدقاء فقد أطالوا لسانهم في زواجي، واستهجنوا تصرفي، ولن يقنعهم الطعام الجديد، ولا السهرة اللطيفة بأنهم كانوا خاطئين ... إنما الذي يقنعهم فعلا هو أن تمر على هذا الزواج سنوات يبدو فيها كأنه حصن متين، وانتهيت إلى رأي، ثوب جديد، وسهرة رائعة، هذا هو خير احتفال بزواجنا، وأحسن هدية أقدمها لسامية.
وأحضرت الثوب، وأخفيته حتى قبل الغروب ... ودعوت سامية من المطبخ حيث كانت تعد العشاء، وقلت بلهجة الآمر: اخلعي ثوبك هذا، وارتدي هذا الثوب الجديد، واستعدي للخروج بعد عشر دقائق ...
وخرجنا إلى الطريق، وأخذنا نتصفح الإعلانات، وقلت: ما رأيك في فيلم مصري؟
وقالت سامية بلهفة: لا مانع ... أنت تعرف أني لا أحب الأفلام الإفرنجية التي ترغمني عليها كل أسبوع.
وسارعت بالضحك، فأضاعت سحابة الضيق التي كانت توشك أن تجثم على صدري، فقد كنت أظنها إلى اليوم سعيدة بسهرتنا الأسبوعية ... وابتعت تذاكر السينما، ودخلت أنا وسامية حتى وصلنا إلى الباب، وإذا بضوضاء شديدة وتصفيق وهتاف ... ووجدت عامل الباب يسحب يده دون أن يأخذ التذاكر من يدي، ثم يشير إلينا أن نفسح الطريق ... وصلنا أنا وسامية إلى أحد الجانبين، وإذا بصفين من الشبان يفسحون الطريق للقادم العظيم ... وقلت لسامية قبل أن يتقدم موكب القادم: إنه، بلا شك، وزير خطير، أو ... ولكني لم أتم، فقد بدا أمامنا الوزير الخطير بطلعته البهية، ولم يكن وزيرا، وإنما حسناء، حسناء رائعة القوام تخطر في معطف من الفراء الأبيض الناصع، أخذت تخطر حتى أصبحت أمامنا، ورأتها عيناي في وضوح، واستطعت خلال هالة الأناقة، وبرغم شعرها المصفف كأنه سبائك الذهب أن أتبين الوجه، وتنطلق من فمي صيحة تقابلها صيحة أخرى من سامية ... وقلت لسامية، وأنا لا أملك دهشتني بعد أن ابتعد موكب الحسناء: تعرفي دي مين؟
অজানা পৃষ্ঠা
وأجابت سامية بانفعال وبلهجة لعلي لم أسمعها منها من قبل ذلك اليوم: مين؟ خديجة المفعوصة ... اللي كانت ...
ووصفتها بأوصاف تتشابه مع أوصافها هي - حين عرفتها - وأخذت تذكر زمالتها لها فترة من حياتها، حياتها الماضية التي طوتها، وطهرتها في بيت الزوجية ... وكنت أنا أتوقع أن تجيب على سؤالي بأنها لا تعرفها، فأقص عليها قصة حبي القديم مع هذه الحسناء حين كانت فتاة فيها كل جمال البراءة والصبا، تقنع بالنزهة على شاطئ النيل السعيد، لكنني آثرت أن أسكت، وأنا أدفن حديثي في أعماق نفسي.
وسرت مع سامية حتى مقاعدنا التي وصلنا إليها بمشقة لانهماك الناس في استقبال القادمة الحسناء بطلة الفيلم ... وصديقة المليونير الذي يتربع على عرش من عروش الصناعة والمال، ولم أصفق أنا مع الجمهور، ولم تصفق سامية، وكانت لدينا أسبابنا القوية لهذا الإعراض عن تحية النجمة الفاتنة، أما أنا فقد كنت مؤمنا أشد الإيمان بأن هذه النجمة اللامعة ... كانت أعلى مكانا، وهي تجلس إلى جانبي على شاطئ النيل ... وأما سامية ... فلم أدرك ساعتها حقيقة مشاعرها ... وإنما أدركتها بعد ذلك بأيام، أدركتها حين عدت إلى المسكن ظهر أحد الأيام، ولم يكن قد مضى شهر على عيد زواجنا فوجدت غدائي معدا، وسامية قد غادرت المنزل بعد أن تركت لي رسالة قصيرة تطلب مني فيها الطلاق لأنها لم تعد تطيق هذه الحياة.
إنكم تتحركون كأن القصة قد انتهت، ولكنها لم تنته بعد، فهذا هو الفصل قبل الأخير، وهو أطول فصول القصة؛ إذ إنه استغرق عاما.
أما الفصل الأخير فهو قصير جدا، إنه أقصر مما تتصورون، ولست أنا الذي أرفع عنه الستار، إن ذلك ليس عجيبا في القصص القصيرة حين ندعي القدرة فنمد فصولها ونوسعها لنخلق منها قصة طويلة، فكثيرا ما يحصل أن نرتبك، ونقف قبل النهاية حائرين حيرة أبطال القصة لا يدرون ماذا يفعلون ... إن القدر نفسه يرفع الستار عن الفصل الأخير، ويحظى وحده بإعجاب الجماهير، أو سخطهم على حد سواء ... ويرفعه ذات مساء من هذا الصيف ... أي بعد أربعة عشر عاما من بداية القصة، وفي أحد الأكشاك الخشبية، ليس على شاطئ البحر، فقد أحالت يد الأيام أكشاكه الحقيرة المتناثرة إلى صف أنيق ... إن الفصل الأخير في كشك خشبي حقير في الناحية الأخرى من الشاطئ عند الأنفوشي ليس كشك استحمام ... وإنما مسرح متواضع يؤمه الأطفال والرجال ليقزقزوا اللب، ويتفرجوا على راقصة بدينة، ورواية مضحكة، ورواية محزنة أيضا يموت فيها كل الممثلين ... وفي هاتين الروايتين تظهر سامية في دور صغير.
وسكت عبد الرءوف ... ونهضنا لنستنشق الهواء ... ولاحت لنا من شرفة الشقة في البناية المرتفعة في ستانلي حيث يقيم عبد الرءوف وأسرته، لاحت لنا سلسلة الأضواء الممتدة على الكورنيش حتى الناحية الأخرى من الشاطئ، وقال عبد الرءوف، وهو يشير إلى هناك: آه! هناك يا أستاذ، سامية، لقد عادت إلى الكشك الخشبي الحقير، ما أعجب ما ينهي القدر بعض الأقاصيص.
وتحركت السفينة في هدوء
كان زواجي بك سيكون مغامرة ... أدمر فيها بيتا، ولا أربح شيئا. ***
الفصول تمر بسرعة ... فيها كل أحداث القصة الغرامية ... من النظرة الأولى إلى اللقاء الأخير ... كل ما ينقص القصة أن يقف البطل مادا يديه إلى الهواء في حرارة ليقول: الوداع يا حبيبتي ... الوداع إلى الأبد ...
ثم ينزل الستار ويصفق الجمهور ... أو تشير البطلة إلى الباب، وتصيح بالبطل الغادر في صوت تشوبه غضبة العفاف الجريح قائلة: أخرج عليك اللعنة، فيخرج البطل مطأطئا رأسه مشيعا من النظارة بلعنات تفوق لعنات البطلة ... ولا يكاد ينفلت من الباب حتى تدوي القاعة بالتصفيق، وصيحات الاعجاب.
অজানা পৃষ্ঠা
ولكن هنا لا البطل يتحرك للوداع ... ولا البطلة تتأهب لتشيعه باللعنة نحو الباب، إن ما يحدث في قصتنا هذه كذلك الذي يحدث في السينما حين تتوقف آلة العرض فجأة فتسكن حركة الكائنات على الشاشة، وكأنها صعقت ... صعقت قبل الختام مباشرة، واتخذ كل منها وضعا ثابتا لا معنى فيه ولا روح ... أجل لقد توقفت آلة العرض فجأة قبل ختام القصة ... توقفت خمس سنوات كاملة، وفي خمس سنوات كان يستعيد بين الحين والحين القصة من فصلها الأول إلى ما قبيل الختام، فإذا ما انتهى إلى المنظر الأخير حار عقله، وحاول أن يرسم في خياله صورة للختام كما يجب أن يكون ...
هل يودع البطل البطلة إلى الأبد؛ لأنها خانت عهد هواه؟ أو تشيع البطلة حبيبها الغادر باللعنة بعد أن نكث العهد؟ لا هذا ولا ذاك، إن القصة لم تصل إلى الختام ...
كان المنظر الأخير كما لا يزال يذكر، في حجرة الطعام ... وكانوا خمسة يتناولون العشاء هو أحدهم، وخرج وخرجوا بعد العشاء على أن تحادثه في الغد بالتليفون، فلم تتحدث في الغد، ولا بعد الغد ... بل لم تكن في القاهرة كلها طوال الشهر ... وحينما عادت لم يعلم بعودتها إلا حين لقيها في الطريق مصادفة، ومع أنها كانت وحيدة، وكان الطريق خاليا فلم تحاول أن تهدئ من سرعة سيارتها، بل أومأت إليه إيماءة خفيفة، وسارت وكأنه مجرد وجه تعرفه، وفي ذلك المساء حدثها بالتليفون، بدأ حديثه بالعتاب ... عتاب الحبيب الذي يكون آخر من يعلم بسفر الحبيبة وعودتها من السفر ... وجرى حديثها سؤالا عن الصحة ووصفا لجمال الإسكندرية في الشتاء، وسردا لمشروعاتها المقبلة، ومشروعاتها المقبلة كانت ترك السفر إلى أوروبا، وإنشاء شركة تجارية، و... و... مشروعات لم يكن فيها له أي دور ... حتى ولا دور المتفرج، كانت مشروعاتها إلى قبيل المنظر الأخير تقوم عليه وحده ... هو مدارها وهو لبها وهو هدفها.
وأغلق التليفون، وعرف أن شيئا قد حدث ...
وظل ينتظر أياما، ينتظر المنظر الأخير حيث يفترق العاشقان إلى غير لقاء ... وطالت الأيام شهورا ... ورآها خلال هذه الشهور أكثر من مرة ... لقيها مرة وجها لوجه، وكانت تسير على قدميها فوقف أمامها، ووقفت ... وقفت وقد أحس أنها كانت سوف تسير في طريقها دون أن تحييه ... وبادلها السلام، وتحامل على كرامته وضغط على يدها بحرارة، وقالت وهي تسحب يدها في ابتسامة لا روح فيها: كيف أحوالك؟ صحتك زي البمب كما أرى.
ونظرت في ساعتها وقالت - وهي تنقلب وكأنها تهرب: أنا مسرورة لرؤيتك.
وابتلع إجابته؛ لأنها كانت قد مضت مسرعة ... لقيها بعد ذلك عشرات المرات ... في المرات الأولى حيته بإيماءة ... وفي المرات التالية اكتفت بأن لمعت في عينيها ابتسامة، وتكاسلت عن الإيماء ... وبعد ذلك عرف كيف يجنب نفسه ويجنبها عناء الابتسام المتكلف ... كان يشيح برأسه كأن لم ير شيئا، وعلى ذلك مرت الأعوام، وألف كلاهما أن يرى صاحبه، وكأنه لا يعرفه ... أما هو فكان يحسها، وكأنها عطر قوي كلما مرت به أو عبر بها ... كان يحسها أحيانا قبل أن يراها ...
دخل مرة إحدى دور السينما ... كان أمامه رهط من الناس قد تجمع عند سلم السينما يوشك أن يصعد، وفي وسط هذا الجمع أحسها تسير ... لم ير وجهها ، ولا حتى خصلات شعرها ... ومع ذلك فقد أحس وهو يخترق الجمع أنها فيه ... وكانت فعلا توشك أن تصعد درج السلم، وكانت بينه وبينها مسافة، سرعان ما قصرت حتى وجد نفسه يسير حذاءها جنبا إلى جنب تماما كإحدى الصور التي يذكرها من قصتهما التي لم تتم ... لقد دخل معها ذات يوم إحدى دور السينما في حفلة العرض الأولى ... دخل معها جنبا إلى جنب ... وجلس معها جنبا إلى جنب ... وكانت مغامرة لا يقدم عليها زوج لم يمض على زواجه عامان ... كانت مغامرة بالنسبة لأي رجل يظهر معها في مكان عام ... هي بعينها، وما يعرفه عنها المجتمع ... رآها في تلك الليلة شقيقه الأصغر وشقيقته.
وضحك شقيقه بعد ذلك بيومين حينما احتدت شقيقته في عتابه قائلة: مالك ومال هذه المرأة، أتريد أن تلوث اسمك؟ ما الذي يحدث حينما يراك الناس معها؟
ضحك شقيقه، وقال ساخرا: وما أمر سخريته - أما أنك مسرفة في التشاؤم فذلك حق ... لقد دعاها للسينما، وقضى سهرة حمراء ... ثم انتهى كل شيء ... هل تظنينه سيصاحبها إلى الأبد؟ أي إنسان يطيق «...» أكثر من ليلة؟ هوني عليك يا أخت، فالزوج ما زال بخير، وإن شطح أحيانا ...
অজানা পৃষ্ঠা
لو عرف أخوه إلى أي مدى كانت قصته معها قد وصلت ... لو عرف أن السهرة الحمراء لم تكن في قصته ... ترى كيف كان يضحك ... وبمن كان يسخر؟
وانتهت درجات السلم، ومرت بخاطره شتى الصور ... أما هي فاتجهت يمينا إلى مكانها دون أن تراه، وأما هو فقد رأى الرواية تلك الليلة، وقد اختلطت مناظرها بمناظر قصته معها ... طالما رفع نظارته ومسح زجاجها ليرى ما على الشاشة في وضوح ناسيا أن الضباب كان على عينيه، وليس على زجاج منظاره ... في تلك الليلة بالذات عادت إليه حيرته، فلم يأو إلى فراشه، وإنما لجأ إلى حجرة مكتبه، وجلس يستعيد القصة إلى ما قبيل الختام، يستعيدها منذ رفع الستار ...
المنظر: مكتب الأستاذ وصفي عبد الحميد حيث كان يتمرن منذ أتم دراسة الحقوق ... يدخل الخادم معلنا قدوم سيدة تطلب لقاء الأستاذ وصفي في إلحاح ...
هو :
ولم تسألني أنا يا أبله؟ ماذا قال لك الأستاذ؟
الخادم :
قال لي إنه أنكر وجوده على الزبائن جميعا ... وهددني بالفصل إن دخلت أنا أو أحد الزبائن عليه في مكتبه قبل الساعة التاسعة.
هو :
إذن تصرف ...
وتصرف الخادم ... ووجد نفسه وجها لوجه أمامها، أمام ماجدة عبد الرءوف، ماجدة التي رأى صورتها اليوم فقط في حفلة جمعية رعاية اليتامى تتوسط رهطا من العظماء، وهي تبيعهم الزهور بالجنيهات لصالح اليتامى ... ماجدة التي ارتبط اسمها بعشرات القصص خلال الأعوام القليلة الماضية ... قصص المغامرات المثيرة مع كبراء ونجوم المجتمع ... آخر هذه القصص كان حديث الناس منذ أسابيع، قصة هيام عبد اللطيف باشا سعد بها، وكيف استعانت زوجته بالبوليس لتستخلصه من أنياب ماجدة، وتخرجه من شقتها الأنيقة بعد منتصف الليل ... فضيحة لم تنشرها الصحف لمركز عبد اللطيف باشا الخطير، ونشرتها ألسنة الناس لنفس السبب ... وجها لوجه أمام فتاة الغلاف لصفحة الإشاعات في كتاب المجتمع.
অজানা পৃষ্ঠা
وغلبه الارتباك، وتمتم بألفاظ التحية المعتادة في اضطراب، وتحركت يداه تشيران إلى المقعد، ولكنها سألته في عجلة: الأستاذ وصفي ليس موجودا الآن، قال لي ذلك الخادم، وإن كانت سيارته تقف أمام باب العمارة، لا يهمني ذلك، وإنما أريد أن أكلفه بعمل، أنت تعرف أنه محام.
ولم يكن يعلم، ولكنه أجاب: أعرف ذلك ...
قالت: أريد أن يبعث إنذارا لصاحب العمارة التي أقطن بها ... هل من الضروري أن أقابل الأستاذ لذلك؟ ... أظنك تستطيع أن تقوم لي بهذا العمل ...
ولم تنتظر إجابته، وإنما أخذت تشرح له ما تريد ... وكتب لها صورة الإنذار الذي تطلبه، وأمر الخادم فحمله إلى الكاتب ليكتبه على الآلة الكاتبة ...
حدث كل ذلك في أقل من نصف ساعة ... ونهضت ماجدة وحيته شاكرة وانصرفت، وبقي هو وحيدا ... وحيدا مع بقايا عطرها القوي يملأ رئتيه، وصوتها العذب يملأ أذنيه ... أما عقله فقد كان غارقا في عشرات الأفكار الغامضة، كان هذا أول منظر ... نستطيع أن نسميه النظرة الأولى ... النظرة الشاردة لا تحمل معنى من معاني الحب كما يفهمه الشعراء أو الكتاب ... هو نفسه لم يكن يجرؤ أن يقول إنه أحبها ... بل لعله ضحك لفكرة من أفكاره الغامضة ... فكرة قضاء ساعة مرحة مع ماجدة في نزهة بالسيارة، إن المنظر الثاني يحدث بعد ذلك بأيام ... من المدهش أن يكون هذا المنظر هو فكرته الغامضة نفسها التي ضحك منها.
أبواق السيارات ترسل أصواتها القوية من شارع قصر النيل، وكأنها في مباراة للإزعاج ... وهو يسير وحده يتأمل واجهات المتاجر ... وقف عند إحداها يطيل النظر، راقه رباط رقبة بديع فوقف يفكر في المغامرة؛ مغامرة شرائه وحمله إلى المنزل، وصوت زوجته وهي تقول في عتاب: «كرافتات ثاني ... ألا تشبع كرافتات؟» ويهم بالدخول.
ويرتفع صوت بوق سيارة يعلو على بقية الأصوات ويدوي بلا انقطاع، وكأنه ينادي أحدا ... يدير رأسه فيراها هي ... ماجدة تضحك، وقد وضعت يدها على عجلة القيادة، وكفت عن إطلاق البوق، وتصيح به وهي تضحك: ماذا؟ أذنك ثقيلة إلى هذا الحد؟
ويقترب منها محييا، ولعله اضطرب للمفاجأة، فهي التي تكلمت ثانيا: ماذا تفعل في هذا الشارع؟ - لا شيء ... أقطع الوقت ...
وأنا أيضا ... أقطع الوقت ... تعال ...
وتردد قائلا: قد تكونين ... - أكون ماذا؟ ليس لدي عمل، بل لعلي لا أعرف ماذا أفعل بليلتي كلها ... تفضل يا أستاذ ... ربما وصلنا معا إلى فكرة ...
অজানা পৃষ্ঠা
فكرة ... ماذا لو جرؤ فعرض فكرته التي ضحك منها منذ أيام؟ ... نزهة في طريق الصحراء. - فكرة رائعة ... وستقص علي في الطريق تاريخ حياتك ... لا أدري لم أحب أن أعرف شيئا عنك ... إن هدوءك يثيرني ...
هدوء؟ وفي رأسه عشرات الأفكار تصطرع وتتسابق، كل منها تحاول أن تصل إلى نطاق التنفيذ ... هدوءه؟ وقلبه يكاد يخر تحت ضربات الفرح والانفعال الثائرة ... حمدا لله الذي لم يجعل العقل والقلب من أطراف الجسم الظاهرة كاليد والعينين ... وإلا لرأت في عقله عشرات الأفكار البيضاء والسوداء على حد سواء ... بعضها يزين له أن يحيط خصرها بذراعيه إذا ما أوغلت السيارة في طريق الأهرام، ثم يلثم خدها في رفق وأدب وحنان، وبعضها يهمس له ساخرا بقبلة الخد قائلا إنها أبعد طريق إلى قلب المرأة، ماذا لو لثم شفتيها ... لو بدا طفلا وتجاهل النار؟ وأفكار أخرى سوداء ... تلك الفكرة التي طردها في عنف والسيارة قد شارفت نهاية شارع الهرم، وأوشكت أن تنحرف إلى الصحراء ... هل يفعل ذلك؟ ينظر إليها في خبث، ويقول وقد أومأ برأسه: «ما لنا وللصحراء! ... دوري بالسيارة إلى المدينة، إلى شقتك الأنيقة نحتسي كأسا أولا.»
هو لا يشرب الخمر، وثانيا هي سوف لا تقبل ... سوف تنظر إليه في احتقار ... وسوف تدور بسيارتها فعلا، وتنهب الطريق إلى المدينة، وستقف حيث لقيته، وستقذف به في نظرة ازدراء قاسية دون أن تتكلم، هذا الاعتراض الثاني لو أنه تهدم لجرف في سبيله الاعتراض الأول ... لشرب حتى ثمل ... يا لها من فكرة ... فكرة سوداء ... تهوم فوق صورتها في خياله ... ثم تستقر على عقله لحظة ... فيطردها في عنف فتهوم من جديد، ثم تعود ليطردها من جديد، وتضنيه مطاردتها فيستقر لحظة ... يخيل له فيها أنها دارت بسيارتها، ووقفت السيارة أمام دارها ... وهبطت وهي تدعوه في دلال، ويدخلان سويا ... وتقدم له كأسا ... ويشرب الكأس، ويلثم الشفاه القانية، و... الثمن ... ثمن ساعة مرحة مع ماجدة ... وتفزع أفكاره جميعا، وكأنها طيور صغيرة هبطت فوقها كف طير جارح، ويطرق أذنية صوتها وهي تسأله: تعرف تسوق السيارة؟
ويجيب، وقد استراح من أفكاره، وهو يضحك: لا أبدا ... أعرف ركوبها فقط ... - مع أنها سهلة جدا ... - سهلة صحيح ... لكن لا بد من سيارة ليقودها الإنسان، هذا هو الصعب في الموضوع.
تقف السيارة ... ويقف المحرك، وتمد يدها بعلبة السجائر، وتقول وهي تشعل له: حدثني عن نفسك.
وتنطفئ الولاعة مرتين قبل أن تشعل سيجارته ... كانت يده تضطرب، وأنفاسه تلهث ... وكأنها كانت تطارد أفكاره، ويقول لها وقد ملك عنان نفسه: أنا ... محام تحت التمرين ... أعمل بمكتب الأستاذ وصفي منذ عامين، وأنال منه مكافأة شهرية قدرها عشرون جنيها ... عمري ...
وتقاطعه قائلة في تهكم: محضر تحقيق! عمرك ومرتبك، هذه معلومات تقدمها للخاطبة، أنا أسألك عن حياتك ... تفكيرك ... ماذا تقرأ، وماذا تحب؟
جالت بخاطره إذ ذاك مغامراته الصغيرة من قبل ... كان يكفي أن تأتي كلمة الحب على لسان فتاة لكي يهمس في أذنها باعتراف صغير، ويتلقى الجواب من شفتيها، هل يقول لماجدة أحبك أنت، ثم ... ثم ماذا؟ هل هي إحدى فتيات صباه اللائي تستهويهن قبلة، فتضرم نار الهوى وتحرق الحياء ... كم من القبل تذوقت شفتا ماجدة؟
وأنقذه من ذلك التيه الذي شردت فيه خواطره مرة أخرى صوتها الناعم. هل قرأت ديوان «م» الأخير؟
وأجاب دون تردد: لقد قرأت بعض قصائده ... لقد خرج في هذا الديوان عن بعض تزمته، وبدا إنسانا رقيق الإحساس ... قصيدته «الموعد» مثلا ذكرتني بشعر شللي ... هل قرأت هذه القصيدة؟
অজানা পৃষ্ঠা
قالت: وأعرف متى كتبها ...
قصة حبه المعروفة، إني أشك كثيرا فيما يشاع عنها، لا شك في أنه أحب ... ولكنني أشك في أنه أحب «س» بالذات إنها لا توحي بشيء ... وأسرعت قائلة: لك أنت ربما ... لكن له، لقد كانت في وقت ما كل وحيه، غريبة أليس كذلك؟ أنت وأمثالك من السذج لا يصدقون أن تكون مثل هذه المخلوقة التافهة مصدر وحي لشاعر ممتاز، لكن من قال إن ملهمات العباقرة كن دائما ذوات خطر ... إننا لم نر إحداهن إلا في الثوب الذي خلعه عليها صاحبها.
ووجد نفسه يقول: لو كنت ملهمته أنت مثلا، ترى ماذا كان يضع في الشعر؟ - ربما كان لا يكتب قصيدة واحدة ... - أنت لا تلهمين ... أي مجنون قال هذا ...
وكان متحمسا إلى حد أضحكها ... أضحكها فترة عادت بعدها تقول: هل تنظم الشعر أنت؟ ... وتنقصك الملهمة؟
ومن هنا يدخل هو وماجدة إلى أحداث القصة، كان كل ما مضى مقدمات لكي تبدأ ... ما أكثر ما ضحك تلك الليلة من نفسه! وما أشد ما خجل من خواطره وأفكاره البيضاء والسوداء على حد سواء! عادا من طريق الصحراء عند منتصف الليل ... لم يطوق خصرها بذراعيه، ولم يحتس معها كأسا في شقتها الأنيقة، كل حصاده من متاع الأجساد قبلة حارة طبعها على يدها ... ومع ذلك فما أحس بأنه يقبل يدا، وإنما يلثم أطراف محراب، وتتوالى مناظر القصة كلها على نمط واحد.
يلقى ماجدة في المساء، ويحدثها في الصباح بالتليفون، يلقاها في شقتها، فيقضيان الساعات يقرأان الكتب، ويسمعان الموسيقى ... كانت تجلس إلى أريكة وثيرة، وقد استرخت كأنها تحلم، في حين جلس هو إلى مقعد بجوارها يقرأ لها شعر الحب لعشرات الشعراء، كانت تقول له: إلقاؤك يكسبه روحا ومعنى... من المؤكد أنك ستنظم شعرا عذبا يوما ما.
وكان يضحك قائلا: ربما ... هذا يتوقف عليك ... أنت إلهامي ذات يوم إن كتبت شيئا ...
وكان يحس، وهو يقرأ لها شعر النجوى والضراعة أنه لا يلقي نظم غيره ... كان يخيل له أنه يتحدث عن نفسه ... يتكلم بألفاظه هو، وكان ينتبه إلى نفسه كلما انتهى من تلاوة الشعر فيجدها تحملق فيه، أو تحدق في الفضاء ... حتى هي كان يخيل لها أنه يخاطبها ... وأنه يبث نجواه هو إليها، لا نجوى الشاعر لحبيبته، وكانا يخرجان أحيانا إلى الصحراء فتقف السيارة، وينطلقان في الخلاء، تخب أقدامهما في كثبان الرمال، وتخوض أفكارهما في خضم العواطف، وتلوك ألسنتهما شتى الأحاديث، يتحدثان عن القدر، وعن الناس، وعن الحب ... تقص عليه طرفا من حياتها، وما لقيت فيها من هناء وشقاء، كل يوم كان يمزق قناعا من نفسها الغارقة في عشرات الأقنعة ... بدت له نفسها آخر الأمر نفس فتاة تنطوي على إحساس بالخير والشر، والهناء والشقاء، والحب والكراهية، وخيل له ذات يوم أنها ... ماجدة ... فتاة، وليست كائنا من جنس غير البشر ... لها شفاه تلثم فتحس حرارة الحب ... وعينان تدمعان للأسى، وتلمعان للفرح ... وعندئذ فقط، وجد نفسه يتخلى عن دواوين الشعر ... ليناجيها بلغته وكلماته، وقد صب عليها قلبه من حرارته ما كساها روعة الشعر.
وقالت له يوما، وهي تحدق في الفضاء كأنها تسمع شعرا: هل تحبني حقا إلى هذا الحد؟
وأجابها في صدق: أجل يا ماجدة، أحبك من لقائنا الأول، كل ما في الأمر أنني كنت أحسبك تمثالا جميلا من المعدن فلم أبح لك بالحب، حتى تبينت لي إنسانا يسعد ويشقى وله قلب ... أنا أعرف أن حبي لك عبء يجب أن أحتمله وحدي ... أعرف أنه ليس في حياتك فراغ أملؤه ... لكنني مع ذلك أحبك.
অজানা পৃষ্ঠা
وأطرقت ماجدة لحظة، وقالت بعدها، وفي صوتها إحساس وعاطفة: أنت تعلم أني أرتاح إليك، وأحب أن أكون معك، ليس حبك لي عبئا ... إنه على العكس يبعث في الأمل.
وتصل القصة إلى قمتها، ذات يوم كانا يستمعان إلى أغنية في الراديو ... لحن جميل نظمه شاعر يصف حبه، ويشكو فيه، لا هجر المحبوب ولا وصاله، وإنما خلو هذا الحب من الهجر والوصل معا.
حتى ليتمنى على المحبوبة أن تقسو عليه، ومدت ماجدة يدها وخفضت من صوت الراديو، وقالت في امتعاض: لا أحب هذا اللون من العلاقة ... إنه كالماء الراكد، أوثر عذاب الهجر على صقيع الركود ... أفضل ألف مرة أن أحب إنسانا فلا يحبني ويهجرني، على أن أظل معلقة بخيط الشك أو الغموض ... أنت ما رأيك؟
وابتسم ابتسامة فهمتها، وهو يقول: أنا من رأيك ... لكن أنت، ألا تحسين أنك تتركين إنسانا معلقا بهذا الخيط ... لو أن هذا الإنسان أدرك مصيره؟
وأمسكت بيده، وأخذت تربت عليها في رقة، ورفع يدها إلى فمه ولثمها، ثم سار بها حثيثا حتى استلقت على كتفه، وأحسها تلمس عنقه، وأحس بأنفاسها تتردد دافئة فتحسس طريقه إلى فمها، وغاب في قبلة طويلة، قبلة رسم خلالها خطوط مستقبل جديد، كانت قد استرخت على المقعد، وكأنما شربت في القبلة نفس الخمر فثملت ... أما هو فقد بعثت فيه مع النشوة نشاطا دب إلى خياله ... وقال وفي صوته عزم: هل تتزوجينني يا ماجدة؟ أو؟ ...
وأجابت وما زالت سكرى: أو ماذا؟ ... أترى نفسك ما زلت معلقا بخيط الغموض؟
وشربا كأسا أخرى من الرحيق نفسه، وامتلأت رئتاه بعطرها العميق، وتدفق الهوى في شرايينه حارا كالدم، وأخذ يصب في أذنيها الأماني ... - لن أظل في مكاني يا ماجدة في مكتب الأستاذ وصفي ... لقد بدأت أكون لي عملا، وسأفتح مكتبا خاصا بعد عام ... سنبدأ معا حياة جديدة مشرقة، أنت وأنا متفقان في مشاربنا، كلانا يقرأ كثيرا، كلانا يحب الأدب ... إننا على الأقل لن نجوع يا ماجدة، فلدي ما ييسر لنا حياة طيبة.
إن هذا المنظر هو أقوى مناظر القصة ...
ظل يتكلم طويلا، وألقى دوره بمهارة فائقة، وكأنما كان يستظهره منذ شهور، وظلت ماجدة تستمع ... ترى هل نجح في دور العاشق أمام عاشقة محترفة؟ وهل سمعت أذناها قبلا مثل هذا الأداء؟ ... إن ما حدث بعد ذلك كشف عن مدى نجاحه؛ إذ قبلت ماجدة الزواج منه، لقد نجح في أن يجعلها تنسى نفسها، وتتكلم كفتاة يفتح قلبها لنداء الحب، قالت له: وزوجتك؟
أجابها على الفور: إنها شابة وما زال أمامها المستقبل، وحين يحب الرجل المتزوج، فمعنى ذلك أن زوجته لم تملأ فراغ حياته ... أتظنين أنه في استطاعة الرجل أن يحب اثنتين؟
অজানা পৃষ্ঠা
وأخذت تسوق الاعتراضات، وأخذ هو يحطمها واحدا واحدا، وراحت بعد ذلك تتخيل بيت الزوجية، وما سوف يكون بيت الزوجية الذي ما عرفته قط، هي التي ذاقت كل بيت عداه ... واتفقا على موعد للزواج بعد ثلاثة شهور، ولعله اطمأن منذ ذلك اليوم إلى أنها لم تعد الغانية ماجدة، بل أضحت خطيبته، وإن لم يعنيا بإعلان الخطبة ... لقد أعلن علاقتهما بعد ذلك سير هذه العلاقة ... بدأا يظهران سويا، ويغشيان المطاعم ودور السينما، وكثيرا ما كانا يقابلان أصدقاء ماجدة ... كانت تومئ لبعضهم من بعيد، وكانت تقدمه للبعض الآخر ... وكان هذا البعض الآخر شعراء وفنانين من الشبان ... وكان هو يعرف بعضهم من قبل، كانت تقدمه كصديق، وكان كلما سألها لماذا لا تنبئهم بالخبر تقول له ضاحكة: ولم التسرع؟ سيعرفون النبأ في حينه ...
وفي شقتها الأنيقة كانت تجمعه وإياها وأصدقاءها من الأدباء والشعراء سهرات رائعة يتحدثون فيها، ويستمعون للموسيقى، ولا ينسى ذلك اليوم حين جاء صديقها الموسيقار «م»، وقد تأبط نوتة لحن من وضعه، وجلس يسمعهم اللحن بصوته الحنون، وعيناه مسمرتان على وجه ماجدة حتى انتهى اللحن، وصفق الجميع، وصفق هو معهم، وإن كان قد أحس شيئا من الضيق ... ضيق لم يخالجه شك حينذاك، ضيق ضعيف انفرج مع صيحات الإعجاب والتصفيق باللحن والأغنية، وقال «س» وهو ممثل يستنفد قدرته الفنية في التظاهر والتمثيل في الحياة، قال وقد خفت موجة الإعجاب: عرفنا أن اللحن من تأليفك، ولكن من الذي وضع هذه الأغنية الجميلة ... ويجيب الموسيقار ببساطة: الأغنية من تأليف صديقنا الشاعر «ع» لقد وضع الأغنية لماجدة، وأنا لحنتها لها ... إنها من وحيها لحنا، وغنائها لها ... ويصفق الجميع من جديد، وقد توجهت أنظاره إلى الشاعر «ع» الذي جلس في حياء، وقد اصطبغ وجهه بحمرة قانية ... وكأنه عذراء تسمع حديث الحب لأول مرة ... وصفق هو مع الجميع، وأحس بضيق أشد قسوة وظلا من ضيقه الأول ... وكان مطلع الأغنية:
عرفتك في ربيع عمري
يا ريت العمر كله ربيع
ماذا بعد أن عرفها؟ لطالما سأل نفسه تلك الليلة وهو يتقلب على فراشه ذلك السؤال، وكان يجيئه الجواب يوما بعد يوم حتى تجمعت سطوره في عبارة واحدة: إن ماجدة كانت وحيا لأكثر من قصيدة، وأكثر من شاعر، وكانت إلهاما لأكثر من رسام ومثال، وكانت نغما لأكثر من لحن وموسيقار ... وهو؟ ... هو الذي سوف يحظى يوما بهذا النبع لينهل منه إلى الأبد ... وكان هذا يعزيه ويبعث إلى نفسه الراحة ... فلم يشك يوما، ولم يسئ الظن ... حتى في قرار نفسه.
وكان يقول لنفسه كلما خطر له خاطر سوء: «ولم تخدعني، ولا مأرب لها ولا هدف؟ كل ذلك ضرائب الشهرة واللمعان ... قصة الفراش وهالة النور في كل زمان ومكان.»
حتى كان ذلك المنظر من القصة حين توقفت آلة العرض، فوقف كل شيء، وسكتت كل حركة، كانوا خمسة يسهرون عند ماجدة هو أحدهم، وكان ذلك قبل موعد الزواج الذي حدداه بثلاثة أسابيع، بدت ماجدة تلك الليلة في ثوبها الأزرق رائعة ... وكلمة رائعة لا تكفي، بدت شيئا أخطر من أن يمتلكه إنسان، أو يستأثر به حب واحد، كانت أكثر من امرأة واحدة، حتى لقد سأل نفسه سؤالا لم يستطع الجواب عليه، هل يقوى حبه وزواجه بها مهما يكن قويا وسعيدا أن يضفي عليها ثوب امرأة الرجل الواحد، فلا تشع روحها إلا على حياته وحده؟
وأدار بصره حواليه أكثر من مرة، فأحس بعجزه عن الجواب ... أو على الأصح بشكه في أن يكون جوابه بالإيجاب ... ها هم أولاء خمسة، ومع ذلك فإن ماجدة تسبغ عليهم جميعا ثوبا من البهجة، وتشع بروحها عليهم، وكأن كلا منهم يحظى من السعادة أكثر مما يطيق ... وينتصف الليل، وتمضي ساعاته الأولى، وينصرف الجميع، ويكون هو آخرهم ... يلثم يدها في عمق، ولا يكاد يفتح فمه حتى تقول له، وهي تربت على يده: غدا، غدا سأحادثك بالتليفون ...
غدا؟ غدا، ولا بعد غد ... وتسافر إلى الإسكندرية وتعود، ويتبين أن قصة هواه قد وقفت عند ذلك المنظر دون أن تصل إلى ختام.
قصص الهوى كما ألفتها الحياة ... أو ألفها الكتاب ... لم يلتق البطل والبطلة في قبلة لا فراق بعدها ... ولم يفترقا في دمعة كبيرة يذوب في حرارتها الحب؟! •••
অজানা পৃষ্ঠা
بعد خمس سنوات تتحرك آلة العرض فجأة أيضا، فيتحرك كل شيء ويمر على شاشة الحياة آخر موقف من مواقف القصة ... موقف الوداع ... يودع البطل البطلة إلى الأبد ...
المنظر، ميناء فينسيا والباخرة قد رست لتلتقط بعض الركاب العائدين إلى مصر بعد رحلة الصيف في أوروبا.
كان هو أحد هؤلاء العائدين، وضع أمتعته في مقصورته بالباخرة، وخرج إلى إحدى الصالونات، وجلس وحيدا يقلب في نهم صحيفة مصرية أعطاه إياها أحد الركاب من المصريين، وأعلن أحد ضباط السفينة أنها ستغادر الميناء في الساعة العاشرة مساء ... وكانت هناك ساعتان باقيتان، وكان الكثيرون من الركاب قد تفرقوا بين قاعة الطعام، وصالونات الباخرة ... وقريبا من البار جلست جماعة من المصريين تقطع الوقت في الحديث على رنين الكئوس، ورفع رأسه على ضحكة عالية ... ضحكة لم ينسها ولن ينساها ... ووجد ماجدة تتوسط تلك الجماعة، وإلى جانبها صديقها المليونير الكهل آخر من ربطتها به الشائعات منذ عام، ورأته ماجدة، وهزت رأسها تلك المرة في تحية باسمة ... رد عليها سريعا، وعاد ببصره إلى صفحات الجريدة، ومر نصف ساعة بذل خلاله كل جهده لكيلا يرفع بصره عن الصحيفة ... كان كل ما يشغل فكره ليست أنباء الصحيفة، وإنما قصة ماجدة معه، وكل ما سمعه عنها منذ افترقا إلى الآن.
وأرغمته حركة المقاعد أن ينظر من جديد إلى مائدة ماجدة، فوجد الجمع قد نهض ليحيي صديقها المليونير الذي سمع صوته يقول ماجدة: «إنني متعب، وسأذهب إلى مقصورتي، قومي حتى تسأمين حديث هؤلاء السادة.» وتلتقي عيناه مرة ثانية بعيني ماجدة، ويلمح في عينيها ظل ابتسامة ... وتمر بضع دقائق فيهب من مكانه ويتجه إلى سطح السفينة، ويقف مطلا على الميناء، وقد انعكست عليه الأنوار، وتمر بضع دقائق أخرى، فيحس إلى جانبه شيئا يتحرك، فيلتفت فيرى ماجدة وحدها، وقد وقفت إلى جانبه تتأمل الميناء، ويشق سكوتهما صوت ماجدة: أما زلت حاقدا علي؟
ويصدمه السؤال فيرتبك ... يرتبك حتى يتعثر الاضطراب على شفتيه: أنا ... أنا أحقد عليك!
وتسارع قائلة: لا ... لا ... أعرف أنك غاضب مني، ولك العذر، لكن كان لا بد أن أتركك هكذا معلقا ... ماذا كنت تنتظر أن أفعل؟
وكان على وشك أن يجيبها: أن تلقي السطر الأخير في القصة.
لكنها لم تتح له الفرصة إذ استطردت: كان زواجنا أمرا مضحكا، كانت فترة ركود في حياتي حين عرفتك، ثم إني كنت أعجب بك.
وقال: كما كنت تعجبين بالشاعر «ع» والموسيقار «م»؟ - تماما، حتى حين حدثتني عن الزواج ... فقبلت ...
وكنت جادة حين قبلت، كنت أظن أنها فكرة رائعة، أن تتزوج مثلي وتستقر، حتى تبينت خطئي، تبينت أن المغامرة سوف تكون فاشلة بالنسبة لي على الأقل ...
অজানা পৃষ্ঠা
وأجاب ساخرا: مؤكد ... الزواج من شاب ليس مليونيرا ... وليس كهلا ...
وقاطعته منفعلة: أنت لا تفهمني ... كنت تحبني، أليس كذلك؟
وسكت ... - كنت تحبني ... وكنت ستتزوجني، وتطلق زوجتك ... ثم تدخل حياتي، حياتي كما هي، أو أدخل حياتك ... كما هي ... الذي حدث أنك أنت دخلت حياتي وعشت فيها واحتملتها أياما، و... واعذرني إن قلت لك ... لم أحس لحظة واحدة أن عاطفتي نحوك من القوة بحيث تخرجني من هذه الحياة ... إلى آخر يوم كنا فيه سألت نفسي ... هل أنا على استعداد لأن أتخلى عن كل شيء في حياتي لأدخل في حياتك زوجة تغلق عليها جدران أربعة؟ وكان الجواب دائما «لا» ... معنى ذلك أن زواجي بك لا يكون إلا مغامرة ... - مغامرة ... وهل تخشين المغامرات؟ - مغامرة ستدمر بيتك أنت، وحياتك أنت.
ومضى في سخريته ... - تدمر حياتي وبيتي ... وهل يزعجك تدمير بيت؟ أنت؟
وتملكها الغضب، وقالت ثائرة: طبعا لا يزعجني ... لكن أي بيت ... حين أدمر بيتا، فإني أختار البيت الذي أدمره ... وأختاره بنفسي ... تكون أنقاضه تساوي شيئا ... لكن بيتك أنت ... ماذا كانت تساوي أنقاضه؟ ... مغامرة إن خسر فيها غيري فلن أربح فيها أنا شيئا ذا قيمة.
وكأنما أحست بقسوتها فعادت تقول في رقة: اعذر صراحتي ... لم أكن أحب أن أواجهك بهذا، لكن أنت لا تريد أن تفهم. - بل فهمت يا ماجدة ... عز عليك أن تغامري مغامرة صغيرة ... وعز عليك أيضا أن تكلفي خاطرك مشقة الرفض ... الرفض الصريح ... ولم يكن يكلفك شيئا أن تقولي لن أتزوجك؛ لأنني لا أحبك إلى الحد الذي أضحي فيه بحياتي اللاهية. - أو أضحي فيه ببيتك أنت على الأصح.
ومرت فترة سادها الصمت، قطعها بعد ذلك صوت ماجدة، وكأنما كانت تبكي، لو أني قلت لك إذ ذاك إني لن أتزوجك لأنني لا أصلح لك ... ولأن حياتي لو دخلت فيها فلن تجني خيرا ... لأنني أحرص على بيتك الصغير ... فربما جعلك ذلك تبدو ... وأنا أعرفك طيب القلب ... كمن يأسره النبل، فتتمسك بي ... كنت أستطيع أن أبدو لك بمظهر الفتاة النبيلة فتزيد تمسكا بي، وكنت أيضا أستطيع أن أكذب عليك فأزعم لك أني أحب غيرك ... فأجرحك جرحا ... جرح الرجل يهزم في قلبه وكرامته ... لكنني آثرت أن أنسحب من حياتك دون ضجة ... آثرت أن أترك حبل هواك يرخيه الزمان ... لقد أخطأت مرة واحدة ... أتعرف متى؟
كان غارقا في الصمت، فأجابت هي: حين دعوتك أول مرة لنزهة في الصحراء ... كان أبعد ما أتخيله أن تحبني، وأن ترى في شيئا غير ما يراه الناس ...
وتحركت ماجدة إلى مقصورتها ... وتحركت السفينة في هدوء ... بعيدا عن الشاطئ ...
صفحات من مذكراته
অজানা পৃষ্ঠা
إنها سعادتها عدوي الوحيد، إن أبي وأمي يحرقان صبري بخورا يجلب لها السعادة ... ***
دعني أقدمه لك أولا ... إنه ليس رجل أعمال خطير الشأن تتحرك لحركته دوائر المال والأعمال، أو تنخفض الأسعار وترتفع ... ولا هو رجل فكر يوجه الرأي العام بآرائه، ويميل بتفكيره حيث يريد، ولا هو أديب يمتشق قلمه فتتلقف المطبعة ما ينثال من هذ القلم لتنشره على الناس ... إنه ليس هذا ولا ذاك ولا الذي قبله ... إنه مجرد إنسان عادي ولد في القرن العشرين وما زال يعيش مع الأسف (وهذا تعبير مأخوذ من مذكراته) أما كيف ولد؟ فإن لذلك قصة دامية.
لقد تعسرت ولادته على أمه، فخرج بعملية جراحية إلى الوجود وعادت هي بالعملية نفسها إلى العدم ... وكان أبوه يحب أمه حبا يقرب من العبادة، فكرهه هو لفعلته الشنعاء كراهية تقرب من الكفر، وليس تعبير «فعلته الشنعاء» من عندي، إنه تعبيره أيضا عن موت أمه بعد ولادته، إنه يقول في مذكراته إن أباه كان يناديه منذ بدأت أذناه تعيان الألفاظ قائلا: «تعال يا قاتل أمه ... كل يا قاتل أمه ...» وإذا كانت القصص لا تنتهي بالولادة، وإنما تبدأ بها، فلا بد أن تسير في حياته منذ ذلك اليوم فتراه يكبر كما تكبر الأطفال حتى يبلغ التاسعة، وعندئذ يتزوج أبوه من سيدة لها طفلة في مثل عمره، ويضاف إلى حجرته سرير صغير كسريره تنام عليه أخته الجديدة.
وكل التجديد الذي يطرأ على حياته منذ ذلك اليوم هو مولد عدو جديد هو السيدة والدة الأخت وزوجة الأب ... ومنذ ذلك اليوم يبدأ كتابة مذكراته ... لا يكتبها على الورق، وإنما ينقشها في صفحة خياله حتى تمر خمس سنوات، ويصل إلى سن الرابعة عشرة فيدخل عليه أبوه ذات يوم حجرته، ويدفع إليه بمفكرة كبيرة للعام الذي انصرم قائلا: خذ! بدلا من شراء كراريس، حل واجبات الحساب في هذه الأجندة.
ولما كان يعرف نتيجة تنفيذ رغبة والده، خمس ضربات بالعصا الرفيعة على باطن اليد، العقوبة الرسمية التي يفرضها مدرس الحساب لمن لا يحل الواجب بخط نظيف في كراسة المدرسة، فهو يؤثر السلامة، ويتظاهر بإجابة والده، ولكنه لا ينفذها ... إنه ينفرد بنفسه بعد ذلك في الحجرة، ويأخذ في تقليب «الأجندة» ويلاحظ أن لكل يوم صفحة، ويخطر له الهدف الذي يحتفظ الناس من أجله بالمفكرات لكي يكتبوا في صفحة كل يوم ما حدث فيه ... أو ليقيدوا مواعيد الأيام المقبلة حتى لا ينسوها.
ونحن الآن ... هو والمفكرة والقراء حسب تعبير المذيعين ... نحن الآن في عام 1938، و4 من مارس 1938 على وجه التحديد ... والمفكرة هي مفكرة هدية من إحدى شركات الأدوية لرأس السنة عام 1937 ... وفي كل صفحة منها حكمة، أو قول مأثور، وتحته إعلان عن أحد أدوية الشركة.
إنه سيبدأ كتابة هذه المذكرات من اليوم ...
لكن الأربعة عشر عاما التي مرت ... ألا يحسن به أن يكتب ما يذكره عنها ... إن لديه صفحات المفكرة من أول يناير 1937 إلى 4 من مارس 1937 فليجعل لكل شهر مضى من حياته صفحة، إن أجمل ما في الماضي - ماضي الطفولة - أنه ليس طويلا كالحاضر ... إن الإنسان يستطيع أن يتمثله في لحظة واحدة، في إحساس سريع كالبرق ... إحساس فرح أو إحساس حزين ... ولكنه لا يستطيع حتى أن يجعل لكل شهر من حياته صفحة من صفحات المفكرة، وذهنه الصغير يهديه إلى حسه الساذج أن أيام حياته إلى اليوم ثلاثة ... يوم ولد، ويوم تزوج أبوه، ويوم جلس مع أخته ... أخته التي فرضها عليه القدر كما فرض عليه أن يكون طفلا بغير أم ... يوم جلس مع هذه الأخت على مائدة الطعام، وأمامهما والده ووالدتها، وقالت زوجة أبيه: بنتي الآن ليست صغيرة، وأريدها أن تنام وحدها في حجرة أخرى.
وأجاب أبوه: وإذا كانت حجر المنزل محدودة، فماذا نفعل؟
وردت الزوجة: أبدا، نستطيع أن ننقل المكتب إلى حجرته، وننقلها إلى الحجرة الثانية، ونشتري لها دولابا. - ومحمود الخدام ... أين ينام؟
অজানা পৃষ্ঠা
وكانت هذه هي الجملة الوحيدة التي قالها على المائدة ... وكان الرد عليها رد والده الجاف: ينام معاك يا أخي ...
هذا يوم من أيام حياته أيضا، لا يقل أهمية في نظره عن يوم زواج أبيه، ولا يوم ميلاده، إنه لا يعرف شيئا عن يوم ميلاده؛ ولذلك فهو يمسك بالقلم، ويكتب في الصفحة الأولى من المفكرة بعد أن يغير التاريخ: «في يوم من الأيام ولدت ورفضت أمي أن تراني ... أغمضت عينيها عن الحياة في الوقت الذي فتحت أنا فيه عيني عليها ... إنني لم أر شيئا، ولم أعرف شيئا في ذلك اليوم ... ومن المؤكد أنه كان هناك صراخ وعويل كثير؛ فقد كانت أمي محبوبة من أبي جدا، ومن خالتي فاطمة ... وتقول خالتي فاطمة إن أمي كانت في غاية الشوق لكي تراني في الحياة، وليس خطئي أنني لم أحقق لها هذه الأمنية ... أبي يقول لي دائما: «يا قاتل أمه» ومعنى ذلك أني قتلتها ... إن خالتي فاطمة تؤكد أن هذا لم يحدث، وأن الطبيب هو الذي قتل أمي، أنا أكره الأطباء من كل قلبي، ولن أصبح طبيبا أبدا ...»
ثم يكتب عن اليوم الثاني: «خلع أبي الكرافتة السوداء التي لم أره يغيرها منذ وعيت ما حولي، وحلق ذقنه بعد الغداء مرة ثانية مع أنه حلقها في الصباح الباكر كعادته، وطلب من خالتي فاطمة - وهو خارج - أن تعيد تنظيف حجرته، ومنذ أيام كان قد أحضر أثاثا جديدا لهذه الغرفة، وحينما عاد أبي في المساء كان البيت كله منيرا، وحضر معه ثلاث سيدات ورجلان وطفلة صغيرة، ونامت الطفلة الصغيرة في حجرتي منذ تلك الليلة.»
ولم يجد ما يكتبه بعد ذلك عن هذا اليوم إلا سطرا واحدا أضافه في سذاجة: «عرفت في الصباح أن أبي قد اشترى لي أما جديدة.» ... أما اليوم الثالث فقد بدأ كتابته بإسهاب، كان لا يزال يذكر تفاصيل ما حدث على المائدة، فذكره بالحرف الواحد، وملأ الصفحة، وانتقل إلى الصفحة التالية، قال إنه بكى تلك الليلة طويلا، ولا يدري لماذا ... وكان كلما نظر إلى وجه محمود الخادم زاد في بكائه ... إنه لم يكن يحب «أسماء» ولكنه مع ذلك كان يحس في نومها في حجرته راحة، إنهما متساويان، أما اليوم فقد أصبح له زميل واحد ... هو محمود الخادم، وختم حديثه عن ذلك اليوم قائلا: «أصبحت وحدي منذ ذلك اليوم في وسط أسرة تكرهني.»
وأغلق بعد ذلك كتاب مذكراته، وكأنما أغلق هذا الماضي من حياته ... الأربعة عشر عاما في أربع صفحات ... يا لها من فكرة جميلة أن توضع الحياة في مثل هذا الحيز الصغير من صفحات «أجندة» قديمة!
وأخذ منذ ذلك اليوم يكتب مذكراته.
كل يوم كانت تتحول ساعات النهار وساعات الليل الأولى إلى بضعة سطور ... كتب في آخر أبريل يقول: «عادت أمي إلى المنزل هي وأسماء في الساعة السابعة مساء، وكنت أنا جالسا في حجرتي أذاكر الجغرافيا، وتقدمت أسماء مني، وقالت: ألا ترى ثيابي الجديدة ... ثياب الصيف، لقد جئنا بها من عند الخياطة الآن، واشترينا لكل ثوب حذاء ... ثم ... اترك ما بيدك، وتعال اتفرج.»
وتركت مكتبي، وذهبت إلى سريري، وكانت أسماء قد فكت اللفافات، ونثرت ما فيها على السرير ... وأخذت أجيل بصري ... ثلاثة أثواب بديعة من القماش الثمين، وثلاثة أزواج من الأحذية ... وشرائط وحقيبة يد، أمسكت بيدي ثوبا أتفرج عليه، وإذا بصوت أمي يصدمني قائلا: أنت مجنونة يا أسماء! تضعين الثياب الجديدة على السرير القذر؟ اجمعي ثيابك واذهبي إلى حجرتك ... ماذا يفهم هو من كل ذلك؟
وسارت أسماء وأمي، ورفعت عيني وحاولت أن أصعدهما في أركان الغرفة لأمنع قطرات الدمع العالقة بأجفاني أن تسقط على الأرض، فاصطدمت عيناي بمنظر لم تقو بعده على المقاومة، وانهارت الدموع ... إنه منظر بدلتي البني الثقيلة التي أوشكت أن تتناسل.
ليس هناك أمل في تغييرها ... إلا أن أعود لبدلتي الثانية الضيقة التي كان يجب أن تلقى في صندوق القمامات ... إن والدي طلب مني منذ أيام أن أغير بدلتي قائلا: «هو أنت مدام عندك بدلة جديدة لازم تلبسها لغاية ما تدوب؟ لم لا تلبس بدلة أخرى؟» والدي يعرف جيدا أنه منذ عام لم يشتر لي بدلة.
অজানা পৃষ্ঠা