هبطت نحو النهر أجري كما كنت أفعل وأنا طفلة، ثم توقفت لحظة ألتقط أنفاسي، أدركت أنني لم أعد طفلة. وضفاف نهر السين على الجانبين تحوطها الأبنية ذات القباب العجيبة والتماثيل الحجرية منتصبة فوق الجدران كآلهة العصور القديمة قبل ظهور الآلهة السماوية، الأبنية ضخمة ممتدة في الأفق، برج إيفيل عملاق حديدي يبعث في الجسد قشعريرة، هواء بارد يلفح وجهي، قلبي ثقيل وصدري يمتلئ بالرهبة. هذه المدينة أكبر مني، تمتد أكثر مما يمتد بصري، والأسماء فوق الجدران الشاهقة لا أعرفها، عدم المعرفة يسلب المتعة والجمال.
وفي متحف اللوفر كدت أحوطه بذراعي، ملامحه المألوفة ورأسه الضخم، كتفاه العريضتان الصلبتان، أصابعي تتحسس جسده البرونزي اللامع، ويعود إلى أنفي رائحة الصحراء والهرم، السياح الأجانب يرمقونه بعيون زرق مستطلعة، وكلمة «اسفنكس» ترتطم بأذني غريبة، أسمع عندي «أبو الهول»، رقدته في صحراء الجيزة أكثر جمالا من رقدته هنا في متحف اللوفر، عيناه تلتقطان عيني من بين كل العيون الغريبة، يستشعر الغربة مثلي ويحن إلى العودة، اقتربت منه أكثر، وحوطته بذراعي كأنما سأحمله فوق صدري وأعود.
قضيت اليوم أتجول في متحف اللوفر، أمر بين التماثيل واللوحات المتعددة ثم أعود إلى حيث يرقد أبو الهول، بالقرب منه أشعر بالألفة، وأوشك أن أحدثه.
في إحدى القاعات رأيت الناس يتجمعون حولها وهي منتصبة بقوامها الرشيق، «فينوس» إلهة الجمال كما يسمونها، لها ذراع واحدة، أحملق في وجهها لأعرف سر جمالها، ملامحها عادية، إلى جوارها تنتصب الإلهة «أثينا» إلهة الحكمة، عيون الناس منصرفة عنها مع أنها أكثر رشاقة من فينوس وأكثر جمالا. هل الحكمة في المرأة غير مطلوبة وبالتالي غير جذابة؟
وعند لوحة الجوكندا أو الموناليزا توقفت قليلا. كانت هي اللوحة الوحيدة التي وضعت داخل إطار زجاجي، وانعكس الضوء على الزجاج، ورأيت صورتي داخل الإطار ولم أر الجوكندا، حركت رأسي ناحية اليمين واليسار لأراها دون جدوى، صفوف الناس تقف أمام الجوكندا في خشوع، كل ينتظر دوره ليراها عن قرب، لكن ما إن يقترب حتى ينعكس الضوء على الزجاج فيرى وجهه ولا يرى وجه الموناليزا، ومع ذلك يستدير تاركا مكانه لمن وراءه وهو يهتف: عظمة! معجزة!
استدرت مبتعدة عن الجوكندا، كلما ابتعدت أراها أكثر، تشبه العذراء مريم بدون المسيح، رأسها مائل قليلا في خضوع الأنثى، وابتسامتها فيها حياء القديسة، في أناملها أمومة. ليوناردو دافنشي كان طفلا محروما من الشرعية؛ ولدته أمه بغير أب كما فعلت العذراء مريم، ولم يستطع ليوناردو دافنشي أن يتكلم في المهد ويصبح نبيا. لكنه صنع معجزة أخرى؛ أمسك الريشة ورسم أمه كاترينا، وأعطاها اسم الجوكندا، جعل ملامحها مقدسة كأم النبي، الناس يحجون إليها من جميع بلاد العالم، ويقفون أمام صورتها في خشوع، أناملها فيها نبض كالحياة، وفي عينيها حركة غريبة تتبعني أينما ذهبت، تنظر إلي كما أنظر إليها، وتبتسم لي كما أبتسم لها، مددت يدي كأنما لأمسك يدها، أصابعها تشبه أصابع أمي، مستديرة ومملوءة بالأمومة والفضيلة معا، خالية من الإثم، في كل حياتي لم أتصور أن أمي عرفت الخطيئة، وأنها أنجبتني بقدرة الله الروحية، حتى بعد أن كبرت وعرفت أن أمي ليست هي العذراء مريم، وبعد أن درست التشريح والطب، ظلت أمي في نظري الأم العذراء لم يمسسها رجل ولا حتى أبي.
مرت ساعة أخرى وأنا لا أزال أحملق في وجه أمي، أدرك بعقلي أنها ماتت ودفنت في مقابر الغفير قرب جبل المقطم، وأن الوجه الذي أمامي هو وجه الموناليزا، لكن الفاصل بين الماضي والحاضر تلاشى، وشريط حياتي منذ الطفولة يتتابع أمام عيني : الصورة وراء الصورة. كنت وأنا طفلة أحب أبي أكثر من أمي؛ يغيب نصف النهار خارج البيت، ولا يؤنبني مثل أمي حين أخرج بدون إذن، ويدفع لي مصاريف المدرسة، لكن بعد أن كبرت أصبحت أحب أمي أكثر من أبي؛ لا تنام حتى أعود وتعد لي العشاء وتجلس معي حتى آكل، وفي الليل أحس بها تنهض على أطراف أصابعها وتغطيني.
هل بدأت الفضيلة في العالم بحب الأم قبل معرفة الأب؟ خطوط ليوناردو دافنشي لا تعرف إلا حب الأم، وتحول الحب في الأنامل إلى عبادة، والعبادة تحولت في القلب إلى لذة، لكن الأب المجهول حرم حب الأم وجعل العبادة لنفسه.
حملقت في وجوه الناس الواقفة في خشوع أمام الجوكندا، ماذا يبهرهم في خطوط دافنشي؟ وماذا يتحرك في أعماقهم؟ أهي اللذة في أعماق القلب للمحرمات؟ أم هي الكراهية الخفية للمقدسات؟
أستكشف بطرف عيني أعماق الناس. لا أحد ينظر لي، راحوا جميعا في غيبوبة الفن أو هكذا بدا لي، حتى ذلك القسيس الواقف في خشوع بملابسه المقدسة، يملأ عينيه بسحر الجوكندا وجاذبيتها الآثمة. •••
অজানা পৃষ্ঠা