سرت على شاطئ السين أعرض وجهي الساخن للهواء البارد المنعش، الشمس مشرقة والأكشاك الخشبية تعرض اللوحات، والكتب القديمة تذكرني بسور الأزبكية. الحياة متألقة تحت الضوء الباهر، الشارع مزدحم بالناس، خطواتهم نشطة مرحة، الفاكهة مرصوصة بعناية فوق الرفوف، والزهور ألوانها متعددة، الناس يجلسون في المقاهي وأمامهم صواني تلمع وفناجين وأكواب تبرق تحت الشمس.
ألمح قباب كنيسة نوتردام، النقوش العتيقة والتماثيل منتصبة تحت الضوء. أمام الباب الضخم رجل يبيع النباتات العطرية الجافة داخل أكياس من القماش. قال بالفرنسية: ثمن الكيس عشرة فرنكات، وتعيش الرائحة لمدة عام. إلى جواره رجل يبيع البالونات الملونة. السياح من مختلف البلاد يملئون المكان، بعضهم افترش الأرض وجلس يأكل ويشرب البيرة من علب مثلجة. شاب وشابة يرقدان على دكة خشبية ويتعانقان تحت الشمس.
البهو الواسع داخل الكنيسة رطب مظلم، أضواء الشموع تشيع في الجو رهبة سماوية غامضة لها رائحة كالدخان أو الشمع المحترق. الناس يسيرون بخشوع نحو الهيكل، صورة العذراء مريم تحتضن المسيح، الناس يتأملونها كأنما الجوكندا، الصليب يتدلى منه الجسد المقدس، امرأة عجوز راكعة على دكة خشبية ترسم على صدرها علامة الصليب، امرأة أخرى راكعة في الطرف الآخر من الدكة، امرأة ثالثة تقترب من الصليب وتلمسه بيدها ثم تمسح وجهها بيديها، يداها معروقتان وحركتها تشبه حركة جدتي مبروكة، والبهو المقدس المعتم له رائحة رطبة تشبه رائحة سيدنا الحسين في طنطا. كنت لا أزال طفلة وارتبطت في ذهني الرطوبة والعتمة بالأمكنة المقدسة والأيادي المعروقة والوجوه المليئة بالتجاعيد والجلاليب السود والعيون الذابلة المتغضنة تعوم في الحزن، والأغلبية نساء فقيرات. لماذا يخاف النساء والفقراء عقاب الآلهة أكثر من غيرهم؟
رفعت رأسي نحو الهيكل، رجل وامرأة راكعان على ركبتيهما أمام الإله المقدس، الرجل خاشع والمرأة خاشعة، لكن خشوع المرأة أشد، رأسها مطرق وعيناها الاثنتان مغلقتان، لكن الرجل يغمض عينا ويفتح عينا، ويرمقني وأنا واقفة بطرف عين.
ضوء الشموع يملأ البهو بالأشباح، رائحة غريبة كرائحة الموت، وظلال الأجساد تصنع فوق الأرض هياكل سوداء، رجل عجوز له لحية طويلة بيضاء يتمتم وفي يده الكتاب، عيناه صغيرتان غائرتان من تحت النظارة البيضاء، جفونه مسدلة تنفتح بحركة سريعة منتظمة كحركة جفون عمي الشيخ عبد الحميد. كان الأخ الأصغر غير الشقيق لجدتي مبروكة، من بين ثلاثة عشر أخا غير شقيق من زوجات أبيها الأربعة، وكان يجلس في صحن الدار وفي حجره القرآن يتمتم بصوت خافت، وجفونه مسدلة تنفتح وتنغلق بحركة سريعة كحركة رأسه، وحبات المسبحة الصفراء بين يديه لا تكف، وطرقعة شباشب زوجاته الثلاث، وأصواتهن الحادة يتشاجرن حتى غروب الشمس، ثم ترقد كل واحدة منهن في غرفتها، ويدخل هو إلى غرفة زوجته الأولى ليلة السبت، ثم يستريح ليلة الأحد، ويدخل إلى غرفة زوجته الثانية ليلة الإثنين. أما زوجته الثالثة وهي الصغرى فتحظى بليلتي: الثلاثاء والأربعاء، ثم يستريح ليلة الخميس.
وتهمس زوجته الأولى في أذني قائلة: عمك سيذهب إلى جهنم. لا يوزع بالعدل ليالي الأسبوع.
ولم أكن أفهم ماذا تعني. كنت لا أزال طفلة، ولا أعرف إلا أن في الأسبوع سبع ليال، وعمي الشيخ يعطي زوجاته أربع ليالي، ويستريح ليلتين، فأين هي الليلة السابعة؟
وسألته ذات يوم وهو جالس في صحن الدار يقرأ القرآن، وقال لي: ليلة الجمعة أعطيها لله؛ فهي ليلة مباركة.
في غرفتي الصغيرة بشارع سان جرمان تمددت على السرير، أغمضت عيني ثم فتحتهما، خيل إلي أنني ولدت في هذه الغرفة، وفيها أموت، ولم أعرف مكانا غيرها، حركت رأسي ورأيت حقيبة السفر فوق المنضدة، يتدلى من مقبضها ورقة صغيرة نصفها أحمر ونصفها أبيض كتب عليها بالفرنسية: باريس، أتذكر بدهشة أنني في باريس، وتبدو لي هذه الحقيبة غريبة شبه مستحيلة، الغرفة لا تختلف كثيرا عن أي غرفة أخرى، دولاب وسرير ونافذة مغلقة، وتعود عيناي تتلمسان الحقيبة بورقتها نصف الحمراء لأتأكد أنني جئت إلى باريس.
ارتديت ملابسي وخرجت إلى الشارع، أملأ صدري بهواء رطب منعش وأشعة الشمس سقطت على وجهي، ومن حولي الضوء الساطع، والوجوه المرحة، ومياه نهر السين تهتز تحت الشمس كملايين الأسماك الفضية، على المقاعد الخشبية شباب وشابات يتعانقون، وفي حديقة اللوكسمبورج أطفال يمرحون ويلعبون. وشعرت بالجوع فجأة، فاشتريت رغيفا طويلا دسست فيه شرائح الجبن والمورتاديلا، وجلست على مقعد خشبي تحت الشجر أمضغ الطعام ببطء، وأراقب الشمس وهي تغرب.
অজানা পৃষ্ঠা