كنا في أول الصباح ولم أعرف ماذا حدث، وذهبت كعادتي كل يوم إلى مستشفى الدرن، ولأول مرة لا أرى طابور المرضى واقفا ممدودا بامتداد البصر. كانوا جالسين في فناء المستشفى وبينهم راديو صغير، يقربون آذانهم من الراديو يهللون ويصفقون، واستقبلتني الممرضة وهي تهتف بالحماس: أسقطنا حتى الآن أربع عشرة طائرة للعدو!
لم أكن أصدق الإذاعات ولا الصحف ولا البيانات الرسمية، لكني صدقتها. كنت مرهقة، أتنفس كل يوم أنفاس مرضى الدرن دون العازل الواقي، وفي المثلث تحت الضلوع ألم يلازمني كل صباح كالغثيان يبدد حاستي السادسة، ويضعف حواسي الأخرى الخمس، فلا أشم رائحة المجاري في البركة أمام المستشفى، ولا أسمع الأنين ينبعث من الطوابير، وجلدي أيضا يفقد حاسة اللمس، وعدسة العين تكسوها غشاوة، وخلايا المخ تصيبها عتامة.
وصدقتها على الفور، وتلاشى الألم المزمن تحت الضلوع، وانقشع الغثيان ومعه العتامة، وهتفت بالفرح: إنه إذن النصر وليس الهزيمة! ووجهت لنفسي اللوم والتأنيب على أحاسيسي السوداوية والعجز عن التنبؤ إلا بالفشل. لكنها لم تكن إلا نصف دقيقة استعدت فيها حواسي، ورأيت الطابور الطويل يعود بالوجوه الشاحبة والرءوس المنكسة والعيون المنكسرة، وتجمدت الابتسامة على وجه الممرضة وانسحب منه الدم، وبدأنا نعرف أن طائراتنا كلها ضربت على الأرض وهي نائمة، وقالت الممرضة كالمعتذرة: لم أكذب عليك يا دكتورة، ولكني صدقت الراديو.
وبدأت الهزيمة تتجسد على شكل الحقيقة، والحقيقة تتجسد على شكل وجه طويل شاحب، وأنف طويل شاحب، وعينان شاحبتان واسعتان لكل هزائم العالم.
وأصبح الوطن كالمأتم، نصحو على صوت يتلو الآيات وننام على التلاوة نفسها الرتيبة، والميت لم يدفن بعد ولا زال يمشي على الأرض، يطل علينا كل يوم بعينين مقتولتين، والقاتل عيناه تلمعان بالنصر، يحمل سلاحا لا زال يقطر دما، ويدوس على أرض الوطن في الضفة الغربية والجولان وسيناء، وجبهة القتال أصبحت ثلاث جبهات وأكثر. •••
الطائرة تحملني إلى جبهة القتال في الأردن، في حقيبتي أدوات الطب وليست أدوات الحرب، لكن في رأسي قرار، أن أتدرب على إطلاق الرصاص والقتل، العالم من حولي إما قاتل أو مقتول، ولن أكون أبدا المقتول، تدريب على السلاح في عام 1956، بعد العدوان الثلاثي (الإنجليزي الفرنسي الإسرائيلي) على بور سعيد. كنت طبيبة في الريف في قرية طلحة، وتحولت الوحدة الطبية إلى معسكر للتدريب على السلاح والتمريض، الرجال يحملون السلاح ويقاتلون، والنساء يضمدون الجروح، تقسيم العمل على أساس الجنس في الحرب والسلم، وقلت: سأحمل السلاح وأقاتل ولن أضمد الجروح!
وتدريب على إطلاق النار وإصابة الهدف، أثبت البندقية على كتفي وأركز عيني على نقطة الوسط ثم أضغط على الزناد، ويندهش المدرب العسكري كيف لامرأة أن تصيب الهدف من أول مرة، وأصبح يطلق علي اسم «الكابتن» بلغة المذكر كنوع من المكافأة على الامتياز في الرماية، لكني رفضت اسم الرجل وتمسكت باسمي، وصاح بدهشة: هذا تكريم لك حين نعطيك اسم الرجل! وناديته باسم المرأة فغضب، وقلت بدهشة: هذا تكريم لك حين نعطيك اسم المرأة.
ورأيته يدفع بندقيته ويصوبها نحو رأسي، ورفعت بندقيتي وصوبتها نحو رأسه، وتراجع على الفور وأدركت منذ تلك اللحظة أن الرجل لا يفهم إلا السلاح، والسلاح لا يهزمه إلا السلاح، وأصبح يحترم اسمي ولم يعد يناديني باسم الرجل، وبقي معنا شهرا ثم سافر، وأقامت له الوحدة الطبية حفل وداع صغير، وألقيت كلمة قصيرة شكرته فيها لأنه بذل جهودا في تدريب الناس على القتال، ورد بكلمة شكر في نهاية الحفل وقال: من السهل أن نتعلم كيف نطلق النار ونقتل، لكن من الصعب أن نتعلم كيف نحترم المرأة.
أكره ملمس السلاح في يدي، وأكره منظر الدم، لكن كراهيتي للاغتصاب أشد، اغتصاب حق المرأة أو اغتصاب أرض الوطن.
كلاهما اغتصاب، كلاهما وجهان لعملة واحدة: العبودية أو القهر بالقوة المسلحة.
অজানা পৃষ্ঠা