على أن الأحاديث التي تتعاقب عن مسائل فنية تتعلق بتحرير المذكرات وإملاء التوقيعات لا تخلو بطبيعتها من دلالة على مبلغ اقتدار الرئيس الإداري في فن الكتابة الأدبية، وكل ما أستحضره اليوم من إشارات المدير المجملة، وتصحيحاته العاجلة، وتوقيعاته المبرمة، أنها من إيحاء «معلم» في صناعة القلم على هينة وفي غير كلفة ولا مشقة.
فكان على أناته في الحديث يملي التوقيع المصحح للعبارة الرسمية فلا يتوقف في الإملاء، ولا ينسى ضرورة التوفيق بين العرف الديواني وبين العبارة العربية الفصيحة، ولا يبدو عليه أنه ينتقل من الارتجال إلى الروية وهو يمضي في إملائه على من حوله، وقد يتعدد هذا الإملاء في وقت واحد.
ومما روجع فيه حكمه الفني - والديواني معا - كلمة طال عليها الخلاف بين أنصار العرف الديواني وأنصار الابتكار والتجديد في أساليب الموظفين؛ فقد كان المألوف بعد إقرار المذكرة أن تذيل بكلمات قليلة لا تتغير لتوقيع المدير عليها، وهي: «محول على مجلس الإدارة»، أو «محول على المجلس الأعلى».
وخطر لأديب من أدباء السكرتارية أن يخرج على هذه الوتيرة؛ حبا للتصرف الذي يليق بأمثاله، وأنفة من «التقليد» الذي يلتزمه الموظف العتيق، فذيل المذكرات المعروضة على الجلسة كلها بكلمة «محال على المجلس»، ولم يذكر صفته اكتفاء بعنوان الديباجة. واحتكم المختلفون إلى المدير، فكانت إحدى الفتاوى التي ظهر فيها صاحب «عيسى بن هشام» من وراء صاحب العزة البيك المدير.
قال المويلحي: الحق أنني لا أرى صيغة «التحويل» إلا ذكرت محطة باب الحديد، وذكرت «محولجي» الرصيف!
ولا بأس بصيغة «محال» بدلا من صيغة «التحويل» فهي صحيحة مليحة، ولكن يخشى إذا قيل «محال على المجلس» أن يفهم المجلس أنها مستحيلة عليه، وتبتعد هذه الشبهة إذا قيل «محال إليه».
ثم سأل: ولماذا لا يذكر اسم المجلس الذي تحال إليه؟
فقال صاحب التعديل: لأنه معروف من ديباجة العنوان.
فحكمت «النكتة» حكمها على صاحب «عيسى بن هشام» وقال للأديب المتحذلق: وهل تكتب على ظرف الجواب «ملحق بما تقدم» بدلا من العنوان السابق فيما تقدم من الجوابات؟ إن الوثائق الرسمية لا تعرف الملل من التكرار، فاكتبوا اسم المجلس كاملا في ذيل كل مذكرة ولا «تدوشونا» بمشكلة «محول ومحال» في جلسة أخرى، فلا حرج من تكرار صحيح في أمثال هذه الأوراق! •••
وربما لمحنا صاحب «عيسى بن هشام» قبل صاحب العزة المدير في هذه الملاحظة الديوانية، فمنها نلمح ذوقه في اجتناب ما يتحرى اجتنابه من الكلمات المطروقة، وتلك على الأكثر كلمات اللغة الفصحى التي تسري إلى اللهجة العامية فتجري على ألسنة الناس مجرى العبارات التي يختلط فيها الابتذال بالإفصاح، ثم تتلبس - مع تداعي الخواطر - بكلمات معلقة بأحاديث السوق أو أحاديث الصناعة اليومية، وأظهرها هنا مادة التحول الفصحى، التي «تحولت» مع الاستخدام الحديث إلى تحويلة الرصيف وإلى قافية «المحولجي» - على حد التعبير الدارج بين «شخصيات» عيسى بن هشام.
অজানা পৃষ্ঠা