وبأي تمتاز المدينة العظمى عن سائر المدن؟
أبمراسيها البحرية، أبمحطات السكك الحديدية، أبمركباتها الكهربائية، أبأسلاكها البرقية، أبأنبائها اللاسلكية، أبقصورها الشاهقة، أبصروحها الفخيمة، بأنفاقها وجسورها وملاهيها؟ بأي تفاخر المدينة العظمى سائر المدن؟ أبشوارعها الواسعة النظيفة، أبساحاتها الكبيرة الجميلة، أبمخازنها الحاوية ما ندر وعز من مصنوعات الطبيعة والإنسان، أبمدارسها العمومية، أبمستشفياتها المجانية، أبمعاهدها العلمية، أبمتاحفها الأدبية والتاريخية، أبمصارفها وبورصاتها وأغنيائها، أبكثرة سكانها، أبتعدد معابدها؟ لا يا سادتي.
المدينة العظمى تمتاز عن سائر المدن بنوابغها، بشعرائها وعلمائها وأرباب الفنون والصنائع فيها، المدينة العظمى هي التي يمكنها أن تفاخر سائر المدن لا بكثرة سكانها بل بكثرة الأصحاء فيها، إذ ما هو الخير في مدينة تسعون في المائة من أبنائها مرضى؟ المدينة العظمى إذا هي التي يخلو هواؤها من جراثيم الأمراض المعدية وتشرق شمسها على عقول سليمة في أجسام سليمة.
المدينة العظمى هي التي تكرم أبطالها ونوابغها لا بإقامة التماثيل ونصب الأنصاب فقط بل بالاقتداء بهم وبالعمل بتعاليمهم، هي المدينة التي يقرن فيها بين البساطة والجمال في أمنيتها وفي أزيائها وفي فنونها، وبين الرحمة والعدل في أحكام قضاتها، وبين العلم والدين في تعاليم علمائها، هي التي يحترم المرء فيها جسده وروحه ويعتني على السواء في نظافة الاثنين، هي التي ينبذ رجالها ونساؤها الشرائع التي يسنها الخائنون لتعزيز شئون أفراد من الناس، ولا فرق إن كان الأفراد من الأغنياء والأمراء أو السلاطين، هي التي لا يوجد فيها أرقاء ولا تباح فيها النخاسة، هي التي ينهض فيها الشعب نهضة واحدة على ظلم الحكام وفساد المسيطرين، هي التي يكون شعار كل امرئ فيها:
لا تسقني كأس الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
المدينة العظمى هي التي لا يتداخل في شئونها سلطة أجنبية، هي التي يكون كل امرئ فيها سلطانا بنفسه بل تمثالا حيا للحرية والإخاء. هي التي يعتبر الحكام فيها كخدام يخدمون بالأجرة، هي التي يتعلم الأولاد الاستقلال وعزة النفس في مدارسها قبل سائر العلوم، هي التي تطلق فيها حرية القول والعمل ويكثر فيها التنقيب والبحث وتثمر فيها الفنون وتعزز فيها الآداب. هي التي تكون الصداقة فيها أمرا مقدسا والإخلاص محترما كسر من الأسرار الإلهية.
هي التي لا تكره الامرأة فيها على الإقامة مع رجل لا تحبه ولا الرجل مع امرأة لا يحبها. هي التي يكون الأبوان فيها صحيحي الجسم والعقل قويين نشيطين مدركين فيوجدا نسلا قويا مدركا نشيطا - إن لم تصلح صحة هذا الجيل لا رجاء لنا في المستقبل - المدينة العظمى هي التي تكثر فيها الأمهات الحزيمات العزومات المدركات ما سما من مقاصد الحياة فلا يعلمن أولادهن الخرافة والكذب والمراوغة ولا يعودنهم الطاعة العمياء والجبانة والخوف - الشرق يحتاج إلى الأم التي تعلم أولاها الاعتماد على النفس فوق كل شيء - المدينة العظمى هي التي تسير النساء في أسواقها مكشوفات القناع ويحضرن الاحتفالات العمومية كالرجال ويشاركن في البحث والإرشاد كالرجال.
هي المدينة التي يستغني فيها أهل الأدب والفنون عن أهل المال، بل هي التي يتأسس فيها دائرة أوقاف لا لخدمة المعابد، وإعاشة رجال الدين بل لخدمة العلوم والفنون، لخدمة النوابغ والعلماء.
سادتي! عبثا تسن الحكومات الحرة شرائع حرة إن لم تطلق أنفس العلماء وأرباب الفنون من قيود المصلحة ومن هموم الارتزاق.
অজানা পৃষ্ঠা