لقيت «محمد المويلحي» لأول مرة في ديوان الأوقاف وهو يومئذ مدير قسم الإدارة، ويتبعه تحرير مجلس الديوان الأعلى ومجلسه الآخر الذي كان يسمى بمجلس الإدارة أو المجلس الإداري، ومن أقلامه قلم «السكرتارية»، وهو يومئذ ندوة المنشئين والمترجمين والأدباء والمحررين، يعملون «رسميا» في إعداد المذكرات التي ترفع إلى المجلسين وتهذيب أسلوبها وتصحيح لغتها، ولا يفرغ منهم لهذا العمل في الواقع غير اثنين أو ثلاثة، مع الاستعانة - قليلا أو كثيرا - بمعارف الأدباء اللغوية، إذا التبس عليهم الأمر في صحة كلمة أو سلامة أسلوب، وقد كان في قلم السكرتارية من المنشئين والشعراء والمترجمين والمشتغلين بالأدب والتحرير رهط منظور إليه في الديوان كله من طراز عبد العزيز البشري، وعبد الحليم المصري، وأحمد الكاشف، وحسين الجمل، وحسن الدرس، وأمين الدولة، ومحمد فكري، وغيرهم فئة قليلة من الكتاب الديوانيين غير معروفين بين أكثر الموظفين، وغير هؤلاء رهط آخر في الديوان ولكن في غير قلم السكرتارية، نذكر منهم صديقينا الشاعرين المجيدين علي شوقي، ومحمود عماد.
وكانت كتابتي الأدبية - السياسية - طريقي إلى وظائف الديوان، والفضل في ذلك لخصلة من خصال الفضول المحمود عند صديقنا الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة «البيان» طيب الله ثراه.
كان من دأبه أن يطمئن إلى تحرير مجلته بإهدائها إلى شيوخ الأدب والصحافة وسؤالهم عن موضوعاتها كلما زارهم أو زاروه في مكتب المجلة، وكان ممن يسألهم في ذلك حافظ عوض ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد المويلحي، وهو قليل الزيارة، لا يزار في غير مكتبه بالديوان، فلاحظ حافظ عوض أن اسم الكتاب الذي أترجم بعض فصوله لا يطابق أصله باللغة الإنجليزية، وهو «الأكاذيب المتفق عليها، في مدنيتنا» والمجلة تذكره باسم «الأكاذيب المقررة في مدنيتنا الحاضرة».
فزاد انتقاده من ثقة الشيخ بكاتب هذه السطور؛ لأنني ترجمت العنوان كما ذكره الأستاذ حافظ، ولكنه هو اقترح تسجيع العنوان لأنه أجمل بعناوين الكتب، فلما جاءه النقد من بعيد - وهو على عادته سريع التصديق - قال لي إنه لن يرفض رأيا لي مطاوعة لرأي السجعة بعد الآن!
وكنت أسمع من البرقوقي غير مرة أنه يحفل برأي مصطفى صادق الرافعي في البلاغة العربية، ولكنه لا يحفل به، بل يرفضه، في أذواق الأدب الحديث ومباحثه الفكرية، وقد أنحى الرافعي على «ماكس نوردو» صاحب الكتاب وعلى كاتب هذه السطور مترجم فصوله، فكانت هذه الشهادة المعكوسة خيرا من الثناء في تقدير الشيخ.
ثم سأل المويلحي - وهو يعلم عنه كثرة الاطلاع على أمثال هذه المؤلفات الأوروبية - فعاد المويلحي يسأله: بماذا يشتغل هذا الشاب؟
قال الشيخ: بلا شيء!
قال: أتراه يعيش على شيء من ميراث جده العقاد؟
فأفهمه الشيخ أنني لا أنتمي إلى السيد حسن موسى العقاد المشهور، وأنني أعيش بالقليل مما يردني من أهلي وبالقليل من أجور المقالات أو فصول الكتب المترجمة، فقال المويلحي مبتسما: إنه أولى بالوظيفة من أكثر «التنابلة» عندنا، فشجعني ما سمعت على طلب الوظيفة في الديوان، فطلبتها فأجيب طلبي لساعته بغير امتحان، وبدأت العمل فيه مساعدا لكاتب المجلس الأعلى بقلم السكرتارية، وهي وظيفة من أخطر وظائف الديوان في تلك الفترة، قبيل تحويل الديوان إلى وزارة ذات «ميزانية» ملحقة بميزانية الدولة.
وتتابعت المناسبات التي كانت تدعوني إلى مراجعة «المدير» في بعض الأوراق، فلا أذكر أنني سمعت منه حديثا غير الذي يصدر من «مدير الإدارة» وهو يملي توقيعاته ويوجه مرءوسيه، إلا مرة واحدة كان الحديث فيها دائرا بينه وبين بعض زواره حول مسألة تتصل بالسياسة وطلب الدستور، فجرى ذكر الفيلسوف «هربرت سبنسر» وعلمت من إشارته الوجيرة إليه أنه كان على إلمام بكتابه عن «الإنسان والدولة».
অজানা পৃষ্ঠা