يبل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر المستحر
فهذه معان تشحذ ظباة الخواطر، وتنبه على الوجد كل فاتر، وتخجل الرياض جادها صوب السحاب الماطر، وما زلت على مثل هذه الحال، من الحرق والبلبال، وقطع مسافة الأيام والليالي، وأنا على مثل حر المقالي، إلى أن وقت الميعاد، وأطل يومه أو كاد، فبت في الليلة التي تسفر عن صباحه، وتتجلى بغرزه وأوضاحه، أراقب النجوم وهي أنضاء أسفار، وأشاهد الفلك وقد عطل المدار، وكأن النجوم مقل اعتراها السهاد، وجفاها الرقاد، فما تطرف لها جفون، ولا تطرق لها عيون، بل كأنها زهر روضة لا يصوح نباتها، أو كأنها ثابتة مجتمعة فلا يتغير ثباتها، ولا يرجى شتاتها، أيها نظرت إليه وجدته مقيما لا يرحل، ومستقرا لا يتحلحل، كان سواد الليل حيرها فما تهتدي إلى مغربها، ولا تعرف وجه مذهبها، أضلها الظلام وأنضاها ليل التمام فلم يحتج إلى أفول، ولا حدثت نفسها بقفول، كأنما فلكها قد أعيا أواخذه البرطعيا، فتغير نظام دوراته، وكلما ظن انه استقل عاد إلى مكانه، فبعدا لها من ليلة طال أمد عمرها، وأربت على حولها وشهرها، وشكرا لها إذ كان يومها موعدا للوصل، وسلما إلى بلوغ الآمال، فلم أزل احييها وجدا وغراما وتميتني تذكرا وهياما: من المنسرح
أحييتها والدموع تنجدني ... شؤونها والظلام ينجدها
إلى أن كاد الظلام يشف لونه، ويحمر جونه، وبدت أعلام الصباح منشورة، وطلعت رايات النهار منصورة، وولي زنجي الليل وهو هزيم، وركض هاربا، وعقبه كليم، وذر حاجب الغزالة مشرق الأنوار، وأجرت موج سيل الذهب الذاب على الأقطار، وأسفرت ذكاء عن وجهها المنير، وألقت خمار الظلام عن عارضها المستدير، وقد ذكرت بهذا الفصل شعرا مرموقا، يفوق درا منظوما، فمنه فائية ابن هاني الجامعة لهذه المعاني التي أولها: من الطويل
أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا ... وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا
وهي مشهورة بقائلها، فلا أتعب بإثباتها يد ناقلها، فمن أرادها فقد دللته، ومن أنكرها فقد عرفته، وقال مجد الدين محمد بن الظهير الحنفي: شاعر من بلدتنا الغراء، ومجيد من أعيان الشعراء، شعره، أجرى من الماء تحدر من صبب، وأفعل في النفوس من ابن غمام زوج بابنه عنب، يمدح السعيد الشهيد تاج الدين أبا المعالي محمد بن نصر بن الصلايا العلوي الحسيني سقى الله عهده سبل العهاد وروى ثراه بكل ملث الودق ذي إبراق وإرعاد.
من الطويل
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
فلقد كانت أيامه مواسم المسرة، وأوقاته وقفا على المبرة فمضى محمود السجايا، طلاع الثنايا، شريف الخلايا والمآثر والمزايا، إذا اقتسمت غنائم الشرف، فله المرباع منها والصفايا، إلى منقطع القرين، وفاق عرابة الأوسي في تلقى راية المجد باليمين.
من الطويل
أيا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
وأنفذ هذه الأبيات إليه من الشام على يد أخيه وأولها: من الخفيف
لو وجدنا إلى اللقاء سبيلا ... لشفينا بالقرب منكم عليلا
وسعينا على الرؤوس سراعا ... ورأيناه في هواكم قليلا
قد سألنا القبول حمل التحيات، فيا ليتها أصابت قبولا. ويقول فيها:
وفلاة فليتها بأمون ... ملت البيد وخدها والذميلا
مثل ظهر المج لا يجد الخريت فيها إلى سبيل سبيلا
جبتها والظلام راهب ليل ... جاعل كل كوكب قنديلا
أو عظيم للزنج يقدم جيشا ... قد أعدوا أسنة ونصولا
وكأن السماء روض أريض ... نوره بات بالندى مطولا
وكأن النجوم در عقود ... عاد معقود سلكها محلولا
ليلة كالغداف لو لم يرعها ... باز فجر ما أوشكت أن تزولا
رق جلباب جنحها وبدا شقاه ... كما شارف الخضاب النصولا
وتولت وأشهب الصبح يتلو ... أدهم الليل وانيا مشكولا
وكان الصباح ميل لجين ... كاحل للظلام طرفا كحيلا
ما انتهت والسهاد حتى انتهى الصبر ورحنا من خمرة السهد ميلا
وثنى النجم عن سراه عنانا ... مطلقا وانبرى النسيم عليلا
واجتلينا وجه النهار كوجه الصاحب الصدر مرتجى مأمولا
وتبعته أنا فقلت من أبيات في الخدوم الصاحب شمس الدين صاحب الديوان أعز الله نصره:
1 / 14