بذور
رسالة المؤلف
الباب الأول
وادي الفريكة أو العودة إلى الطبيعة
الكتاب
أنوار الأفكار
مناهج الحياة
الصلاة
جهل الإنسان لحكمة الخالق
عظة رأس السنة
من على جسر بروكلن
فوق سطوح نويرك
وفي مثل هذا اليوم طابت جهنم
التمدن الحديث
الفقر وبنوه
الضجيج والضوضى
روح هذا الزمان
شهداء العلم
الحرب التي تهمني
الخيانة وإبليس
خطاب المسيح1
بيني وبين مدير الجريدة1
بين اللاهوتيين والعلماء
ما هي السعادة
بيتان للمتنبي
مكروب الغيرة
التعزية في المصيبة والمصيبة في التعزية
الرداء الأسود
فلتر
جان جاك روسو
وليم غاريسون
تولستوي
ابن سهل الأندلسي
الثورة الإفرنسية1
بذور للزارعين
الباب الثانى
الخطب
المقالات
الشعر المنثور
الباب الثالث
نور الأندلس
تاريخ سوريا
الأشجار الناطقة
أصوات السكينة
الشعر والشعراء
الموسيقى الإفرنجية والعربية
بلادي
الكنيسة والجامع1
روح اللغة
تعددت الأسماء والظلم واحد1
الثورة الحقيقية
حكومة المستقبل
الصوم
هباسيا
القديس أغسطينوس والغزالي
صديقي الأعز
رسم
بذور للزارعين
أبرشية الفريكة
على الأرض السلام
شبلي الشميل
جرجي ديمتري سرسق
الترقيع في العمل
روح الثورة1
الأخلاق1
الباب الرابع
الشعر المنثور
في النكبة
في الحرب وبعدها
سوريا ولبنان
بذور
رسالة المؤلف
الباب الأول
وادي الفريكة أو العودة إلى الطبيعة
الكتاب
أنوار الأفكار
مناهج الحياة
الصلاة
جهل الإنسان لحكمة الخالق
عظة رأس السنة
من على جسر بروكلن
فوق سطوح نويرك
وفي مثل هذا اليوم طابت جهنم
التمدن الحديث
الفقر وبنوه
الضجيج والضوضى
روح هذا الزمان
شهداء العلم
الحرب التي تهمني
الخيانة وإبليس
خطاب المسيح1
بيني وبين مدير الجريدة1
بين اللاهوتيين والعلماء
ما هي السعادة
بيتان للمتنبي
مكروب الغيرة
التعزية في المصيبة والمصيبة في التعزية
الرداء الأسود
فلتر
جان جاك روسو
وليم غاريسون
تولستوي
ابن سهل الأندلسي
الثورة الإفرنسية1
بذور للزارعين
الباب الثانى
الخطب
المقالات
الشعر المنثور
الباب الثالث
نور الأندلس
تاريخ سوريا
الأشجار الناطقة
أصوات السكينة
الشعر والشعراء
الموسيقى الإفرنجية والعربية
بلادي
الكنيسة والجامع1
روح اللغة
تعددت الأسماء والظلم واحد1
الثورة الحقيقية
حكومة المستقبل
الصوم
هباسيا
القديس أغسطينوس والغزالي
صديقي الأعز
رسم
بذور للزارعين
أبرشية الفريكة
على الأرض السلام
شبلي الشميل
جرجي ديمتري سرسق
الترقيع في العمل
روح الثورة1
الأخلاق1
الباب الرابع
الشعر المنثور
في النكبة
في الحرب وبعدها
سوريا ولبنان
الريحانيات
الريحانيات
تأليف
أمين الريحاني
بذور
والآن أجيب أنا في نوبتي وأبدي أنا أيضا علمي [...]
1
إنسانا ولا أطري بشرا.
أيوب 32 : [...]
لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من كنوز الدنيا.
حديث شريف
ولو لم يكن إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لكفى به نفعا. فإن من لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في الحيرة والعماية.
الإمام الغزالي •••
إن عصرنا هذا لهو عصر الانتقاد والأشياء كافة ينبغي أن تخضع لا [...] ولكن الكثيرين من الناس يظنون أن قداسة السلطة ترفع الدين والشرائع [...] فتوى النقد وتخرج بها من محكمته الجليلة ناكرة صلاحية أحكامها. فإذا [...] ذلك تدمغ الشرائع الدينية والمدنية بالشبهة والريب وتفقد الاحترام [...] نقدمه مخلصين للتعاليم التي تمحص في محكمة النقد - للتعاليم التي لا يخشى واضعوها والمتشيعون لها أن تفحص فحصا مدققا.
كنت في كتابه:
of pure Reason [...]
رسالة المؤلف
الباب الأول
وادي الفريكة أو العودة إلى الطبيعة
قل كلمتك وامش
وادي الفريكة مهيب أكثر منه جميل، هو عميق ملتو، ينحدر من قرية صغيرة ليغسل رجليه في نهر الكلب. هو صغير ولكنه كثير الزوايا والأسرار يجمع بين الدلب، الذي لا يعيش إلا بالقرب من الماء، والصنوبر، الذي يكتفي بمشاهدة البحر من أعالي الجبال. وفي الشتاء تنثر الطبيعة تحت قدميه أزاهر الدفلي، وتكلل رأسه في الربيع وفي الصيف بأزاهير اللزان. ومع هذا الجلال والدلال تراه حاملا على منكبيه كثيرا من الأطواد التي تخضع صاغرة تحت قدمي صنين، نعم إن ملتقى الجبال على منكبي وادي الفريكة، هنالك تعانق جبال القاطع جبال كسروان ومن أعطافها تتدفق في الشتاء المياه التي تجري في نهر الكلب، هنالك تمتد الأعناق وتنحني الرءوس وتضغط الخدود بعضا على بعض. وفي الصباح قبل أن يغيب القمر وتشرق الشمس تتلألأ فوقها إلهة الحب لتباركها إلى الأبد. تشرق الزهرة من وراء جبل صنين وترسل أشعتها الباهرة فوق الجبال التي يعانق بعضها بعضا عناقا أبديا على منكبي وادي الفريكة.
في هذا الوادي من الصخور الشامخة والمنحدرات المخوفة والوهاد العميقة والكهوف المظلمة؛ ما لا يرغب الناس في الانحدار إليه، فهو يقول للفلاح: تعال وفأسك ومنجلك، ويقول لمحب الطبيعة تعال بأفكارك وتصوراتك، كما تقول الرياض لمحب السرور: تعال بالعود والدن.
في صباح يوم من الأيام التي تقف حائرة بين الخريف والشتاء لبيت دعوة الوادي، خرجت من بيتي بمعطف مشمع وأخذت أقفز عن الربى وأدب من تحت الصخور حتى وصلت إلى قلب الغاب، نزلت لأتفقد الوادي بعد أن اغتسل بسحابة الخريف الأولى، هبطت على عادتي لا ترويحا للنفس كما يقال، بل طالبا الإلهام ناشدا الفائدة. نعم أنا أقصد الوادي كما يقصده الفلاح ولكن فأسي ومنجلي يختلفان نوعا عن فأسه ومنجله، وأحمالنا ونحن عائدان تختلف كثيرا بعضها عن بعض. على أن حطب الغاب يفيد في هذه الأيام أكثر من حطب الخيال والفلاح هو الفيلسوف الحقيقي، ولكن ذلك قلما يهمني، قد انحدرت إلى الوادي ووقفت على صخر يشرف على النهر وتأملت فعل العواصف والأنواء الليلة البارحة - تلك الليلة التي دخل إله الشتاء بعروسه الطبيعة.
كيف لا ومياه النهر والسواقي حمراء كالدم ... وقفت هنالك مبتهجا فأحسست بأن روحي انفصلت عن جسمي وطارت فوق الأشجار البليلة وفوق الصخور الشهباء في الصيف السوداء بعد الأمطار، طارت وطار معها ما تراكم على رأسي وقلبي من الأفكار والخيالات والأماني، طارت مسرعة صامتة كما يطير السنونو والحسون في هذا الفصل. شعرت بأن روح الوادي تجسدت في وروحي تجسدت في الوادي، فأنا إذن والوادي سواء. في نفسي ما فيه من الظلال والخيالات والكهوف، في نفسي ما فيه من الصخور الشامخة والمنحدرات الهائلة والسواقي الفائضة والأنهر الجارية، في نفسي ما فيه من العصافير والجنادب والنسور ومن الهوام والذئاب أيضا أيها القارئ البعيد القريب.
صعدت قليلا وجلست تحت خرنوبة غضة وتنفست متنشقا هواء الأحراج المنعش فكاد يكون لنفسي صدى في حفيف الأوراق، في ظل هذه السكينة يكاد المرء يسمع خفقان قلبه، وعند توقلي في الصخر سمعت صوت رفرفة العصافير فالتفت إلى جهة الصوت وإذا بسرب كبير من السنونو فر من أمامي ففكرت في نفسي قائلا: لو كان للطير أن يقرأ الأفكار لما كان هذا السرب يفر الآن من وجهي بل كان يجيئني مغردا فأقبله ويقبلني ويسير بعدئذ كل منا في سبيله، ولكن إخواني البشر لم يعودوا الطير مثل هذا والسنونو لم يقرأ شيئا حتى اليوم مما أكتبه، إلى الآن لا يعرفني، وهل يلام على ذلك والإنسان نفسه لم يزل يعجز عن فهم ما انطوى عليه الإنسان؟
السكينة بعد العواصف، أتأملتها في زمانك؟ هي عندي نوع من الراحة الأبدية، السكينة في الوادي تكاد تكون في هذا الفصل غير عالمية، فما أنعشها للنفس وما أجمل وقعها على الأذن والقلب! ولو جاز أن تقول إن للسكينة ألحانا وأنغاما لقلت إنها أشجى في مسمعي وأبدع من ألحان أمهر الموسيقيين.
وما معنى الألحان التي لا تسبقها وتتلوها السكينة؟ إنها عندي كلا شيء، بل هي ضجيج مزعج ممل، وأما العبير المنتشر في الغابات بعد الأمطار - وخصوصا بعد السحابة الأولى من فصل الشتاء - فيحير الكيماوي والنباتي والعطار، فما أشذاه وأطيبه وما أبعده وأغربه! أيفاخرني الخليع بروائح الحشيش والأفيون وحبوب المسك والعنبر وغيرها من «نسخات» المصريين؟ فوالله إن روائح الغاب والوادي بعد الأمطار لأطيب منها شذى وأبعد منها غرابة وأشد منها فعلا في النفس.
مر علي ساعة من الزمن وأنا أتنشق هذه الروائح وأفكر في الحشاشين والروحيين والبوذيين، في أولئك الذين يسكرهم الإيمان أو الأفيون فيرتفعون بأحلامهم إلى ما وراء الطبيعة أو ينحدرون إلى ما تحتها، فنهضت وقد تخدرت أعصابي من أرج الأشجار الندية وأفيون الأرض الندية، ونظرت بعين البصيرة إلى الأفق من خلال الأغصان فتنسمت من الغيوم المتراكمة فيه خيرا وقلت في نفسي: إلى البيت يا ولد إلى البيت! فها قد اختبأت في أعشاشها الطيور وعادت إلى أوكارها الحشرات والهوام وعدت نحو حظائرها الماشية. ها قد انهزمت السكينة أمام الرياح وهبت الأوراق الصفراء البالية من الأدواح لتختبئ في الغياض والأدغال.
وأنت، فما الذي يبقيك هنا؟ عد إلى عشك قبل أن تحاصرك الرياح، عد إلى عشك قبل أن تسل عليك صوارمها الغيوم وتطلق مدافعها، قبل أن ترسل عليك السحب شآبيبها. فقبلت نصيحة نفسي ونظرت حولي باحثا فرأيت بالقرب من شجرة صنوبر كبيرة صخرا قد نقرت فيه الديم والأعاصير مغارة صغيرة فتقدمت نحوها ودججت تحت الصخر إليها دجا، وتأملت بعد ذلك حكمة الطبيعة ورحمة العواصف والرياح، لا أيها القارئ، إن الطبيعة لا تظلم بنيها مهما اشتد غضبها ومهما تعامت في مناحيها الهائلة المخوفة. وأما أولئك الذين يخافون الأمطار ويخشون الأعاصير فيتفرجون عليها من وراء الزجاج فذرهم في نعيمهم يمرحون. أولئك فقراء الروح لا يدركون الغرض الجوهري من الحياة الدنيوية، ولا يعرفون ما غرب وخفي فيها من اللذات الروحية والجسدية، كم من مرة سمعت صوت النفس يناجيني قائلا: امش تحت المطر الهاطل وعرض خديك لسهام الغيوم - بل لقبلاتها - فهي تسيل شوقا إليك، وإذا وجدت نفسك في الغاب أو في الوادي في مثل هذه الآونة فلا تخف على جلدك من الذوبان ولا تهرول إلى البيت كالجبان، بل قل لنفسك مكانك تحمدي أو تستريحي! افرح بكل مظهر من مظاهر الطبيعة واستفد إن كان عندك ذروة من العلم.
عليك بشجرة وارفة الظلال فاشغل فكرك أو قلبك بشيء تراه حولك ولا تكن من الخاسرين، هذه الفرص ثمينة يا صاح، وهي أندر من الغراب الأعصم، ولعلك لا توفق أيضا للاقتراب من الطبيعة في شدة غضبها - في ساعة تهيجها واضطرابها، فاقترب منها الآن! تعلم منها الثبات والإخلاص واستمد منها القوة والجلال.
إذا كنت في سفينة تتقاذفها الرياح من كل جانب وأوشكت تبتلعها الأمواج أتضيع وقتك بالعويل والنحيب صارفا النظر عما يتمثل حواليك من جمال الطبيعة وهولها وجلالها، لا أقول لك لا تصل إلى الله لينجيك من الغرق في مثل تلك الساعة ولكنني أقول اشكره تعالى أولا وآخرا على أنه جعلك ممن شاهدوا هذا المشهد العظيم، ووقفوا هذا الموقف الرهيب، ألا تظن مشاهدة البحر ساعة هيجانه تساوي شيئا وخصوصا إذا كنت في مركب واقع في شبك أمواجه الزابدة، هل لنا أن نختبر مثل هذه الاختبارات النادرة كل يوم، ولنفرض أني مت في الوادي تحت الغيث الهاطل أو سكنت قعر البحر تحت الموج المتراكم أينقص من نفسي الأزلية شيء؟ فعلام الخوف والجبن؟ أيخشى الإنسان ربه؟ أيحاذر ابن الطبيعة أمه؟ أتوجس النفس الأزلية خيفة من شيء زائل؟
قد شذبت نصائح القوم ووضعت ما بقي منها في جيبي وسرت مع نفسي سيرا بطيئا بعيدا عن طرق الوادي الضيقة، بعيدا عن تلك الخطوط الصفراء التي يراها التائه عن بعد فيقصدها ويلازمها مطمئنا، سرت بين شرايين الوادي وعروقه طالبا في القلب مركزا جميلا تزينه ثلاث من أدواح الصنوبر الشامخة، وقد تساوت كلها حجما وقدا وجمالا، رأيتها واقفة هنالك شبه عرائس خرجن من خدورهن ليدعونني إليهن، وهل تظنني خاطرت بنفسي إذ لبيت الدعوة؟ لا - وحياتك أيها القارئ - فقد خاطرت بشيء من اللحم والدم والعظام التي تقيد النفس، أوليس من المحمدة أن يطلق المرء للنفس ذمامها مهما كلفه ذلك؟ أوجه هذا السؤال إلى الشعراء لا إلى اللاهوتيين، أنا لا أذكر سوى اللذات الروحية حينما أكون بالقرب من الطبيعة، ومتى عدت إلى المدينة فهنالك لذات جسدية تنتظرني، هنالك سرور ينسيني النفس كما ينسيني سروري الآن سرور الجسد، وأما الكوارث والحوادث التي يخافها الناس ويبالغون في التهويل بها فمتى جاءت تراني متأهبا تراني دائما مستعدا إلى السفر.
الطريق التي اتخذتها إلى الصنوبر في الوادي هي الطريق إلى الحقيقة في العالم، وعلى من يحب الاقتراب من الصنوبر وتتوق نفسه إلى فيء أشجاره وأرضه المفروشة بإبره اليابسة أن يخاطر بكثير من الرفاهية التي ألفها. عليه أن يخاطر في الأحايين بحياته - أي بلحمه ودمه - عليه أن يمشي بين العوسج والأدغال وعلى الشوك والبلان والشيح بين الحجارة والرتم والقيضوم وفوق الصخور المغطاة بالطحلب النامي في ثقوبها الغار والخنشار، عليه أن يدج دجا من تحتها تارة ويقبل شوك القرقفان الذي يعترضه ويشم رائحة الطيون الذي تلتصق أوراقه بثيابه، وقد يقع تارة من صخر أملس ويزلق طورا على الأرض المفروشة بورق الأشجار البالي.
وبينما هو سائر يسمع الحقيقة تخاطبه قائلة: أنا الصنوبر أيها الشاب الطلق المحيا الرائع الوجه الرقيق العواطف الراسخ في علم السلوك المواظب على سنن الأدب والمسامرة، فإن كنت تريد الاقتراب مني - إن كنت تحب الجلوس تحت جوانحي الخضراء المبللة بندى الحب فعليك أن تترك وراءك نعومة المجالس وجمال الترف ورفاهة العيش وبذخه، عليك أن تدوس شوك الخرافة وتمشي بين عوسج التقليد وتقطع أودية الأوهام وتعبر سواقي الحب الكاذب وتتوقل في الصخور الشامخة وتسقط تارة في عليق الرؤساء وطورا في أدغال الحكام وأحافير الشرائع، وإذا سلمت بعد كل ذلك فصعد في الصخور المعتزة بذاتها المتفردة بعظمتها القائمة على شفر الهاوية من غير أن تشعر بشيء من الخوف والرعبة أو أن يخامرك شيء من الريب بنفسك. ومتى وصلت إلي تقيم في ظلي سعيدا قريبا من الحياة بعيدا عنها في آن واحد، وتصبح مثل قمة جبل الشيخ لا ملك فيك لأحد من الناس ولا لإحدى الطوائف والأحزاب، تصبح إذ ذاك ملكا مشاعا للجميع، تبارك من عاش في ظل الحقيقة! تبارك من ملك نفسه!
حاصرني المطر في كهفي الصغير ساعة من الزمن فأخذت أتأمل أثناء ذلك ما كان داخله من آثار المخلوقات التي سكنته قبلي، فرأيت أن الحية كانت تدخله لتغير فيه ثوبها، والثعلب ليأكل فرخته والضبع ليفترش فيها مائدته، كيف لا وهذا ثوب الحية البالي، وهنا بعض ريش الدجاجة المسكينة، وهناك عظم من عظام الثعلب، وفي السقف والزوايا أنسجة العنكبوت وفيها عشيرة من البعوض. وإني أؤكد أن هذه البعوضة الراقدة الآن في هذه الخيام النحيفة آمن على نفسها من قيصر الروس في قصره، ولقد يستطيع حزاز الصخور أن يفيدني شيئا من هذا الباب لو شاء ربك، لقد يستطيع الخنشار النامي على باب المغارة الباسط جناحه المزركش فوق هذه الأوراق البالية أن يقص علي قصة غريبة عجيبة. فكم من حادث حدث في جوف هذا الكهف لو كان لجدرانه أن تنطق وتتكلم!
آها على رفيق يشاطرني الآن هذا المأوى الصغير المعتم البارد - الجميل في ذاته! لا أنكر أن العزلة جميلة، ولكن - رفيقا واحدا لأقول له من وقت إلى آخر إن العزلة جميلة. فقد تاقت نفسي وأنا بالقرب من الطبيعة إلى نفس بشرية أخرى تريني بما فيها من القوة والضعف ما خفي من قوتي وضعفي، تأملت وأنا في هذه المغارة ما في الطبيعة من القوى الكامنة ومن الهول الراقد تحت ستار السكينة والجمال، فجرني الفكر إلى الهيئة الاجتماعية الحاضرة الواقفة على شفر هاوية فتن لم يسبق لها مثيل في التاريخ، جرني الفكر إلى ستار الكذب والتصنع والاحتيال الذي يسدله ذوي الغايات النفسية على الحقيقة - إلى القوى الكامنة في الشعوب المظلومة - إلى الهول الراقد تحت ملاءة من الخوف والخمول - إلى الخير الكامن في الأفراد الغيورين على الحقيقة الجريئين في الذب عنها.
ومهما اشتدت الاضطهادات على ذوي الأفكار فهم لا يحرمون كوخا يلتجئون إليه، تضربنا الطبيعة باليسرى وتعيننا باليمنى، تعد لنا المغاور لنلتجئ إليها حينما يشتد غضبها الأعمى، وإذا حملقت فينا الهيئة الاجتماعية وكشرت عن نابها ففي زوايا الأرض وأطرافها نفوس حرة سامية تنعشنا بطيب شذاها، وتجدد فينا حرارة محبتها الحماسة والنشاط.
وبعد أن وضعت حرب الرقيع أوزارها أشرقت السماء قليلا، فظهر شيء من نور الشمس من خلال الغيوم والأغصان وحول نقط الماء المتجمعة على الأوراق إلى نثرات من الفضة وحبات من اللؤلؤ الثمين، وأخذت - إذ ذاك - العصافير تطير من غصن إلى غصن ومن صخر إلى آخر ساكتة خائفة، وهكذا تفعل بعد الأمطار والعواصف، فهل هي تشعر مع الشاعر بلذة التأمل الذي توجبه السكينة؟ أتمثل الآن دور الفيلسوف بعد أن مثلت دور المنشد المطرب؟
في مثل هذه الساعة - ساعة السكينة والهدو - لا تتوق النفس المبتهجة إلى الشمس ونورها ولا تشتاق إلى بهائها وحرارتها، في مثل هذا الوقت من السنة تلذ لي الغاب ويبعدني الوادي عن الأوراق والكتب، تلذ لي الغاب وما فيها من السلوى والإلهام والراحة، تلذ لي ظلمتها وظلالها، سكينتها وصخورها وأشجارها وأدغالها، أشواكها وأزهارها، نعم إن صوت الغيث الهاطل على الأشجار جميل فهو يضرب على أغصانها فيخرج منها أنغاما وألحانا مطربة مدهشة، ولكن السكينة التي تتلو العواصف أجمل في أذن النفس وأطرب.
صوت الأوراق الصفراء التي تقع متناثرة إلى الأرض من ثقل ما عليها من الماء، أو صوت نقطة ماء تقع من ورقة خضراء حية على ورقة يابسة ميتة، أو صوت فأس الحطاب بين أشجار العفص والسنديان، أو أصوات الأولاد الذين يؤمون الوادي والغابات طالبين الحلازين؛ هذا كل ما تسمعه في الغاب بعد العواصف والرياح، وهو جميل؛ لأنه قليل في كثير:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
صحيح ما يقال من أن الرياح والأعاصير تضر بمصالح الناس، ولكن أمن أجل الإنسان ومصالحه الزمنية المادية خلق الله كل شيء. هكذا يقال في التعاليم الدينية. ولكن الطبيعة تقول غير هذا القول، ويظهر لي أن الأعاصير تعوض أضعافا على الإنسان فالذي تأخذه من ملكه الخاص تعيده إلى ملك الطبيعة والخسارة لا تكون إلا نسبية، وهذا ظاهر لكل الذين وصلوا بترقيهم الروحي العقلي إلى درجة يتم فيها امتزاج الروح البشرية بروح الطبيعة الشاملة. وهؤلاء القلائل لا يفقدون شيئا أزليا ولا يكسبون شيئا زائلا؛ لأن الطبيعة بما فيها هي أبدا لهم وهم أيضا لها على غابر الدهر.
السير في شوارع المدن الكبرى يذكر الإنسان بالإنسان وأما السير في الوادي أو الغاب فيذكر السائر بالخالق العظيم، الأول يدعو إلى العمل والثاني إلى التفكر والتأمل. في الأول بعض اللذة التي يتبعها الإعياء والقنوط، وفي الثاني نوع من اللذة الذي يتبعه النشاط والعزم وحسن الآمال.
يمشي المتنزه في شارع من شوارع باريز أو نويرك فيدهشه ازدحام الناس وتنقبض نفسه من الضجيج ويتبلبل فكره مما يراه وراء زجاج النوافذ الكبيرة من مصنوعات الإنسان ومن التحف والعاديات، ويمشي ابن الطبيعة في الغاب بين الأدغال وتحت الأشجار والأدواح فتنعشه روائح الصنوبر ويسكره أرج الأرض الذكي الممتزج بروائح القويسه والبطم والغار، فيخرج من بيت أمه وقد ملئ نشاطا وعزما وسرورا وبالأخص إذا كان معها في ساعة تهيجها، يخرج إذ ذاك وهو شاعر بأنه يستحق أن تعامله الطبيعة معاملة مثيل لها، بل معاملة أحد أعضائها المتساوين أمام الناموس الشامل الدائم الذي لا يبطل من أجل الأغنياء ولا يلغى من أجل الملوك والأمراء.
وهكذا خرجت من الوادي بعد أن قضيت فيه بضع ساعات خرجت بعد أن تصفحت فصلا طويلا من كتاب أميرة المنشئين وربة الكتاب. •••
وكلما كنت أعبر طريقا ضيقة كثيرة الأخطار والمخاوف كان يخطر على بالي هذا السؤال: من هو يا ترى فاتح هذه الطريق القديمة التي تدور حول الصخور وتمتد فوق الوهاد وتختفي بين الأدغال فتفضي إلى النهر أو الساقية؟ من هو بطل هذا الوادي، من هو فاتحها يا ترى؟ وما أدراك أن الطريق هذه خططتها الثعالب والذئاب، ما أدراك أن فاتحها ليس من بني الإنسان. ولكن ما لنا ولها فها قد وصلنا إلى الكروم وما وراءها من غيوم السكر ونجوم السرور، فتأمل الجفنات بعد أن أعطت الإنسان ثمارها في وقتها المعين، أتعرف لماذا اسودت جذوعها؟ لأن الدم قد خرج منها؛ لأن عروقها قد جفت فيبست فخارت قواها وسقطت إلى الأرض عن فسائلها، ولكن إذا كانت الجفنات تمثل لنا الموت فالطيون تحت الدكة وحول الجفنة يمثل لنا بأزهاره الحياة الجديدة الأزلية.
قد لاحظت أن أكثر الأزاهير البرية التي تنور في هذه الجبال في أواخر الخريف هي كلها صفراء صغيرة نحيفة، والذي يزيدها رونقا ويزيد محب الطبيعة دهشة هو أنها على ما هي عليه من النحافة وضعف البنية لا تنمو ولا تزهر إلا في الأماكن الخشنة المخوفة، فالزعفران ينبت بين العليق والشوك وتحت الصخور وبين الحجارة، والأقحوان الأصفر ينبت في الودائق وعلى الطرق بين دوس المواشي والبغال، وبخور مريم يلوص لوصا من خلال الدكات وثقوب الصخور، فكأنه يطل من نافذة بيته ليقول للمتنزه: عليك السلام، والطيون يعيش قانعا راضيا في كل مكان، والحندقوق البري يتمايل تيها بين الشيح والأدغال بعيدا عن منجل الفلاح، وأما الزعفران فهو أقل الأزهار طمعا وأكثرهم رقة واتضاعا، فهو يخرج من تحت ترابه بعد أول سحابة من فصل الشتاء ولا يطلب من الطبيعة كثيرا ، لا يطلب منها إلا القليل من الماء ليجدد حياته فيعطيها عوضا عنه بحيرات من نور أزهاره.
وكل هذه النباتات الجميلة الرقيقة تنبت وتنمو وتزهر وتذبل دون أن يلمسها بشر، دون أن تشعر بحنو قليل من العالم الخارجي، هي تعيش لنفسها وللطبيعة فقط، عفوا، فلو وقفت أمام معلف من المعالف في القرية لرأيت فيه كثيرا من هذه المخلوقات الجميلة الحقيرة، شيء يحزن، ولكن لو كان الفلاح يحب الطبيعة لما كانت تعيش عنده الماشية، وأما الطيون فهو أكثر النبات المزهر غرابة في أطواره؛ لأنه ينور في منتصف الصيف بعد أن يكون قد ذوى زهر الوزال ويعود فيزهر ثانية في هذه الأيام - أيام الخريف والموت - أما هو فلا يموت، هو يجدد شبابه فتخضر ثانية أغصانه الدبقة لتكللها الأنوار الصفراء.
والطيون سمج الهيئة قوي الرائحة لا تكاد تلمسه حتى يلصق بك قسما منه فهو يهبك شيئا من روحه عند المصافحة الأولى، نعم هو حر كريم سره في يده وعلى لسانه، ولكنه غريب بأطواره مستقل بأحواله مكروه عند الفلاح لكثرته وسماجته وقلة نفعه، وهو لا يزهر في الربيع حينما تكون بقية الأزهار البرية آخذة مجدها زاهية بجلالها، ولكن بعد أن تزول النعمة عن تلك تبدو على رءوس أغصانه الدبقة علامة الحياة اللطيفة، حياة الرقة والظرف والجمال، نعم حتى الطيون يزهر ولكن بوقته وبحسب ناموسه، حتى على هذه النبتة السمجة تظهر الطبيعة حسن صنعتها ولو آجلا.
ومن الأمور التي تستدعي الفكر وتستوقف البصيرة والبصر هو أن القدر يجعل عنايته بهذه المخلوقات النحيفة بالنسبة إلى ما هو محدق بها من الأخطار والمخاوف، فكم من الأزاهير البرية تنبت بين دواليب العربات وبين دوس الخيل والماشية! وقبل أن أختم هذه المقالة أعرف القارئ بالأقحوانة الناسكة، فقد استوقف نظري ذات يوم أقحوانة واحدة بيضاء زاهرة بين حجرين موضوعين في نصف الطريق على شكل الأثافي وعليهما حجر آخر جاء بوضعه سقفا للبيت، والأقحوانة تحته زاهرة زاهية راضية بحالها غافلة عن الأخطار المحدقة بها، تعيش هذه الأقحوانة بعيدة عن أترابها ولكنها ليست كنساك البشر بعيدة عن الناس، فالطبيعة والتقادير بنت لها الصومعة في نصف الطريق بين أرجل المواشي التي تجيء وتروح عن شمال صومعة الأقحوانة الناسكة وعن يمينها دون أن تمسها بشيء، وكم مرة مرت فوقها وبجانبها العربات دون أن تحرك حجرا من حجارة الصومعة أو أن تؤذي صاحبتها! تباركت الأقدار! هكذا تترك بنيها، وهكذا تصونهم من الأخطار.
الكتاب
يقال إن الكتاب صنفان صنف يكتب ليعيش وصنف يعيش ليكتب، وقد فات من قال هذا القول أن هناك كاتبا آخر يستحق أن يرفع فوق الاثنين ألا وهو الكاتب الذي يعيش ويكتب، والفرق بينه وبين كتاب تينك الطبقتين طفيف في الظاهر. هو قائم بحرف العطف الصغير ولكنه في الواقع عظيم وجدير بالاعتبار.
ولا بأس من التفصيل وإن أدى ذلك إلى التطويل، لا حاجة للقول إن من يكتب ليعيش لا يكتب شيئا يذكر فيؤثر، هو كاتب مأجور يحرك اليراعة كيفما شاء السيد، هو حوذي الأدب يعلق على عربة علمه تعريفة الحكومة ويسوق القلم كيفما شاء الراكب وإلى حيث يشاء، وقد تقرر عند الإفرنج مقام هؤلاء المسودين المبيضين فلا يعدون عندهم من طبقة المؤلفين وأرباب الأدب، وأكثرهم ممن ينشئون الجرائد ويراسلونها فيمارسون صناعة الكتابة زمنا طويلا دون أن يتعدى اسم الواحد منهم إدارة الجريدة المستخدم فيها، وإذا تكلم الناس هنالك في الصحافي مثلا يتكلمون فيه كما يتكلمون في التاجر أو الإسكافي أو الفلاح أو الصراف، فيحصرون الحديث في الأرباح والخسارة، في عدد المشتركين والمعلنين وقلما يذكرون الكاتب أو المدير أو المراسل.
وقد ينشأ من هذه الفصيلة الكبيرة فصيلة أخرى ممتازة باسمها الجليل ومعروفة على الأقل بين المؤلفين إن لم تكن مكرمة عندهم ومحبوبة ألا وهي فصيلة الجهابذة الناقدين، أولئك الذين ينظرون بالكتب الجديدة التي تصدرها المطابع دون انقطاع فينتقدون ويماحكون ويغالطون. وهم قلما يقرظون ويمدحون، نعم الناقد كاتب مجهول يقصر عن التصنيف فيقضي حياته الكتابية في انتقاد التآليف الجديدة، وقلما يشتهر فرد من أفراد هذه القبيلة الغازية الضاربة على تخوم الآداب خيامها، وقلما يكون لها قائد أو شيخ أو أمير، فكلهم في الميدان سواء «كل إذا عد الرجال مقدم» ولكن مع كل ما يحدثونه من القرقعة والجلبة، ومع ما يجيء في طعنهم الشديد من النقد السديد لا يعدون من طبقة الكتاب والمصنفين، هم ممن يكتبون ليعيشوا، هم ممن يعلقون على باب مكتبهم التعريفة الرسمية.
وأما الطبقة الثانية من الكتاب - أولئك الذين يعيشون ليكتبوا - فقد تكبر الفائدة في تآليفهم وتصغر بقدر ما يعيش الواحد منهم قريبا من الحياة البشرية المتحركة والحياة الطبيعية الساكنة، فالذي يعيش في مكتبه أبدا ويؤلف بين الكتب والأوراق والمحابر بعيدا عن حركة الحياة ومظاهرها يصنف لا شك كثيرا ولكنه لا يعيش حقا، وقد يسقط في كثرة تآليفه سقطة الكاتب الأول في مقالاته المأجورة. الذكاء شيء نادر يا صديقي، ومتى وهبت منه الطبيعة أحد بنيها فبالدرهم والقيراط، وأكثر المؤلفين المشهورين أفرغوا كل ما أتوه من الذكاء بكتاب أو كتابين من كتبهم العديدة وما سوى ذلك يعد من طبقة الكتابة التي يكتبها ذوو التعريفة الرسمية.
عندك من الكتاب الأميركان من يضطر أن يؤلف كل سنة رواية أو روايتين حتى يظل اسمه في أفواه الشعب يردد وفي أنظارهم يتمثل، فلا ينساه إذ ذاك القراء ولا تخسر الشركة في طبع تآليفه، فالكاتب الذي يضطر أن يؤلف على التوالي بلا انقطاع ليظل مذكورا معروفا لا يجيء غالبا إلا بسقط المتاع وإذا كتب شيئا نفيسا فبالاتفاق وكبيضة الديك، كتابا واحدا من بين تآليفه كلها التي تعد بالعشرات.
وبين مثل هذا المؤلف الذي يعيش ليكتب وذاك الذي يسود المقالات ليعيش شيء من النسبة والقرابة، فكلاهما يكتب ما ينسى بعد القراءة الأولى وكلاهما أسير قلم، يمارس الكتابة والتأليف كما يمارس التاجر تجارته والدباغ صناعته والفلاح الحراثة، فمن من هؤلاء كلهم يتفرغ مثلا للذات العقلية والتأملات الروحية أو الرياضات الجسدية، من منهم يخرج من دائرة مهنته الضيقة إلى حقول الحياة ورياضها ولو مرة في الأسبوع أو في الشهر ، من منهم يخرج إلى الطبيعة ليقرأ في كتابها النفيس الفريد ولو صفحة كل يوم أو صفحتين؟
من يكتب ليعيش إذا يعيش ولا يكتب، ومن يعيش ليكتب يكتب ولا يعيش. وأما الثالث فيقسم وقته تقسيما حكيما ويفرد منه للطبيعة وللحياة وللأدب، الثالث يعيش حياة عقلية وروحية وجسدية معا في حين يعيش الاثنان الأولان عيشة ناقصة ناشفة الواحد منهما عقلي والثاني مادي والاثنان بعيدان عن العنصر الروحي العلمي الذي يجب أن يسود في كل ما نكتبه اليوم.
الكاتب الثالث: الكاتب الذي يعيش ويكتب لا يصنف تصانيف فكتور هوغو أو فلتر ولا يعيش عيشة ڤرلاين أو أديب إسحاق، وهو لا يكتب إلا في ساعة الإلهام والوحي، خذ لك مثلا قريبا يشرح رأيي هذا شرحا جليا، تعال نقابل أيها الأديب بين فلتر وروسو أو بين هوغو وهيني، فكم صنف فلتر وكم ألف، وكم سود من المقالات ونظم من القصائد وكتب من الرسائل، وإذ إنه لم يخرج قط في حياته الخاصة عن الرسميات والتكلف جاء ما كتبه في الموضوعات الاجتماعية ناقصا ففلتر الكثير التآليف لم يختبر العالم مثل روسو والقليل الذي كتبه هذا يوازي الكثير الذي صنفه ذاك.
من منا يذكر اليوم من تآليف فلتر التي لا تحصى سوى رسائله وبعض رواياته، وأما روسو فأكثر الذي كتبه يقرأ حتى في زماننا الحاضر، ومن لا يقرأ «الاعترافات» أو «إميل» أو «الميثاق الاجتماعي» اليوم على نحو ما كان يقرؤها أبناء القرن الثامن عشر على عهد الثورة؟
عاش روسو الفيلسوف عيشة طبيعية بعيدا عن الرسميات والتصنع وسقط في خروجه عن المألوف سقطات عديدة ولم يكتب ما كتبه إلا بعد الاختبار والتأثر، ولم يؤلف كتبه الشهيرة إلا بعد أن قاسى ألوان العذاب واضطهد أشد الاضطهاد، وأما فلتر الخفيف الروح الواسع الاطلاع الطويل الباع الذي بز زملاءه ذكاء ودهاء فعاش غالبا في مكتبته بين المحابر والأوراق، عاش بعيدا عن الشعب كما يعيش الأمير أو الملك وإذا خرج مرة فإلى بيوت الأشراف وقصور الملوك، وهكذا ألف ما ألفه وفي نفسه من تأثير هذين الوسطين شيء كثير، ومثل هذه المقابلة يصح إطلاقها على هوغو والشاعر الألماني هيني ، وكنت أود لو أذكر كتابنا عوضا من هؤلاء الإفرنج فعندنا اليوم من المؤلفين من يصح بين بعضهم مثل هذا التنظير، ولكن ماذا يمكنني أن أقول وأنا لم أزل أردد كلام النبي الذي قرأته البارح.
قال نبي الإسلام: «ما آتى الله أحدا علما إلا أخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه أحدا.»
لنقسم الكتاب قسما آخر إذا، لنقل إن الكتاب اثنان أحدهما يكتب ليرضي الناس والثاني ليرضي نفسه، الأول يكتم علمه حبا بكيسه والثاني يبثه حبا بأدبه، فالذي يكتب ليرضي الناس لا يحتاج إلى معرفة قرائه وما نشئوا عليه من التهذيب والأخلاق ولا يهمه إن اختلفت مذاهبهم وتباينت مزاياهم وتضاربت أذواقهم فهو يجاريهم على ما يشاءون ويخوض عباب البحر جاريا مع الأمواج سائرا مع التيار العام، ومعظم ما ينبغي له درسه ينحصر في أحوال قرائه المدنية والاجتماعية وأذواقهم الفطرية، فيكتب ما يلائم ذلك ويبسم ساخرا وهو يسوق بين التهكم والمجون يراعه.
هذا إذا كان عالما خبيثا وأما إذا كان غرا غبيا فيقول قوله معتقدا أن الحق معه لا مع سواه، ثم يرفع حاجبيه ويصعر خديه ويقول في نفسه معجبا: حقا إن المرء بأصغريه، أما العالم الحقيقي والكاتب المخلص المستقيم الذي يكتب ليرضي نفسه أولا فهو يحتاج من المطالعة أوسعها ومن الدرس أكثره ومن البحث والتنقيب أدقهما ومن الجراءة الأدبية أشدها. الأول يتذلل لهذا البك، ويتملق ذاك الباشا، ويجامل هذا المطران، ويطنب في مديح ذاك الأمير، ويثني على كل ذي سلطة وسؤدد، عادلا كان أو ظالما، جاهلا أو عالما، صادقا أو خبيثا، دنيئا أو نزيها. والثاني يحافظ على كرامة الأدب ليعزز ما عنده من العلم ويبثه دون مراوغة ومحاباة فلا يقال عنه إذ ذاك هو عالم، ولكنه جبان.
فمثل هذا الكاتب يبدي آراءه، سخط القراء أم رضوا، هو لا يكتم علمه أحدا، هو لا يبعد الحقيقة عن الناس ولا يبعد الناس عن الحقيقة. الكاتب الأول يمحق بأعماله ما اكتسبه من العلوم إذا كان مكتسبا شيئا، ويمسي بعد ذلك كعامة الناس، فيقف أمامهم لا ليفيدهم ولا ليساعدهم على تحسين حالهم بل ليسلك مسلكهم في كل الأمور ويقتفي أثرهم في كل شيء. والكاتب الثاني يدرس أحوال الأمة متأملا ويبحث في أخلاق الناس المتباينة فيفيد إذ ذاك إذا كتب ويصدق إذا انتقد، الأول مسئول عما يكتبه لجيبه فقط والثاني مسئول لضميره. والعالم الذي يكتم ما يعلمه خشية أن تكدر القراء أقواله هو كالطبيب الذي يحجم عن العملية خوفا من أن يؤلم المريض، أو هو كالقاضي الذي لا يرشد المذنب ويوبخه خشية أن يكدر خاطره الكريم. فما أجمل ما روى نبي الإسلام إذا:
ما آتى الله أحدا علما إلا أخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه أحدا.
وما أقبح وأسخف ما يقول أولئك المحافظون المنقادون إلى الذوق العام الفاسد، فإذا قرءوا مقالة مفيدة فيها شيء من الآراء الجديدة يمتعضون ويشمخون ويزدرون صاحبها قائلين: إن هذا لا يوافق القوم ولا يلائم أذواقهم ومشاربهم، فلهؤلاء ولمثلهم أقول: كيف يتسنى لكم إصلاح الذوق العام الفاسد إذا كنتم في كتاباتكم لا تقولون ما يكدر ولا تبدون رأيا جارحا ولا تنتقدون انتقادا صحيحا إذا كنتم تنوون أن تجعلوا الذوق العام قياسا عاما لكل ما تكتبونه فخير لكم أن تستعفوا وتتركوا للشعب القول، فهو يزيدكم في أصول المجاملة علما ويثبت فيكم ما ألفتموه من حب الملاطفة ومراعاة الخواطر.
الكاتب الحر هو العالم الحقيقي الذي يضع أمام الناس نتائج علمه وثمار بحثه ودروسه فيفيد الأمة بجميع مظاهرها مع محافظته على كرامة العلم وحرمة الأدب، هو يقول قوله وإن كان ذلك معاكسا لميل العامة ومخالفا لأذواق الأفراد وأهواء ذوي السيادة، من كتب للمستقبل لا يجازى على عمله في الحاضر ومن كتب للحاضر فلا يبقى له ذكر في المستقبل. ويجدر بنا كلنا التمثل والعمل بقول من قال:
جعلك الله ممن يطلب العلم رعاية لا رواية وممن يظهر حقيقة ما يعلمه بما يعمله.
وأخيرا وبكلمة أفصح، إذا لم تكن أوضح، الكاتب الذي يكتب ابتغاء مرضاة القوم والكاتب الذي يكتب ابتغاء مرضاة الحقيقة - لا تقاطعني فقد انتهيت - أتعرف ما الفرق بين الاثنين؟ الأول هو الثمر من البلح والثاني هو النواة، فكل الأول هنيئا مريئا ولكن اعلم - رعاك الله - بأن النواة التي تنبذها خارجا تخرق الأرض وتتوارى تحت التراب إلى حين ثم يسوق الله إليها سحابا فتسيل ماء فيحييها بعد موتها فتبزغ وتنمو ويكبر ظلها ويأكل من ثمارها أعقابك وأحفادك وبنوك.
أنوار الأفكار
هو الفكر مشعشعا في الفضاء منيرا لطرق السيارات وحبك النجوم، هو الفكر رافعا هذه الكرة الصغيرة إلى مركز سام بين العوالم الكثيرة العظيمة التي ترى ولا ترى، نقطة صغيرة في الفضاء غير المتناهي الذي تدور فيه ملايين من الكواكب وألوف من السيارات ومئات من الأقمار والشموس، نقطة صغيرة في هذا الفضاء القريب البعيد، هذا هو عالمنا، هذه أرضنا. ومع ذلك ترى الإنسان يشمخ ويتكبر ويرفع رأسه فوق رءوس آلهة الجوزاء، وإذا كان لا بد من هذا فلأرباب الأفكار الحق الأول - على ما أظن - نعم إن كل فكر يتجسد على هذه الكرة الصغيرة هو عالم كبير في عالم صغير، التفكير حياة العوالم كما هو حياة الإنسانية، التفكير صلاة الفيلسوف، التفكير يولد الحركة المفيدة ويجلو العقل ويطهر النفس، وليس التفكر بالأمر السهل، فصيغة الأفكار أصعب جدا من صيغة الجواهر، والشعراء خاصة يعرفون ذلك ويكابدونه.
وبعد فقل لي كم أناس يعجزون عن الإجابة لو سألتهم فيم يفكرون؟ وكم من الناس لا يفكرون البتة في حياتهم اليومية - فضلا عن الليلية - وقد يفكرون في أحلامهم عن غير إرادة وإدراك؟
إن قوة الفكر لأعظم من قوة الطبيعة، رويدكم أيها العلماء والماديون، فإذا قلتم لي لا تقدر أن تسكن بين عناصر الطبيعة المهاجمة وأنت مقاوم لها أقول لكم إن مملكة أفكاري واسعة ومملكة أحلامي أوسع، أعيش هنالك مطمئن البال بعيدا عن جراثيم الأطباء وعن الجبال الباردة التي يعتصم فيها العلماء، والذي يسرني ويسر كل شاعر حقيقي هو هذا: ليس في مملكتي كلها آلة واحدة للتشريح. تعالوا إذا نفكر كما نشاء ونعيش كما نفكر. تعالوا نحلم أحلاما جميلة ونحب كما نحلم حبا جميلا. قد سئمت طرق العلماء التحليلية التي تحصر حياة الإنسان بين كهف مظلم وقبر بارد، فمن الكهف إلى القبر عن طريق التمدن الحديث، ما أجمل هذه السياحة! ولكنها - لحسن الحظ - قصيرة وأما السياحة الفكرية الروحية التي يمر بها السائح على جزائر الحب وغيرها من الأماكن الجميلة، والتي يعجز «هذا الفقير إلى ربه» عن وصفها فتلك سياحة طويلة، أولها عالم الأزل وآخرها عالم الخلود.
ولذلك أقول: إن المرء يستطيع بقوة الفكر أن ينتصر على القوى الطبيعية، ويجد هنالك قوة فوق الفكر، ألا وهي قوة الحب، فالحب ... ولكن تلك قصة أخرى تقصها العيون النجلاء في بساتين الجمال ويهمسها النسيم في آذان الشقيق تحت سماء المنى والآمال، إذا أجلت في حالة الناس فكرا فيكفي ذلك الفكر. املأ بندقية العقل يشتغل النابض لنفسه، تفكر تلق نتائج فكرك آجلا أو عاجلا فهي تظهر رغم ما يعترضها من الصعوبات.
ولربما ظهرت في عمل صغير من أعمالك، أو في كلمة تفوه بها على الفور في الساعة التي تأبى النفس فيها التحجب، أو في مساعدة تبديها لبعض الناس أو في خطوة تخطوها نحو الغرب أو في لفتة تتلفتها نحو الشرق، أو في مصافحة تصافحها باغيا أو بغيا، أقول لكم: تفكروا فالحركة التي تبدو في الكريات الدماغية حسب زعم الماديين إنما هي مثل كل حركة تبدو في الكون، سواء في أقصى السيارات أو في أحط المخلوقات الصغيرة، الشرارة التي تقدحها النفس تتطاير منك إلى سواك ولربما أنارت البعيد أكثر مما تنير القريب لربما كانت أجلى لأولئك الذين يرونك من علوهم باحتقار منها لأولئك الذين ينظرون إليك من العمق بغاية الوقار.
كنت أتمشى ذات ليلة على الطريق في الجبل فرأيت دخانا يتصاعد من خلال ورق التوت بالقرب من كنيسة صغيرة، فطرقت تلك الناحية فرفعت إلي امرأة تخبز على «صاجها» وفتاة توقد تحت «الصاج» أعوادا من التين وأغصانا من العفص، فسألت نفسي إذ ذاك: هل النار التي تضرمها هذه الفتاة محدودة القوة، هل الجمر الذي يتأجج تحت هذه الصفحة الحديدية منفصل عن القوة الشاملة المتفرعة في كل أجزاء المادة؟ يا لك من أحمق غبي! أهذه أسئلة يسألها العاقل؟ أيوجد في الكون قوة منفصلة كل الانفصال عن قوة أخرى؟ نعم، إن المادة تتجزأ ولكن حرك فيها القوة الكامنة فترتج وتتموج وتتأجج، وتعود إلى الفروع التي تنفصل عنها وتتصل بها من البدء.
النار التي تضرمها الفتاة تحت «الصاج» أتعرف من أين مسيرها وإلى أين؟ ما الأشجار والنبات إلا الكربون الذي يفصله نور الشمس عن الأوكسجين الموجود في الهواء، فقوة النار من قوة الشمس وقوة الشمس من النيازك التي تتساقط أبدا عليها، والنيازك - تبارك الباري - فربما مرت في طريقها على أورانوس أو على زحل أو على سيروس ولربما كانت منفصلة عن سيارة تبعد عن سيروس بعد سيروس عن الشمس.
نعم إن الشعلة التي نراها الآن بعيدة العهد أيها الجاهل، لعلها أضرمت منذ ألوف من السنين في كوكب يبعد عن شمسنا ملايين من الأميال، أضرمت هذه القوة النارية لتولد قوات أخرى، أضرمت لغرض سام لا ليبدد نورها في الفضاء ويتلبد دخانها على إفريز البيوت فقط، أضرمت ليتم بين جوهرها والجوهر الفرد عقد النكاح فتتولد عن ذلك قوة جديدة كامنة في الخبز، والخبز في معدة الشاعر يولد قوة أخرى تنفصل عن القوة النارية، وتسري في الدم إلى الدماغ وتولد هناك حركة أفكار بينها وبين لهيب النار التي نراها الآن تشابه عجيب. فمن سيروس عن طريق الشمس إلى الأرض - هذه إحدى طرق النار ومن الأرض إلى سيروس عن طريق الشمس - هذه إحدى طرق الأفكار، هذه رحلة من رحلات النفس البشرية، فلا وقوف ولا انقطاع ولا نهاية، يا لها من دورة عظيمة غريبة سرية إلهية تجمع بين «من أين» و«إلى أين».
نعم أنا على يقين أن الفكر لا يموت والنفس لا تفنى، والبذرة التي تقع من يد الزارع على الصخر تساعدني أن أقدم ولو برهانا ضعيفا على اعتقاد قوي، فهل تظن - أيها القارئ - أن البذرة هذه تموت؟ زرها في العام المقبل وانظر كيف خدمتها الرياح وكيف أنعشها الشتاء وكيف عنيت بها الأعاصير. فقد جرفت لها التراب من أعلى الجبال واستدرت لها الماء من الغيوم، وانظر الآن كيف ترفع رأسها من شق الصخر لتشكر للشمس كرمها وللغيم فضله.
مناهج الحياة
أليس في وسع المرء أن يعيش في هذا العالم دون أن تطبع روحه بطابع الملة وتصبغ بصبغة الطائفة، ألا يقدر أن يكتسب ثقة إخوانه البشر دون أن يعلن تشيعه ويفاخر بتعصبه ويكابر بغيرته الدينية مثلا أو السياسية، ألا يقدر أن يحب فئة من الناس دون أن يبغض سواها، ألا يقدر أن يكون شريف الروح نزيهها عفيف النفس أبيها دون أن يحفر على صفحات قلبه أو على جبينه بأحرف كبيرة: «أنا يهودي» أو «أنا مسلم» أو «أنا مسيحي» أليس في وسعه أن يكون سعيدا محبا لامرأته وأولاده وأهله وبني جنسه دون أن يعلق في ذيل ردائه أجراس الشيعة وجلاجل الملة كيما تبشر بقدومه حيثما توجه وتبدد بقرقعتها كلما تحرك ذرات السكينة والسلام، أليس له أن يحب ربه دون أن يبغض أخاه في الإنسانية، ألا يستطيع أن يرفأ ثوبه دون ن يمزق ثوب جاره، أليس في مكنته أن يصلي دون أن يسب ويلعن ويتمنى لمن لا يصلي مثله الاصطلاء بنار الأبدية، هل تقوم محبة الله بغير محبة الإنسان، هل يستحق أن يكون في ظل الأبوة الإلهية من لا يساعد على تعزيز الإخاء البشري في الأرض؟
كم مرة رددت نفسي هذه الأسئلة؟ رددتها متأملة وهي واقفة في طريق الحياة الواسعة، ومن ورائها الماضي وجدرانه وآثاره وغباره ومن أمامها تمتد شعب ضيقة عديدة لطريق الحياة الأصلية الواحدة، شعب تحير المسافر وتزعجه وتدهش المتبصر وتوقفه، فها قد وصلت مع عقلي وروحي إلى حيث يصعب الحكم في الأمر، أنظل سائرين في طريق الحياة الرحبة التي لا يتخذها إلا العدد القليل من البشر أو ندخل إحدى الشعب الممتدة أمامنا لنكمل سياحة حياتنا الدنيا؟ وإذا عدلنا عن طريق الحياة الأصلية أي شعبة نأخذ، أي شعبة أسهل وأوسع وأجمل، أي شعبة أقصر وأقرب إلى الدار التي نقصدها؟
وإذا نظرنا حولنا نرى على كل رتاج من الشعب المختلفة حراسا وأدلاء، هذا يصيح قائلا: طريقي طريق الخلاص. وذاك يصرخ مناديا: إلي إلي إن طريقي سهلة رحبة. شعب عديدة وحراس وأدلاء كثيرون، كل يمجد طريقه ويسهلها في وجهنا، كل يدعي العصمة ويشنع بالأدلاء الآخرين وبطرقهم. فنقف حائرين ناصتين، ونسمع الضوضاء مضطرين، فهذا يقول: إن طريق جاري مسدودة. وذاك يقول إن طريق ذاك الدليل وعرة كثيرة المخاطر.
إن درب هذا الحارس شديدة المتاعب كثيرة العثرات والأحافير والهوات. إن طريق ذلك الدليل الشرقية تؤدي بك إلى هاوية مظلمة. إن طريق هذا الغربية تفضي بك إلى واد مرعب مخوف. طريقي طريق الخلاص والراحة. طريقي توصلك إلى جنة السماء. طريقي أنا رحبة وطريق سواي ضيقة. طريقك ... طريقي ... طريقه ... فيا أيها الإله الحليم العظيم سكت هؤلاء الحراس والأدلاء، أطف بروحك الطاهرة الهادئة هذه الجلبة والضوضاء لكيما نفكر قليلا ونتبصر: أي منهم يا رب مصيب وأي طريق أقرب إليك؟
وبينما هم في فوضى الكلام وأنا غائص في بحر مضطرب من الأحلام وصل جمهور من المسافرين فاتخذ كل منهم طريقا من الطرق العديدة دون سؤال وتردد.
من منهم أتبع وأيا منهم أرافق؟ كل منهم عرف طريقه فسار فيها أما أنا فترددت وسألت وبحثت وقابلت؛ فوجدت أن طريق الحياة الأصلية واسعة منيرة رحبة جميلة وشعبها العديدة ضيقة وعرة مخوفة مظلمة. فحدت عنها كلها غير مكترث لتهديد الأدلاء ووعيد الحراس وتنديد المسافرين وظللت سائرا في الطريق التي أوجدتني بها العناية الربانية من البدء، فلا يعترض أحد مسيري ولا أحتاج فيها إلى حارس يحرسني أو قائد يقودني أو دليل يدلني، هي طريقي تهديني فيها عين الله التي تنير العالم وترافقني روحه التي تزيل من فؤادي الخوف والرعب ومن الطبيعة حولي الهول والأخطار. هي طريق لا لصوص فيها فيسلبوك حريتك، ولا أدلاء فيضغطوا على إرادتك، ولا حراس فيفسدوا استقلالك ويتحكموا فيك.
أي أحسن؟ أن يبقي المرء عقله ونفسه مطلقي الحرية والإرادة أو يقيدهما بقيود الملل والشيع والطوائف، ويشوههما بصبغة التحزب الأعمى؟ أي أحسن؟ أن تبقي هذه النفس ذخيرة لك أو أن تخاطر بها على طريق من الطرق العديدة التي يجب أن تسير فيها صامتا مطيعا؟ العاقل لا يخاطر باستقلاله، الحر لا يتاجر بروحه، الحكيم لا يرهن عقله لشيعة ما ولا يتقيد بسلاسل التقليد.
لا يا صديقي، ليست هذه النفس قطعة أرض أو سلعة لترهنها أو تبيعها، ليس هذا العقل برميلا من التفاح تتاجر به. سر في طريق الحياة الأصلية الرحبة، واترك - إن استطعت - الشعب المتعددة لأدلائها. انزع عنك العلامات الصناعية، ارفع عن رأسك الإعلانات الطائفية، امح عن صفحات قلبك ما خطه أجدادك من كلام الغيرة والتعصب، نظف - يا أخي - لوح النفس، نظفه جيدا، وكن أنت الكاتب عليه لا سواك انقش عليه هذه الكلمات الجميلة العذبة: الحرية، الحقيقة، المحبة، الاستقلال؛ كن إنسانا صرفا، كن للإنسانية على الإطلاق، وإذا كنت ممن يحبون العلامات فكن كالحرف في النحو، أي: فلتكن علامتك عدم العلامة، وقد قال أحمد الشدياق:
إذا واظبت على حب الحق وفعل الخير فلا تخش شر أحد من الناس، وما عليك إذا تجنى الناس عليك وأنت بريء عند الله.
وإن كنت ممن لا يحبون الشدياق ولا يحفلون بقوله - إن كنت تؤثر عليه قول الرسل الأبرار فاسمع كلام يعقوب:
إن كان لكم غيرة حرة وتحزب في قلوبكم فلا تفتخروا وتكذبوا على الحق، ليست هذه الحكمة نازلة من فوق بل هي أرضية نفسانية شيطانية؛ لأنه حيث الغيرة والتحزب هناك التشويش وكل أمر رديء. (يعقوب 3: 15 و16 و17)
بشر يعقوب الرسول بالتساهل وأدرك مثل عالم اليوم ما للتحزب من النتائج الوخيمة والأضرار الجسيمة، فالتساهل واجب فيما لا يعد جريمة، هو روح العصر وكنز من كنوز التمدن القليلة، وكل عاقل واسع الفكر يشمئز هذه الأيام من كثرة الجزم والغيرة. فهو لا يجزم قبل أن يبحث ويقابل ولا يتشيع قبل أن يتفهم كل أوجه الجدل المناقضة لمبدأه، وإذا اعتقد بعد طويل البحث فاعتقاده لا يضمن الاحتقار لاعتقادات الغير، الإطلاق ذميم والجزم دون استدراك جريمة، أنا لا أخشى أن أنتحل مثلا مبادئ أحزاب متناقضة ولا أتردد؛ وذلك لأنني أرى في كل التعاليم والعقائد شيئا من الحقيقة وكثيرا من الخرافات، لماذا نشتري إذا دون انتقاء واختيار؟ أنقبل على أنفسنا أن يغشنا الجوهري بحلية ذات طلاء وبهرج، أمن العدل أن نتاجر ببرميل تفاح، نصفه فاسد ونصفه صحيح، ونوهم الناس أن ما سوى التفاح من الثمار سام قتال؟
أعطني ما هو صحيح من التفاح والإجاص والدراق والرمان وخل لك الفاسد منها، جئني بما هو صحيح من المبادئ فأقبله وأحافظ عليه ولكن لا تعطني مذق لبن نصفه ماء وأنت تقول هذا من نهر الجنة التي تدر لبنا وعسلا فاشربه ولا تشرب سواه، لا تسقني سائلا مصبوغا وتقل لي هو الخمر، لا تجئني بماء عكر وتقل لي هذا مقدس هذا من نهر الأردن فتبارك وبارك أهلك وأصحابك، وإياك أن تشرب من بئر زمزم أو من نهر القنج فتموت ملعونا.
فيا سقاة العالم! إن خمركم ماء مصبوغ، إن ماءكم عكر يلزمه تقطير، إن فيه كثيرا من الحشرات فيلزمه فحص مدقق، وعلى من يفهمون ويميزون أن يصفوه ويطهروه قبل الشرب. العقل هو المصفاة التي تقينا من جراثيم الكذب والغش والتمويه، الاعتقاد لازم للبشر ولكنه يضر إن لم يقرن بالتساهل، فكما أنني أريد الغير أن يحترم اعتقادي يجب علي احترام اعتقادات الغير، وإذا احتقرت عقيدة ما دون سبب واجب تحتقر - لا شك - عقيدتي وتمتهن. التساهل المتبادل إذا هو الدواء الشامل لكل هذه الآفات الاجتماعية والدينية، أي: أن وصفتي لداء التعصب هي هذه السلبية: لا تعارض الإنسان الذي يمزج لبنه بالماء؛ لأنك أنت تتاجر أيضا بنوع من الماء المصبوغ تدعوه خمرا، فغض النظر عنه إن كنت تريد المحافظة على مصلحتك القائمة بالغش وهو يغض النظر عنك، ولكن يا ما أحيلي البعد عن اللبان وذاك الخمار معا، يا ما أحيلي التجارة التي يكون الصدق فيها العنصر الأكيد.
قال الشاعر الألماني غرثي: «إن واجبنا الرئيسي في حياتنا الدنيا هو أن ننظر إلى كل شيء بتعقل وتدقيق دون تحزب أدبي.»
فالتحزب - كما قال يعقوب - وبالأخص التحزب الديني لا يولد إلا التشوش والاضطراب وكل أمر رديء، وأحسن من قول يعقوب الرسول وقول الشاعر الألماني وقول الشدياق وقول هذا الفقير ما قاله الشاعر العربي:
وقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
وأصبح قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان وديرا لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب كيف توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
الصلاة
كثير من المتدينين لا يصومون ولا يصلون، وكثير من أولي الألباب الموصومون بوصمة الكفر يغسلون أدران قلوبهم ببركات الصلوات، وينيرون بصائرهم بأنوار التأمل والقربان، من أجل هذا لا يسوغ لنا أن نقول، إذا: إن كل من يصلون أتقياء وكل من لا يصلون كفرة جهلاء، خذ لك مثلا جاء في تاريخ الثورة الإفرنسية الذي ألفه كارليل، أن الأب تيراي كان يختلف إلى الكنيسة ليقدس كل يوم، وإن ترغت وزير المالية في عهد لويس السادس عشر لم يكن يدخل قط بيت الله ولكن تيراي الكاهن كان فاسقا محتالا منافقا بل كان لصا بمعنى الكلمة، وكان ترغت رجلا فاضلا صالحا وفيلسوفا نزيها عفيفا، فلا الاختلاف إلى الكنيسة أصلح الأول ولا أفسد الابتعاد عنها الثاني.
ما نفعت كثرة الصلاة المنافق المحتال ولا ضرت قلتها أو عدمها بالصالح الأمين.
أما من يتخذون لأنفسهم في هذه الأيام ثوبا قشيبا من الإلحاد مجاراة للزي وحبا بالتيه والغي ويترفعون عن الصلاة ليثق المتثقفون بمبلغ حكمتهم وسعة علمهم وسداد آرائهم وحسن أدبهم؛ فأقول لهم: اقرءوا تأملات بسكال أو خواطر مرقس أريليوس أو فلسفة أبكتتوس أو اعترافات القديس أوغسطينوس؛ فتصلوا أثناء ذلك وأنتم لا تدرون أنكم تصلون.
وما الصلاة في أرفع درجاتها وأنقى مظاهرها إلا تأملات روحية ترفع الخاطئ (وليس فينا - والحمد لله - من يستطيع أن يرجم تلك الامرأة) إلى سماء المحبة والسكينة والسلام. كانت الصلاة في الأصل نوعا من التأمل الروحي، فالبربري الذي ينظر إلى الشمس التي يعبدها يهتف قائلا: سبحانك ما أجمل نورك وما أبهاه، ثم يتضرع إليها مستجيرا مستغيثا. ففي الأول تأخذه الدهشة والابتهال، وفي الثاني تنبه المآرب الدنيوية جنانه فيتحرك بالتضرع لسانه. فالصلاة في أبسط حالاتها إذا هي عبارة عن إعجاب الإنسان المحدود بذلك الكيان الإلهي غير المحدود.
ولكن عشاق النظام والتنسيق ورسل التأليف والتأسيس والسيادة - أولئك الذين يرفعون التدين وطرقه على الدين الحقيقي وتعاليمه الأصلية؛ جعلوا الصلاة وسيلة روحية للتوصل إلى شيء مادي دنيوي، وقد أكثروا منها حتى جعلوها مبتذلة بل قد حولوها إلى سبح وصور وتمائم وأيقونات، يتاجرون بها، ويوجبون على العباد ابتياعها. فأصبحت ممقوتة من سواد المتثقفين المستنيرين، ومهملة من كثير من المتدينين الذين يذهبون إلى المعابد لمجرد العادة. والمثل يقول: الصلاة عادة والصوم جلادة. «صلوا كثيرا وتضرعوا إلى القديسين والأولياء فيمنحوكم البركة ويدروا عليكم الخيرات»، هذا هو تعليم أرباب الطقوس ومشايخ الطرق، وأما تعليمنا الذي نقدمه مع اعتبار شعائر إخواننا المتمذهبين بالمذاهب المختلفة فهو هذا: صلوا قليلا بتأمل وتبحر فتنفتح عين النفس فيكم وتتأكدوا - إذ ذاك - صغركم وعدم أهميتكم، فما هو الفرق بين هذا التعليم الذي يجعل الصلاة واسطة إلى غاية دنيوية والتعليم الذي يجعلها الواسطة والنتيجة معا.
إن الفضيلة لجزاء نفسها، والتأملات الروحية هي بذاتها ثواب كاف للمتأمل، وأما لذتها فلا تظهر لكل إنسان، فالتاجر الذي لا يتفرغ للأكل مثلا لا يقدر أن يتأمل ويتفكر، وإذا صلى مساء وصباحا فتلك عادة تستعبده فيخدمها على عماية دون أن يدرك أسبابها ونتائجها، وعندي أن البومة التي تنعق في الليل على غصن يابس لخير من المرء الذي يردد الصلوات كالببغاء ويبتاع القداديس من ذاك المحترم مثلما يبتاع الزيت والسمن من البقال.
من يضرع إلى القديسين لينصروه على أعدائه ويأخذوا بيده وينقذوه من نار الجحيم يحتقر النفس ويكفر بالخالق، الصلاة واسطة يعرف بها المخلوق خالقه وليست نقودا يرشي بها الإنسان ربه.
يوم كانت إسبانيا تحارب الولايات المتحدة وقف قسس البرتسطان على منابرهم يتضرعون إلى الرب أن ينصر أعلامهم ويثبت أقدامهم ويعلي على أعدائهم حسامهم، وقفوا على منابرهم ورفعوا نحو السماء أيديهم قائلين: ربنا امحق أعداء العدل محقا، ربنا انصر جنود الحق والحرية، ووقف الآباء الكاثوليك في كنائس إسبانيا يتوسلون إلى ذات الإله بلسان الخشوع مبتهلين قائلين: يا رب انصر كنيستك وعزز شعبك. أو شيئا من هذا، فهل هذه هي الغاية يا ترى من الصلاة والقنوت والعبادة؟
وماذا يقول ذاك الجالس على عرشه - عز وجل - في أبنائه هؤلاء الصغار؟ ماذا يقول لدن ترفع إليه الجنود المسيحية صلاتها الربانية في ساحة الحرب قبل مباشرة القتال، فهل يتأمل الجندي معنى هذه الصلاة الجميلة، هل يفكر بما ينوي عمله بعد أن ينتهي من: «نجنا من الشرير آمين»؟ مثل لعينك جنديا روسيا يتلو الصلاة الربانية قبل أن يمتشق حسامه على الياباني اسمعه أيها القارئ - اسمعه يقول: «أبانا الذي في السموات» وكيف تدعو الرب أبانا أيها الشقي على حين أنت آت لتقتل أخاك؟ «تقدس اسمك» وكيف تقدس اسم الله - عز ذكره - وأولاده آخذون بسفك دماء بعضهم بعضا. «يأتي ملكوتك» هل تطلب ملكوته في حين تحاول تأسيس ملكوت دنيوي استبدادي، مشيد على جثث العباد وملطخ بدمائهم؟ «لتكن معنا مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض» إن في مشيئته السماوية المحبة والسلام وأنت الآن في ساحة الحرب تمتشق الحسام على أخيك. «أعطنا خبزنا كفاف يومنا» بأي قحة تطلب من أبيك السماوي خبزك بينا حصانك يدوس تحت قدميه الزرع الذي تفضل أن تراه نارا من أن تراه خبزا. «اغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر لمن أساء إلينا» كيف تتلفظ بهذه العبارة وأنت الآن تحارب إخوانك حبا بمن كبر عليك الأمر وعظمه، فإذا كان الياباني أساء إليك أو إلى حكومتك لماذا لا تغفر له إذا، لماذا في الأقل لا تنسى أو تتناسى إساءته. «لا تدخلنا في التجارب» وهل أنت تخاف من التجارب التي تخوض عبابها الآن، أي محنة أشد من هذه التي رميت نفسك فيها. «نجنا من الشرير آمين» أنت أيها المجرم تمثال الشر اليوم فكيف تطلب من ربك أن ينجيك من الشرير ؟
هذي هي الصلاة الربانية التي يتلوها الجندي المسيحي في ساحة القتال، وإليك الآن صلاة أخرى ترفعها النفس البشرية المحررة، النفس الحائرة القلقة إلى ذات الجلال، فقابل بين الاثنين وحكم العقل في كل حال.
أبانا الذي في السماوات كن معي في الحياة وفي الممات، وإذا زدتني قوة فزدني يا رب تواضعا، وإذا زدتني علما فزدني حلما، لا تمت في فضيلة لتحيي في أخرى، أنت يا رب خلقتني لأعيش حرا كالطير، خلقتني لأعيش أولا لنفسي وثانيا لأخي في الإنسانية ولم تطلب من أبنائك أن يقدموا إلى العظيم منهم ضحية بشرية، أنت منحتني عقلا لأفكر فإذا فكرت قليلا لا تلعني، خذني بحلمك الواسع يا رب وإذا صرخت من سويداء الفؤاد طالبا منك الرحمة لعبادك في أرضك فاستجب يا رب طلبتي.
يقول لي اللاهوتي: إنك تقدس اسمك حاضر ناظر في كل مكان، ويقول لي الفكر الذي هو قسم صغير من الروح الأزلية التي اشتقت منك بأن الأمراض والأعاصير والعواصف والزوابع والطوفان والحريق والحروب لا تحدث وأنت بجانبها تتفرج عليها، فأي هو أصدق يا رب؟ هل أنت في الصين حيث المجاعة تحمل الآباء على بيع أبنائهم بشيء زهيد من القوت، هل أنت على مقربة من أولئك الذين يموتون جوعا؟
هل أنت في بلاد الروس حيث أبناؤك المسيحيون يذبحون المئات من شعبك الخاص؟ هل أنت في قلب الأسقف الذي مر في عربته بين القتلة الأشرار وباركهم باسمك؟ هل أنت في ساحات القتال المصبوغة بدماء الرجال؟ هل أنت في ولايات أميركا الوسطى حيث العواصف والزوابع تكتسح البلاد فتدمر المساكن وتفني الألوف من العباد؟ هل أنت في الحريق الهائل الذي يبتلع لهيبه الأمصار ويتركها وراءه ساحة مخيفة مرهبة فيها من الجثث والأشلاء المحترقة والأشجار المفحمة والأبنية المتهدمة ما يقشعر له البدن وتنقبض منه النفس - ما يجمد منه الدم في العروق؟ هل أنت في الفيلبين حيث الأعاصير تبتلع المراكب والبوارج وتمتد بأمواجها إلى السواحل والقرى فتغرقها بلمحة عين؟
هل أنت في المستشفيات حيث الألوف من بنيك تتألم وتتعذب وتئن وتتأوه؟ هل أنت في جراثيم السل والحمى والهواء الأصفر والسرطان؟ هل أنت في مساكن الفقراء المزدحمة في المدن حيث يموت المئات من عبادك من قلة الهواء والنور؟ رب هل أنت في كل مكان موجود وهل أنت ناظر كل شيء؟ امنحني شيئا من النور لأجمع بين الطرفين، هبني شيئا من القوة لأوفق بين الضدين، نقطة من بحر علمك يا رب لأنجو بها من شر أولئك الذين يتاجرون بالآخرة، أولئك الذين يبثون في الأرض فاسدين، نعم قد فككت أغلال النفس وكسرت قيود العقل ولكنني على الحق أمين، فبدد أمامي غيوم الحيرة وأرسل علي نور اليقين، وإن كنت قد أخطأت في أسئلتي، إن كنت قد كفرت في صلاتي فالغفران لمن يتوب وأنا أول التائبين.
جهل الإنسان لحكمة الخالق
في المثل الإنكليزي «الجهل سعادة» ولكن الكتاب والأدباء لا يكفون عن التنديد بالجهل والتقبيح بالجهلاء، ولو كان فيما يكتبونه شيء من العلم والذكاء أو شيء من دلائل البحث والعناء لاغتفرت لهم القساوة والعماية ولكن لأقاويلهم عند الناس شيء من القبول. ولكنهم يكرهون الجهل ويحبون أنفسهم وهم عن التناقض غافلون، أولئك الأدباء يحتقرون الجهلة الأغبياء بقدر ما عندهم من التصلف والكبرياء، وهم إذا ذكر الحجى والأدب يفاخرون وإن قيل في حضرتهم فلان عالم يرفعون الحاجب وبشعرات أنوفهم يشولون.
نعم إن الجهل في كثير من الأمور سعادة، وما تنديد الأدباء وتعنيفهم إلا من قبيل العادة أو هو ضرب من ضروب البلادة، كيف لا؟ وقد اعتاد أكثر كتابنا اتهام الجهل بكل الرذائل والشرور، حتى لقد ينسبون كل جديد من القول إلى الغرور وكل خروج عن المألوف إلى التمرد والفجور، لنرفق بجهل الإنسان ولا سيما إذا كان من نوع الجهل الذي يولده العرفان، فلهذا الجهل حسنات لا ينكرها إلا الجهلاء والأدباء الأدعياء ولا يقدر حسناته إلا الذين سلكوا طريق المعرفة فأدركوا في المقابلة والمقارنة ما لا يدرك في سواهما.
هذه آراء دونتها بعد أن قرأت بعض ردود القراء والأدباء على ما نشرته تحت عنوان الصلاة. فجاء في اعتراضاتهم العديدة ما لا تعبأ به الأفكار الجديدة، وقد قالوا إن البحث في نظام الكون جهل وحماقة ففاقوا بتطرفهم ما رموني به من التطرف والإلحاد، ولا أقول كلمة في شتائمهم العديدة وأهاجيهم البليدة؛ لأن ما هو خال من الفكر والعلم والذكاء لا يستحق التفاتي، وما الفرق بيني وبينهم إلا أني من الذين لا يدرون ويدرون أنهم لا يدرون وهم ممن لا يدرون ولا يدرون أنهم لا يدرون.
إن مصائب الدهر لأكثر من نبات الأرض، فهل نحن في أحسن عالم من عوالم الله؟ إذا قلنا نعم فماذا يصير بالأشقياء والبؤساء، بأبناء الغم والحزن والبلاء، بورثة الفقر والأمراض والأسقام بالذين يعيشون تحت سقف العذاب وبين جدران الألم من عام إلى عام، ماذا يصير ببني المصائب والنكبات وبالملايين من عباد الله الذين يعيشون تحت رحمة فراعنة المغرب.
وإذا قلنا لا فلم لا نخلق ونعيش من البدء في العالم الذي هو أحسن من عالمنا؟ هل تتراءى الحكمة الإلهية على ماجريات هذا الكون وتدبرها، لا نكاد نقول نعم قبل أن تتراكم علينا أسئلة جمة تطرحها نفس آسفة على عقل مضطرب حائر. أقول نعم معك أيها القارئ المتدين التقي، ولكن ما هي الحكمة في تكوين جراثيم السل والسرطان والطاعون والهواء الأصفر؟ ما هي الحكمة في جعل هذه الجراثيم سريعة الانتشار؟ ما هي الحكمة في جعلها قابلة الوراثة فتنتقل من الآباء إلى البنين الأبرياء، أليحفظ نوعها مدى الدهر؟ ما هي الحكمة في تفجر البراكين النارية وقتل الألوف من عباد الله بغتة وهم يصلون في بيت الله؟
ما هي الحكمة في إطلاق الأعاصير الجوية على بلدان آمنة فتبتلع وهي سائرة ألوفا من النساء والرجال والأطفال، المذنبين والأبرياء يمحقون على حد سواء، ما هي الحكمة من تلقيح الشر العام بجراثيم الخير، ألا تقدر القوة الإلهية أن توجد في العالم خيرا خالصا صافيا نقيا؟ ما هي الحكمة في الطوفان التي لا تحدث غالبا إلا في الأراضي المأهولة المزدحمة بالسكان، ما هي الحكمة في إطلاق حرية الزلازل والزوابع لتفترس من هم بالحرية أولى وبالحياة أحق؟ ما هي الحكمة أيها القارئ الحكيم في تواطؤ كل هذه العناصر التي لا تعقل على هذه النفس الحاسة؛ نفس الإنسان الذي من أجله خلق الله كل شيء ومن أجله سخر الليل والنهار، وهل لجهل الإنسان دخل في هذه النوازل والنكبات والحوادث والضربات؟ وهل يعد البحث عنها كفرا والسؤال إلحادا؟
فليجرد القارئ نفسه عن كل العقائد والخرافات ولو هنيهة من الزمن وليسألها هذه الأسئلة، ولا يجب عليه أن يهتم فيما إذا كنت أعتقد بإله أم لا، واللبيب الذي يؤلف من التلميح تعليما ومن الإشارة كتابا. إن اعتقادي كامن بل ظاهر في سطور هذه الكتاب وبينها، فعلى القارئ أن يعمل الفكرة قليلا.
عظة رأس السنة
ليس لي أن أخرج هذه الليلة لاستقبال السنة الجديدة وبوق الفرح بيدي كما كنت أفعل أيام الصبوة، وهذا - والله - يحزنني، أراني الآن مقيدا في جانب مكتبي بقيود لا أعرف ما هي، ولكنني أشعر بقوتها، أراني واقفا على المنبر الذي ابتعته ببوقي، فليعذرني الواعظ إذا وقفت هذه الليلة موقفه، وأبديت بعض الأفكار بطريقة بسيطة فعالة، لا بأس من أن أقف بين قرائي ولو مرة واحدة لألقي عليهم عظة رأس السنة هذه، وهي عظة قلما يعظها القسس وقلما ينتبه إليها الواعظون على المنابر.
نودع هذه الساعة العام المنقضي ونود لو ودع معه كل منا سيئة واحدة من سيئاته العديدة، أنا لا أطلب منكم المستحيل ولا أسألكم الانقطاع بتة عما قد ألفتموه، ولا أحاول حرمانكم مما هو لذيذ وعزيز عليكم، أنا أيها الإخوة ممن تتوق أنفسهم إلى الكمال البشري، ولكنني أحلم بذلك حلما ويا ما أحيلا الأحلام، لا يهمني بث روح الكمال في العالم إذا كان ذلك يقضي على فرد من البشر بشيء من بذل النفس أو بشيء من السعادة. ليست الكمالات البشرية تعليما سياسيا أو دينيا لنبثها بالقوة والإكراه ولنعززها بالسيف والنار، لا، على الفرد أن يطلب الكمال طلبا، يجب أن تتوق نفسه إليه، يجب أن يهيم هياما بمنيته الجميلة قبل أن يفوز بها، ولا يجب أن يكره على ذلك إكراها، أنا إذا أطلب التحسين اليوم والتعديل ولا أطلب الإقلاع - كل الإقلاع - عما أظنه خبيثا مضرا، أنا أسألكم أن تقصدوا قصدا حسنا وأنتم في باب العام الجديد واقفون، أسألكم أن تستنجدوا بإرادتكم لتتمموا ما تقصدون، أسألكم أن تثبتوا على ما تنوون إتمامه من التحسين والإصلاح فيكم وفي بيتكم وبيوت جيرانكم وأنسبائكم.
في كل منا مغامز وسيئات عديدة، نعرفها كما يعرفها أعداؤنا وأصدقاؤنا، ولو قصد أحدنا أن يزيل عيبا واحدا فيه أو ينزع عادة واحدة قبيحة منه لتحسنت حال الهيئة الاجتماعية بعض التحسين، لقل فيها الفساد، لضعفت دواعي الخصومات، لتلاشى الظلم والاستبداد نوعا، وإني تنبيها للقراء الذين أجلهم وإسعافا لأولئك الذين يتلهون بإشغالهم عن درس شئونهم الروحية والعقلية وإصلاح ما فسد منها واعوج؛ أنشر اللائحة الآتية وهي العظة بالذات وللقارئ أن يزيد عليها إذا شاء ولكن ليس له أن يلغي شيئا من الشريعة أو يخل بحرف من الناموس (أي: شريعتي وناموسي).
إذا كنت مسيحيا أيها القارئ فلا تضطهد اليهود وتحتقرهم، ولا تساعد حكومتك على ذلك، واذكر أن دينك هو ابن دينهم وأن مخلص العالم هو نسيب مخلص العبرانيين، واذكر أيضا أن بين النصارى كثيرا ممن ينامون مثل اليهود على صكوكهم، ويحلمون برباء أموالهم، ويسلبون الأيم فلسها واليتيم ديناره والفلاح بيته وما ملكت يمينه، فلا تحتقر اليهود إذا.
إذا كنت مسلما فلا تكن من ذوي الغيرة والحماسة في أمور دينك، واعلم أن الزمان يقرب الأديان بعضها من بعض ولا يبعدها فكن أنت ابن زمانك، فقد ورد في بعض الآثار: خلقوا أبناءكم بأخلاق غير أخلاقكم؛ فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم.
إذا كنت إسرائيليا فاهدم ولو ذراعا واحدا من الجدار الواقف بينك وبين بقية الشعوب واذكر ما جاء في القرآن
لكل أجل كتاب
ولو هدم مثلك كل عبراني ذراعا واحدا من السور المقدس لسهل امتزاجكم بالشعوب والأمم فتعاملون إذ ذاك بين النصارى كما يعاملون بعضهم بعضا، أي: أنهم يضطهدونكم سرا بعد أن اضطهدوكم جهرا، وهذه من حسنات تمدننا الحديث.
إذا كنت درزيا فاذكر أن الحاكم فعل ما فعل في زمانه من أجل انبساطه وسروره فقط لا من أجل الآلهة الساكنين وراء النجوم، فلا تأخذ المسألة كلها بالجد إذا، وإن دعتك دولة أجنبية إلى القتال في جبلك فحارب مع المظلوم مهما كان دينه، حارب الظالم وإن كان حماك أو أخاك أو أباك أو ذا مال.
إذا كنت كاهنا أو قسيسا فلا تعظ رعيتك في المسائل اللاهوتية التي أشغلت توما الأكويني والقديس أوغسطينوس طول حياتهما وماتا أخيرا حائرين، بل ألق عليهم مثل هذه العظة إذا كنت تحب خيرهم وخير نفسك، ولك أن تسرق ما شئت منها وأنا لا أقول شيئا، فالغاية تبرر الواسطة.
إذا كنت شريفا فارم شهادة أصلك إلى النار واذكر أننا كلنا من فصيلة واحدة نشارك ذوات الأربع في كثير من الأمور.
إذا كنت صاحب لقب ورتب وأوسمة فاذكر أن غلادستون رفض الألقاب التي عرضتها عليه الملكة فكتوريا وأن سبنسر رفض الوسام الذي قدمه له إمبراطور ألمانيا، وإذا تأملت ذلك ترى من الصواب أن تبقي لقبك لنفسك وتعطي الأوسمة إلى أولادك ليلعبوا بها.
إذا كنت قاضيا فلا تحكم على المتهم بالحبس أو بالموت إذا خامرك أدنى ريب في التهمة، تبرئة المذنب خير من قتل البريء، وإذا الضعيف والقوي أو الفقير والغني أمامك فاذكر أن هذا يكذب تعمدا وذاك يكذب مضطرا فاغفر للضعيف الفقير إذا وخذه بعفو الشرع الجليل.
إذا كنت أستاذا فلا تعلم تلامذتك ما لا تدركه أنت، لا تعلمهم ما لا تفهمه ولا تعتقد صحته.
إذا كنت جنديا فلا تصوب بندقيتك إلى عصابة مسلحة بالحق، لا تحارب شعبا يطلب الحرية والاستقلال.
إذا كنت طبيبا فلا تكن شاعرا؛ خشية أن يقال فيك.
ما زار في ضحوة يوم فتى
إلا وفي أصيله رثاه
إذا كنت كاتبا فلا تحرك قلمك إلا لتعزيز الحق على الباطل وطلق الرياء والمجاملة والتدليس طلاقا باتا.
إذا كنت أديبا فلا تترفع عن الأشغال التي تزيدك صحة ونشاطا، واذكر ما قاله كاتب أميركي: الأديب الحقيقي من يحسن الفلاحة كما يحسن الكتابة.
إذا كنت حوذيا فحب خيلك كنفسك وإذا حرن حصانك مرة فدعه يحرن مرتين أو ثلاثة قبل أن تحرك سوطك، واذكر أن تحت الجلد الذي تسيطه خيوطا وعضلات حساسة تشعر بالألم كما يشعر به كل مخلوق حي، فكن شفوقا إذا، ولا تضرب خيلك فترهقها وتهلكها.
إذا كنت فقيرا فلا تحسد الغني وليكن لك تعزية بأنك آمن من تعدي اللصوص وغدر الفوضويين.
وإذا كنت - أيها القارئ - عاقلا حكيما تجد ما يهمك ويفيدك في هذه العظة أو في هذا الجدول، فتش عنه واعمل به ونبه إليه صديقك وجارك، وها أنا ذا أهنئك سلفا وأهديك سلامي.
من على جسر بروكلن
أحبك يا نويرك على ما فيك من حركة وضجيج وازدحام، أحبك على ما فيك من غريب الخزعبلات والأوهام، أحبك وإن كنت لا تحفلين بما يحمله شعراؤك من جميل الأحلام، أحبك لا من أجل ملاهيك الحافلة وحدائقك الزاهرة وصروحك الشامخة ومنتزهاتك الفسيحة الباهرة، ولا من أجل بناتك النشيطات الجميلات أو نساءك المترجلات، بل أحبك من أجل جسرك العظيم فقط، ذلك الجسر الذي يراه المرء في الليل عن بعد وقد أضيء بالأنوار المتنوعة الألوان فيظنه القسطان.
ومحبتي لهذا البناء الحديدي العظيم محبة الصانع لشيء جميل يصنعه، أحبه كأنه ملكي الخاص، أحبه كأنه صنعة يدي، وكلما داهمتني جيوش الهموم واليأس سرت إلى الجسر وحصنت هناك نفسي، هناك أنصب خيامي وبين أبنية المدينتين أرفع علمي، وأجيش من النور والهواء جيشا جرارا فتتبدد أمامه غيوم الغم ويذوب ثلج الأكدار، فأقف إذ ذاك منتصرا والهواء البارد النقي يورد خدي، أقف في منتصف الجسر فوق المراكب والبوارج الجارية تحتي وبين العربات والأرتال المارة عن يميني وشمالي وأتهلل بفوزي المبين - بفوز النفس على الهموم المحدقة - على الرزايا التي تغشيها، لا جرم أن من يقطع الجسر ماشيا كل يوم يستغني في حياته كلها عن الطبيب والكاهن والمحامي - يستغني عن الطبيب لأن الهواء النقي والمشي هما الطبيبان الحقيقيان، يستغني عن الكاهن؛ لأن المشي يساعد على التأمل والتأمل يسمو بصاحبه إلى ما فوق السفليات ويعقد بين خالقه وبينه ذاك الاتحاد الذي تتوق إليه كل نفس بشرية سامية، ويستغني عن المحامي ؛ لأن النفس إذا استجمت كل يوم في نور الشمس وانتعشت من نسيم الصباح وناجت في الفجر خالقها يتولد فيها للخصام كره شديد.
ألوف من الناس يقطعون الجسر كل يوم، ولكن كم هو عدد من يمشون ولا يخاطرون بأنفسهم في الأرتال المزدحمة؟ عددهم أقل من عدد الحكماء في العالم. على الجسر طريق رحبة خاصة بالمشي وطريقان ضيقتان لسكة الحديد والمركبات الكهربائية، وإذا اعتاد جمهور الناس أن يعبر الطرق الضيقة في الحياة ترى الأرتال أبدا مزدحمة وطريق السير الواسعة أبدا مهجورة.
قطعت الجسر ماشيا على عادتي ذات يوم من أيام الشتاء الشديدة الرياح الكثيرة الأمطار، فكم من شخص تظنني صادفت في طريقي؟ رجلا واحدا وبوليسين، أما البوليسان فلا فضل لهما في قيامهن هناك ولكن الشخص الآخر جدد في الرجاء، ما أجمل المطر على الجسر وعلى النهر تحته وما أقبح قعقعة المركبات والأرتال وقد شحن فيها الناس كالمواشي ما أشقى هؤلاء الناس، ما أثمن أوقاتهم وما أرخص حياتهم ما أعظم أشغالهم وما أصغر أعمالهم، هم يخافون على جلودهم من الأمطار ولكنهم لا يخافون على رئاتهم من جراثيم الملاريا والسل. يهربون من الهواء النقي ومن تحت سماء الله الواسعة؛ لأن ذلك تستوجبه التجارة، يكرهون المشي؛ لأنه مضر بأشغالهم فبئس الأرباح ونعم الخسارة، يرى السائر على الجسر أن الطريق الجميلة الرحبة قد خصصت به وبقليل من مثله فإذا مشى هناك يقدر أن يرفع يديه إلى العلا ليمجد خالقه دون أن يسيء إلى أحد، ويقدر أن يتنشق الهواء مليا غير ممزوج بهدروجين البشر.
ولكن لننظر في المسألة من وجه آخر، لو كان كل من يقطعون الجسر حكماء تهمهم صحتهم أكثر من تجارتهم لازدحمت طريق المشي الرحبة وأصبح هواؤها كهواء الأرتال، سبحان من دبر الأمور! فالطرق الفسيحة جميلة لأن عابريها قليلون، لتزدحم الناس مع جراثيم الملاريا والسل إذن وأنا أمشي مع إخواني وإن قل عددهم على طريق الجسر المتنكب عنها وتحت سماء الله.
وفي مثل هذا اليوم وقفت على الجسر بعد الغروب بنصف ساعة وسرحت نظري في مرفأ نويرك الواسع المستدير الجميل، المرفأ الذي لا يخلو دقيقة واحدة في النهار أو في الليل من البواخر والقوارب والمراكب واليخوت. بواخر قافلة وسفن حافلة وقوارب راسية وزوارق تشق العباب ذاهبة جائية، وهناك في جنوب المرفأ ترفع الحرية رأسها قائمة على أركانها لتضيء العالم الجديد بضوء نبراسها، رأيتها تلك الساعة تشعل مصباحها في الوقت الذي ظهر فيه البدر من وراء مدخنة في مدينة بروكلن فخيل لي أن تمثال الحرية محطة للقمر على الأرض يصل إليها نوره فتعكس الأشعة بعد أن تجتمع على وجهها الجميل وتذكر العالم الجديد بثبات هذا الكوكب القديم، فقلت في نفسي: متى يا ترى تصير الحرية مثل هذا القمر فتوقد مصباحها لا في الغرب فقط بل في الشرق وفي الجنوب وفي الشمال - في العالم بأسره.
متى تحولين وجهك نحو الشرق أيتها الحرية؟ متى يمتزج نورك بنور هذا البدر الباهر فيدور معه حول الأرض ويضيء ظلمات كل شعب مظلوم؟ أيتأتى أن يرى المستقبل تمثالا للحرية بجانب الأهرام؟ أيمكن أن نرى لك في بحر الروم مثيلا؟ أممكن أن يولد لك أخوات في الدردنيل وفي بحر الهند وفي خليج الصين؟ أيتها الحرية! متى تدورين مع البدر حول الأرض لتنيري ظلمات الشعوب المقيدة والأمم المستعبدة؟
وأنت أيتها البواخر المقلة إلى أوربا ومصر وعدن والهند منسوجات «نوانكلند» وقطن «ڤرجنيا» وحديد «بنسلفانيا» وقمح «تكساس» وخشب «ڤرمنت» خذي معك إلى بحر الروم وبحر الهند والبحر الأحمر والبحر المتوسط بعض موجات من هذه الأمواج التي تغسل أبدا قدمي تمثال الحرية، خذي معك ولو زجاجة صغيرة من هذا الماء المقدس ورشي منها سواحل مصر وسوريا وفلسطين وأرمينيا والأناضول، وإلى كل جزيرة تمرين بها وكل بلاد تقصدينها وكل شعب تحيي سواريك قباب كنائسه ومآذن جوامعه احملي سلام هذه الآلهة التي تنير الآن طريقك في الخروج من العالم الجديد وتوكل بك ما لها في السماء من شقيقات باهرات.
احملي إلى الشرق شيئا من نشاط الغرب وعودي إلى الغرب بشيء من تقاعد الشرق، احملي إلى الهند بالة من حكمة الأميركان العملية وعودي إلى نويرك ببضعة أكياس من بذور الفلسفة الهندية، اقذفي على مصر وسوريا بفيض من ثمار العلوم الهندسية واقفلي إلى هذه البلاد بفيض من المكارم العربية. أيتها البواخر الآيبة حيي عن جسر بروكلن خرائب تدمر وقلعة بعلبك وأقرئي أهرام مصر سلام هذه المعالم الشاهقة المشعشعة بالكهرباء. سيري أيتها السفن بسلام وارجعي بسلام. •••
وقد شاهدت الآن ثلاثة مناظر عظيمة لا أقدر أن أنساها حياتي، لا أتناساها؛ لأنها عندي أشبه برموز جميلة لدعائم الحياة الروحية الثلاث هي مراحل في رحلتي الفكرية التي باشرتها منذ خمس سنين، أو من حين ولدت، نعم إني طفل في العالم الروحي، إني سائح في مروج النفس وأوديتها. أمامي مسافة طويلة يجب أن أجتازها وتحتي هوة هائلة يجب أن أسبر غورها، وفوقي فضاء غير متناه ينبغي لي أن أتمتع بجماله، وحولي من المروج والجبال والأنهر والبحار ما يشغل معظم وقتي لو عشت ألف عام.
أما المناظر الثلاثة التي تمتع بها طرفي حتى الآن فتركت أثرا عظيما في نفسي فهي لبنان وسواحله من ذروة جبل صنين وباريز على برج إيفل ونويرك في الليل من منتصف جسر بروكلن. فالأول إنما هو رمز الطبيعة، والثاني رمز الفنون الجميلة، والثالث رمز الكد والاجتهاد، وهذي هي دعائم الحياة الروحية الثلاث، فالمنظر الأول صنعة الله، والمنظران الآخران صنعة الإنسان. المنظر الأول أو الطبيعة هو منبع النفحات الإلهية والإلهامات الروحية، والمنظر الثاني أو باريز هو منبع التفنن في الصناعة على الإطلاق، والمنظر الثالث المنبسط أمامي الآن
1
إنما هو عنوان الجهاد والجلد والثبات والنجاح، فإذا كنت أيها القارئ شاعرا أو مصورا أو كاتبا بل لو كنت صباغا أو دباغا أو إسكافا وجه نظرك إلى الطبيعة أولا تستمد منها الإلهام الإلهي وعنها تقتبس الألوان البديعة والمناظر الجميلة والأشكال الأنيقة والنغمات السماوية، وعرج على باريز ثانيا تتعلم منها دقة الصناعة ولطافة الأسلوب وجمال الفنون وغرابة الإبداع وسر الابتكار وانزل على نويرك ثالثا تأخذ منها الاجتهاد والجلادة وتتعلم من أهلها الاستقلال في العمل والثبات بعد الفشل، الطبيعة - التفنن - الاجتهاد - هذي هي أس الأعمال الفكرية، هذي هي دعائم الحياة الروحية.
لبنان - باريز - نويرك - في الأولى روحي وفي الثانية قلبي وفي الثالثة الآن جسدي.
فوق سطوح نويرك
دخلت ذات يوم مصعد إحدى بنايات نويرك الشاهقة فرفعني الخادم في أقل من دقيقة إلى الطابق الأخير منها - الطابق الخامس والعشرين - ومن هناك أخذت أدور صاعدا درجا من الحديد لولبيا حتى وصلت إلى قبة البناية العظيمة، قبة تكاد تختفي بين الغيوم في النهار وتضيع بين النجوم في الليل، قبة ترتفع فوق أبنية نويرك العالية ارتفاع هذه فوق بيوت الفقراء الحقيرة. ومن هناك يشرف المتفرج على مدينة نويرك العظمى وينظر إليها نظرة الطائر، ولكن يجب عليه قبل أن يرى أسواقها المزدحمة أن يطل من حالق على سطوحها المشتبكة بأسلاك البرق والتلفون المغشاة بالدخان المتصاعد من المداخن ومن آلات سكك الحديد الجارية فوق الأسواق.
وبعد أن وقفت في القبة بعيدا عن ضجة الأشغال وحركة التجارة وصياح باعة الجرائد وضوضاء الأرتال والمركبات تنشقت الهواء النقي الذي يندر في البيوت والأسواق، تنشقت منه مقدارا وافرا وسرحت نظري فيما تحتي من السطوح وما فوقها من المداخن التي يتصاعد منها الدخان على الدوام في النهار وفي الليل، فخيل لي أن هذه المداخن أفواه براكين هائلة تنذر بقدوم انفجار عظيم، فكأنها أيادي أولئك المعدنين السوداء مرتفعة نحو السماء ليصرف الله عنهم البلاء، وكأن الدخان المتصاعد من أناملها هو الفائض من دخان الظلمات التي يسكنها المعدنون ويحفرون فيها، ساكتين صابرين.
ألوف من المداخن تنفث في وجه السماء روحها الغازي رافعة إلى الخالق احتجاجها على القائلين بحركة العمل المستمرة، بالحركة الدائمة التي لا يتخللها راحة ولا هدوء. تأملت هذا الدخان مليا ونظرت في تكوينه وأشكاله، في اجتماعه وتبدده، في صعوده وسقوطه، في انسلاله وهجومه، فرأيت هنالك أشباحا وحشية ترتفع تارة وتنخفض أخرى وتهجم على الهواء هجوم الزوابع في الفضاء فكأنها تريد إفساده بنفسها الغازي القتال. هي أمواج بخارية تتلاطم وتنتفخ وتتبدد في الجو، هذه تشبه حية تنساب وتختفي وتلك تشبه جاموسا يشول برأسه وينطح بقرنيه السماء فيعود منهزما مسحوقا متبددا في الفضاء.
أغمض الطرف قليلا وعد معي إلى عالم التجارة والعمل! ألا ترى لتلك الأشباح والهيئات المرعبة أمثالا في الهيئة الاجتماعية، ألا ترى كيف هذا الجاموس في البورص ينطح تلك النعاج الصغار فيقتلها، ومن ثم ينطح خالقه فيقتل نفسه، ألا ترى تلك الحية في الهيئة الاجتماعية تنفث سمها في الإخوان ولا تلبث أن تنفد قوتها المميتة فتتلاشى كما تتلاشى أمواج الدخان. أترى هذه المداخن فوق هذه السطوح؟ لينفذ بصرك في الضباب المتصاعد منها فترى ما ورائها من الشقاء والبلاء، من الويل واللأواء.
إن وراء هذه المداخن وإن شئت فقل تحتها ألوفا من الأرواح البشرية التي تضرب بالمعاول تحت الأرض اثنتي عشرة ساعة كل يوم؛ فالدخان هو روح الفحم الذي يحترق في الألوف من الأكوار والمواقد والأتن. ومع الفحم أيضا تحترق أرواح أولئك الرجال والأولاد الذين يعدنون في ظلمة قتالة لا يدخلها الهواء ولا النور ولا الماء إلا بالطرائق الصناعية، فهم يستخرجون الفحم وهم يحملونه إلى الأرتال التي تنقله إلى المدن والقرى، هو عملهم المقدس الذي يحترق الآن أمامك ويذهب أدراج الرياح، نعم إن نتيجة عملهم للعالم عظيمة ولكنها لأنفسهم عقيمة، هي كالدخان الذي يتبدد الآن تحت عينيك.
لا بد لنا من الفحم في الوقت الحاضر، ولكن أيبطل في المستقبل استعماله؟ إن كثيرا من البيوت الآن تستعيض عنه بالغاز للطبخ وللدفاء وبعض شركات السكك الحديدية تستخدم عوضه الكهرباء، نعم قد تنفد المعادن يوما من الأيام فيحرر المعدنون من العبودية التي لا مثيل لها حتى في العبوديات القديمة - العبوديات التي أبطلت بحد السيف وسفكت من أجلها دماء الأحرار.
لا يمضي شهر إلا ويحدث في معادن الفحم في هذه البلاد وفي غيرها كوارث تقضي على مئات وألوف من المعدنين بالموت السريع، فكم مرة انهالت الأرض على أولئك المستعبدين وهم على أشغالهم تحتها مكبون قانعون فأيمت ألوفا من النساء ويتمت ألوفا من البنين، فضلا عن استخراج الفحم فإنه تمثال الموت التدريجي البطيء، فكل معدن يموت بحكم الطبع منتحرا؛ إذ ليس الانتحار محصورا بتجرع السم وباستنشاق الغاز وبإطلاق المسدس، لا، الرجل الذي يضطر أن يشتغل مع بنيه الصغار تحت الأرض فيحرم الهواء النقي والنور وجمال الفضاء لا يموت أبدا موتا طبيعيا، والهيئة الاجتماعية التي لا تقوم إلا بشقاء فئة من بنيها هي هيئة مظلمة مختلة، هي هيئة فاسدة تفتقر إلى كثير من الإصلاح والتعديل والتحسين. قد تقدمنا على ما يزعم بعضهم في الحضارة والتمدن، وقد حررنا على ما نعلم العبيد وأطلقنا الحرية في بلاد الغرب لكل امرئ، فقيرا كان أو غنيا، ولكن العبودية الجديدة تظهر في مظاهر مختلفة وأثواب غريبة. فماذا ينفع السجين قولك له: أنت حر، ماذا ينفعه تغيير ثوبه المخطط بثوب الرجال الأحرار إذا ظل راسفا في سلاسل الحديد مسجونا في غرفته المظلمة.
قد تغيرت القيود وتنوعت السلاسل واستبدل النخاسون بغيرهم، تعددت الأسباب والموت واحد، إن في الولايات المتحدة من العبوديات أنواعا وأشكالا، فهاك العبودية في المعادن، والعبودية في آبار الغاز، والعبودية في معامل الأنسجة، وفي عالم العمل على الإطلاق، فمتى يا ترى يتحرر الإنسان حقا، وتشمل السعادة والراحة كل أسرة بشرية.
كفانا تأملا في المعادن والمداخن والدخان، لنعد إلى عالم التجارة لنسقط إلى ساحة الجلبة والحركة والضوضاء، ها قد صرت في الشارع أسمع باعة الجرائد ينادون على جرائدهم: أخبار أخيرة! أخبار مهمة! فابتعت نسخة من جريدة المساء وعدت إلى البيت تحت ضباب الفكر وبين دخان النفس ولهيبها، فجلست إلى الكانون وقرأت الخبر الآتي:
اضطراب هائل في البورص وسقوط عظيم في الأسهم! قد بلغت الخسارة في ساعة واحدة خمسين مليون دولار بسبب سقوط الأسعار الفجائي.
خمسون مليون دولار تخسر وتكسب في هنيهة من الزمن وألوف من المعدنين يضربون بالمعاول عشر ساعات في النهار ويخاطرون بأرواحهم وأرواح بنيهم في الظلمات الكالحة تحت الأرض من أجل دولار أو دولارين! ما أجمل هذا العالم يا صاح، وما ألطف هذا التمدن الحديث الذي يأتينا في كل شارقة وبارقة بمثل هذه الغرائب الخارقة.
وفي مثل هذا اليوم طابت جهنم
بيت حقير صغير، بارد قاتم، لا نور فيه غير نور شمعة ضئيل وما يدخله من نور الكهرباء في الشارع، وكانون فارغ يصفر فيه الهواء الآتي في المدخنة من السطح، وامرأة فقيرة تنتظر رجوع زوجها من المعمل، وطفل مريض يئن من الألم ويرتعش من البرد.
ونحن الآن في أقسى شتاء رآه الزمان.
أسواق المدينة مغطاة بالثلج والأرصفة مغشاة بصفحات رقيقة من الجليد ومياه الأنهر جامدة مجلدة وأنابيب الماء والغاز متفجرة، والنور منقطع عن البيوت والمساكن والمعدنون مضربون عن العمل، وأصحاب المعادن لا يبيعون من الفحم إلا القليل، وشركات الاحتكار ترفع الأسعار أضعافا وتقفل مخازنها في وجه الأمة.
وهذا أشد البلاء على الإنسان.
امرأة فقيرة ترتعش من البرد بالقرب من سرير طفلها المريض وقد بعثت بابنها إلى المخزن بآخر فلس معها لتبتاع رطلا من الفحم حبا بهذا الطفل الذي يموت دنقا فعاد الولد سريعا ورمى السطل الفارغ إلى الأرض لاعنا شركات الفحم الاحتكارية ونافخا في يديه المرتجفتين ليدفئهما «لا فحم للبيع يا أماه لا فحم للبيع البتة» وتقدم نحو الموقد البارد وصفعه برجله قائلا: «نعم ما كنت عليه أمس وبئس ما أنت عليه اليوم كنا في الأمس نحصل على رطل الفحم يا أماه ولو بنصف مياومتي، وأما اليوم فعلى الفحم السلام، وأصحاب المخازن لا يكلفون أنفسهم الكلام على الأقل، فترينهم جالسين على كراسيهم ينعسون أو يدخنون رافعين رجليهم فوق مكاتبهم غير مكترثين للنساء والأولاد والرجال الواقفين تحت الثلج وفي القر والزمهرير والسطول الفارغة بأيديهم، وعوضا من أن يكلموهم بالإحسان يعلقون رقعة على الباب مطبوع عليها بأحرف كبيرة: (لا فحم اليوم للبيع) أود - والله - لو وضعت أناملي هذه حول عنق أحدهم.» - لا بأس يا بني فالحالة هذه لا تدوم.
وعند ذلك دخل الرجل بيته عائدا من المعمل، فنفض عن قبعته وثيابه الثلج وجلس على كرسي بالقرب من نور الشمعة وأخرج من جيبه جريدة المساء وتصفحها دون أن يكلم زوجته أو أن يتفقد طفله، تصفحها غائصا في أخبار المعدنين وأصحاب المعادن ثم خاطب زوجته قائلا: «إليك هذا الخبر، قد أصر المعدنون على مطالبهم واتحد أصحاب المعادن المتمولون اتحادا يمكنهم من إمساك الفحم عن الأمة هذا الشتاء برمته، وماهذا - اسمعي - وهو لم يزل يقلب صفحات الجريدة، قد ارتفعت أسعار الفحم ستة أضعاف، ورمى إذ ذاك بالجريدة إلى الأرض قائلا بصوت منخفض بطيء: وقد أقفل المعمل أبوابه إلى أجل غير مسمى لقلة الفحم وارتفاع أسعاره، فيجب علي أن أبكر غدا لأبحث عن عمل جديد فما قولك - لا بأس، لا بأس يا حبيبتي، الصبر جميل، وضمها إلى صدره وتقدم نحو سرير الطفل المريض، وبعد أن تفقده وقبله عاد فجلس حول المائدة مع زوجته وابنه فأكلوا قليلا وهم تارة يفركون أيديهم وطورا يخبطون بأرجلهم على الأرض مرتعشين مرتجفين، والطفل يئن من الألم والبرد، وفي أثناء ذلك كان الثلج يتراكم على أسكفة الشباك والزجاج المغشى بالصقيع يقرقع من شدة الرياح، والعواصف في الخارج تنفخ في الثلج على الأرض فتنثره في الفضاء والهواء ينفخ في المدخنة على السطح فيصفر في القاعة من الكانون الفارغ البارد. فوا أسفاه! عوضا من أن يخرج من المداخن الدخان في مثل هذا الوقت يخرج منها صدى صريخ الأولاد وتأوهات النساء ولعنات الرجال، ويسقط فيها هواء الشتاء البارد فيملأ البيوت ويقتل الأطفال.
قلت ليقتل الأطفال، وليس في القول شيء من الغلو، فاسمع! قد اشتد أنين الطفل في سريره فأسرعت الأم إليه وجست نبضه وعضت على شفتها ونادت زوجها وولدها، ثم دثرته سريعا بالصوف ووضعته في حجرها وطفقت تقبله، ولكن الطفل بارد كالثلج وجامد كحديد سريره، لا الصوف ولا حرارة قبلات أمه تعيد إليه الحياة.
نعم قد مات الطفل من الزمهرير، مات لأن الكانون بارد، مات لأن سطل الفحم فارغ، مات لأن قلوب أصحاب المعادن والتجار خالية من الرحمة والحنان.
ومات مثله كثير من الأطفال في هذا الشتاء أيها القارئ. إن في ضواحي المدينة صفوفا من العجلات المملوءة فحما، صفوفا ممتدة إلى مسافة عشرين وثلاثين ميلا، إن في خارج المدينة ألوفا من قناطير الفحم موقفة محجوزة، ألوفا من القناطير المكدسة المحبوسة عن الشعب، وفي داخل المدينة ألوفا من العيال تكاد تهلك من الصر والقر.
الناس تصرخ: «أعطونا فحما، أعطونا فحما» وأصحاب المعادن وشركات الاحتكار يصدرون أوامرهم بتوقيف البيع إلى أن يعود المعدنون إلى المعادن. وهكذا يحارب أرباب المال رجال العمل، هكذا تقتل شركات الاحتكار الأولاد والأطفال تعزيزا لأوامرها وتنفيذا لمآربها، هكذا يضايق القوي الضعيف في كل مكان. أفلا يجدر بالفقراء في هذا الشتاء التمثل بالشاعر العربي إذ قال:
أيا رب إن البرد أصبح كالحا
وأنت بحالي يا إلهي أعلم
فإن كنت يوما في جهنم مدخلي
ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم
وأي جحيم أشد شقاء وأكبر بلاء من الجحيم الذي يعده المتمول للشعب، متواطئا مع الشرع الجليل، ومستخدما قوة الحكومة لتنفيذ أغراضه وتحقيق مطامعه.
وأما في هذه الجمهورية الحرة المستقلة التي يقال إن العدل والمساواة فيها سائدان فكم فيها من رجل يشمخ بأنفه على الشعب، ويحتقر ممثليه، ويستخف بالصحافة، ويزدري السياسيين، ويضحك في وجه رئيس الأمة ضحكة الخداع والاحتقار، كم فيها من رجال لا يهمهم برد الفقراء أو دفئوا، ماتوا أو عاشوا، فإذا نفد الفحم من العالم يحرقون من مالهم بعض القراطيس ويظل الواحد منهم دافئا غنيا، نعم إن الواحد من هؤلاء المتمولين يستطيع أن يرفع بيده اليمنى سعر قنطار الفحم إلى الخمسة وعشرين دولارا ويوزع باليسرى مائة ألف قنطار مجانا على الفقراء وكل ذلك بجرة قلم فقط. أهذي هي الحكومة الديمقراطية التي أسست لتعميم المساواة بين الناس؟ أية شرائع مكنت هؤلاء الرجال من عملهم وساعدتهم على احتكار ضروريات الحياة والاستبداد بالعباد.
فمن المقرر أن أصحاب العزم والحزم من الرجال لا يبلغون ثلث ما يتوخونه إذا عاكستهم الحكومة، والشريعة التي تساعدهم على جمع الثروة وحصر ضروريات الحياة ترمي في آن واحد ملايين من الفقراء في حالة تحزن الصدور وتثير الهموم، الحكومة التي تساعد هؤلاء المتمولين العظام تصبح أخيرا عاجزة عن كبح جماحهم، «إن الحية التي تربيها تنفث عليك السم من فيها.»
نعم إن الحرية تساعد - في هذه البلاد - أعداءها على بنيها، نعم إن الجمهورية الآن تساعد المتمول ليظلم بماله كما كانت الملكية تساعد المتوظف ليظلم بنفوذه، وقد قال أحد الفرنسيس الحكماء ما معناه: قد تسقط الملكيات من فقر شعبها وقد تسقط الجمهوريات من غنى أفرادها، ولا تظن أنك راتع في هذه البلاد بظل الحرية والاستقلال وأنك عائش تحت سماء العدل والمساواة، لا، فهذه كلها اليوم اسم بلا مسمى، هذه أمور لا تشعر بعدم وجودها إلا متى طلبتها مضطرا، اطلبها إذا وأنا الكفيل بأنك لا تجدها، فأسرج سريعا وألجم إن الشتاء كالح والليل دامس، والطريق وعرة والمسافة بعيدة.
والدهر بالناس قلب
إن دان يوما لشخص
ففي غد يتغلب
التمدن الحديث
إن مدينتنا الحاضرة ثابتة الدعائم راسخة الأقدام، وليس في العالم الآن من قبائل البرابرة ما هو كاف ليغزو بلادنا ويهدم - في شهر واحد - ما شيدناه في قرون، وإذا كان هنالك بعض القبائل فقواتهم المتحدة لا تضاهي نصف قوة أصغر مملكة أوربية. من أين تجيء إذا قبائل الهون والفندال ليدمروا ما شيده التمدن الحديث من معاقل الحضارة؟
قال هذا القول المؤرخ الإنكليزي جبن وأقر عليه الكاتب سميث، ولكن ما هي يا ترى فضائل تمدننا الحديث التي يرجى ثباتها وتعزيزها، هل هي في الحكومات الملكية أو الجمهورية التي لم تزل تسن شرائعها مميزة بين القوي والضعيف، بين الغني والفقير. هل هي في المحاكم التي يفسد فيها المال ضمير القضاة، هل هي في الشركات الاحتكارية التي لا تضاعف خيرات الأرض إلا لتخزنها وتضاعف أثمانها.
هل هي في القوانين السياسية الجديدة التي لا تعزز إلا بقوة السلاح، هل هي في الجند الاحتياطي الذي يعيش من مال الأمة فيضاعف الضرائب ويرهق الشعب، هل هي في الجهل الذي لم يزل يحارب الحرية بترس الخرافة بعد أن كسر سيف الاضطهاد، هل هي في أوضاعنا العصرية التي تؤثر العرض على الجوهر وترفع الاحتيال على الصدق، وتقدم الجربذة على الذكاء الحقيقي والسياسة على العلم والجمال على الحقيقة والمال على العدل. هل هي في أدوات الحرب التي تتكاثر وتتنوع كلما حدثت حرب جديدة في العالم، هل هي في الحروب التي تشهرها الدول الأوروبية المسيحية على شعوب آمنة ضعيفة إكراما لشركة تجارية أو لحزب سياسي أو لوزير يفادي من أجل شهرته بصوالح الأمة ومجدها.
هل هي في الآداب العامة التي لم تزل اليوم على نحو ما كانت على عهد قياصرة الرومان، هل هي في الكليات التي تخضع أساتذة الفلسفة فيها لإرادة المتمولين الذين يديرون سياستها فلا يدرسون فيها من العلوم الاجتماعية الجديدة ما كان مضرا بأغراض ذوي الثروة والسيادة، هل هي في الصحافة التي تزين الشر والرذيلة في عيون القراء بنشرها الفصول الطويلة والصور الغريبة ممثلة فيها من يرتكبون أفظع الذنوب ويقترفون أكبر الآثام. ما هي فضائل هذا التمدن المؤسس على الطمع وحب المال والاستئثار، التمدن الذي تسن أرباب المال شرائعه فتنفذها سماسرة البورص، ويبشر بها أصحاب المعامل وينشرها وزراء الحربية بالمدافع والمدرعات.
ما هو أساس تمدن أهل الغرب إذا لم يكن التجارة والاستئثار، إن روح التجارة الخبيث منبثة في دوائرهم الاجتماعية والمدنية والدينية والأدبية، فمن أجل التجارة ينفخون روح حضارتهم في الشرق، ومن أجل التجارة يشيدون المدارس، ومن أجل التجارة يشهرون الحروب على الشعوب الضعيفة، ثم يظهرون أمامها بمظهر الصداقة والمحبة والإحسان. ومن أجل التجارة يبشرون بالإنجيل ويتحابون، ومن أجل التجارة يطبعون الكتب والمجلات، فالتمدن عندهم هو التمول والسلام.
بشر فلاسفة الجيل الثامن عشر بالإخاء والحرية والمساواة، ونهض تلاميذهم السياسيون فطالبوا بهذه الحقوق وسل الشعب سيفه على الملوك في أكثر ممالك أوربا تنفيذا لمطالبه فحدث ما حدث من الثورات والفتن في آخر الجيل الثامن عشر ونصف الجيل الأخير. وماذا كانت النتيجة، هل تتوجت الحرية، هل شملت المساواة الناس، هل توارت اختلافات الأمم وتلاشت الضغائن وحزازات الصدور؟ ألق حولك رائد الطرف أيها القارئ حيثما يممت وأجبني بالإيجاب إن استطعت، أعلنت الأمة الأميركية استقلالها سنة 1776 وها قد مر عليها الآن مائة وثلاثون سنة وهي لم تزل بعيدة عن الاستقلال بعدها عن المملكة التي حاربتها وخلعت نيرها أيام الاستعمار، نعم قد استقلت عن ملك متوج ولكنها وقعت في قبضة ملوك لا تلبس التيجان.
تأمل هؤلاء العملة الفقراء الذين يطلبون من أصحاب المعامل زيادة أجورهم كي يستطيعوا القيام بمعاشهم ومعاش عيالهم، فإن كل ذي عقل يفكر وقلب يشعر يرى صحة دعوى العملة واعتدال مطالبهم. فالشعب والصحافة والسياسيون وأرباب الدين يشعرون شعورهم ويتمنون لهم الفوز ولكن هل يصغي أصحاب الشركات لصوت الشعب؟ قد تألفت الجمعيات وأنشئت اللجان وعقدت المؤتمرات لحسم الخلاف بين العمال وأرباب المال فكانت النتيجة سدى، وذهب العناء أدراج الرياح.
دعا مرة رئيس الولايات المتحدة أصحاب المعادن وسألهم أن يتساهلوا مع عمالهم ولو من باب المجاملة فرفضوا، قام أرباب الدين وكرروا رجاء الرئيس فرفضوا، قامت الصحافة فسألت ورجت والتمست وتهددت وأنذرت والمتمولون على عنادهم مصرون. قامت الأمة من أقاصي الغرب إلى أقاصي الشرق تطلب إقامة الحدود وأصحابنا جبابرة المال أصم من أبي الهول. فما هو استبداد حكومة جورج الثالث بالنسبة إلى هذا العناد والتكبر والطغيان والتجبر؟
يقولون: إن الاعوجاج في الجمهوريات يتقوم بالاقتراع. فنقول لهم: إن كل صوت كبيرا كان صاحبه أو صغيرا يشترى ويباع بالدولار، فأكثر الأميركيين مثلا لا يقترعون إلا لمن يزيد في أصواتهم. وهذه من مظاهر التمدن الحديث التي نود أن لا تدوم. يقولون: إن الحرية الشخصية مطلقة لكل فرد في الحكومات الحرة المستقلة. وما جوابنا لهم إلا أن الجرائم الفظيعة التي تحدث بالعشرات كل يوم في المدن الكبرى ليست إلا بعض نتائج تلك الحرية، فالتسميم والقتل والطلاق التي تزداد حوادثها يوما فيوما كلها من مظاهر التمدن الحديث الموهوم.
أما الإخاء فكلمة لا معنى لها إلا في معجمات اللغة، فالتمدن الحديث يولد في كل فرد عاطفة الكبرياء والأنفة والأثرة والخشونة، ورجال المغرب لا يقتربون من أحد إلا إذا كان لهم منه منفعة شخصية. فأين الألفة وأين الإخاء وأين الضيافة وأين الولاء؟ سفكت دماء الملايين من الناس في الفتن الأوروبية العديدة وما أثمرت هذه الدماء المهدورة ثمارا توازي تلك النفوس البشرية؛ إذ إننا لم نزل - سياسيا وأدبيا واجتماعيا - في الموضع الذي وجد فيه الناس والحكومات قبل الثورات، لم نتقدم إلا في العقول فقط، وما سوى ذلك فلا اعتراض عندي على تدميره.
وقد فات الفيلسوفان اللذان نقلنا عنهما العبارة السابقة أن هذا التمدن الناشئ بين الكنائس والمكاتب والملاهي والمتاحف والقصور والمشيد على المال والتجارة والظلم والاستئثار لا يولد إلا الرذيلة والجهل. ومن الجهل والرذيلة يتألف جيش بربري عرمرم ليست جيوش آتيلا وتيمور لنك وجنكيس خان بالنسبة إليه بشيء. وإذا زحف جيش الجهل والرذيلة على معاقل تمدننا الزاهر الباهي يجعل عاليها سافلها كأن لم تغن بالأمس. وقصارى القول: إن الخطر على تمدننا الكاذب هو من الداخل لا من الخارج، هو من أنفسنا لا من الأعاجم البرابرة.
الفقر وبنوه
التمدن الذي يقضي على الأولاد أن يباكروا بكور الزاجر ليذهبوا إلى المعمل لا إلى المدرسة هو تمدن ناقص الجهاز مختل النظام. والهيئة الاجتماعية التي يحرم فيها ابن الفقير التهذيب هي هيئة فاسدة يعزز فيها صالح أهل السعة وتهمل حقوق بني الفاقة. والحكومة التي تتغاضى عن الآباء الفقراء الذين يشغلون أولادهم في المعامل طمعا بأجورهم الزهيدة هي حكومة معوجة، تحتاج إلى نواب عادلين حكماء منزهين يسنون لها شرائع قويمة وقوانين رادعة، تحتاج إلى رئيس خبير بأمراض الأمة ينبه مجلسيه «أي الشيوخ والنواب» من حين إلى آخر ويحرضهما على سن مثل هذه الشرائع. تحتاج إلى صحافة حرة عادلة مجردة عن المطامع الذاتية لتطالب بها حينما تهمل، لتحتج وتعترض حينما تداس، لتذب عنها حينما يحاول إفسادها ذوو المآرب.
وقد يقال إن الآباء الفقراء وخصوصا المعيلين منهم يحتاجون إلى أجور أولادهم، ولا يكون العيال غالبا إلا بين طبقات الشعب الوسطى وبين بني العيلة والفقر. أجل إن المتكئين على وسائد الريش، المتسربلين بالخز والحرير، الخارجين من بيوتهم في المركبات، السائرين إلى الحدائق في السيارات؛ أولئك يعرفون كيف يقاتل الأعيال وكيف ينقرض النسل وتقتل الأطفال، أولئك يميتون الأنفس في الجنين مع توفر المال لديهم وذوو العيلة يتكاثرون وإن ضاقت بهم الأسباب.
إي والله، إن جاز للإنسان قتل نفس في الجنين فالفقير بهذا الترخص أولى، فالفقر يضاعف بنيه والحكومة لا تنشئ نزلا مجانية في جانب المدارس العمومية؛ ولذلك ينهك الأحداث في المعامل قواهم فتقبض أنفسهم صغارا ويفقدون الحزم والعزم كبارا، ويشبون جهلة أشقياء لا يعرفون من سنن الحياة إلا التمرد والعصيان. أفلا تخاف الحكومة على نفسها من أولئك المستعبدين صغارا الثائرين كبارا، لتكفل لآبائهم إذا معايشهم لتنشل الصبيان من عبودية الأشغال الشاقة، لتنشئ نزلا مجانية في جانب المدارس العمومية فلا تموت إذ ذاك في المعامل الآمال ولا تعدم الأمة في المستقبل أولئك الرجال.
وليس الذنب على الآباء الذين يكرهون أولادهم على العمل عوضا من أن يكرهوهم على العلم، فهناك أحوال ترمي بالناس إلى هوة الفقر وهم لا يعلمون، ولكن التعميم يضلل فرب أناس تؤاتيهم الفرصة ولا يغتنمونها، أو أنهم يرونها بعيدة عنهم فلا يتبعونها، أو أنهم ينظرونها ولا يجدون من يساعدهم على الظفر بها. كم من فقير لا يستطيع المحامي أن يبرئه في محكمة العدل، وكم من محاويج جلبوا على أنفسهم الفاقة وما يليها من البؤس واليأس والشقاء والبلاء. نعم، الفقر يولد الجهل والرذيلة والأمراض، الفقر يوجد البغض والحسد والخصومات، الفقر يقتل المحبة والرجاء والآمال ويذهب بالأبوة وعزة النفس والجمال. هذا إذا استثنينا أفرادا ينجحون على رغم أنف الفاقة المحدقة بهم، وأكثر هؤلاء هم من الحكماء والعلماء والفلاسفة والشعراء.
أناس خصوا في البدء بنصيب وافر من العقل فعاشوا راضين بأفكارهم وعلومهم وتصوراتهم، وفقر الفيلسوف هو غير فقر الجاهل هو غير الفقر الذي يبعد الصبيان عن العلم والنور ويرميهم بين الألوف من أمثالهم في المعامل، هو غير الفقر الذي يضل النفس ويضعف العقل ويعمي القلب، هو غير الفقر الذي يشوه الخلق والخلق ويذهب بالآمال ويغير طبائع الرجال. نعم إن مثل هذه الفقر لحليف الجهل وأليف القذارة ورسول الفوضى، ولكن ما هو يا ترى سبب الفقر؟ هي مسألة أقدم من يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الذي خدع حماه ليكثر غنمه فيجر من ذلك مغنما، نعم هي مسألة قديمة ولكنها تظل جديدة؛ لأنها لا تحل ما زالت الأحكام في أيدي ذوي المآرب والأغراض الذاتية، لا تحل ما زال من يستطيعون حلها بعيدين عن مجالس الأمم التي تسن فيها الشرائع والقوانين. لا شك أن كتابات تولستوي تسر الملايين وتسليهم - إذا لم نقل تفيدهم وتهذبهم أيضا - ومن جملة المعجبين بهذا الرجل العظيم كثيرون من النواب والموظفين في روسيا.
ولكن لو انتخب تولستوي ليجلس مع المتشرعين ونهض ليقترح على المجلس سن شريعة فيها صيانة حقوق الجمهور لا حقوق الأفراد فقط، لو نهض ليقرأ على زملائه فصلا من إحدى رواياته أو مقالة من مقالاته العديدة في المواضيع السياسية والعمرانية، وسألهم العمل بما جاء فيها؛ فماذا تراهم يفعلون، ألا تظنهم يضحكون في وجهه ويعاملونه كما عومل غونبلاين بطل رواية فكتور هوغو المعروفة بالرجل الضاحك لما وقف في مجلس الأعيان في بلاد الإنكليز ليدافع عن الفقراء والبؤساء ويطلب من زملائه النظر في حالتهم المحزنة؟ نعم هذا يكون جزاء من يطلب من مجالس الأمم مراعاة حقوق الملايين من أحلاف الفقر والظلمة والشقاء.
يقرأ المتشرع روايات تولستوي بجانب موقده فيلتذ بها ويعجب بكاتبها، ولكنه يسخر بمبادئها في مجلس الأمة، ويندد بتعاليمها في البلاط الملكي، ولماذا؟ لأنه لا ينتخب ثانية لمنصبه إذا تظاهر بمثل هذه المبادئ، لا ينتخب ثانية إذا قال: يجب علينا أن نسن شرائع للغني وللفقير بدون تمييز وتفضيل. وكم من المصلحين يتشدقون وهم عن مجلس الأمة بعيدون، وكم من الكتاب يتغنون بندبهم حظ الفقراء والبؤساء. ولكن لينتخبوا أولئك إلى مجلس التشريع فينبذون مبادئهم ظهريا قبل أن يدخلوا الباب، ويجلسون هنالك مع بقية الأعضاء ويقترعون مع الأكثرية وهم ساكتون.
إن خيرات الأرض تكفي سكانها إذا وزعت توزيعا عادلا على الجميع، القمح الذي يزرع في الولايات المتحدة سنويا يقوم بقوت سكان الأرض كافة، وهذه حقيقة راهنة، فقد قرأت مقالة في كيفية تربية الماشية في إحدى المجلات الأميركية، جاء فيها: أن الولايات المتحدة تذبح سنويا ثلاثين مليون رأس من البقر، فإذا قسمنا هذا المقدار على سكان الولايات المتحدة فقط تكون حصة كل شخصين رأسا واحدا من البقر فيه أكثر من أربعمائة رطل إنكليزي من اللحم. فهل يحتاج الواحد منا أكثر من رطل لحم كل يوم؟! وقال كاتب المقالة: إن هذه البلاد المترامية الأطراف فيها بقاع من الأرض غامرة غير آهلة تصلح للمرعى فلو عنيت بها الحكومة لتمكنت من تربية أضعاف ما يربى فيها الآن من الماشية.
ولكن مع وجود هذا القدر الوافر من القمح ومن اللحم لا يزال المتسولون والبائسون يطوفون أسواق المدن الكبرى، وكثيرا ما يموتون جوعا، ولا يزال الملايين من الفقراء عاجزين عن ابتياع اللحم كل يوم. فأين الزائد من اللحم ومن القمح إذا؟ هي مسألة بسيطة، أن شركات الاحتكار تشحن الزائد إلى الخارج لتضاعف أرباحها، هناك القمح مجموع بالقناطير، هناك جبال من الدقيق تطلب من يأخذها ويوزعها خبزا على العالم، وهنا ألوف وملايين من المساكين يشترون رغيف الخبز بدمهم ودم بنيهم الصغار. قمحا ينتظر الطاحن، وطحينا يلتمس الخباز، والألوف من البشر يطلبون خبزا والمحتكرون يقولون لا، ولماذا؟ لأن الأسعار هابطة ولا ربح في البيع للأفراد المحتكرين.
وأما النتيجة، نتيجة هذا الاحتكار على الفقراء، فلا حاجة إلى وصفها، ولا نريد أن نهول بقبحها أمام القارئ ونخيفه، ولكن الحالة هذه لا تدوم. إن البورص هو السد المنيع بين مخازن الاحتكار وبين الشعب، بين البائع والشاري، ولكن متى جاء الفيضان فلا يجدي ذاك السد نفعا، نقيم السدود متى كان الماء وشلا أو غزيرا، نبنيها لنزيد كمية الماء أو لنمنع فيضانها على الأرض المجاورة، ولكن متى جاء الطوفان وفاضت الأنهار ماذا تجدي السدود الصناعية؟
أتقف اختراعات الإنسان في وجه الطبيعة وقواتها؟ أيقدر السمسار في البورص أو محتكر القمح مثلا أن يسكن الهياج متى هبت الأعاصير؟ إذا كانت خيرات العالم غزيرة، ألا يجب أن تسود القناعة والسعادة في جميع البشر؟ ألا يجب أن يكون الكل على مبلغ الكفاية؟ أي: متى يستريح الأفراد من التخمة ويأمن الجمهور من الجوع؟ كم يموت من الممتولين بالانتفاخ وكم يموت من المساكين بالانقباض؟ ومتى - يا رب - تتساوى الأعضاء وتتوازن فتظهر على الهيئة الاجتماعية علائم الجمال ودلائل الكمال؟ لا أظن ذاك اليوم يراني ويراك أيها القارئ، ولكنني أؤكد أنه آت وكل آت قريب.
الضجيج والضوضى
قالت أشجار الغابة لأشجار البستان: لماذا لا نسمع لأغصانك حفيفا؟ فأجابت: لأنني أستغني عن ذلك بنمو ثماري التي تشهد لي. ثم سألت أشجار الغابة قائلة: ولماذا نسمع لأغصانك هذا الصوت القوي؟ فأجابت أشجار الغابة: لكي يشعر الناس بوجودي.
التلمود
كتبت إحدى الجرائد الأميركية فصلا في مزمار الكنيسة وقيثارها، وقالت: إن العبادة قائمة بالجلال والجمال والاحتيال، والحق بجانب كاتبها؛ إذ إن حياته وحياة جريدته وحياة أكثر الناس إنما تقوم بالتشدق والتبجح، بالضجيج والضوضى، بالزخرف والاحتيال، بالتصنع والتمويه، قال أبو العلاء المعري:
والغيث أهنأ ما تراه عطية
ما لم يحث بوارقا ورعودا
والحكماء الذين يرتأون رأي أبي العلاء ويقولون قول أشجار البستان في التلمود يعدون على الأصابع؛ فهم - والحال هذه - لا يجدون الكنيسة والصحافة نفعا. لا سكينة إلا في القبر، والضوضى حياة العالم. كيف لا يكون منشئ الجريدة مصيبا بانتقاده إذا ومعذورا بتهلله، وكيف لا يتأثر المتدينون من كلامه العنيف، فقد شن أحدهم عليه الغارة مسلحا بأقوال الرسل الأبرار وخرج بالتوراة على الطبل والزمر والقياثر، فمن وجه نرى في حجة المعارض بعض القوة؛ لأنها تتضمن إقرارا خفيا بأن الديانة المسيحية على حالتها الحاضرة وبزياداتها وطقوسها هي غير الديانة التي وضعها المخلص.
وبعبارة ثانية هي أكثر مما وضعه بدرجات، ومن وجه آخر نستصوب انتقاد صاحب الجريدة؛ لأننا مهما سمونا بالنظريات نظل أبدا محاطين بالحقيقة المؤلمة التي تنبئنا عن ميل الجنس البشري إلى كل ما فيه تصنع وزخرفة وجمال، وقرقعة وضجيج واحتيال. والإنسان من طبعه حب الهياج والطرب والانبساط، فهو يعنى ببطنه أولا، ثم بقلبه، ثم بعقله. وإذا شئت أن تستميل عقول أكثر الناس فلا تقوى على ذلك إلا بواسطة بطونهم أو قلوبهم. أما الجدل الفلسفي والبرهان المنطقي فلا يجديانك في البدء نفعا. يجب أن تخاطب بطن الشعب وقلبه قبل أن تخاطب عقله، والمتدينون اليوم لا يختلفون إلى الكنيسة إلا إذا كان هناك شيء يطرب ويلذ. وأما فصاحة الواعظ ولاهوته وعلمه الراسخ في ألوهية المسيح وناسوته؛ فتلك أمور قد درج يومها ومضى زمانها وذهب العلم بعزها.
نحن في مرسح كبير يدعى العالم وبنو البشر كلهم ممثلون، وأذكر أن شكسبير قال هذا قبلي وقد يكون فكري ابن فكره، ولكن ذلك قلما يهم. العالم مرسح كبير، أتحب أن تغص بيعتك بالناس أيها الكاهن، أتريد أن تعقد جلسة سياسية أيها الخطيب، أتود أن تقترح على الشعب اقتراحا مفيدا أيها السياسي. أتريدون أن تجمعوا حولكم من الرجال رهطا كبيرا ومن النساء جمعا غفيرا؟ فما لكم إلا أن تعلنوا عن أجواقكم الكبيرة الشهيرة من موسيقيين ومغنين وممثلين، فيجيئكم الناس زرافات وأفواجا، ويلتقفون المقاعد التقافا، ويزدحمون على الدكات، ويحشرون في الزوايا. فتمثل إذ ذاك أمامهم الرواية فتميد من الجلبة والضوضى البناية. ثم يقوم الخطباء وينتهز الفرصة الفصحاء فيقترحون اقتراحاتهم العديدة ويبدون آرائهم السديدة وتميل قلوب الجمع معهم كيفما مالوا، وتختم الرواية بالهتاف والضجيج وقد فتحت بالصريخ والضوضى. فبئس البداية وبئس النهاية.
ولكن أعلن في الجرائد أن الأستاذ الفلاني سيخطب في ليلة كذا في اكتشاف سيارة جديدة مثلا، أو الشاعر الفلاني الشهير سيفيض في موضوع الشعر والعصر في يوم كذا. وانظر كم يكون في القاعة من الناس لاستماع خطاب الشاعر أو الفلكي. إن جلستنا هذه هادئة لا جلبة فيها ولا ضجيج، إنها لجلسة بسيطة، جلسة علمية أو شعرية لا طبل ولا زمر فيها، لا موسيقى ولا مغنين؛ ولذاك لا يحضرها إلا النزر القليل من الناس، أتحزنك الحال هذه؟ ولكن ما العمل، نحن في عالم لا يقوم إلا بالضجيج والتبجح ولا ينهض بغير الخداع والجربذة والاحتيال، فارفع إذا صوتك وضع بجيبك ضميرك وسر مع الجمع كما يسير ودر بالليالي كما تدور.
وأما الكنائس الأميركية التي يمتاز أعضاؤها عن بقية الشعوب بسمو المدارك والتساهل - كما يقال - فهي مثل الملاهي من حيث الموسيقى والترتيل. إني أعرف عن ثقة أن كنيسة في نويرك تدفع لرئيس جوق الترتيل فيها ألفي دولار مسانهة، وأعرف أيضا أن الأجراس - مع ما اتصلت إليه هذه الأمة من التمدن - باقية في قباب الكنائس تقلق راحة السكان بقرقعتها. وأؤكد أن نصف من يصلون يذهبون إلى الكنائس ليسمعوا أصوات المرتلين وأنغام الأرغن، فيسمعون عرضا وعظ القسيس أو الكاهن.
نعم إنها لحال محزنة، ولكن أفي الوسع تغييرها؟ وهل هي في الكنيسة فقط؟ كلا، فهي سارية في كل جمعية مدنية كانت أو دينية، نصف السياسة في هذه البلاد المنورة قائم بالضوضى والضجيج والاحتيال، كما ذكرت. فانظر إلى مجتمعات هؤلاء الأميركان السياسية وتأمل، نحن الآن في زمن الانتخاب فحاذر أن تصاب أذناك بالصمم، اسمع أصوات الأبواق ودوي الطبول وضجيج «النوبات»، سرح نظرك في الشوارع لترى الألعاب النارية والصور الزيتية والفوانيس السحرية والاختراعات الكهربائية وكلها تستخدم لجمع الشعب فتستميله إلى هذا الحزب أو إلى ذاك.
كلها تستخدم لبث روح حب الوطن في الناس ولإضرام الحماسة في قلوبهم، أما الخطابة فهي أمر ثانوي فلا تغتر بما تسمعه عن استنارة الشعب واقتناعه بالبرهان. الشعب حيوان عظيم يحتال عليه الزعماء ويهيجونه بآلات الطرب ويستميلونه بأنواع الزخرف والزينات، ويطبعونه بالإعلانات، ثم يرشون عليه قليلا من الفصاحة وشيئا من البيان فيرقص إذ ذاك رقصة تلائم ما يسمعه من الألحان، هذا هو الشعب في الجمهوريات. نعم إن الطبل هو البرهان المفحم والزمر هو الحجة القاطعة ومنطق هذا الزمان الضوضى.
قد تتوق نفوسنا إلى السكينة والهدو لعلمنا أن الرعد والبرق قلما ينفعان وأن المطر دونهما لا يفقد شيئا من قوته وبركته ولكن أنى المفر من الضجيج؟ نود لو مجد الناس الله مناجاة فقط، نود لو صلى المرء في مخدعه، ولكن ماذا يصير في الكنائس والمعابد التي لا بد من وجودها، ألا ينبت العشب في أرضها وينعق بوم الخراب في أرجائها لو جردت من أواني الزخرف وآلات الطرب؟
وأما من شن على الجريدة الغارة مسلحا بأقوال الرسل الأبرار، طالبا إبطال المزمار والقيثار فأنا أشعر معه من حيث النظريات فقط وأذرف وإياه دمعتين على فساد هذا الزمان المضطرب وآله المقلقين ونندب حظ الدين الذي لا يقوم إلا بالزخرف والضوضى والضجيج كما هي حالة فرع من الديانة المسيحية بالأخص ألا وهو «جند الخلاص» الذي لا أريد أن يكون خلاصي عن يده المعتادة على ضرب الطبل وعند هذا الحد أودع عدو القيثار آسفا وأسأله أن يضع سلاحه الديني جانبا وينظر إلى المسألة من وجهها العملي السياسي الدنيوي فيرى - إذ ذاك - أن أكبر قسم من الحقيقة التي ظنها كلها بجانبه هي بجانب الجريدة وبأولى حجة بجانبي. وخلاصة الكلام أن الجريدة مصيبة بانتقادها والمراسل غير مخطئ تماما باحتجاجه، وإذا كان الضجيج لازما فالاحتجاج عليه لازم أيضا، والسلام.
روح هذا الزمان
المصلح السياسي في هذه الأيام هو ذاك الذي يندد بالحكومة ويطلب تغييرها ليحصل مركزا فيها. هو الذي ينادي بالإصلاح نفاسا في الاشتهار إن كان شابا أو رغبة في الوظيفة إن كان كهلا أو حبا بالمال إن كان شيخا. وسواء كان جمهوريا أو دمقراطيا في الولايات المتحدة، أو من الأحرار المتطرفين في إنكلترا، أو من أعداء الإكليروس في فرنسا، أو من الاشتراكيين في ألمانيا، أو من الفوضويين أو الثورويين في روسيا؛ فالغرض الذي من أجله يناقش ويجادل ويعاكس ويشاكس ويندد هو واحد، الغاية التي تحركه واحدة، الدافع والجاذب لا يختلفان مع المكان ولا يتغيران مع الزمان، فهو حقا وطني صادق، هو غيور على الأمة ومصالحها، هو مصلح ومحب للبشر، ما زال خارج دائرة الأحكام، ما زال ثوب السيادة بعيدا عنه.
ولكن ساعة ينال أمنيته ساعة يتسربل بأرجوان السلطة أو بصوفها (الأرجوان للأوربيين والصوف للأميريكيين) تراه عندئذ يهجر الصحافة ويخفض صوته على المنبر وينسى أو يتناسى الماضي، ويأخذ بزمام الأمور كما لو كان القيصر أباه أو ملوك البوربون أجداده! الانقلاب في السياسة لازم وتلون السياسيين يكسب المنظر رونقا والتمثيل جمالا!
ولو تقصيت تعاليم هؤلاء المصلحين، لو سبرت غور فلسفتهم السياسية لوجدتها منحصرة إما ببطن المرء وكيسه أو بشرف الحكومة ومجدها - يجب أن نشبع هذا الشعب الجائع، يجب أن نحرر الشعوب المدوسة المظلومة، يجب أن نساوي بين الفقير والغني، يجب أن نحطم الشركات الاحتكارية، يجب أن نعزز تجارة البلاد، يجب أن نؤيد سلطة الحكومة، يجب أن نوسع نطاق المستعمرات، يجب أن نزيد قوة الجيش، يجب أن نبني المدرعات - يا لها من فلسفة سياسية بل فلسفة تجارية لا أثر فيها لما يختص بالكمالات الروحانية وبتهذيب النفس وترقية الشعور يا لها من فلسفة حيوانية لا غذاء فيها للحياة السامية التي لا تزهر ولا تثمر إذا لم يكن لها من القلب والعقل والضمير والنفس أربع دعائم قوية.
وهذه كلها أمور تافهة في أعين المصلحين السياسيين فهم لا يهتمون لها، وعندهم أن بطن الإنسان وكيسه وأهواء الأحزاب وتعصبها هي أهم ما في الحياة، فهم يدغدغون هذه بالأكاذيب ويملأون تينك بالمواعيد، بطن الإنسان وكيسه وشهواته وتعصبه إنما هي أس التعاليم السياسية التي تجعل الأميركان تجارا والإنكليز حكاما والألمان عساكر والروسيين فوضويين والفرنسويين عبيدا للأحزاب والفتن.
في طنبور المصلح ذات الأوتار الغليظة السقيمة، وتر واحد لطيف صحيح، له في النفس وقع جميل، وحتى هذا الوتر - وتر الحرية - لا يخلو من غنة خفيفة أو رنة خشنة، وذلك لأن المصلح لا يضرب عليه إلا صدفة، أو لأغراض سياسية والشعب البائس الجاهل لا يطلب الحرية غالبا إلا لاعتقاده بأنها تخوله الاعتداء على الأغنياء ليملأ كيسه وبطنه.
الحرية وحدها هي كما قيل سيف ذو حدين، والحرية مع التهذيب نبراس ذو نورين: نور يضيء الطريق خارجا ونور يضيء ويحرق باطنا، وفي كل حال هي لا تشفي الأمة من أمراضها السياسية والاجتماعية ولا تعلم الإنسان شرف النفس والمروءة، ولا تجعل الشرير صالحا والمنافق صادقا والمعوج مستقيما وإن رابك شيء من هذا وجه أنظارك إلى الأحوال السياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة.
نعم ينبغي أن تتحرر الشعوب يجب أن يتحرر الإنسان ولكن لا بواسطة هؤلاء المصلحين لا بسعي هؤلاء السياسيين، ولماذا؟ لأن عهودهم من نسج العنكبوت؛ لأن مواعيدهم مثل خيال القمر على الغيوم، لأن أعمالهم تلول رمل لا تدوم، لأن شفاههم ليست مطهرة، لأن اعتقادهم ليس من القلب، لأن نفوذهم ابن الساعة وحليف الأحوال ، لأنهم يحبون الحرية حبا بالشهرة أو الوظيفة أو المال، وإن وفوا مرة بوعد من مواعيدهم المزخرفة بعد أن يتقلدوا زمام الأحكام فهناك البلية الكبرى، هناك تتوج الآمال والأحلام إذ تهدأ ضوضى الأحزاب وتزول الشكوى، فتعنو لهم الوجوه ويدخل الشعب رأسه في ربقتهم بعد أن أخرجه من ربقة الظالمين من الملوك.
ينبغي للإنسان أن يحرر نفسه بنفسه، ينبغي له العمل في الداخل قبل الخارج، عندئذ تكون حريته روحية أكثر منها مادية، تكون صافية من الغش والخداع تكون أساسا للحياة الحقيقية الشريفة، لا شعلة نار لإضرام أهواء النفس أو طعمة لشهوات الجسد، أو امتيازا للسلب والتعدي، أو براءة للقذف والمقاذعة.
الصالحون - وإن قلوا - موجودون في كل مكان في بلاد الظلم والاستبداد تجدهم كما في بلاد الحرية والاستقلال، والحكماء وإن ندروا ينشئون في تركية وروسيا كما في فرنسا أو في الولايات المتحدة، وفي أي مكان كانوا يعيشون راضين قانعين؛ لأنهم يعيشون حقا أحرارا، والحكومة الاستبدادية مثل الضبع تتركك وشأنك إذا تجنبتها وإذا انتهرتها واعترضتها تفترسك.
غير أن حرية الصالحين والحكماء لا تلبس القبعة الحمراء، ولا تصيح من على المنابر، ولا تحفر تحت عرش السلطة لحزازات في الصدر أو فراغ في الكيس أو خلاء في المعدة، حريتهم تعيش في القلب مع الحكمة ساكتة وتفعل فعلها هادئة، وهم مثل حريتهم يعيشون في قلب الأمة هادئين ويبثون في سائر أعضائها نفوذهم الحسن وعطر نفوسهم الشريفة إن حريتهم لروحية؛ لأنها تنزع من النفس قيود التعصب والتحيز الأعمى قيود الطمع والمجد الباطل قيود الأهواء والشهوات، ولعمري إن تعليم المرءوس الحكمة والعدل والفضيلة لخير من التنديد بالرئيس وظلم أحكامه؛ لأنك إذا خلعت الظالم وظل الشعب جاهلا يتبوأ العرش بعده ظالم آخر بيد أن تهذيب الشعب وتعليمه ومعرفته حقوقه وواجباته تضعف الحكم الاستبدادي وتلاشيه بالتدريج تماما.
أما فعل الحرية في تكييس أنفس الرجال وفي تهذيب الأخلاق وترقية الشعور فما هو قوي بقدر ما كنا نظن بل هو ثانوي بالنسبة إلى عوامل الوراثة والفطرة والمعاشرة والتهذيب، وما الحرية المعروفة في أوروبا وأميركا اليوم سوى سلاح للأحزاب السياسية والخطباء والصحافيين، هو سلاح يقاتل به المنافق أحيانا منافقا آخر واللص لصا آخر وأحيانا تستله رجال الفضل بعضهم على بعض، وأحيانا ترفعه الحكومة على عصابة من الفعلة محافظة على امتيازات الأفراد أو سلبا لحقوق زعماء الأحزاب الضعيفة في البلاد.
إذ ما الحكم في الجمهورية إلا طاعة تقدمها الأحزاب الضعيفة للحزب القوي أو الأقلية من المصوتين للأكثرية؛ لأن قوة الجيش ليست بجانبهم فالأكثرية إذا تسلب الأقلية حقوقهم لتتمكن من الحكم، وتفعل ذلك بالقوة المعطاة لها لا من الشعب كله بل من قسم منه فقط، وهذا هو الباب الذي يدخله المصلحون السياسيون فيمزقون رئاتهم المعتلة وهم يصيحون «حرية الشعب، حرية الشعب» ولكن الحرية لا تجعل الشعب الجاهل شعبا مهذبا مستنيرا.
الحرية وحدها لا تصير المرء رجلا حتى ولا التجارة ولا المستعمرات تكسب الحكومة مجدا والأمة شرفا إذا لم يكن في الحكومة رجال صالحون، وفي الأمة رجال حكماء.
أما انتصار هؤلاء السياسيين للمستضعفين والمظلومين فهو في هذه الأيام خير واسطة للتوصل إلى منصات الأحكام إلى المراكز المثمرة العالية، ولكن لو فتشت في تعاليمهم السياسية وفي نهضاتهم ومشاريعهم الإصلاحية عن ذرة من الضمير الحي والإخلاص أو عن شيء يسير من الغيرة المجردة عن المنفعة الذاتية لما وجدت ذلك، يلزمنا صلاح لا إصلاح، الصالحون وأمثالهم الحسنة قبل المصلحين وجربذتهم والدجالين وعقاقيرهم.
المصلح في هذه الأيام هو قوة بخارية لتحريك هذه الآلات الصماء التي تدعى: شعبا، بل رجالا، آلات تجارية وآلات عسكرية وآلات صناعية وآلات ثوروية، وكلها مركبة من دماء زكية ولحم وعظام بشرية، كلها تتحرك عملا بهذه القوة الخبيثة الدافعة وتفني نفسها بالفرك الدائم بالعمل المتواصل بالكد والنصب بالمساعي الباطلة المهلكة بالنهضات الغير مفيدة، تفني نفسها لا من أجل نفسها بل من أجل أصحابها وأسيادها الصارخين دائما وراءها وأمامها: «إلى العمل إلى العمل» فقد صمت آذاننا من صراخ الداعين إلى العمل ومن ضجيج أصحاب الأشغال، كأن الأموال المتكردسة تصير صاحبها إنسانا، كأن العرق على جبين هذا المخلوق الراكض على مؤخريه يجعله رجلا! لو صح ذلك لكان البغل من كبار الرجال، البغل يحمل الأحمال الثقيلة من السواحل إلى أعالي الجبال دون أن يفاخر ويتبجح. أما إذا تبادر لذهنك قول القائل «بعرق جبينك تأكل خبزك» فاذكر أن هذا المخلوق الصبور يأكل شعيره بعرق جبينه أيضا، وأكد أن الملايين من الناس الذين يعرقون دما اليوم لا يموتون جوعا إذا لم يعرقوا غدا.
لا ينبغي للإنسان أن يقتل روحه ليفثأ جوعه، والذين يملئون بطونهم فقط ولا يشعرون بألم روح جائعة ولا يسمعون صراخ طفل في القلب يطلب الغذاء فلا أظنهم يستحقون الشفقة إذا عرقوا كالدواب والثيران، اشغلوا هذه العضلات واملئوا هذه المعدة، فالروح لا تطالبكم بشيء - ماتت الروح جوعا، وأما ذاك الذي لم يزل في روحه التي تميزه عن الثور والبغل رمق من الحياة ذاك الذي نفخ الله فيه نسمة إلهية وخلقه على صورته تعالى ومثاله فهل يجوز أن يعرق في سبيل شركة احتكارية أو من أجل جمعية إصلاحية أو تأييدا لحكومة استبدادية؟
لا، حتى ولا ينبغي أن يعرق في سبيل معدته وامرأته وأولاده، العرق في الحمام أو في سرير اللذة أو على فراش الحمى أو في سبيل السرور والصحة - كل ذلك يطاق كل ذلك لازم ومفيد، وأما العرق من أجل الرغيف - ولا فرق إن أكلها الفاعل أو سلبه إياها سيده - فلا يجوز ولا يلزم ولا ينفع ولا يطاق، ولكن فلسفة السياسيين البغلية متأصلة في قلوب الغربيين والبغل من أبطال هذا الزمان، ولا عجب إن أضافوا إلى أصنامهم العديدة صنما آخر فإن بين البعل والبغل شيئا من الشبه والقرابة، النقطة فوق العين لا تفرق بين الاثنين. أعوذ بالله من أصنام هذا الزمان ومن آلاته البشرية، أعوذ بالله من طواحين هذا التمدن ومن حجار رحاها، أعوذ بالله من هذه التعاليم السياسية التي تصير الإنسان بغلا والبغل إنسانا بل بطلا بل إلها.
شهداء العلم
متى رأيت الأفراد يفادون بأنفسهم من أجل مبدأ علمي أو تعليم اجتماعي أو مسألة طبية فقل أن سيؤيد ذلك المبدأ ويفوز ذاك التعليم وتتقرر تلك القضية، نعم سيعم انتشار هذه المبادئ البلاد عاجلا أو آجلا، ستشعر الأمة بنفوذها، سينفع بها بنو الإنسان، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فإن هذه المبادئ تشغل وحدها أفكار الباحثين والعلماء فتهتم لها الجرائد والمجلات ويحدث الأساتذة بها تلاميذهم ويوعظ القسس بها على منابرهم ويباحث الفاعل أخاه بشأنها وهو يقرأ جريدة الصباح.
ولو ذلك لما كان يحدث مفاداة وإقدام من أجل هاتيك المسائل، فالمرء لا يبذل نفسه من أجل الإنسانية إلا عندما ترتقي إلى درجة يمكنها أن تشعر بما يقوم به الباذلون مهجهم، أو بالحري لا توجد الضحية قبل أن ينضج الوسط الذي فيه ومن أجله يفادي الأفراد بحياتهم، ولو كان الشعب لا يسمع عن هذه التعاليم شيئا لو كانت الجرائد والمجلات لا تهتم بها لما كان أحد يبذل النفس والنفيس دونها، مثال ذلك أننا لا نرى اليوم أناسا يهتمون لتأييد النخاسة وتعزيزها، لا نرى أناسا يذهبون شهداء الدين؛ وذلك لأن النخاسة أبطلت والأبحاث الدينية اللاهوتية أصبحت ثانوية بالنظر إلى المسائل الخطيرة من طبية وعلمية واقتصادية.
لو دققنا النظر في كل تعليم ومبدأ، وفي كل نعمة يستمتع بها الجنس البشري لوجدنا حقيقة واحدة وراءها كلها، وهي هذه. لولا بذل النفس والشهادة لما كانت، فقد كان للدين شهداء وللعبودية شهداء وللحكومات الاستبدادية شهداء وللحرية شهداء أيضا. أما ونحن الآن في أول قرن العشرين فنتقدم إلى الكهنة والملوك والأمراء والأعيان باحترام قائلين: تعالوا أيها العظماء والأتقياء تعالوا واغسلوا أيديكم الطاهرة بدم شهداء العلم.
هذي هي المبادئ التي سادت عقول الناس الآن، هذي هي الأمور التي تشغل أفكار معظم الكتاب والخطباء والفلاسفة في أوائل هذا العصر، وما خلاها من التعاليم - دينية كانت أو اجتماعية أو أدبية - هي بالمنزلة الثانية من الاهتمام، ولربما كانت سائرة على طريق الإهمال إلى ظلمات النسيان، شأن غيرها من المبادئ القديمة والتعاليم المنسية.
قد كتبت هذه السطور بعد أن قرأت في صحف الأخبار قصة رجلين ماتا شهيدي العلم في مدينة هاڤانا؛ وذلك لأنهما قبلا أن يجرب بهما الدكتور كلداس مصلا قيل إنه يشفي من الحمى الصفراء، فجاء الطبيب ببعوضة فيها مكروب الحمى المذكورة وقدم الشهيدان ذراعيهما فلسعتهما البعوضة، فمرضا بتلك الحمى وماتا شهيدي الاختبار والتجربة. وما هما على التحقيق إلا اثنان من الكثيرين يقبلون الضيم ويحتملون العذاب والألم من أجل العلم مخلص العالم الحقيقي.
فالدكتور لازار في الجندية الأميركية مات أيضا على تلك الحالة، أي: أنه رضي أن تلسعه البعوضة الحاملة للجراثيم في دمها ليختبر تأثيرها فمات شهيدا. وفي باريز الآن رجل يموت من السل إذ إنه قدم نفسه ليختبر به الأطباء مبدأ الدكتور كوخ في هذا المرض العضال، وقد تطعم في شكاغو ثلاثة شبان بمصل السل البقري ليختبر الأطباء فيما إذا كان يختلف عن السل البشري وإذا كان الأول لا يعدي البشر. إن هؤلاء وأمثالهم يكفلون تقدم العلم بحياتهم، بل يشترون حياته بدمائهم.
وكم من قضية طبية لا يستطيع الأطباء حلها إلا إذا قدم القلائل الغيورون المحبون للجنس البشري أنفسهم للامتحان والتجربة، وهؤلاء الرجال الذين يفدون العلم والطب بدمائهم وحياتهم هؤلاء هم شهداء هذا الزمان، بل هم الشهداء الذين يستحقون إكليل الغار وهالة القديسين فقد مات شهداء الدين من أجل دينهم، وهذا ليس بكثير، أما هؤلاء فيموتون من أجل العالم بأسره، يموتون اليوم لتقل الأمراض في المستقبل. وفوائد العلم والاكتشافات مشاعة بين بني الإنسان على الإطلاق، ولا يتوقف دخول سمائها على إذلال الروح وقتل الضمير ومس الوجدانات.
رحم الله شهداء العلم كلهم أجمعين؛ فهم أولياء القرن العشرين، هم الذين يستحقون «التطويب» هم القديسون الذي يجب أن يحفظ ذكرهم في كل البيوت وفي المدارس والمعابد وبين كل أمة وكل شعب وكل قبيلة. فقل طوبى لهم على ما أتوا عالم العلم والإنسانية من الباقيات التي تؤهلهم لأعلى عليين في ملكوت السماوات.
الحرب التي تهمني
ماذا تقول؟ حرب بين الروس واليابان؟ لا أصدق ذلك، لا أصدقه، نحن في السنة الرابعة من الجيل العشرين، ومجلس التحكيم في مدينة لاهاي تعالى أن يكون ألعوبة يلهو بها السياسيون، لا يا صديقي ، إنما الروسية مهتمة في سن شرائع تكفل لليهود حقوقهم فيصيرون والمسيحيين متساوين أمام العدل. والشعب الياباني ساع بتربية الزهور واصطناع الأواني الخزفية الجميلة، والجرائد! إنما هي عادة في البدن - الجرائد كذابة والتلغرافات التي تنشرها زاعمة أنها من كوريا وبورت أرثر هي من مدينة أقرب إلينا - هي من نويرك بالذات.
ولنفرض أنني مخطئ في ظني وأن الحرب بين الروس واليابان حقيقة ثابتة، فماذا أفعل إذا؟ أيجب أن أهمل أشغالي وأضني نفسي في متابعة أخبارها والتحزب لأحد الفريقين، ماذا يهمني من حرب جارية بين دولتين مستبدتين ظالمتين أساسهما الآية القديمة الفاسدة «الحكم من الله» ماذا يهمني من حرب لا روح للشعب في نارها ولا أثر للحق في غبارها ولا صدى للحرية في صلصلة حرابها وفي دوي مدافعها؟
إمبراطور اليابان رجل يحكم حسب اعتقاده على أربعين مليونا من عباد الله بحق هبط عليه من السماء، ويبعث الألوف منهم إلى الحرب ليموتوا من أجله، هو رجل ظالم مستبد خال من الشفقة والمحبة، ولا شك هو قبيح النفس كما هو قبيح السحنة، وقيصر روسيا: صه صه أو اخفض صوتك على الأقل، إن جيراننا من الروم الأرثوذكس، نعم ولكن لنا أيضا من اليهود جيران وخلان، وإكراما للقارئ الأرثوذكسي الغيور ألطف ما كنت أنوي كتابته ولكن لا بد من القول إن قيصر الروس ليس أحسن من إمبراطور اليابان.
وبعد هذا وذاك ما هي الغاية من هذه الحرب؟ هل أشهرت للمحافظة على حقوق عادلة - هل فيها تعزيز مبدأ سام أو تأسيس تعليم شريف - هل يلحق الشعب المظلوم منها أقل فائدة - هل تخفف الشقاء والبؤس عن الفلاحين في الأمتين والفقراء - هل تحسن تجارة الغرب مع الشرق - ما هي الغاية منها - قل لي أدامك الله غيورا فاهتم عندئذ واتحزب، ما هو مدخل اليابان في كوريا وما هو مدخل الروس في منشوريا؟ ما الحرب هذه إلا غارة تشنها دولة سراقة على دولة متطفلة، دولة ظالمة على دولة مستبدة، لا أكثر ولا أقل، ولذلك لا أريد أن أعرف عنها شيئا، الجرائد الأميركية في هذه الأيام تقلق الراحة وتبلبل الأفكار والعاقل العاقل الذي لا يلتفت إليها.
اسمع يا صديقي، فهأنذا أحدثك عن حرب أخرى تهمني وتهمك أيضا مراقبتها واستطلاع أخبارها ودرس حركاتها قوادها وتدوين حوادثها وانتصاراتها، حرب لا تستخدم فيها المدرعات ولا المدافع ولا تهرق بسببها دماء الألوف من العباد، حرب ساكنة ولكنها هائلة، حرب خفية ولكنها واضحة، حرب دائمة ولكنها محيية، حرب سرية داخلية يحارب فيها قائد النفس قائد الجسد، ويجيش الأول جيوشه من الأفكار والنظريات الكمالية والثاني من الحواس واللذات الحيوانية، هي حرب بين الروحيات والماديات، هي حرب جارية أبدا في كل امرئ حي الضمير سامي الفكر شديد العاطفة كثير المطامع. هي حرب تشهرها علي نفسي كل يوم، ولا أستطيع الانتصار عليها دون أن أسيء إلى أحد بالقول أو بالفكر أو بالفعل، ولا يمكنني التسليم دون أن أحتقر ذاتي الروحية القائمة أبدا فوق ذاتي المادية وهذي هي الورطة الخبيثة.
لتنظم الشعراء قصائدهم إذن عن حرب الروس واليابان، لتكتب الكتاب مقالاتهم عن سياسة القيصر ودهاء الميكادو، لينشئ العارفون فصولا عن داخلية الدولتين ووطنية الشعبين، ليهرول المراسلون إلى ساحة القتال في الشرق الأقصى، لتملأ الجرائد صفحاتها بأخبار الحرب الجديدة ورسوم المعارك العديدة، وأما أنا فالحرب التي تهمني مراقبتها ويفيدني درسها وتلذ لي متابعة أخبارها إنما هي حرب النفس والجسد حرب الروح والمادة.
في نفسي شعلة نار يتصل لهيبها بالمشتري والفرقدين، وفي غريزة حيوانية تغريني أحيانا وتجرني إلى قعر الهاوية ولكنني أنهض منها قويا نشيطا وبينما أنا أفرك جلدي صباحا في الحمام أسمع صوتا يناديني قائلا: عش كما تكتب، حافظ على ما تحوزه من الكمال وطالب أبدا بالباقي، فأجتهد أن أفعل عشر ذلك في النهار وأستلقي على فراشي في الليل فأحلم بجمال الحياة الممتزج بالعار والفضيحة، بالمحبة التي نسمها الغيرة، بالمجد الذي يكلله العار، بالمطامع التي تقتلها السلطة، بالشهرة التي تفسدها الأنانية والتصنع، بالنفوذ الذي تشوهه الكبرياء والاستبداد بالنجاح الذي يعيبه الطمع والاستئثار بال ... كفى كفى! أي طريق أقرب إلى الصحراء؟
الخيانة وإبليس
ها قد دخلنا القرن العشرين ولم يزل في الأمم المتمدنة من يقول إن للشيطان دخلا في شئون الناس. قد نقحت التعاليم الدينية ولم يزل للشيطان أثر فيها، تغيرت الشرائع المدنية وتبدلت عملا بسنة الترقي الدائم، ولكن الشيطان لم يزل باقيا في مجلات الأحكام ودساتير الأمم، رقينا في الحضارة بعض الرقي وتقدمنا في العلوم والاختراعات، ولكن العقيدة المفزعة التي ترعب الإنسان وتخيفه باقية على قوتها في معاقل تلك الحضارة وثنيات تلك العلوم. هي العقيدة التي تشوه شرائع أرقى دولة أوروبية حتى الآن، هي العقيدة التي تشوب جمال الدين المسيحي وتفسد ما فيه من التعاليم الأدبية والروحية السامية، هي العقيدة التي «نبعبع» بها الأطفال ونزرع باسمها في جنانهم الصغير بذور الخوف والجبن وضعف الإرادة.
متى يا ترى ترمد نيران الجحيم؟ متى يموت الخناس الموهوم؟ متى يزول الخوف والرعب من قلوب البشر؟ متى نقلع عن تعليم الأطفال الأكاذيب؟ متى تنقح شرائع الدول المتمدنة ليكون بينها وبين تقدم العلم شيء من النسبة؟ هذي هي إنكلترا تلك البلاد التي نبغ فيها دورين وهكسلي وسبنسر، البلاد التي تفاخر العالم بشكسبير وبيرن وبرنس لم تزل رائحة الكهف والصحراء تشتم حتى اليوم من شرائعها المدنية، لم تزل هذه الحكومة تشبه في بعض أحكامها الشعوب البربرية التي تؤدي الجزية صاغرة للعرش البريطاني.
حكم يوما في لندرا بالموت على رجل يدعى لنش؛ لأنه حارب مع البوير الحكومة البريطانية وهو بريطاني التبعة، وفي عرف الشريعة المدنية المكتوبة قد خان هذا الرجل ملكته وحكومته وشعبه، ولم يزل الموت عقاب الخائن في كل الأمم، والدول المتمدنة وغير المتمدنة سواء من هذا القبيل، ولكن ألا يوجد شريعة أرفع من الشريعة المسنونة؟ هل تخلصنا - أيها القارئ الحر - من عبودية الأفراد لنقع تحت نير عبودية الحكومة؟ هل وجدت الدولة للإنسان أو هل وجد الإنسان للدولة؟ الحكومة نفس وقلب وضمير ليدافع عنها كل فرد من أفراد الأمة أولا يحق للمرء أن يرفض التطوع في جند الحكومة إذا كان ذاك الجند يحارب حربا ظالمة، أولا يحق لمحب العدل والحق والحرية أن يستل سيفه على حكومته إذا رآها تحارب ظلما وعدوانا لتقتل استقلال شعب ضعيف وتسلبه حريته؟
الجندي الذي يهجم مجردا على حصون العدل والحق إنما هو الخائن بعينه، وهو الذي يجب أن يحاكم من أجل خيانته في المحكمة الحربية، وأما الجندي الذي نفض عن حذائه غبار شعبه وتبرأ من أمته لما رآها تحارب حربا ظالمة وتطوع في جيش الحرية والاستقلال فهذا - والله - يجب أن يكلل بالغار، يجب أن ينصب تمثاله في عاصمة الأمة ليقتدي به كل من جعل الحرب مهنته وحمل السلاح للارتزاق، ولكن ماذا تقدم الدول المتمدنة لمثل هذا الآن؟ إكليلا من الشوك عوضا من إكليل الغار ومشنقة بدلا من التمثال، وهكذا فعلت الحكومة البريطانية بالقائد لنش، وفعلت أكثر من ذلك، فقد قلت إن شرائعها لم تزل مشوهة بالخرافات والخزعبلات والشيطان الموهوم لم يزل في مجلة الأحكام الجنائية، وإليك نص التهمة التي رفعها نائب الملك إلى المحكمة قال:
قد أغرى الشيطان «لنش» وحمله على ترك الجند البريطاني ليحارب الملكة وحكومتها؛ ولذلك نطلب محاكمته كما يحاكم الخائنون. «قد أغرى الشيطان فلانا» تأمل هذه العبارة التي لم تزل في مجلة حكومة تفاخر جميع الشعوب بتمدنها، وهل تظن أنه يوجد قاض واحد بين كل قضاة إنكلترا المفكرين يعتقد بأن الشيطان أغرى لنش ليحمل السلاح على حكومته، ولكن القديم يبقى على قدمه والترقيع من مميزات تمدننا الحديث، أين هو الشيطان؟ وكيف هو؟ ومن هو؟ وبأي هيئة يظهر للإنسان ويوسوس بأذنه كما يعبر عن طريقة تكلمه في الكتب المقدسة، ومن منا رآه في غير عالم الخيال؟
والحق يقال: إننا لا نهذب ونمدن حقا قبل أن ننزع هذه الاعتقادات من تعاليمنا، ليس هناك شياطين غير بشرية، وعالم الجن هو عالم الوهم والخيال، هو عالم الشعراء لا عالم المتشرعين، قد يكون الشيطان جميلا في ديوان الشعر ولكنه في مجلة الأحكام قبيح، الشياطين الموهومة غير المحسوسة وغير المنظورة هي ناتجة إما عن اضطراب في المعدة أو اختلال في العقل أو عن جهل بربري، أقول هذا مستثنيا الشعراء؛ لأنهم وشياطينهم سواء.
خطاب المسيح1
لو قصد المسيح العود إلى العالم لاختار أن يظهر للوجود بطريقة مألوفة ليكتسب ثقة أبناء هذا الزمان الفاسد، فيدعونه إلى الخطابة ولا يعاملونه كما يعامل داوي الأميركي اليوم في الولايات المتحدة، وداوي هذا من الأنبياء العصريين ممن يمثلون أدوارهم الهزلية مجانا حبا بلهو الشعوب وتسلية الأمم. نعم إن هذا الجيل جيل متمرد عات فهو لا يعجب بالعجائب ولا يحفل بالأنبياء.
لنفرض أن المسيح ظهر ظهورا واضحا بطبيعته البشرية وبعد أن شب وبلغ الرشد وتخرج في إحدى الكليات الكبرى طفق يدرس حالة العالم الحاضرة ويراقب مجرى تعاليمه ونتائجها، فعلمه هذا يحزنه ولا جرم ويغضبه، فإذا كان اليهود قد صلبوا المسيح بالجسد منذ تسعة عشر قرنا فالمسيحيون الذين يفاخرون الشعوب بمسيحهم يصلبونه بالروح كل أسبوع بل كل يوم، ولعمر الحق إن من يعبدون المسيح يؤلمونه، وكل صلاة تصعد من فم المسيحيين أبناء هذا الجيل، هي مسمار في صليب المسيح، كل تضرع من تضرعاتهم هو إكليل شوك على رأس سيدهم. نعم إن المسيحية في حالتها الحاضرة لعدوة المسيح، إن يسوع وكنيسته على طرفي نقيض، ولو دعي لإلقاء خطاب في إحدى مدن أوربا الكبرى لاستهل كلامه بالترتيلة التي تنشد في جمعة الآلام فيقول آسفا:
أيا شعبي وصحبي أين عهد الإيمان؟
لأنه على نحو ما تقدم لم يزل يعذب ويصلب إن لم يكن بالجسد فبالروح، وبعد أن يتكلم في حالة الكنيسة الحاضرة وفي فسادها ويوبخ الرؤساء وينذرهم ينتقل إلى الدول المسيحية فيبرهن على غير عادته (أي: أنه لا يتكلم بالأمثال هذه المرة) بل يبرهن بالبرهان الساطع أن التعاليم الدروينية لا تنطبق بتة على تعاليمه وأن الدول والشعوب يعملون بتعليم بقاء الأنسب ويتصنعون بحب الضعيف والقريب والعدو، ويقول - والأسف ملء فؤاده - إن تنازع البقاء ينفي الشفقة والمحبة، ويقضي على التمدن بالزوال وعلى الجامعة بالاضمحلال ثم يفيض في المبادئ الاشتراكية، ويقابل بينها وبين تعاليمه، ويبين وجه الشبه بين الاثنين، ويطلب من دول الأرض وحكوماتها أن تؤيد الرسل الذين يبشرون بالحرية والحق والمساواة كما تؤيد من يبشرون بالمحبة والرجاء والإيمان، ويكون مجمل خطابه موجها إلى ثلاث فئات من الناس فيخاطب الأولى معاتبا ويخاطب الثانية شاكرا وأما الثالثة الكبرى فيكلمها مذكرا منذرا.
وأما العتب فيوجهه إلى أولئك الفلاسفة الذين قاوموا النصرانية مدعين أن نتائجها مخالفة لما كانوا يعتقدونه خيرا للجامعة، وهم الدهريون والعدميون الذين طعنوا طعنا شديدا على الدين المسيحي، فلهؤلاء يقول يسوع: «يحق لكم انتقاد رؤساء الكنيسة ولا لوم عليكم ولا تثريب إذا خالفتموني في الظاهر وأما مبادئنا الأساسية فواحدة، أنتم تبشرون مثلي بالحق والعدل والمحبة، ولكن الحق الحق أقول لكم إنكم تسلبون الإنسان أكبر تعزية وأعظم تسلية وتخطفون من نفسه كنز الرجاء والآمال بقولكم له: إن الضريح خاتمة الحياة، وإن الموت رقاد أبدي، فأين ذهبتم بالحياة الأخرى أيها العلماء، وكيف فاتكم أن النفس خالدة وأن بعد الموت حياة أسمى وأبقى، اجعلوا أساس تعليمكم حقيقة الثواب والعقاب فأجتمع إذ ذاك وإياكم في طريق واحدة ونبذل ما بوسعنا لتخفيف أثقال الحياة على الإنسان.
أما ما قيل لكم في العجائب التي صنعتها فلا يجب أن تكترثوا كثيرا به، ولا يجب أن يصدكم ذلك عن افتهام تعاليمي الأصلية المجردة من كل تنقيح وزيادة. خذوا الجوهر وانبذوا ما سواه ظهريا، خذوا الأساس وابنوا عليه وأنا أقيم بمعاقل علومكم وأكون أبدا معكم.»
أما الفئة الثانية فهي مؤلفة من الفلاسفة الروحيين الذين ساووا بين تقوى الله وحب الإنسان، بين القنوت والإحسان بين العلم والإيمان، ومع ذلك فقد خرجوا عن المسيحية بحسب عرف الكنيسة؛ لأن رؤساءها لا يرضون عمن كان جريئا في الحق حريصا على الحقيقة ولا يرتاحون لما يخالف اعتقاداتهم المنتحلة من الأقوال والأحكام، فلهؤلاء يقول:
يعيرونكم بالكفر والإلحاد ويضطهدونكم ظلما وعدوانا فأنا أقول لكم هكذا جرى لي يوم قمت على الكتبة والفريسيين وأحييت روح الحق والمحبة بين الناس هم يبشرونكم بعذاب أليم وأنا أبشركم بمقام سام كريم فأنتم الأصفياء وإن أنذروكم بالهلاك، أنتم فسرتم آيات كتابي تفسيرا حقيقيا، أنتم نددتم برؤساء ديانتي لما رأيتموهم يضطهدون ويقتلون بعضهم بعضا ، أنتم خرجتم عن دائرة الكنيسة لما رأيتموها أصغر من دائرة أقوالي، أنتم خدمتم الإنسانية التي جئت لأخلصها خدمة مخلصة مجردة، أنتم وضعتم النفس على كرسي عرشها ودفعتم عنها هجمات الدهريين وفيالق الجاحدين، أنتم مارستم الناموس ونفذتموه بأقوالكم وأعمالكم، أنتم جعلتم لأبي في قلوبكم عرشا معززا كريما ثم طفقتم تنذرون الضالين وترشدونهم لتقربوا إلى قلوب الناس ملكوت السماوات، أنتم دافعتم عن الضعيف وسخرتم بالظالم الأثيم وحسرتم عن الرياء اللثام قد نبذتكم الكنيسة التي خانتني ولكن الحق أقول لكم إنكم أقرب إلي وأكثر إخلاصا من الذين نبذوكم، أنتم أتباعي المخلصون، أنتم أنصاري الحقيقيون، نعمة أبي في السماء تحل عليكم.
ثم يصوب المسيح سهام غضبه إلى الملوك والأمراء والرؤساء المسيحيين ممن يتخذون المسيحية ذريعة لتنفيذ مآربهم وتوسيع نطاق سلطتهم وتحقيق مطامعهم العديدة المنكرة، فيصرخ فيهم قائلا: «يا ملوك الزمان ويا أمراء البلاد وساداته، الحق أقول لكم إن مسيحيتكم فاسدة وإيمانكم كاذب، إنكم لا تختلفون عن الوثنيين إلا بخبثكم وريائكم، فأولئك اضطهدوني وقتلوا رسلي، ولكنهم أقاموا بذلك جهرا وأما أنتم تعملون الآن أعمالهم الفظيعة وتدعون الادعاءات الباطلة قائلين كذبا وافتراء: إن ما نفعله من أجل المسيح ودينه، فتلحقون إثم الخبث بإثم الاضطهاد.
إن مطامعكم الدولية أنستكم واجباتكم وأماتت فيكم عواطف الشرف والصدق. إن الخبث والختل والقسوة في كل أعمالكم ظاهرة، إن حسدكم الدولي يجعلكم صغار النفوس كبار الذنوب فتتحاماكم الشفقة وتبعد عنكم الاستقامة، قد صيرتكم الأنانية أعداء الداء لمن أوجد الجامعة التي تنتمون إليها، إن آثامكم العديدة الكبيرة التي تسترونها باسمي معدودة عند أبي في السماء، إن الشعب الضعيف الحقير يئن من الضرائب والمكوس التي ترهقونه بها لتقوموا بنفقات حروبكم، ألا تفكرون فيما تعملون، ألا تخجلون من انتسابكم إلى دين يعلمكم عكس ما أنتم فاعلون. إن انتسابكم هذا الباطل لا يجديكم نفعا يوم الحساب. «فيا أمراء البلاد ويا ملوك الزمان وساداته، قد بشرت منذ تسعة عشر قرنا بالسلام على الأرض والرجاء الصالح لبني البشر، فهل تفهمون بالسلام والحروب، وهل تظهرون رجاءكم الصالح بمدافعكم القتالة ومدرعاتكم الهائلة. متى قلت لكم انشروا ديني بالسيف والنار، متى قلت لكم انهبوا واسلبوا وافتكوا واقتلوا باسمي، متى قلت اضطهدوا من خالف تعليمي واقتلوا من أنكر لاهوتي وانبذوا من سخر بأقوالي.
ماذا تفهمون «بالآية الذهبية» التي تفاخرون بها العالم بأسره، هل عندكم للمحبة معنى سوى أنكم تتصنعون بحب من يخضع لسلطانكم صابرا وينفذ أوامركم ساكتا طائعا، ألا يردعكم الضمير عن الأعمال القبيحة التي تقترفونها وتقولون «إن ذلك من أجل المسيح» متى يا ملوك الزمان متى تخلصون لسيدكم متى تطهرون الاسم الذي جعلتموه بأعمالكم مرادفا للظلم والجور والقسوة، أنا بشرت بالمحبة وأنتم تورون بينكم زند الضغينة، أنا بشرت بالاتحاد العام وأنتم من أجل لفظة تختلفون وأحشاء جامعتكم تمزقون، أنا دخلت الهيكل وكسرت الأصنام وأخرجت الصيارفة فعدتم أنتم تعبدون البعل وتسجدون لعجل الذهب.
قلت قاوموا الشر بالخير وأنتم تنفون من انتقدكم وتقتلون من ندد بأعمالكم وتنتقمون من أعدائكم شر انتقام، فيا ملوك الزمان وسادة الأرض، لا توغلوا في الإثم والعدوان ومن أجل العالم وأحطامه لا تهلكوا النفس، كفاكم استبدادا وظلما كفاكم رياء وخبثا، كفاكم قسوة وجورا، كفاكم تجبرا وطغيانا، اعدلوا فلا تحتاجون إذ ذاك إلى جيش يحميكم ولا إلى قلاع تصون بلادكم، حصنوا البلاد بالعدل أيها الحكماء والرؤساء وكفوا عنها يد الظلم.»
بيني وبين مدير الجريدة1
زحفت منذ عام على هذ الخواطر روح خفية، فطردتها من أعمدة هذه الجريدة الأميركية، أرادت تلك الروح الاستئثار، فآثرت الخواطر على الحضارة القفار، وعلى الدخان النار، وسمت إلى الطيران في الفضاء دون الاقتراب من الكبار والصغار، هجرت قانعة وسارت رائدة، فكان للهاجر والمهجور بعض الفائدة، والحقيقة الآن إلى البيت المطهر عائدة، العود إذا إلى الوطن المحبوب، فقد استتب فيه السلام المطلوب، وظهرت حسنات وسيئات تلك الحروب التي عززت بعض الحقوق ومكنت في الناس كثيرا من العيوب.
ختمنا هذه الخواطر منذ عام بالنزاع والخصام، ونفتتحها الآن تحت ألوية الوئام والسلام، وهذا كل ما نكتبه سجعا رفقا بالقراء الكرام، فلا تجزع إذا أيها القارئ ولا تخف، إن صاحب هذه الخواطر يعتبر الشريعة إلى حد محدود ولا تلذه الكتابة من وراء الحديد، وهو يعدك بأن حريته وحكمته تبقيان غالبا في القانون، فإذا كانت الحكمة تحبس الجسد الذي يحبس النفس فنحن في غنى عنها وعن توابعها، أجل قد يكفي هذه النفس القلقة حبس واحد.
إني أحترم الشريعة ولا أتعشق الحبس؛ وذلك لأن الشريعة تمنحني بعض الحرية والحبس يحرمني إياها تماما، فإذا ما لا يملك كله لا يترك جله، ولكن ما العمل إذا جاءني صديق وأراد أن يشاطرني هذا القليل أو أن يحرمني منه كل الحرمان، أفلا يصبح هذا الصديق كالحبس الذي لا أهواه، بل هو حبس لا حديد له ولا جدران، هو يريد أن يقيدني بإرادته كما يقيد المأمور السجين، هو يريد أن يحصر حريتي ضمن جدران مصلحته الشخصية، أفليس أوفق - والحالة هذه - أن أسلم نفسي إلى البوليس فأرتاح من قرقعة هذا العالم ودويه ومن وداد أبنائه ومحبتهم؟
الكاتب العربي خاضع لشريعة عامة وشريعة خاصة، فالشريعة العامة تنال احترامي إلى حد محدود - كما سبق - ولكن كيف التملص من الشريعة الصحافية الخاصة؟ يطلب مني صاحب هذه الجريدة وهو الذي يسن القانون وينفذه أن أمتنع عن البحث في المسائل الدينية وأن أجرد هذه الخواطر عن كل ما تشتم منه رائحة الكفر - بحسب زعمه - ويطلب هذا مني إكراما للإكليروس الذي يخدمه مضطرا إكراما لأولئك الذين حاولوا تقييد أفكاري فنجوت منهم وشكرت ربي.
الشريعة العامة لا توجب سجن من يبحث في الموضوعات الدينية ورجال الشرطة لا تلقي القبض على من ينتقد لوثيروس أو ينكر سلطة البابا فالشريعة العامة تعضدنا إذا وتنصرنا على الشريعة الصحافية الخاصة. ومعلوم أن الخواطر هذه لا تحبس حتى وإن حبس صاحبها، وجل ما يستطيعه الصحافي أن يمنع دخولها إلى مملكته فيوقفها في إدارة الجوازات (أي: إدارة التحرير) ويعيدها إلى حيث أتت مع الاعتبار الذي توجبه اللياقة والأدب.
ومع أن الحق في جانبنا (وضمير الجمع عائد إلى الخواطر وصاحبها) فالشريعة العامة معنا وهي لا شك تنصرنا على هذه الشريعة الخاصة إذا التجأنا إليها، فنحن نخضع للسلطة الصحافية المستبدة لا لنعلم الناس الطاعة العمياء الخبيثة، بل لنعطيهم مثلا من هضم النفس الذي يجرد فاعله عن السفليات ويرفعه إلى العلويات. وهناك سبب آخر نهمس به في أذن القارئ وهو أننا لا نريد إلحاق ضرر مادي بصاحب الجريدة وهو لم ينفض عن ثيابه بعد السجن غبار إذ إننا واثقون بالفوز إذا التجأنا إلى القضاة وقد سبقنا ونادينا بالتساهل فلا نخطئ إذا وقفنا بجانب تعاليمنا وعملنا بها ولو مرة واحدة في السنة.
نعم إن بذل النفس حسن ولكن لا في جميع الأمور وهو واجب ولكن لا في كل الأوقات والأحوال، هو حسن متى كانت نتائجه صالحة وثمرته ناضجة ومنفعته شاملة. هو جميل في قبول المسيح الصلب من أجل تعاليمه، هو حسن في شرب سقراط السم إكراما لمبادئه التي كان يعتقد صحتها، هو حسن في قبول غاليلو الحبس وسبينوزا النار وهوغو النفي وجان برون الموت من أجل الحقيقة التي تعشقوها وبشروا بإنجيلها. وهضم الجانب حسن متى توقف عليه حسم خلاف وإزالة خصومة، وإسقاط المرء حقه جميل متى مهد سبيل التساهل والوفاق بين الناس. ومن حقوقي أن أبحث في أي موضوع أشاء فإن تنازلت عن بعض هذه الحقوق فذلك حبا بالسلام والوفاق والتساهل.
مهلا أيها القارئ، فلا تلمني إذا تكلمت اليوم وأسقطت حقي غدا، سكت مدة - كما سبق - عملا بالمثل المشهور ولأسباب ذكرت بعضها فما الذي أوجب الكلام الآن، حادث جرى في العالم (وقلما يهتم لحركة الكون من كان في المستشفى بالقرب من أخت مريضة) حادث مزق حجاب السكوت واضطرني أن أؤجل التوقيع على المحالفة مع المدير إلى الغد.
إن عروش أوروبا خاوية خالية في الوقت الحاضر، وملوكها منقطعون عن أعمالهم ترويحا لأنفسهم من الجمود المستمر الذي يكتنفها. ومع أن نزهة الملوك لا تخلو من الألغاز والأسرار فهي لا تقلق ولا تزعج، ومتى كان هناك أمر ظاهر فلا حاجة لمعالجة الأمور المدفونة والأسرار المكنونة، وأما الخبر الذي مس أحد أوتار القلب فتحرك له الفكر طربا هو أن الملك إدوارد السابع رأس الكنيسة البروتستانية وحامي إيمانها المقدس سيزور البابا لاوون الثالث عشر في أثناء سياحته، هو خبر سار مفرح ولكنه لا يدهش. لا يدهش لأن ترقي العالم الأدبي والديني يجعل مثل هذه الأمور طبيعية عادية معتادة، ولكن الخبر المناقض لمجرى الترقي الدائم، الخبر الذي يكدر بقدر ما ذاك يسر هو أن الإكليروس البروتستاني بعث إلى ملكه رسالة برقية بها يحتج على تصرفه ويعترض على هذه الزيارة المهمة المفيدة.
فهل يتعجب القارئ إذا وقفت قليلا في وسط الطريق لأقول كلمة صغيرة، هل ألام إذا تكلمت اليوم وأجلت بذل حقي إلى الغد؟ فحتام التعصب يا رؤساء العالم وعلام الاستبداد؟ عفوا إن الرؤساء الحقيقيين العقلاء يميلون مع الزمان إلى التساهل والموادعة والوئام، ولكن الصغار المنزوين لا يرضون عن مثل هذا الترقي. الصغار المنزوون هم الذين يحتجون ويضجون ليشعر الناس بوجودهم.
كنت أظن بأن الكاثوليك أشد تعصبا من إخوانهم البروتستان، ولكن الخبر هذا أفسد ظني وصرت أعرف في المستقبل كيف أرتاب وأشك قلت: إن زيارة الملك إدوارد غير مدهشة، ولكنها مفيدة، أما احتجاج البرتستان فلا هو مدهش ولا هو مفيد، هو صفحة من تاريخ الأجيال المظلمة، هو برهان على تأثير الإكليروس حتى اليوم في الحكام المدنيين.
منذ نشوء الديانة المسيحية، وبعبارة ثانية منذ تأسيس الكنيسة حاول رجال الكهنوت أن يتسلطوا على الملوك ويستخدموا قوة الجيش لتنفيذ مآربهم، وفي هذه الأيام يحاولون القبض على زمام الأحكام بواسطة المتشرعين المدنيين ولكن هل ينجحون؟ هل نجح الإكليروس الإنكليزي في سن شريعة تجعل المدارس العامة الإنكليزية تحت رعايته وتدبيره ونفوذه؟ كلا، وهل يغني اعتراضه الآن على الملك شيئا؟ كلا. نحن في تقدم من هذه الوجهة على ما يعترضنا من الطوارئ المكدرة.
إن لاوون الثالث عشر مثال الحكمة والمحبة والتساهل، فهل يخطئ إدوارد السابع إذا زاره، ولو كانت تسمح الاصطلاحات الكنسية بالسياحة لرئيس رؤسائها ألا تظنه يزور ملوك أوربا كافة على اختلاف مذاهبهم؟ بلى. وأنا أظن أيضا بأن بعض المطارنة والكرادلة في قصر الفاتيكان يعترضون على صنيعه هذا كما اعترض قسس البرتستان على ملكهم؛ وذلك لأن في الطغمتين أناسا صغرت نفوسهم فلا يرون ما يراه العاقل ولا يوازرون الحق على الباطل. وهم يعارضون ويحتجون ويضجون ليشعر الناس بأنهم في عالم الأحياء يرزقون. والذي قاله سيلستين عن البابا بونيفاس الثامن يطلق على مثل هؤلاء الرؤساء، فهم أيضا يستولون على المناصب كالثعالب، ويحكمون كالأسد، ويموتون كالكلاب.
بين اللاهوتيين والعلماء
لما خرج العلماء الماديون على ما جاء في سفر التكوين حمل علماء اللاهوت توراتهم وولوا مدبرين. ولما اكتشف علماء الجيولوجيا اكتشافاتهم أسرع فلاسفة الكنيسة بتنقيح اعتقاداتهم، لما قال أولئك إن الأرض لا تكون في سبعة أيام أجاب هؤلاء قائلين: وما أدراكم أن اليوم بعرف موسى لم يكن كناية عن ألف عام، وهكذا تنازع الفريقان فأفسد العلماء زعم موسى من حيث تكوين الأرض وقام بعدئذ دورين فأفسد زعمه من حيث تكوين الإنسان. وهذا كله كان في سالف الزمان، وأما اليوم فقد يندر النزاع بين العلماء واللاهوتيين؛ لأن أولئك الكرام مشغولون فيما بينهم وهؤلاء الأتقياء مهتمون بإعداد طبعة جديدة منقحة لتآليف مار توما والقديس أوغسطينوس.
وأما التوراة فلا بأس بها، لا بأس بإبقائها على حالتها الحاضرة، ومع أن الآباء اليسوعيين في بيروت قد طبعوا «ألف ليلة وليلة» طبعة جديدة مطهرة فهم يستحقون الشكر إذ طبعوا التوراة بحرفها الواحد. وإني لأقول لأولئك الذين يفضلون الطبعة المصرية الأصلية من قصة ألف ليلة وليلة خذوا التوراة واقرءوا فيها قصة لوط وبناته، أو قصة أمنون وتامار أو قصة باعيل أو يهوديت، أو الحديث بين تامار الباغية ويهوذا، أو قصة داود مع بتشابع بنت أبيعام امرأة أوريا الحثي أو قصة هذا الملك البار، لما خطب ميكال ابنة الملك أشبوشت بن شاول بمائة قلفة ويا لها من خطبة، فكل من هذه القصص الغريبة الجميلة تليق أن تضاف إلى الطبعة المصرية الأصلية من كتاب ألف ليلة وليلة.
ولكن ما لنا وللتوراة الآن فقد قلت إن الماديين أفسدوا زعم موسى من حيث تكوين الأرض والإنسان ولكن باستور أفسد زعم الماديين بأن الحياة تتركب من المادة وجاء أخيرا الدكتور سيمون ليفسد زعم باستور. يقول هذا النطاسي الأميركي إن الحياة تتألف من مركبات كيماوية وإن الخلية الحيوية الأولى (بروتوبلازم) هي وهم كبير وافتراض فاسد، وإن دروين في خطأ مبين حيث ينصر هذا الرأي وإن المرء ليقدر في المستقبل أن يوجد مادة آلية على نحو ما وجد هو، وإن للمعادن حافظة تحفظ التأثيرات كما للإنسان، وإن الحياة هي نتيجة حركة كيماوية فقط، ومتى اختلت ميزانية الجواهر الكيماوية يضعف التأثير الكهربائي، ومتى ضعف هذا وزال تماما يكون الموت.
وإن الجاذبية الكائنة بين بعض الجواهر الكيماوية هي نوع من الإدراك العقلي إذ إنها تنتقي رفيقتها وتتآلف حسب طبيعتها وخاصيتها - ولا أوضح وأبسط من هذه المسائل، ومتى يا ترى تنطق الجواهر الكيماوية؟ لي حديث مع النملة فحبذا لو تكلمت لتفسد زعم هؤلاء الماديين الذين يظنون مصدر النفس البشرية في مزيج من الملح والصابون.
ولكن قد خرج من معسكر الماديين في ألمانيا فرقة كبيرة، خرجوا لينازلوا علماء الإنكليز القائلين بالنشوء والارتقاء وببقاء الأنسب، نعم من بيت أبي ضربت. هذا هو لسان حال تلك العقيدة التي تعزز القوة في العالم وتقتل في الضعفاء الرجاء، نعم إن علماء الألمان يحاصرون الآن بمدرعاتهم قلاع علماء الإنكليز، وقد غنموا الفرصة يوم مات الدكتور فيرخو ذاك الذي ضرب العقيدة هذه ضربة قاضية فنسفوا أعظم مدرعة إنكليزية وأغرقوها وتدعى هذه المدرعة في تاريخ الطبيعيين شارلس دروين.
يذكر القارئ أن دروين هذا صرف معظم حياته الطويلة ليسر إلينا أخيرا بأننا قرود مترقية، وأن أجدادنا الأولين أحياء حتى الآن ويقدر الواحد منا أن يراهم في بورنيا أو في إحدى الحظائر المشهورة. ولكن الدكتور فيرخو يؤكد لنا أن دروين لم ينجح إلا بالخلط والخبط والشطط والغلط، قد يصرف كمية وافرة من الحبر والقرطاس في هذه الحرب العلمية التي لا يرى العاقل فيها شيئا يستوجب الأهمية .
وقد فتحت كتاب حكمتي في هذا الصباح - وكتابي أيها القارئ يختلف نوعا عن سفر الجامعة - وقرأت في الوجه الأول منه: لا شيء مهم في العالم سوى الصحة والعقل والبشاشة، وتنازع العلماء بعضهم مع بعض مثل تنازعهم مع اللاهوتيين يبلبل الفكر ويقلق الراحة، فإذا استحسنت حكمتي واستصوبتها فحافظ على جواهر الحياة الثلاث الثمينات، أي: الصحة والعقل والبشاشة، ولا تحفل بأمر مجيئك ومصيرك، لا تحفل إذا عرفت من أين أتيت ومن هم أجدادك.
ولكن الطبع البشري لا يميل إلى السكينة ولا يقنع بالراحة، الإنسان يتطلب أبدا شيئا يشغل الفكر ويجلب الهم. فإذا كان لا بد إذا من اهتمام الفكر بشيء دعنا نهتم بالحاضر أو المستقبل لا الماضي. إلى أين ذاهبون؟ متى عرفنا ذلك لا يعود يهمنا معرفة من أين أتينا، ولكننا لا نعرف حتى الآن شيئا عن الأمرين فالأوفق إذا أن نهتم بالحاضر الحاصل ونترك مسألة نشوئنا إلى دروين أو إلى موسى إن كنت من الأتقياء ومسألة مصيرنا إلى القديس أوغسطينوس أو إلى الأستاذ هكل إذا كان يحلو لك الفناء.
ومن الحقائق الثابتة أن كل عقيدة تبتدئ بالبدعة وتنتهي بالخرافة، تبتدئ بالاضطهاد الذي يجيئها من الخارج وتنتهي بالإهمال الذي يأتيها من الداخل، وعقيدة النشوء والارتقاء التي ارتعدت لها فرائص الإكليروس عند أول ظهورها أخذت الآن بالتغير والترقي، وترقيها هذه المرة إلى أسفل لا إلى أعلى. رجل آخر مثل الدكتور فيرخو وتصبح العقيدة هذه من أساطير الأولين.
أما العقيدة فجميلة في ذاتها؛ لأنها تشرح كل شيء وتفسره تفسير الماء بالماء، ولكنها لا تبرهن على شيء برهانا حسيا، ولم يقدر واضعها ولا أحد من غلاتها أن يرينا كيف يترقى الإنسان من حيوان كما ترينا الطبيعة كيف تنشأ الفراشة وتترقى من زيز الشرنقة. البرهان الحسي الذي يحملنا على تأكد نشوء الفراشة من الزيز هو بعيد عن عقيدة النشوء والارتقاء التي طعنها الدكتور فيرخو بمديته فأغمي عليها.
وللعقيدة فضيلة أخرى تؤهلها للموت، وهي أن الأوليات فيها مخلة فهي تنسب أصل هذه الحياة البشرية ضمنا لا تصريحا إلى التولد الاختياري والتكوين الذاتي، وهذه من الفقاقيع التي أخذها باستور وظل ينفخ فيها حتى فجرها، ولا تهمني اكتشافات الدكتور سيمون من هذا القبيل فهو أميركي وكفاه بذلك تعريفا. ولم يقم أحد من الدرونيين بعد باستور وفيرخو ليلم شعث العقيدة المشهورة ويركبها ثانية إلا الدكتور هكل الألماني، وهكل هذا من الألمان الذين يحسنون الهزل فهو يريد أن يسلي الشعب الألماني ويلهيه إذ رأى حالتيه الصناعية والتجارية في اضطراب وتقهقر، فلا لوم عليه إذا طفق يضرب على طنبور دروين وينفخ في فقاقيعه «القردية.»
ما هي السعادة
ما هي السعادة، وأين هي، هل هي في الأعمال الصالحة، هل هي في الحياة النقية التي يعيشها أفراد قلائل، هل هي في الصداقة المجردة الحقيقية، هل هي في الاعتزال والوحدة، هل هي في الثروة أو في الصحة أو في الشهرة والمجد، أو هل هي في الحب الجنسي والعيشة العائلية الصالحة؟ فإن لم تكن في إحدى هذه الحسنات أو السيئات أين هي إذا، هل هي في القبر أو هل هي خيال يزورنا في المنام ويختفي قبل أن يقول: عليك السلام؟ لا يا صديقي إن السعادة منتشرة في العالم انتشار الهواء، ولربما قلت لك إن السعادة هي أن تتنشق من الهواء النقي بقدر إمكانك، وأن تمشي في البرية بضع ساعات كل يوم، وأن تستحم في كل بحيرة تصل إليها لتصبح صحتك كصحة الذئب أو العجل على الأقل. ولكن هذه وسائل حسنة فقط، هي طرق مستقيمة تؤدي إلى السعادة بأقرب ما يمكن أن يصل إليها أحد من البشر.
أما السعادة بالذات فهي إتقان الصانع صنعته والتوفر عليها، السعادة هي في العمل ولا سيما العمل الذي يتطلب إجهاد الفكر والاختراع. السعادة هي اللذة التي يجدها الإنسان في إتمام عمله على غاية ما يمكن من الكمال، هي اللذة التي يجدها المصور في صورة يصورها، والنقاش في تمثال يحفره، والشاعر في قصيدة ينظمها، والكاتب في رسالة يؤلفها والموسيقي في لحن يبتكره، والعالم في اكتشاف حقيقة علمية جديدة، والإسكاف في حذاء يصنعه والخياط في ثوب يخيطه، والفلاح في حقل يحرثه ويزرعه ويحصده. وقس على ذلك.
كل صنعة يتخذها الإنسان هي شريفة مقدسة بشرط أن يتقنها، بشرط أن يتابعها بنشاط واستقامة وحكمة وحذق وحماسة. وعندي أن النجار الذي يصنع مكتبة جميلة مثلا لهو أشرف من الأديب الذي لا يحسن عملا مفيدا، الأديب الذي يحتقر الأعمال اليدوية ويحمل نفسه أثقال الهيئة الاجتماعية، فيفادي بمهجته خدمة للإنسانية. خذ لك صنعة شريفة وأتقنها ما استطعت ومارسها باستقامة وقناعة وثبات فتستغن عن السعادة الفاسدة التي يطلبها جمهور الناس، السعادة التي ينهك الجاهل قواه في الركض وراءها ويموت أخيرا وهو بعيد عنها. •••
كتبت هذه الفقرة ونشرتها فورد على الجريدة من القراء ردود عديدة فيها كثير من الاعتراضات الفارغة والاحتجاجات السخيفة. وأما الذين قالوا قولا معقولا فاثنان، أحدهما صحافي معتزل والثاني قسيس متجول. ولا شك عندي أن الصحافي اعتزل الصحافة ليقترب من السعادة، والقسيس خرج من ديره ليفتش عليها في العالم، وبما أن مهنة الكاهن خارجة عن دائرة الفنون والصنائع المقيدة جاء اعتراضه في محله إذا قال: إن السعادة الحقيقية هي التي يتحد فيها الإنسان مع خالقه، هي قائمة في الصوم والصلاة والقنوت. وغير ذلك من المتاجر الدينية التي يتاجر بها رؤساء الأديان ولو فكر حضرة القس وسبر بمسبار النقد الناموس الذي أشرت إليه لأيقن بأنني أوافقه بالحرف إذا كنا لا نتفق بالروح، يعجبني كثيرا اتحاد الإنسان مع خالقه، ولكن لو سئلت وسئل القس المحترم عما نفهمه بالخالق لما كنا نرى ونسمع بعضنا لما يكون بيننا من بعد المسافة.
أنا روحي ولست ماديا. إني أرى في كل ما حولي من الطبيعة شيئا من الجوهر الإلهي الذي نسمي مصدره الأصلي إلها أو خالقا وكلما ترقى الإنسان ازداد في عينه الجمال الطبيعي المحيط به، وكلما درس الحكيم الطبيعة قرب من الناموس الرئيسي السائد في كل جزء منها، وهذا الاقتراب من الناموس هو ما أسميه ويسميه القس المحترم أيضا «اتحاد الإنسان مع خالقه.»
وأما الصحافي فيظن أن تعريفي للسعادة ناقص إذ قلت : إنها قائمة في إتقان الصانع صنعته ومزاولته إياها بصبر وجلد وسرور، بحذق وقناعة وحكمة. واللبيب الذي يمعن قليلا ويقرأ ما يتخلل السطور أيضا يرى بأنني كدت أنكر وجود السعادة في العالم بعد أن فتشت عليها سنين عديدة بالفتيل والسراج. كدت أقول مع المراسل الفاضل: السعادة «على فرض وجودها» هي كذا وكذا. ولكنني وجدت بعد أن فتشت حولي بأن السعادة الحقيقية هي التي تنشأ وتنمو في الداخل، في الروح. أنا أكتب فيما اختبرته فقط، وإذا طابقت اختباراتي اختبارات الغير فلهم أن يستفيدوا بها إما بالاقتداء وإما بالحياد.
لو أجهد المرء نفسه في جمع المال وأفنى حياته في احتكار صنف من البضاعة حتى يقال عنه أخيرا إنه «ملك السكر» أو «ملك الفحم» أو «ملك القطن» أيكون يا ترى سعيدا، ولو أصبح أغنى من روتشيلد أو روكفلر وكانت معدته ضعيفة ورئتيه معتلتين أيكون يا ترى سعيدا، ولو كان صحيح الجسم والعقل وكثير المال والنشاط ولكنه خال من الشفقة والمحبة والحنو، أيكون يا ترى سعيدا. لو كان غنيا في آدابه وفي صحته وماله وفقيرا في الفضائل التي هي دعائم العائلة أيكون يا ترى سعيدا. إني أتفق من بعض الوجوه وذاك الصحافي في ما قاله عن بساطة العيش وسذاجته، ولكنني أنكر أن المجد والشهرة والعظمة لا تأتي أبدا عن طريق الحياة البسيطة التي تزينها القناعة وتكللها التأملات الروحية، من كان قنوعا في حياته من الفلاسفة والحكماء كان - ولا شك - سعيدا.
أنا قنوع من جهة مادية أرضية، ولكنني غير قنوع من جهة روحية سماوية. روحي تطلب أكثر من معدتي في الأحايين، وعقلي يطلب الآن أكثر من حواسي، وبما أن كلامنا هو عن السعادة الحقيقية الروحية يجب أن نتكلم عن الفلاسفة والحكماء؛ إذ لا سعادة حقيقية إلا في الحياة البسيطة النقية التي عاشوها. ويجب أن نذكر بأن في العالم طبقة كبيرة من البشر ممن لا يفكرون أبدا في السعادة، هؤلاء الناس يكدون ويأكلون وينامون كأجدادهم الذين عاشوا في العصر الذي عاشت فيه الحلقة المفقودة.
المجد الذي يجده القائد في انتصاراته زائل، والشهرة التي يتطلبها الكاتب زائلة، والسعادة التي يجدها الفتى في ماله لا تدوم، والسعادة التي يجدها الفقير في قناعته ومحبة أهله هي سعادة كاذبة ضيقة النطاق تزول إذا صار الفقير غنيا أو تنتهي إلى الرضوخ والعبودية إذا ظل فقيرا، والسعادة التي يجدها العاشق في عشقه هي غالبا سم قاتل.
إن طريق المحبين ملطخة بالدماء، أما السعادة الحقيقية هي التي يجدها الصانع في صنعته على الإطلاق، أي: أن المصور مثلا يلتذ في صورة جميلة صورها، ولكن لذته هذه أيضا لا تدوم فلربما شغف المصور بصورته مدة أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين، ولكن متى زالت هذه العاطفة زالت السعادة فعليه إذا أن يداوم العمل، أن يلاحق التصوير، أن يصور صورة أخرى لتبقى لذته في عمله متواصلة. وهذه اللذة المتواصلة هي عندي السعادة بعينها.
إني أعرف - حق المعرفة - ما في الحب الجنسي من اللذة، فلا تحدثني عن النساء، بل قل لي لو داوم المحبون التواصل كما يداوم المصور التصوير أو الشاعر النظم ماذا يا ترى تكون النتيجة.
وماذا يعني المعترض في قوله إن تنازع البقاء ينفي القناعة والزهد وشظف العيش، وماذا يعني في قوله: إن جهاد الحياة وتطلب المعالي يقفان في طريق من عاش عيشة الزهد، ألم تأت الشهرة أولئك الفلاسفة الذين ذكرهم رغم قناعتهم وعيشتهم البسيطة الفلسفية. قد وجد أولئك الحكماء سعادتهم في عملهم لا في نتيجته المادية، وجد ملتون قسما كبيرا من السعادة الأرضية في نظم تلك القصائد الشائقة ولكن بيعها إلى الطابعين ما كان إلا ليكدره ويحزنه، نسي ملتون همومه أثناء نظمه، ولكنه لما انتهى من قصيدة «الفردوس المفقود» وباعها بقيمة زهيدة من المال - بخمس جنيهات فقط - عاد فنظم ونظم ونظم، وهكذا كان يسلي نفسه في عمله لا بنتيجته المادية، كان يقاتل الدهر في مداومة النظم والإبكار، وهكذا قل عن أبي العلاء وكثير من الشعراء.
يظهر لي بأن الصحافي المعتزل مهتم كثيرا بجمع المال في هذه الأيام؛ ولذلك يكثر من ذكر الأرباح الطائلة والجهاد في الحياة. أما أنا فلا أرى في مواصلة مثل هذا الجهاد شيئا من الحكمة. والغاية من الحياة هي أسمى من أن نحددها بالدرهم والدينار ونحصرها بالأصفر الرنان والدولار. إن الغاية الفضلى من الحياة هي أن يعيش المرء باتفاق تام مع الطبيعة ونواميسها. وماذا تجلب المعالي الدنيوية غير المجد الباطل، فلنطلب العلاء الذي تتطلبه النفس، العلاء الذي يجعل الإنسان مدركا ما في الطبيعة من المناقضات والمؤتلفات، من البشريات والإلهيات. العلاء الذي يهمس بأذنك بأنك قسم مفيد من هذا الكون العظيم مهما كانت منزلتك منه ومكانتك في أهله.
إن تمدننا الحالي متوقف على مداومة العمل ليل نهار، ولكن - بعيشك - قل لي ولم هذه الحركة الدائمة؟ هل فيها قيراط من السعادة الحقيقية إذا نسبت إلى واحد في الألف من الفقراء الذين يكدون ويجاهدون ويعرقون دما ليحصلوا معاشهم؟ هل فيها قيراط من السعادة الحقيقية لأولئك الأغنياء الذين يجمعون الأموال الطائلة ويموتون في الجهاد بائسين.
أنا أكره كل هذه الحركة كرها شديدا، التمدن الحالي يمنع الناس من أن تفكر وتأكل وتنام على ما يقتضي، وعندي أن نظام الأسبوع يجب أن يتغير كل التغيير، يجب أن يقلب ظهرا لبطن، يجب أن نخص يوما واحدا بالعمل وستة أيام بالراحة، وليست الراحة التي أطلبها راحة الفيل وهو نائم في فيء صخرة في الصحراء، بل هي الراحة التي يجدها الفيلسوف في درس الطبيعة وفي التأمل، هي الراحة - لا بل السعادة - التي يجدها الشاعر والحكيم والمصور والنقاش والعالم في دروسهم وابتكاراتهم، هي الراحة التي تمهد السبيل إلى ما وراء هذا الكون، إلى العوالم غير المنظورة، إلى الله.
السعيد من جعل فكره مرآة للطبيعة، السعيد من عاش حياة فكرية روحية حسية شعرية لا حياة أرضية مادية محضة، هذا هو الرجل الغني بالعقل والروح، هو يعطيك مال العالم بأسره لو ملكه ويخرج إلى البرية ليمتع هناك بكل ما أعدته الطبيعة لبنيها الروحيين، أنا إذا مشيت تحت المطر أعتبر كل نقطة منه مرسلة لي وحدي، فأقتبلها بيد الروح وأعيدها بذات اليد إلى الأرض وإلى البحار التي أعود أنا أخيرا إليها، وبيد الروح أصافح الآن القارئ، إسكافا كان أو شاعرا، وأسأله أن يذكرني ساعة يضع جانبا أدوات صناعته وينظر إلى عمله بعين الرضى والسرور والابتهاج.
بيتان للمتنبي
قال أبو الطيب يمدح سيف الدولة:
نهبت من الأعمار ما لو حويته
لهنئت الدنيا بأنك خالد
ومن من الأدباء والشجعان لا يعجب بالمادح والممدوح لما كان في هذا من البسالة وفي ذاك من الذكاء، ومن منهم لا يكرم الاثنين ويعظهما لو قرنت بسالة الواحد مع الحلم وذكاء الثاني مع الفضيلة، وإن قلنا إن ذكاء المادح بعيد عن البشريات فبسالة الممدوح بعيدة عن البشريات وعن الإلهيات أيضا. ولذلك نود ألا يقتدي أرباب الرجولية من الملوك بسيف الدولة وأن لا يقتفي نوابغ الشعراء أثر المتنبي، إذ ماذا ينفع الذكاء الذي يستخدم في المجاملة والتدليس والمداهنة، ومن يأسف على تلك العقول التي تحرق في المجامر مع البخور على مذبح الظلم لتمجيد الظالم ومدح مظالمه، فلو قطع سيف سيف الدولة عنق الذكي الذي يحاول قتل الحقيقة بذكائه لاستحق - إذ ذاك - مديح الشعراء الصادقين.
ولمعترض أن يقول: إن في شعر المتنبي الذي ترويه بعض الحقيقة فقد قطع سيف ذلك الأمير الألوف من الأعناق التي لو جعلت بعضها فوق بعض ووقف هو عليها لصار رأسه بين النجوم خالدا، ولكن من من البشر يتمنى الخلود لوحش مفترس، ومن منا يود لو كان الجزار في العالم إلها، ومن منا يصدق أولئك الذين يتبعهم الغاوون.
أما المتنبي فلذكائه عندي من الإعجاب ما لشخصه من الاحتقار؛ لأن الرجل الذي تخصه الطبيعة بقريحة وقادة فيضرمها أتونا ليحرق فيه عرائس الحقيقة والعدل لا يستحق أن يدعى رجلا حقا.
والذكي الذي يزحف ويدب تحت غبار الظالم الأثيم يجحد نعمة إله السماء واهب الذكاء. ولا تظنني أول من آخذ المتنبي بذلك، فقد نظر أبو بكر الخوارزمي قبلي إلى تناقض حكمته وتفاوت طرفي فعلته، ومما قاله فيه: «ويخلع خلعة من نظمه تساوي بدره على عرض لا يساوي بعره.» وهنا يجب أن أنبه القارئ إلى مبالغة أبي بكر وشدة ولعه بالجناس والتوشيح والتدبيج، فإذا عرف ذلك يضرب عن «بدره وبعره» صفحا، وقد قال أيضا عن المتنبي: «ويزف كريمة من كرائم شعره إلى من لم تقم عنده كريمة. (وولعه بالتوريات أشد من ولعه بالسجع والترصيع) ولم تعرف له قيمة ... لو رأى الطمع في جحر فأرة لدخله، ولو أتاه الدرهم من است كلب لما غسله.» إلى آخره من القول العنيف السديد الشديد.
وعندي أن العقل كالمرآة من إحدى وجوهه، والاستقامة له كالطهارة لتلك المخلوقة المحبوبة، ويجب أن يلازمه الصدق أبدا كما يجب أن تلازمها الطهارة، ومتى تجرد الاثنان عن تينك الفضيلتين تصبح المرآة مومسة والعقل قوادا. ولا لوم على المومسة التي تعرض جسدها على الناس إذا اضطرتها إلى ذلك الحاجة، وأما الشاعر الذي يتاجر بذكائه مغضيا عن الحقيقة والعدل فحبل من مسد أشدده في عنقه وألحقه بأبي لهب، أجل إن العقل الذي يدنس في أوحال التدليس والكذب ما هو إلا متاع ينادي عليه صاحبه بالمزاد، قد تعذر - والله - البغي؛ لأن الحاجة غالبا ترميها خارج البيت والفقر يبقيها في الشوارع واحتقار الناس إياها يمدها في طغيانها ويبعدها عن النور.
والشرائع لا تبدد من حولها الظلمة بل تزيدها في أعم حالاتها ظلاما، ولو خصتها الطبيعة بإرادة قوية وروح سامية لعادت - لا شك - عن غيها، بيد أن الشاعر الذي يبيع ذكاءه بدرهم، الشاعر الذي لا يخدم الحقيقة ولا يذب عن الحق، الشاعر الذي يخلع عن عقله ثوب الاستقامة وعن نفسه حلة الأبوة وعن قلبه رداء الصدق فما قولك به؟ ما قولك بهذا الجربز المتمخرق العريان أعدت المشنقة لسواه؟ أويعد من الحكماء من قال أيضا:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
فحبذا لو حذف هذا البيت من ديوان المتنبي حبذا لو عدل الشعراء والكتاب والخطباء عن التمثل به والعود إليه، حبذا لو أمعنا النظر قليلا في الأشعار التي نستشهد بها والحكم التي ننقلها، أيجب أن تكون شرائعنا الأدبية اليوم كشرائع أجدادنها الناقصة؟ أصحيح الشرف لا يسلم ولا يتعزز إلا إذا لطخ بدم بشري؟ إذا كان كذلك فأنا في غنى عن مثل هذا الشرف. إذا كنت لا أستطيع المحافظة على شرفي إلا بسفك الدماء فأنا لا أحافظ عليه خير لي أن أعيش مجردا عن ذاك الشرف الموهوم من أن يموت فرد من بني الإنسان بسببه.
فكر قليلا فيما أقوله، إن الشرف المتعارف عند الناس نصفه فقاقيع وأوهام ونصفه خيال وأحلام، ومعلوم أن فقاقيع الصابون كلما كبرت دنت ذراتها إلى الانحلال والخيالات كلما امتدت أشرفت على الزوال، فيجدر بنا أن لا ننفخ شرفنا فيزول أو نعكس عليه من الجانب نور الوهم فيمتد الخيال فنظن أنفسنا كبارا، وهناك حقيقة أخرى لا أكتمها القارئ وهي أن الشرف الذي يعتبره سكان القارات الشمالية مقدسا يعد عند سكان القارات الحارة أضغاث أحلام فالأوروبي أو الأميركي أو السوري الذي لا يدافع عن شرفه وعرضه في أية ظروف كانت يعد جبانا ويوصم بوصمة العار.
ولا يدفعه إلى ارتكاب الجريمة مدافعة عن عرضه وشرفه إلا الخوف من التعيير، الخوف من القيل والقال، الخوف من تقبيح الناس به واحتقارهم إياه، وهذا هو نفس الخيال الذي نخشاه، وكلما كبر الخيال ازداد خوفنا لا من الإثم فقط بل من الغضاضة والعار.
يقول ثقات المسافرين: إننا كلما قربنا من خط الاستواء قصرت الخيالات بسبب استقامة أشعة الشمس ففي جاوه مثلا يسير الغزال والأيل أو الأوروبي أو السوري في نصف النهار مطلق الحرية، لا يخجل من ظله أو يخشاه، على أنهم إذا توجهوا نحو الشمال تظهر هناك الظلال وتكبر الأوهام. وهناك البكاء على الشرف الملطخ بالدماء، هناك الخوف من الغضاضة والعار الموهوم، ومن القال والقيل، ومن ظلم الرأي العام وصولته.
نعم كلما تقدمنا شمالا ازداد الخيال طولا. والخوف من هذا الوحش المفترس؛ أي: الرأي العام، يشتد بقدر ما يمتد الخيال، هذا هو السر في المسألة، لا أكثر ولا أقل.
فالذي يخاف خياله إذا لا يلام إذا تمثل بقول المتنبي الذي افتتحت به هذه الملاحظات، وليعلم القارئ بأنني أسكن بعقلي بالقرب من خط الاستواء فلا خيال هناك أخشاه ولا اصطلاح يضطرني إلى تلطيخ شرفي بدماء بشرية فإن أراد مجاورتي ينبغي له أن ينبذ حكمة المتنبي ظهريا ويتمثل بحكمتي.
مكروب الغيرة
جاء في نشيد الأنشاد أن المحبة قوية كالموت والغيرة قاسية كالجحيم، على أن الحب الذي يولد مثل هذه الغيرة هو ناقص الجهاز فاسد الجوهر، هو حب ربلي عضلي لا تتصل جذوعه بتربة الروح الأزلية بل بسماء النفس الإلهية، وأن الحب الذي يصفه الحكيم والحب الذي يهز عامة الناس وخاصتهم لشرع من هذا القبيل، وأما الفارض وحبه السري وجلال الدين الرومي وحبه الإلهي ودانته وحبه السماوي فأمثال هؤلاء يعدون على الأصابع، ومع أننا نترنم بشعرهم فتسكرنا نشوة غرامهم فإن بين حياتنا وحياتهم شعابا ووهادا. من منا لا يقرأ ابن الفارض ولا يروي شيئا من شعره، كم منا يفهمه ويدرك كنه هيامه، ومن من الناس لا يختبر بنفسه صدق قول سليمان الحكيم عندما تستولي عليه الغيرة.
ولكن حين يتحقق ذلك تتجلى له حقيقة أخرى أقسى من الأولى وأشد وهي أن ساعة تخامر الغيرة القلب يأفن الحب ويذبل ويضمحل، فلا تكاد زهوره تنور في تلك الربلات الناعمة حتى تسوس جذوره في العضلات المستحجرة، لا أنكر أن البضعة المكتنزة لأطيب من البضعة المسترخية وأن الوجه الوسيم القسيم لأقرب إلى صورة الله من الجهم الدميم، ولكن في الحالين الساق المجدول يبجبج ويزول وحسن الوجوه حال يحول.
الحب المادي إذا هو ضرب من الحمى التي يتلوها البرد والارتعاش، هو هوى ووله يتبعهما تثاؤب وقرف، هو دبيب نمل في الجلد إن أزاله الحك والفرك شهرا تخلفه القروح والأورام دهرا، وهذا هو الحب الذي ينتج الغيرة القاسية كالجحيم، على أن في كل مظاهر الطبع البشري وفي كل الانفعالات النفسانية لا شيء يماثل هذه العاطفة الحيوانية ويضاهيها إلا إذا استثنينا نهمة الكسب والإثراء في أبناء هذا الزمان، فالغيرة في نشوئها وتجسمها وفي هولها وفظاعتها هي أم العواطف الحيوانية المحضة التي تنقطع فيها المواصلة تماما بين قوة الإدراك والمجموع العصبي، هي العاطفة التي تحلل خرق وصية الله الخامسة تعزيزا لوصيته السادسة والشريعة اليوم تؤيد جانب الغيرة وتعفو عن صاحبها الذي يتمثل بقول المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
ويعمل بموجبه في ساعات الظنون والجنون.
وكم من شاعر وقع في أشراكها! كم من عالم أخذ في أحابيلها! كم من كاهن تاه في ظلماتها وخسر نفسه في موبقاتها فعاد الأول وهو يصفها لنا وصفا بليغا! وجاءنا الثاني وهو يبحث في أسبابها وعلاتها ونتائجها وتصدى الثالث إلى الوعظ فنهى وحذر وتوعد وأنذر، ولكنها لم تزل اليوم كما كانت يوم كتب نشيد الإنشاد فهي تستحوذ على الشاعر والعالم والكاهن كما تستحوذ على الفلاح والنوتي وراعي الغنم، وكما استحوذت على سيدنا داود وابنه سليمان في غابر الزمان.
ومن الأمور المدهشة المحزنة هو أن العلم لا يلطف مفعولها ولا التهذيب يؤثر فيها تأثيرا حسنا ولا سمو العقل والإدراك يزيل شيئا منها. ففي المغرب بأسره قديما وحديثا لم يأتنا التاريخ بنبأ يسر من هذا القبيل ولا أذكر إلا حكيما واحدا انتابه مثل هذه النوبات العصبية بسبب نشوز امرأته وشرودها فملك ذاته وحكم عقله في الأمر لا قلبه وسرح المباركة تسريحا حسنا دون أن يعضلها فتزوجت - إذ ذاك - من أحبها وأحبته، والحكيم هو الكاتب الإنكليزي الشهير رسكن وقصته مع امرأته والمصور الذي استغواها مشهورة فبدل أن يسترسل في الغيرة والظنون والحقد والقلى؛ أصاخ إلى صوت الحكمة التي هو من أمرائها وفتح لامرأته الباب ولسان حاله يقول: اخرجي بسلام، اذهبي وعيشي وإياه متعكما الله وأملا لكما، ولكن رسكن من هذه الوجهة فرد منقطع النظير وعمله من الشواذات الجميلة التي تتمجد بها الحكمة وتود لو صارت قواعد شاملة مطردة.
وإن أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا وأسماهم إدراكا لتتغير أخلاقه ويذهب لبه سدى، فيفسد في الهيئة الاجتماعية ساعة تستعبده الغيرة، وقليلون في أوروبا وأميركا الذين لا يجترحون السيئات ويجنون الجنايات عندما تنتابهم هذه النوبات الدموية الخبيثة فتقذف بهم إلى ضفة أرض خيالية ليسمعوا هنالك أصوات أشباح الشرف والشهامة تحثهم على القتل وتطالبهم بالثأر والانتقام. ولا أظن هذه الأشباح سوى أشباح شرف وهمي وشهامة غير بشرية. إنها - والحق يقال - خيالات ذواتنا الحيوانية وقد هاجتها حمية جاهلية. والظاهر أن في كل منا كلبا كلبا يفلت من وجره بعض الأحيان فيخجلنا ويذلنا إن لم يمزقنا ويقتلنا، وقد أعرب الشاعر شكسبير عن شعور كل إنسان من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق إذ قال:
إني لأفضل أن أكون ضفدعا وأتغذى من أبخرة الأرض وعفونتها على أن أكون إنسانا وأبقي زاوية للغير في من أحبه.
فالفلاسفة يدعون الناس إلى الحكمة والتعقل، والمتشرعون يسنون الشرائع لردع الإنسان وكبح جماحه، والعلماء يحذرونه من الاسترسال في الأشياء ويحببون إليه الاعتدال، على أن ذلك كله لا يغني من الغيرة شيئا. اللص يزج في السجن جزاء عمله والقاتل من أجل ثروة أو مطمع دنيوي أو لداع ما غير داعي الغيرة يكبل بالحديد وتنصب له المشنقة فيحرم من حياته ولا أحد يرفع من أجله صوت الشفقة والحنان بيد أن القاتل غيرة ودفاعا عن شرفه وعرضه يقف أمام القضاة عزيزا كريما فتنسخ من أجله ما سن من الشرائع في ما مضى من الأجيال، وينسى المحكمون أنهم قضاة عدل وحق وإنصاف فيتساءلون ويذكرون، وما منهم إلا وله ابنة أو أخت أو أم أو امرأة.
ألم يجن هذه الجناية غيرة ودفاعا عن عرضه، بلى، إذا فليعفى عنه. كذلك تتعزز الوصية السادسة وتمتهن الخامسة التي هي أهم وأكبر، وإنه ليتعذر وجود عشرة رجال في أوروبا أو في أميركا يدعون «جوري» أو محكمين ليقتصوا من مثل هذا الجاني بحسب الشريعة الوضيعة وبموجب نص الأحكام الجزائية. ولا أذكر أن محاكم نويرك في مدة العشر سنين التي كنت أطالع فيها أخبار مثل هذه الدعاوي حكمت مرة على واحد من هؤلاء المجرمين بالإعدام، وكثيرون هم هناك وكثيرا ما كنت أطالع أخبارهم المؤلمة المزعجة حبا بدرس هذه العاهة في الطبع البشري، وأذكر أنني حضرت مرة محاكمة رجل أطلق الرصاص على قسيس هتك ستر امرأته وانتهك عرضها، فشكت المرأة القسيس لزوجها، وكان ما كان من إطلاق الزوج الرصاص على الباغي، ومن نشر الفصول الضافية في الحادثة في صحف الأخبار، وحضور المرافعات في الدعاوي الكبيرة في تلك البلاد مثل حضور الروايات التمثيلية، يسلي ويفيد.
ومتى كان في مثل دعوى هذا القسيس فيضحك أيضا، وحقا إني دهشت لما دخلت المحكمة في أول يوم المرافعة ووجدتها غاصة بالنساء والقسس ثم تحيرت إذ رأيت القسس كلهم واجمين وأكثر النساء ضواحك فكأنهن يسخرن من أختهن المنهوك عرضها، ويا للعجب كيف كن يزلقنها بأبصارهن ساعة تدخل المحكمة متكئة على ذراع زوجها، وأما القسيس فما من قسيس إلا كان معه وحتى بعض النساء شهدت له بطهارة الذيل وعفة القلب، وكذلك انتشل الباغي من حمأة الخزي والعار والنساء يتساءلن ويتهاتفن قائلات: ولم أخبرت زوجها لم لم تسكت وتستر إهانتها.
فخرجت المسكينة من المحكمة مدحورة مذمومة وخرج القسيس والغيد يرمقنه بأعين عطوفة وإخوانه يقبلون عليه بأوجههم مهنئين، فقلت إذ ذاك في نفسي: لا عدو للمرأة إلا المرأة ولا صديق حميما للقسيس إن كان في أميركا أو في بلادنا إلا هذه المخلوقة اللطيفة المباركة، وفي المسألة سر بل أسرار أسدل عليها أولو أمر الستر محافظة على هؤلاء الأبرار. وأما الآن فإنك لترى مقاليد هذا السر في يد الفطن والغبي من الناس، وفي جيب الصغير والكبير من العوام. اصرف اللهم الخزي والعار عن هؤلاء العباد من العباد.
ما من مشاحة في أن الأديان هزت الشعوب فلطفت نوعا أنفسهم الهمجية الخشنة، وأن حب الخير هز الملايين من الناس فجاءوا بالصالحات والمبرات، وأن الشجاعة هزت الألوف وألبستهم المجد في الصفوف، وأن الفلسفة وحب الحق والعدل أثرا نوعا في بعض المئات من البشر. وأما عاطفة الغيرة الخبيثة فإنها لتهز كل امرئ وتستفزه وتحمله على ارتكاب ما يعد بغيا وعدوانا في غير هذا السبيل.
ومذ نشوء الحياة البشرية - أو بالحري من يوم ظهر الإنسان في صورة قرد كما قيل - رأى في شجرته قردا آخر فهزته عاطفة الغيرة واستفزته وكانت النتيجة موتا زؤاما على الدخيل الباغي. وإن أسفل العواطف البشرية وأفظعها لتهيج الواحد منا الآن كما هاجت ذاك القرد وحملته على قتل أخيه، فهي لم تزل مالكة عقولنا مستولية على أعمالنا عابثة بعلومنا ومعارفنا ساخرة من فهمنا ومداركنا. لا ننكر أننا تقدمنا ماديا تقدما سريعا فالعالم اليوم أعظم من ذي قبل من حيث الجربزة التي تدعى تجارة والتفنن في القتل الذي يدعى حربا والعبودية التي تدعى صناعة. وأما أدبيا وروحيا فلم نزل أطفالا نتهته في المهد، ونحسب لعابنا المتحلب زبد صرعة الوحي وصراخنا دوي نبوة.
التعزية في المصيبة والمصيبة في التعزية
إن مصيبتي ناتجة عن الطبيعة التي أنا منها وفيها ولها، إنها لنتيجة عوامل خفية تظهر في زرع الحقل كما تظهر في نفسي وتؤثر في العشب الملتصق في المحار كما تؤثر في أعصاب الحيوان والإنسان. إذا لا يحق أن تدعى مصيبتي مصيبة، بل هي بيت من القصيدة الإلهية الجامعة اللانهائية لها، هي بيت واحد من القصيدة التي ينظمها الخالق فتتلاطم في بحارها أمواج الرزايا، ويتبسم في سمائها برق السرور، وتتدفق من قوافيها سواقي الحب الفضية، وتتأجج تحت ألفاظها نيران الهيام والحسرة واليأس. هي قصيدة الحياة التي ينظمها شاعر السماوات والأرض ويجعل ألفاظها الأودية والسهول والجبال والبحار، ونقطها كواكب السماء وبدورها، وحركاتها الرياح والعواصف، ومقاطعها حوادث الأمم والأفراد، ومحورها الحياة والموت وما يتخللها من السكوت والابتسام والبكاء.
نعم مصيبتي هي بيت واحد من هذه القصيدة، نظم من أجلي خاصة فأقرؤه بعد ساعات السرور مرارا وأردده في ساعات الغم تكررا، ثم أعود إلى ما في القصيدة الشاملة من الأبيات التي نظمت لغيري. أبيات يغازل جمالها عرائس السرور، وتدرج في لهيب بيانها أرواح المحبين، وتستذرف من عيون القدر دموع القداسة، وكل حادث يجري في العالم هو بيت من هذه القصيدة والسعيد الذي يقرأ معظمها؛ إذ لا يستطيع أحد من البشر أن يقرأها كلها.
أنا على اتفاق تام مع الطبيعة والخالق، احترم ناظم السماوات وأعجب بقصيدته الإلهية فأقرأ البيت الذي نظم من أجل الغير كما أقرأ البيت الذي نظم من أجلي، واللذة التي أجدها في الواحد توازي الكآبة التي يلبسني إياها الآخر فما هي مصيبتي إذا؟ هي في أصدقائي الأعزاء، بليتي في التعزية التي يقدمها هؤلاء من غير ترو وتبصر، في التعزية التي تفسد حزني المقدس فتحوله إلى غيظ وحنق وشراسة، نعم أنا أحب الحزن كما أحب السرور وسعادة الإنسان مؤلفة من الاثنين.
وكل طريق جزتها كنت راشدا
وأي بلاء تبلني كنت أحمد
إذا كنت أستحق التعزية وأنا في محفل الموت فلم لا أستحقها أيضا وأنا في محافل الحياة، لم لا أستحقها وأنا في القهاوي والملاهي أو المجالس الأدبية أو في مكتبي.
لا أنكر ما للإنسان من العواطف التي تميزه عن الحيوان في درجتي الترقي والانحطاط، فهو كتلة عواطف مختلفة، منها مستمدة من ينبوع الحب الدائم، ومنها باقية من آثار الكهوف والصحاري والأودية، ولهذه الكتلة قشرة غليظة تخفي ما تحتها وتبعده عن حاستي اللمس والنظر، ألا وهي قشرة العادات.
فالإنسان إذا كتلة عواطف مختلفة مغطاة بقشرة العادات والتقاليد السميكة، ويجب على الحسن من هذه العواطف أن يظهر في حالته الحقيقية، وكيف يتم ذلك إذا لم تنزع عنه القشرة التي تيبس وتذبل مع الزمان، فإبقاؤها في هذه الحالة فوق عواطفنا هو كإبقاء باقة من الزهور في إناء أسن فيه الماء. فالتحجر أو الذبول الذي يلحق بالقشرة ينتقل إلى العواطف كما يتصل فساد الماء بالزهور فتذوي، لذا تحتم علينا أن ننزع القشرة إذا أحببنا بقاء عواطفنا سالمة نقية مزهرة.
للعادات - كما للإنسان وللدول - أطوار مختلفة، أهم ما نراه ونراقبه منها طور النمو وطور البلوغ وطور الاضمحلال، ففي الأول تنشأ العادة وتنتشر بين الناس، وفي الثاني تتملك منهم وتستعبد النفس فيهم، وفي الثالث تظهر دلائل الاضمحلال إما في الحاكم وإما في المحكوم، إما في العادات وإما في عبيدها.
وقد تظهر غالبا في الاثنين معا إذا لم يكن هناك سبيل للوراثة، فكم ضعافا يذهبون فريسة عادات قبيحة؟ كثيرون كثيرون، وكم عقلاء جريئين ينتبهون وينبهون إلى أضرار تلك العادات ويحاولون إبطالها ؟ قليلون قليلون، نعم إن من يموتون عبيدا أرقاء لأكثر جدا من الذين يعشيون أحرارا ويظلون سادات أنفسهم، وما أولئك الكثيرون إلا هيئات مختلفة مملة لاصطلاحات قديمة معتلة.
هم صور جديدة بليدة لأجداد طوتهم الأيام وأنعشت قبورهم أمطار الأعوام، بل هم أرواح ميتة في قبور متحركة، وهل تعرف من قتلهم؟ العادات والاصطلاحات والتقاليد، وحبذا لو حاول القارئ أن يكون في هذه المناسبة من القاتلين فينجو عندئذ من القتل. وأكد أن العادات والتقاليد السقيمة تقتلك إذا لم تقتلها، ولا يجب أن يراك الإنسان في تابوتك أو يجس نبضك ليتأكد أنك ميت، فاقتل إذا ولا تخف، ليس كل قاتل مجرما.
أما العادات التي يجب إبطالها فكثيرة، أذكر منها الآن فروض التعزية المتملكة من السوريين، قد قلت في البدء إن مصيبتي ليست من الله ولا من الطبيعة بل هي من أصدقائي ومعارفي. لا مشاحة في أن السوريين يتأثرون أكثر من سواهم بحادثي الموت والفرح، فلا يسعهم إظهار حزنهم أو سرورهم إلا بالولولة والهتاف، بالبكاء والضجيج، وسبب ذلك واضح، يموت سقراطنا وعلى وجهه ابتسامة السرور والرضى والابتهاج، ويموت البربري من الخوف والرعب قبل أن يقرع بابه. زملاء الفيلسوف المحبون له ينشطون بموته ويستمد أصدقاؤه من ابتسامه الإلهي شيئا من الرجاء والتعزية، وأما أهل البربري فيملئون الفضاء ولولة وصراخا وعويلا، وهذا سبب واحد وللقارئ أن يتوسع ويزيد.
يموت السوري فيذيع أهله خبر موته فتتهافت المعارف والأصدقاء والأقارب إلى بيت الفقيد ليعزوا أهله «وليأخذوا بخاطرهم» كما يعبر عن هذا الواجب في لغة العامة، لا أشك أبدا بقصدهم الحسن ولا أسخر من عواطفهم الحقيقية، ولكن العادات التي تخفي القصد والكلام الذي يطلون به هذه العواطف فهذه والله البلية الكبرى، إذا كانوا يعنون «بأخذ الخاطر» سلب خاطر أهل الفقيد بخلابة اللسان وفصاحة الكلام فهم - والحق يقال - يفوزون لا بسلب الخاطر فقط بل بتعذيبه وتمزيقه إربا إربا.
الوعظ والنصيحة! نجنا يا رب منهما، نجنا من وعظ الثقلاء ونصائحهم، يظن من يذهب ليعزي أن من واجباته التفلسف في أسرار الكون وحكمة الخالق وجهل المخلوق وبطل الحياة ... إلخ، فيردد الكلام الذي ورثه عن أجداده من دون ما تدبر، وهو كلام فيه من التعزية قدر ما فيه من المعنى أو قدر ما في الميت من الحرارة. وما أجمل السكوت في مثل هذه الحالة. السكوت الذي يعبر عن كل شيء، فما أحيلاه.
قال أحد كتبة الفرنسيس «الكلام يخفي العواطف الحقيقية بدل أن يظهرها.» نعم، لا حاجة إلى اللغة في ساعة الموت أو في ساعة الفرح الشديد، اللغة تقصر عن إظهار ما في النفس كما يقصر البرق عن إظهار ما وراء الشمس والكواكب.
وأما من لا يستطيعون إلا التكلم فكم يخففون عن أنفسهم لو اعتاضوا عن المواعظ المملة والنصائح البليدة بكلمتين فيهما ما معناه: إننا نشعر معكم في مصابكم ونرجو أن يطيل الله بقاءكم، وبعد أن يقولوا ذلك ويروا الميت - إن شاءوا - يذهبون دون أن ينتظروا القهوة المرة التي يقدمها أهل الفقيد. وهل يفعلون ذلك انتقاما يا ترى؟ ولم القهوة المرة؟ فإذا كان صديقي يستحق فنجانا من القهوة ألا يجب أن أقدمه له كما يحبه، لأهل الفقيد الحق أن يميتوا بعض لذاتهم إكراما له ولكن إكراههم المعزين على ذلك أيضا هو ضرب من التقاليد التي لا تليق في هذه الأيام. إلا إذا فهمنا أن المعزي الثقيل الذي يملأ القاعة مواعظ ونصائح فارغة يستحق العقاب على ذلك، وفنجان من القهوة المرة هو عقاب خفيف. فما أجمل الرفق والرحمة!
وبعد أن ينتهي المعزي من التفلسف وشرب القهوة يقوم فيودع أهل الفقيد قائلا: إن شاء الله تكون خاتمة أحزانكم. فهل تأمل أحد بمعنى هذه العبارة ونتيجتها الواضحة؟ لكل منا أقارب وأصدقاء ومحبون يشق عليه فراقهم ويحزنه موتهم، ولكل منا شخص أو شخصان نود لو سبقناهم إلى الآخرة؛ كي لا نحزن على فراقهما، ولكن حين يدعو لي المعزي قائلا: «إن شاء الله تكون خاتمة أحزانكم» أيريد أن أموت قبل أقاربي وأنسبائي وخلاني كي لا أحزن عليهم عند موتهم، أو هل يطلب لنا كلنا الحياة الدائمة على الأرض، ويريد أن نبقى أبدا على هذا الشاطئ البارد دون أن نعبر بحر الموت إلى الشاطئ الآخر، شاطئ الأبدية والسعادة الأزلية المنتظرة، إن العاطفة شريفة والدعاء جميل ولكن الغلو خاص بالشعراء.
وهذه كلها آفات صغيرة بالنسبة إلى آفة أخرى، وكلنا نعرف شدة ولوع الخطباء والشعراء عندنا بالتأبين والرثاء، فكل من مات يستحق عندهم دمعة وقصيدة، ولا فرق فيما إذا كانت حياة المتوفى هبة ريح في صحراء الخمول أو كنز جواهر في سفح جبل العلم والإحسان.
كلما مات سوري تجتمع الناس في بيت أهله لتندبه وتبكيه - كما ذكرت - وليس هذا بشيء عند اجتماع الأدباء الذين يدعون في الجرائد خطباء وشعراء حول ضريحه؛ ليؤبنوه ويرثوه ويشقوا عليه الجيوب والقلوب.
ما أحسن هؤلاء الأدباء وما أشرفهم ساعة الموت، ما أعظم محبة خطيبهم وغيرته، وما أشفق قلبه وأفصح لسانه، وما أسخى دموعه وأشد زفراته، ولكن ما وراء كل ذلك يا ترى، أوراءه نفس حقيقية تشعر بما تبذله العين وينطق به اللسان، أوراءه نفس صادقة تتفتت بالفعل كما يتفتت صاحبها أمام الناس، أو هل وراء ذلك آلة صماء تديرها قوة التقاليد على عجلات العادات المزيتة بزيت التجمل والإطراء.
لا أنكر أن بين الكثيرين من أولئك الذين يحبون الظهور ويطلبون الشهرة بعض الشعراء الحقيقيين والخطباء الصادقين، ولكن العاقل الناقد لا ينكر أيضا أن أكثر المؤبنين هم من طبقة أولئك النوادب اللواتي يستأجرن عند الشعوب الهمجية ليندبن الميت ويولولن حوله، إلا أن الفرق بينهم وبينهن هو أن النوادب يندبن بالأجرة والخطباء يلغطون ويصيحون بالمجان.
ومن المضحكات أنهم لا يتغيرون ولا ينقصون ولا يزيدون في كل مدينة، فهم دائما فخر كل مأتم وزينة كل مأدبة، وكأنهم - والحالة هذه - جوق خطباء وشعراء واقف تحت الطلب مثل جوق المغنين أو الممثلين، فهم يبكون اليوم في مأتم الأديب الحبيب وينشدون غدا في مأدبة الحسيب النسيب، يرثون اليوم صديقا فارق العالم ويهنئون غدا شخصا متمسكا به وبحطامه. يقولون في الصباح مثلا: قد أذابنا الحزن عليك يا خير الرجال، ويقولون في المساء، قد أسكرنا السرور في دارك يا أمير الناس ويا محيي الآمال. فإذا كانوا مخلصين منذ ساعات فهم كاذبون الآن، وإذا كانوا صادقين ساعة السرور فقد كانوا ساعة الحزن مرائين.
أنا لا ألوم الكاهن الذي تضطره وظيفته أن يحزن في الصباح مع آل الفقيد ويفرح في المساء مع آل العروس؛ لأنه لا يشعر حقيقة بكلا الأمرين فهو عبد وظيفته التي تأمره بالتظاهر فيتظاهر، وبالتصنع فيتصنع. وأما أدباؤنا الذين يدعون في الجرائد خطباء وشعراء فما بالهم يزاحمون الكهنة ويسابقونهم، ماذا فعلت الأمة السورية لتستحق هذه الضربة؟ وهل يجوز أن نشين قداسة الحزن بالثرثرة وندنسها بالرياء.
فوا أسفاه! لو كان عندنا رجال بقدر ما عندنا من مثل هؤلاء الأدباء لكنا والحق يقال من خير الشعوب وأرقاها.
الرداء الأسود
نمت البارحة كالعادة بعد أن قرأت صفحة من تأملات مرقس أوريليوس، نمت راضيا مرضيا ناسيا منسيا تاركا ورائي كل ما لا يستحق أن يدخل معي هذا العالم الجميل الكائن بين عالمي الموت والحياة، ولكن لم أكد أغمض جفني حتى وجدت نفسي عريانا في أرض صلقع بلقع يرتعد حتى الجن من وحشتها المظلمة. أرض جرداء مرداء لا وديقة تعرف ولا صحراء، لا غابا رمده النار ولا مدينة دمرتها العواصف، وجدت نفسي في بقعة ماحلة ولكنها غامرة، في بقعة مجدبة ولكنها مثمرة، كيف لا والزارع فيها الموت والحاصد هو الله، فيها تزرع الجثث الفانية ومنها تحصد الأنفس الخالدة.
وجدتني في عالم الأموات عند منتصف الليل والبرد قارس والسماء مكفهرة والديار مهجورة فحجبت عني النجوم نورها وأمسكت عني الأرض حرارتها وكان قد ألبسها الغمام في المساء الماضي ثوبا من الثلج فمرت عليه الرياح وحولته جليدا وصقيعا، فصارت تزل الأرض تحت قدمي كلما أعصفت حولي الأهوية.
رياح وجليد، ظلمة وقبور، وأنا فيها وعليها أسير عريانا، أبحث عن صديق يسكن تلك الديار. فسرت من بيت إلى آخر أطرق الأبواب برجلي المتجمدة ولكن السكان نيام، لا أحد يسأل: من ولا أحد يقول: ادخل، فظللت سائرا وأنا أزلق تارة وأعثر أخرى والرياح لا تشفق والجليد لا يرثي والظلمة لا ترحم.
وكنت أحس أحيانا بشوك تحت قدمي فإذ هي الحصى جمد عليها الثلج فأصبحت رءوسها كسنان الرماح، سرت هائما في الظلمة على أشواك من الجليد ورجلاي تتركان وراءي أثرا من الدم وبدني يرتجف كالقصبة تحت الرياح. نظرت إلى السماء ولكن الكواكب لم ترني، فهي راقدة كالأجساد تحت قدمي، هي ملتحفة بملاءة كثيفة من الغيوم فكأنها دهشت لهذا المشهد وأوجست خيفة من تصوراتها فرفعت الغطاء إلى ما فوق رأسها. وأما أنا المسكين العريان فإذا أغمضت طرفي يجلد جفني عليه، وإذا وقفت لأرتاح تلتصق بالأرض رجلي، علي أن أسير إذا حيث تقذفني الرياح، فهل تحملني إلى ضريح صديقي، لا أعرف، الليل لا يتكلم والجليد لا يعزي، والبرد لا يبتسم والقبور لا تهدي، ولكن ما هذا؟ من أين النور الذي يشق الظلام؟ نعم هو كوكب لا يخاف هول القبور قد جاء ليأخذ بيدي، ويهديني إلى بيت صديقي، وما كدت أسير وإياه بضع دقائق حتى مر أمامي رجل مرتديا رداء أسود ثقيلا فخاطبته بصوت خافت قائلا: من أنت؟ فنظر إلي ورآني عريانا أرتجف من القر والهواء، وظل سائرا في طريقه ولم يتكلم.
ثم رأيت رجلا منضيا ثيابه مثلي يتأثره راكضا، ولكنه وقف لما رآني ثم تقدم إلي وسألني قائلا: من أنت؟ قلت: غريب في دار الغربة. وأنت؟ فقال: أنا أحد سكان هذا العالم، أنا لص القبور، فقلت: وهل تعرف الرجل الذي مر من هنا؟ فقال: نعم هو شريك لي، هو أحد أولئك الذين يجهزون المرضى ويجنزون الأموات، يجيئني في الليل ليقاسمني الغنيمة بعد أن يهديني إلى أثمن القبور وأغناها، وما لي أراك ترتجف؟ فقلت: ألا تشعر بالبرد فقال: قد ألفه جسمي، ولكنني - والله - أخاف عليك منه. قال اللص هذا وركض يطلب شريكه المرتدي بالرداء الأسود.
أما أنا فكاد الدم يجمد في عروقي ووقعت على الجليد مرتعشا من صبارة القر وشدة الخوف، وبعد هنيهة شعرت بيد تعالجني فرفعت رأسي وإذا اللص بجانبي والرداء الأسود بيده فقدمه لي قائلا: قم والبس هذا فيقيك من البرد، فأخذت الرداء مستبشرا ولكن ما كاد يقع نظري عليه حتى عرفت أنه جبة شريكه فأعدته إليه قائلا: «أشكر معروفك، ولكنني أفضل أموت بقربك عريانا.»
فلتر
كل أديب سوري يحب فلتر، إن لم يكن علنا فسرا وإن لم يكن من قبيل المبدأ فمن قبيل التصلف. وكل شاب يخرج من عالم الخرافة المظلم إلى بلاد الحرية العامرة يذهب توا إلى فلتر ليقدم له الجزية، فالكاتب الإفرنسي الشهير هو في مملكة الآداب الحرة كالبابا في مملكة الكنيسة.
ولكن بعد أن يعيش المبتدئ تحت سلطة سلطان الحرية الدينية بضع سنين ويقترب منه وينقاد لأحكامه ويسهر وإياه ويسمعه يتكلم في نومه يرى شيئا من نقصه وتنجلى له طرق مكائده وأساليب مصانعته فيشعر إذ ذاك بقليل من الاستبداد الذي يجعله الكاتب مقبولا بما لأسلوبه من اللطف والرقة والرشاقة، وإذا لم يكن للشاب رأس مال عقلي خصوصي تفتر فيه الحماسة وتضعف الهمة ويبرد الإيمان ويذوب الإخلاص وتجتمع في صدره روح الإلحاد مع روح التساهل فيتعانقان ويضحكان من النفس التي رحبت بهما.
الإلحاد مضر بالصحة، فهو - لا شك - ينفخ الصدر ولكنه يضعف القلب ويصغر الرئتين، أقول هذا عن اختبار ولا أقول أكثر من ذلك، ليعمل القارئ فكره إذا، الإلحاد مضر بالصحة ومهما قلتم لا أوضح. اختبروا لأنفسكم إن شئتم ولكن إياكم والتطوح وإذا كنتم لا تعرفون الحدود فالأجدر بكم أن لا تجربوا؛ لئلا تتملك فيكم جراثيم المرض.
وإذا كانت معدتكم ضعيفة فإياكم وفلتر. وأما الذين يهوون الرجل ويحبون القيام تحت سلطته فإليهم أسر هذه الكلمة: قد اتضح لي بعد أن سامرته وآخيته وسهرت وإياه وسمعته يتكلم في نومه أنه أخطأ مرات في حياته، فما الفائدة من نكران سلطة البابا وخلع ربقة الكنيسة إذا كنا في حياتنا الجديدة نخضع لسلطة أخرى أشد وأعظم من تلك؟ سامروا فلتر وعيشوا في ظل نفوذه ولكن لا تخافوا أن تسألوه وتحتجوا عليه وتعترضوا على ما تظنونه غير مقبول من أقواله وغير مشكور من أعماله. اسهروا وإياه، راقبوه في نومه واسمعوه يفشي أسراره.
إن لحياة فلتر أوجها عديدة، ومن وجه يظهر لي أنه في عالم الأدب كأبي النواس في عالم المجون، فكما ننسب إلى أبي النواس كثيرا من الملح والنكات التي لا نعرف أصلها ننسب أيضا إلى فلتر كثيرا من الأفكار والأقوال الحرة التي مات قائلوها وهم يطلبون الشهرة.
وكثيرة هذه الأفكار التي لا نعرف منبعها، وكثيرون الكتاب الأحرار الصغار الذين عبثت بهم الشهرة وردتهم خائبين، فكم وكم من تحف الأقوال عبثت بهم الشهرة وردتهم خائبين، فكم وكم من تحف الأقوال وطرائف الأفكار التي انتشلها فلتر من وادي النسيان فنظفها ونحتها وجلاها ودمغها باسمه، وهل يلام على ذلك، ألا يحق له أن يدعي ملكية شيء أوجده الاجتهاد وحسنته الصناعة التي امتاز بها، وهل تنقص قيمة الفكر الجميل لأنه منتحل، نعم كان فلتر يسرق كبقية الكتاب والمنشئين الكبار، ولكن هؤلاء يختلفون عن صغار الكتاب في كونهم يسرقون ويحسنون ويعترفون بالسرقة وأولئك يسرقون فيمسخون وينكرون أنهم سرقوا.
اتهم مرة فلتر بأنه سرق بعض أفكاره من أحد زملائه، فأجاب متهميه قائلا بطريقته المشهورة ما معناه: إذا كان هذا الكاتب سبقني إلى ما كتبت فيكون قد سرق من الموضع الذي سرقت أنا منه. وقد قال غير مرة في نفس الموضوع ما معناه: وإذا أهداك أحد حصانا أتفحص أضراسه قبل أن تقبله؟ وكم من الكتاب الذين نقلوا قوله المشهور عن الله وفاتهم أن كاتبا رومانيا سبقه إليه. وإنما أعني قوله: «إذا كان الله معدوما فينبغي للإنسان إيجاده.»
وقد غاب عن بالي اليوم اسم الكاتب الروماني الذي قال هذا القول، وإني لأذكر أنه أخذ من القرآن قصة كاملة وأثبتها في إحدى رواياته دون أن يشير إلى مصدرها، وهي قصة موسى في سورة الكهف مع ذاك الذي أوتي رحمة من عند ربه وعلما، وأولها «قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا» ... إلى آخر الحديث. فأذكر أني قرأت هذه القصة منذ سنين في روايته التي تدعى جاديز، وهي مثبتة في الحديث بين الناسك وبطل الرواية.
كان فلتر واسع الاطلاع غزير المادة كثير التفنن في الإنشاء والترسل، وكان إذا احتاج إلى فكر ما أخذه من رأس النبع لا من المترجمين والناقلين والناقلين عن الناقلين والمترجمين كما يفعل الكويتب القليل الاطلاع القصير الباع، ذاك الذي وصفه الشاعر العربي بقوله:
فتى ينظم الشعر ولكنه
على ما علمنا يسرق المسروقا
تعجبني في فلتر حرية فكره وخفة روحه مع شدة لهجته وطلاوة أسلوبه ولطف تهكمه ودقة معانيه، وهذه خاصيات ومميزات تظهر في كل ما ألفه الرجل إن كان فصلا في فلسفة التاريخ، أو قصيدة تصف نكبة لز بن، أو رواية يسلق فيها اليسوعيين، أو رسالة يتهكم فيها على الإنكليز، أو كتابا يدغدغ فيه أحد أصدقائه من الملوك والأمراء. هذا ما له علاقة بأسلوبه وطريقته، وأما إخلاص النية في الأقوال وسلامة القلب في الأعمال فتلك مسألة فيها نظر، بل فيها نظران وثلاثة.
أنا لا أقول قول أعدائه فيه، معاذ الله أن أقول: إنه أول الخبثاء والماكرين وأكبر اللؤماء والدجالين، أو إنه مسوط الذكاء أرسل إلى العالم من قبل إبليس، أو إنه قوة الشر كلها متجسدة في إنسان، أو إنه خنزب أفلت من سقره ... وغيره من الأقاويل المضحكة التي يرمونه بها أولئك الربانيين الصالحين الواقفين على طرق العلم مسلحين ليصدوا كل من اجتاز من الأحرار بل ليوقعوا بهم ويسلبوهم ما تزودوه من الصالحات الباقيات، ويشوهون بعد ذلك وجه شهرتهم ويطوون - إن استطاعوا - ذكرهم في مكامن الحقود والأغراض. ولكنني اختلفت مع فلتر البارح وتأسفت لما رأيت أن الإخلاص الذي يصفه به محبوه هو كالإخلاص الذي يدعيه أكثر المؤلفين، أي: أنه زمني يظهر ويختفي ويشتد ويضعف مع الظروف والأحوال.
نعم إن هذا المترسل الإفرنسي كأبي النواس في حيله ودخمسته. وكثيرا ما كانت تظهر بطانة ثوب الإخلاص الذي كان يلبسه، ويا لها من بطانة. ومما هو معروف أن الرجل مشهور بكتاباته في الحرية الدينية، ولكن حريته كانت مفتقرة إلى التساهل الشامل الذي ندعو إليه.
كان يعتقد فلتر بأن الدين الإسلامي دين فاسد وألف رواية تمثيلية دعاها «التعصب» وأهداها إلى البابا - بعد أن كان قد اشتهر بعداوته للكنيسة وأربابها. مفتتحا كتابه بهذه الكلمات:
إلى رئيس الديانة الحقيقية أهدي هذا التأليف في مؤسس ديانة فاسدة ... إلخ.
فقبل البابا الهدية بكل سرور وبعث إلى فلتر كتابا لطيفا أثنى فيه على غيرته (بخ بخ) وانتقد بعض أبيات في الرواية الشعرية فأجابه فلتر متجاملا على عادته في مثل هذه الأمور: إنك لا شك معصوم عن الغلط في المسائل الأدبية أيضا (زه ثم زه).
وهكذا تبادل الاثنان عواطف الولاء الكاذب وانتصر فلتر على أعدائه اليسوعيين وأنصارهم. لا يخفى على القارئ اللبيب ما في هذا العمل من السياسة والحيلة والمكر، ناهيك بأن الكاتب أخطأ في انتقاده الدين الإسلامي، وفي تحامله المنكر على مؤسسه العظيم.
لا شك أننا تقدمنا قليلا في الأدبيات كما تقدمنا كثيرا في الماديات، ودليل ذلك هو أن فلتر زماننا لا يتطاول على الإسلام ولا على الوثنيين لغايات دنيئة، تولستوي لا يتخذ الحيلة ذريعة لينتصر على أعدائه، وهل تظن أيها القارئ بأن البابا الحالي يقبل أن تهدى إليه رواية فيها يطعن المؤلف على دين من الأديان. أنا لا أظن ذلك، ولكن إذا كان تساهل فلتر ناقصا فتساهلنا لم يكمل حتى الآن، فقد خطونا خطوة صغيرة نحو التوفيق التام والمحبة الشاملة والسلام السابغ. نعم خطوة صغيرة فقط.
جان جاك روسو
ومن لا يعرفه إن لم يكن حق المعرفة فبالاسم على الأقل، ألا يحذرنا الكهنة في المدارس منه، ألا يحاولون خارجها إبعادنا عنه، فهم الذين يرغبوننا بالاطلاع على كتبه إذا وبورود موارد علمه وأدبه. ومن انقلابات الطبيعة على من يخلون بنواميسها هو أن حب الممنوع والميل إلى المحرم يفوزان أبدا على إنذار ذوي المآرب وتحذيرهم. وليست غايتي الآن كتابة رسالة مستوفاة، منسقة تنسيقا مقسمة أقساما، ذات مقدمات ونتائج مربوطة الواحدة بالأخرى.
ليست غايتي الخوض في تآليف روسو وفلسفته والبحث في علمه ومبادئه وآدابه. ليست غايتي سرد سيرة حياته وتسويد هذه الصفحات بالتواريخ والأزمان. وبأسماء أعدائه من أدباء وعلماء وحكام، وبوصف خليلاته الكثيرات من الأشراف والعوام، لا، لا. إني أترك الآن ذلك لغيري من الكتاب فصديقي العالم جرجي زيدان مثلا يوفي روسو حقه في باب مشاهير الرجال، إذا لم يكن قد فعل ذلك، أما أنا فما تعلمت حتى الآن أن أكتب ما يليق بدائرة المعارف.
وما غايتي إلا كتابة بعض السطور عن روسو الرجل لا المؤلف، فالذي يمعن النظر في سيرة حياته ويدقق الفكر في تآليفه يرى أنه «كان يظهر حقيقة ما يعلمه بما يعمله» يرى بين خروجه عن المألوف بالقول وخروجه عنه بالفعل كثيرا من التناسب والتقارب، كان روسو نقيض فلتر من هذه الوجهة بيد أنه في حداثته كان يعجب بزميله الشهير ويدعو نفسه تلميذه، وفي غضون ذهاب فلتر بالشهرة كان جان جاك روسو من جملة أولئك الشبان الذين قرءوا كل ما نشره ذلك النابغة الداهية بلهفة لا مثيل لها وكانوا يفاخرون بكونهم من أنصاره، كان روسو في ذلك الوقت شابا خليعا لئيما متبذلا له من الجرأة والإقدام ما له في كل الأمور ما عدا ما تعلق منها بمجالسة السيدات ومسامرتهن، كيف لا وقد درس الموسيقى بضع سنين وهو لا يعرف من هذا الفن إلا بقدر ما كان يعرف فلتر من علم الفلك.
وحياة روسو وهو رجل كحياته وهو شاب من حيث إنه أعطى النفس هواها في كل الأمور، وذهب مع الطبع في جميع أطواره. وأما أن ذلك سبب ما غشاه من الشقاء والبلاء والنغص والغصص فما هو بالأمر الغريب العجيب، فالتفرد بالمزايا كلف المرء كثيرا والخروج عما اعتاده الناس متلف له. وإلى اليوم لا يستطيع المرء أن يعيش حياة عقلية طبيعية على وفق قلبه ومزاجه دون أن يخرج بعض الخروج عن دائرة المألوف من العادات والمعروف من الشرائع والعقائد. وإذا فعل ذلك فالويل ثم الويل، إذا فعل ذلك يحتقره القوم ويلعنه الناس ويزدريه رجال الأدب وتتعقبه الشريعة ويقعد له الرؤساء في الرصيد أن مثل هذا يحدث اليوم فكيف لا يحدث في زمن روسو، عاش جان جاك بالقرب من البؤساء والفقراء بين الشعب المظلوم المثقل بأعباء الدولة والكنيسة.
وعاش أيضا بين الجميلات من النساء والكريمات من الخواتين، فأثار فيه الوسط الأول عاطفة الغضب، وحرك فيه الوسط الثاني عاطفة الحنو والرقة والحب، فكتب ما كتبه وفيه كثير من دموع النساء على شعب رازخ بالذل والعبودية مكبل بالأغلال والقيود، وعندي أن هذا هو السر في قوة روسو وفي ذكائه، هذه هي المزية التي ترفعه على فلتر وعلى سواه من زملائه، فالمرأة شحذت قريحته والشعب البائس أثارها؛ ولذلك دعي رسول الثورة وسميت كتبه أناجيلها. ومن غرائب المقادير وتقلبات الزمان أن تآليفه كانت تغلف إبان الثورة الأولى بغلف مصنوعة من جلود أولئك الذين اضطهدوه وسفهوا رأيه.
وقد عثرت على كتاب بعثه إلى مدام ديبيناي فآثرت تعريبه؛ حبا بإظهار ما فيه من وصف الرجل لنفسه، وقبل أن آتي بالترجمة أذكر حادثتين أخبرنا بهما في «اعترافاته» ليرى القارئ ما كان عليه الرجل من الخسة والدناءة وسوء السيرة.
يوم كان روسو نازلا على إحدى الخواتين اللواتي آوينه سرق سرقة صغيرة، فاتهمت بذلك الخادمة وطردت من البيت، وروسو لم يقل كلمة واحدة ليبرئها أو ليرد عنها التهمة، سرق هو السرقة فعوقبت الخادمة بسببه وظل هو صامتا. وكان ماشيا ذات يوم مع صديق حميم وهو الأستاذ الذي كان يعلمه الموسيقى، وفي ذاك اليوم كان الأستاذ طافحا بالخمرة فوقع على الرصيف مغمى عليه، وأما روسو فماذا تظنه فعل؟ ترك صديقه يخبط على الرصيف وفر هاربا.
هذا هو الرجل الذي كان يذوب حبا بالقرب من النساء ويستشيط غضبا على الدول والحكام من أجل الشعب البائس. هذا هو الرجل الذي ألف كتابه الشهير في التربية، الكتاب الذي لا يعتق مهما قدم عليه الزمان؛ لأن المبادئ التي أعلنها والتعاليم التي وضعها في معنى تربية الأولاد لم تزل معتبرة عند أرباب البحث وفلاسفة العمران، ولكن الفيلسوف الذي وضع هذه المبادئ السامية هجر أولاده طمعا باللذات وتركهم في ملجأ اللقطاء تملصا من الواجبات.
والكتاب الذي أشرت إليه بعث به إلى مدام ديبيناي سنة 1756 بمناسبة إهدائها إياه بيتا جميلا في أحد المصايف بالقرب من غابة مونمورنسي المشهورة، فهل شكر الرجل المرأة على هديتها، اقرأ جوابه:
سيدتي: أتريدين أن تجعليني خادما وعبدا لك بهديتك هذه، إن لك أيتها العقيلة الحظ أن تري كل يوم أكبر أشقياء الدهر وأعظم نوابغ الزمان، ها هو رجل خسيس وعظيم في آن واحد، هو أحط من الحيوان في الغريزة وله مطامع ورغائب تتصل أطرافها بالآلهة. هو لئيم للغاية ولكن ليس في كل أعماله. إن له في أشأم الفتن ناقة وفي أخطر الأعمال علاقة، وعنده حظ وافر من الخيلاء والخساسة والكذب والخيانة، مع أن مبادئه الكمالية شريفة سامية واجتهاده ونياته لا ينكرهما عليه إنسان. وإذا كانت سيدتي تسر بالتقرب من رجل مشهور والتزلف إليه فسرورها لا يكون أبدا صافيا، خاليا من الأكدار؛ لأن الرجل المشهور خشن الطبع غالبا وناكر الجميل، فهو يعتبر نفسه مهانا حيث لا إهانة قط، ويكون في الغالب شرسا صبيانيا مضحكا بتصرفه ناظرا بالعين المجردة إلى الأشياء نظرة الأعمى إلى الشمس، كل شيء عنده ناقص مظلم وكل شيء حوله مختل.
هذه هي المنة التي أظهرها روسو، هذه هي الحرية التي عاش في ظلها رسول الثورة.
خرج ذات يوم رجل من باريس قاصدا البرية ومعه كتاب كان قد طبع في ذلك الوقت وأحدث ضجة عظيمة في عالم أوروبا الأدبي، ذهب الرجل متنزها وأخذ الكتاب معه رفيقا أنيسا فقرأ معظمه في ذلك النهار وهو مستلق على العشب في ظل دوحة من البان. وظل يقرأ إلى أن مالت الشمس إلى الغروب، فنهض إذ ذاك وهو معجب بما في الكتاب من التعاليم السامية والمبادئ السديدة. وبينما هو عائد إلى باريس التقى بشيخ جليل يتوكأ على العصا وفي يساره باقة من الرياحين والنباتات، فتبادل الاثنان عبارات السلام وسارا في الطريق معا، ولا عجب إذا حاول الرجل مخاطبة الشيخ في ذلك الحين، فتأثيرات الكتاب الذي قرأه كانت لم تزل حديثة في نفسه. وفي هذه الحالة تأبى التأثيرات التحجب؛ ولذلك كلم الغريب الشيخ قائلا: عسى أن تكون سررت في الفلاة يا سيدي. - نعم جئت أفتش على بعض الرياحين التي تنبت في هذه الجهات فقط. - ما أجمل الطبيعة وما أعظم من يقربوننا منها في كتاباتهم، قد خرجت ومعي أشهر كتاب طبع في الوقت الحاضر، ولا حاجة للتسمية قد قرأت بعض فصول «إميل» ووددت لو كنت خادما لجان جاك روسو، أكد أني أهب نصف ما أملكه لأرى الآن هذا النابغة العظيم وأظهر له الانفعالات الحسنة التي أحدثها كتابه في نفسي، وماذا يهم الأمة الإفرنسية إذا كان المؤلف جنوي الأصل، وعندي أن لا جنسية للنابغة فهو ابن العالم على الإطلاق إن المؤلف العظيم لملك في كل وقت وفي كل مكان، وله من كل الشعوب والأمم رعية مخلصة تعجب بمواهبه، لا بل تعبدها.
فقاطعه عندئذ الشيخ قائلا: وهلا يخطر في بالك أن جان جاك روسو يتنازل عن الشهرة التي تعجب بها ليكون أحد أولئك الحطابين الذين نرى دخان أكواخهم هناك؟ ماذا أثمرت له الشهرة وهل أكسبته غير الاضطهاد، أما الأصدقاء والمحبون الذين لا يعرفهم ولا يراهم فهم يكتفون بقراءة كتبه ويباركونه في قلوبهم، ولكن الألوف من الأعداء يرمونه أبدا بالقذف والتعيير، لا شك أن النجاح يعزز الكرامة، ولكن كم مرة تجرح كرامة الفائز بتطفل الخائبين وبفضول من حبطت مساعيهم. وأكد أن كرامة المرء تشبه في أصلها ذلك الشريف المترف الذي لا ينام إلا إذا كانت زهور غرفته في محلها.
أما الجهاد العقلي المتواصل فقد ينفع العالم في الأحايين، ولكنه يضر بصاحبه دائما، وكلما شاخ الرجل كبر عليه دين عقله، وما قيمة ما يدفعه الفيلسوف المحاط بالحقائق المكروهة إلى هذا العقل المتطلب الكمال. قد شبهت النبوغ بمملكة ولكن أي رجل فاضل لا يخشى أن يكون ملكا فيها؟ القوي هو أقرب إلى السقوط من الضعيف، وكلما ارتفع المرء تكاثفت حوله غيوم الأخطار والمحن فلا تحسد الرجل الذي ألف هذا الكتاب ولا تعجب به، بل أشفق عليه، إن كنت شفوقا.
فتعجب الرجل من حكمة الشيخ السوداء وألبس تعجبه ثوبا من السكوت، وكانا قد دخلا الطريق التي تؤدي إلى قصر فرساي فمرت بالقرب منهما مركبة أطلت من نافذتها امرأة جميلة وصرخت إذ رأت الشيخ قائلة: ها هو جان جاك، ها هو روسو.
أما رفيق الشيخ فلبث مذهولا مبهوتا وسمع روسو يخاطبه بلهجة عنيفة وصوت حاد: أرأيت هذا، أرأيت هذا، لا يقدر جان جاك - على الأقل - أن يخفي نفسه عن الناس فالبعض يذكرونه باحتقار والبعض بإكرام وإعجاب، والجميع يدلون عليه بالأصابع ويظنونه ملكا مشاعا كهذا التمثال مثلا أو كتلك الخربة، فالمرء الذي ينال قليلا من الشهرة ويبتسم له النجاح يصبح سلعة يتصرف بها الجمهور. فكل امرئ ينبش في أرض حياته ويردد عنه أتفه الأمور ويمس بذلك حاساته ويجرح كرامته، الرجل، المشهور هو مثل هذا الحائط الذي يشوه بالإعلانات والتزاويق، ولعلك تقول إنني شجعت الناس على التداخل في شئوني الخاصة إذ نشرت شيئا من كتاب الاعترافات ولكن العالم اضطرني إلى ذلك. نظر الناس إلى داخل بيتي من الشقوق وعيروني فوجب علي أن أفتح لهم النوافذ والأبواب ليروني كما أنا لا كما يتصورون ويتوهمون.
الوداع يا سيدي، وإذا ذكرت الشهرة ثانية فاذكر أنك قابلت أعظم وأشأم بنيها.
وليم غاريسون
لا مراء في أن الناس يقرءون غالبا كل ما يكتب عن كبار الرجال ومشاهير الكتاب، ولكن ليس كل ما يكتب فيهم يستحق القراءة وليس كل ما يقرأ يحفظ وينقل، وقد يكون غالبا بين قصد الكاتب وبساطة القارئ أو تعصبه أودية ووهاد. أي: أن أكثر القراء لا يتفهمون أقوال الكاتب إلا بالناقص أو بالزائد، وقليلون من يزنون الكلام والمعاني بميزان المؤلف لا بميزانهم، أو بالحري بميزان العقل لا بميزان الحماسة أو البساطة أو الغيرة أو التعصب أو الكل معا.
وما الغاية يا ترى من هذه الملاحظات، هل هي مقدمة لأقوال جديدة في رجل عظيم جديد؟ لا، بل هي تمهيد صغير لكلمتين موجزتين في واحد من أولئك الكتاب المنسيين في ظلمة النسيان المحكوم عليهم بالخمول ظلما وعدوانا من جمهور الأدباء والمطالعين. وأما هوغو ورنان وتولستوي وغيرهم من النوابغ الذين تكثر من ذكرهم الجرائد والمجلات فأولئك لا خوف عليهم من الإهمال، بل الخوف كل الخوف عليهم وعلى شهرتهم الحسنة مما تتناقله الجرائد عنهم ويكتبه الكتاب عن مبادئهم وآرائهم وكتبهم.
نعم جئت أحدثك اليوم بواحد من أولئك الكتاب المنسيين الذين جاهدوا في حياتهم جهادا عظيما في سبيل الحق والحرية، وخدموا الإنسانية خدمات جليلة كبيرة. ولكن الإنسانية يا صديقي لا تعترف لبنيها بالجميل إلا إذا نبهت إليه بالأجراس والطبول والمدافع، إلى هذا الحد تبلغ بنا القساوة، وهكذا يحملنا الإهمال على نسيان من جنح في حياته إلى السكينة فتعشقها، وإلى الحق فكان من عبيده، وسعى سعيا جليلا عظيما عاملا عمله بنشاط وثبات وشقاء بعيدا عن التبجح والتصلف والادعاء؟ تعال معي أيها القارئ، امش ولو فرسخا بنور مصباحي، اسقط معي إلى ظلمات النسيان لنعيد إلى الحياة أحد أمراء تلك الديار، أفلا تحلو لك مثل هذه الرحلات، ألا يجدر بك هذه المرة أن تجيء معي وتصرف النظر عن زيارة المتحف المصري مثلا لتشاهد هنالك جثث الفراعنة الجافة المدثرة بالكتان المحفوظة في الزجاج؟ أنا أريك رجلا حيا بالروح لا تتقزز من رؤيته ولا يخيفك تجاعيد وجهه، تعال معي إلى دهاليز الآداب المنسية فأعرفك ببطل حقيقي.
وها أنا أدون الآن لأول مرة في اللغة العربية قصة هذا الرجل الصالح، قصة هذا المصلح الحقيقي الذي يجدر بكل من تعشق الحرية والحقيقة معرفته.
في أول يوم من السنة الحادية والثلاثين من الجيل الماضي نهض في مدينة بوسطن شاب فقير حقير أحرز شيئا من الأدب وأنشأ مع ما له من الجرأة والعزم والحماسة جريدة صغيرة دعاها «محرر الرقيق» ونشر في صدر مقالته الافتتاحية في العدد الأول من تلك الجريدة هذه الكلمات:
اعلموا أيها الناس بأن الكلمة التي أقولها أعنيها بالذات ولا أحاول ولا أراوغ ولا أجامل في قولي، لا ولا أسحب كلامي ولا أعتذر عن شيء أنشره أجاهد وأثبت وأجد، وسيكون صوتي مسموعا بينكم.» وإن هذه الكلمات لتذكرني بما جاء في سفر أيوب! «لأتكلمن فيفرج عني، أفتح شفتي فأجيب، لا أحابي إنسانا ولا أطرئ بشرا .» وهذي هي الخطة التي وضعها الشاب لنفسه ولجريدته، وثبت عليها ثبوت القمر في دورانه.
شاب فقير لا يعرفه أحد يعيش بالخبز والماء والزبدة وينام على الأرض في مطبعته، شاب وحيد في مذهبه لا شريك له ولا نصير ولا مشجع، فرجال الدين والحكومة والهيئة الاجتماعية وأرباب التجارة كلهم أخذوا يناصبونه العداء ويرسلون عليه البلاء. فعلوا كلهم ذلك لأن ضمير الأمة كان لم يزل خامدا جامدا، وكانت الشهامة لم تزل بعيدة عن قلب الشعب والوطنية بعيدة عن السياسيين، أطهد من أمة حرة وشعب حر؛ لأنه جاهر بالعداء للعبودية والنخاسة، ومع كل ما رمي به من التقبيح والشتائم واللعنات فهو لم يخل مرة واحدة بقاعدته الأساسية التي نشرها في أول عدد من جريدته، فجد وجاهد وثبت وقال قوله بجرأة وحرية وإخلاص.
كان فؤاد الصحافي هذا يلتهب غيرة وحنوا على شعب إفريقي راسفا في سلاسل العبودية في بلاد تدعي الحرية، فصرخ في وجوه مستعبديه صرخة ارتجت لها البلاد الأميركية من أقاصي الغرب إلى أقاصي الجنوب، وبدأت إذ ذاك تظهر أنصاره وتزداد أصحابه فتلبدت الغيوم على آفاق التجارة وفي جوها وأنذرت الأمة بإعصار هائل، فأخذت صواعق المتمولين تتساقط على رأس الشاب ولكنها لم تزعزعه، ضرب مرات ضربا عنيفا وجر في شوارع بوسطن مشتوما ذليلا وندد به الكبير والصغير وأشار إليه أرباب العلم والأدب بأصابع الازدراء والسخرية ومنحت حكومة ولاية جورجيا جائزة لا تقل عن الخمسة آلاف دولار لمن يجيئها به حيا أو ميتا. ولكن الصحافي الحر ظل في مركزه كجبل من جبال الألب راسخة قواعده في أرض الحرية التي لا يموت فيها الفكر ولا يسخر القلب والضمير، ظل متمسكا بعقيدته واشتدت صرخته على أولئك الذين استعبدوا قسما كبيرا من الناس.
ولم يحلم أحد من أعدائه بأن البذور التي زرعها سنة 1830 تثمر في خلال ثلاثين سنة، نعم إن المبدأ الذي بشر به وليم غاريسون الأميركي وهو رجل فقير حقير لا يملك إلا قلبه وعقله وقلمه عم في ثلاثين سنة نصف الأمة الأميركية وأنتج أخيرا تلك الحرب الأهلية الهائلة التي أبطلت النخاسة وحررت العبيد ومحت عن جبين العالم الجديد وصمة العار.
عقيدة بسيطة ولدت في شارع صغير في بوسطن لشاب مكروه منبوذ فقير، وانتشرت في وقت قصير في أنحاء الجمهورية كافة، وتكللت أخيرا بمنشور الحرية الذي أصدره إبرهيم لنكلن من عاصمة البلاد. هذا هو تاريخ النهضة على العبودية، وهو غير التاريخ الذي نقرؤه في المدارس، نعم إن النهضة هذه تبتدئ بوليم غاريسون أحد سكان دهاليز التاريخ والأدب المنسية وتنتهي برئيس الجمهورية، تنتهي بالرجل الذي لا تخلو مدينة كبيرة من تمثاله، فكلنا نسمع بإبرهيم لنكلن محرر العبيد ومبطل النخاسة، ولكن من منا يعرف صاحب جريدة «محرر الرقيق» الذي زرع البذور التي حصدتها الأمة في عهد الرئيس الشهير، أفلا يجدر بنا إذا أن نذكر هذا الرجل مرة بالإجلال والإكرام مثلما تذكر الأمة الأميركية رئيسها محتفلة بعيده كل عام؟
تولستوي
وقبل أن أقول كلمتي في من هو أشهر كتاب هذا العصر أحب أن أقابل بينه وبين مرغن المثري الأميركي الشهير وإن كان لا يتبادر للذهن أن هناك ما يوجب ذكر الواحد مع الآخر، فالأول نقيض الثاني على خط مستقيم. الأول يمثل القوة الروحية في عالم الأدب، والثاني يمثل القوة المادية المالية في عالم التجارة. الأول جاءنا من فوق، من الطبقة العليا في الهيئة الاجتماعية، والثاني نهض من ظلمات الخمول، من بين الجموع البائسة.
ولد الأول أميرا فجعل نفسه فلاحا وولد الثاني فلاحا فجعل نفسه أميرا. يعيش الأول ويجاهد من أجل الإنسانية، وتكد وتعرق الملايين من الناس من أجل الثاني وهو جالس على ظهر يخته يشرب الشمبانيا ويدخن منشرح الصدر مطمئن البال. الأول تمثال الحرية والإخاء والمحبة ونصير المبدأ الذي يقول بملكية الفرد (أي: أن كل فرد هو ملك بذاته) والثاني تمثال القساوة والاستعباد والتجبر والاستبداد.
فالرجلان - إذن - يمثلان الخير والشر في أشد حالتيهما، وبينهما على الرغم من ذلك وجه شبه - كما تقدم - الاثنان جباران تشعر بنفوذهما الأمم والشعوب، الأول عظيم في الروحيات والثاني عظيم في الماديات. الأول جبار في الحكمة والأدب والثاني جبار في التجارة والمال. ووجه الشبه بين الاثنين هو أن حكومتيهما تخشاهما وتعاملهما معاملة حكومة مستقلة، أي: أن كليهما حكومة ضمن حكومة.
وقد رأينا مؤخرا كيف تفاوض رئيس الولايات المتحدة مع مرغن فيما يختص بمسألة المعدنين وأصحاب المعادن، فبعث إليه ناظر الحربية مستعطفا فجاء هذا صغيرا وتوجه إلى يخت المثري الشهير فرآه جالسا هناك جلوس القياصرة والأكاسرة وواجهه كأنه عاهل الألمان، ورجاه باسم الرئيس وتوسل إليه طالبا منه الإسعاف في فض هذا المشكل الخطير، وعاد كما جاء صغيرا حقيرا حاملا إلى الرئيس جواب المستر مرغن المؤلف من تين الكلمتين: سأبذل جهدي. فالحكومة والشعب يخشيان هذا الرجل كما لو كان قوة من الجحيم، أما الحكومة فتخشى مرغن؛ لأن الحزب الحاكم يحتاج إلى ماله ومناصرته وقت الانتخاب، وأما الشعب فيخشاه؛ لأنه يستطيع أن يقطع عن الملايين من الفقراء والمتوسطين لوازم الحياة.
والحكومة الروسية تخشى تولستوي وتهابه أيضا، ولماذا؟ إن تولستوي إلا رجل فقير بالنسبة إلى المياسير في العالم، ولا ديون له على الحكومة. تولستوي لا يحتكر ولا صنفا واحدا من لوازم الحياة، تولستوي لا يرشي القضاة والحكام، تولستوي لا يشتري نفوذه بالمال، تولستوي لا يعزز قوته الأدبية وسلطته الروحية بالجند والسلاح ولا بالجهل والخرافة. لماذا إذا تهابه حكومته وتعامله كما تعامل حكومة أوروبية أخرى؟
نعم إن الحكومة وتولستوي متساويان، لا بل الفيلسوف الشهير هو أعظم من حكومته وأقوى؛ فهو يكتب إليها طالبا منها أن تقاصه وتضطهده إذا كان ما يقوله ويعمله شرا، ولكن الحكومة الجبانة الحكومة المسحوقة بزواجر النفس وقوارع الضمير تغض الطرف عن تولستوي وتضطهد الضعفاء والفقراء الذين ينتحلون مذهبه ويقرءون كتبه وينصرون مبادئه.
فلماذا لا تضطهد من كان مصدر هذا الشر إذا كانت تعتقده شرا - كما قال في كتاب بعث به إليها؟ لماذا لا تنفي تولستوي، لماذا لا تحبسه، لماذا لا تقتله، لماذا ترتعد من نفوذه وتخشى صولته؟ لأنه يا صديقي ممثل قوة الخير دون تصنع وتكبر وأنانية؛ لأنه مسلح بالحق ومحصن بقلوب مريديه الملتهبة حماسة؛ لأن نفوذه الروحي لا يقاس ولا يحد، لا مثيل له في جميع القوات المادية القائمة بالسلاح والمدرعات ولا في السلطات الروحية الكاذبة المؤسسة على الجهل والطاعة والخرافات؛ لأن أعماله تنطبق على أقواله؛ لأنه مخلص متواضع مهتضم لنفسه لا كأكثر المصلحين متصنع أناني دجال.
إن لتولستوي أعمالا تثبت - كما قلت - أقواله، وله أقوال هي هي أقرب إلى ما سيأتي من رد الفعل على التمدن الأوروبي مما هي إلى التعاليم التي قامت عليها معاقل هذه الحضارة. فهو يكثر من ذكر بعض آيات الإنجيل ويتوسع توسعا عجيبا في بعض أقوال المسيح، ويحث الناس على العمل جملة واحدة بهذه الأقوال وفي الحال، ولكن فاته بأن المسيح أتى ليكمل فكمل ولا حاجة الآن إلى من يحمل رسالته ليكملها، بل الحاجة ماسة إلى أناس ينبهون المسيحيين تنبيها ويبشرون حبا بالحقيقة لا حبا بالمال.
ولكن ما لنا وللتبشير الآن؟ فقد ثبت عند المفكرين بعد أن ظهرت نتائج الرسالة المسيحية بأن أغلب ما فيها لا يقوم مقام الفلسفة الوثنية، وما لنا إلا أن ننتظر رد الفعل ونتائجه التي يشير إليها تولستوي في بعض كتاباته ويحرض الشعب إلى ما يؤدي إليها عاجلا أو آجلا. إن في رد الفعل هذا سحق قوة الأفراد المطلقة وتعزيز قوة الفرد على الإطلاق، فقد تقرر في الجمهوريات أن قوة الأكثرية لا تقوم دائما المعوج ولا تصلح الفاسد، ولا تكون - إلا نادرا - في جانب الحق والعدل والحقيقة.
فلا بد من رد الفعل إذا ولا مناص منه وكل ما هنالك من التعاليم الحديثة والشرائع المدنية الجديدة تنحو هذا النحو، وما زال الشر هذا - أي: تسلط الأفراد ملوكا كانوا أو متمولين على الأكثرية بقوة المال والسلاح - ما زال السلم الذي يبشر به تولستوي في كتبه الأولى بعيدا جدا، ومقاومة الشر بالخير لا يكون الخير دائما فيها، فما الثورات في الأمم إلا نوع من العدل البشري الذي يحده من جهة عدل الإنسان ومن الجهة الأخرى عدل الله.
وأما الأعمال التي تثبت أقوال تولستوي وتعزز تعاليمه فوافرة، ويكفي أن أذكر أنه ولد في ظل دولة ظالمة مستبدة وشب وعاش دمقراطيا حرا، بل اشتراكيا عاملا، بل فوضويا مسالما. ولد حيثما الشرع يعتبر منزلا وذا خاصية إلهية وما رشد حتى نبذ كل سلطة مدنية ودينية. تربى في حضن الترف والبذخ والنعيم، وعاش بين الأشراف والأعيان، ونراه الآن نابذا لقبه ومجردا نفسه من كل زخارف الحياة ولذاتها. ولد ليأمر ويستأثر ويستبد فأخذ يبشر بالحب الشامل والحقوق المتساوية والسلام العام.
ولد لتكون الخدم حافة من حوله أبدا فصار أخا للفلاح وخادما للإنسانية التي تتألم من الظلم والاستعباد. ولد ليتمتع ببذخ الأشراف وجمال منازل الأعيان فترك ما هو ملكه من البيوت وقسم أرزاقه بين فلاحيه أو «شركائه» وهو يسكن الآن في دار قوراء مع امرأته وأولاده، وليس له في البيت بين كل هؤلاء إلا ابنة واحدة تشاركه في اعتقاده وتعيش عيشته، وأما امرأته الكنتس فتهز كتفيها ساخرة وتسير في طريق الأشراف مكابرة. هي تحافظ على لقبها ومركزها وتؤدب المآدب في بيتها لأترابها وهو يعيش وابنته عيشة بسيطة فتقرأ على مسمعه في ساعات الفراغ الكتب التي يحبها بينما هو يعمل الأحذية. امرأته تترفع عن الشعب وتسعى في ازدياد ثروتها وتوسيع أملاكها، وهو يقول قول الاشتراكيين ويعمل به.
وأظن أن الفيلسوف يلبس ثوب الفلاحين ويمشي أحيانا حافيا؛ لأن امرأته تلبس المشد والأحذية العالية الكعاب؛ التطرف يولد التطرف، وهذه بعض الأسباب التي حملته في أيامه الأولى على تأليف روايته المشهورة «لحن كروتسر» وأما الآن فقد بعد عن ذلك الاعتقاد في الزواج وتسامى فوق تلك المبادئ، وهو يعيش وزوجته - مع ما بينهما من الاختلاف والتناقض - يعيش الاثنان في بيت واحد منفردين بعضهما عن بعض وتقدم الكنتس إلى الفيلسوف الزاهد يوما بعد يوم باقة من الزهور، فيا ما أحيلا مثل هذا الاختلاف والائتلاف!
وهنا أقف عند هذا الحد لأسأل سؤالا، ما الذي يجعل تولستوي عظيما؟ بأي شيء تقوم شهرته الكتابية ويتعزز، فما هو في كتاباته فصيحا ولا هو في تعاليمه مبتكرا ولا في رواياته ممتازا. فأسلوبه دائما بسيط ناشف وغالبا مقعر ممل، والذي يقرأ روايات هوغو أو بلزاك ثم يقرأ روايات تولستوي يتبين له التفاوت بينهم فالحماسة وسمو التصور والدقة في الوصف، واختراع الحوادث والإبداع في التنويع والإيهام، والجمع بين المتناقضات والتفنن في أساليب الكتابة، والذكاء والرقة والمجون؛ كلها مزايا تفتقر إليها روايات الروسي الشهير، وهو غير مبدع في تعاليمه؛ لأن مبادئه الاجتماعية وأقواله بالرجوع عن التصنع المدني الفاسد إلى البساطة الأصلية النقية؛ مأخوذة عن روسو، وآراءه السياسية والعمرانية والاشتراكية مستعارة من كارل مكس وهنري جورج الأميركي، وتعاليمه الدينية هي تعاليم المسيح بالذات. ومع هذا وذاك فإنه رجل كبير عظيم.
وإذا سألتني بماذا تقوم عظمته؟ أجيبك سائلا: بماذا تقوم عظمة المسيح؟ فيسوع لم يؤلف المجلدات الضخمة ولا ألقى الخطب العديدة الفصيحة، والقليل الذي فاه به بعيد عن صناعة الإنشاء والترسل، وخال من الفصاحة وزخرف الكلام، ولكن الحقيقة لا تجيء دائما في المجلدات الضخمة، الحقيقة هي غالبا بنت الإيجاز والبساطة.
إن عظمة تولستوي هي مثال حقيقي لعظمة المسيح، وهي قائمة بالإخلاص والصدق والاستقامة، قائمة بالعمل الصالح والمثل الصالح والفكر السديد. فالاثنان قالا وفعلا وما المصلحون الصغار سوى أقزام بالنسبة إلى المصلح الحقيقي. هؤلاء يتفننون بأساليب القول، ويفوهون بعبارات رنانة ويشعوذون ويوهمون وهم على تخوم الحقيقة ضاربون.
فالفقير الذي يدعو نفسه مصلحا ويطيل لسانه على الأغنياء مبشرا بالاشتراكية ولكنه يفتح فاه مبهوتا إذا رأى غنيا سائرا في عربته هو أحرى بالجلد أكثر من الاعتبار؛ لأن مثل هذا الفقير المصلح ينبذ التعاليم الاشتراكية ظهريا متى صار غنيا. والصالح الفاضل المتظاهر بالتقوى الذي يبشر بالمحبة والإخاء والسلام قولا ويدس لأعدائه الدسائس فعلا هو أولى بالشنق منه بالتأليه. ولكن الزمان يعاقب هؤلاء فينحدرون إلى ظلمات النسيان بعد أن يعيشوا متمرغين في أوحال الكذب والبهتان.
ابن سهل الأندلسي
في القرب من بيتي رابية جميلة، يحيط بها غاب من الصنوبر كبير، وتشرف على الكثير من أودية لبنان وأحراجه وجباله وأدياره، وبالقرب من الرابية قرية صغيرة حقيرة ودير للرهبان قديم العهد، فقصدت المكان ذات يوم ومعي الشاعر الأندلسي ابن سهل، ذهبنا معا دون أن نتحدث على الطريق؛ لأنني ممن لا يعتقدون بجودة العملين اللذين يعملهما المرء في وقت واحد.
وابن سهل هذا من الشعراء الذين صغر حجمهم ونحل جسمهم، وقل ادعاؤهم ورقت عواطفهم، ولطفت شعورهم وكثرت دموعهم. هو شاعر صغير ذو شهرة صغيرة، ولكن كل صغير محبوب، وأنا أحبه؛ لأنه ليس من الشعراء الكثيري القوافي والأوزان القليلي التصور والخيال، ليس من أولئك الذين يهولك لأول مرة طول قصائدهم وتغيظك غرابة ألفاظهم وتزعجك غموضة أقوالهم وتضحكك الشروحات التي هي أضعاف المتن في دواوينهم، ولا هو من أولئك الشعراء العظام الذين ينثرون في بيوتهم الكواكب والأقمار ويثيرون في أبحرهم أمواج الأفكار ويضرمون في قوافيهم النار، بل هو شاعر بسيط صغير حزين لطيف، أحب حبا شديدا مثل قيس العامري وتعذب مثله أيضا، فهو في رأيي قريب جدا من الشاعر الحقيقي إذا لم يكن هو هو بعينه.
كان ابن سهل يعشق على ما أظن عشقا حقيقيا لا عشقا شعريا كأكثر الناظمين والمقفيين. قلت «على ما أظن» لأنني لا أعرف عن حياته الخصوصية شيئا، وهو لم يحدثني عن نفسه عملا بعاطفة الحشمة التي توازي فيه عاطفة الحب، ولا يخرج في كل ما أنشده عن موضوع واحدا شغل قلبه طول حياته وأذاقه أصناف العذاب. هذا إذا صدقنا ما يجهر به في قصائده.
ينبغي للشاعر أن يعيش حقا قبل أن يشعر، ينبغي له أن يختبر الحياة ومظاهرها قبل أن يصاهرها، وأن يشقى ويسعد قبل أن يزف إلى العالم بنات شعره، ينبغي له أن يذوق حلاوة الكأس ومرارتها قبل أن يطلق خياله من قفص النفس. وإن الفرق بين شعر ينظم في رابعة النهار مثلا والدم فاتر بليد وشعر يصبه الشاعر نصف الليل من جنان ذائب ملتهب لكالفرق بين بركة ماء عكراء وسلسبيل جار في مروج خضراء.
أجل إن الفرق بين الشاعر الذي يخلو في غرفته ويقول: لنحب كقيس أو كجميل لننظم القصائد الغزلية، لنتحمس كعنترة أو كالمتنبي لننظم القصائد الفخرية
الفرق بين هذا الناظم والشاعر الذي يخوض عباب الحياة فيحب حبا حقيقيا وينصر الحق فعلا فيناضل عنه بيراعه وبلسانه وبعمله هو كالفرق بين الأزهار التي نربيها في بيوت الزجاج وتلك التي تنبت وتنور في الحقول عملا بناموس الله. الأول يتغذى مما هو هو صناعي كاذب قبيح والثاني مما هو طبيعي حقيقي صحيح، شعر الأول تمثال من الشمع أو باقة ورد صناعية، وشعر الثاني هو الحياة الشعرية بعينها.
والذي ظهر لي مما أنشدنيه صديقي ابن سهل هو أن في ديوانه قد يتبع الربيع الشتاء، وقد لا يكون فيه من الصيف غير الهجير، فقد زرع المسكين ولكنه لم يحصد؛ ولذلك كانت كأسه مرة للغاية، ولكن المر هذا يستحيل في نفس الشاعر شرابا لطيفا يلذ طعمه ويسكر شذاه، وخريره بين حصى الأشجان يطرب الولهان، ولا يفوتنك أن الشاعر هو الداء والدواء والمداوي، فإذا شرب كأس الصبابة والشوق والصد وهام على وجهه بضعة أيام يمزج لنفسه بعدئذ كأسا أخرى من شعره فيشربه مسرورا فيزيل مذاق الكأس الأولى، وما أشقى العاشق وأجمله وقد استلقى على مضجعه نشوان من هذه الكأس الأخيرة التي مزجتها له يد الخيال لتداوي جروحات حبه، وعند قراءتي ابن سهل خيل لي أن جروحاته لم تزل تدمي في قصائده.
لنعد إلى رحلتنا، فلما وصلنا إلى الرابية الظليلة في أصيل النهار رميت بنفسي إلى الأرض البنية الناعمة تحت صنوبرة شامخة ووقف صديقي الكئيب بين يدي، ولكن جمال الطبيعة أمامنا وطيب عرف الصنوبر الغض حولنا والهواء الشرقي الذي جاء من السهول مارا فوق صنين، والسنونو الذي كان يغرد في بستان من الزيتون قريب منا والجنادب التي ملأت الغاب بصريرها؛ كل هذه - وهي أبيات قليلة من القصيدة التي ينظمها الله - أنستني في البدء صديقي، صرفت نظري وسمعي عما كان ينشده بشر مثلي.
ولكنني بعد أن استلقيت على الأرض مستريحا ومستروحا واستنشقت الهواء الذي يمر في البساتين والأحراج فيجني من طيب شذاها مثلما يجني النحل من الأزهار، وبكلمة أخرى: بعد أن قرأت بضعة أبيات من قصيدة الله الجميلة عدت فقرأت قصيدة من ديوان ابن سهل، نعم إن بين شعر الأول - عز وجل - وشعر الثاني مراحل كبيرة، ولكنه يستحق أن يقرأ هذا بعد ذاك ولو ذهبت الموازنة بكثير من حسناته.
فبعد أن ترى إذن كيف أغصان الصنوبر تخفق حين يمر عليها النسيم وكيف تتصاعد منها الزفرات حين يلاعبها الهواء اقرأ هذه الأبيات:
يعارض قلبي بالخفوق وشاحه
ويحكي امتدادا زفرتي ليل صده •••
وجاء لتوديعي فقلت اتئد فقد
مشت لك نفسي في الزفير المصعد •••
روض حرمت ثماره وقصائدي
من ورقه والآس نبت عذاره
أليس في هذه الأبيات شيء من أنفاس الطبيعة، ناهيك بما فيها من الخفة واللطف والشعور؟
ثم مثل لنفسك الفراشة الملونة الجميلة التي تتنقل في الشمس على الرياحين، وتختفي بين الأدغال واقرأ هذين البيتين:
يسائلني من أي دين مداعبا
وشمل اعتقادي في هواه مبدد
فؤادي حنيفي ولكن مقلتي
مجوسية من خده النار تعبد
أليس فيهما خفة الفراشة وجمالها ولطف حركتها واختيالها؟
واقرأ إن شئت أيضا:
أهواه حتى العين تألف سهدها
فيه وتطرب بالسقام جوارحي •••
بخده لفؤادي نسبة عجب
كلاهما أبدا يدمي من النظر •••
أخشى عليك الفيض من أدمعي
وأنت في عيني كما تدري
فحقا إن صديقي الأندلسي كثير الدموع وكنت أود أن أنقل للقارئ غير هذه الأبيات أيضا، ولكنني أكتفي بالإشارة الآن إلى أبياته الجميلة عن الربيع وقصيدته المشهورة بمطلعها - سل في الظلام أخاك البدر عن سهري.
الثورة الإفرنسية1
لو قصد المؤرخ أن يطالع كل ما كتب عن الثورة الإفرنسية في اللغتين الإفرنسية والإنكليزية فقط لصرف زمانه كله في المطالعة، بل إنه يموت دون أن يتمم هذا العمل الخطير غير المفيد، وقد انقسم مؤرخو الثورة إلى قسمين فمنهم من تحرى سرد الحوادث دون تحزب وتحيز، ومنهم من ألحق بكل حادثة نتفا من فلسفته السياسية الخصوصية، فندد بحزب ونصر آخر وكان إما ملكيا أو جمهوريا.
أما كارليل الكاتب الإنكليزي الشهير فقد حاد عن الخطين في كتابه المسمى «تاريخ الثورة الإفرنسية» فهو لا يطرئ الجمهوريين كهيوغو ولا يندد بهم كتيارس ولا يتحامل على الملكية بانتقاده أكثر مما لو كانت حكومة جمهورية. بل أراد في تاريخه هذا أن يكون خالي الغرض غير متحيز لحزب من الأحزاب. ولكن نيته هذه الحميدة أوقعته في الفتور الذي لا يسلم فيه صاحبه من عدم الاكتراث والشك، ومن كلف نفسه قراءة شيء من تآليف كارليل العديدة يبان له بعد قليل من التفكر أن الرجل عصبي المزاج أسير السويداء والتخمة، وقد كان مصابا بداء آخر أهم من الاثنين لا فائدة من ذكره في هذا الصدد، وأن نتيجة هذه العوارض الخبيثة تنجلي دائما في كتاباته في شكل من التهكم فظيع والكتاب الذي نحن بصدده الآن مفعم بمثل هذا الازدراء والسخرية. ومعلوم عند الناقدين أن هذا الأسلوب لا يليق في سرد التاريخ فهو كثيرا ما يشوش المعنى الحقيقي، ويجعل القصة البسيطة متشعبة متلونة غامضة لا يستطيع القارئ فهمها دون أن يجردها من ثوبها المزخرف الكثير الألوان.
ليس من العدل إذا أن يدعى هذا التأليف تاريخا؛ فهو خال من الاعتقاد والرأي في الحوادث التي يسبرها، ومفعم بوساوس الفيلسوف العديدة التي تروقنا في بقية مؤلفاته وتزعجنا في كتاب دعاه تاريخا. كتاب يفتقر إلى روح جدية لترفعه من طبقة الخلقيات إلى طبقة العقليات، ولا نقدر أن ندعو الكتاب رواية؛ لأن فصوله غير متصلة بعضها ببعض إذ نقرأ كل فصل بذاته ولا تتولد فينا رغبة معرفة السابق واللاحق.
فالكتاب إذا مجموع مقالات متفرقة في حوادث الثورة الإفرنسية ورجالها، مسطرة على قرطاس الفتور والشك بيراعة التهكم والازدراء، ولا رأي خصوصي له في تلك الحوادث وأولئك الزعماء سوى أنه ينصر تارة الكل وطورا يقاوم الكل، وهذه هي المزية التي خدعت الناقدين في زمن كارليل فأنزلوا كتابه هذا منزلة التاريخ في الوقت الذي يجب أن يعد في كتب الخلقيات والوصف، كيف لا ومزاج المؤلف العصبي ظاهر في كل صفحة من الكتاب، فهو يقيس كل حادثة ويحكم على كل فرد له علاقة في هذه الفتنة الهائلة بمقتضى هذا المزاج المركب من السويداء والتخمة والتهكم.
ولسنا من الذين ينكرون على الكاتب حق التهكم في الأحايين؛ إذ إننا نعتقد بصلاحية هذا الأسلوب ونعده من الظرائف الجدلية الفعالة التي يقاوم بها الكاتب كل سخيف سقيم، أما تهكم كارليل فحاد إذا خف، وفظ إذا اشتد. وبينا نحن نطالع هذا الكتاب لم نتمالك أن أعدنا الفكرة إلى ما كنا نطالعه من نفثات فولتر فإننا نرى بين مؤلفين نابغتين الواحد منهما لاتيني والآخر سكسوني شبها عظيما من حيث أسلوب الكتابة السخري الذي استخدماه في مقاتلة الفساد والظلم والخرافة، ولكن أين تهكم الإنكليزي الكالح الجاف من تهكم الإفرنسي الوضاح المنير، فهذا شبيه ببركان وذاك بمرض عضال مزمن، هذا يهلك ما يلقاه عاجلا وذاك يدخل جسم الفساد والخرافة فيضعفه ويلاشيه تدريجيا. فضلا عن أن تهكم كارليل خال من الذكاء الذي يزين تهكم فولتر، كان كارليل يرعد إذا غضب ويمطر، وأما فولتر فكان يبتسم ابتسامته المشهورة ويسير بهدوء إلى غايته المطلوبة.
لنعد الآن إلى الكتاب الذي نحن بصدده، أراد المؤلف ألا يتحيز في تاريخه، وأن يكون مع الحق أينما وجد، سواء كان في جانب زعماء الثورة أو حول عرش الحكومة القديمة، ولكن رغبته هذه أدت به إلى الفتور وعدم الاكتراث. والحق يقال إن من لا يكترث لحادثة ما لا يستطيع أن يكتب عنها بدقة وإصابة وإخلاص. وكارليل يبحث عن أكبر حادثة في العالم كما تبحث صحف الأخبار عن جريمة بيتية أو حادثة خصوصية يزول أثرها بعد أن يقرأ خبرها، فهو أبدا يفتش عن الحوادث الطفيفة التي كان الأحرى بها أن تدون في الروايات الغرامية، ويستنتج منها نتائج عمومية فاسدة ويصور من هذه صورا خيالية فظيعة يسأم هو منها في النهاية ويرفع يديه إلى السماء صارخا «أممكن أن تخلق ربي مثل هذا الشعب.»
وهل دعوة الإفرنسيس يا ترى خالية من الحقيقة وهل الثورة بذاتها نهضة فاسدة مضللة، وكيف يتملص الكاتب الفاتر المشكك من لوم الناس الذين حاربوا الثورة أو نصروها وبعض بنيهم وأحفادهم لم يزالوا حتى يومنا هذا يقاومون نتائجها وبعضهم ينصرونها، فلو كانت فاسدة على الإطلاق لأمحت آثارها بعد مئة سنة من الزمان. نحن من الذين قالوا بعدم الاكتراث في بعض المسائل الدينية التي لا تولد إلا النزاع والشقاق، ولكن الوقت لم يحن لنبذ الحماسة السياسية والغيرة القومية، فالمرء الذي لا يكترث لأمور حكومته يعد خاملا والكاتب الذي لا يجد خيرا في أي نوع من الحكومات يعد فوضويا.
إن الحقيقة التي نفصلها عن أخواتها، عن أسبابها ونتائجها، وندونها معتزلة مستقلة كثيرا ما تغش المؤلف وتضر بالغاية الأصلية التي ينبغي أن تظل نصب عينيه، أما الثورة في رأي كارليل فلا سابق ولا لاحق لها، هي فلتة اجتماعية لا سبب لها ولا نتيجة هي ضربة من ضربات الله، هي مصيبة من مصائب الزمان، هي بنت الصدفة التي نشأت عنها وماتت فيها هي حادثة معتزلة عن حياة البشر السابقة وعن مستقبلهم. إن عددا من الناس ينتسبون إلى بلاد تدعى فرنسا قاموا في وقت من الزمن فهاجوا وماجوا وحدث بينهم شغب عظيم وقتال من أجل قوانين ونظامات سياسية جمعوها فلقبوها بالقانون الأساسي، ومن ثم أهلك بعضهم بعضا وختموا القانون بدمائهم وعادت الأشياء إلى عالم النسيان إلى ظلمات الزوال. هذا كل ما يراه كارليل في الثورة الإفرنسية، فهو لا يكلف نفسه النظر في البواعث التي من أجلها سفكت دماء الألوف من الناس، ومع ذلك هو يحاول إظهار الفاسد من الصحيح فيها، وكيف يستطيع الكاتب أن يحكم على أحوال أمة في عصر لم يكن هو منه بعد أن أهمل التنقيب في تاريخ الأمة الماضي وفي أخلاق الشعب وأحواله السياسية والزراعية والتجارية.
قد أوجب الأقدمون على المؤرخين إبداء الحكم في كل قضية يدونونها وأقاموهم مقام القضاة، وبعد أن يدون المؤرخ الحوادث بدقة وإخلاص يمحص الصحيح من الفاسد، ويستنتج من ذلك نتيجة تسوغ له وضع قاعدة أدبية فيها نور وهدى للأجيال المقبلة. وقد قام كارليل ببعض هذا الواجب في تدوين الحوادث غير أنه أغفل أمرا جوهريا، هو ذكر السبب الرئيسي الذي نشأت عنه الثورة، فهو لا يرى فيها عملا واحدا يستحق الشكر إذا ذكر، ولكن حادثة واحدة فظيعة لا تقدح في نهضة عمومية خطيرة وإن تعددت هذه الحوادث المرعبة فالنظر إليها وإلى أسبابها الأولية معا لأمر واجب على المؤرخ.
إن صلب المسيح بالنظر إلى مصلحة الشعب الإسرائيلي عادل في الظاهر وبالنسبة إلى البشرية هو جائر فظيع. أما الحادث هذا وحده لا معنى له ولا أهمية.
وإن من يقرأ سجلات الحكومة الإفرنسية، ومعلومات السياسيين والكتاب الذين شاهدوا الحوادث وكانت لهم يد فيها؛ يبالغ - لا شك - في التعنيف والتنديد بما يدعى «دور الهول» إذا أغفل الغاية الرئيسية التي بسببها ومن أجلها تأسس.
ومن كان نظير كارليل سريع التأثر صعب المراس حاد المزاج يحكم على الحوادث هذه بالنسبة إلى انفعالات نفسه لا بالنسبة إلى الظروف التي نشأت عنها؛ ولذلك لا نرى في كتابه إلا مجموعة قصائد مدح وفخر وهجو ورثاء قلت مجموعة قصائد؛ لأن في أسلوب نثره جمال الشعر وزخرفه، فهو يسير منشدا وراء عربة المنتصرين وباكيا في موكب المنهزمين، يرفع اليوم قوس نصر للقوة المادية ويبني في الغد مذبحا للشفقة والحنان، وبين هذه المتناقضات يصبح القارئ حائرا تائها، كيف لا وهو يتوقع من المؤرخ أكثر مما يتوقعه من الشاعر. نريد أن نعرف كيف تخفض آلام البشر وشقاؤهم، لا كيف أن نندب هذا الشقاء ونرثيه.
إن في حياة الأجيال الماضية أمثولة للأجيال الحاضرة والمقبلة، والمؤرخ الذي لا يظهر هذه الأمثولة فيلهو عنها في وصف البؤس والشقاء لا يخفض شقاءنا ولا يعلمنا شيئا. إن في أعمالنا اليوم أمثولة ثمينة لأبناء الغد هي الكنز الوحيد الدائم الذي يرثه عنا الخلف بواسطة التاريخ، ومن واجبات المؤرخ المحافظة على هذا الكنز الثمين بعد الوقوف عليه وإذا كان ضائعا بين أنقاض الثورات والحروب أو مختفيا في بحار الأهواء والتعصب عليه أن يفتش عنه بصبر وعناء وينيره في الناس مصباح هدى وسلام.
إن الحلقة التي تصل الماضي بالمستقبل هي حلقة الترقي الدائم مما كان إلى ما سيكون، والحوادث التي تتخللها هي حلقات بعضها يشتبك ببعض، وليست متفرقة متشتتة كما يزعم كارليل والمؤرخ الذي يكمل سلسلة الترقي أو بالحري يزيد في توثيقها يخدم الناس خدمة حقيقية، ولكن كارليل لا يعتقد بحياة جامعة شاملة، حياة روحية دائمة يتصل آخرها بأولها
2
بل هو شديد الاعتقاد بالتفرد والإفراد وقد قال مرارا إن تاريخ العالم هو تاريخ عظماء الناس، على أن الفرد إنما هو صوت واحد ينطق باسم ملايين من الناس الصامتين، فالرجل العظيم إنما هو عظيم بشعبه لا بنفسه، هو يستمد معظم قوته مما يحيط به من الأشياء والظروف والرجال، هو خاضع كأصغر الناس لناموس الترقي الدائم الأزلي، بل هو صنيعة هذا الناموس وخادمه المخلص علم ذلك أو جهله، فلو ولد نابليون في بلاد الصين مثلا وعاش فيها لما كنا نعرفه الآن، ورب قائل: لو ولد نابليون هناك هل كانت حصلت فرنسا على المجد الذي أكسبها إياه؟ أجيب بالإيجاب؛ إذ لو لم يولد نابليون فيها لنشأ غيره، وهذا ما يجعلني شديد التمسك بما يدعى ناموس الترقي الدائم الذي يقضي بوجود رجل عظيم كل فترة من الزمن لتأييد هذا الناموس وتعزيزه.
إن القنوط والشك واليأس والفتور كلها طبائع تظهر في كل صفحة من هذا التاريخ وفي أسلوب إنشائه الجميل الفخيم، وقد قلت: إن كارليل هو أشبه بالشاعر مما هو بالمؤرخ، والشاعر لا يكون أستاذا في الاقتصاد السياسي ولا فيلسوفا في العمران، فهو إذا قرأ سجلات الحكومة الإفرنسية ومعلومات من شاهدوا الثورة يثور ثائره الشعري، فيحصل فيه انفجار أشبه بالبركان، ويدهمنا بحمم تحرق ولا تنير، فتسود منها آفاق البصيرة وتظهر أشباح أبطال الثورة التي يصفها وهي تتهادى في الظلمة غير المتناهية، ولكن ما هي غاية هذه الأشباح وما هو غرضها. ولماذا أشغلت فكر كارليل فألف فيها مجلدين ضخمين ألأنها كانت تندب وتنوح عبثا، وتقاتل وتحارب باطلا، وتصيح وتنادي دون غاية ودون مرمى؟ ماذا فعلت هذه الأشباح؟ أكلها الزمان فتلاشت من ذاكرة الإنسان، بلعتها الظلمات فأمحت من لوح الحياة.
هذا جواب كارليل وزبدة فلسفته المختبئة في أكمام الفصاحة وأشواك البيان، وبناء على ذلك لا يحق لتأليفه أن يدعى تاريخا، وإنما هو ملحق تصويري لتاريخ الثورة الإفرنسية ، وإن فصوله لأشبه بصور رسمتها يد ماهرة، صور تساعدنا على الدخول إلى تاريخ الثورة الجدي ولكن لا تنبئنا به كثيرا، فهي من هذا القبيل أشبه بالصور التي تزين بها الروايات التاريخية، تحملنا إلى بعض ما يقصده الكاتب ولا تكشف لنا الستار عن القصة بكاملها.
ومن وجهة فلسفية يمكننا أن نقول: إن المؤرخين اثنان الأول يعتقد بالنشوء والارتقاء الاجتماعي بالترقي الدائم بالصعود المستمر، والثاني لا يعتقد بشيء من هذا. فلسفة ذاك في العمران شبيهة بخط مستقيم عمودي، وفلسفة هذا بالدائرة. صعود البشر في رأي الأول دائم مستمر، وفي رأي الثاني محدود تصل الشعوب فيه إلى نقطة لا يستطيعون أن يتجاوزوها، فيهبطون عائدين إلى الهوة التي خرجوا منها، وهم في هذا يشبهون الحية التي تأكل ذنبها. ومثل هذا المؤرخ الذي لا يكترث في الأشياء ولا يحترم روح التاريخ ولا ينظر إلى ما وراء الحوادث يجرد على الفساد سلاح التهكم والازدراء ولا يفوز بغير الهدم والتدمير. ومثال ذلك أن كارليل يشغل فكرته وقريحته غالبا بطفيف الحوادث وتافهها شأن القصصي أو الكاتب الأخلاقي
3
ناهيك عن أنه لا يعتقد في تاريخه هذا بغير الزوال الدائم.
كل بيت للهدم ما تبتني الور
قاء والسيد الرفيع العماد
واللبيب اللبيب من ليس يغتر
بكون مصيره للفساد
والمؤرخ الدهري يختلف عن الفيلسوف الدهري في أن هذا يعتقد - على الأقل - بأزلية المادة وخلودها وذاك لا يعتقد بخلود شيء. إنما حياة الأشياء والمخلوقات إلى أجل مسمى. بل هي خيال زائل يظن ذاته حقيقة ثابتة دائمة، في مثل هذه الأقاويل يبرهن كارليل على أن الثورة الإفرنسية لا تؤثر قط في تاريخ الشعوب والعمران، ولن تؤثر حتى في أحوال أوروبا السياسية والاجتماعية.
وفي الفصل الثاني من الكتاب الأول يرفع الستار حتى النهاية عن فلسفته الاجتماعية الدهرية، ومن يقرؤه مفكرا تنجلي له النتائج التي استخلصناها منه، وهي أن تعظيم الصغائر يلذ متى كان النافخ في فقاقيعها كاتبا عظيما ككارليل، ولكن الحفول في الصغائر يبعدنا عن الجوهر الحقيقي، وأن الفكر الروحي الداخلي زائل لا أزلي هو ولا خالد بل هو يتغير ويتحول ويتلاشى كالمادة صحيحا كان أو فاسدا، وأن النهضات الاجتماعية السياسية تظهر فجأة وصدفة لا بعد أن تنضج في خفايا الزمان، وأن الفلاسفة مخطئون على الإطلاق في مبادئهم الاقتصادية وفلسفتهم الاجتماعية.
وفي بقية الفصول دليل واضح على كل هذا، وفي ما كتبه عن ميرابو بالأخص وعن ليلة رابع آب دليل أنصع وأوضح. ومعلوم أن مجلس النواب ألغى في تلك الليلة الشهيرة - في ظرف ساعتين من الزمن - نصف شرائع الحكومة القديمة وقوانينها. وإذا أراد القارئ أن يطلع على مثال جلي طلي من تهكمه الفظ وانتقاده العنيف الشديد ليقرأ الفصول التي يصف فيها فرار الملك والمحالفة الوطنية في شأن دي مار والمشاغب التي نجمت عن قلة الحنطة واحتكارها. وكم مرة ردد في كتابه عن مجلس الأمة الذي نشل فرنسا من الهوة التي كادت تبتلعها قوله إن «قد اجتمع أعضاء المجلس ليصلحوا قواعد الأفعال الشاذة.»
قد لا يحترم كارليل إلا القوة المادية وكثيرا يكبر نزوات الإنسان وأهوائه ويمجدها، فهو لا يرى في نهضة الإفرنسيس على أرباب الظلم والظلام سوى خمسة وعشرين مليون معدة فارغة وخمسة وعشرين مليونا من الألسنة الملتهبة حماسة الملتوية جنونا في عالم من الفساد مضطرب مدلهم. فالخبز في مذهب كارليل هو سبب الثورة ونتيجتها هو الأول وهو الآخر، وأما المؤرخ الذي يعتقد بالصعود المتواصل بالترقي الدائم فهو لا شك يرى أن ليس بالخبز فقط يحيا الإنسان.
إن بين الكمالات النظرية والاختلال الحقيقي في حياتنا الاجتماعية علاقة خفية، تكاد لا تنظر بالعين المجردة ولا تتجلى دقائق الحكمة فيها إلا لمن خصتهم الطبيعة بشيء من البصيرة والذكاء وبنفس صافية شفافة صحيحة، تنعكس فيها الأشياء انعكاسا تاما جليا صحيحا. ولا شك أن بين ما هو كائن في تصوراتنا وما هو حادث في حياتنا فرقا ظاهرا، ومع ذلك فإن هذا إلا انعكاس ضعيف مختل لذاك، كأن العقل البشري اليوم أشبه بمرآة مكسرة لا تنعكس فيها الأشياء كما ينبغي. وألا يجوز لنا مع ذلك أن ننفخ في الحوادث روح الكمالات النفسية، فتبقى مدفونة فيها إلى أن ينشرها الزمان فتظهر ولو بعد ألوف من السنين بمظهر من الحياة سام نقي جميل؟ ألا نستطيع أن نمزج القليل مما هو كائن في تصوراتنا بما هو كائن حادث في حياتنا، ألا نستطيع - بكلمة أوضح - أن نزرع فيما نقص وفسد من الأعمال بذور ما تعالى من الآمال، لتنبت وتنور ولو في جيل بعيد بل آت من الأجيال.
هذه سؤالات يضحك منها كارليل الساخر بآمال الناس المستخف بتشوقات الروح الكمالية، فهو لا يمنحنا شيئا ولا يدعونا إلى شيء ولا يؤملنا بشيء، القوة الحيوية المادية التي تظهر في عظام الرجال وأبجال التاريخ إنما هذه في مذهبه كل شيء.
أنا آكلك وآخر يأكلني، براڤو! والأخير من البشر فريسة من يكون؟
ولا نظن أن المؤلف حاول أن يضع تعليما جديدا في الثورة الإفرنسية، فالمؤرخون - كما سبق القول - ينصرون الثورة أو يقاومونها، أما كارليل فشاء أن ينصرها ويقاومها معا. ولكن هي التخمة وعرض بل مرض آخر ولدا فيه السويداء فأصيب بالفتور والشك وأصبح لا معها ولا عليها، ولا نظنه - ولو شاء - يستطيع أن يؤسس حزبا ثالثا غير متحيز؛ لأنه في كل ما كتبه عن الثورة لم يبد قط رأيا وضعيا ثابتا يتخذه الحزب دستورا لأعماله بل كان كريشة في مهب الريح طوع تأثيراته وأسير وساوسه.
هل الملكية لازمة نافعة للناس، كلا، إنها مبنية على أساس فاسد، هل الجمهورية أصلح منها، كلا، فهي قد نشأت من الظلمة وشيدت على جثث الملايين من العباد، إلينا إذا بالفوضى، هذي هي نتيجة فلسفة غير المتحيزين من المؤرخين.
وقد علمنا التاريخ حقيقة نود لو لم تكن، وهي أن من أراد تأسيس حزب أو وضع تعليم أو إنشاء ديانة؛ ينبغي له أن ينظر إلى وجه واحد من المسألة فقط، إذا شاء أن يكون صريحا في رأيه حازما في قوله ثابتا في عقيدته، وبكلمة أخرى: إذا شاء أن يكون مؤسسا لحزب أو تعليم أو دين ما عليه أن يكون متحزبا متعصبا مأخوذا بدعوته مهما كانت. عليه أن يكون أعمى أصم في ما سوى ذلك؛ فالنفي والشك والتردد وعدم الاكتراث والفتور هذه لا تؤسس ممالك وأحزابا وديانات، وهذه كلها من مزايا كارليل المشهورة، فقد أحب ألا يكون متعصبا لا مع الثورة ولا لها فجاءنا بتعصب جديد خصوصي لا يضر بالحقيقة الجوهرية ولا ينفعها، وقد تلذ لمن تتوق نفسه إلى الجديد من الأشياء والآراء، وبما أنه توسع في الصغائر والتوافه التي تتعلق في الثورة ولذ له سردها بل نظمها في نثره الفخيم؛ فهو أشبه بنور تضعضعت أشعته المرسلة في كل الجهات ولم تتعداها إلى ما وراءها من الجوهريات.
وإنه لو صوب نور مصباحه إلى غرض واحد في جهة واحدة لأرانا في الزوايا شيئا من الحقيقة الثابتة الدائمة. لو فعل ذلك لفاز في وضع تعليم جديد أو تأسيس حزب ثالث ينظر في شئون الثورة نظر الغريب عن هذه الأرض ويقيس منافعها وأضرارها بغير مقاييس هذا العالم.
أما التنديد برجال الثورة، والاستياء من النهضة بجملتها، والنفور من هولها والفرار من نارها المحرقة المنيرة؛ فهذه ذنوب لا تغتفر للمؤرخ إذا اقترفها، فالطفل يولد في الألم والعذاب والجمهوريات تنشأ في الثورات والحروب. الأم تتألم ساعة الولادة وكذلك الأمة، يموت الإنسان والعذاب ملازمه، ويولد الطفل والألم حليفه، وكذلك الحكومات بأنواعها والأمم. فلا تموت حكومة بسلام ولا تنشأ حكومة بسلام.
ولا بأس في الختام من قصة صغيرة أوردها، فقد ذكرتني بها مطالعة هذا الكتاب الذي أود أن يطالعه كل من يحسن اللغة الإنكليزية من قرائي، ورب قائل: ولم تدعونا إلى مطالعته بعد أن تحققت فساده وبان ذلك الضرر الذي ينجم عن اقتباس الأفكار التي جاءت فيه؟ أريد أن يقرأه كل من كلف نفسه قراءة هذا البحث؛ ليستطيع أن يقابل بين الاثنين، لا أريد أن يرتأي أحد رأيي دون أن يشغل قليلا فكره. لنعد الآن إلى القصة.
أراد أحد الملوك الأقدمين المولعين بالعلم أن يطلع على تاريخ الأمم فطلب أحد وزرائه وأمره بتأليف - أو جمع - تاريخ عام، فذهب الوزير وغاب سنين، ثم عاد إلى الملك ومعه عدد من الجمال محملة كتبا، فوقف أمام ملكه وقال: «ها هو التاريخ الذي تطلبه» ولكن الملك وقد هالته أحمال الجمال أمر الوزير أن يختصر التاريخ، فغاب هذا ثانية وعاد بعد سنين ومعه جمل واحد فقط يحمل التاريخ المختصر.
أما الملك فكان قد ضعف بصره ووهنت قواه فأمر الوزير أن يختصره أيضا، فغاب الوزير للمرة الثالثة وعاد فرأى مليكه يتقلب على فراش الموت فلما رآه الملك قال: «آه، ثم أواه سأموت قبل أن أطلع على تاريخ الأمم» فأجابه الوزير - معزيا: «لا تقل ذلك يا مولاي فقد أحضرت لك مجموعة صغيرة تنبئك عن كل أعمالهم باختصار غريب، وها هي» ثم أخرج الوزير من جيبه ورقة صغيرة وقرأ بصوت مرتفع: «إليك يا ملك الزمان بتاريخ شعوب الأرض مختصرا: فإنهم تنفسوا فتنافسوا فعرقوا فماتوا.»
وتاريخ كارليل المقسوم إلى عشرين كتابا وكل كتاب مقسوم إلى فصول لم يفدنا عن الثورة الإفرنسية أكثر مما أفاد الوزير مليكه عن تاريخ شعوب الأرض، فالأربع كلمات التي تؤلف تاريخ الوزير تكفي لتأليف مثل هذا التاريخ دون أن يفوتنا منه شيء كثير. ولو شاء كارليل أن يختصر لقال مع الوزير عن الإفرنسيس: «قد تنفسوا فتنافسوا فعرقوا فماتوا» ولكن في الأمة الإفرنسية ما لا يموت، في الأمة الإفرنسية من نتائج الثورة العظيمة ما تبقى آثاره بادية حية نامية في ترقي الأمم والناس.
بذور للزارعين
إن حسنة واحدة تأتيها، لخير من ليال بالصلاة تحييها.
إن الأمين - وإن كان كنودا - لخير من المدغل وإن كان هجودا.
إن التعبد لفي الصالحات، لا في تتمة الصلوات.
ورب صغار يلعبون أصدق إيمانا من شيوخ يتورعون.
ورب محسنة في موبقات الوجود أصح دينا من راهبات السجود.
ورب كافر عمال للخير أحب إلى الله من راهب في الدير.
السالكون عملا وفكرا، خير من السالكين ذكرا.
أنت السالك، يا من تطابق بين أقوالك وأعمالك.
الندامة حبا بالغفران، كالإحسان حبا بالشكران.
وقد قال بلزاك: الندامة الشهرية، إنما هي خباثة أبدية.
المؤاساة خير العبادات، وممرضة تضمد جرح الشرير خير ممن يصلون من أجله.
إن روائح الأدوية عند من أحبت أن تخدم الله لأذكى من رائحة البخور. والنور الضئيل المنبعث من عين المريض الذابلة لأجمل من نور الشموع في الهيكل.
بالأعمال لنخدم الله، ولنسبحه بالأعمال. •••
الحكيم من وجد سعادته في عمله فلا يشغل فكره ولا يضيع وقته في التفتيش عنها في البيت أو في المدينة أو في الجبال أو في قصور الوهم والخيال. ومن يتلاهى قانطا في تشريح نفسه وأفكاره ليقف على أسباب بؤسه وشدته كمن يزرع غصنا من الورد ويقتلعه كل يوم ليستطلع حال نموه. غصن نفسك تعهده بالتربية بدل أن تقتلعه صباحا ومساء لترى ما إذا كانت ظهرت فيه جذور السعادة أم لا، عملك واظب عليه فتنسى أنك سعيد، وهذا لعمري السعادة بعينها. •••
كل عمل يساعد على نمو قوى الإنسان الحيوية وحفظها - جسدية كانت أو عقلية أو روحية - وعلى حصر لوازم الحياة فيما يتطلبه الناموس الطبيعي فقط؛ هو عمل صالح شريف. •••
الحكيم من صار إلى غرضه دون أن يلوي على شيء مما حوله من أشواك الضغائن والأحقاد، ومن أشباح اللؤم والفساد. سر أخي في أمان ولا تقف بعد أن تخطو الخطوة الأولى، لا تقف فتسبق، ولا تتلفت وراءك فتسقط، نحن في زمن قد يكون الوقوف فيه تقهقرا، سر في أمان الله وخذ هذا البيت من الشعر ردده في طريقك كلما اجتزت عقبة من العقبات.
وما تجهمني ليل ولا بلد
ولا تكائدني عن حاجتي سفر
العمل هو يد السعادة اليمنى ويدها اليسرى الاقتصاد. •••
لتكن غايتك أكبر من مقدرتك فيصبح عملك اليوم أحسن من عملك البارح وعمل الغد أحسن من عمل اليوم. •••
الفضيلة الكبرى في الأعمال هي أن يكون كل عمل بذاته الغاية والواسطة، أن تكون لذته فيه لا في نتيجته. •••
السر في النجاح في أي عمل كان هو أن تقضي نصف وقتك مفكرا ونصفه عاملا فتعرف - إذ ذاك - غرضك وتسير توا إليه، تعرف - إذ ذاك - الطريق القويمة إلى محجتك فتسلكها، وكم أناس يفشلون؛ لأنهم لا يعرفون حق المعرفة محجتهم أو لا يهتدون إذا عرفوها إلى أقرب وأقوم الطرق إليها. فهم ينكتون في التراب كالدجاج ويكثرون من الحركة التي لا بركة فيها ومن الصياح الذي يجفل أطيار الفلاح، فيثيرون الغبار ويزعجون الجيران. والجوهرة التي يطلبونها تختفي أثناء ذلك تحت التراب الذي ينكتون فيه ويصيحون، فلو عملوا كالحكماء لا كالدجاج فبحثوا على مهلهم مفكرين لما كانوا يزعجون أحدا بغبارهم وصياحهم، ولما كانت حركتهم قليلة البركة، لو فتحوا عيونهم وتبصروا لما كانوا يدوسون بأرجلهم الجوهرة التي يطلبونها.
إن مظاهر الحياة وحدودها عند الغربيين اليوم لواضحة جلية، ولا ظل يصل طرفي البياض والسواد في حالهم الاجتماعية، لا غسق يصل ليلهم بنهارهم ولا طريق تجمع بين عمرانهم ودمارهم. فهذه عندهم منطقة الغناء، وتلك منطقة الفقر والشقاء، هذه سهول العمل والتجارة، وتلك حزون البطالة والقذارة، هنا فريق العلماء والحكماء، وهناك جموع خيم عليهم الجهل والتعصب والبلاء. فالفقير عندهم هو الفقر مجسدا، والغني هو الغناء موحدا. والغريب في أمر فقرهم وغنائهم هو أن البقرات العجاف اللاتي تأكلهن البقرات السمان كل يوم يتضاعفن بالنسبة إلى تعدي هؤلاء عليهن.
هذه حال الغربيين النازعين اليوم إلى الاشتراكية وأما حالنا فليلنا لا يعرف من نهارنا، وعمراننا لا ينفصل عن دمارنا، إنما نحن ظل الأشياء لا فقر عندنا ولا غناء، ولا علم يذكر ولا جهل، ولا عمال ولا بطالة. غريب أمر الشرقيين، فما هم في حياتهم سوى حرف وصل بين الأضداد. وقد تكون هذه حقيقة الحياة وقد يكون الحق في جانبنا، ولكنا إزاء الغربيين الذين بدءوا يزاحموننا في أرضنا نؤكل لا محال كما توكل عندهم البقرات العجاف كل يوم إذا كنا لا نخرج من ظل الأشياء ونشمر عن ساعد الجد والعناء. •••
إن البلاء لمستقر، في جهاد الإنسان المستمر.
إن رأس الشقاء البشري، في هذا الازدحام الحضري.
أحب في صديقي الإباءة أكثر من المروءة، أحب منه الأنفة وإن كان فيها عنيفا، ولا أحب الصغارة وإن كان فيها لطيفا.
الصديق الأبي الأنوف وإن جمد وجه وداده خير ممن يقبلك متشوقا كل مرة يراك وقلبه كتربة أجداده.
الحر الكريم يظل صديقك وإن عاداك، والخسيس اللئيم هو عدوك وإن والاك.
لا تدقق في درس أخلاق صديقك «وفتلته»، إن كنت تطمع في دوام محبته.
لا تتوقع من صديقك أن ينصرك إذا كنت مخطئا، ولا أن يجد بأمرك إذا كنت فيه بطيئا. •••
الصداقة الحقيقية مثل كل عمل عظيم هي التي يشترك فيها القلب والعقل والضمير. فالشعور - إذ ذاك - يكون غذاءها، والإدراك مصباحها، والعدل ميزان الاثنين. وإن رجحت إحدى كفتي الميزان فمسير الصداقة إلى الامتهان، وتصبح أخيرا كعروس الشعر أو كبنت الخوان، أي: أنها تصير إما خيالية وإما مادية، فتعيش يومها مشوهة إما في الحواس وإما في الأوهام، وفي كلا الحالين لا عدل ولا لذة فيها للصديقين. •••
الحياة مضيق بين أبديتين، ووميض برق بين غيمتين غامضتين.
إذا تخاصم من أصدقائك اثنان، لا تسبق في الإصلاح بينهما الزمان، فهو للعداء خير دواء. وإن عاقبة الإسراع في وصل حبل الوداد هي غالبا كعاقبة الجرح المندمل على فساد. •••
أشرف الحب حب من لا يدعك تشعر بولائه، قبل انقضائه، فهو لا ينقدك وداده في السراء ليتقاضاكه مع الفائدة في الضراء. •••
شر الأصدقاء صديق لا يعتبرك من أكفائه، فإن ظن نفسه أكبر منك يهينك في حبه وتقلبه، وإن كان أصغر منك يغيظك في تودده وتحببه. •••
أحب من الجمال ما كان فيه شيء من القباحة، ومن الحركة في الجمال ما كان فيها كياسة وملاحة، ومن السكوت في الجمال ما كان فيه كثير من الفصاحة.
أفضل أن أشاهد كل يوم عشر مرات سحنة منكرة وفيها بهاء وغرابة وذكاء، على أن أرى مرة في الشهر طلعة جميلة خاسئة والنفس فيها جدباء. •••
من نهج لحاجاته المادية وغاياته الدنيوية منهج التدين والورع الكاذب والرياء والتنطع كان بعيدا عن الدين وعن الله بعد هذه الأرض عن أبعد السيارات من الشمس.
الدين الحقيقي ما أنار القلب من الإنسان والضمير، فيهديه في الحياة الدنيا خير طريق إلى خير الأبواب في الآخرة. ومتى كان ضمير جاري كنور الشمس حيا نقيا، وقلبه كوردة تفتح في الفجر لتستقبل ندى السماء لا فرق - إذ ذاك - عندي إن ذكر مع الدراويش أو سجد مع اليسوعيين أو اغتسل في نهر القنج مع البوذيين، فهو المؤمن الحقيقي، هو الصادق في دينه، هو رجل الله الأمين. •••
بحث الفلاسفة الأولون في الكون والحياة فبدءوا بأبحاثهم من العلة إلى المعلول من المركب إلى البسيط من الأعلى إلى الأدنى. بحثوا فعللوا، فاعتلوا، فماتوا وما أورثوا العالم سوى الأوهام والشكوك. وعلماء اليوم يقلبون الآية فيبحثون في الحشرات والجواهر الحية والمكروبات؛ ابتغاء الوصول إلى ما بدأ به فلاسفة الماضي.
وهؤلاء يحللون ويركبون ويعللون، فيعتلون، فيموتون قبل أن يصلوا إلى ما يزيل شيئا من الأوهام والشكوك. والنتيجة إذا واحدة إن صعدنا من الأدنى إلى الأعلى أو سقطنا من الأعلى إلى الأدنى، الكون كيفما نظر إليه العالم يظل فوق علمه. إن هذا السر العظيم وإن رصدت نجومه بالتسلكوب أو روقبت جواهره الحية بالمكرسكوب أو تحللت أنواره وألوانه بالسبكتريسكوب يظل سرا عظيما، يموت راعي الغنم فيه كموت سقراط أو سبنسر. وسكوت القبور يناجي سكوت النجوم، والإنسان بينهما خيال يزول.
المتعصب على رأس الأشهاد وإن كان من طبقة واطية من الحيوانات الناطقة هو خير من متعصب يتظاهر بالتساهل.
المتعصبون فصيلة غريبة من الحيوانات ذوات الاثنين، ومثل سائر الفصائل الحيوانية فيها أنواع وأشكال. وأهم ما هو معروف منها اليوم ما كان كالثعلب أو كالذئب أو كالبزاقة أو كالعقاب، فالأول جبان يتعصب في ظلام الليل، ويخاف في ضياء القمر خيال ذنبه. والثاني يفترسك ويفترسني - لو كان بإمكانه - إن كنا لا نرى ما يراه أو لا نصلي وراه. والثالث لا يهمه من العالم سوى صدفته ونقطة المطر التي يبل فيها قرنه «وحافة» القديس الذي يلتجئ إليها من نور الشمس، وما سوى ذلك فهو لا يدرك شيئا من وجوده أو مما فوق أو تحت وجوده. والرابع يظل في الفضاء مترفعا مترفضا إلى أن يشتم رائحة الجثة فينقض عليها كما لو كانت من المن والسلوى. وهناك نوع آخر قديم العهد ... فهمت معنى إشارتك وسأقف عند هذا الحد في التفصيل ... على أن ذاك المخلوق الشريف الجبار الذي يتعصب لحق الله ودين الله، فوا أسفاه! ... قد انقرض نوعه من زمن طويل ولم يعد لك أن ترى منه إلا العظام في الأنتكخانة. •••
الناس أشباح تحركها الأغراض والأهواء، وتتقاذفها في بحار الحب والبغض الرياح والأنواء.
الدين دينان، دين نظري ودين عملي، فالدين النظري إنما هو رغبة الإنسان في دوام الحياة الروحية، وخشوعه أمام سر الأسرار العظيم، وإدراكه أن هناك صلة خفية تربطه بأبديتين إلهيتين، أبدية وراء المهد وأبدية وراء اللحد. والدين العملي الحي إنما هو العمل بنواميس الطبيعة، أي: شرائع الله المنطبعة على لوح قلب كل إنسان، فإن كنت يا أخي من الذين يتقون الله فلست إذا من الخاسرين، ضع آمالك في هذه النجوم فوق رأسك، وفي هذه القبور تحت قدميك وسر في طريقك يا أخي ولا تبال، لا تبال بمن يتجنون عليك باسم الدين ويهددونك بغضب السماء وبنار الجحيم إذا كنت لا تعمل بتقاليدهم ولا تسجد لأصنامهم ولا تتمتم صلواتهم، سر في طريقك ولا تبال. أما إذا كنت لا تستطيع أن تعزز جانب نفسك وحريتك فتنصر الحق على الباطل في كل وقت ومكان وفي أي حال كان، إذا كنت لا تستطيع أن تحافظ على نور الله في قلبك وعلى عدل الله في ضميرك فالأوفق لك أن تعود إلى القطيع الذي انفصلت عنه، عد إلى الحظيرة التي خرجت منها، فكلب الخراف هناك يحميك - في الأقل - من ذئاب الدهريين. •••
إن في وفيك شيئا من السديم وشيئا مما وراء السديم، بل في وفيك سر أبدي عظيم، لا يكشف الحديث من العلم غامضه ولا القديم.
الجرذان في قبوك لا يعرفون ما إذا كان القبو ثابتا إلى الأبد أو إلى حين، ولا يعرفون من شيده ولماذا، إنما هم يعيشون في زاوية منه أو بالحري في ظلماته، فيجدون في طلب رزقهم، ويدافعون عن أنفسهم، ويهربون من وجه الحيوانات المتسلطة عليهم، فيضاعفون نسلهم ويضاعفون في ذلك عذابك. هذه زبدة حياتهم ومصلها في القبو الذي بنيته لنفسك لا لهم. والبشر في هذه السيارة الصغيرة التي تدعى الأرض إنما هم - جل شأنك - كالجرذان، فإننا نعمل كأحقر المخلوقات في الظلمات، ولا نعرف ما إذا كان العالم ثابتا إلى الأبد أو إلى حين، ولا نعرف الغاية التي من أجلها شيد هذا القبو الذي يدعى الأرض ولا الغاية من وجودنا فيه، ناهيك عن قصد البناء العظيم الذي ... هس! إنما نحن كالجرذان. •••
على الأديب أن يبدأ بنفسه فيؤدبها بعلمه، وكم نقرأ في الجرائد اليوم من النصح والإرشاد والتنديد والانتقاد، فلا نكاد ننتهي من قراءة المقالة حتى نقف مدهوشين عند اسم كاتبها العظيم، ما شاء الله! وما ضر هذا الناقد الناصح المرشد لو اختلى في بيته وقفل الباب جيدا وسد النوافذ بالقطن أو بورق الخرنوب وبدأ بنفسه؟ أما ينبغي أن تسمع أذنه صوته ويشعر ضميره بما يجترئ عليه قلمه؟ أعوذ بالرب الأحد من حارض نقد، ومن النفاثات في العقد!
لكل نوع من المادة مزية لا تنفصل عنه، لكل نوع منها فضيلة من شأنها الصعود من الأوطى إلى الأعلى. فالغاز مثلا يتبدد فيتجمد في الفضاء، والماء يتبخر فيتكون غيوما، والأزوت يحل في النبات فينمو ورقا وأزهارا وثمارا، ويحل في ذوات الأربع فتتنفس وتنشأ وتمشي، ويحل في الإنسان. وهذي هي العقدة التي لا يحلها عقل الفيلسوف ولا يقطعها سيف الإسكندر، فإن كان في الأزوت جرثومة الفكر والخيال هل تكون هذه الجرثومة كامنة يا ترى في أوراق الشجر وفي غريزة الحيوان كما تظهر نتائجها في حياة الإنسان؟ •••
إن الغناء الحقيقي لفي الأشياء التي يستطيع المرء أن يستغني عنها، وسأتولى بنفسي شرح الآية هذه المرة. إذا كنت فقيرا ولم يكن لي رغبة في نوافل العيش وكشاكشه كالعربات والخيل المطهمة والطنافس والرياش ودواعي الرفاه كلها فأنا - إذا - الغني. وإن كنت متمولا وكان دخل أموالي لا يكفي لأدب المآدب وإحياء ليالي الرقص والغناء، بل لا يكفي لدفع أجور خدامي وعبيدي وساحة خيلي فإني إذا لمن الفقراء. كم من الأشياء تغنينا إذا استغنينا عنها وكم من الأشياء تفقرنا إذا طلبناها كالأطفال واستخدمناها كالمجانين! •••
في زخارف المدينة المعبودة، مائة مصيبة منقودة.
قد سئمت الخير الذي يعمله الأتقياء ابتغاء مرضاة الله، قد سئمت الإحسان الذي يتخذه بعضهم مهنة للارتزاق. فما أكثر مثل هؤلاء المحسنين في العالم وما أقل الإحسان الحقيقي، الخالص من كل ريب الصافي من كل عيب. قبل أن تكون محسنا يا هذا أحسن سلوكك وآدابك. قبل أن تعمل مقدار ذرة من الخير كن أنت من بنيه.
هناك امرؤ أحسن من المحسن وهو الذي يعيش لنفسه حياة صالحة صافية، هو الذي لا يعرف الخير عندما يصنعه، هو الذي لا يبتغي مرضاة الله ولا مرضاة الناس ولا الشهرة ولا المجد من بره وإحسانه. عد إلى كتب العرب واقرأ فيها قصة عكرمة الفياض يا سيدي الأمير، ولا تنس أن تقرأ أيضا قصة عمر بن الخطاب والعجوز، ومتى حملتك الحمية والغيرة إلى الإحسان فاعمله ليلا وسرا؛ كي لا يراك أحد من الناس فيشوه برك بمديحه وإطرائه، أنقذ الغريق والبس ثيابك وامش، فإن اللذة في العمل لا في النتيجة. •••
كلنا في هذا المجتمع الإنساني ضائعون، كل منا كالولد التائه في الغاب يغني على ليلاه لينسى خوفه وشجاه. لكل منا نغمة يترنم بها فتنسيه نوعا حقيقة حاله، تشغله قليلا عن نفسه، كلنا - بكلمة أوضح - مستعبدون للعرض بعيدون عن الجوهر، كلنا نعيش للمنقول لا للمعقول للمصطلح عليه لا للأصلح منه، الطف اللهم بعبادك.
من أجل ما قرأته في الكتب المقدسة فاتحة القرآن، فهي صلاة جديرة بأن يرددها بقلب حي كل إنسان كل يوم في السنة.
إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم
أي والله، فإن الإنسان وإن كان من أرقى البريطانيين أو من أرقى العثمانيين، إن كان من باريس أو من نويرك، أو من أطنه أو من داهومي؛ هو في أشد حاجة إلى الهداية اليوم مما كان في أيام النبي داود، أو في عهد عاد وثمود. •••
إن من يكتفي بمسحة من العلم والحكمة كمن يكتفي بغسل وجهه إذا دخل الحمام. وليس بالأمر الصعب على مثل هذا أن يفوز بقصب السبق إما في الثقالة وإما في الرعونة، وإذا ركب إلى غرضه فرس سيبويه يعود وفي يديه القصبتين، فنقرأ إذ نراه التعويذتين! •••
قل: تبارك السر الذي في ولا تحفل بضجيج الناس وضوضى الأمم، عش قنوعا هادئا ساكتا معتزلا وواظب على نظافة العقل والقلب كما تواظب على نظافة الجسد فلا تكن من الخاسرين، تلاه في العمل والنمو عن عقبات الحياة وهمومها، وبكلمة وجيزة كن مثمرا ولو بين القتاد، فلا تحزن يوم يجيئك ملك الحصاد.
لا يختلف اثنان في أن الأولاد يطلبون الأشياء دون أن يدركوها فيلحون ويلبطون ويصرخون وهم لا يعقلون، ومن الرجال الراشدين من هم أيضا كالأولاد فيطلبون ما لا يدركون من الأشياء ويصرون على أمورهم ويلبطون على طريقتهم الخاصة، إما بالأيدي وإما بالأرجل وإما باللسان. وهم أيضا لا يعقلون، تراهم يروحون ويجيئون دون أن يعرفوا من أين وإلى أين، ويركضون ويضجون وهم كالأولاد لأحكام الحلاوى والقضيب خاضعون. هذه خزانة الكعك والحلواء التي يعرفها الأولاد وهذه العصا التي لا يجهلون طعمها إذا هم أكثروا من الرواح والمجيء إلى الخزانة. وكم أناس لو كسرت الحكومة عصاها يموتوت أمام خزانة اللذات شهداء الأهواء والشهوات، كم أناس يسرقون الخبيص ويكبرون على البوليص، أعوذ بالرب الجبار، من الصبيان الكبار. •••
العواصف تقوي العواطف وتثيرها، فالنبت الذي تلويه الأهوية وتطويه يكون أشد من ذاك الذي ينمو وينور في بيوت الزجاج. •••
الضغط على الأنفس والعقول إلى حد محدود يولد من القوى الكامنة ما لا يخلو من سمو الفكرة والإدراك، وأما إذا تجاوز هذا الحد فيولد اليأس والخمول، وفي اليأس متى انتفضت عنه غبار الخمول قوة خبيثة قتالة لا عقل فيها ولا إدراك.
في كل إنسان جذوة من الخير لا تخمدها رماد الغواية والضلال مهما تكاثفت فوقها، في كل إنسان شيء من الحب والحقيقة مهما أوغل في المنكرات ونكب عن السراط المستقيم. وإن أنا صافحت مجرما فإنني أصافح تلك الجذوة الكامنة تحت رماد شقائه وذاك القليل من الحب الراقد تحت بلائه، إنني أصافح الشقي الباغي ؛ لأنه ساعة يقف أمامي لمن الصالحين ولو إلى حين. ولا يهمني - إذ ذاك - ما كان من ماضيه ولا ما سيكون من مستقبله، لا، فإنه لا يصدني عن مصافحته سيئة أتاها أو جناية اقترفها أو عار أحاق به، ساعة أخذ يده بيدي تتصل كهربائية جسمي بجسمه وتؤهله لمصافحتي في تلك الآونة. •••
خير الكتب وأنفسها كتاب لا يتركني بعد أن أطالعه في الحال التي ألفتها، كتاب يحرك في عاطفة شريفة جديدة، أو قصدا كبيرا جديدا، أو فكرا ساميا جديدا، كتاب يزحزحني من مكاني أو يدفعني لأزحزح من هم حولي، كتاب يفيقني من سباتي العميق، أو ينهض بي من حمأة الخمول، أو يهديني إلى طريقة أحل بها عقدة من عقد الحياة، ولكن مثل هذا الكتاب - على كثرة ما تصدره المطابع الحرة اليوم من القصص والروايات - أصبح كالامرأة الفاضلة التي ينشدها سيدنا سليمان. •••
كليمبروتوس اليوناني رمى بنفسه في البحر بعد أن انتهى من قراءة كتاب أفلاطون في خلود النفس، وفي فعلته هذه الخارقة ثناء عظيم على المؤلف وعلى القارئ معا؛ إذ لو لم يقنع كليمبروتوس بحجة أفلاطون لما كان فادى بحياته ليبرهن عن إيمانه، ولو لم يعتقد أفلاطون بما كتبه لما استطاع أن يفحم كليمبروتوس. فمثل كتابه هذا يزحزح حقا ولكنه يزحزح جدا، يزحزح القارئ دفعة واحدة عن هذا العالم، فهو إذا لا ينفع كثيرا.
ومن حظنا أنه لم يترجم إلى اللغة العربية. على أنني وإن كنت أشك في صحة عقل كليمبروتوس لا أشك قط في شجاعته التي حملته على أن يعمل بما اعتقده صحيحا، فما قولك بالمسيحيين والمسلمين واليهود، الذي يعتقدون - أو في الأقل يقولون - بالخلود، ويبكون أمواتهم كما لو كانت أنفسهم أيضا للدود؟ فإن كنا في اعتقادنا صادقين، إن كنا واثقين كأفلاطون وكليمبروتوس أن النفس لا تموت؛ ينبغي أن نفرح في الأقل ساعة تطلق من أسر الجسد. على أنني لا أسألكم أن تفرحوا ولا أسالكم أن ترموا بأنفسكم في البحر لتبرهنوا عن إيمانكم العجيب، ولكن لا تصمون الأحياء ساعة الموت بالعويل والنحيب . •••
الحكيم لا يخشى الموت لعلمه بأن الموت بعيد عن الإنسان ما زال حيا، ومتى مات الإنسان يصبح بعيدا عن الموت.
خير الإحسان وأجمله ما جاد به القلب والعقل معا، وما بقي ففيه الكذب والادعاء، جد علي بشيء من القوت فآكله وبعد قليل أصبح كما كنت قبل إحسانك، ففتاتك لا تغير في نفسي شيئا. ولكن هات منك فكرا ساميا جميلا فيتحلل في القلب والدماغ ويخالط النفس مني فترثه عني الأجيال. في كل قوة أدبية - أي: عقلية روحية - شيء من الخير الخالص النقي، وإذا كان فيك يا أخي شيء من هذه القوة الأدبية فهذا الخير يصدر عنك إن شئت أو لم تشأ وينفعني أنا إن شئت أو لم أشأ. •••
لما حدد «ديكار» المادة أهمل ذكر القوة والحركة اللتين هما من مزاياها، وخصصها بمزية التمدد فقط، أما الحركة التي روقبت فيها فعزيت إلى قوة خارج المادة ومستقلة - أي: إلى الله - ولكننا اليوم نتلقن في المدارس مبدأ أمسى من أوليات الطبيعيات وهو أن القوة والحركة والتمدد كلها من مميزات المادة، وأن في كل جسم جامد أو آلي قوة كامنة تستحيل حركة ميكانيكية، وأن الحركة الدائمة هي من طبيعة المادة، وأن الأجسام مؤلفة من جواهر هي أبدا متحركة، ولكن قد يعود العلماء بعد البحث الطويل إلى غلطة «ديكار» ومتى عرفوا ما هو الأثير واكتشفوا سرا واحدا من أسراره يصححون - لا شك - تعاليمهم الطبيعية.
إن سيئات مشاهير الناس كحسناتهم من حيث إن الغلو يكون غالبا مصدر الاثنين، وإن ما يقوله فيهم المقربون المدلسون لأخبث مما يقوله الحسد المبغوضون. لما مات الهر كروب صاحب معامل المدافع الشهيرة أشاع أصحابه أنه كان يكره الحرب كرها شديدا، فيا لها من إهانة يلحقها المدلسون بالأموات! وماذا تنفع الناس عاطفة كروب المكربة وقد استخدم ثروته العظيمة في استنباط أدوات الحرب واصطناع موادها؟ أما إذا كانت المدرعات والمدافع تصنع لقتل القتال لا لإحيائه فيكون الفضل في إبطال الحروب لبضاعة الهر كروب. •••
من الناس من يعجب ببعض أبطال التاريخ ليحذو حذوهم في السيئات لا في الحسنات، فينتحل - لحماقته - من شذوذهم الأعذار، ويتخذ من عيوبهم مثالا لعيوبه. •••
في سراة القوم أو الذوات من لا يمتازون عن أصغر الناس إلا بمن يحوم حولهم من المداهنين والمدلسين والدجالين. •••
النفوس أدوية يشترك في مزجها الله والإنسان، فمنها المرة ومنها الحلوة ومنها الحامضة ومنها المزة ومنها - وهذه أكره من كل الأدوية - ما لا طعم ولا لون لها.
الحكيم من اشتغل في سفينة نفسه كل يوم وظل متأهبا والجاهل المغتر بأمواله لا يهتم بذلك حتى يسمع هدير الأمواج ويراها تتصاعد حول قصوره ولكن الطوفان يا سيدي لا ينتظرك، وساعة يجيء لا ينفعك اهتمامك وتجديفك وصراخك «هاتوا خشب، هاتوا مسامير، أين الخدم، أين هؤلاء الحمير» آه يا سيدي إن أذنيك لأطول من أذني خادمك؛ فهو اليوم في فلكه يسبح ويسبح وأنت في غيك تموت. •••
قالت امرأة الفيلسوف لزوجها: أرى الناس ينددون بك ويسفهون أقوالك وينكرون عليك تصرفك، فأجابها الفيلسوف: إن هذا من حبهم يا حبيبتي، فلو كنا كالجماد أو كالثيران لما كان الناس يفكرون بنا، لما كانوا يذكروننا لا في خيرنا ولا في شرنا، وقد تتعجبين كيف أن الحب يحملهم على السفاهة والقباحة ولكن إذا قلت لك: إن البغض إنما هو بطانة الحب أفلا يزول عجبك؟ نعم إن هذه العاطفة السرية الخفية وإن شوهها الجهل وأفسدها التعصب وصهر عينيها الحسد؛ تظل حبا على الرغم من صاحبها، ولكن إذا وقفت على رأسها تظهر بطانتها فتبدو سوأتها فيظنها الناس بغضا ويكرهونها. •••
العالم لا يستنكف من تغيير عقيدة له أو إصلاحها إذا استوجبت ذلك الحقيقة.
ما أفقر الإنسان إذا كان لا يستطيع أن يرفع نفسه فوق نفسه. •••
حاولت مرة أن أكره رجلا يحبه قلبي، فركبت في شنآني مركب الغش والخداع وكنت واهما أنني أبغضه وأنا في الحقيقة أحبه، وظللت كذلك إلى أن ثارت علي نفسي فونبتني وطلبت إلي أن أصلح الأمر، أن أكفر عن ذنبي تجاه ضميري وتجاه صديقي، فرحت أطلبه لهذه الغاية فما وجدته، بل وجدته طريح الفراش، وجدته وا رباه جثة باردة. مات صديقي قبل أن أراه وأكلمه وأستغفره، مات قبل أن يسمع الكلمة التي يعذب في فمي لفظها، مات ولم ير ثوب الخداع الذي حرقته حول نعشه، مات والموت في عينيه يحدجني ويقول: وهل سمعت أنني أمهلت مرة أحدا من البشر ليصلح أمره، ليسدد حسابه، وإن كنت لا تراني ولا تسمع صوتي ألا تفهم نفسك نبئي، أفلا يشعر ضميرك بثقل يدي؟ بلى ورب السماوات، الموت يثأر بالصدق والحق، الموت ينتقم من الحب الواقف على رأسه، فإن كنت في شيء من مثل هذا أيها القارئ العزيز عجل-عجل إلى صديقك إلى حبيبك؛ قبل أن يحول الدهر بينه وبين حبك، قبل أن يمنعك الموت من إصلاح أمرك وتسديد حسابك.
الباب الثانى
في الباب
لا المجد والشهرة أمنيتي القصوى، ولا الجاه والثروة، ولا السيادة والعظمة. أمنيتي الجوهرية الأولى هي أن أكون بسيطا في أعمالي، صادقا في أقوالي، مستقيما في مبادئي وآرائي، فطريا في تصرفي وسلوكي، حرا فيما أحب وما أكره. وبكلمة أخرى أود أن أكون دائما نظيف العقل والقلب والجسم، بعيدا عن التصلف والزخرف والعجب والمصانعة، بعيدا عن الجبن والخوف والتذبذب، بعيدا عن الخجل الذي يذل النفس ويميت الحقيقة، بعيدا عن الكذب والجربزة والمداهنة والرياء.
علي أن أقتبل ما يقابلني من الصعوبات في مسالك الحياة باشا جادا ثابتا صابرا متجلدا، علي أن أناهض الفساد والضلال في الناس وألا أكره أحدا من الناس، أود أن أعيش دون أن أبغض أحدا، وأحب دون أن أغار من أحد، وأرتفع دون أن أترفع على أحد، وأتقدم دون أن أدوس من هم دوني أو أحسد من هم فوقي. هذي هي سنتي وللغير أن يتخذوا لهم سنة توافقهم، للغير أن يسلكوا ذات المسلك إذا شاءوا واستطاعوا، ليس من شأني أن أتداخل في شئونهم ولا أن أرشدهم - منذرا - أو أعظهم - متأمرا متهددا - علي أن أعيش صادقا مسالما مستقيما وللناس أن يعيشوا كما يطيب لهم.
لا أحب أن أنصح أحدا متى كانت نصيحتي بنت فكرة زائلة لا بنت حقيقة دائمة. ولا أن أنضم إلى حزب من الأحزاب، أو طائفة من الطوائف، أو جمعية من الجمعيات مهما كانت صبغاتها، ومهما تسامت غاياتها، ولا أن أساعد أحدا لا يعمل في مساعدة نفسه. وإذا كان في ما يلهم الناس إلى الخير ويرفعهم درجة واحدة في سلم الرقي العقلي أحب أن أظهره بالمثل والإشارة واللطف لا بالإنذار والوعيد والتأمر. أحب أن تشع حياتي ولا أحبها أن تفرقع، أحب أن تكون كأحد الكواكب السماوية لا كسهم من الأسهم النارية.
أمين
بيروت في أول أيار سنة 1910
الخطب
(1) في العزلة
1
جاء في الأمثال: إن في الحركة بركة وليس فيكم - على ما أظن - من يجهل ذلك، ليس فيكم من ينكر صحة هذا المثل السائر ولا يعمل به، وأما هذا الفقير فإنه لا يعتقد بصحته ولا يعمل بموجبه، وقد خطر لي منذ سنين أن أعكس الآية وأجري على ضدها، فقلت: إن كان في الحركة بركة ففي الفلوات بركات، وفي القعود سعود، وفي الهدو نمو وسمو. وأشياء أخرى من هذا الباب.
ولا يخفى عليكم أن في هذه الأمثال حكمة تختلف عن حكمة المثل السابق، بل تختلف اختلافا جوهريا يحاكي اختلاف النفس عن الجسد، فالحكمة فيها روحانية معنوية وحكمة من يقول: إن في الحركة بركة حكمة مادية عملية تجارية؛ لذلك آثرت الأولى على الثانية، فأوقفت عملي وخرجت من الوسط المضطرب لأفكر قليلا في ما أنا فيه لأرى أين أنا من نفسي ومن الله، وحقا إني تألمت لما وقفت متأملا، تألمت لما رأيتني قريبا من الناس بعيدا عن نفسي وعن إلهي، فتركت الحركة والبركة للعمال ولبني الأشغال وسلكت في نور الحكمة والحقيقة مسلكا جديدا.
وهذه حالة لا بد منها لكل من تنبهت فيه الروح، هي طور من أطوار الفيلسوف الأولى، هي أول ريشة في جناح الشاعر هي أول حادثة خطيرة في حياة الأولياء والأنبياء، هي أول عقدة روحية عقلية يعجز عن حلها أكثر المفكرين. وجدت نفسي في هذه الحالة متألما متحيرا مترددا. تألمت كثيرا لما رأيتني في الغربة بين شعب لا يعرف معنى السكينة ولا الراحة ولا الجمال. وجدت نفسي في بلاد فيها الحركة دائمة متواصلة، وأما البركة فيقال فيها ما يقال في بعض الأمراض إنها حادة متقطعة.
وجدت نفسي بين قوم يأكلون ماشين، ويقرءون آكلين، ويعدون النقود راكضين، ويعبدون الأوثان قائمين قاعدين، بل يقدمون أرواحهم وأجسادهم ضحية لآلهة ما سمعت بأسمائها العصور العابرة. عشت زمنا بين قوم يقال إنهم مسيحيون، ولكنهم في الحقيقة وثنيون، وثنيون بترفهم وبطرهم، وثنيون بأخلاقهم وشعورهم، وثنيون بمطامعهم واستئثارهم، وثنيون بتعدد آلهتهم. وأما هياكل هذه الآلهة وأصنامها فإنك لا تشاهدها قائمة في الأسواق، بل ينبغي أن تنظر إليها بعين الروح فتراها في كل حي وجماد يتحرك هناك تعال إذا معي لأريك آلهة هذا الزمان الجديد، آلهة هذا التمدن الحديث، تعال معي لأريك من الهياكل والأصنام ألوانا وأشكالا. هذا صنم من القطن لإله البروص وذاك صنم من الفحم لإله المعادن، هذا صنم من السكر لإله الحقول وذاك صنم من الخشب لإله الغابات.
وههنا هياكل من المرمر والرخام لإله التجارة، وهناك الهيكل الأكبر المشيد من حجارة الذهب والفضة لإله الآلهة، إله الأمة، إله المال. والناس هناك يعدون أموالهم راكضين من هيكل إلى آخر ومن إله إلى أخيه، وأبدا تراهم لهذه الآلهة الغريبة ساجدين، فيعبدونها ويخدمونها ويموتون في سبيلها، يعبدونها في كل حالاتهم، يخدمونها في حركاتهم وفي سكناتهم، فخرجت من بين هؤلاء المشركين طالبا في البرية ربي مثل إبراهيم، خرجت من بينهم وأنا على اعتقاد أن المرء إن قرب من العالم الجديد بعد عن الطبيعة وعن الشعر وعن الجمال الروحي وعن الله؛ ولذلك حولت وجهي إلى مشرق الشمس وعدت في طريقي إلى أرض الأنبياء، عدت إلى وطني لأقترب من جمال الشرق الشعري وجماله الطبيعي وجماله الروحي بل الإلهي، أي: الجمال الدائم الأبدي الذي لا تشينه الحالة السياسية المختلة، ولا الحالة الاجتماعية المعتلة.
عدت إلى مسقط رأسي باحثا عما أضعته هناك أيام الصبا، أفلت من أشراك التمدن - والحمد الله - وفررت هاربا إلى الفريكة. على كتف الوادي وبالقرب من كروم أجدادي نصبت خيامي ، فوق نهر الكلب وقبالة جبل صنين رفعت رايتي البيضاء عوضا عن العلم الأحمر الذي وضعته في يدي إحدى بنات الحرية في البلاد الأميركية. رفعت علم السلم فوق فلسفتي الاجتماعية بعد أن كان علمي علم القتال وكتبت على بابي: في إصلاح الفرد إصلاح الأمة وفي تهذيب الشعب إصلاح الرؤساء والحكام.
نعم - سادتي - إن التهذيب خير من التحزيب والتخريب، على أن ذلك ليس من موضوعي هذه الليلة، فالمجال ضيق لمثل هذا البحث وأضيق منه منبر هذه الجمعية.
عدت إلى وطني طالبا فيه راحة العقل وراحة النفس وراحة الجسد، بل طالبا فيه شيئا أشرف من كل ذلك وأسمى، طالبا في الطبيعة ومنها ما ينسي المرء عقله ونفسه وجسده. عدت - يا سادتي - لا كما عاد يوليوس قيصر إلى رومية أو هوجو إلى باريس، عدت قانعا شاكرا راضيا، وتذكرت السندباد لما عاد من سفراته، وأبا العلاء لما عاد إلى معرته، فشكرت الله كالسندباد على سلامتي في الغربة، ولجأت - كأبي العلاء - إلى العزلة في قريتي هربا من الحضارة ومتاعبها، وشغفا بالطبيعة وجمالها، وحبا بالتأمل ولذاته، وتقربا من الله وبركاته، فدخلت هذه المدينة كما يدخل الكهان الهيكل أو اللص البيت، دخلتها من باب السر فلم يدر بي من الإخوان أحد، وصعدت إلى الجبل ولم يدر بي أحد، وأقمت، هناك زمنا في ظلال الصنوبر ولم يدر بي أحد، فاضطجعت على العشب ورأسي في ظل وزالة زاهرة - إنا للطبيعة وإنا إليها راجعون - وشكرت الله شكرا جزيلا، ووددت لو كان بيني وبين المدن أضعاف ما بيني وبينها من الوهاد والجبال والبحار.
وأظنني أخطأت مرة فرددت بصوت عال صدى صوت نفسي، وما علمت أن للأشجار عيونا وللصخور آذانا، بل ما علمت أن النهر يحمل إلى المدينة صدى صوت الوادي وصدى ساكنيه، ففي صباح يوم من فصل الشتاء سمعت حديثا دار بين شجرة كبيرة من الصنوبر وأخرى صغيرة، أو بين أم الغابة وإحدى بناتها، قالت الابنة: من هذا الغريب الذي لا يخاف السكنى معنا في هذا الشتاء؟ فأجابت الأم: ما هو بغريب يا بنيتي، وإنما هو من نبات هذه الأرض ومن سنديان هذه الجبال، هو من أبنائنا يا بنية، وقد طالما حملته وحملته من ثماري لما كان صغيرا. قد طالما فرشت له من ريشي وظلي ما يزيل تعب الجسد وهم الفؤاد وبعثت إليه من أرج نسيمي ما ينعش النفس ويحييها، ومع ذلك فقد هجرنا زمنا طويلا وعاد اليوم ليكفر عن ذنوبه أمامنا وفي ظلنا. حبيه يا بنتي فإنه يحبنا.
وبمثل هذا كانت الأشجار تفشي أسراري إلى النهر، والنهر يحملها إلى البحر، والبحر يلقيها بلا اكتراث على شواطئ هذه المدينة، وقيل إن الصيادين سمعوا ذات يوم في هدير الأمواج أصواتا غريبة مطربة، فظنوا أن أحدا من الجن يكلمهم بلساننا العربي الشريف، وقيل إنهم فهموا من ألغاز الأمواج شيئا يسيرا وأشاعوا في البلد إشاعات تحولت بعد أيام خرافات وخزعبلات، تشير كلها إلى أن في وادي الفريكة ناسكا تسجد له الصخور وتخاطبه الأشجار وتكلمه السواقي وتستشيره الطيور.
فاستغربت الخبر كما استغربه الناس، وبعد أن فتشت في الوادي عن الناسك وأعياني التفتيش كتبت إلى أحد أصدقائي كتابا هزأت فيه من هذه الخرافات التي قصها البحر على الصيادين وأذاعها الصيادون في المدينة فزاد الكتاب الطين بلة؛ لأن الأدباء الذين سخروا مثلي بهذه الخرافات اعتقدوا بعدئذ صحتها وطفقوا ينشرونها في أندية الأدب، فتجسمت الإشاعة حتى استحالت خرافة وأصبحت في اعتقاد الناس حقيقة راهنة، وكذلك تنشأ الخرافات وتستولي على الناس. فاهتم بعض أعضاء هذه الجمعية بالأمر وكتب أحدهم إلي لأصدقه الخبر، ثم جائني من الجمعية نفسها كتاب تسألني به أن أتحفها بشيء من أخبار الناسك وأسفاره، وبعبارة أوضح دعتني إلى الخطابة في حفلتها السنوية منذ سنتين، فلبيت الدعوة وبعثت إلى الجمعية بشيء من ثمار نفس الناسك المذكور.
2
ولبثت أنتظر جوابها، وبينما أنا أتوقع منها كتاب شكر جاءني الرسول بعد أسبوع ومعه الثمار التي بعثتها، ثماري أعيدت إلي، ردت الجمعية هديتي بلا عذر ولا شبه عذر، أرجعت الثمار وأغفلت الاعتذار، وبعثت مع الرسول تقول قد فحص الطبيب ثمارها فوجدها مضرة بصحة هذه الأمة، وجد فيها مكروبات غريبة خبيثة عديدة فكانت هذه منها إهانة فوق إهانة، لكنني قبلتها شاكرا وحسبتها من جملة ما ينبغي أن يعرض عنه المرء في عزلته، حسبتها مما ينبغي أن نترك وراءنا إذا حولنا وجهنا نحو شمس النفس الشارقة من وراء جبال الحقيقة المرسلة ما فاض من نورها فوق مروج الشعر وبحيرات الخيال.
فظل الناسك - والحال هذه - هائما في واديه، ولم يدر أن الجمعية لم تزل تناديه، على أنه لم يكد يرفع طرفه إلى سماء الروح ويلمس بيده ما تجسم أمامه من السعادة الروحية الحقيقية حتى جاء هذا الشتاء وفيه ما كتب له - بل عليه - من الشدة والبلاء، فهجر صومعته في الجبل مضطرا واعتاض عن شذا الأودية بروائح الأدوية وعن الأولياء بالأطباء، مع أن الفرق بين الأولياء والأطباء قليل لا يستحق الذكر، فكم من طبيب فاضل يستحق أن يطوب قديسا أو يدعى وليا بعد موته، فقد تعرفت بفضل آلامي العصيبة بعدد وافر من هؤلاء الأفاضل، وبان لي بالاختبار ما كنت أجهله، تحققت أن الفرق بين الطبيب والكاهن كالفرق بين الكاهن والمحامي، كلهم - نفعنا الله بعلمهم وبرهم - يتعاطون الجربزة، كلهم يتاجرون بشيء من الحقيقة وبكثير من الخزعبلات والأوهام، على أن الطبيب أرفع درجة من الكاهن والكاهن أرفع درجة من المحامي.
والثلاثة يا سادتي من سلالة واحدة ومن بطن واحد، نعم إن الطبيب والكاهن والمحامي ثلاثة عقبان من بيضة واحدة، ومن الشرور ما كان لازما للبشر، من الشرور ما هو نافع للإنسان، وقد كنت أسيرا لشيء منها في هذه المدينة لما جاءني رئيس هذه الجمعية فأسرني أيضا بلطفه وجميل أدبه، وكلمني مرة أخرى في أمر الخطابة، ألح علي الرئيس وعدد من الأدباء بأسلوب جعلني أظن أن الجمعية تنوي أن تحاصرني في الفريكة وتعقد جلستها هناك إذا كنت لا أتكلم في حفلتها هنا، فخفت من المضايقة في عزلتي ونتيجة خوفي - أيها الكرام - وقوفي أمامكم الآن خطيبا. عفوا سادتي ما جئتكم خطيبا الليلة بل محدثا، وسأحدثكم في موضوع العزلة ومنافعها ومضارها .
العزلة إما داء وإما دواء وإما غذاء، هي داء لمن لا يجد في نفسه ما يغنيه عن معاشرة الناس، ولو زمنا قصيرا. وهي دواء لمن سئمت نفسه من ملاذ هذا المجتمع وموبقاته، من سروره وشروره، فيعود إلى أمه الطبيعة لتداويه بنور شمسها وعليل هوائها وشذا رياحينها. وهي غذاء لمن يخرج من الهيئة الاجتماعية والنفس نافرة من محيط هي غريبة فيه، يعتزل الناس طالبا في الطبيعة الراحة التي لا يعرفها الناس، واللذات التي لا يشعر بها الناس، والتعزية التي قلما تعزي عامة الناس.
نفس الأول خامدة جامدة، ونفس الثاني سقيمة عقيمة، ونفس الثالث من الأنفس السامية الكبيرة التي قلما تنام، فهي تفيق من هجعتها قبل صياح الديك فتفتح عينيها في ظلمة الليل الحالكة وتقاسي قبل بزوغ الفجر من العذاب والحيرة أشدهما، تبتدئ هذه النفس بالمقاومة والتمرد، فتقاوم القوات التي تعترضها في طريقها وتتمرد على كل من يحاول إبقائها في الظلمات الدامسة.
تسير بنور مصباحها الداخلي إلى أن تخرج من الظلمات بفضل ما فيها من الشجاعة والإقدام والثبات، فتتدرج من الظلمة متمردة إلى العزلة هادئة وتعاني فيها بادئ بدء نوعا جديدا من العذاب، تعاني هناك عذابا هو أساس كل لذاتها الروحية، بل هو العذاب الذي يقاسيه من تعودت أعصابه المخدرات والمسكنات؛ إذ ينقطع عنها دفعة واحدة، ومن العزلة تعود هذه النفس المحررة المستنيرة المتمردة إلى المجتمع لتتمم فيه إرادتها، لتنير ولو زاوية صغيرة فيه بما فاض من نورها.
شبهت الانقطاع عن الناس بالانقطاع دفعة واحدة عن المسكنات التي يعتادها المريض، فهل خطر لأحد منكم أن يستشير ربه بواسطة الطبيعة في أمر روحه المريضة كما يستشير الطبيب في أمر جسده، أيدهشكم قولي لكم إننا كلنا مرضى بوجه ما، وفي هذا المجتمع كما هو اليوم بالأخص بما فيه من دواعي الأمراض والهموم والأحزان تنسينا الحركة الدائمة آلامنا، ولا أذكر الآن أي علماء الألمان قسم الناس ثلاثة أقسام فقال: قسم منهم يولد للمستشفى، وقسم للمارستان، والقسم الثالث للبادية، أي: أن ذلك العالم الألماني يقول إن الناس إما مرضى وإما مجانين وإما برابرة.
ومع ما في هذا القول من الغلو والضلال والكفر - فقد كفر العالم بالنفس وأساء فهم نواميس الطبيعة وغالى في تقبيح الإنسان - مع ما في قوله مما ذكرت فهو لا يخلو من الحقيقة، غير أنها حقيقة ناقصة متجزئة، وأما الحقيقة كلها، الحقيقة الشاملة الأبدية هي أن الناس كلهم سواء من وجهة الفيلسوف، ومن هذه الوجهة أيضا يمكننا أن نقسم البشر إلى قسمين أوليين، قسم الأحياء روحيا وقسم الأموات، وهاتان الطبقتان نشاهدهما في كل شعب حضريا كان أو بدويا، ففي البداوة أناس تتنبه فيهم الروح وتنهض من سباتها كما في الحضارة، بل في البدو تبلغ الروح المتفردة الكبيرة أعلى درجة من السمو والقوة والجمال، فيخرج من البادية رجال كما يظهر في المدن رجال، وإن نبغ في نويرك المخترعون وفي لندرا العلماء وفي برلين الفلاسفة وفي باريس الشعراء وفي فلورنسة المصورون والنحاتون؛ ففي البادية ينشأ الأنبياء.
لكل بلاد مزية طبيعية ثابتة دائمة، وفي كل نفس بشرية شيء من سماء البلاد التي نشأت فيها ومن أرضها، فيها شيء من تبر وطنها ومن ترابه، من خير هوائها ومن شره، من فتوره ومن نشاطه، من هدوه ومن هياجه. فالناس إذا كلهم سواء من وجهة الفيلسوف، الإنسان واحد من بلاد الزولو إلى شطوط النروج ومن ثلوج ألسكا إلى أطراف اليابان، الناس كلهم سواء من حيث إن الأمراض والجنون والتوحش كلها تنتاب كلا منا في أوقات مختلفة وبدرجات متفاوتة.
ولا يفوتنا أن نذكر مع هذه الشدائد كلها نعمة واحدة شاملة، فإنا ممن لا ييأسون ولا يقطعون الرجاء مهما توغل الإنسان في الجهل والجنون والتوحش؛ لأنني على يقين أن النفس في كل منا تفيق ولو مرة واحدة من سباتها في سياحتها هذه العالمية، تنهض النفس من غفلتها فتجيء ولو بعمل واحد شريف خالص لوجه الله، ترينا من الشهامة والمعروف والإحسان ما يزيل عن وجه الحياة شيئا من تقطبه وعبوسته، تنهض النفس من ظلماتها، من تحت أثقالها المادية، من بين أغلالها الاجتماعية، من تحت أهوائها وشهواتها وأغراضها الذميمة لتقول للناس: إنني لم أزل حية وأعرف معنى الحب والتساهل والحنان، إنني لم أزل حية وأعرف معنى الحق والعدل والحرية، فيمكنني أن أتسامى إلى ما فوق الشرف المتعارف بين الناس، إلى ما فوق الفضيلة المصطلح عليها، إلى ما فوق القوانين والشرائع، إلى ما فوق قداسة الأديان وخزعبلات بدعها، أي: لا بد لكل امرئ من ساعة - ولو في حياته كلها - يظهر فيها بمظهر الفضيلة الصادقة الفضيلة المجردة النامية الحقيقية فيخضع للنفس الأمارة بالخير لا بالسوء لتظهر فيها محاسنها الجليلة.
ولذلك ينبغي أن تقول إن الأمراض والجنون والتوحش وحسنات النفس أو يقظاتها تنتاب كلا منا على الإطلاق، تنتاب كلا منا في أوقات مختلفة - كما قلت - وبدرجات متفاوتة. ومن هذه الوجهة المرتفعة وجهة الفيلسوف العمومية كلنا - لا شك - متساوون، أي: أننا كلنا مرضى بنوع ما وكلنا نتخذ الأشغال نلهو بها، نسكن بها آلامنا، نخدر بها همومنا، نضمد بها جروح صبرنا ورجائنا ننعش بها آمالنا، وعندما يقف الواحد منا ليتنفس قليلا ليتنشق نسيم السحر الجميل أو بالحري ليدع عمله هنيهة ويستريح تعاوده آلامه مضاعفة كما تعاود الأوجاع المريض عند انتهاء فعل المرفين، وما هي هذه الآلام يا سادتي؟ أروحانية هي أم جسمانية؟ فالطبيب يقول لنا إنها جسمانية، والكاهن يقول إنها روحانية، والحقيقة ههنا أقرب إلى جانب الكاهن منها إلى جانب الطبيب.
آلامنا روحية أكثر منها جسدية، يعود الرجل من أشغاله في المساء أو من ملاهيه بعد نصف الليل فيستلقي على سريره متكرها متأففا متذمرا، فيشكو وقد خارت قواه من ألم في أعصابه أو في معدته أو في رأسه، ويظن أن أوجاعه موضعية، يظنها جسدية، والحقيقة - على ما أرى - هي خلاف ذلك، فالجسد لا يمرض من العمل وأعضاؤه تزداد قوة ومرونة ونشاطا بالممارسة والتمرين وهذا ناموس طبيعي، من أين إذا آلامنا وأوجاعنا، ما هي أسبابها أين مصدرها، أيمكن أن يكون لها مسبب غير مادي، أيمكن أن تكون آلامنا الجسدية ناتجة عن ألم أصلي أساسي جوهري روحي؟
سؤال أجيبكم عنه حالا بلا تردد وبالإيجاب، نعم سادتي وسيداتي إن مصدر هذه الآلام الروح، فالروح منا تئن وتتأوه وصدى أنينها يظهر في كل جوارحنا وفي كل حواسنا ، الروح تتألم من الضغط عليها، من احتقار الإنسان إياها، من إهماله شئونها، من اهتضامه حقوقها، الروح تتأوه من قيود السلطة كما أنها تتألم من قيود العبودية، فالرئيس والمرءوس سواء من هذا القبيل، الظالم والمظلوم يشكيان من مرض واحد فالروح في كل منهما تتألم من حيوانية الإنسان الخبيثة، من أهوائه من ظلمه من استئثاره من بغضه من توحشه من ذله من جهله من جنونه، فإذا كانت الأشغال تسكن آلام النفس فالعزلة تضعف شكوتها ويستأصلها العود إلى الطبيعة.
ورب قائل يقول أتريد أن يكون الناس كلهم نساكا وزهادا وكيف يتسنى ذلك، فالجواب أن ذلك غير ممكن وغير مطلوب، فالعزلة أنواع، وربما امتهنت حرمة القاموس وتوسعت قليلا بمعناها المحدود، فقد تكون شوقا في النفس لسبر غور النفس، لإدراك كنه قواها، لكشف الحجاب عن بعض أسرارها، وهذي هي عزلة الفيلسوف، أو قد تكون اعتصام النفس بعالمي الخيال والجمال فرارا من مسئولية الحياة الاجتماعية وواجباتها الصناعية، وهذي هي عزلة الشاعر، وهي ممكنة في المدينة وبين الجموع كما في الصحراء أو في الجبال؛ لأن الشاعر وإن خالط الناس وحدثهم فهو دائما فوقهم وبعيد منهم، ثم قد تكون العزلة طمعا في النفس لفتح ممالك عالم النفس، لرفع أعلام الحقيقة والحب والحق فوق صروحها، وهذه عزلة الأنبياء، وهناك أنواع أخرى من العزلة لا يهمنا ذكرها؛ لأنها تغيرت عما كانت عليه حين قال المتنبي بيته المشهور في وصف الأسد:
في وحدة الرهبان إلا أنه
لا يعرف التحريم والتحليلا
قد اتضح لكم أن الميل إلى الوحدة والاعتزال ينشأ في النفس وعنها، وكما أن النفس تتطلب المعرفة فهي تبتغي شيئا من العزلة تتغذى أثناءها من المعرفة. يقول الإفرنج في السياحة تكملة التهذيب، أي: أن المرء مهما درس وطالع وتعمق في العلوم وتغلغل فتهذيبه يظل ناقصا إذا كان لا يعرف من العلم إلا مسقط رأسه أو عاصمة بلاده ، فإذا كان في السياحة تتمة التهذيب ففي العزلة تتمة السياحة؛ لأن المرء لا يكون قد ساح قط إذا كان لا يعتزل قليلا بعد سياحته في العالم ليحاسب نفسه، ليفحص بتأن وهدوء ما في مخادعها، ليغربل ما فيها من الحقائق والخرافات والآراء السديدة المختلطة مع الخزعبلات. وبكلمة أخرى ليسقي النفس من ماء الفكرة الذي يتقطر ويتكرر في العزلة، ولا تظنوا أن كل من التجأ من المفكرين إلى هذه الطريقة انتفع بها، والذي لا ينتفع منها لا يستطيع نفع الناس.
لما كنت في نويرك قصدت يوما مدينة كنكرد بالقرب من بسطن (وهي المدينة الصغيرة التي أعطت العالم الجديد أكبر شعرائه وفلاسفته) لأزور فيها بيت الفيلسوف إمرسن والحرج الذي بنى فيه الشاعر طورو مسكنه أو بالحري كوخه للعزلة فعاش فيه متنسكا سنتين وألف هناك كتابه النفسي في فلسفة العمران وفلسفة الانفراد، والكاتب الذي كان رفيقي ودليلي في هذه الحجة - وهو شيخ جليل في الصحافة وفي السن - كان رفيقا وصديقا أيضا لأكثر شعراء كنكرد وفلاسفتها الغابرين فسألته عما إذا كان في المدينة اليوم من يعد من طبقة هؤلاء الرجال العظام، فقال: إن الطبيعة يا صديقي لا تجود علينا بالنوابغ كل سنة، فهي لا تعطي العالم إلا أفرادا قلائل كل عصر وما كل من اعتصم بالعزلة يصل إلى ذروة التفرد والذكاء. فمنذ سنين جاء هذه الأصقاع شاب إنكليزي واختار بيت طورو هذا مقرا لعزلته وعاش فيه كما عاش طورو سنتين، ولكنه يئس بعد ذلك وهجر كنكرد ومن ذلك الحين لم نسمع عنه شيئا.
فعزلة طورو إذا أو عزلة النابغة أثمرت من الأدب والشعر والفلسفة ما يعد من طبقة ما كتبه أكبر نوابغ العالم، وعزلة الثاني العقيمة أضرت بصاحبها؛ لأنه لم يتدارك الخطر قبل حلوله، وفاته أن الوحدة الطويلة الأمد ما عدت لمثله وأن نفسه لا تطلب مثل هذا الغذاء، لذلك لا أعمم في قولي ولا أغالي بمحاسن العزلة ومنافعها إذ ما كل من اعتزل تفرد ولا كل من تفرد أفاد الإنسانية، على أن العزلة تنفع الكل إذا أخذ منها كل بقدر ما تطلبه نفسه أو بالحري إذا عرف كل إنسان كمية الجرعة التي ينبغي أن يأخذها، فمن نفس متجمدة لا تطيق العزلة أكثر من أسبوع إلى نفس متوقدة لا ترضى بأقل من سنة أو أكثر وبينهما تتفاوت المدد كما تتفاوت العقول، هذي هي القاعدة، فمن جرب العزلة بحكمة واعتدال انتفع لا شك منها فهو ينتفع عقليا وجسديا وروحيا إذا أحسن استعمال الدواء.
وأفضل ما في العزلة للمفكرين أنها تقرب الفرد من نفسه، فالحياة الاجتماعية - كما اتضح لكم مما ذكرته - تبعدنا عن أنفسنا حتى نجهلها جهلا فاضحا؛ لأن معرفة المرء نفسه غير ممكنة في أي حال من أحوال هذا المجتمع المضطرب، وإذا جهل المرء نفسه بعد عنها بعدا شاسعا، وإن حاول خدمة الإنسانية وهو بعيد عن نفسه، أي: جاهلها لا يستطيع إلى ذلك سبيلا مهما أجاد ببيانه وفصاحته، ومهما بالغ في آرائه وأكبر الناس دعواه، لا خير في مثل هذا مهما صاح ونادى ودعى القوم وادعى. وإن صياح المصلحين ليذكرني دائما بهدوء الفلاسفة، بل يذكرني بما جاء في التلمود من حديث دار بين أشجار الغابة وأشجار البستان، قالت أشجار الغابة لأشجار البستان: لماذا لا نسمع لأغصانك صوتا ولا صدى فأجابت أشجار البستان: لأنني مشتغلة عن الولولة بإنماء ثماري، ثم سألت أشجار البستان أشجار الغابة قائلة، ولماذا تسمع الناس لأغصانك هذا الدوي وهذه الجلبة فأجابت أشجار الغابة: لكي يشعر الناس بوجودي.
لذلك قلت: إن كان في الحركة بركة ففي الفلوات بركات وفي الهدو نمو وسمو، فالنور - يا سادتي - ينبثق على العالم هادئا ساكنا، وإن شمس الحكمة لتحتجب غالبا عند هبوب العواصف والزوابع، فمن الأنفس السامية المتفردة الهادئة ينبثق نور الحب ونور الحكمة ونور الحقيقة. وفي الأنفس السامية المتفردة الهادئة ينابيع الجمال كلها. جمال الفنون وجمال الروح وجمال الحياة السعيدة، وإلى الأنفس المتفردة السامية الهادئة تعود بنا حسنات التمدن الحديث لترينا فيها أسبابها، لذلك كتبت فوق بابي: في إصلاح الفرد إصلاح الأمة.
وفي تهذيب الشعب إصلاح الرؤساء والحكام . (2) هنا وهناك وهنالك
3
أيها السادة والسيدات
دعي مرة أديب للخطابة في حفلة مثل هذه فلبى الدعوة فرحا مسرورا؛ لأنها كانت أول ما جاءه من القوم وكان الخطاب باكورة عمله، فسود الأوراق وبيضها واستعد لخطابه استعدادا يليق بوقفته الأولى على المنبر، ولكن لما وقف أمام القوم خانته الحافظة وجمحت القريحة فاعتذر قائلا: لما دخلت هذا المنتدى لم يكن أحد يعرف من خطابي شيئا سوى الله والداعي، وأما الآن فبأسف أخبركم أن لا أحد يعرفه سوى الله، فاستحسن الحاضرون النكتة وعفوه من الخطابة، ولا تظنوا - رعاكم الله - أن الكلام الذي أعددته أنا لهذه الحفلة لم يطلع عليه قبل هذه الساعة سوى العالم بذات الصدور، كلا، فقد اضطرني أصدقائي إلى مراعاة اصطلاحات البلاد وقالوا: ابعث ابنك هذا إلى المستشفى بلا عناد، فبعثته بعد أن دسمته من العين، وقرأت عليه المعوذتين، وهناك استلمه مولانا الطبيب، وكفى بذلك تلميحا للبيت، وعاد إلي بعد أيام حسبتها سنين، وعلى بدنه آثار المبضع والمشرط والسكين، فتصافحنا وكلانا يقول: الحمد لله رب العالمين.
ويجب أن أقف عند هذا الحد في التسجيع والكنايات خوفا من أن تحسبوني أتلو عليكم شيئا من سجع الكهان، أو مقامة من مقامات بديع الزمان، وقد يتبادر لذهنكم أني أوردت القصة ليكون حظي منكم حظ ذاك الخطيب من قومه ولكنني لا أطلب كل هذا، أنا أدفع الآن نصف ما علي من الدين لهذه الجمعية بشرط أن تعفوني من النصف الآخر، ولكنني أعدكم بدفعه مع الفائدة متى تحسنت الأحوال على أنني أود لو كنت مطلق الحرية لأدفع كل ما علي الآن، إن قوتي - يا سادتي - في حريتي لا في شعري، أود لو كانت وقفتي هذه الأولى أمام قومي في وطني غير مقيدة بقيود التقية والأحوال، ولكن لسان الحال أفصح من لسان البيان، وقد تكون الكلمة المحفوظة في الصدر أشد تأثيرا في النفس من الكلمة المقولة.
لقيت على شاطئ البحر وأنا قادم ذات يوم إلى المدينة شيئا ذكرني بما يليق أن أفتتح به هذه الكلمات القليلة التي تحوم حوما حول موضوع يتعوذ من ذكره الناس، ذكرني ما لقيته على ساحل هذه البلاد السورية وسأخبركم عما لقيته بعدئذ أو لكم أن تنبهوني إذا فاتني ذلك، ذكرني بمدينة في البلاد الأميركية قضيت فيها خمس عشرة سنة متراوحا بين قومي والأعجام فلم أمل كل الميل إلى أولئك الأميركيين ولم أهجر كل الهجر إخواني السوريين، لم يكن جفاء قومي ليقربني من الأعجام ولا إكرام الأعجام ليبعدني عن قومي، ولقد سمعت من أصدقائي الشعراء الأميركيين من الكلام ما يضعف الشعائر الوطنية لو كان في لمثل هذا الضعف استعداد.
وقد قال لي أحدهم مرة بعد أن قرأ في إحدى الجرائد الأميركية خبر قيام النزالة السورية علي بسبب كتابي الأخير دع ذكر الوطن والأمة والزم الشعر، الشاعر الحقيقي هو ابن العالم على الإطلاق وكل وطن صالح هو وطنه، فرنت هذه الكلمات في أذني ولا سيما الناصح شيخ في السن وفي صناعته، وهجرت - إذ ذاك - قومي إلى حين ونفضت عن أوراقي ودفاتري غبار لغتنا هذه الشريفة وأخذت أنظم في اللغة الإنكليزية وأنقل إلى الأعجام ما عثرت عليه من كنوز العربية، وثبت عندي - إذ ذاك - أن الشاعر الحقيقي يخلص الخدمة لوطنه أولا ومن ثم يتدرج إلى خدمة الإنسانية، أو يخدم الوطن والإنسانية معا إذا كان من النوابغ الحقيقيين النادرين في كل أمة وبلاد.
وبعد أن فكرت في أمري هذا وسمعت المباحثة التي جرت بين ذاتي السوري وذاتي الأميركي حكمت للأول على الثاني ورضيت أن أكون من الطبقة الأولى في الوطنية ولو جعلني ذلك في الطبقة الوسطى من الشعر، وهكذا عدت إلى الكتابة من اليمين إلى الشمال ولكنني حفظت في قلبي زاوية للغة التي اكتسبتها في العالم الجديد، ولو أصيخ إلى قول صديقي الشاعر الأميركي لما كنت حظيت بمشاهدتكم هذه الليلة ولكم أن تعكسوا، نعم إن ولعي بلغتي وبوطني لقوي شديد ولو سألتموني إيراد الأسباب التي توجب هذا الولع لقلت لكم أحب لغتي لأنني أحب نفسي وأحب وطني لأنني أحب قومي، وقد يحملني هذا الولع والحب إلى الغلو أحيانا، فقد قرأت مرة أن غالينوس كان يقول: أجود هواء في الدنيا هواء بلاد اليونان.
وقال ابن رشد: إن أجود هواء لهواء قرطبة (بلده ) وقال ملتن: إن الهواء النقي المنعش لا يهجر قط لندره، وأقول أنا - وأظنكم كلكم تقولون معي: إن هواء لبنان لهو نفس الآلهة بالذات، وكلنا لا شك مصيبون، وما غلوي أنا إلا جزء من غلو أولئك الفلاسفة الكرام، هذه الثمرة من تلك الشجرة، ولكن حبذا هواء لبنان وبئس المتنشقون، حبذا ماء الجبل وبئس الشاربون، لا والله هذا كثير، لا يجب أن ألوم اللبنانيين ولا أن أؤاخذهم بما هم عليه من الخمول والانحطاط والاستكانة والضعة.
فالإكليروس وشيوخ القرى راضون عن مثل هذا الانحطاط والخمول ويجب أن يرضى المقلقون بما يرضي شيوخ القرى والإكليروس، يجب أن نرضى ونسكت، ولكن إذا نحن سكتنا فالمهاجرون لا يسكتون، إذا نحن رضينا فالمهاجرون المقلقون لا يرضون، نعم لا بد أن تشرق علينا شمس العلم والترقي من المغرب كما تشرق علينا شمس الله من وراء جبل صنين، لا بد أن يشرق على سوريا قمر الإصلاح من وراء البحار مثلما يشرق عليها قمر السماء من وراء جبل الشيخ، لا بد من التقاء الشمسين واجتماع القمرين وقد تأخر قمر المغرب إلى الهزيع الأخير من الليل، فلتنم الأمة مطمئنة إذا، ولكن اذكروا كلامي، لا بد من أن تعاينه ذات ليلة من ليالي تموز وهو شهر جليل الذكر عند أعظم جمهوريتين في العالم.
4
وإني لأذكر يوم وقفت أمام قومي في أميركا فذكرت قومي في الوطن، وها أنا الآن أمام نخبة من قومي في الوطن العزيز أذكر قومي في أميركا فتحلو لي الموازنة بين الشعبين إذا لم أقل بين البلادين، ولكن الوقت قصير والحبل أقصر، فمتى يا ترى يعود المهاجرون المنورون إلى الوطن.
وافطنوا أنني لا أريد سوى المنورين وأما ما بقي من المهاجرين فسواء على الوطن إن عادوا أو لم يعودوا فهم لا ينفعون، الأمة بأفرادها لا بجرادها، ولكن حتى م هذا الانقسام وهذا التشتيت وكيف تصان وتعزز الوطنية والمنورون من السوريين ضاربون في أربعة أقطار العالم، تائهون في فيافي النزاع والجدال، فتراهم قائمين بعضهم على بعض في كل صقع وفي كل قطر وفي كل بلاد، الشعب السوري في المهاجر جاهل ولكنه ناهض عامل، والشعب السوري في الوطن منور إلى درجة ولكنه متقاعس متغافل.
هناك ترى السوريين في هرج ومرج وشغب ونزاع وجدال وقتال، تراهم أبدا قائمين قاعدين ضاربين شاكيين، وهنا تراهم إلى السكينة والاستكانة مخلدين، هناك تضعف الوطنية ويقوى التعصب الديني من عوامل خارجية، وهنا قد ينتج ذلك عن عوامل داخلية، هناك نهاميون وزرازرة من الإكليروس عاكفون على جمع المال عاملون على إثارة الفتن، وهنا - ولكن قد فاتني أن البحث في شئون ذوي الرئاسة محظور في هذه الجمعية بل في هذه البلاد، هناك صحافة عربية نمت في ظل الحرية، فوافقها الهواء إلى حد أن صارت صحتها فيه بلية، وهنا - ولكن الصحافة بنت الزرازرة والنهاميين فكما راعينا خاطرهم يجب أن نراعي أيضا خاطر ابنتهم هذه العانس الفضفاضة الوهنانة.
الصحافة السورية في أميركا وما أدراك ما هي، سطور تلمع من خلالها الخناجر والحراب وأعمدة تطفح بالحامض الكبريتيك، وأما هنا فعندنا زنابيل من القش ملؤها قطن منفوش وبخور يحرق في مجامر التدليس حول الأرائك والعروش، ولكن قد فاتني أن الخوض في أمور السياسة محظور في هذه الجمعية، بل في هذه البلاد، هناك قوم يقدمون على غير هداية، ويخبطون خبط العشواء في البداية، وهنا كرام يرون البقاء في الخيام خيرا من الهيام في الظلام والجمود خيرا من التطواف خارج الحدود. هناك حرية يرافقها بطر وأشر وحماقة، وهنا تهذيب ناقص يتراوح بين المراعاة واللياقة، ويسير مستسلما مكتئبا من الخمول إلى الذبول، هناك قيل لا يتبعه عمل وهنا لا قول ولا عمل.
ولعمري هذا الأخير أحسن من ذاك. هناك ضجة وقعقعة وضوضاء، وهنا هدو وقناعة ورخاء، هناك صحافي يقارع كاهنا وكاهن يصارم صحافيا وهنا - كاد يطيش السهم ثانية أو بالحري كاد يصيب كبد الحقيقة لو لم ترده هذه الجمعية الزاهرة بمجن التحظير: هنا وهناك وهناك - وهل ينطق من في فمه ماء؟ نعم كدت أنسى ما وعدتكم به، ماذا تظنون لقيت على شاطئ البحر؟ أسمكة من ذهب أو صدفة من الندى المتجمد على الصخور أو لؤلؤة صفراء أو مرجانة بيضاء أو بنتا من بنات الأمواج الزرقاء اللائي يحلم ويهيم بهن الشعراء أو شيئا أندر من كل نادر تحت السماء؟ لا، لا، ما لقيت شيئا من هذا، ما لقيت على شاطئ البحر سوى الأمواج ثم الأمواج ثم الأمواج.
وهذا من مثل كلام المتصوف الذي يختلي بنفسه ويقول: قد وجدت روحي قد لقيت ذاتي ولك أن تسأل هل كانت روحه - قدس الله سره - ضائعة أم كان هو محجوبا عن نفسه. ولكنني أعجز عن الجواب؛ لأن الله يفتح علي في مثل هذه الأمور، ولهؤلاء المتصوفين ضروب من الكلام لا نلحنها نحو العوام، غير أني أهديك إلى القشيري والسهروردي إذا كنت لا تخاف أن تضيع في براري شطحاتهم وسرداب أسرارهم، وإذا أغلق عليك هناك فإليك بفلاسفة الألمان الروحيين أو ببراهمة الهند القانتين.
وأما كلامي فكلام شاعر مفتون، لا كلام متصوف مغبون، نعم، ما لقيت على شاطئ البحر سوى الأمواج القائمة القاعدة، الراغية الزابدة، الهاجمة الهائجة، سوى الأمواج تلاعب الرمل فتترك عليه أثر حنين البحر إلى ما خرج من بطنه من سواحل وسهول وجبال، لقيت هذه الأمواج أو بالحري لقيت فكرا صغيرا في موجة صغيرة منها جاءت تلثم قدمي ضاحكة وعادت إلى حجر أمها راغبة راضية، ففكرت في نفسي إذ ذاك وقلت: أليست هذه الأمواج من ذات البحر الذي تتلاطم أمواجه حول جبل طارق؟
أولا تنقل أمواج البحر الواحد من مكان إلى آخر في مدار الليالي والأيام فتسافر الموجة الواحدة إلى سواحل سوريا كما تسافر بواخر الميساجري ماريتيم، أولا تمتزج أمواج البحر المتوسط بأمواج البحر الأتلنتيكي عند مجتمع البحرين، أولا تسافر الأمواج من مرفاء نويرك إلى جبل طارق ومن ثم إلى سواحل آسيا الصغرى؟ إذن - وها قد وصلت إلى بيت القصيدة - ما الموجة التي لثمت قدمي إلا رسول خير من بلاد العلماء إلى بلاد الأنبياء، ما هي إلا موجة واحدة صغيرة من بحر النور والهدى يقذفها المغرب إلى المشرق.
إن هي إلا موجة من أمواج العقل والحجى، يسوقها الله إلى بلد ميت فيحييها بعد موتها، إن هي إلا موجة من أمواج النفس البشرية النبيلة تحملها الرياح والأعاصير إلى المستضعفين المستذلين من العباد في كل بلاد، إن هي إلا موجة من أمواج الحب والحنان يشحذ بها الأصفياء الأحرار عزم أولئك المنقادين للهوان المستسلمين للامتهان، إن هي إلا موجة من الأمواج التي تغسل قدمي إلهة الحرية الرافعة نبراسها في مدينة نويرك العظمى، وإني لأقول لكم الآن لا بد أن يرى المستقبل مثل هذا التمثال الجليل الجميل في كل مدينة كبرى من مدن الشرق الأقرب والأقصى.
وإذا لم يكن تمثالا من نحاس أصفر أو رخام ثمين، فتمثال من نور في قلوب أرطنيين، وهذه شبه نبوة بيد أني قصير الباع في هذه الصناعة، ولكن قد جاء في الحديث الشاعر جزءان من ستة وأربعين جزءا من نبي، ولعل أحدكم يقول قد جاء أيضا والشعراء يتبعهم الغاوون وهم في كل واد يهيمون، نعم قد سمعت هذا الحديث ولكنني لا أسألكم أن تتبعوني اذكروا فقط كلامي، ودعوني وأحلامي. (3) الحرية والتهذيب
5
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين . (سورة القصص 5)
أيها الوطنيون
أنتم المستضعفون في الأرض، وأنتم - إن شاء الله - الوارثون، ويشهد على ذلك نير ماضيكم وحرية حاضركم، يشهد على ذلك ظلام أمسكم ونور يومكم، فأنتم المفلحون والمحررون بفضل زعماء الآراء الحرة وبفضل الجند العثماني الذي سيبرهن لأوربا اليوم بأن الشرق لم يزل منبت المعجزات، ففي الماضي كانت معجزاته دينية واليوم معجزاته سياسية، بالأمس دهشت دول أوربا بالمعجزة التي أتتها اليابان واليوم تدهشها المعجزات السياسية والاجتماعية في دول بني عثمان، فأوربا لا تعرف حتى الآن معنى الثورة السلمية وما رأت بين شعوبها المتباينة عناصرها السياسية والمتضاربة مذاهبها الاجتماعية مثلما يسود اليوم في أمتنا من التساهل والمساواة والإخاء.
6
وهذا هو النور الذي ينشق من الظلام، هذه وردة الوئام التي تنبت على ضريح الشقاق والخصام، هذه هي الحرية التي تشيد الأمة هيكلها في روضة الألفة والسلام.
جاء في بعض الأسفار أن الأطباء الأقدمين اكتشفوا العقاقير القتالة قبل العقاقير الشافية، وكذلك يصح أن يقال في حكومات العالم بأسرها القتالة منها وجدت قبل الشافية، ولا فرق إن كانت الحكومة أبوية كما في الصين أو أميرية كما في الهند أو استبدادية كدول آشور ومادي وفارس أو كحكومة الروس بالأمس، فكلها من الأدوية القتالة التي يسقيها الحاكم المحكوم ليقتل فيه الروح ويتمكن من إرهاب الجسد وتسخيره واستعباده، فالظالم مجرم أيا كان، والحكومة الاستبدادية ذاهبة إلى البوار في كل مكان، ولنا في حكومتنا على هذا أشد وأقطع برهان، فبالأمس كانت الأمة العثمانية تتقلب على فراش الموت واليوم تمرح فرحة تحت سماء الحياة وفي ظل الحرية والدستور، لنهنئ أنفسنا إذا لأننا عشنا - والحمد لله - لنرى الظلم مدرجا بكفنه الدائم، والاستبداد هاويا إلى الجحيم.
بالأمس كان خطيبكم يتسنم على المنبر فيجمجم الكلام ويوريه، ويلغز ويرمز، ويعقد مقاله ويلويه، لتخفى على جواسيس الحكومة معانيه، واليوم نراه كما لو كان في باريس أو في نويرك يصدع بالحق ويجاهر مصرحا بآرائه ومباديه، والفضل في ذلك عائد إلى زعماء النهضة الإصلاحية النظريين، وإلى زعمائها العمليين، وإلى الرئيس الأكبر الذي انتهت إليه مطالب هؤلاء العثمانيين. بل الفضل عائد إلى كل من حرك قلما لبث روح الحرية والدستور، وإلى جلالة السلطان الذي كلل النهضة بالفوز فصان الدولة من الخطوب والمحن، وخلص الأمة من الهزاهز والفتن، فالأمة التي كانت أمس أسيرة ظلمه أصبحت اليوم أسيرة فضله، وقد يكون الآسر أكبر من الأسير ولكن العاتق يا سادتي أكبر من الاثنين، فالسلام اليوم على عبد الحميد، والسلام على عهده الجديد، سلام على عصر الحرية المجيد.
7 •••
وجدير بنا بعد هذا التشبيب الذي لا بد منه للخطيب البحث في ماهية الحرية وأصولها باختصار يوجبه الوقت والمقام، فالحرية اليوم كلمة تملأ أفواه القوم، الحرية جمال يزدهي في أعمدة الصحافة وأندية الأمة، الحرية مجد أنسى التجار أشغالهم، والأتقياء فروضهم وأنفالهم، الحرية آلهة هجرت الأمة معابدها لتعبدها.
كل ذلك جائز كل ذلك حسن إن لم يكن مفيدا، ولكنني في كل ما قرأته في الجرائد لمن كتبوا وخطبوا ما اطلعت على كلام في الموضوع حري بالنظر والاعتبار، وقد يكون فاتني في عزلتي كثير مما كتب وفات الشعب في ابتهاجه وهوسه أكثر من ذلك؛ لأن المعقولات في مثل هذه الأيام قلما تستلفت أنظار الناس والبحث الفلسفي في الموضوع لا يروق الشعب ولا يلائم الزينة في المدينة. على أنني دعيت إلى الخطابة في هذه الحفلة الشائقة فينبغي لي أن أقول الكلمة التي يوجبها العلم ويقتضيها الضمير ويؤيدها الاختبار، ولكم أن تنبذوها بعد أن تسمعوها أو تزرعوها فتستثمروها.
كل انقلاب في الحكومات لا يسبقه انقلاب في الأفكار والآراء لا يرجى منه كبير فائدة، فالحرية السياسية جميلة وأما وحدها فمنافعها قليلة، ومن الواجب أن يتحرر عقل الأمة وضميرها ليتعزز شأنها وشأن حكومتها. واعلموا أن ثورة روحية في بلاد الإفرنج هي أصل هذه الحرية السياسية التي نتمتع بها اليوم فرحين مبتهجين، يقال إن للجند يدا في هذه النهضة الإصلاحية ولا ريب عندي في ذلك، ولكن الجند في الحكومات الاستبدادية إذا امتهنت حقوقه وحبس زمنا معاشه يقيم السيف في أمره حجة قاطعة.
وكثيرا ما حدث من مثل هذا الحادث في الحكومات الاستبدادية في سالف الزمان، وأما الآن فنرى أن الجند العثماني ينصر النهضة الفكرية الإصلاحية ويثق تمام الثقة بمواعيد زعمائها، والفضل في تغلب الفكر على القوة والعقل على السيف حتى في الجند عائد إلى شيء جميل في مدنيتنا ينتشر في العالم انتشارا سريعا، وهذا الشيء الجميل يتجسد أحيانا في دعاة الإصلاح الصادقين وغالبا في الفلاسفة والشعراء الحقيقيين. فالشورى على وجهها البسيط قديمة في العالم، وطريقها من المشرق إلى المغرب يكاد يختفي في ظلمة التاريخ، وأما من المغرب إلى المشرق فمسلكها واضح وآثارها جلية، فمن المصلحين العثمانيين إلى المصلحين الروسيين مرحلة قصيرة، وتكاد أسباب مجلس المبعوثين تتصل بأسباب مجلس الدوما وفي الدوما تتجلى لنا أرواح باكونين وتورغانيف وتولتسوي وغوركي، وهؤلاء منبثقون من فولتير وروسو وديدارو وهوغو، وروسو وفولتير وهوغو مديونون لكالفين وجون نكس ولوثيروس بكثير من الحرية التي تنبعث أشعها من أقوالهم.
فالثورة الروسية إذا هي ابنة الثورة الإفرنسية وكلكم - على ما أظن - تعلمون ذلك، والثورة الإفرنسية - وهذا ما لا أظنكم تعلمون - هي إحدى نتائج الثورة الروحية التي أطلقت ضمير الإنسان من قيود الخرافة السوداء، وعقله من قيود السلطة الصماء، وقلبه من قيود الطاعة العمياء، فتدبروا هذا، واعلموا أن الحرية الروحية هي رسول الحرية السياسية، وإذا جاءت هذه قبل تلك يعد مجيئها نقصا لا بد أن تحاسبنا عليه الأيام.
8 •••
ورب قائل يقول: وما معنى الحرية الروحية؟ فقبل أن أجيب على هذا السؤال أوجه إليكم سؤالا آخر: أتظنون أن كل من عاش في ظل الدستور صار حرا، أتظنون أن كل من تمتع بحقوقه المدنية أصبح حرا، أتحسبون الفقراء والعمال في الجمهوريات من الأحرار، أتقوم الحرية بهذا الوهم الذي يدعونه في الحكومات الدستورية حق الاقتراع، أتعجبون إذا قلت لكم: إن نصف سكان الولايات المتحدة لا يزالون مكبلين بسلاسل العبودية، فما الفائدة للخادم من الحرية التي تتوقف على إرادة سيده الخبيثة الجائرة، ما الفائدة من الحرية السياسية التي يكفلها له القانون إذا كان القانون في قبضة الأغنياء، أفمثل هذا يعد حرا وهو لا يستطيع أن يبدي رأيا مخالفا رأي سيده، أيعد حرا من لا يملك نفسه من لا رأي ولا روح له، أيحسب حرا من كان وجدانه مقيدا بوجدان من يتوقف عليه معاشه، فالتسكسك في الولايات المتحدة أي: بذل ماء الوجه أمام أرباب المال. هو مشتق من التسكسك في الشرق، أي: تعفير الوجه أمام أرباب السلطة والسيادة، والمتسكسك - يا سادتي - وإن ملأ ماضغيه فخرا بالحرية والاستقلال والمساواة فما هو إلا عبد تكللة، لا رأي ولا نفس له.
الحرية الروحية إذا هي أن يكون الفرد مالكا نفسه، أي: مطلقا من القيود التي تضغط على روحه وعقله إن كانت هذه القيود عائلية أو اجتماعية أو دينية أو سياسية ، الحرية الروحية هي أن تكون روح كل امرئ بيده وتصرفه، لا محجوزة ولا موقوفة، ولا مبيعة ولا مرهونة.
وطالب هذه الحرية يتدرج فيها من بيته إلى دائرة أشغاله ومنهما إلى معبده وحكومته. فينعتق أولا من الواجب الكاذب الذي يفسد الحب في الأسرة، ومن المصادقة التي تدعى لطفا وصداقة، ومن الخرافات التي تشوه وجه الدين، ومن التقاليد التي تفسد الحكومة. فواضح إذا أن الحرية السياسية هي فرع من الحرية الجوهرية الأصلية الروحية أو هي نتيجة من نتائجها، وهذه الحرية يحدها ويقيدها الناموس من جهة والتهذيب من الجهة الأخرى، فبدون الناموس يستبد الحاكم ويوغل في الطغيان، وبدون التهذيب يستبد الشعب ويمعن في العصيان، بدون الناموس يسود الظلم في الحكومة، وبدون التهذيب تسود الفوضى في الأمة.
فالناموس القويم الحي والتهذيب القويم الحي إنما هما حصنا الحرية المنيعان. وأما الناموس فتمثله الحكومة في الدستور ويمثله الدين في الإيمان، وتمثله الإنسانية في الضمير، فالضمير الحي والإيمان الحي والدستور الحي إنما هي الدعائم الثلاث التي تقوم عليها الحرية الحقيقية المعنوية الجوهرية. الحرية الثالوثية التي هي واحدة أي: الحرية الروحية والحرية الأدبية والحرية الدينية.
وإن كان المرء حرا سياسيا ومقيدا دينيا وأدبيا فحريته ناقصة، والحرية الجوهرية الروحية الكاملة لا تسود وتنتشر في الأمم إلا بواسطة العلم الصحيح والتهذيب الصحيح. فعلينا إذا أن ننادي بإصلاح المدارس بعد أن فتح لنا باب إصلاح الحكومة، فإن أصلحنا الحكومة وظل التعليم تحت سيطرة من يقتلون في الناشئة العثمانية عزة النفس وروح الاستقلال وعاطفة حب الوطن ويعطونهم بدلا من ذلك قليلا من العلم الذي قلما يفيد، نعود إلى الحال التي كنا فيها وتمسي حريتنا كجواد الإمبراطور الروماني كاليغولا
9
ودستورنا كطيلسان ابن حرب أو كجبة ديوجن،
10
علينا إذا أن نبث الروح الجديدة في مدارسنا، علينا أن نشيد لحريتنا حصنا من التهذيب كما شيدت لها الحكومة حصنا من الدستور، علينا بالجهاد والثبات، وبالتيقظ والتحذر، تحذروا أيها العثمانيون وتنبهوا.
تحذروا من انقلاب الأحوال وتقلب الرجال فإن للوزارة في الدولة مقاصد تخفى على ممثلي الأمة وعمال الحكومة.
تحذروا من رجعات الظلم، تنبهوا إلى عودات الاستبداد فإن في السياسة من الأحابيل والأشراك ما لا يعرفها إلا من أشرف في السياسة مرارا على الهلاك، احذروا من كان في عهد الظلم حرا فأصبح اليوم مقيدا، فبدل الجاسوسية القديمة قد يتألف اليوم من حزب التقهقر جاسوسية جديدة.
احذروا حيل المشعوذين والممخرقين كحذركم دسائس المعزولين والساقطين، ولا تغضوا الطرف عنهم قائلين: إن لسمهم درياقا بالدستور، لا تأمنوا السم بأصفهان، إن كان درياقه بخراسان.
احذروا الخونة والمرائين الذين ينادون معكم اليوم «فلتحي الحرية» وهم في قلوبهم يلعنونها.
احذروا من المأمورين من يبتهج ويفرح معكم بالدستور وكان الظلم من طبعه والاستبداد وراثة فيه، فإن العوسج لا ينبت تينا، والصخر لا يستحيل ماء معينا.
احذروا من اتخذ السياسة حرفة والسيادة بابا للارتزاق؛ فإن المعدة والأهواء والمطامع تنسيهم الشعب والدستور والحرية.
احذروا المصلحين الكاذبين الذين يتزلفون من الشعب اليوم كما كانوا أمس يتزلفون من السلطان ووزرائه، فإن طالب الوظيفة واحد، إن أحرق بخوره أمام الباشاوات أو أمام الجماعات.
تحذروا من جهل الشعب العاتي كما كنتم تتحذرون البارح من ظلم الحكومة العاتية، فالتاريخ شاهد على ما ارتكبه الشعب باسم الحرية من المظالم والفظائع، واحذروا في انتخاب المبعوثين نفوذ رجال الدين فالعضو الذي ينتخبونه يؤثر في المابين مصلحتهم على مصلحة الأمة. احذروا أيضا نفوذ الأغنياء الذين لا يهمهم من الحرية والدستور سوى ارتفاع الأسعار في البورص وهبوطها. إذا شبع الزنجي بال على التمر.
احذروا من ينتمي إليكم اليوم ممن يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن الحق، أولئك الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون منها في سبيل الأمة والوطن والخير العام.
وبكلمة أعم: احذروا الحرية التي لا ينيرها التهذيب والتهذيب الذي لا تنيره الحرية. (4) الثورة الأدبية
11
سادتي وسيداتي
قبل أن أبدأ بالكلام أطمئنكم ألا أكلمكم هذه الليلة بالرموز والألغاز، بل في نيتي أن أجرد الأشياء من زيناتها وأسميها بأسمائها، فإن ذكرت العقاب مثلا لا تظنوني أشير إلى شيء خفي تحته أو فوقه أو وراءه أو فيه بل أريد العقاب بعينه، وإن قلت: هبت الشرقية، فلا تقولوا ما أجمل هذا الصور الخيالية، فإني أقصد النار الحقيقية تلك التي لو مر العقاب فوقها لوقع فيها مشويا. قد حان لنا أن ندعو المعول معولا - على حد قول إخواننا الأميركيين - وبناء على ذلك سنبقى على الأرض هذه الليلة بعيدين عن القمر والجوزاء وعن تبرقش الشعراء.
لما وقفت أمامكم في السنة الماضية شعرت بوجودي معكم في غور الحياة، بل في أردن الموت، وأما الآن فأراني - والحمد لله - أخاطبكم وأنتم في سهول الصحة تستنشقون هواء الحرية، فمن أردن الموت إلى سهول الحياة وحقول الحرية إنها لخطوة خطيرة، ولكنها صغيرة، هي خطوة إلى الأمام ولكنها لا تغني عن رحلتنا الطويلة شيئا من الإقدام فإن حولنا وجهنا إلى مشرق الشمس نرى الجبال قائمة في طريقنا لا تعترضنا في سيرنا بل لتشحذ منا الهمة وتوقظ فينا النشاط.
وكلما صعدنا في جبل نشاهد فوقنا روح ما تجسد من الآمال، وهي تدعونا إلى ما فوقها من الجبال، وإن الأمة التي تستيقظ من سباتها وتنفض عنها غبار فتور الأجيال ينبغي لها أن تواصل السير بالسرى وإلا تقهقرت فسقطت ثانية في الوهدة التي قامت منها. ولا يخفى عليكم أن الطريق وعرة، والزاد قليل، والنفس مضناة من إقامتها طويلا في الغور، والأحمال ثقيلة، والأدلاء كثيرون، ولكننا سنتوقف - إن شاء الله - في مسيرنا على رغم هذه الصعوبات والعقبات إذا اتخدنا شمس العلم دليلنا، والآداب والفنون زادنا.
إن الشمس المشرقة علينا من المغرب اليوم هي - والحق يقال - شمسنا، هي شمس آدابنا، هي شمس أدياننا، هي شمس مجدنا الغابر، فإن نظرتم إلى خارطة العالم تروا أن من البلاد ثلاثا آخذة منه مركز القلب، وهذه البلاد هي سوريا وفلسطين وجزيرة العرب وما بين النهرين، هذه البلاد وطننا، هذه البلاد قلب العالم، وفي هذا القلب ظهرت الأنبياء وفيه نشأت الأديان، ومن هذا القلب أشرقت على أوروبا في الأجيال الوسطى شمس العلم والفلسفة والآداب، فأنارت ظلمات الأوروبيين وخرجت بهم من مهامة الجهل والتوحش إلى واحات الرقي والعمران.
أجل إن وطننا لقلب العالم ولكن أوروبا رأسه، وإن كان القلب منشأ الخيال والنبوة فالرأس منشأ العلوم والفنون على أن النور المنبثق من الرأس فقط هو كالنور الاصطناعي الذي يضيئون به المراسح في أوروبا، هو نور بارد جامد خاسئ وإن لم يشترك مع نور القلب وحرارته فلا خير فيه للإنسان مهما عظمت نتائجه في دوائر العمران والفنون إن لم يكن الضمير أساسها والإخلاص لبها ونفع البشر غايتها الأولى. هي أفيون لا فنون، فإنها تخدر الحواس وتذهب بشيء من الهموم، ولكنها تقتل النفس وتفسد الحياة.
إن سكان هذه البلاد التي هي قلب العالم لشبيهون بشجرة ذكرها النبي شجرة مباركة لا غربية ولا شرقية، نحن اليوم واقفون بين مدنيتين متناقضتين معاديتين الواحدة منهما الأخرى، مدنية جديدة ومدنية قديمة، مدنية أوروبية ترفع أعلامها في البلاد كلها، ومدنية شرقية لم يزل لها المقام الرفيع بين فئة راقية من نخبة الأدباء والفلاسفة في أوروبا. فإن كان هؤلاء الأوروبيين يجدون في مدنيتنا ما لا يجب تركه، ما لا يجوز اضمحلاله كم بالحري نحن؟
ولي كلام طويل في هاتين المدنيتين أقول الوجيز منه الآن لست بجاهل ما في مدنية اليوم لمن كثر ماله فقط من دواعي الراحة في المعيشة البيتية المادية والسهولة والسفر والمواصلات، ولا أظنكم تجهلون ما في التعادي والتكالب في سبيل هذه الأشياء أيضا والبلاء، فإن المدنية التي يدعى التكالب فيها نشاطا والخداع براعة والقوة حقا هي عندي شر المدنيات، وهذه مدنية أوروبا اليوم مدنية كهرباء هي وبخار، مدنية تجارة وكسب واستغرار، مدنية حروب وفتوحات واستعمار، ليس فيها للضمير والذمة أثر من الآثار، مدنية جذورها حب الذات والاستئثار، وثمارها اليأس والانتحار، لا تقولوا بالغت؛ فإن كلامي من الاختبار، لا من المجلات والأسفار.
وأما مدنية الشرق فلست بناكر أنها مدنية فتور وجمود واستسلام، مدنية أصولها القضاء والقدر ولبها محض أوهام، ولكن فيها من جميل العادات والتقاليد، من جميل العواطف والشعور، من شهامة النفس وكرم الأخلاق، من الاعتدال في العيش والبساطة؛ ما تفتقر إليه مدنية أوروبا. وهذه الخلال الشريفة تبعث الحرارة من الحقيقة الباردة القاسية فتمسي الحياة خفيفة الأحمال مرضية الآمال.
ناهيك عن أنه لم يزل في هذه المدنية القديمة شيء من الضمير الحي والتجرد في الولاء، مما يزيد النفس الشرقية جمالا. والضمير الحي - أيها السادة - هو ملح العلوم والفنون والآداب، ومن هذه كلها تتغذى المدنية الحقة.
نحن اليوم واقفون بين هاتين المدنيتين، بين مدنية غازية منتصرة وأخرى مدبرة، فعلينا أن لا نخضع على الإطلاق لهذا الفاتح الغازي، وإن تمسك بما في مدنيتنا من الخير الروحي، ولا ينجينا من استبداد هذه المدنية الفاتحة القاهرة ويحفظ لنا حسنات تلك المدبرة سوى الآداب.
ولا أريد بالآداب الكتب فقط بل أريد منها آداب النفس أولا والأخلاق، إن الدين - وهو أب مدنية الشرق - يرفض بتاتا مدنية الغرب، والعلم المادي - وهو إله مدنية الغرب - يرفض بتاتا مدنية الشرق. فالدين والعلم في هذا الموقف متغرضان كل لقومه ولا ينفعنا الواحد منهما دون الآخر، وإني لا أجد في كل قوى الفكر والنفس وثمارهما أصلح وأنجع من الآداب تجمع بين الاثنين فينشأ عن ذلك مدنية جديدة قوامها الصنائع والفنون وشعارها الإخاء العام، واعلموا أن الفنون السامية الجميلة هي التي تتغذى من العلم والدين معا.
والأمة التي تجعل مثل هذه الفنون أساس حياتها الاجتماعية تكون ولا غرو مجد المستقبل وأم الأمم. على شطوط البحرين وفي أودية الرافدين أحب أن أشاهد مثل هذه المدنية الجامعة بين محاسن المدنيتين، أحب أن أرى في قلب العالم جمال روح العالم وكمالها، أحب أن أرى في بلاد الشام وبلاد العرب ثمار الأنبياء وثمار العلماء على شجرة واحدة. أحب أن تزرع بساتين هذه الأرض المقدسة من تلك الشجرة المباركة، شجرة لا غربية ولا شرقية. وأحب أن أرى الأدباء والشعراء بعيدين عن السياسة وأوحالها، منصرفين إلى حراثة هذه البساتين الجميلة.
أيها السادة! لا تظنوا أن الانقلاب السياسي يجدي نفعا إن لم يتبعه انقلاب أدبي، لا تظنوا أن في الحكومة الدستورية دواء شافيا لكل أمراضنا، لا تظنوا أن الدستور وحده يخلص الأمة من الأخطار المحدقة بها النامية في قلبها وأن الصحافة الحرة تقف دائما - من أجل الأمة - في وجه المشعوذين والمضللين والمفسدين. وهل الدستور والصحافة الحرة رقيتان من رقيات السحرة حتى إذا قلنا مثلا شولم صحافة! صرنا شعبا حرا، شولم دستور! صرنا أمة راقية؟ لا يا إخواني لا، فإن طلبتم الحرية اطلبوا المعنوي منها قبل الحرفي، الجوهري قبل السياسي.
اطلبوا الحرية الروحية التي تحصنها الآداب قبل الحرية المدنية التي تتاجر بها الأحزاب، وإن خفي عليكم الفرق بين الاثنتين اذكروا أن حرية الجسد لا تجدي المرء نفعا إذا كانت النفس مقيدة، وإن حرية الفكر والقول لا تغني فتيلا إذا ظلت الروح أسيرة ما اعتاده الجسد من الراحة والترف والرخاء أو الذلة وتعفير الوجه والعياء.
إخواني! إن الفرق بين الحرية الأدبية الروحية والحرية المدنية المادية لهو كالفرق بين حرية السياسي في مراوغاته وحرية البدوي في خيمته أو الرجل الصالح الجريء في معاملاته. أجل إن الحرية الحقيقية هي التي تنشأ في النفس لا التي يمنحها الملك الرعية، فإن هذه تزعزعها الأهواء ويتاجر بها الزعماء وتقتلها رجعات التقهقر الشعواء، وتلك كنز من كنوز النفس الخالدة، والذين لا يناضلون عن مثل هذه الحرية ولا يفادون من أجلها بشيء مما ألفوه من رخاء العيش أو بشيء مما نالوه من المال أو الرفعة والوجاهة فما ضرهم لو دعوا كلابهم أحرارا وذكروا عزت في صلواتهم مرارا، الذين يتنازلون عن حريتهم ويتاجرون بها كما لو كانت ثوبا من الخام أو سهما من أسهم البورص فإن هم إلا قبور متحركة إذ ما الجسد إلا كالقبر لنفس باعت حريتها. ولكني خرجت عن الموضوع.
قلت: إن الآداب التي تجمع بين العلم والدين تكون قوام المدنية الجديدة التي يقرن فيها بين مدنية المغرب المادية ومدنية المشرق الروحية، ولكن آدابنا لم تزل تحت سيطرة المتدينين والمتنطعين، وأنفسنا لم تزل في ربقة رجال الدين، وإن لم نتجرد من هذا الاستبداد الديني، أو بالحري السفسطي كما تجردنا من الاستبداد السياسي تظل آدابنا مبتذلة جامدة خاسئة ونعود بعد حين إلى ما كنا فيه من الفتور والخمول والانحطاط.
خذوني بحلمكم فأقص عليكم بوجيز الكلام قصة لكهان، ونشوء العبادة في قلب الإنسان، لنعد إلى الأكواخ إذا فنحكي هناك شيئا من حكاية أجدادنا الأولين، من المعقولات التي لا تنفيها الإلهيات أو الإلهيات التي لا تنفيها المعقولات.
إن أول دعوة لباها الإنسان دعوة بطنه وشهواته، وماذا يهمنا وقد علمنا هذا فيما إذا كان يمشي على الأربع في تلك الأيام أو على الاثنين، فإن في العالم حتى اليوم كثيرا من الحيوانات التي لا تمشي على الأربع.
هذا الحيوان الناطق إذا لم يكن يفهم في بادئ أمره إلا حديث معدته وحديث كبده، فكان لا يحسن غير الصيد والحرب والأكل والسفاح، وبعد فترة من الزمن مقدارها ألفان قرن أو ألفان عام - لا فرق عندي - بدأ يسمع صوتا آخر من فوق المعدة والكبد، بدأ يشعر بدعوة القلب، فصار يعطف قليلا على أولاده، إن لم نقل أيضا على شريكته، بل جاريته، بل بعلته، وعلى هذا الحال عاش سنين - وللعلماء أن يجمعوا الألوف منها فوق الألوف فإن عدها لا يستحق تعب الفكر - عاش سنين وهو لا يرى ولا يسمع سوى ما زينته له الغريزة وحدثته عنه المعدة.
أولا ترون أن بعض الشعوب اليوم فضلا عن القبائل المتوحشة لم تزل في هاته الحالة المنحطة من الحياة، فإن القوى المدركة لم تظهر فيهم بعد، وفي هذه الفترة الطويلة الأمد نشأت - على ما أظن - العبادات والمعبودات التي كانت في بادئ الأمر مادية محضة؛ لأن هذا الحيوان الناطق بل هذا الصياد الغازي المسافح ما رأى في الأشياء إلا ما ظهر منها، ما رأى في الشمس إلا النور، ما رأى في الشجرة إلا ثمارها وأغصانها وقشورها، ما رأى في النار سوى لهيبها ودخانها ورمادها، ما رأى في الحيوانات سوى ما بدا منها وما ظهر من حركاتها. في تلك الأيام السعيدة كان كل حيوان ناطق يعبد طاغوته ويحب مرمورته على طريقته الخاصة بمقتضى شعوره وهواه عملا بداعي القلب والغريزة.
وبعد مضي أحقاب وهو في هذا الغور من الحب والعبادة ارتقى قليلا إلى ما فوق السهول وبدأ يشغل المخيلة منه حتى صار يرى في الأشياء شيئا تحت القشور وتحت الرماد، وبما أنه لم يدرك أسرارها راح يسلي نفسه بالأشعار ويعللها بالخيالات. وبمقتضى هذا طفق كل إنسان يمثل الخالق في الشكل الذي انطبع في قلبه أكثر من سواه، ولا حاجة لتعداد هذه المعبودات كلها، فلو جئت أعد منها لا أن أعددها لاقتضى ذلك من الوقت ما لا يسمح به المقام. ولكن إذا ذكرنا منها الجعل والشمس فقط نكون قد أتينا على ذكر أولها وآخرها، أوطاها وأعلاها، أصغرها وأكبرها، وحالة الفرد تجاه معبوده في تلك الأيام لم تزل سائرة اليوم في شعوب الأرض كلها وما ارتقى في الأمم سوى الأفراد.
ولكن لنعد إلى أجدادنا أصحاب الأكواخ. لما ظهر في الجماعات أناس أرقى نوعا من إخوانهم وبدا لهم أن الإنسان يرتاح إلى كل غريب عجيب - والزنجي والباريزي اليوم سواء من هذا القبيل - لما علم هؤلاء الدهاة ما للخيال والوهم من السطوة على الأنفس والقلوب؛ قاموا يؤسسون من هذه العبادات ديانات رسمية، فبنوا الهياكل وحاكوا من أوهام الناس طقوسا وطرائق وأقاموا أنفسهم رؤساء في الهيكل وبدءوا يتكهنون ويمثلون الله - أستغفر الله - يمثلون الطاغوت على الأرض.
وهذا - في رأيي - أول ما كان من أمر الوثنية والكهان، واذكروا أن الوثنية لم تزل سائدة في بلادنا والكهان يتعاطون التجارة اليوم في دكانهم القديم. وقد أوضحت كيف كان كل امرئ يعبد طاغوته على هوى قلبه قبل أن يولد الكاهن، ولكن هذا المرمريت - اللفظة وحشية ولكنها في محلها - أول من ألف من هذه العبادات ديانة رسمية فشيدت من أجلها الهياكل ونحتت الأصنام وقدمت الذبائح والقرابين، وتسربت إلى بيت صاحبنا المتكهن العطايا والأموال، وذلك قبل أن يظهر في الأرض الأنبياء الذين هم أعداء الملوك والكهان، فاذكروا هذا ولا تنسوه. إن الأنبياء لأعداء الظلم في الملك والرجاسة في الهيكل والفساد في الجماعات.
وأما الكهان يا سادتي فهم أول من عاثوا في الأرض فسادا، هم أول من قيدوا الأنفس البشرية واستعبدوها ، هم أول من تاجروا بالخداع والتغرير، هم أول من استولوا على الأمراء والملوك وأيدوا سلطانهم بأنباء من السماء مكذوبة. والكهان اليوم أو رؤساء الأديان كلها هم أعداء الحرية الروحية الأدبية، ولا يغرنكم ما بدا منهم من الارتياح إلى هذه الحرية التي منحنا إياها الدستور، فإن العنان لم يزل في أيديهم والأرواح لم تزل في ربقتهم. الكهان هم أعداء الآداب الراقية، أعداء اشتياقات الأنفس السامية إلى الكمالات الفكرية. على الكهان وآلهة الكهان امتشق نبي العرب حسامه في الكعبة، وصب أشعيا نار غضبه في أورشليم.
على الكهان ومذابحهم وتزاويقهم وأصنامهم ورجاساتهم انقضت صواعق حزقيال في إسرائيل وزمزمت رعود دانيال في بابل، على تغريرات رجال الدين وخزعبلات العبادات قام عبد الوهاب في نجد ولوثيروس في وتنبورغ وجون نكس في إنكلترا وغيرهم في البلاد كثيرون. فما علينا لو استغنينا عن المتكهنين المدلسين وتفلتنا من ربقتهم واعتصمنا بالله وبدين الله وبأنبياء الله. تدبروا كلامي ولا تسيئوا افتهامي، إني أحترم العاطفة الطينية التي تكاد تكون فطرية في الإنسان، ولكني لا أجد في خزعبلات هؤلاء الناس وفي تنطعهم - وقد قيل: هلك المتنطعون - ما يساوي ذرة من نفس امرئ راقية.
ولكن إذا لبس الكاهن أو الإمام لغايته ثوبا من التغرير والخداع ولبس المتعبدون ثوبا من الجهل والخرافة؛ فذلك لأن الإنسان لا يسير في الأرض عريانا ينبغي له أن يستر سوءته ولو بسوءة أسوأ منها.
وقد قال أحد المسلمين: إن من آفات الدين فسق المتكلمين وجهل المتعبدين. أيها السادة، المرء يحتاج دائما إلى من يذكره بأنه من أبناء اليوم لا من بقايا الأمس، يحتاج دائما إلى من يريه الربقة والقيود على روحه، يحتاج دائما إلى من يهمس في أذنه أو يصرخ في وجهه: إنك إنسان حر، لا آلة في يد هذا أو ذاك يتصرف بها ساعة يشاء كيف شاء، فيا أيها الشرقيون! إن تحت خريف نفسكم الدائم ربيعا جميلا إذا كنتم تعقلون، إن تحت رهوكم موجات عظيمات لو ناهضتم العاصفة ولو مرة في الحياة، فإن مثل هذه النهضات الروحية ، مثل هذه الثورات الأدبية - وإن كانت عاقبتها اليوم غير مرضية - فهي غدا للنفس منعشة محيية، مثل هذه النهضات تعود المرء الفكرة وتروض منه الإرادة وتكسبه المنعة والاستقلال.
إن للماضي أثرا قويا في العروق، إن فتور الترقي وخموله لفي الدم، فإن كان لا يمرن نفسه وإرادته على ما يحرك الدم - دم الجسد ودم الروح معا - يظل ما دام حيا كطل من أطلال الزمان ولا ينهض الشرقيين من هذا الغور المظلم سوى الثورة الأدبية التي يتبعها انقلاب عظيم في الأخلاق.
فها إننا صرنا أمة حرة ذات حكومة دستورية، ولكن ذلك لا ينافي ما في العائلة وما في الطائفة وما في المدرسة من الجور والحيف والاستبداد، من العماوة والجهل والفساد، ذلك لا ينافي ما في اصطلاحاتنا الاجتماعية - وأكثرها من فضول هذا التمدن الإفرنجي - من الضيم والشقاء ما لا يماثله ظلم أظلم حكومة مطلقة.
ألا ترون أن التاجر لم يزل محني الظهر تحت أمواله وصكوكه، وأن الصانع لم يزل أسير هذا العبد سيده، والتلميذ في المدرسة أسير جهل أستاذه، والأستاذ أسير استبداد رئيسه، ألا ترون أن المصلح السياسي مرهونة حريته لخطة حزبه، والكاتب حريته عند قرائه أو في قبضة رزقه، والصحافي حريته في جلده واستقلاله في كيسه - لا تؤاخذوني فقد وعدتكم في البداية بأن أسمي المعول معولا والعقاب عقابا - ألا ترون أن المرأة في البيت مقيدة بإرادة زوجها عادلة كانت أو جائرة، وأن الأب لم يزل يعتقد أن أصول التربية في تأييد سلطته، وأن المأمور في الحكومة يتألم من ضغط ذاك الجا لس فوق رأسه، والجندي من استئثار ضباطه، والكاهن من ظلم أسقفه، والأسقف من استبداد بطريقه، والراهب يحترق في نذره ويئن من عنف رئيسه، والفلاح يتأوه من جور أميره، بل يصرخ في بعض الأماكن تحت سوطه، شولم صحافة؟ صرنا شعبا حرا، شولم دستور؟ صرنا أمة راقية.
إي إخواني! اسمعوا التقية تهمس في أذن هذا الشيخ: حافظ على مركزك. اسمعوا الخوف يقول لذاك الصحافي: حافظ على مصلحتك. اسمعوا الذلة ترشد أخينا الفلاح قائلة: اتق بطش سيدك. اسمعوا الجبانة تهمس في قلب الراهب: اتق الفضيحة وحافظ على ثوبك. فالتقية والخوف والذلة والجبانة هي أعداء الإنسان الحقيقية، وإن لم يحرر نفسه منها بنفسه فمائة قانون ومائة دستور لا تحرره. واعلموا أن الإرادة المستولية على أرواحنا لا يخلصنا من ظلمها إلا إرادة أشد وأقوى منها.
لذلك أدعوكم إلى ثورة أدبية، أناشدكم بالحرية التي بعثت من غور ماضينا حياة جديدة؛ ألا تدعوا الخوف والتقية والذلة والجبن تستولي عليكم متى شعرتم بيد تضغط جورا على أنفسكم، متى رأيتم حريتكم الأدبية مقيدة أمامكم، ارفعوا أعلام الآداب في البلاد شيدوا صروح التهذيب أسسوا معاهد للفنون، فإن الآداب والتهذيب والفنون هي القوى الأدبية الروحية التي يتآلف فيها العلم والدين ويقرن فيها بين بديهيات الأنبياء ومعقولات العلماء وتمتزج فيها روح الحقيقة وروح الجمال، وتنبثق منها أشعة السلم والحرب والإخاء.
أجل هي القوى التي يتوقف عليها تحرير الإنسان وتحرير الشعوب والأمم، لنعزز الآداب إذا والفنون، لنؤيد بالقول والعمل التعاليم السامية، لننصر الآراء الحرة السديدة، ومتى رأينا أن الحزب الذي ننتمي إليه أو الطائفة التي نحن منها والجريدة التي نكتب فيها تحاول تقييد أفكارنا أو الضغط على عقولنا أو المتاجرة بأرواحنا؛ فعلينا أن نخرج منها سريعا، وننفض عن نعلنا غبارها. إن شرف المرء في حرية عقله ونفسه، وشرف الأحزاب في حرية رجالها، وشرف الطوائف في حرية أبنائها.
إخواني! ما الناس إلا أمة واحدة وستجمعهم في المستقبل - إن شاء الله - جامعة واحدة هي جامعة الآداب والفنون، ودين واحد شامل قوامه الأبوية الإلهية والإخاء العام. (5) المدينة العظمى
12
سادتي وسيداتي
قص أرستو الشاعر اليوناني قصة عرافة تترائى للناس أثناء الربيع والصيف في صورة ملك سماوي وأثناء الخريف والشتاء في شكل حية رائعة هائلة، وكانت هذه الساحرة تغمر بفضلها وآلائها أولئك الذين أحسنوا إليها وعاملوها بالمعروف في فصلي الشتاء والخريف. وأما الذين أساءوا معاملتها وحاولوا قتلها وهي في تلك الصورة المخيفة فكانت تحرمهم هذه النعم والبركات، وقد شبهت الحرية بهذه العرافة العجباء التي تبدو تارة كالملك وطورا كالحية الرقطاء .
فالحرية في بادئ أمرها تتخذ هذا الشكل المزدوج الغريب الذي يتخوف منه بعض الناس ويغالي في مدحه الآخرون، في الأمم التي ألفت العبودية تظهر الحرية أولا كالحية فتتحول رويدا رويدا إلى ملك سماوي، وما من منكر أن حرية العثمانيين لم تزل في فصل الشتاء، حريتنا لم تزل كعرافة أرستو في شكلها الهائل المخيف، ومع ذلك علينا أن نصبر عليها ونحسن استقبالها حتى إذا استحالت ملكا قريبا لا نحرم فضلها وآلاءها.
سادتي، إن الحرية مهما قيل فيها هي ضالة الإنسان المنشودة، هي غايته القصوى في الحياة، هي قوام الأنفس والعقول، وغذاء الفنون والعلوم، وأساس كل مظاهر الرقي والعمران، وأود لو دعيت المدينة العظمى - التي هي موضوعي الليلة - مدينة الحرية وأطلقت على شوارعها أسماء رسل الحرية وأبطالها في كل زمان ومكان.
من الحقائق التي لا ريب فيها هو أن الإنسان مهما ارتقى في سلم الحياة يظل في مكان يرى منه من تقدمه إلى العلاء، ومهما انحط المرء وتقهقر لا يصل إلى القعر الذي لا يكشف على أحد دونه.
فالسلم والهاوية لا نهاية لهما في الحياة؛ لأن الدرجة الأولى منهما في المهد والدرجة الأخيرة في القبر، أينما كان المرء إذا يرى كثيرين من الناس فوقه وكثيرين تحته، وكلما ارتقى درجة في معارج الفوز والفلاح يسمع أصواتا بعيدة تدعوه إلى ما هو فوقها. وهذه من حقائق الحياة التي فيها لجميع الناس كثير من التنشيط والتعزية، علينا إذا أن لا نكون عبيدا لمن هم فوقنا وألا نستعبد من هم دوننا. علينا ألا نتصاغر أمام الكبار وألا نتكابر أمام الصغار.
وكما في الناس كذلك في المدن، فلا يحق للوندرا مثلا أن تصعر خدها للقاهرة، ولا القاهرة أن تشمخ أنفها على بيروت؛ لأن حسنات المدينة العظمى قد تكثر في هذه وتقل في تلك، قد تكبر في المدينة الصغيرة وتصغر في الكبيرة. والمدينة هذه التي صورها العقل بريشة الخيال ما هي من مدن هذا الزمان ولا من مدن الماضي. ليس في نيتي أن أكلمكم لا عن نينوى أو بابل ولا عن نويرك أو باريس؛ فإن باريس من أمهات المدن العظيمات، ولكنها لا تستحق - في نظري - صيغة التفضيل؛ لأن هناك مدينة أعظم منها مجدا وأسمى منها شأنا وأبعد منها جمالا وأرقى منها فضلا وعلما.
ومن يتجاسر أن يتكهن في هذه الأيام، من يدري ما في المستقبل لشعوب آسيا الصغرى، فقد تزهو والمدينة العظمى فوق أطلال بابل، قد يشيدها الزمان على ضريح نينوى، قد ترتفع صروحها وأعلامها وأبراجها وقبابها تحت هذه السماء الجميلة على هذه الشطوط التاريخية المقدسة أمام هذه الأمواج التي شاهدت جنازة مجد آسيا وستشاهد - إن شاء الله - موكب بعثه.
وبأي تمتاز المدينة العظمى عن سائر المدن؟
أبمراسيها البحرية، أبمحطات السكك الحديدية، أبمركباتها الكهربائية، أبأسلاكها البرقية، أبأنبائها اللاسلكية، أبقصورها الشاهقة، أبصروحها الفخيمة، بأنفاقها وجسورها وملاهيها؟ بأي تفاخر المدينة العظمى سائر المدن؟ أبشوارعها الواسعة النظيفة، أبساحاتها الكبيرة الجميلة، أبمخازنها الحاوية ما ندر وعز من مصنوعات الطبيعة والإنسان، أبمدارسها العمومية، أبمستشفياتها المجانية، أبمعاهدها العلمية، أبمتاحفها الأدبية والتاريخية، أبمصارفها وبورصاتها وأغنيائها، أبكثرة سكانها، أبتعدد معابدها؟ لا يا سادتي.
المدينة العظمى تمتاز عن سائر المدن بنوابغها، بشعرائها وعلمائها وأرباب الفنون والصنائع فيها، المدينة العظمى هي التي يمكنها أن تفاخر سائر المدن لا بكثرة سكانها بل بكثرة الأصحاء فيها، إذ ما هو الخير في مدينة تسعون في المائة من أبنائها مرضى؟ المدينة العظمى إذا هي التي يخلو هواؤها من جراثيم الأمراض المعدية وتشرق شمسها على عقول سليمة في أجسام سليمة.
المدينة العظمى هي التي تكرم أبطالها ونوابغها لا بإقامة التماثيل ونصب الأنصاب فقط بل بالاقتداء بهم وبالعمل بتعاليمهم، هي المدينة التي يقرن فيها بين البساطة والجمال في أمنيتها وفي أزيائها وفي فنونها، وبين الرحمة والعدل في أحكام قضاتها، وبين العلم والدين في تعاليم علمائها، هي التي يحترم المرء فيها جسده وروحه ويعتني على السواء في نظافة الاثنين، هي التي ينبذ رجالها ونساؤها الشرائع التي يسنها الخائنون لتعزيز شئون أفراد من الناس، ولا فرق إن كان الأفراد من الأغنياء والأمراء أو السلاطين، هي التي لا يوجد فيها أرقاء ولا تباح فيها النخاسة، هي التي ينهض فيها الشعب نهضة واحدة على ظلم الحكام وفساد المسيطرين، هي التي يكون شعار كل امرئ فيها:
لا تسقني كأس الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
المدينة العظمى هي التي لا يتداخل في شئونها سلطة أجنبية، هي التي يكون كل امرئ فيها سلطانا بنفسه بل تمثالا حيا للحرية والإخاء. هي التي يعتبر الحكام فيها كخدام يخدمون بالأجرة، هي التي يتعلم الأولاد الاستقلال وعزة النفس في مدارسها قبل سائر العلوم، هي التي تطلق فيها حرية القول والعمل ويكثر فيها التنقيب والبحث وتثمر فيها الفنون وتعزز فيها الآداب. هي التي تكون الصداقة فيها أمرا مقدسا والإخلاص محترما كسر من الأسرار الإلهية.
هي التي لا تكره الامرأة فيها على الإقامة مع رجل لا تحبه ولا الرجل مع امرأة لا يحبها. هي التي يكون الأبوان فيها صحيحي الجسم والعقل قويين نشيطين مدركين فيوجدا نسلا قويا مدركا نشيطا - إن لم تصلح صحة هذا الجيل لا رجاء لنا في المستقبل - المدينة العظمى هي التي تكثر فيها الأمهات الحزيمات العزومات المدركات ما سما من مقاصد الحياة فلا يعلمن أولادهن الخرافة والكذب والمراوغة ولا يعودنهم الطاعة العمياء والجبانة والخوف - الشرق يحتاج إلى الأم التي تعلم أولاها الاعتماد على النفس فوق كل شيء - المدينة العظمى هي التي تسير النساء في أسواقها مكشوفات القناع ويحضرن الاحتفالات العمومية كالرجال ويشاركن في البحث والإرشاد كالرجال.
هي المدينة التي يستغني فيها أهل الأدب والفنون عن أهل المال، بل هي التي يتأسس فيها دائرة أوقاف لا لخدمة المعابد، وإعاشة رجال الدين بل لخدمة العلوم والفنون، لخدمة النوابغ والعلماء.
سادتي! عبثا تسن الحكومات الحرة شرائع حرة إن لم تطلق أنفس العلماء وأرباب الفنون من قيود المصلحة ومن هموم الارتزاق.
قيل لبعض العرب ومن سيدكم؟ فقالوا فلان. فقيل بم؟ فقالوا: احتجنا إلى علمه واستغنى عن دنيانا، فمثله تكون العلماء والأمراء، وبمثله - إن شاء الله - ستفاخر المدينة العظمى سائر مدن العالم. وقال أعرابي آخر: أحب أن أتمثل بأبناء هذه اللغة لتتأكدوا أن مثل هذه المدينة العظيمة لا يستحيل وجودها في بلادنا.
قال سيد من العرب لقومه: اعلموا أنني حاسدت عليكم حتى صرت عبدا لكم أغدق على سائلكم وأصفح عن جاهلكم وأحوط حريمكم وأدفع غريمكم فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي ومن فعل فوقي فعلي فهو فوقي ومن فعل دون فعلي فهو دوني. فهل يا ترى يوجد بين المتمدنين اليوم من تجتمع فيه هذه الخلال الشريفة كلها، أفلا يحق لمدينة المستقبل أن تفاخر سائر المدن بمثل هذا الأمير.
وبين رجال العرب من كان أعظم منه. دخل ابن العباس على علي بن أبي طالب خارج الكوفة وهو يقطب نعله، فقال له: ما قيمة هذه النعل. فقال ابن العباس: لا قيمة لها فقال علي: لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا. فالمدينة العظمى هي التي يكثر فيها مثل هؤلاء الرجال العظام الصالحين، هي التي يتعود كل امرئ فيها محاسبة نفسه فإذا كان ممن لهم شيء من الشهرة أو المجد أو القوة أو النفوذ أو السلطة أو المال؛ يسأل نفسه كل يوم وما قيمة هذه الأشياء كلها إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا، ما الفائدة من هذه السيادة أو من هذه الشهرة أو من هذه الأموال إذا كانت لا تساعدني على نصرة الحقيقة وإقامة الحق ودفع الأباطيل والأضاليل، ما الفائدة منها إذا كانت لا تبعدني في الأقل عن هذه الظلمات وسكانها عن أسيادها وعبيدها، وقد قيل شر من الجهل نصرة الجهال، وأسوأ من الضلالة الاحتجاج للضلال.
سادتي! إن المدينة العظمى هي التي تنتصر فيها الحقيقة قولا وفعلا، هي التي يروج فيها الصدق كما هو الكذب رائج في العالم اليوم، هي التي يعيش فيها الأدباء والعلماء لا للشهرة والمجد ولا للكسب والمال فقط بل لخدمة الحقيقة فكرا وقولا وفعلا. إن فروسية اللسان لغير فروسية الجنان، وما كل من هز لسانه فخرا ومباهاة يستل حسامه في الغارات، فالنفس الراقية التي تعيش لهواها وشهواتها وأباطيل المجد والسيادة فقط هي كالكلب الإفرنجي الجميل الذي يقضي حياته كلها تحت قدمي سيده أو تحت رداء سيدته، والعجب في أمر هذه النفس أنها كلما أمعنت في اللذات كلما اكفهرت في وجهها آفاق الحياة. وقد قال أحد المتصوفين.
إن المرائي لا تريك
عيوب وجهك في صداها
وكذاك نفسك لا تريك
عيوب نفسك في هواها
وها أني ذكرت من المحاسن والأماني ما ستنفرد فيه المدينة العظمى عن سائر المدن، وهناك أمنية أخرى بل نبوءة لأحد الأنبياء ترددت في ذكرها، وليلة كنت أفكر في هذا الموضوع طرق بيتي طارق ففتحت فإذا بالباب شيخ جليل عاري الرأس حاف، لابس قميصا بيضاء فوقها رداء أسود مسدول على كتفيه، وقف في الباب ورأسه منحن فوق يديه المضمومتين على هراوته ولما فتحت دخل دون استئذان وسار توا إلى مكتبي وجلس هناك على كرسي أمامي، فأخذني من أمره العجب ولكن قبل أن بادرته بالحديث قال: جئت أحقق أمنيتك وأمدك بآخر من آرائي، فقلت والدهشة تملأ نفسي: ومن أنت يا سيدي، فقال: أنا هو. - هو؟ من؟ - هو الذي يخطر الآن في بالك وتحير نبوءته قلبك. - بالله أنت أشعيا بن آموص؟ - نعم أنا أشعيا.
فنهضت على الفور عن كرسي وقبلت يد النبي، ولما رأيته قد تبسم تشجعت وقبلت أيضا شفتيه اللتين لم تزالا ملتهبتين حتى اليوم. ثم تجاسرت فقلت: جئتنا يا مولاي وقت العشاء فهلا باركت الخوان وأكلت معنا من عدس لبنان؛ ليصير بيننا - كما تقول العامة - خبز وملح، فأومأ برأسه مبتسما وتقدمني إلى غرفة الطعام، وبينما نحن في طبخة يعقوب بادرته بالحديث فقلت: ألم تتنبأ يا مولاي منذ ألوف من السنين بجيل يرعى الذئب والحمل فيه معا والأسد يأكل التبن كالبقر والناس يطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل؟ فأحنى النبي رأسه مجيبا بالإيجاب.
أولم تقل في رؤساء أورشليم إنهم عصاة وشركاء اللصوص وإنهم يحبون الرشوة ويتبعون الأجور وإن الرب سيقطعهم من إسرائيل؟ فأحنى النبي رأسه ثانية، فقلت: وها قد مضى على ذلك يا صاحب النبوة ألوف من السنين والعالم لم يزل كما كان يوم صببت عليه شآبيب غضبك، فأجاب أشعيا قائلا: إن ألوف السنين التي مرت على نبوءاتي هي كالدقائق في عين الله، والأجيال بالنسبة إلى الأبدية هي كالساعات بالنسبة إلى الأجيال، فلا يريبك كلامي، ردد نبوءتي ولا تخف، بشر بالمدينة العظمى في بلادي وبلادك ولا تيأس. قال هذا وهم بالانصراف، فاستأذنته بسؤال آخر فقلت: وكيف كان يكلمك الله يا صاحب النبوة ويطلعك على غيب الأمور؟ فقال النبي: مثلما أنا أكلمك الآن، وقبل أن فتحت الباب استحال شعلة نار، وتوارى عن الأبصار.
لا تظنوني مازحا أيها السادة، فإن للأنبياء المقام الرفيع في العالم الروحي، لم تزل لهم تلك السطوة الصالحة على الأنفس السامية، وإنك إذا حككت نفس أكبر نابغة في العالم تجد في لبها شيئا من روح النبوة. المدينة العظمى إذا هي التي تتم فيها نبوة أشعيا، هي التي يسير الذئب والحمل والنمر والجدي فيها معا، هي التي يرتاح فيها الناس من شرور أصحاب السيادة الدينية، هي التي تنقطع فيها سليلة أولئك المفترين على الله وأنبيائه، الجالسين على عروش القداسة الكاذبة، القابضين على صولجان الخرافة، المتوجين بتيجان الجهل والتعصب والطغيان.
إن مصيبة الشرق في رجال الدين والكهان لا في الأنبياء والأديان، المدينة العظمى هي التي يسود فيها العلم والحرية والإخلاء والوفاء هي التي تنتصر فيها القوى الروحية على القوى المالية والقوى العقلية على القوى المادية، هي التي تطبع فيها آلات الحرب معاول ومحارث ومناجل، هي التي تشيد فيها الصروح والمعاهد لأرباب الموسيقى والشعر والتصوير ولربات الفنون والجمال، هي التي يكثر فيها أمثال علي بن أبي طالب وأشعيا بن آموص، وذاك الأمير العربي الذي ساد قومه؛ لأنهم احتاجوا إلى علمه واستغنى عن دنياهم. أي سادتي! إن المدينة التي ينبغ فيها أعظم الرجال وأعظم النساء لهي أعظم مدن العالم، وإن كان سكانها لا يتجاوزون عدد سكان الفريكة. (6) قيمة الحياة
13
أيها السادة والسيدات
عندما وصلتني دعوة جمعيتكم لأخطب في حفلتها السنوية هذه؛ كنت مهتما بإنجاز تأليف جئت في بعض فصوله على ذكر أجدادنا الفينيقيين ، فسرني أن أرى شيئا من علو همتهم ونشاطهم في أبنائهم الصيدونيين. سرني أن أرى مصابيح العلم والعرفان تضيء على هذه الشطوط القديمة التي نشأت في ربوعها اللغة وكبرت فيها همة الفينيفي التجارية والعقلية فجاء بما يدهش الإفرنج حتى اليوم من آيات الفكر الباهرات ومن غرائب الاكتشافات والاختراعات، وسرني أن أرى روح أولئك الأجداد الكرام تنبعث اليوم فينا فتنهض بنا إلى العلياء، وعجبت بصدف ترينا في صدف الحوادث لؤلؤ الأماني، فلبيت الدعوة على ما كنت فيه من شغل شاغل وتأهب للسفر مزعج؛ حبا بزيارة مدينتكم وبمساعدة هذه الجمعية الوطنية في مشروعها - إذا كان في حضوري ما ينفع وفي كلماتي ما يفيد، على أني في قراءتي كتاب الجمعية وقفت عند عبارة مدهشة.
والظاهر أن كاتبه الكريم طويل الباع في طرق الإطراء وأساليبه، فبعد أن غلاني بالغلو وأغرقني بالإغراق، رغب إلي أن أتحفكم بخطبة «لم تفتق رتق سمع، ولا خطب مثلها في جمع» - السجعة له لا لي - فقلت في نفسي: وماذا يبتغي الصيدونيون مني وما أنا بصاحب معجزات أو كرامات، إن خطبة مثل هذه - أيها السادة - في زمن كثرت فيه المنابر والمطابع لا يستطيع أن يأتي بها بشر مثلي، لا جديد تحت الشمس ولا فوقها، فالمذنبات التي لا نراها نحن إلا مرة في حياتنا مثلا مرت - لا شك - في فلك الأرض بمرأى من أسلافنا مرات عديدة في ما مضى من الزمان، لا جديد فوق الشمس وصوت الحقيقة الذي أحب أن أسمعكم إياه هذه الليلة طالما ردده قبلي العلماء والأنبياء، لا جديد تحت الشمس على أنني أستطيع أن أحدثكم بلغة لم تسمعوها بعد إذا كانت بغيتكم تنحصر في مجرد رؤيتي واستماعي خطيبا، يمكنني أن أحدثكم في عضارطة
14
السياسة ودهاقينها،
15
الذين يلهوجون
16
أعمالهم ويلهوقونها،
17
أو في زرازرة
18
يمشون في الأرض سبهللا،
19
ولا يحسبون سواهم للمجد أهلا، أو في سباهلة
20
يجمشون
21
العجنجرات،
22
ويعدون ترهات العصر آيات منزلات، أو في رعابيب
23
يسمدن
24
في المركبات، أو يتبهنسن
25
في العرصات، ويحسبن المخشلب
26
على صدورهن دررا وريش الطيور على رءوسهن تيجانا، أو في صفاريت
27
من الأدباء يطوفون حول القصور المشمخرات،
28
علهم يفوزون بشيء من أعلاق
29
السراة، أو في خريت
30
من ولاة الأمر خيدع
31
إذا استذريت
32
به قادك إلى محطمه سجيل،
33
أو في غطريف
34
كبير، ترفته الدنانير، وحسدته على أذنيه الحمير، أو في متنطع
35
مخرنبق
36
دفطس
37
وقته في حشو جؤجؤه
38
بما لا يفيد من العلوم، أو في - ولكن البساطة أولى وأشفى، ما لنا وخطبة «لم تفتق رتق سمع، ولا خطب مثلها في جمع» فها قد أسمعتكم ما يفتق الأسماع حقا بل يفلق الصخور.
سأحدثكم الليلة في موضوع قريب منا كلنا، بلغة تسمعونها كل يوم، وبعبارة تفهمونها وأنتم إلى أشغالكم سائرون. موضوعي: قيمة الحياة، وأريد - بادئ بدء - أن أسدل ستارا على الماضي وآخر على المستقبل فأحصر الحياة في الحاضر، وأسألكم سؤالا: لو علمتم - حق العلم - أن الحياة صدفة من صدف الطبيعة، وأن لا سابق قصد لها ولا لاحق، لا قوة مدركة وراء المهد ولا وراء اللحد، فترسلها وتبعثها عقلا وروحا.
وبكلمة أخرى: لو تأكدتم أن الحياة مادية محض والموت ضجعة أبدية، كيف تعيشون يا ترى وكيف تعملون لترفعوا من قيمتها وتجنوا الناضج اللذيذ من ثمارها؟ أتجعلون قاعدتها الأساسية قاعدة التجار والمتمولين: أن لا حقيقة في العالم إلا المال؟ أتقولون قول السياسيين والمسيطرين: أن لا حق في العالم إلا القوة؟ أتذهبون مذهب فلاسفة اليونان الكلبيين: أن لا حقيقة في العالم إلا اللذات؟ أو تقولون قول حشاشي الزمان القديم أن لا حقيقة في العالم على الإطلاق وكل شيء مباح؟ لو تأكدنا أن الكون مركب من المادة والقوة فقط وأن الحياة كذلك، أينبغي أن نعيش كالحيوانات؟ وإن نحن فعلنا أنأمن شر أنفسنا إن لم أقل شر الأقوياء فينا؟
إذا أحب أحد الناس أن يعيش كما لو كان هو العالم وبيته الدنيا، واستطاع إلى ذلك سبيلا أيستطيع أن يذهب على هواه دون أن تذهب حياته ضحية الأطماع والأهواء، ولو ضحاني هذا السيد العظيم الأثيم وضحاكم على عرفات قدسه ومجده وأهوائه أيأمن يا ترى صولة الجماعات حين يستيقظون فينهضون؟ أآمن هو ويد فوق يده تأخذ بناصيته يوم يثأر الحق بأعدائه؟
حكم عبد الحميد ثلاثا وثلاثين سنة وهو لا يحسب أن في العالم من ينبغي أن تراعى حقوقهم وحياتهم سواه، فماذا كانت عاقبة بغيه وجوره وأثرته.
لا أنكر أن نظرة عمومية سطحية في أحوال الإنسان الاجتماعية ترينا الشرير يسعد بشره والصالح يشقى بصلاحه، ولكن ذلك لا يكون إلى الأبد، وإنما يظهر كذلك لمن لا ينظر في الأمور إلى ما وراءها لمن لا يرى في الحياة غير ظواهر الحوادث، مات كثيرون ممن قاسوا أليم العذاب من الدور الماضي دون أن يشاهدوا نكبة سلطانه وأعوانه، ماتوا يائسين من الحياة التي ينتصر فيها مثل هؤلاء الأشرار الكبار، ولكن قصر نظرهم فيئسوا.
ولو تشوفوا إلى المستقبل وكان إيمانهم شديدا بالعناية التي لا تترك الأثيم عزيزا إلى الأبد لما ماتوا يائسين، إن ما نراه نحن اليوم مثلا ونفر منه ساخطين حانقين يراه غدا آخرون فيستجلون فيه اليقين، إن شر الأمس لينتج اليوم خيرا وخير اليوم قد ينتج غدا شرا. أجل سادتي إن في الأشياء والأكوان عناية لا يعقلها الإنسان ولا يدركها أرباب العرفان، إن في الحياة أسرارا تدك العروش وتزعزع الجبال لو تجلت كلها دفعة واحدة في آن واحد.
ولكنه - تعالى - عليم رحيم فهو لا يمكننا إلا مما نحتاج إليه من القوات الخفية في الحياة، فنستخدمها لخيرنا لو عقلنا لمنفعتنا، ونقف صابرين هادئين ثابتين أمام مفظعات الوجود ومبهجاته، وعندي أن هذه الأسرار تتجلى للإنسان تدريجيا على حسب ارتقائه العقلي والروحي؛ ذلك لأن الحياة سلم أوله الحيوان ووسطه الإنسان وآخره الملاك. وقد يأتي يوم يشاهد فيه أبناء الأرض رجل المستقبل العظيم وقد ترقت فيه القوى الحيوية كلها، أي: القوى الحيوانية والبشرية والإلهية، إلى منتهى الدرجات. الإنسان مركب من هذه كلها وقواها كامنة فيه إلى الأبد، فإن رعى إحداها دون الأخرى يقف في سلم الارتقاء وطبائع الحياة فيه ناقصة فاسدة.
نعم إني ممن يعتقدون بالنشوء والارتقاء ولا حاجة إلى أن يؤيد العلماء اعتقادي، فإني لمؤيده بما أعرفه وبما أجهله من لوح هذا الوجود، من الحياة ومن الأكوان، إن في نشوء الأنواع وارتقائها عناية إلهية عظيمة، والناموس الطبيعي الذي يكثر من ذكره العلماء إنما هو مشيئة الله في الأشياء. إني لأرى يد الله في كل مظهر من مظاهر الحياة، وأؤمل أن أرى - ولو بعد موتي بمليون من السنين - روح الإنسان متجلية في كل مظهر من مظاهر الله.
أراني تجاوزت الحدود الوهمية التي حصرت هذا الموجود ضمنها، فأصبحت والماضي والمستقبل يتجاذبان في المعقول والمحسوس، وكيف نستطيع أن ننظر في الحياة نظرة بعيدة صائبة دون أن نتلفت إلى الماضي ونتشوق إلى المستقبل. كيف يمكننا أن نقيسها لنعلم قيمتها وكل شيء فينا وحولنا ينطق بما مضى وبما هو آت مما هو قسم جوهري من الحياة البشرية. أحببت أن أحصر الموضوع في الحاضر لأريكم أن الحياة - وإن كانت مادية - لا يستطيع الإنسان أن يذهب فيها حسبما يشاء ويسترسل إلى ملاذه وأهوائه دون أن تخثر نفسه، فيغلظ شعوره، فيكثر عثاره، فيشتد بلاؤه.
وإن شقاء الناس اليوم لناتج عن هذه الحياة المادية الحيوانية التي يكبرونها ويعززونها ويعرقون دما في سبيلها. ألا إننا نعيش اليوم كما لو كانت الحياة منحصرة في البورص والمخزن وغرفتي الطعام والنوم، نعيش كما لو كانت قوام الحياة في جمع المال وفي تربية دود الأهواء والشهوات، ويا لها من دود تحوك للنفس وللجسد أكفانا من الحرير.
نعيش كما لو كنا آلات هضم وأكثرها في هذا الزمان مصدئة، وأنصاب مجد وأكثرها متهدمة، فالسياسي لا يرى في الحق قوة تستحق الاعتبار إن كان الحق لا يؤيده في ضلاله وفساده، ورجال الدين يصمون آذانهم عما جاء في كتب الدين من سديد التعاليم ويستخرجون من بعض الآيات والعقائد قواعد تمكنهم من الضغط على الأنفس والعقول لتكون لهم في ذلك سلطة ما أنزلها الله على أحد من الناس، والصحافيون يزفون ثناءهم لهذا الخاطب ويبذلون شهادتهم لذاك الطالب؛ حبا بإعلان أو اشتراك يحرزونه.
أو أنهم يوقفون الحق على رأسه غواية ونكاية، أو أنهم يتحاملون على الناس، ويثيرون المفاسد والفتن حبا بالظهور والاشتهار، والغني فينا يعيش كما لو كانت الأموال تقيه الموت وتكسبه الخلود، والتاجر يضرب أخماسا لأسداس ليل نهار فيستنبط طرقا بل حيلا جديدة للكسب والإثراء، والوجيه الفاضل الواقف على شفير الإفلاس يكتد الفلاحين الفقراء ويعرقهم ليؤيد فيهم منزلته العالية ومقامه الرفيع الشأن.
ترانا نعيش كأن الحياة بنت يومها منحصرة بين شارقة وغاربة، مركبة من أمشاج لا أثر فيها للعقليات والروحيات، بلى، نعيش كما لو كنا مركبين من ألسنة ومعد وأكباد فقط، فنحسن اللقلقة والكبكبة والشر الثالث الذي ذكره النبي في حديثه الشريف ولا نحسن سواها، نعيش لأهوائنا وأطماعنا وملاذنا ... نعيش لمجد في العالم باطل، نعيش لوجاهة فينا فارغة، نعيش لأزياء تستعبدنا، لعادات واصطلاحات تسوقنا إلى المذلات.
وفوق ذلك نعيش في الخداع والجربزة والتلبيس، نخادع لخوف فينا يسودنا، نلبس على الله والناس لغايات في النفس خبيثة ذميمة، نتآخى طمعا بربح من هذا الإخاء، نتصادق حبا بما في الصداقة من عائدة مادية بائدة، وقال المتنبي:
ولما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنام
كانت لامرئ كرمة يأوي الثعالب إليها ويفسدون فيها، فنصب هناك مفزعة أو خيال صحراء ليردعهم عنها، فجازت الحيلة على الثعالب وعجبوا لصاحب كرمة يحرسها ليل نهار ليقطع نصيبهم منها! إلا أن أحدهم وكان أشجعهم وأدهاهم بادره الريب من ذلك فجاء الكرمة ذات يوم ووقف قليلا وضربها بيد، فوقعت إلى الأرض، فضحك ثم ضحك ورفع فوقها جنبه وراح يدعو إخوانه إلى اجتماع وطني سياسي، وخطب فيهم قائلا: إن الإنسان لخداع مكار؛ فقد حرمنا نصيبنا من الكرمة بخيال نصبه فيها، ومن رأيي أن نحذو حذوه لنفوز عليه. فأقترح عليكم نصب خيال أسد هناك لننال قسمتنا من الكرمة، فصفق الثعالب الجياع له ونصبوا في كرمة الإنسان مفزعة بهيئة الأسد، ولما جاء الإنسان في اليوم التالي رأى الأسد واقفا هناك ينظر إليه وقف شعر رأسه وهرول راجعا إلى بيته، وكذلك نال الثعالب الجياع قسمتهم من الكرمة، خدعهم الإنسان بخيال فخدعوه بمثله.
وكم من خيالات وبعبعات تحفظ اليوم كياننا وتدفع عن شرفنا الوهمي عارا وهميا، كم في حقول وصحاري السياسة وكروم التجارة من مفزعات لو ضربت مرة لأصبحت مفضحات. أجل، إن الحياة اليوم سواء كانت في أرقى مظاهرها الأوروبية أو في أفخم مظاهرها الشرقية إنما هي حياة خاسئة فاسدة ناقصة، هي عند الغربيين محض مادية تجارية، وأمست عندنا لا مادية تعرف ولا روحية. حياتنا أيها السادة - وإن كنا لم نزل نؤم الكنائس والجوامع كأجدادنا - إن هي إلا ألعوبة في روحياتها وأضحوكة في مادياتها.
هي مزيج فاسد من الاثنين، هذا سبب الشقاء والبلاء والفساد في طبقات المجتمع كلها، بل هذا من وجهة خصوصية السبب الأصلي في انحطاط الشرق والشرقيين، ولكني أقول - وحق ما أقول - إن سيادة الأوروبيين في الشرق لا تدوم طويلا إذا كان أساسها القوة المادية فقط، وإن نهضة الشرق لا تنجح إن كانت أساسها الروحيات فقط. الكتب المقدسة تصلح الحياة ولكنها لا تعمر البلاد، والعلوم المادية تعمر البلاد ولكنها لا تصلح الحياة.
إذن كتبكم المقدسة احفظوها وكتب العلم عززوها، وكل كتاب - أيها السادة - يساعد على حفظ الحياة وتحسينها وارتقائها هو عندي كتاب كريم مقدس، والحياة الصحيحة القوية الجميلة السابغة هي التي تتغذى من كل كتاب مقدس روحيا كان موضوعه أو ماديا؛ ذلك لأنها مركبة من الأضداد، ذلك لأنها مادية روحية عقلية.
ومن النواميس الطبيعية المعروفة أن قوى الإنسان تنمو وتشتد في التمرين والممارسة، فإذا كنا لا نمارس إلا قوانا الحيوانية وفينا قوى أخرى عقلية روحية نظل - لا شك - في درجة واطئة من سلم الحياة، بل نظل والجهل والبلاء أكبر ما في حياتنا؛ ذلك لأن القسمين الكبيرين فيها اعتراهما الفساد من الإهمال، ولو مرن المرء قواه العقلية والجسدية فقط لظلت الروح فيه مهملة مغبونة، وكثيرا ما تكون تشوقات النفس المظلومة سببا لعوارض وأمراض شتى، كثيرا ما يكون شقاؤنا ناتجا عن فساد إحدى قوانا العقلية أو الروحية.
وها أني وصلت إلى الحد الذي ينبغي أن نعرف عنده الحياة لنعرف كيف نقيس قيمتها. مما تقدم يتضح لكم أن الحياة أصلا إنما هي: قوات عقلية روحية مادية، تظهر في الناس بمقادير متباينة ناقصة ولكنها كامنة بالقوة وغير محدودة في كل نفس بشرية.
قلت «إنها كامنة بالقوة» والعبارة فلسفية وضعية لا أحب أن أرددها وأكثر من مثلها. على أنني أورد الفكر بعبارة بسيطة، أن في كل منا قوى غير محدودة من هذه الينابيع الثلاثة، تظهر فينا أو في نسلنا بمظاهر شتى طوعا لأحوال نعقلها إذا اعتبرنا ولأسرار لا نستطيع اليوم إدراكها، هذي هي الحياة نظريا، مبدئيا.
وأما عملا - آه لو كانت حياتنا الدنيا ابتسامة دائمة تبتدئ بالسرور وتنتهي بالابتهاج، آه لو كانت حلما من أحلام الشعراء أو لحنا مطربا مفرحا من ألحان الموسيقيين! ولكن الحياة في نظر أحد القديسين إنما هي: عقاب الإنسان في هذا العالم. وفي نظر الفيلسوف هي: سلسلة من حديد المصائب فيها حلقات قليلة من ذهب العزاء والهناء. وفي نظر الشاعر هي: هيئات هيولية محزنة لأسرار سامية غامضة، هي خيال زائل لحقيقة أزلية دائمة. وفي رأي سيدنا سليمان: كل شيء باطل، وقبض الريح. وفي رأي جمهور الناس: إنما الأرض وادي الدموع.
فالقديس إذا والفيلسوف والشاعر والحكيم والناس كلهم؛ مجمعون على أن حياتنا الدنيا لا تساوي العناء الذي نقاسيه من أجلها، بل لا تساوي العرق الذي يتصبب من جباهنا في سبيلها. ولكني أرفع على هذه الآراء كلها رأيا آخر أود لو سمعتموه وحفظتموه وتمثلتم به في كل موقف وفي كل آن: ألا إن الحياة صالحة إذا كان المرء صالحا، وجميلة إذا كانت نفس المرء جميلة، والإنسان لا يكون صالحا ونفسه لا تكون جميلة إذا كان لا يربي ويرقي فيه قواه الروحية والعقلية والمادية كلها على السواء. ومن النادر أن نجد في العالم اليوم حياة تامة الأجزاء ارتقاء ونشاطا وإدراكا في شخص واحد، فإذا كانت القوة العقلية عظيمة في أحد الناس راقية تكون القوة الروحية أو الجسدية فيه منحطة.
والعكس بالعكس، ودفعا لما قد يكون في كلامي من الإبهام أزيدكم إيضاحا بما أريده بالحياة التامة الأجزاء ارتقاء وفهما ونشاطا، فالقوة الحيوانية التي ينبغي للإنسان أن يراها ويتعهدها بالتربية تظهر نتائجها في صحته وصحة نسله، والقوة الروحية تظهر في شعوره الراقي وحبه، والقوة العقلية في إدراكه ونباهته وحكمته. واعلموا أن العالم مثلا يكون غالبا قوي الإدراك ضعيف الشعور، والشاعر شديد الشعور ضعيف الإدراك، والفلاح أو البدوي يكون غالبا شديد الجسم ضعيف الشعور قليل الإدراك. أما قيمة الحياة في كل من هؤلاء وإن كانت ناقصة فتختلف بالنسبة إلى من يأتون به من الصالحات الباقيات، فقد تكون قيمة حياة البدوي في نسله أعظم منها في نسل العالم، وقد تكون في الشاعر أعظم منها في العالم العلامة والحبر الفهامة.
قد لا ينتبه أرقى الشعوب - حتى في هذا العصر - إلى ما في الوجود من دواعي الارتقاء كلها والصحة والسعادة. ففي الشرق نظن الوسخ عرضا والخمول نعمة والخبل مصدرا للتجليات الروحية، وعن هذه الأوهام ينشأ التقشف والزهد وما يصحبهما من إذلال الجسد وإماتته. وفي الغرب بدأنا نرفع من أسباب النظافة والصحة إلى حد لا تعلوه أقصى الغايات. وقد قال الفلاسفة هناك: إن واجبات الإنسان الأولية أن يكون حيوانا نشيطا قويا، ولكن إذا نحن أهملنا ترويض الأجسام فهناك بدءوا يهملون ترويض الأرواح، وفي الأمرين نقص ظاهر، على الإنسان أن يعتني على السواء في تربية وترقية قواه العقلية والجسدية والروحية كلها.
سأضرب لكم مثلا من هذا النقص في التربية حتى في مشاهير الرجال، في الفيلسوف سبنسر كانت قوة الإدراك راقية إلى حد نادر المثال عجيب، وأما قوة الإحساس والانعطاف - أي القوة الروحية - فكانت فيه أضعف مما قد تكون في أحد سكان أواسط إفريقيا. وفي الشاعر دنته نجد القوة الروحية عظيمة في شعره كما كانت في حياته، وأما القوة العقلية إلى - قوة الإدراك - فما هي كذلك. ومثل هذه الموازنة تصح بين ابن الفارض وابن رشد، أو بين البهاء زهير وأبي العلاء. وعندي أن في رجل المستقبل العظيم يتجسد الفيلسوف سبنسر والشاعر دنته أو العالم باستور والقديس أوغسطينوس أو ابن الفارض وابن رشد، سيجبل الله إنسانا جديدا كاملا من الطينتين، من النصفين، وهو على كل شيء قدير.
من هذا يتضح لكم رأيي في ماهية الحياة وأقصى غاياتها، أجل إن الحياة الحقة هي التي تجمع بين محاسن فلسفة الروحيين وفلسفة الماديين، هي التي يشارك صاحبها أبيكوروس في لذاته وأفلاطون في روحياته وسقراط في إدراكه وحكمته، هي التي تعظم فيها قوة الجسد وقوة العقل وقوة الروح. التي تؤلف بين أول درجات سلم الحياة وآخرها، بين الحيوان مصدرها والملاك محجتها، مقل هذه الحياة كنز من كنوز الدنيا وقيمتها لا تقدر ولا تحد.
أما حياتنا اليوم - حياة عالمنا أو تاجرنا أو كاهننا أو فلاحنا - فهي ناقصة ضيقة خاسئة فاسدة وكذلك نتائجها، فكم من عمل فيه إخلاص وما فيه شيء من العقل، من عمل فيه عقل وما فيه شيء من الإخلاص، ومن عمل فيه إقدام وشجاعة بل قحة وسلاطة وما فيه ذرة من العقل والإخلاص.
ومع ذلك نستطيع أن نجعل حياتنا اليوم ذات قيمة تذكر إذا سرنا إلى غرضنا بحزم وعزم ونشاط وثبات واقتطفنا من الأعمال الناقصة، ما هو صحيح ناضج من ثمارها، إذا كنا حقا أحرارا، إذا كنا صادقين مخلصين محبين مدركين فنعرف أين تنتهي حريتنا وأين تبتدئ حرية جارنا. نمهد بشيء من العلم والسلاح سبيل الحياة الحقة التي وصفتها.
الحياة البشرية المستقبلة التامة الأجزاء ارتقاء وصحة وفهما، نعم إن قمة مثل حياتنا اليوم لهي ناقصة تافهة ولكنها بالنسبة إلى ما هو دونها تستحق الاعتبار. حسبنا أن تنقص فينا اليوم الجربزة والتلبيس والخداع فتعلو بالنسبة قيمة الحياة، حسبنا أن يتقدم في كل بلد أحد الناس الأقوياء بصلاحهم الجريئين بفكرهم فيضرب إحدى مفزعات الناس ويحطمها، الخيالات والبعبعات والأوهام والخزعبلات. كلما زال شيء من هذه ترتفع بالنسبة قيمة الحياة.
قل لي إذا أيها المحترم ما هو اعتقادك الحقيقي فأقول لك ما هي قيمة حياتك. قل لي يا صاحب السعادة والعزة ما هي آمالك في أعمالك فأقول لك ما هي قيمة حياتك. قل لي أيها الصحافي الحر ما هي غايتك الكبرى في تسويد الصحف فأقول لك ما هي قيمة حياتك. قل لي أيها الغني ما هو قصدك الأولي في جمع المال فأقول لك ما هي قيمة حياتك. قل لي أيها الإنسان ما هي أسرار قلبك أقل لك ما هي قيمة حياتك. قولي لي أيتها الامرأة ما هي غايتك القصوى في الدنيا أقل لك ما هي قيمة حياتك.
إخواني، أخواتي.
إن قيمة حياتنا اليوم ما نزرعه في القلوب من البر والصلاح، وفي العقول من العلم والحكمة، قيمة الحياة ما يعود إلينا من ثمار الحب الذي نزرعه في صدور الناس. قيمة الحياة ما يأتي به كل منا من الصالحات الباقيات مادية كانت أو عقلية أو روحية. فالغني الذي يقدر حياته بما عنده من المال يرفع من قيمتها إذا بذل من ثروته لنشر المعارف، واستئصال الأمراض، وتخفيف وطأة البؤس والظلم في العالم.
والعالم الذي يقدر حياته بما عنده من العلم يرفع من قيمتها إذا محص علمه من الغش والخداع، من السفاسف والأوهام وبثه في الناس صافيا لوجه الله. والمتقشف الذي يقدر حياته بما عنده من الزهد والتقوى يصنع خيرا إذا كان تقشفه يفيد في الأقل إفادة سلبية فيخفف فينا وطأة زخرف هذه الحياة المدنية. على أن العالم والغني والزاهد قلما تنفع حياتهم وقلما تكون أرفع قيمة من حياة أحقر الناس وأجهلهم إذا كانوا لا يعملون لغير أنفسهم، وشر الحياة حياة لا انعطاف فيها ولا إخلاص ولا حب ولا حماسة.
وأما رجل المستقبل ذاك الذي تتم فيه أجزاء الحياة كلها وتتساوى صحة ونشاطا وفهما ورقيا فسيتمكن - إن شاء الله - من الجمع بين حسنات العالم والغني والمتقشف، بين محاسن العقل والجسد والروح، بين الخيال والحقيقة، بين جمال الشعر وجمال الحكمة وجمال الصحة. مثل هذا الرجل الذي يعيش في الحاضر كما لو كان الحاضر الأبدية كلها فلا يعمل عملا لا يشترك فيه عقله وروحه وقلبه؛ هو يشغل رأس ماله في أسواق الحياة الثلاثة فلا يكون عالما عاجزا لا يحسن التصرف في غير منزلته ولا غنيا جاهلا ولا زاهدا أخبل.
هو الذي يحيي قواه كلها ويرعاها، فيغذي العقل والروح دائما كما يغذي الجسد، هو الذي يروض نفسه للشدائد كما لو كانت من ضروريات الحياة، هو الذي لا يعول في أموره على أحد من الناس. هو الذي لا يحترم في البشر إلا العلم والذكاء والصلاح، هو الذي لا يحابي في سبيل العدل أحدا ولا يخشى في سبيل الحق إنسانا. هو الذي يعيش لنفسه ولربه وللإنسانية في وقت واحد. إن حياة مثل هذا الرجل لكنز من كنوز الدنيا، وقيمتها لا تقدر ولا تحد. (7) هملت وشكسبير
39
يتوقع مني بعض الناس توجيه كلمة إلى أولئك الذين أساءوا فهم خطابي الأخير في الكلية الأميركية، ونشروا على صفحات الجرائد مثالا من تسرعهم في النقد وبطئهم في الافتهام. ولكنني آليت على نفسي ألا أوضح لأحد وألا أجادل وأناقش أحدا؛ فإن الذين يعرفونني ويفهمونني بغنى عن الإيضاح، والذين لا يحبون أن يعرفوني ويفهموني وإن صرفت ما بقي من حياتي شارحا مفسرا موضحا فإنهم لا يقتنعون ولا يفهمون؛ لذلك لا أضيع وقتي فيما لا طائل تحته لا لكم ولا لي، لذلك لا أجادل أحدا ولا أناقش بشرا، بل جعلت مبدأي وخطة حياتي هذه الكلمات الثلاثة «قل كلمتك وامش»، فإننا إذا وقفنا لنسمع المداحين والهجائين الناطقين بالحجارة والناطقين بالأزهار ننصرف عما وجدنا من أجله من بث المبادئ الحرة والتعاليم السديدة في الناس إلى ما يعرقل سعينا ويقعد بهمتنا ويكدر صفاء أفكارنا ويعودنا مقاتلة الناس لا تهذيبهم ولذلك جعلت شعاري: «قل كلمتك وامش.»
هذا هو مبدئي، هذه خطة حياتي الكتابية، وهذه نصيحتي لإخواني الأدباء أجمعين، وبناء على ذلك سأقول كلمة في رواية هذه الليلة كي لا أخرجكم من الموضوع الجميل الذي أنتم فيه. وإنني لا أستحسن - قطعا - الخطابة في المواضيع السياسية والإصلاحية في مثل هذه المواقف الأدبية؛ فإنها تصرف أفكاركم عما جئتم من أجله هذه الليلة وتقطع سلسلة الخيال التي تنقلكم من المكان الذي أنتم فيه إلى مكان الرواية وزمانها، وهذه من شروط الإتقان في التمثيل، فإن الممثل الذي لا ينسيني وأنا جالس في تلك الكرسي أمام هذا المرسح كوني في بيروت وفي الجيل العشرين، الممثل الذي لا ينقلني بمغناطيس صناعته إلى الدانيمارك في هذه الرواية مثلا - لأشاهد هناك مليكها وأميرها ورجالها وأشباحها يقطعون الحياة ويذيبونها - لا يكون قد أحسن أوليات هذا الفن.
يسرني جدا أن أرى روايات نابغة المراسح بل نابغة العالم تمثل في سوريا؛ فإن شكسبير من سائر الشعراء كجبل الأرز من سائر جبال لبنان، ورواية هملت من روايات شكسبير كضهر القضيب من جبل الأرز، بل شكسبير هو أمير شعراء العالم، ورواية هملت هي أميرة روايات شكسبير. وكم قام بعده من المقلدين من الإنكليز والألمان والإفرنسيس فأجادوا في طريقتهم، ولكنهم لم يشقوا غيوم مؤلف هذه الرواية الفريدة.
ومن مميزات هذا الشاعر العظيم أنه ما ترك عاطفة من العواطف البشرية كلها - دقيقة كانت أو غليظة، واطئة أو سامية، راقية أو وحشية، ظاهرة أو غامضة - حتى ألبسها من شعره سربالا شفافا جميلا واستخرج منها حكمة سامية جليلة. فإن ذكرنا الحب نرى في «روميو وجوليت» أرقه وأشرفه وأسماه وفي «ترولس وكريسيدا» أحطه وأكرهه وأدناه.
وإن ذكرنا الغيرة يدهشنا بل يخجلنا تمثيله إياها في رواية «قصة من قصص الشتاء» بصورة خبيثة صفراء خالية من ألوان الانعطاف والسماحة والحشمة. ويعجبنا بل يسحرنا في رواية «أوتلو» الشهيرة تلك الرواية التي تستنشق الغيرة فيها أنقى هواء البحار والجبال. وإننا لنرى أن ذاك الشهم الزنجي «أوتلو» ما فادى «بدرة أتمن من قبيلة كلها» إلا كرها وفي سبيل عرضه وشرفه، وذلك بعد أن أفرغ الخائن يعقوب كل سمه في قلب من أخلص له الوداد، وإن ذكرنا الانتقام نشاهده في أفظع وأوحش هيئاته في «تيتوس أندرانيكوس» وفي أشرف وأسمى مظاهره في رواية الليلة.
وفي هذه المقارنة تظهر عظمة الشاعر الذي يسقط إلى أعمق أغوار الحياة فيستخرج منها درر الشعر والفلسفة، ويرتقي إلى أعلى السماكين فيجيئنا بكواكب من الحكمة السامية والحقيقة الإلهية.
هذه ست روايات ذكرتها موجزا لأمثل مقدرة الشاعر واتساع نطاق أفكاره وتصوراته وفلسفته وشعوره ، فمن «كريسيدا» إلى «جوليت» ومن «أندوانيكوس» إلى «هملت» ومن «بوليكسين» إلى «أوتلو» ننتقل دفعة واحدة من جحيم الحب إلى سمائه ومن أدغال الانتقام إلى ذرواته ومن أكواخ الغيرة إلى قصورها. وقد تجتمع أسمى مظاهر هذه العواطف كلها في دور هملت؛ لذلك هي أعظم الروايات التي تمثل على مراسح اليوم. هي رواية منقطعة النظير فريدة في بابها وجلبابها.
ففيها الضمير والفلسفة يمتزجان فيتماوجان بين التردد والإقدام. وفيها الدقايق والحقايق تسيل حبا فتتلون غضبا فتهيج انتقاما، وفيها من الشعر والتصور والفصاحة ما لا يجتمع مثله في رواية واحدة لغيره من الشعراء، وفيها - وهذا أهم ما فيها للممثلين - غوامض أطوار هملت وشذوذاته، فإن دور هملت للممثلين هو كالنور للفراشة. وندر في أوروبا وأميركا من لم يحرق جنحيه من الممثلين الشهيرين في بادئ أمره مع هملت، ولتتأكدوا أهمية هذه الرواية في عالمي الشعر والتمثيل أقول: إن من مائة ممثل في إنكلترا وأميركا لا يحسن تمثيل هذا الدور العظيم أكثر من عشرة ممثلين.
وكل واحد من هؤلاء يمثل الدور بطريقة تختلف عن طريقة سواه؛ وذلك لأن المؤلف أكثر فيه من أوابد الفلسفة وغوامض الحكمة وأسرار المعاني البديعة ما يحتمل التخريجات والتأويلات العديدة، لا أقول هذا لأثبط من عزم هؤلاء الشبان النشيطين فإنني أكبر همتهم وأثني على إقدامهم وأرجو ألا يقفوا في درس هذه الصناعة الجليلة وإتقانها عند حد تصفيق الناس واستحسانهم فقد يضر المديح بالشاعر والممثل أكثر من نقد الناقدين وتحامل المتعنتين.
لا شك أن بينكم كثيرين ممن سافروا إلى أوروبا وشاهدوا فيها تمثيل الروايات، ولكنني لا أظن أن أحدا منكم دخل العالم الكائن وراء الستار هناك فإن المرسح بأدواته وعجلاته وأنواره وأخشابه وأسراره وممثليه وجدران الورق والقماش فيه لعالم آخر لمن يتسنى له الدخول إليه.
أذكر لما كنت أمثل دورا صغيرا في هذه الرواية مع أحد الممثلين الكبار في الولايات المتحدة أنني دهشت أول ليلة من أمر الشبح في الرواية وكيفية ظهوره، فلما قال «برناردو»: (ها هو، ها هو) رأيت من كان يمثل هذا الدور يتخطى تحت الأرض، أي: تحت المرسح، فسألت أحد الممثلين وهلا يخرج لتشاهده الناس؟ فقال: بل هم يشاهدونه الآن فقلت: وكيف ذلك؟ فأشار إذ ذاك إلى مرآة طويلة في مؤثر المرسح، وقال: ترى الذي يمثل دور الروح واقفا تحت المرسح أمام المرآة فينعكس خياله فيها فيخيل للناظرين أنه شبح حقيقي واقف بين الأرض والسماء وإذا تكلم فصوته من تحت المرسح أقرب إلى حقيقة حاله؛ فإنه أشبه بصوت خارج من القبر، وعندما ينتهي من كلامه لا يخرج كالأحياء ماشيا بل يتحول الممثل من أمام المرآة فيخيل للناس أنه طار في الفضاء كما لو كان شبحا حقيقيا! إلى هذا الحد من الإتقان والتفنن وإلى ما فوقه ترتقي هذه الصناعة هناك.
وقد جاءني منذ أسابيع مجلة إنكليزية موضوعة للتمثيل والممثلين قرأت فيها أن ابن السيدة إلن تري، وهي كسارا برنار عند الإنكليز طبع رواية هملت على حدة في خمس مجلدات ضخمة طبعة فريدة في بابها، فنشر فيها صور أشهر من أجاد في تمثيل هذا الدور من الممثلين من أيام شكسبير حتى يومنا. ورسوم الثياب ووصفها في زمن هملت مع المواعين والأشياء التي تستخدم على المرسح أثناء التمثيل، وفيها أيضا وصف المشاهد والمناظر وحركات الممثلين وسكناتهم كلها، وكيفية إلقائهم مسنودة إلى تقاليد تكاد تكون مقدسة عند عشاق هذا الفن وأربابه، وتباع النسخة من هذه الطبعة من رواية هملت بخمسة عشر ذهبا إنكليزيا. فتأملوا!
أذكر هذه لتقدروا هذه الرواية حق قدرها؛ فإنكم لو جئتم هذا المكان فسمعتموها تمثل أربعين وخمسين مرة لتجلى لكم كل مرة شيء جديد من رائع حكمتها وبديع معانيها وجميل التصور فيها.
وقد يخطر في بال البعض منكم أن كيف تكون يا ترى تأثيرات مثل هذا المرسح، ومثل هؤلاء الممثلين في نفس من مثل على مراسح أميركا، وشاهد هذا الفن في أرقى مظاهره، وعرف شيئا من أسرار المرسح وخباياه؟ أما الممثلون فإنني وإن كنت لا أستصوب هجومهم دفعة واحدة على روايات شكسبير وبالأخص أعظمها أكبر همتهم - كما قلت - وأثني على نشاطهم وأرجو أن يتوفقوا في سعيهم واجتهادهم ودرسهم المتواصل إلى شيء راق من هذا الفن. وأما المرسح أو الملهى أو الملعب أو التياترو أو بالحري هذه الأخشاب المسندة التي تدعى تياترو فإنها تذكرني بأيام شكسبير لما كان يمثل بنفسه أدوارا في رواياته.
فإن فن التمثيل هناك ولد في مثل هذا المهد الحقير فلا عيب ولا عار في ذلك.
ولا بأس في ذكر شيء من سيرة نشوء هذا النابغة العظيم فإن فيها عبرة لمن اعتبر، في أيامه، أي: منذ ثلاثماية سنة، كانت لوندرا شبيهة ببيروت اليوم من حيث أسواقها وأبنيتها وملاهيها.
ولم يكن فيها عربات ومركبات، بل كانت شوارعها دائما كشوارع مدينتنا يوم الاعتصاب، فكان الناس يجيئون التياترو راكبين الخيل، فاقتضى لذلك وجود أولاد أمام الباب يستلمون هذه الجياد فيحفظونها لأصحابها إلى أن تنتهي الرواية. ووليم شكسبير - أيها السادة - كان من هؤلاء الغلمان، ولكنه عمل عمله بنباهة وأمانة وإخلاص حتى أصبح بعد قليل زعيم الساسة وسيدهم، فكان الناس عند وصولهم إلى التياترو لا ينادون إلا شكسبير فيجيئهم هذا ويجيئهم ذاك قائلا: أنا يا سيدي من رجال شكسبير، وكذلك ترى الرجل العظيم ناجحا فائزا مقدما في أول عمل باشره، نراه ناجحا؛ لأنه أتقن عمله وثابر على الصدق والأمانة فيه. ومن دور السائس ارتقى إلى المرسح فأخذ يمثل الأدوار الصغيرة إلى أن استيقظت في قلبه ربة الشعر فطفق ينظم الروايات ويمثل فيها حتى آخر أيامه.
قلت لكم إن لوندرا منذ ثلاثماية سنة كانت من بعض الأوجه مثل بيروت، وكان فن التمثيل فيها كما هو اليوم عندنا، وكانت التياترو - خاصة شكسبير وشركائه - شبيهة بهذه فالحالة الاجتماعية التي كتب فيها شكسبير أعظم رواياته كانت كحالتنا اليوم منحطة جدا عن تصوراته وأفكاره وتشويقات نفسه.
فهل كتب الشاعر ما يلائم طبائع قومه وأمثالهم في تلك الأيام؟ هل راعى خواطر شعب لوندرا منذ ثلاثمائة سنة؟ فإنه لو فعل ذلك لما كنا نقرأ رواياته ونمثلها اليوم، بل هو ألف هذه الروايات لكل جيل ولكل زمان، ألف رواياته والحقيقة آخذة بضميره وربة الشعر تملي على فؤاده والحكمة تنير زوايا قلبه ونفسه، ألف رواياته ولسان حاله يقول: إن لم يقدرها أبناء اليوم حق قدرها فسيفعل - إن شاء الله - أبناء المستقبل.
وهذه من نبوءات الشعراء، فالنابغة يا سادتي يتقن أي عمل أتاه بشرط أن يكون قلبه مائلا إلى ذاك العمل، ومن مميزات شكسبير في صعوده من أحقر الأشغال إلى المهنة التي تتصل بالآلهة أسبابها أنه كان يفرغ قلبه ودماغه في قالب عمله. وإن حياة هذا النابغة لشبيهة بتمثال حي لما جاء في رواياته؛ فإنه ارتقى السلم من أوطى الدرجات حتى أعلاها ووقف هنيهة في كل منها ليفكر بالحكمة التي فوقها والحكمة التي تحتها.
فإتقان العمل إذا إن كان في مسح الأحذية أو في النظم أو في التمثيل هو أساس كل ما يدوم طويلا من الصنائع والفنون، ونحن الشرقيين مفتقرون جدا إلى الثبات الذي يتغذى منه الإتقان فإننا لا نتقن شيئا ولا نثبت في شيء، بل ترانا نيأس قبل أن نتمم عملنا فنضرب به الحائط وظننا أننا صورنا على الحائط صورة جميلة، نتطلب تمام الاستحسان والتقريظ لأعمالنا وقد تركناها وراءنا ناقصة، فعسانا إذا أن نتمثل بشيء من حياة هذا النابغة الإنكليزي الذي أتقن عمله سائسا، وأتقنه ممثلا، وأتقنه شاعرا. (8) حول المساواة
40
سيداتي وسادتي
عندما كتبت هذه الرواية الصغيرة لم يخطر في بالي أمر تمثيلها، وقد ألفتها لغرضين غرض أدبي وغرض سياسي، فالغرض الأدبي ظاهر للأدباء من خلال الخيال والغرض السياسي نقطة محوره، ومهما كان من أمر الرواية فما هي إلا وقفة أمام الباب الذي لا بد أن يدخله الأدباء بعد حين، فقد عفنا الروايات المترجمة التي قلما تنطبق على حالنا، وقد حان لنا أن نضع تاريخ الأمم الشرقية وبالأخص تاريخنا على المرسح ليقتفي الناس آثار أجدادنا الحسنة ويتحايدوا منها السيئة.
ومن العجز أن نتهافت على موائد الإفرنج وعندنا في تواريخنا العربية وحياتنا الاجتماعية من الحوادث والعبر ما كان يكفي ساردو وروستان وأبسن خمسين عاما لو تفرغوا لدرسها ووضعها في قالب التمثيل. وما روايتي هذه سوى وقفة أمام باب هذا الموضوع - كما قلت - وبما أنني أشتغل اليوم في نظم بعض حوادث تاريخ العرب لتمثل في إنكلترا أو أميركا أود لو اهتدى بعض إخواني من الأدباء إلى شيء من هذه الحوادث المهمة فيفرغونها في قالب تمثيلي على طريقة قريبة بقدر إمكاننا من كمالات هذا الفن.
أما الغاية السياسية من الرواية فلا شك أنها ظهرت لأكثركم وتدبرتموها وما عبد الحميد فيها سوى واسطة لإظهار الحقيقة المؤلمة التي طالما شغلت المفكرين.
من الألفاظ الساحرة التي تتدهور على ألسنة الخطباء في هذه الأيام لفظة المساواة، والمساواة أيضا هي محور الفكرة السياسية في الرواية، ولكن بين ما أرتئيه في هذا الموضوع وما يرتئيه غيري بونا شاسعا؛ فالمساواة لفظة طالما تحمس لها الشعوب في ما مضى من التاريخ، ووجدت فيها الأمم خلاصا إلى حين، وإن كان في تاريخ الرومان أو الفرنسيس أو الأميركان، فإن هي إلا فترة مرت فأضرمت في الشعوب هوسا أبعدهم عن الحقائق الطبيعية والاجتماعية وأعادهم إليها بعد حين، والتاريخ شاهد على هذا، على أن الوقت لا يسمح الآن في استطلاع شواهده، ولولا ذلك لكنت أبين لكم كيف خابت آمال الرومان والفرنسيس والأميركان في عقيدة زال شغفهم بها بعد أن وضعوها في حيز العمل.
على أنني أصرح أمامكم الآن أنني لست من المعتقدين بأن الناس ولدوا متساوين كما جاء في دستور الولايات المتحدة، فالناس لا يولدون متساوين لا في القوى العقلية ولا الجسدية ولا الروحية، وهذه حقيقة لا حاجة للإسهاب فيها. وإنما الناس متساوون اسما أمام الشرع أما فعلا فهم في البلاد التي تدعى مهد المساواة كإخوانهم في البلاد التي كانت في الماضي قبرها. فالأميركي والعثماني شبيهان من هذا القبيل، وفي الأمتين ذو النفوذ يخنق المساواة بنفوذه، وذو المال بماله، وذو السيادة بسيادته، وذو العقل بعقله، وذو القوة بقوته. ومهما تحمسنا وبالغنا في القول ينبغي أن تكون الحقيقة محجتنا في كل حال.
والحقيقة يا سادتي هي أن المساواة لا حقيقة لها في البشر اليوم، والذي يمكننا أن نصل إليه بعد طويل الجهاد والثبات في مضمار الارتقاء هو أن يعرف كل امرئ مركزه ويجازى كل امرئ على عمله، وهذه - في نظري - هي المساواة الحقيقية، ليجاز ، كل امرئ على عمله بعدل وإنصاف، وأنا الكفيل بأن الناس لا تحلم بعدئذ بالمساواة.
إذا ما الفائدة للفاعل يا ترى من معرفته أنه وسيده متساويان إذا كان سيده هذا لا يجازي عمله بعدل وإنصاف! المساواة الحقيقية إذا هي أن يجازى كل على عمله، أن يجازى المجرم على جرمه، والفاعل على عرق جبينه، والعالم على عمله، والذكي على ذكائه الذي يظهر في أعماله، ورب الفنون على عرائس صناعته والشاعر على نفائس شعره.
فالمجرم إذا كان من المتشردين أو من السلاطين ينبغي أن يكون في نظر الشرع واحدا، وفي نظر القضاة واحدا، وفي نظر السجان واحدا، أي: أن الحقيقة تطلب شريعة واحدة وميزانا للعدل واحدا وسجنا واحدا لمن ساوت بينهم الجرائم والآثام. ولا فرق بين الصعلوك من هذه الوجهة والأمير وبين الفقير والغني.
أذكر لما كنت في الولايات المتحدة أن المحكمة العليا حكمت على أحد أرباب الاحتكار هناك بالحبس ستة أشهر لخرقه نظام الحكومة المختص بالشركات الاحتكارية، فزج في السجن كبقية المذنبين، ولكنه لم يعش هناك كما عاش إخوانه السجناء، فقد اختصته الحكومة بثلاث غرف فرشها من ماله بالطنافس والرياش، وأذنت لأحد المطاعم أن يقدم له طعامه كل يوم في الأوقات المعينة وكان أصحابه وعماله يزورونه كل يوم كما لو كان في بيته أو في مكتبه.
فما قولكم بهذا العدل في أرض تدعى مهد الحرية والمساواة، أفلا ترون أن حال عبد الحميد اليوم شبيه نوعا بحال ملك الاحتكار الأميركي! فالمال الذي تدفعه الأمة اليوم لإعاشة السلطان المخلوع هو ما يحق لكل المجرمين في البلاد أن يطالبوها بجزء منه، هذا ما يدعونه المساواة أمام الشريعة، وهذه هي المحجة التي لم نزل بعيدين عنها. أما المساواة في الهيئة الاجتماعية فالعقدة فيها أشد وأمنع، وإن عقدة عقدها الله لا يحلها إلا هو.
ليعمل كل منا عمله بإخلاص وإتقان، وليعرف كل منا مركزه، ليجازي كل منا عماله على أعمالهم بعدل وإنصاف، لنكن أحرارا بمعنى الكلمة، فنصبح متساوين فضلا وإباءة في عين الله - قلت في خطابي في زحله كلمة عن الذين يتلبسون بالحرية ويفاخرون الناس بأنهم من الأحرار، وذكرت - على سبيل المجاز - بياع البصل، أو بالحري من لا يعرف كنه الحرية والمساواة، وأصبح يجتمع اليوم والأحرار الحقيقيين في ناد واحد، فقام أحد الخطباء يعترض على تحقيري الشعب وعبثي بعقيدة المساواة المقدسة، وهؤلاء الناس يحاولون تعزيز عقيدة لم يعززها الله وما عززتها الطبيعة، فقال: كيف لا يحق لبياع البصل مثلا أن يكون من الأحرار، وكيف لا يحق له أن يجتمع وسيده الأمير في ناد واحد؟
لا يا سادتي، إذا كان بياع البصل أو الأمير نفسه يبيع حريته ببصلة فهو من العبيد الذين لا يحررهم إلا الله، إذا ظل المرء حرا ما زالت حريته لا تضر بمصلحته أو بمنصبه أو بنفوذه فلا الدستور ولا الثورة ولا المصلحون يستطيعون أن يرفعوا عن نفسه سلاسل العبودية. (9) الشعب والسياسيون
41
أيها السادة
إن لهذه المدينة مزية طبيعية جميلة، ما رأيت مثلها في مدن العالم الكبرى التي زرتها وأقمت فيها. وهذه المزية المبهجة تظهر في هذا الفصل من السنة في أجمل معانيها، فتسير مع النسيم في الليل فتنسي السائر حفر الأسواق وأوحالها، نعم إن أجمل ما في بيروت جنائنها، وإن نفحات أزهار الجنائن تسكرني وتحزنني معا، فقد طالما سألت نفسي وأنا سائر ليلا في شوارع المدينة - متى يا ترى تنتشر مثل هذه الروائح الشذية في آدابنا وأدياننا وأخلاقنا ومبادئ زعمائنا، متى يا ترى تصير أرض سوريا صافية كسمائها، متى يا ترى تصير قلوب أبناء سوريا نقية كهوائها، متى يا ترى تصير حكومة هذه البلاد صالحة كأنبيائها؟ سؤالات يطرحها الرجاء على اليأس بل النور على الظلمة، سؤالات طالما رددتها نفسي، فكنت كمن يقلب جذوة في الرماد، كلما حركتها صغر حجمها وأمست أخيرا رمادا.
سؤالات إذا سألها علم العالمين بجلهم يجيب عليها جل من ادعى العرفان، سؤالات إذا سألتها أزهار الحب والتساهل والإخاء نبت حولها شوك التعصب والنزاع والخصومات.
ولكنني لا أيأس من كل ما هو جار اليوم، أنا لا أتشاءم بأخبار الأستانة المكدرة، فإن الأمة هي كالأم ساعة الولادة، الأمة الجديدة كالطفل تولد بالعذاب والآلام.
اعذروني أيها السادة إذا خالفت هذه الليلة رأيي في أمر الخطابة خلال الفصول؛ فإنني وإن قلت بإبطال هذه العادة أعلم جيدا أن ذلك غير ممكن قبل أن يصير عندنا دار خصوصية للاجتماعات العمومية.
وإذا كان الخلط بين الخطابة والتمثيل اليوم لازما فالإشارة إلى أن الطلاق كافل سلامة الاثنين لازمة أيضا.
وبعد هذا الاعتذار ماذا عساني أقول؟
إذا قلت كلمة في الحالة الحاضرة أخشى أن تظهروا استحسانكم بإطلاق الرصاص؛ ولذلك لا أقولها، فإن الصحافيين كثيرون وكلهم في القول يتاجرون، بل كلهم من الأماجد الكرام كما يقول أنطونيوس في جنازة القيصر، والذي يقوله هؤلاء الأحرار الأفاضل لا يتجاسر أن يقوله هذا الفقير، الذي يقوله المسدس والخنجر لا يقوله اليوم القلم والمنبر. الذي تقوله الحماسة الوطنية لا تردده دائما الحكمة، الذي يقوله أنصار الأمة لا يقوله أنصار الحقيقة. وأني أؤكد لكم أيها السادة أن لسان الحال اليوم أفصح من لسان الاتحاد ولسان التقهقر أطول من لسان الترقي وبلاء بابل في ألسنتها، ولكن هذه البلبلة لا تدوم، وسينطق غدا لسان آخر هو لسان القوة والحكمة، فيردد صدى كلماته لسان الحال ولسان الاتحاد ولسان الترقي ولسان التقهقر أيضا وإن غدا لناظره قريب.
وأما الآن فحرمة للإنسانية أرى من الواجب أن نستلفت أنظار زعماء الفوضيين في أوروبا إلى حالتنا المبهجة المفيدة فيبعثوا بوفد من قبلهم إلى بيروت ليتعلموا فيها كيف تكون الفوضى، ولا بأس بالفوضى إذا علمتنا شيئا واحدا وهو أنه لا يثبت في العالم والناس إلا الانقلاب، لا بأس بالفوضى إذا تعلم الشعب في مدرستها أن يتقي زعماءه وأسياده؛ فإن الزعماء الذين يغرون الشعب اليوم على الصحافة حبا بالأمة يغرونه غدا على الأمة حبا بالصحافة. عفوا سادتي قد جاملت من حيث لا أقصد المجاملة، فإن الزعماء السياسيين يثيرون خواطر الشعب لا حبا بالصحافة ولا حبا بالأمة بل حبا بأنفسهم الكريمة ومطامعهم السياسية الشرفية، فاتق - أيها الشعب - الزعماء ولا تكن في أيديهم آلة صماء.
واتقوا - أيها الزعماء - الشعب فإنكم إذا أغريتموهم اليوم على أحد زملائكم يقوم غدا من يغريه عليكم، لا يثبت إلا الانقلاب، اذكروا هذا أيها الثابتون في التقلب ...
وقد قيل: إن صوت الله في صوت الجماعات، وكم هو يا ترى عدد العثمانيين الذين لا يقفون مع الواقف ولا يتزلفون إلى القوي، فالشعب اليوم واقف، الشعب اليوم قوي، ولكن الحق يقف فوق كل واقف، والحق أقوى من كل قوة بشرية.
فإذا قال السياسيون إن صوت الله في صوت الشعب يقولون ذلك يوم يكون الشعب خادما لمآربهم السياسية، ويوم ينقلب الشعب تنقلب - لا شك - الآية، يوم تصرخ الجماعات فلتسقط الصحافة الحرة تقول الحكومة المسلولة: إن هذا لصوت الله، ولا تكاد تنتهي من تهليلها حتى تصرخ الجماعات فلتسقط الحكومة! فيقول إذ ذاك الحكام إنه لصوت إبليس، والحقيقة أيها السادة أن إبليس بريء من هذا الشعب وأن الله بعيد عنه. الحق يقال إن صوت الشعب هو صوت أبي براقش لا صوت إبليس ولا صوت الله، الحق يقال إن أبا براقش هو معبود الشعب ومعبود السياسيين.
تبارك الشعب وتباركت صبغاته السياسية، تبارك السياسيون وتباركت نزواتهم الوطنية. (10) في وصف بيروت
أيها البيروتيون
أقمت في هذه البلاد (بلادنا) ست سنوات ولم أستطع قبل الآن أن أقول في بيروت كلمة حق يرضاها قلب شغف بحب بلاده ولا ينكرها عقل شغف بحب الحقيقة. نظرت إلى هذه المدينة بعين رأت مدن أوروبا وأميركا فاستصغرتها وندبت حظها ثم نظرت إليها بعين شاهدت غيرها من مدن سوريا فأحببتها وأكبرت شأنها، وأنا الآن ناظر إليها بالعينين فأصفها وأنصفها. بيروت أم البلاد السورية وأمة البلاد السورية، أميرة المدن الآسيوية وأجيرة المدن الآسيوية، بيروت حسنة من حسنات التمدن وآفة من آفاته، بيروت لؤلؤة شرقية في صيغة من النحاس غريبة.
هي خلخال في رجل سلطانة المشرق عند الصباح، وأسوار في معصم ربة المغرب عند الغروب، هي درة في أوحال تئن فوقها الكهرباء هي مرجانة على ساحل اختلط تبره برماله ولجينه بأوحاله. ساحل النغولة مهد أم المدن السورية وعرشها، فم الأتون بيروت، وأفق النور بيروت، ومطلع الظلمة بيروت، عروس الحرية هي وعجوز الحرية، يوما تتهادى تحت علم الوطن عفة وكبرا ويوما تتوكأ على عصاها كيدا ومكرا، يوما تلبس الرعاة العتاة أكليلا من الأزهار، تصعر يوما خدها للظالم وأمام سدته تعفر يوما وجهها، بيروت منبر الدستور ومشنقته، بيروت حسناء النظام وبيروت صخابة الفوضى.
مدينة المدن السورية بيروت، منبت الياسمين والقلام، مغرس الورد والشوكران، القراص فيها يرفع رأسه عزة تحت أزاهر الليمون، والعليق يسرح ويمرح في ظل النخيل، مدينة الدماء مدينة المدن، مدينة الخلسة والرجاسة، أخت أورشليم، روحها تئن في الأزقة، نفسها تحشرج في المجاري، قلبها يغرد في البساتين، عينها تدمع في دوائر الحكومة، جسمها يذوب في الموبقات، وعقلها يدق على سندان التفريق في المدارس.
بيروت إحدى وصيفات باريس، هي قمر ينعكس فيه نور المغرب فيضيء المشرق وتنعكس فيه أيضا ظلمة الغرب فتزيد الشرق ظلاما. بيروت منبت العلوم ومغرس الخرافات، هي حقل خصبة التربة تزرع فيها أوروبا قمحها وزؤانها ووردها وقلامها ومع ذلك نراها سائرة إلى الأمام ساهرة صابرة. إذا أقبلت سوريا بيروت أمامها وإن أدبرت بيروت وراءها، إذا كانت اليوم كآذار من السنة تتراوح في رعدها وبرقها بين الظلمة والنور غدا تصير كأيار بل كتموز، كأيار بأزهارها، كتموز بثمارها، إذا كانت اليوم أسيرة شياطين التفريق غدا تصبح ربة الألفة والإخاء، إذا كانت اليوم عرش التعصب الديني فهي غدا قبره.
مدينة المدن السورية بيروت وإثمها مثل مجدها كلاهما عظيم، إذا بكت هاج بكاؤها بكاء الأمة، إذا غردت رددت أنغامها بلابل حلب وشحارير الشام وحساسين لبنان وحمام الجليل، إذا وردت بحيرة الإصلاح «ورد الفرات زئيرها والنيلا»، وإذا أفسدت أفسدت بناتها في السواحل وعلى شواطئ العاصي والأولى والأردن وبردي، كلمة باطل تنطق بها بيروت تمسي حجة في دمشق كلمة حق تصدع بها بيروت تروي غليل القرى الظمآنة وتبعث في مدن السواحل والسهول روح الجهاد.
أم المدن السورية هي وعجوز المدن السورية، تعلم بناتها الفضيلة يوما ويوما تعلمهن الرذيلة، تحمل إليهن نورا وتحمل إليهن سما، إثمها مثل مجدها كلاهما عظيم وأعظم من الاثنين واجب فرضه الله على الأمهات، أحسني القدوة يا بيروت يحسن بناتك الاقتداء. في المروج والجبال وفي السواحل والسهول بناتك يستقين من ينابيع علمك وأدبك، من مدارسك من صحافتك من منابرك من مطابعك، فصفي مياها تسقينها بناتك. اخفري السبل، صوني المناهل، تعهدي المسارب، اقطعي يد كل أثيم يشتغل اليوم في تعكيرها أو تخريبها أو تسميمها، اقطعي الأيادي التي تحمل إليها سرا فضول الأديان وأوحال التعصب وأوساخ سخافات الأدب والسياسة، طهري ينابيعك، ارحمي بنيك وبناتك.
أشهد أن لا نور ولا دخان ولا وحول في سوريا اليوم غير ما كان مصدره بيروت، وأشهد أن بيروت وجه سوريا وأن الهوتنتوتي في هذا الزمان يغسل وجهه، بيروت قلب سوريا، والعلم يقضي بأن يكون العقل كالقلب والجسم نظيفا نقيا، ولكن المدينة التي تدعى درة تاج آل عثمان هي درة في أوحال وغبار تئن فوقها وتحتها الكهرباء. وتبض حولها حباحب الأدباء.
أوحال وأقذار وغبار في أسواق المدينة، وفي آدابها وفي سياستها وفي أديانها، ودرة العلم ودرة الدين ودرة تاج آل عثمان في هذه الأوحال والأقذار غائصات ضائعات، وماذا يزيل الأوحال والأقذار والغبار، لا الصحافة ولا قرض البلدية ولا قصائد الشعراء ولا كلماتي تزيلها، هذه الأقذار من فضول الأعصر والأجيال ولا يزيلها أبدا سرمدا غير التربية الحقة والتهذيب الصحيح، تربية أساسها الشجاعة والحمية والصدق والنظافة وتهذيب أساسه النزاهة والأمانة والإقدام وحب العدل والوطن متى تأصلت هذه الفضائل في الرعاة وفي الرعية وفي السائدين والمسودين تصلح جادات المدينة وتستقيم جادات الأدب والدين والسياسة. أصلحوا الحياة تصلحوا الحكومة، أصلحوا الحياة تصلحوا المدينة. (11) في لبنان
42
إخواني، أبناء وطني
إذا كان في حضوري حفلة هذه الجمعية ما يسركم وفي كلماتي ما يفيدكم فأنتم مدينون بذلك لرسول الجمعية إلي، جاءني هذا الرسول الأسبوع الماضي فذكرني بعد أن قص قصته بمخبري الجرائد الأميركية ، بأولئك الشبان الأقوياء الذين يتسقطون حتى من السماء الأخبار، وينالون بغياتهم بالجد والثبات، طلبني في محلات عديدة بالمدينة فما وجدني، سأل عني بعض الأصحاب فثبطوا من همته، علم أني سأخطب في بيروت خطبتي الأخيرة وأتأهب للسفر وما كان ذلك ليوقفه عن سعيه، عض على نواجزه وراح وجاء باحثا طالبا حتى لقيني فحاصرني واستولى علي.
أعجبني من الشاب نشاطه وجده وثباته، فأحببت أن أنوه بها في هذا المقام، وحبذا هذه المزايا الحميدة في شبابنا بل في كهولنا وفي نسائنا، حبذا العزم في الأعمال والثبات في الأعمال والإخلاص في الأعمال، فلا التربية في بيوتنا نحن السوريين ولا التهذيب في مدارسنا يغرس فينا مثل هذه الأخلاق الطيبة، مثل هذا العزم والجد والإقدام، الشاب الذي نوهت به من متخرجي الكلية والمزايا التي أعجب بها إنما هي من محاسن الأخلاق الأميركية، وحبذا لو تخلقنا بمثل هذه الأخلاق فنأخذ عن أصحابنا الأميركان والإنكليز أماثيل العزم والجد والإقدام ونترك لهم عبادة المال والتكالب في سبيل الإثراء.
فكم من خوار هلوع إذا قامت في وجهه عقبة واحدة يعرض عن غرضه ويعود إلى خموله خائبا، وكم من رسول لفساد في خلقه وضعف في عزيمته يخدع مرسله ويخونه، وكم من مأمور يركب إلى غايته مطية الغش والتلبيس ويطلي عقد الأمور بالأكاذيب ويدور حول العقبات مثل كديش الناعورة فلا هو يذلل العقبات ولا هي تعززه، الإخلاص في الأعمال والأمانة في الأعمال والجد والثبات في الأعمال هذا ما أنصح به لإخواني أبناء وطني.
فالجد يدني كل أمر شاسع
والجد يفتح كل باب مغلق
وإن من يمد يده إلى السماء راغبا عازما جادا متشوقا لتدنو منه كواكب السماء وأقمارها.
ولكن الطبيعة تنفر من الإلحاح ونواميسها تكره العجلة، وقلما نرى نحن السوريين ما لا يعاكس الطبيعة ونظام الأشياء، إذا شاقنا أمر طلبناه كالأطفال ضاجين ملحين صارخين صاخبين مئات السنين نريد أن يحشرها الله من أجلنا في برهة صغيرة، نريد أن ينير من أجلنا الشمس في الليل والقمر في النهار، نريد أن يصلح شئوننا ونحن إما نائمون وإما صاخبون، ولا الصخب - وايم الله - ولا النوم، لا العويل والفوضى ولا التلبط والقنوط تصلح الشئون.
أكعكة تريد يا بني؟ اصبر تنلها . وأما هذا التلبط منك فلا يفيد، وهذا الصراخ لا ينفعك، بمثل هذا الكلام تخاطب الأم ابنها اللجوج والأمة بنيها، نريد في لبنان تهذيبا وحرية وعمرانا، نريد في لبنان إصلاحا، وايم الله لا نريد في لبنان إلا الوظائف. أقول وحق ما أقول إن بلاء لبنان وفساد حاله لمن مصلحيه، مصيبة الجبل أولئك الذين يصيحون في الأودية حبا باستماع صدى أصواتهم، أولئك الذين يضربون على وتر الإصلاح حبا بالاشتهار أو خدمة لمآرب أحد المفسدين الكبار، أولئك الذين يصطادون بشبكة التمويه والتغرير الدينار.
بلية لبنان أولئك الذين يزحفون على بيت الدين باسم الدستور فينصبون في باب السراي مشنقة الدستور، أولئك الذين يصطبغون بصبغة الأحرار وإذ يتبوءون كراسي السيادة يولون للحرية الأدبار، أولئك الذين يصطبغون بصبغة الماسون يوما ويوما بصبغة المارونية فلا ماسونيين يعرفون ولا بكركيين، مصيبة هذا الجبل العزيز في أمثال أولئك البنائين المحترمين الذين يناهضون الإكليروس يوما ويوما يتزلفون إليه ليسلبوه النفوذ والسيادة، كنا في الماضي نقول: إن بلاءنا من الإكليروس، وأما اليوم فيا ما أحيلي الإكليروس إلى جانب هؤلاء الذوات المصلحين، مسكين الإكليروس اللبناني؟ صرخة واحدة أقعدته وكأني بالبنائين والمصلحين يصرخون اليوم في وجهه قائلين: اشلح تربح، هذه حال الإكليروس اليوم وحال المصلحين.
بليتنا يا أسيادي من هذه الأحزاب، هؤلاء الزعماء والسياسيين العتق منهم والجدد، ما أكثر المصلحين فينا وما أقل الصالحين، ما أكثر الواعظين وما أقل المتعظين، عودوا إلى بيوتكم أيها الناس فالزموها، عودوا إلى أنفسكم فأصلحوها، أفسدتم بإصلاحكم البلاد أهلكتم بسياستكم الناس أقول ولا أخشى لومة لائم إن كل ساسة لبنان الموقرين سواء في الضلال والفساد، وما أشرنا مرة إلى أحد معجبين ممن اشتهروا بغير الضلال والفساد وكان عند رجائنا فيه، قلنا في هذا الرئيس قولا جميلا كذبه بأعماله، مدحنا الزعماء الوطنيين فحبقوا في الطحين ما كدنا نقول في هذا النائب ما شاء الله حتى اضطرنا أن نقول إنا لله، كلهم في الفساد والضلال سواء عودوا إلى بيوتكم أيها الزعماء الأعزاء، إلى حقولكم، إلى أملاككم، فتعهدوها بالتربية، أصلحوها - أصلحكم الله - بارت أرض لبنان من اشتغال أصحابها عنها بالسياسة، غاضت مياه لبنان من إهمال الغابات فيه والأحراج، وسيذهب لبنان ضحية إصلاح المصلحين - ويلهم مصلحين - يهملون أرضهم وعيالهم وأملاكهم ليصلحوا حكومة لبنان، لله درهم ما أشد غيرتهم على لبنان.
أقول - وحق ما أقول: لو سكت الزعماء والمصلحون العتق منهم والجدد وعادوا إلى بيوتهم يحترفون لهم حرفة شريفة لأصلحت عاجلا شئون لبنان السياسية وأما شئونه الاجتماعية والعمرانية فلا يصلحها غير المدارس الراقية والتربية الحقيقية، لا يصلح حالنا أدبيا ودينيا غير المدارس الإعدادية العلمانية الوطنية والتربية الأميركية الحقيقة أما الإصلاح السياسي فلا ينفع كثيرا بل لا ينفع قطعا في مثل أحوالنا اليوم، وهاك ما قاله طومس كرليل في هذا الصدد، أنا قارئ ما عربته من سديد حكمة هذا الفيلسوف العظيم. «قد قيل مرارا وينبغي أن يقال أيضا تكرارا: إن كل إصلاح غير الإصلاح الأدبي لا يجدي نفعا، فالإصلاح السياسي مع شدة الحاجة إليه يحصر فعله في استئصال الأعشاب البرية كالشوكران القبيح السام والنباتات المشوكة التي يكثر نموها وتقل فائدتها، ولكن الأرض وقد أصبحت بعد ذلك بورا تقبل البذور الكريمة كما تقبل ما قد يكون أخبث وأضر مما استئصل منها.
أما الإصلاح الأدبي فهل يتحقق يا ترى رجاؤنا فيه إن لم يزدد يوما فيوما عدد الرجال الصالحين فينا، أولئك الذين ترسلهم العناية الكريمة ليبثوا روح الصلاح في الناس ليزرعوه كما تزرع الشجرة الحية بذروها؟ فالرجل الصالح إنما هو قوة سريعة حية مثمرة، وكذلك في كل زمان ومكان يكون، ونفوذه إذا تدبرناه لا يقاس؛ لأن أعماله لا تموت.
هي أبدية؛ لأنها بنت الأبدية، وقد تتحول فتنمو وتنتشر في أشكال جديدة ولكن جوهرها الحي المحيي هو واحد. فيا أيها الصارخ من خبث الزمان ولؤمه القائل إن ديوجن في يومنا يحتاج إلى مصباحين في رابعة النهار اعلم أن لا سلطة لك على الزمان ، وليس لك أن تصلح البشر، أن تنقذ عالما منغمسا في الغش والفجور والنفاق، وإنما كتب لك أن تصلح رجلا واحدا فيه وأعطيت لذلك قوة عظيمة مطلقة فأنقذ هذا الرجل، أصلحه قوم أوده إن في اهتمامك هذا شيئا بل أشياء تذكر، وحياتك وأعمالك لا تكون بعدئذ باطلة.»
وكلنا هذا الرجل، وكلنا نستطيع أن نصلحه إذا سعينا في هذا وكنا ثابتين في سعينا صادقين، أما الإصلاح السياسي فهو ينقي الأرض ويحصبها فقط، والإصلاح الأدبي الذاتي يعطينا بذورا صالحة نزرع منها هذه الأرض المنتخبة الطيبة، وأما إذا حصبناها ونقيناها وكانت بذورنا رديئة فاسدة يجيء كل إصلاح سياسي شرا من الآخر. وبأسف أخبركم أن ما في جراب بذارنا اليوم غير بذور الحنظل والقرقفان والعوسج والقراص، فإذا كانت لنا غيرة على بلادنا، وكان في قلبنا حب لأرضنا حقيقي نأبى أن نتعبها ونهلكها بالإصلاحات السياسية العقيمة، لنسع في تنقية البذور قبل تنقية الأرض، اطرحوا إلى النار جراب السياسة وما فيه - غيره آسفين - وخذوا لكم جرابا جديدا تملئونه من بذور النفس المصلحة الجديدة فقد أعطي كل منا كما قال كرليل قوة عظيمة مطلقة ليصلح نفسه وكل منا يستطيع إلى ذلك سبيلا إذا سعى قليلا.
ونصيحتي لإخواني اللبنانيين لأبناء وطني المحبوب أن يبتعدوا عن السياسة ويقتربوا من الحقول، إن فلاحا في كرمه وراء محراثه لأشرف من كثير من ذوات لبنان، إن صانعا في معمله لأطهر ذيلا وأنزه نفسا من ساسة لبنان، إن حائكا في نوله لأسلم قلبا من مصلحي لبنان. جبالنا المقدسة! أيهجر بنوك أطلال السكينة فيك ليتلوثوا بأوساخ السياسة وأوحالها؟ أيهملون أرضك فتصير بورا وأحراجك فتصير صخورا حبا بمنصب في الحكومة يذل النفس ويفسد الحياة؟ إلى الحقول أيها السياسيون إلى الحقول، بارت أراضي جبالنا من الإهمال، تصخرت أحراج جبالنا من الإهمال، غاضت مياه جبالنا من الإهمال.
أتشقون في السياسة إخواني والمحراث ينشدكم نشيد الهناء والحبور؟ أتتمرغون في أوحال الوظائف والأرض تحن إليكم حنين الأم إلى أولادها أتستذلون وتستضعفون وتستعبدون في دوائر السياسة والحقول تدعوكم إليها لتلبسكم تاج الاستقلال، لتعيد إليكم شرف الرجال، لتمتعكم بحرية الفكر والعمل والمقال؟ إلى الحقول إخواني، إلى الحقول، ليرع كل منا خويصة نفسه، ليشتغل كل منا عن إصلاح الناس بإصلاح شئونه، ليتعهد أرضه وأملاكه بالحراثة والتربية فيصطلح عندئذ لبنان ويصطلح شعب لبنان، وتصطلح لبنان. (12) التساهل الديني (خطبة ألقيت في احتفال جمعية الشبان المارونيين في نويرك ليلة 9 شباط سنة 1900)
تنبيه
هذه أول خطبة ألقيتها في لغتي وقد انتشرت في سوريا ومصر وأميركا وقرظتها الجرائد والمجلات هنا وهناك؛ لذلك أحببت أن أبقي عباراتها على ما كانت عليه في الطبعة الأولى.
مقدمة الطبعة الأولى
قد طبعت هذه الخطبة لاعتقادي أننا بحاجة كلية إلى التساهل الديني فأملي أن تصادف من المتساهلين استحسانا ومن المتعصبين قبولا تكون نتيجته الارتياح والاستحسان على ما أرجو، فيزول - إذ ذاك - التعصب ويسود التساهل وتبرز بعد ذلك أمتنا السورية إلى عالم الوجود قائمة على صخرة لا تقوى عليها نيران الجحيم.
نويرك في الشهر الخامس من سنة 1901
مقدمة الطبعة الثانية
وهذه عشر سنوات مضت والتساهل الديني - أي: هذه الخطبة - لم تزل من الأدوية الناجعة دليل على أن داء التعصب الدفين لم يزل متأصلا في الصدر. وقد قال لي أحد كبار الاتحاديين: إن الجمعية تود لو انتشرت هذه الخطبة في كل أقطار المملكة، فلتتكرم الجمعية إذا وتترجمها إلى التركية، أبدلوا «الأمة السورية» في الخطبة بالأمة العثمانية ولا تخشوا اللوم والتثريب؛ فإن عناصر هذه الدولة كلها كالعنصر الذي عالجته، وإن ما نئن منه نحن المسيحيين لأشد وطأة عند إخواننا المسلمين أفيسقمنا التعصب ويجهز علينا التمويه؟
اتقوا الله أيها الناس، فقد صاح بكم الأحرار الأصفياء: عودوا إلى كتبكم. ظنا منهم أنكم تعودون إلى الحسن السمح السامي من آياتها. فخاب ظنهم. لذلك أقول: ارفعوا أعلام الوطن ولا تعودوا إلى كتبكم في غير المعابد؛ لأنكم تعودتم أن تسرعوا إلى ما خط فيها من آيات فتفسرونها بما لا يقتضيه حالنا اليوم بل لا يجيزه. عودوا إخواني إلى ضميركم إلى وجدانكم إلى عقولكم إلى حكمة موروثة فيكم، وساعدوا هذه الدولة الجديدة فتساعدكم، ساعدوها أيها الرؤساء والأسياد في بث روح التساهل الديني والجنسي في الناس، وسيف - والله - يرفع علي شر من سيف أرفعه على إخوان لي في الوطنية. وشر من الاثنين - أيها العثمانيون - سيف يرفع علينا أجمعين.
بيروت في 6 نيسان سنة 1910
التساهل الديني
أيها السيدات والسادة
لما علم بعض أصدقائي بأني انتقيت موضوعا دينيا ألقيه على مسامعكم في هذه الليلة الحافلة انتشر الخبر في جاليتنا السورية وأخذ كل رجل يبني عليه العلالي والقصور ويستخرج النتائج ويقدر العواقب ويفسر الموضوع بحسب مبلغ ذوقه وإدراكه وهواه، وقد اتفق هؤلاء المفسرون في شيء واحد وهو أني سأتعرض للدين تعرضا خبيثا وهم ينوون توقيفي عن الخطابة؛ لأنهم للآن لم يألفوا حرية القول والانتقاد فعسى أن يصادفوا الفشل وخيبة الأمل؛ لأنهم حكموا علي قبل أن يسمعوا كلامي ويتدبروا براهيني.
وهذا شيء يناقض الشريعة والعدل ويأباه الرأي المستقيم والذوق السليم فالقاضي الذي يحكم على مجرم بالقتل قبل أن يسمع دفاعه يكون ظالما مجرما جاهلا، فلا تحكموا قبل أن تسمعوا ولا تقصدوا الشر قبل أن تتبينوا شرا أكبر يستوجبه، وقد يظن البعض أن البحث في الأمور الدينية متعلق برؤساء الأديان فقط ومحرم على سواهم، وهذا عين الضلال والغلط، فالمرء لا يرى مساوئه ولا ينتقد الحرفة التي يتوقف عليها معاشه، ورؤساء الأديان لا يتكلمون عن الدين شيئا مشينا ومضرا به على مسامع الشعب ولو لم يكن منافيا العدل والإصلاح بل كل مباحثهم الفلسفية وكل أقوالهم العلمية هي مستنتجة من مقدمة تسبق كل بحث وكل تنقيب، يطبعونها في جنانهم قبل أن يقدموا على الكتابة والجدال.
وهي هذه: الدين تأييده واجب وتعزيزه أوجب وإذا أفسده الزمان ولوى فيه الألسنة بعض رؤساء الأديان فلا يعلن الفساد للشعب، فإذا كانت المقدمة على هذا المنوال فهل يرجى منهم انتقاد جهري يكشف للعلمانيين ما لا يظنونه موجودا. إن ذلك لا يكون فالرؤساء لا يرجى منهم إصلاح جهاري في الدين إذ إن ذلك يضر بمصالحهم ويضعف سلطتهم ويسقط سيادتهم، وإذا سألتموني لماذا تبحث وتتكلم في الدين وأنت لست من رجاله فأجيبكم كما أجاب روسو الفيلسوف الإفرنسي الشهير لما سئل عن تعرضه للبحث في السياسة، وهو ليس أميرا ولا حاكما.
قال: أنا لست أميرا ولا حاكما ولكنني من أجل هذا كتبت فإني لو كنت أميرا أو حاكما لما أضعت الزمان بكتابة ما ينبغي أن أفعل بل كنت أفعله وألزم السكوت، وأنا لست قسيسا أو مطرانا ومن أجل هذا أخطب بموضوع ديني فلو كنت قسيسا أو مطرانا لأصلحت وحسنت واستغنيت عن الخطابة ولزمت السكوت فالبحث في أي موضوع كان محرما على الحيوانات العجم فقط أما الناطقة العاقلة فمن حقوقها أن تخوض عباب أي موضوع شاءت.
ولكن الذي أوقعني في مثل بحر من الاضطراب هو الطلب الذي طلبته مني عمدة هذه الجمعية (جمعية الشبان المارونيين) كي أعدل عن الخطابة بهذا الموضوع تجنبا للشر وهربا من العواقب الوخيمة حسب زعمهم، ولعمري لا ينجم عن البحث والتفتيش المصحوبين بالمعرفة والحكمة إلا كل شيء مستحسن ومفيد، البحث أم الحقيقة، ماذا أفعل إذن، أأرمي نفسي في بحر البحث والتنقيب أم أسلم تسليما غير شرطي دون أن أنبس ببنت شفة، من وجه لا أريد أن أخون ضميري وأعود نفسي التردد فالشاعر يقول:
إذا كنت ذا رأي فكن فيه مقدما
فإن فساد الرأي أن تترددا
ومن وجه آخر أود لو راعيت خواطر أعضاء الجمعية التي أنا عضو منها وأجبت سؤلهم، فإن تكلمت استاءوا وإن لم أتكلم استاءت الحقيقة، وهذه هي الورطة التي وقع بها ذاك الخطيب المفوه إسكندر أفندي العازار لما تكلم عن «الجرائد وجرائدنا» في مدينة بيروت فأخذ في البدء يسرد تاريخ الجرائد مبتدئا بالصين ومنتهيا في أوربا، ووقف يتبصر لما اتصل به البحث إلى جرائدنا وحالتنا في تلك المدينة، والموقف يستوجب كثرة التبصر إذ كانت تلكم القاعة غاصة برجال الحكومة وأصحاب الجرائد ونخبة الجواسيس، وكلهم كانوا واقفين للخطيب بالمرصاد يتوقعون منه كلمة واحدة ضد الجرائد أو المكتوبجي ليشوا به ويسعوا بتوقيفه وحبسه فبعد أن تبصر قليلا قال: جرائدنا ... أحسن صبغة للشعر عند عيد عون ... جرائدنا ... أحسن دواء لوجع الرأس عند أبي نحول، جرائدنا ... جرائدنا ... فنهض أحد أصحاب الجرائد في ذاك الثغر وقال له «ما معناك لم لا تتكلم ؟» فأسكته الخطيب إذ قال: «الله يضيق على من يضيق.»
أما نحن فلسنا في بيروت الآن ولسنا محاطين بالوالي والمكتوبجي والجواسيس، ولا توجد فوق رءوسنا أيدي رجال حكومة ظالمة جائرة مستبدة من شأنها الضغط على العقول وتوقيف كل من نطق بالحقيقة وصرح عن أفكاره بحرية وإخلاص. نحن في بلاد طرحت فنمت في ربوعها بزور الحرية منذ نشأتها نحن في جمهورية عظيمة يحق لكل من وطئ أراضيها المباركة أن يتكلم بحرية تامة بشرط أن لا يمس حرية غيره، وهذه الحكومة العادلة قد كفلت لشعبها الحرية بأنواعها كافة: كحرية الأديان وحرية الصحافة وحرية الخطابة وحرية التعليم وحرية العمل. ولعمر الحق هذا أكبر باعث لتقدمها السريع ونشأتها الغريبة، فما لنا إذا ومراعاة الخواطر عند البحث عما يعود بأكبر الفوائد على السوريين في بلادهم وفي المهاجر ... موضوعي التساهل الديني أتريدون أن أتكلم (فجاء الجواب من الجمهور اخطب! تكلم!) - أأتكلم؟ - تكلم، تكلم تكلم! - سأتكلم إذا - وعلى الله الاتكال.
موضوعي في هذه الليلة الحافلة متشعب، الأطراف جليل الشأن جزيل الفوائد ذو أهمية تأثيرها في المجتمع الإنساني لا يقاس ولا يحد، هو الموضوع الذي انقسمت عليه الرجال في الأعصار الغابرة فالمتوسطة حين كان يدافع عنه كل المدافعة العلماء والفلاسفة والأحرار ومحبو البشر الأبرار ويعارضهم - كل المعارضة - الرؤساء والأمراء والملوك وكل من فضل قطعة معدن تدعى خطاء تاجا على ذلك الشيء الخفي السري الإلهي الذي يسمى ضميرا.
تعريف التساهل
التساهل هو التسامح بوجود ما لا يستصوب بتمامه
43
وهذا تحديد كلي، أما الجزئي فهو إجازة العقائد الدينية والطقوس الطائفية التي تخالف الطقوس والعقائد المختصة بالدولة، وهذا تحديد لا يطابق حالتنا ولا يوافق الظروف الحاضرة، فإليكم إذا تحديدا يأتي بالمراد: التساهل الديني هو الاعتبار والاحترام الواجب علينا إظهارهما نحن المذاهب المتمسك بها أبناء جنسنا ولو كانت هذه المذاهب مناقضة لمذاهبنا وتقاليدنا وطقوسنا على خط مستقيم.
يجب علينا أن لا نمكن ما لا يستصوب بتمامه من أن يفرق بيننا ويشتت شملنا ويقسمنا على أنفسنا.
التساهل لا يكون في الأمور الدينية فقط بل في كل المسائل التي تطرأ على عقول البشر، ويعمل بها الكبار والصغار عدا ما يستصوب بتمامه، ولا نستطيع أن ندخل هذا الباب دون أن طرق بابا آخر فالتساهل نجم عن التعصب وهاتان الكلمتان ضدان وهما ثانوية من ثانويات الطبيعة كالنور والظلمة والفضيلة والرذيلة والخير والشر والعدل والظلم فلولا ذاك لما كان هذا، لولا الأول لما كان الثاني، فالتعصب إذا ولد التساهل والتساهل ولد السلام والسلام ولد النجاح والنجاح ولد السعادة مثلما إبراهيم ولد إسحاق وإسحاق ولد يعقوب ويعقوب ولد يهوذا وإخوته، فالسليلة واحدة لكن الترقي يأخذ مجراه حسب سنة النشوء والارتقاء والتعصب يسبق في كل الأحوال ليستوجب التساهل؛ لأن القضيب المستقيم يكون تقويمه اعوجاجا.
ولكي يكون الشيء صريحا والبرهان جليا أجعل لكم تشبيها ثانيا، التساهل هو الابن والتعصب هو الأب ولحسن الطالع لم يوجد في العائلة البشرية برمتها أب وابن يتفقا ويتواليا في زمانهما قط إلا هذين الاثنين فالأب المتعصب يكره الابن المتساهل والابن لا يستطيع أن ينظر الأب فاستعرت بينهما نيران الفتن وحمي وطيس القتال في الأجيال المتوسطة التي يدعوها المؤرخون الأجيال المظلمة، وكان الفوز أحيانا لهذا وأحيانا لذاك حتى دخل المتحاربون القرن التاسع عشر فأخذ الابن يفوز على الأب، أخذ التساهل ينتصر على التعصب وأخيرا شق قلبه بخنجر العدل وفراه بسيف الرحمة، مات التعصب ولكن وا أسفاه! كان موته إلى حين! أي: أن روحه عند خروجها من جسمه الديني تقنصت بقوتها الأصلية الجسم السياسي.
خرجت من الجسم البشري ودخلت الجسم الحيواني، عوضا عن التعصب الديني الذي سود صفحات التاريخ في الأجيال الغابرة قد ابتلينا بأيامنا هذه بتعصب سياسي أو دولي إذا شئتم لم نر له مثيلا في تاريخ العالم بأسره، فما هذه الحروب التي تشهرها الدول الأوروبية على الشعوب الحقيرة والقبائل الضعيفة الصغيرة إلا نتيجة التعصب الدولي، نتيجة الفكر الفاسد الذي تتمسك به الدول وتعمل بموجبه، فإنكلترا تعتقد نفسها أصلح من فرنسا، وفرنسا أرفع وأعظم من جرمانيا، وجرمانيا أقوى وأحسن من الاثنين ... إلخ وإذا راقبنا حركات الدول، واطلعنا على أسرارها، ودرسنا سياستها، وكشفنا الحجاب عن خفاياها، وتأملنا الحروب العديدة التي تهدم هيكل المجتمع الإنساني؛ وقفنا منذهلين مندهشين سائلين أنفسنا السؤال المضحك: أنحن من الجيل التاسع عشر، جيل التمدن والنور، جيل المبادئ الديمقراطية والاشتراكية والرحمة المسيحية، أم نحن على باب القرن العشرين؟ أجل نحن من الجيل التاسع عشر ... قبل المسيح وليس بعده، وقد تميز هذا الجيل بالتعصب الدولي؛ ولذلك دعوت خطابي: التساهل الديني الناتج عن التعصب الديني؛ لأميزه عن التساهل السياسي. أما المبدأ الأساسي لهما فهو واحد لا يتغير منه سوى التكوين الخارج والأحوال الظاهرة.
ثم التساهل يكون إما من الدولة وإما من الشعب، وإما أن يكون طوعا واختيارا وإما كرها وجبرا. أما التساهل الدولي الديني فهو يشمل الآن الدول الأوروبية بمعاملاتها بعضها مع بعض، ولكنه لا يشمل الشعوب التي يدعوها الأوربيون متوحشة، فالدول لا تتساهل مع هؤلاء المساكين الضعفاء، بل تتساهل بعضها مع بعض؛ لأنها تضطر إلى ذلك وليس حبا بالمبدأ الشريف، فكثيرا ما نراها تشهر الحروب على القبائل الضعيفة وتدعوها حروب الإنجيل وذلك لكي يعتنق «البرابرة» الدين المسيحي كرها وجبرا. وهذا هو التعصب الدولي الديني، هذي هي الاضطهادات التي كانت تمارسها الدول الأوربية المسيحية ضد بعضها والآن تمارسها ضد «البرابرة» - كما تزعم - والبرابرة قوم يشعرون ويريدون مثلنا.
هذه هي حروب شارلمان واضطهادات الملكة حنة الإنكليزية والملك كارلوس الإفرنسي هذه هي مذبحة ليلة القديس برتلماوس، فعوضا عن حدوثها في باريز وفي الجيل السابع عشر تحدث الآن في صحاري إفريقيا وفيافي آسية وتلول السودان وفي آخر الجيل التاسع عشر، يا للعار ويا للشنار! عبثا يكتب العلماء ويندد المصلحون ويبحث الفلاسفة، عبثا أتى السيد المسيح إلى الأرض لمثل هؤلاء الاقوام.
أما بين الدول المسيحية بمعاملاتها مع بعضها فلسنا نرى للتعصب الديني أثرا فصار الكاثوليكيون بأمن وسلام في الجزائر البريطانية، والبروتستانيون يأمنون على أنفسهم في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا واليهود، لا خوف عليهم من الأخطار والطرد في أي بلاد حلوها - ما عدا الروسية - وصرنا نرى في مجالس الأمراء الإنكليزية اللوردة والنواب الكاثوليكيين واليهود، وفي الدولة العثمانية نرى الموظفين على اختلاف نحلهم ومذاهبهم من المسلمين والمسيحيين والدروز. فالتساهل إذا في الدولة موجود غير أنه بين الملل والشعوب المختلفة مفقود؛ لأن الكاثوليكيين في هذه البلاد الحرة كطائفة لا يحبون البروتستانيين والبروتستانيون يكرهون الكاثوليكيين، وقس على ذلك في كل الأمم لا سيما في الأمة السورية، فلو كان بوسعنا نحن السوريين كلنا لاضطهد بعضنا بعضا وشهرنا على بعضنا الحروب الدموية، ولكن الدولة لا تساعدنا على الاضطهاد الديني ورؤساء الأديان لا يستطيعون ذلك وحدهم، ولعلهم لو استطاعوا لا يترددون.
عندنا نحن شيء أقبح من الاضطهاد وأضر من الحروب، عندنا السياسة السرية والأيدي الخفية والأعمال الباطنة الشيطانية، فكل هذه المنكرات تشير إلى غرض واحد، وهي أكبر باعث على ابتعادنا وانقسامنا على بعضنا وقيامنا ضد بعضنا، فالسياسة الخفية هذه أقبح من الاضطهاد؛ لأننا بالاضطهاد نستأصل دابر من خالفنا بالمذهب فلا يبقى لنا معاند مفاخر ولا عدو مكابر.
ولكن السياسة السرية تفسد القلوب وتقتل في الإنسان كل عاطفة شريفة، السياسة هذه هي الجبن والضعف واللؤم والخيانة والغش والنفاق والأيدي التي لا تظهر مخالبها إلا في الظلمة الكالحة يدعو عليها بالكسر كل حر صادق وكل شجاع، هذه سياسة سيئة غايتها وخيمة عاقبتها، وأبناء أمة واحدة يبقون بسببها منقسمين منفردين عاجزين عن العمل مشمولين بالخمول ومكتنفين بالجهل، فيتسلط عليهم شعب آخر وأمة غريبة فيبقون أذلاء جبناء إلى ما شاء ربك، هذه سياسة لا طائل تحتها ولا نجاح وراءها، بل إن صاحبها يلقى الفشل ويبتلى بخيبة الأمل قبل أن تمتد نيران فتنته فتفضي بالأمة إلى البوار.
أيها السوريون نحن أمة لا يتجاوز عددها ثلاثة ملايين نفسا، منهم مليون متشتت في أربعة أقطار المعمور، فإذا وجد فينا خمسة عشر حزبا أو ملة فماذا يا ترى تكون عاقبة شقاقنا وانقسامنا.
ألا يكفينا الضعف الذي يشملنا بكوننا أمة صغيرة حقيرة حتى نبتلى أيضا بضعف الانقسام، وماذا تكون قوة كل حزب أو كل طائفة إذا شرعت تعمل عملا خطيرا يستغرق الوقت الطويل والسهر والكد والاجتهاد، ويستوجب تضحية المال والنفوس وخيرات البلاد.
أي عمل قامت به هذه الطوائف الصغيرة وكانت فوائده أكثر من أضراره؟
فلو كان عددنا مائة مليون لما ضرنا انقسام الأحزاب إلى عشرين حزبا ولا خمسة عشر طائفة فعندئذ يكون الحزب قويا، وإذا شرع يعمل عملا أو ينهض نهضة سياسية أو أدبية كللها بالفوز والظفر. هذه الأمة الأميريكية يبلغ عدد سكانها ما فوق الثمانين مليونا، ومع ذلك لا نرى فيها أكثر من خمسة أحزاب سياسية. وأما الطوائف الدينية فكثيرة ولكن لا قوة ولا ذكر لها في الأمور السياسية والوطنية والمدنية، قد سلبت منها سلطتها أو بالحري قتلت بيدها؛ ولذلك هي ضعيفة ذليلة. قد قالت الحكومة الجمهورية لهذه الطوائف الدينية ما معناه: لكل دين حق البقاء ولا حق لدين أن يبيد دينا آخر بالقوة الوحشية.
لكل دين حق البقاء! افتكروا في ذلك وأبقوا هذه الآية في حافظتكم، ودولتنا العثمانية تنهج نفس المنهج، فالمسلمون يتساهلون مع النصارى ويسمحون لهم بممارسة دينهم حسب طقوسهم وتقاليدهم. وبما أن الإنسان يجتهد ليستفيد من كل شيء أنتجت الدول - ولا سيما الدولة العثمانية - نتيجة حسنة تئول إلى سياستها بالراحة تعويضا عن لذة الاضطهاد الوحشية، فغدا التساهل ضربا من السياسة الدولية بواسطتها تستميل الدولة الرؤساء والرؤساء قادة الشعب وسادته، فتصبح البلاد بواسطة هذه السياسة براحة وطاعة، راحة لا تشكر ولا تراد وطاعة لا تحمد ولا تحد. إني أفضل الاضطراب والعذاب على هذه الراحة، إني أفضل الثورة على هذه الراحة الممقوتة، راحة الذل والخمول، راحة الجهل والعبودية.
وكانت قد اتخذت هذه الخطة الدولة الرومانية التي كانت تتساهل بوجود الأديان في الأجيال الأولى للمسيح. وقد وصف هذا التساهل المؤرخ الشهير غبن بكلام وجيز مفيد فصيح، قال: «إن أنواع العبادات على اختلافها كانت سائدة في العالم الروماني، وكان الشعب يعتقدها كلها صحيحة والفلاسفة يعتقدونها كلها خرافية والحكام رأوها كلها نافعة مفيدة.» هذا كلام فيلسوف ومؤرخ مدقق، افتكروا به وهكذا انتشر التساهل وجلب على الشعب ليس فقط السلام والراحة بل الائتلاف الديني والجامعة المدنية، فالحاكم هنا رأى في الديانات المختلفة شيئا مفيدا، وقال في نفسه: فلندعهم يختلفون ما زال اختلافهم يسبب غبطتنا وسعادتنا، ويؤيد سلطتنا ويعظم شوكتنا، ويرفع مجدنا.
والدولة العثمانية تتساهل مع النصارى كي تبقيهم أذلاء شاكرين ولرؤسائهم مطيعين ولسلطتها خاضعين.
قد برهنت لكم كيف الدولة تتساهل مع النصارى، ولا أظن أحدا منكم يشك في تساهل المسلمين معنا، ولكن عجبا! كيف أن النصارى لا يتساهلون مع بعضهم؟ الأجانب يتساهلون معنا ونحن لا نتساهل مع بعضنا، ولا نخالط بعضنا، ولا نواري اختلافاتنا عند مصلحة أمتنا، ولا نتناسى ضغائننا عند محبة وطننا ونجاحه.
ولربما قال بعض اللاهوتيين: كيف نتساهل مع من لا صحة لدينهم ولا حق في معتقدهم فأقول: إن التساهل مبني على التناقض والخلاف في صحة من ادعى الصحة وبوحي من ادعى الوحي، ولو لم يكن ذلك لما تساهلت الحكومة مع الطوائف المخالفة لمذهبها؛ لأنها الغاية القصوى من غايات الحكومة المتعددة هي أن تحامي عن كل مبدأ صحيح وتكفل لكل رجل حرية القول والفعل إذ لم تمس حرية غيره.
فلو تأكدت الحكومة أن الدين الفلاني هو الدين الصحيح لما كانت تساهلت مع بقية الأديان، ولا أجازت ممارسة دين يخالف هذا الدين الصحيح إلا لغاية سياسية كما ذكرت، ولكن لما كان الخلاف سائدا والتناقض شائعا والحكومة المدنية تهتم بسياستنا، وكل من رؤساء الأديان يدعي صحة دينه ضاع صواب الشاعر في ضوضاء أقوالهم فأنشد قائلا:
في اللاذقية ضجة
ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق
وذا بمأذنة يصيح
كل يعظم دينه
يا ليت شعري ما الصحيح
الله لا يفضل أمة على أمة ولا طائفة على طائفة، الله لم يصطف له في الأرض شعبا خاصا من حيث إنه ذرية لها حق الانتماء إلى اختيار الله لها دون غيرها، وما يقرأ في التوراة من تفضيل الإسرائيليين على غيرهم فلكون عبادة الأصنام والمنحوتات وسائر المخلوقات هي من خرافات الدين .
فلو تركها قوم من المغضوب عليهم كما في التوراة واستساروا بحسب الناموس الطبيعي لكانوا كالإسرائيليين الذين استلموا الوصايا؛ إذ الوصايا العشر كلها طبيعية يفهم ضرورتها العقل المتنور ويغلط من يفهم اختيار الله للإسرائيليين أنه اختارهم ليعضدهم ويهديهم دون غيرهم، فلو كان هذا هو المفهوم لبقيت عجائبه فيهم بعد مجيء المسيح أيضا.
ولكن عدل الله أرفع من أن يحصر خلاصه بذرية دون غيرها؛ ولذلك قال في الإنجيل الطاهر: اذهبوا وبشروا كل الأمم، أن من سار حسب الشرائع الطبيعية فعمل الخير وابتعد عن الشر كما يرشده عقله ولم يتوصل إلى معرفة الدين الحقيقي فإنه لا يهلك؛ لأن الله رءوف ورأفته لا منتهى لها؛ ولذلك أقول مع محمد
صلى الله عليه وسلم
ما الناس إلا أمة واحدة. هذه آية منزلة وهي عين الحكمة التي أوحاها الله لأوليائه، ما الناس إلا أمة واحدة، افتكروا فيها، إنها لآية فلسفية سامية وما الدين التوحيدي إلا دين واحد، فكلنا نتحد يا رب، وكلنا نعبد إلها واحدا.
قلت: إن التساهل مبني على الخلاف وادعاء الحق اللذين قد يكونان أوصلا الشبطيقيين إلى الشك في كل شيء، فقالوا عن كل أمر: «لا ندري» وهم اللا أدرية المسخور بهم؛ لأنهم يقولون لا ندري عما هو حقيقة مدركة لا لأنهم يقرون بقصورهم عن إدراك مسائل شتى وحقائق فوق العقل. ففي مثل هذه الحال تفتخر العلماء والحكماء بقولهم لا ندري جوابا عن المسائل التي تفوق مداركهم والكنوه الإلهية التي يعجز عن تحديدها العقل البشري، فلم نتعصب ولم نستبد ما زلنا نتذبذب من ضعفنا عن البحث في أمور دينية كثيرة لم يصل إليها. العاقل من قال لا أدري جوابا عن مسألة لا علم له بها، فقد برهن عن صحة عقله وسلامة ذوقه وحسن رأيه وعمق حكمته وثاقب فطنته.
وقول القائل: لا أدري كما قال العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي خير من أن يقال له أخطأت. وقد عد ذلك من جملة مآثر ذوي العلم وأدلة كماله فيهم، حتى إن السيوطي عقد بابا في كتاب من مؤلفاته في من سئل من العلماء عن شيء وقال: لا أدري. فذكر عدة من مشاهيرهم كالأصمعي وابن دريد والأخفش وأبي حاتم ... وغيرهم من أهل هذه الطبقة. قال الزعفراني: كنت يوما بحضرة أبي العباس الثعلب فسئل عن شيء فقال: لا أدري.
فقال له بعض من حضر: أتقول لا أدري وإليك تضرب كبار الإبل وإليك الرحلة من كل بلد؟ فقال: لو كان لأمك تمر بقدر لا أدري لاستغنت، وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل له: فبأي شيء تأخذ رزق السلطان؟ فقال: لأقول فيما لا أدري: لا أدري.
ويقرب من ذلك ما حكاه بعض علماء العصر من الفرنسيس قال: إن إحدى خواتين الأشراف تصدت يوما لأحد مشاهير العلماء في مجلس حافل، فقالت له: أمطر يكون بعد الهلال أم صحو؟ فقال: لا أدري. قالت: إذا ما علة اتصال الغيث في هذا العام؟ قال: هذا مما لا نعلمه، قالت: أتظن سكان المشتري يكونون على خلقنا؟ قال: أيتها السيدة إني لا أعلم شيئا عن ذلك. قالت: يا عجبا فلم يتبحر المرء في العلم إذا؟ قال: ليقول أحيانا إنني لا أعلم شيئا.
فلنتساهل إذا في الدين، إذ إننا لا ندري، والذي يدعي المعرفة هو هو الذي لا يدري بأنه لا يدري بل يخبط في الأمور خبط عشواء، فليبق كل على دينه إذا دله عقله على صحته بعد التنور الكافي والترفع عن الأهواء ولا ينتظرن أحد رؤية دين غير مستصوب بتمامه كما يرى الحقائق الرياضية والعلمية مثلا مما هو مستصوب بتمامه.
ولتجمعنا الوطنية إذا فرقنا الدين والله لا يريد التفريق.
لا تأخذوا كلامي على غير مأخذه ولا تحملوه على غير محمله وتقذفوا علي - لحق ظاهر - بكلمة فتقولوا: وا أسفاه! على من لا يعرف الدين الصحيح. فإن قلتم ذلك فأنا أنشد معكم قائلا: أسفا على العالم بأسره ما أكثر الضلال فيه، واصغوا إذا شئتم لأقص عليكم رؤيا رأيتها ذات ليلة، وكنت قبل ذهابي إلى الفراش أترصد النجوم والكواكب وأستطلع طلعة البدر تحدجني السماء بعينها الزرقاء وأتأمل في ما رصعتها به يد القدير من الدراري الزاهرة كالمصابيح الباهرة.
حدث لي ذلك لما كنت في جبل لبنان الجبل العزيز الذي كثرت فيه الخرافات وتعددت بين سكانه البسطاء المذاهب والديانات. الجبل الذي ترى فيه أكثر جهاته الشمامسة والكنائس والأديرة والقلانس، الجبل الذي ابتزت خيراته الكثيرة رؤساء الدين والدنيا وكثرت فيه خيرات الرهبانيات العديدة وضاعت بين كيس هذا وجراب ذاك، وملكت أرزاقه الرهبانيات العديدة الوطنية والأجنبية، وفي مقدمتها الرهبانية اليسوعية.
كنت في تلك الليلة أتأمل في الكواكب والبدر والثريا ودرب التبان التي تدعى أيضا نهر المجرة، وقد شبهتها بدرب التساهل على الأرض؛ لأنها بيضاء نقية تسري بها النجوم في مناطقها لا تلتطم فهن مؤتلفات مفترقات لا تتساقط منها الشهب ولا تتنافر أجرامها في دورانها.
فلكثرة تأملي في الخالق والعزة الإلهية في تلك الليلة البهية حلمت بأني صعدت إلى السماء حيا في مركبة من نار، ولما دخلت تلك الجنة الإلهية التي يعجز عن وصفها بيان الإنسان رأيت هناك عرشا مرتفعا عظيما ينبهر النظر منه لشدة تألقه ولمعانه، ورأيت أمام ذلك العرش أربعة رجال منتصبين ممتثلين أمام الديان العظيم كل منهم يرشق الآخر بنظرة الغضب والبغض فسألت أحد الملائكة عنهم، فأجابني قائلا: إن هؤلاء هم ممثلو أديان العالم في السماء فهذا سفير المسيحية، وذاك سفير الإسلام، وهذا سفير البوذية، وذاك سفير اليهودية. فقلت: وماذا يبتغون من العزة الإلهية، فقال: قد أقلقوا راحة الملائكة وسكان هذه الديار بخصوماتهم واختلافاتهم المتواصلة وجاءوا الآن يستغيثون رب السماوات والأرض، وبعد أن تشاغبوا وتشاكسوا وأوشك أن يفضي بهم الأمر إلى القتال نظر الديان العظيم إليهم برأفة وحنان وقال: كلكم يا أبنائي صادقون، كلكم صادقون.
قلت في بدء خطابي يجب علينا أن لا نجيز ما لا يستصوب بتمامه أن يفرق بيننا ويشتت شملنا ويقسمنا على أنفسنا كوننا أمة ضعيفة صغيرة، نحتاج إلى التناصر والتعاون غاية الاحتياج. ولم أقل ذلك إلا بعد أن رأيت كيف أخذ الدين منا كل مأخذ فنخلطه بكل أشغالنا ونتخذه حجة بكل أعمالنا فالتجارة عندنا تجارة دينية والجمعيات جمعيات دينية والنزل (اللوكندات) نزل دينية والعتال عتال ديني ... وقس على ذلك. وهذا الذي يبعث بنا إلى الانقسام الذي يسببه التعصب الديني الذميم .
فلنتناس الديانة في التجارة ولننبذ التجارة في الاجتماعات السياسية والأدبية ولنسجد لربنا ولنمجده (إذا كان لنا رب غير المال) مفترقين في المعابد والكنائس فقط؛ إذ إنها شيدت لهذه الغاية، وإني لأعجب من التناقض الذي يخالط أعمالنا وعقائدنا فمن وجه نقول: إن الدين هبط من وراء الغيوم، وهو مقدس. ومن وجه آخر نستخدم الدين لتنفيذ مآربنا الدنيئة فنسلب منه القداسة، وننزع عنه الاحترام بإدخالنا إياه الدوائر المدنية من تجارية وسياسية وأدبية.
هل أوحي الدين ليقينا من الفاقة ويكفل لنا المسرة واللذة في هذا العالم؟
هل أوحي الدين لنتخذه عضدا لنا بتحقيق أمانينا الدنيئة وابتغاء الأشياء الزمنية التي لا حد لها؟
هل أوحي الدين ليساعدنا على الجشع والطمع والتحامل على أبناء جنسنا والازدراء بهم؟
هل أوحي الدين ليكون سببا أولا للخصام والشقاق والقتال؟
هل أوحي الدين لتتسلح به فئة من الناس ضد فئة وتستخدمه كسيف تسله على كل من لا يقر لها بالسلطة الوهمية؟
هل أوحي الدين لتأسيس الدواوين التفتيشية التي تألفت في رومية وإسبانيا، والتي أرعبت العالم بظلمها واستبدادها وجرائمها الفظيعة؟
هل وجد الدين لبعضهم وسيلة لإفساد الهيئة البشرية؟
هل وجد الدين كي يستخدمه الرؤساء آلة نافعة لتنفيذ مآربهم الخصوصية وغاياتهم الشخصية؟
هل وجد الدين كي يتعصب به خدمة الأديان ويستأثروا بالسلطة المسلوبة، فيظلموا العباد ويضطهدوا من خالفهم في الرأي، ويحتقروا من هو أعظم منهم علما وفلسفة وعقلا؟
هل وجد الدين كي نفسده ونصلحه ونغيره ونقلبه بطنا لظهر؟ كلا ثم كلا ثم كلا.
لو نظر الله - عز وجل - كما ينظر البشر إلى نتيجة وحيه لما كان تعذب وتنازل ليكلم موسى وعيسى ومحمدا صلواته عليهم جميعا، ولو نظر أيضا إلى أن عاقبة الدين الذي أنزله ستكون الاضطهاد والطرد والحروب والشقاق والخصومة لكان أبقاه عنده في السماء ولكن الله ... الله أعلم.
الدين إما موحى وإما غير موحى، إما مقدس وإما غير مقدس، فإذا كان موحى ومقدسا فلا يحق لنا أن نتخذه واسطة لتحسين أشغالنا التجارية وتنفيذ غاياتنا الشخصية فنلحق بأمتنا الضرر الجسيم إذ إننا نكون حجر عثرة في سبيل الجامعة التي يجب أن تجمعنا كسوريين، ونحن بحاجة كلية إلى الجامعة الآن قلت وأقول ذلك مرارا، وأما إذا كان الدين غير موحى وغير مقدس فأرى من وجه الحكمة أن لا نتمسك إلا بالجيد منه وننبذ الباقي ظهريا نبذ النواة. ولكن الدين مقدس؛ ولذلك يقدم له الشعب الاحترام ومنه ما قدسته العوائد التي مكنها الزمان وثبتتها الممارسة، وكفى بذلك قداسة تفرض علينا الاحترام والتوقير والاعتبار.
لماذا إذا نستخف بالدين ونتخذه كألعوبة نلتهي بها في الشوارع والحوانيت، نحن بإخراجنا الدين من الكنائس لغاية عالمية نرذله ونجدف عليه، ومن التعصب الممقوت أن نميز كل حانوت وكل بيت تجارة وكل إدارة أو كل جمعية بدين مخصوص، فنقول هذا التاجر ماروني وذاك الطبيب أرثوذكسي، وهذا الصحافي كاثوليكي ... وما شاكل ذلك. ما هذه الحالة التي وصلنا إليها، أينقصنا شيء إلا أن نضيف إلى أسمائنا أسماء طوائفنا ونقول: زيد الماروني، وعمر الأرثوذكسي، ومحمد المسلم؟ فتشوا معي لأريكم كيف تنقسم تجارنا وجرائدنا ونزلنا وأطباؤنا وجمعياتنا، أولا عندنا التجار المارونيون والتجار الأرثوذكسيون والتجار الكاثوليكيون والتجار البروتستانيون.
وأي من هؤلاء التجار المستقيمين يبيع سلعه وسبحه ودبابيسه لقديسينا المكرمين، أيتعامل التاجر الأرثوذكسي مع مار متري ومار نقولا، أيتعامل صديقنا الماروني مع أبينا مار مارون، وعندنا الجرائد المارونية والجرائد الكاثوليكية والجرائد الأرثوذكسية، وعندنا المطاعم المارونية والمطاعم الأرثوذكسية والمطاعم الكاثوليكية والمطاعم البروتستانية، وأي منهم نزل طعامها من السماء وهل يريد القديسون أن نمجدهم بالكبة والهريسة والمجدرة، وعندنا الجمعيات الخيرية المارونية والأرثوذكسية والكاثوليكية، وما ضرهم لو كانت كلها جمعية واحدة، جمعية خيرية سورية.
ونار إن نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رماد
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
وهذه الحالة تعتور كل أعمالنا وأشغالنا وحرفنا.
متى تزول الشقاقات الدينية ويداس التعصب تحت نعال المدنية؟
متى نؤلف جمعية التساهل، ونبني كنيسة التساهل، ونشيد مدرسة التساهل، ونؤسس جريدة التساهل، ونفتح محل التساهل ولوكندة التساهل، وتصير أعمالنا كلها تساهلا بتساهل، أي: متى تشملنا هذه الحالة السعيدة ؟
أنا الآن أقترح على أصحاب جريدتنا العربية في الثغر خصوصا وفي العالم العربي عموما إذا كان صوتي هذا الضعيف يصل إليهم أن ينشروا على صفحات جرائدهم الغراء إعلانا بأحرف ضخمة كبيرة عن التساهل الديني وأنه يعطى بلا ثمن. ومن أراد أن يقتنيه ويعمل به فليطرق باب ضميره، فهو البائع وهو الشاري، هو الواهب وهو الموهوب. ولو كنت ذا قدرة مالية لنشرت هذا الإعلان على نفقتي فيسدني الحساب الله يوم الغنيمة، يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا، فلنتساهل إذا، فلننشر إعلان التساهل.
التساهل أيها الشيوخ الأجلاء، التساهل أيها الشبان الأدباء، التساهل أيها الصحافيون والأدباء، التساهل أيها التجار والرؤساء، التساهل أيها السوريون الأحباء، التساهل! لو كان لي ألف لسان ولو تكلمت من الآن إلى يوم الدين لما عييت من تكرار وترديد هذه اللفظة العذبة السهلة اللطيفة، لفظة كرهتها الأجيال المتوسطة وكلف بها الجيل التاسع عشر، لفظة عززتها الجمهورية في هذا الجيل، لفظة انفتحت لها قلوب المتمدنين المخلصين لأبناء جنسهم، وتأهلت بها الضمائر الحرة والعقول الصحيحة، لفظة طيب شذاها يملأ الفضاء وذكاء عرفها ينعش الصدور، هي أحسن وأظرف وألطف وأبدع وأمتن وأجمل وأرفع وأسهل لفظة وجدت في معاجم اللغة.
التساهل هو أساس التمدن الحديث وحجر زاوية الجامعة المدنية، التساهل شدد عزم الأحرار فبرزت من عقولهم أسمى الأفكار.
التساهل أوجد الترقي والتقدم في كل فروع العلم والدين والفلسفة.
التساهل أيد سلطة الضمير ومحق السلطة التي لم ينزل الله بها من سلطان.
التساهل أعطى كل امرئ حقه فتمتع به ومارسه بحرية واستقلال.
التساهل وضع حدا للاضطهادات الفظيعة وكسر السيف الذي استخدمته الدول لاستئصال شأفة من خالفها بالمذهب.
التساهل أطفأ بنفسه القوي النار التي أضرمها الإكليروس لحرب اليهود والكفار.
التساهل جعل كل رجل صحيح العقل والجسم أهلا للوظائف في الدولة وأهلا للانتخاب.
التساهل قوض عرش التعصب وبدد جحافل الجور والعسف الدينية .
التساهل قال للكنيسة: أنت سلطانة وقال للإنسان أيضا: أنت بذاتك سلطان، وكل له حدود، وأينما وجدت الحدود كانت الحقوق وأصبح الأمر خارجا عنها ظلما والإنهاء جورا.
التساهل هو اللين والرفق والمسامحة، وهو الحلم والسلام والحكمة.
التساهل يحسم الاختلاف ويمهد سبل الائتلاف.
التساهل يزيد الإنسان غبطة وسعادة ونجاحا في الحياة الدنيا، ولا يضيره في الآخرة.
التساهل هو الطريق الوحيد الذي من تحته تجري الأنهار وعن يمينه ويساره الأشجار، طريق يدر لبنا وعسلا، طريق مستو مستقيم لا يميل بنا عن روض السماء.
التساهل هو الدواء لكل داء أدبي أو ديني أو سياسي أو علمي.
التساهل أصيل لا تنكره التوراة ولا الإنجيل ولا القرآن ولتأكيد ذلك نذكر بعض الآيات الإنجيلية والقرآنية. «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فدع له رداءك أيضا، ومن سخرك ميلا فسر معه اثنين (متى 65 و40 و41) إن الله لا يحابي بالوجوه، فكل رجل من أي أمة كان يصنع الخير ويكره الشر فهو مقبول عند الله «بطرس.»
افعلوا بالغير ما تريدون أن يفعله الغير بكم أو كما قالها كنفوشيوس الذي عاش قبل المسيح بأربعمائة سنة «لا تفعلوا بالغير ما لا تريدون أن يفعله بكم»، وهذه الآية هي منزلة، هذه الآية الذهبية الفلسفية هي كل الدين وكل الأدب وكل الشريعة وكل العدل وكل الفضيلة.
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (سورة البقرة).
بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (سورة هود).
من أسلم وجهه لله وهو محسن. ما قال: وهو ماروني أو أرثوذكسي أو مسيحي أو يهودي أو محمدي، قال: من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ما أجمل هذه الآية وما أشرف تلك الآية الذهبية التي مر ذكرها، إن هاتين الآيتين عظيمتان الواحدة منهما من الإنجيل والثانية من القرآن، إنهما منزلتان ذهبيتان فلسفيتان، أني أبيعكم كل الكتب المقدسة بهاتين الآيتين.
ادفع بالتي هي أحسن السيئة (سورة المؤمنين) أليس هذا ضربا من التساهل
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن (سورة العنكبوت) أيشتم من هذه الآية رائحة التعصب؟
التساهل إذن هو الناموس وهو الطريق وهو النور وهو معطي الحق وهو الحياة وهو روح الله. هو أول نجاح العمران وآخره هو الألف وهو الياء.
التساهل هو الباب ومن يدخل فيه لا يهلك فلندخل إذا فلندخل! فلندخل! فلندخل!
المقالات
وصية فؤاد باشا السياسية
1
قيل: إن دخول الحقيقة قصور الملوك لمن أصعب الأمور، وهي حقيقة جديرة بالنظر، فلو تأملها الساسة العثمانيون والمصلحون لكانوا يقلعون عن مخاطبة الحاكم في إصلاح شئون الدولة، فالحاكم لا يصلح، الحاكم يحكم، وعلى المحكومين إذا كان النير ثقيلا أن يخلعوه وينبذوه، على المحكومين إذا كان الحكم ظالما أن يصلحوه أو يأبوه.
فالحاكم الظالم مظلوم مثل رعيته وكفاه متاعب الحكم وعذابه متى بدأ النير يتقلقل على رقاب العباد، لو كنت أنت الحاكم أيها القارئ المظلوم وجاءك وزيرك ذات يوم يقول: قد تخلع النير وتفكك يا مولاي فماذا تقول له إذا كنت لا تستطيع اصطناع أو ابتياع نير جديد، أتأمره بأن ينزع النير المخلع أو يصلحه؟ لا فإنك تقول له: أصلحه وثبته في مكانه، وهذا هو الإصلاح الذي يباشره الملوك والسلاطين إذا كان يرجى منه إصلاح، وجدير بنا أن نذكر أن الإصلاحات التي جرت في الدول الأجنبية لم تكن إلا نتيجة القسوة التي استخدمها الشعب نحو حاكمه، والشعب لا يلتجئ إلى هذه الوسيلة الفعالة إلا إذا أفاق من سباته وتنبه إلى حقوقه وتهذب شعوره نوعا، بدل أن نوجه الكلام في وصيتنا السياسية إذا إلى الحاكم لنعلمه بأن النير تخلع ويقتضي إصلاحه، بدل أن نبسط الكلام إلى السلطان في كيفية تأييد وتعزيز دولة استبدادية؛ كان الأجدر بنا أن نبسطه إلى الشعب المظلوم فنريه بعض أسباب الظلم التي تورث البلاء والشقاء، ونهديه إلى بعض الوسائل الفعالة التي تزيل هذه الأسباب.
فلو وجه فؤاد باشا خطابه إلى الأمة بدل أن يوجهه إلى حاكمها، لو وجهه إلى المظلوم بدل الظالم، فكان أفاد حيث أجاد؛ لأن رأي من يطاع يؤثر في الشعب الجاهل أكثر من رأي من لا يطاع. والأفراد المستنيرون يثقون بكلام وزير فقهته الحوادث وأنارت العلوم فؤاده، لا سيما وفي هذه الوصية كلمته السياسية الأخيرة وكلمة السياسي الأخيرة قلما تشوبها السياسة.
وقد أدرك هو ذلك إذ قال: «إن الصوت الخارج من القبر لا يكون كاذبا.» على أنه إن لم يكن كاذبا فقد يكون مخطئا، وقداسة الضريح لا تمنعنا من أن نشير إلى هذا الخطأ، نشير إليه مع إجلالنا صاحب الوصية واعتبارنا وصيته كمجموعة آراء سياسية فيها الغث وفيها الثمين، فإننا نحترم بعض السياسيين ولكننا لا نأمن أحدا منهم، أما الوصية إجمالا ففيها دليل ناصع على اختبار صاحبها الواسع وحكمته وعلى تعمقه في درس ما دق وخفي من الأمور السياسية.
وفيها أيضا من الآراء السديدة والحكم البليغة ما يسر ويدهش المتفلسفين وإليك بشيء منها:
إن ترقيات جيراننا السريعة وتأخرنا الناتج عن أغلاط أجدادنا الغير مقصودة قد أوقعنا الآن في مهلكة عظيمة لا يمكن الخلاص من عاقبتها الوخيمة إلا بقطع كل علاقة مع حالتنا السابقة والعمل على تجديد قوى الدولة بالوسائط العصرية الحديثة.
وكيف يتسنى للفرد أو للأمة الانسلاخ عن الماضي، إنها لإحدى طرق الإصلاح ولكنها ليست بالأقرب والأسهل، بل هي نتيجة لها مقدمات، وذروة ذات عقبات، فالانسلاخ عن الماضي ليس بأمر سهل بل وغالبا مستحيل، وأما التخلص من «أغلاط أجدادنا الغير مقصودة» فتلك مسألة أخرى ومن هذه الأغلاط غلطة مدنية عظيمة بل خرافة سياسية وخيمة لا نظنها تتسلط إلى الأبد على عقول الناس والأمم، فإن العلم يزعزعها وإن كانت متأصلة في الأجيال، والزمان يهدها وإن كانت راسخة كالجبال.
ونريد بهذه الغلطة بل بهذه الخرافة الحكومة الملكية حيث الأمة ومعظمها من الفقراء والبائسين تلزم بمعاش فرد عظيم فيها لا يتعيش قط في حياته فترضاه عليها ملكا وتعد له الصروح والقصور وتحيطه بالحجاب والحرس وتنفق عليه (ناهيك عن ذريته وحواشيها) ما فوق مائة أو مائتي ألف ذهبا كل عام، ومع ذلك فصاحب التاج والصولجان اليوم قلما ينفع الأمة (ألف سلام على ملوك الزمن القديم) وأما في زماننا فهذا الفرد العظيم يكون إما خيالا كمالك الإنكليز وإما مقلقا كإمبراطور ألمانيا وإما ظالما ك ...
ولكنهم كلهم يظلمون متى استطاعوا إلى الظلم سبيلا، فالحكومة الملكية غلطة من أغلاط الأجداد لا بد أن يصلحها العلم والزمان في كل مكان، وهناك غلطات أخرى ذكر صاحب الوصية بعضها، فالماضي من هذا القبيل يا أسيادي لا يتسلط إلى الأبد على المستقبل، والتقاليد لا تستعبد الأمم إلى الأبد، فإن القوى الكامنة في المستقبل الغير المحدود لا تقوى عليها سلطة محدودة هي ابنة أربعمائة أو ألف عام، بل من المستحيل أن تخضع الأبدية لبضع ساعات زائلة، ونسبة القرن إلى الأبدية كنسبة الساعة إلى الألف عام. ففي المستقبل إذا دول جديدة ورجال، ومن وراء المستقبل ينظر الله بعين واحدة إلى ذوي المحاريث وذوي التيجان.
أما الترقيات الحديثة التي يروم فؤاد باشا إدخالها إلى الدولة فإنها - في رأينا - لا تكفي لتعزيزها وإصلاح شئونها؛ لأن السكك الحديدية والتلغرافات والتلفونات والقوات الكهربائية والبخارية كافة تزيد الأمة قوة، ولكنها لا تزيدها عقلا، تزيد الملك مناعة ولكنها لا تزيده علما، والأمة اليوم أفقر إلى نور العلم الصحيح منها إلى نور الكهرباء، هي أحوج إلى التهذيب منها إلى السلاح ولعمر الحق إن الأمة المهذبة لأمضى سلاحا في يد الدولة، نحن الآن أفقر إلى مدارس راقية وطنية منا إلى السكك الحديدية.
وأما إذا وضع حجر زاوية هذه المدرسة عند حد خطوط «السكة» فلا بأس بالاثنين، وإذا كان ذوو الأمر يعاملونا مثلما كان أحد الأمراء الأشحاء يعامل ذويه فيقول لهم: اليوم تأكلون إما لحما وإما عنبا اختاروا أحد الاثنين فجوابنا حاضر «أمسكوا علينا البخار والكهرباء الآن وأسسوا لنا المدارس الوطنية، دعونا نسافر كما كان يسافر أجدادنا ولو فترة أخرى من الزمن، حكيم على حمار خير من حمار في السكة.»
لنعد الآن إلى الوصية فقد جاء فيها: «ولزيادة الإيضاح أقول إن دولتكم العلية إذا لم يكن لها قوة إنكلترا البحرية وقوة فرنسا العلمية وقوة روسيا العسكرية؛ فلا يمكن سلامتها.»
فقوة فرنسا العلمية تكون لنا في مستقبل الزمن إذا تأسست في المملكة اليوم المدارس العمومية الوطنية المجانية الإجبارية، وامتنع فيها تعليم الأديان لنتخلص رويدا رويدا من التعصب الديني الذميم الذي لم يزل ينخر في عظام العظام والمستنيرين منا. وتأسس من الجامعات الدينية المتعددة جامعة وطنية عثمانية واحدة، عندئذ يصير لنا وطن ننتمي إليه وتمد من العلم قوة تساعدنا على إدخال الترقيات الحديثة إلى بلادنا بواسطة شركات وطنية لا شركات أجنبية، فتعزز إذ ذاك الدولة ماديا وأدبيا، ونتمكن قليلا قليلا من مساواة الروسية بجنديتها وإنكلترا ببحريتها.
قلنا: إن التعصب الديني الذميم لم يزل ينخر في عظام العظام والمستنيرين من العثمانيين، وإليك برهانا على ذلك من نفس هذه الوصية، فإن صاحبها على ما هو عليه من سعة الاختبار وغزارة العلم ورجاحة العقل يظل متمسكا بما يدعيه «أغلاط أجدادنا الغير مقصودة» وينسى مرارا تلك النفس الراقية فيه، فترينا نفسه الفطرية ما يحاول أن يخفيه، فقد جاء في كلامه عن الدين الإسلامي والدين المسيحي (وليته لم يطرق هذا الباب) ما يلي:
ومهما بلغ عدد الزاعمين بأن الدين الإسلامي هو الحاجز دون ترقي هيئتنا الاجتماعية فإنهم جميعهم في خطأ عظيم وضلال مبين ...
فالدين الإسلامي لتجرده عن قواعد سر الثالوث والعصمة قد رافق مجرى الترقيات الكونية.
ولسنا نحن من الزاعمين بأن الدين الإسلامي هو الحاجز دون ترقي الأمة، ولكننا من الزاعمين بأن السفسطة تستولي حتى على عقول الوزراء والشعوذة أبدا تستهويهم، فإذا كان سر الثالوث يؤخر في ترقي الأمة ويضر في صالح الحكومة وجب أن تكون حكومتنا العثمانية أرقى بدرجات من الحكومات المسيحية لتجرد دينها الرسمي عن هذه الأسرار، وإذا كان الدين الإسلامي قد رافق مجرى الترقيات الكونية كما يزعم صاحب الوصية فلم لا نرى لهذه الترقيات أثرا في دولتنا العلية؟ لا والله إننا نحترم بعض السياسيين، ولكننا لا نأمن أحدا منهم، فإنهم دائما يؤثرون الحقيقة الوقتية الزائلة على الحقيقة الدائمة الأبدية، وإذا كان الفرق بين الاثنتين غير باد للقارئ اللبيب فبكلمة أبسط نقول : إن السياسي يستخرج دائما من ظروف الأحوال شيئا من الحكمة السطحية ويدمغها بدمغة الحقيقة السامية، ولولا ذلك لخلت أقوال فؤاد باشا من التعصب والتناقض، وهل ممكن أن تتوحد كلمتنا وتتحد عناصر الدولة المختلفة إذا كان وزراؤنا يتغرضون لغير داع ويتعصبون؟ خذ لك مثالا آخر من هذا التغرض والتحامل، فإن صاحب الوصية يشارك الفلاسفة في ذم الإكليروس ولكنه يبتعد عنهم منددا حينما يتعرضون للدين الإسلامي، أمعن النظر فيما يلي:
ويجب على الباب العالي أن لا يغمض الطرف عن المساعي التي ستبذل في سبيل اتحاد كنيستي الأرمن والأروام وأن يساعد - جهده - على انتشار المعتقدات الفلسفية بين التبعة المسيحية؛ لأنها ترفع عن عاتق بني البشر نفوذ الإكليروس.
وأما التبعة الإسلامية فهي بغنى عن مثل هذه المعتقدات! نعوذ برب الناس من شر المنطق والقياس، فإذا كانت المعتقدات الفلسفية تنفع البشر فلم يتمنى نشرها بين المسيحيين دون المسلمين؟ لا والله لا. إننا نذكر من المصلحين العثمانيين من كانت نواياه أنظف وأنزه من نوايا فؤاد باشا، فهو ضمنا يود لو أزالت الفلسفة الدين المسيحي، على أن الاعتقادات الفلسفية إما أن تكون مضرة بالأديان وإما أن تكون نافعة، فإذا كانت مضرة فالدين المسيحي لا يستحقها وحده وإذا كانت نافعة فلا يجوز أن يحرم منها الدين الإسلامي. أرأيت كيف أن الأقوال تسقط الرجال؟ هل اتضح لك أن بعض السياسيين لا يستحقون النعوت الشريفة التي ينعتهم بها الشعب الغافل، نحن نعلم وكل عاقل يعلم ما للإكليروس بل لرجال الدين على الإطلاق من النفوذ السيئ على الأمة ولكننا لا نقبل أن يقال لنا ذلك على سبيل التعصب من سياسي يود إذلالنا، فإذا شاركنا إخواننا المسلمون في انتقاد الإكليروس فليذكروا - دام فضلهم - بأن البطريرك والإمام صنوان، وأن الشيخ والكاهن أخوان. والسلام.
تركيا الجديدة وحقوق الإنسان
2
الكتاب النفيس هو الذي تشعر وأنت تطالعه بأن نفس الكاتب تتنفس في سطوره وخلالها، هو الكاتب الذي لا تجد في صفحة من صفحاته شيئا من جراثيم القنوط. هو الكاتب الذي يجري دم الحياة الراقية في كلماته ، ويشع نور الإخلاص من سطوره، وتتوفر فيه المادة التي تغذي النفس فتنعش فيها الأمل وتحيي منها العزيمة والإرادة، هو الكاتب الذي يولده العلم مقرونا مع الاختبار والحماسة مقرونا مع التفكر والجرأة الأدبية مقرونة مع الحكمة، بل هو الكتاب الذي تتجلى فيه النفس البشرية والذكاء البشري والصناعة الكتابية في أرقى وأجمل صفاتها وإن لم يكن كتاب صديقي جميل أفندي معلوف من هذه الطبقة العليا فهو من أعلى طبقة دونها.
ولعمري إن الكتاب الذي ينبه العثمانيين في هذه الأيام إلى أن الأمة العثمانية في بداية ثورة عظيمة، وأن الثورة السلمية لا تغني عن الثورة العلمية شيئا وأن التفرنج الحقيقي هي تمول لا تفرنج، وأن التمدن كالهواء والنور مشاع لا حجة للإفرنج فيه، وأن مدارسنا الإكليريكية والسلطانية هي المستنقعات في أرض الحرية العثمانية الجديدة، وأن الحكومة الدستورية ومجلس الأمة لا يسلمان من الخطر إن لم تصلح حالة العثمانيين الاجتماعية بإصلاح العائلة وحالتهم الأدبية بإصلاح المدارس.
وأن من الخطأ أن تضع حجرا واحدا من البناء الجديد قبل أن يسقط البناء القديم بأسره، وأن استناد الشرقيين على الدين في أحوالهم العالمية يقضي على مستقبلهم السياسي والاجتماعي والأدبي، وأن الحرية متى حلت أرضا لا تسمح ببقاء نصف أهلها عبيدا بينما النصف الآخر أحرار، وأن الحكومة التي تستعبد رعيتها يسلط الله عليها حكومة أقوى منها فتستعبدها، (وما ظالم إلا ويبلى بأظلم) وأن الثورة التي تنفع حقا شعوب الأرض هي التي يقوم بها المصلحون على المبادئ الفاسدة التي لا يقوم بها السياسيون على الحكومة؛ الكتاب الذي يصدع بمثل هذه الحقائق هو حري بالاعتبار، الكتاب الذي فيه مثل هذه المنبهات والمقويات لأمة دوختها المظالم السياسية وخدرتها الخرافات الدينية هو حقا جدير بأن يطالعه كل عثماني.
على أن المؤلف حبا بوطنه يفادي في بعض المواطن بحكمته فقد يطلق العنان لحماسته في مضمار ضيق، فيضطر - وقد بدت له الهاوية - أن يقف غير موفق دفعة واحدة، وهذا هو السبب فيما جاء في بعض الفصول من تزعزع الرأي والتضعضع، فإننا لا نستصوب البحث الآن فيما قد يعود على الأمة وهي لم تكد تقف على رجليها بالنكسة والبلاء، إذ ما الفائدة اليوم من البحث في استقلال الولايات مثلا والحكومة الرئيسية لم تتخلص بعد من سيطرة دول أوروبا ومداخلاتها؟ وما الفائدة من البحث في إقفال المدارس الأجنبية وإبطال الامتيازات الأوروبية ونحن لم نزل عاجزين.
وإن تحريض الشعب على مثل هذه الأمور يحدث في البلاد من القلاقل والفتن ما قد يلحق طفل الحرية منها لطمة واحدة فتقتله وتقضي علينا بالرضوخ لنير أوروبا. وأما نشر ما يدعوه صديقي جميل أفندي الديانة الوطنية، أي: ديانة حب الوطن، فهذا وحده يخلصنا رويدا رويدا من النفوذ الأجنبي من هذه المدارس الإكليريكية، وهذه الامتيازات الأوروبية، فمدارس (آبائنا) اليسوعيين مثلا تضطر أن تقفل أبوابها متى تأسست إزاءها مدارس وطنية كاملة العدة مستوفية الشروط.
والبوسطات الأوروبية تمنح مأموريها فرصة على الدوام متى رأت أن دخلها لا يقوم بنفقاتهم، والامتيازات الأجنبية تسقط دون أن نسقط أو نقوم عليها متى نبغ فينا رجال يستطيعون أن يقوموا بأعمال أصحاب هذه الامتيازات حق القيام، وكل ذلك ممكن يا أسيادي متى أصلحت داخلية الحكومة وظهرت فيها نتيجة أعمال الاختصاصيين الأوروبيين المشتغلين فيها الآن، كل ذلك ممكن متى بدأت الحكومة تؤثر المقتدرين والمتمولين والنابغين من رعيتها على أمثالهم من الأجانب.
حينما تنمو في الأمة عاطفة الوطنية يقوم الوطنيون إذا بما تطلبه حياتنا الجديدة وأمتنا الحرة من المشاريع الخطيرة، وبكلمة أخرى حينما تنشر فيها ديانة حب الوطن الجامعة المقدسة يضعف نفوذ الأجانب ويتلاشى وتسقط الامتيازات الأجنبية كما سقطت دولتنا الاستبدادية بطريقة هادئة سليمة.
هذا ما أحب أن أستلفت إليه نظر صديقي المؤلف؛ لأنني رأيته في مثل هذه المواقف يفادي بحكمته حبا بوطنه، ولعمري هي ضحية ثمينة في كل زمان ومكان، وفي أي سبيل كان.
فاتحة مباركة
جاء في النطق الشاهاني كما دعته الصحافة، أو خطاب العرش كما يدعى عند الإنكليز، أو خطاب الحاكم والوزراء كما هي الحقيقة أن السبب في فض مجلس النواب الأول هو أن الأمة العثمانية لم تكن إذ ذاك أهلا لحكومة نيابية، وهو عذر سياسي لا عذر حقيقي. وإن روح مجلسنا الأول لتتميز غيظا لدى استماعها هذا الكلام، وكأننا بها تقول: الكذب محذور في الدين ولكنه مباح في السياسية.
وكيف لا تكون الأمة أهلا لحكومة نيابية ومفاوضات المجلس في ذاك الحين أدهشت حتى الأوروبيين! فضلا عن أن الحاكم بأمره يستطيع أن يفسد ويستبد، بل الحاكم المطلق العادل الحاكم المحب رعيته العامل لخير أمته يستطيع أن يقلب حكومته الاستبدادية إلى حكومة نيابية في ليلة واحدة إذا شاءت جلالته، ولا ينجم عن مثل هذا الانقلاب السريع ما يضر بالأمة أو يقلقها؛ لأن من أطاع مليكه وهو ظالم يعبده لا شك وهو عادل.
وما حدث في الأمة اليابانية وحكومتها يؤيد من هذا القبيل حجتنا، وإننا لنكتفي بهذه الإشارة إلى ما جاء في الخطاب عن عدم أهلية الأمة؛ لأن ما مضى قد مضى ومجلس النواب قد عاد ليحيا إن شاء إلى ما يشاء الله.
ولكن في الخطاب مأخذ آخر للانتقاد، وعلى النواب والصحافيين أن يتيقظوا لمثل هذه التمويهات السياسية وليذكروا - دام فضلهم - بأن حكومتنا النيابية اليوم لم تزل مكتنفة بظل حكومتنا الأمس المظلم الكثيف، وإلى أن تخرج من تحت هذا الظل وتنفض عنها غبار السياسة القديمة سيبقى التمويه سائدا بين العرش والنواب أو بين الحكومة والأمة. وإنها - والله - لفاتحة غير حميدة ونحن في فجر حياة جديدة؛ لأن الحكومة التي تخرج من باب العسف والظلم فتدخل توا باب التمويه والمواربة لا تكون قد حققت آمال الأمة والوطن، إذا ماذا عسى أن يراد في ما جاء في خطاب العرش من أن السبب في إعادة مجلس النواب هو أن الأمة - والسعي في الثلاثين سنة الأخيرة لنشر المعارف كان متواصلا - أصبحت الآن أهلا لأن تحكم نفسها بنفسها، فهل يراد بكلام العرش أن الفضل للحكومة في نشر المعارف والعلوم في الأمة؟ أو أن بين الوزراء من يحسن المجون ويجد حتى في هذا الوقت فرصة للمداعبة.
ومن يجهل أن الحكومة الماضية سعت سعيا جميلا لنشر العلوم والمعارف بواسطة المراقبة؟ ومن ينكر بأن الجاسوسية كانت لها يد طويلة في زرع بذور الحرية، ومن لم يعلم بأن نور الحق والمساواة كان ينبعث على المابين من قعر البوسفور، وأن أشعة الدستور كانت تنعكس على العرش من منفى الأحرار ومن نجومهم الآفلة؟ أجل إن حكومتنا في الأمس كانت تروض الأمة وتؤدبها لتكون أهلا لحكومة نيابية، فالمراقبة والجاسوسية أستاذا الأمة الماهران والبوسفور والمنفى هما الفلق والقضيب، والحمد لله قد تحررنا بعد أن تكسرت رءوسنا وأرجلنا.
إن حكومتنا النيابية إذا لهي من مكارم حكومتنا الاستبدادية، شيء والله جميل! فمن يقول الآن: إن العوسج لا يثمر ثمرا طيبا؟ بل إن دستورنا هو من بنات مكارم «مالك رقاب العباد» لا نتيجة سعي الأحرار والجند لرفع النير عن رقاب العباد، فإن كان كذلك فلم لم يتكرموا به قبل أن جمع نيازي جنوده واستل أنور حسامه؟
لا يا أيها الإخوان، لا يحق أن يقال ذلك في هذا الزمان، واعلموا أننا في زمن لا يرد فيه تيار العلم مهما اشتدت المراقبة ولا يطفأ فيه مصباح الحرية مهما تعاظم الظلم والاستبداد، وأن ما جاءنا من أمواج هذا التيار ومن نور هذا المصباح فمن روح الزمان جاء لا من أرباب العرش والتيجان.
وقد تحررت الأمة العثمانية الآن وحبطت مساعي من حاول دفع هذا التيار العظيم وإطفاء هذا المصباح الكريم. ومن المغالطات أن ظلم الحكومة الماضية واضطهادها الأحرار وضغطها على المطبوعات ... إلخ تدعى كلها في خطاب العرش «السعي لنشر المعارف» فإذا كانت الصحافة لا تحتج على مثل هذا الادعاء والنواب لا يتحذرون من مثل هذا التمويه فحالتنا في نور الدستور والحرية لم تزل كما كانت في ظلام الظلم والفساد.
أشرنا في بدء كلامنا إلى أن النطق الشاهاني كتب بمؤازرة الوزراء - أو على الأقل - بمؤازرة الصدر الأعظم، وكل خبير في شئون الحكومات الملكية يعلم أن خطاب الملك لا يكون من قلم واحد ورأي واحد، بل هو غالبا نتيجة جلسات عديدة ومفاوضات طويلة بين الحاكم ووزرائه، ولو فرضنا أن الملك يستقل في عمله هذا كما يفعل إمبراطور ألمانيا مثلا فلا بد من أن يطلع على كلامه الوزير الأكبر قبل أن يلفظه فيغير وينقح فيه ليوافق الأحوال.
وخطاب العرش إلى مجلس نواب الأمة العثمانية لا يستثنى من هذه القاعدة، وفي الوزراء من هو من جمعية الاتحاد والترقي على ما نظن أو فيهم - على الأقل - من إذا أصدرنا منشورا باسم الجمعية يردفه بلفظة «المقدسة» فهل بدأت زعماء الأحزاب بالمجاملة والمخاتلة يا ترى، لا سمح الله، ولكن العبارة هذه، أي: «السعي في نشر المعارف» هي مقصودة لا شك والمقصود فيها - أيها الإخوان - التمويه والمواربة، وأنصار جمعية الاتحاد والترقي في مجلس الوكلاء يعرفون ذلك ويغضون الطرف ساكتين، وما ضرهم لو أعطوا الآن كل ذي فضل فضله، وتحروا الصدق في أول خطاب من خطب العرش لمجلس الأمة، ما ضرهم لو أهملوا - في الأقل - ذكر أمر لا يستطيع أن يوارب أحد فيه دون أن يشعر بنفور في نفسه من نفسه إذا لم نقل باستياء الناس طرا.
ومجلس النواب لم يستحسن هذا التمويه على ما ظهر لنا، وكنا نود لو عبر عن استيائه بطريقة إيجابية لا سلبية، فقد أنبأتنا البرقيات أنه عند الفراغ من تلاوة الخطاب لبث النواب صامتين ولم يفه أحد منهم بذاك الدعاء المعروف الذي طالما رددته الأمة في الزمن الماضي، وهذا على ما نظن هو هو جواب النواب على مواربة العرش وتمويهاته. على أننا كنا نود لو فاه أحد الأعضاء على الأثر بكلمة احتجاج وجيزة، ولكن إذا أظهر المجلس استياءه بطريقة سلبية، فعلى الصحافة - وهي خير صلة بين المجلس والأمة - أن تظهر ذلك بطريقة إيجابية، على الصحافة أن تبرهن الآن بأنها متنبهة متيقظة، وأن من حقوقها أن تطالب المجلس والعرش بحقوق الأمة، وأن ترد الفضل في نشر المعارف والعلوم إلى مكانه وذويه.
العفو العالي
جاء في الإرادة السنية التي قرأها علي جواد باشكاتب المابين في مجلس النواب أن «قد صدر العفو العالي عن العساكر الذين اجتمعوا في هذا النهار (يوم سقوط وزارة الاتحاديين) فلا يسألون عما فعلوا » وقد علمت الأمة جمعاء أن من نتائج اجتماع - بل هياج - العساكر المتمردة قتل ناظر العدلية وعضو من أعضاء مجلس الأمة، فما معنى العفو يا ترى، وماذا عسى أن يكون وراء هذا التسامح الشاهاني الجميل.
إن الاعتداء على أحد النواب - ناهيك عن قتله - يعد اعتداء على المجلس كله بل على الحرية والدستور بل على الأمة بأسرها، ولكن من يعفو عن أنصار الجهل والتعصب اليوم وإن عدوا بالألوف يعفو غدا عن أنصار النور والحرية وإن عدوا بمئات الألوف، أليس كذلك؟ وإن مراحم «جلالة مولانا» لأوسع من السماء، فأصدقاء الدستور وأعداؤه - الأحرار والخونة كلهم - يقيمون في ظلها الظليل آمنين، أليس كذلك؟
ولكن الريب خلة في بعض الناس، ولا غرو إذا وجد في المجلس من ارتاب بحسن نيات جلالة مولاه، فقام يعترض على ما جاء في الإرادة السنية فيما يختص باجتماع العساكر يوم قتل ناظم باشا والأمير محمد أرسلان. ولا فرق إن أصدر المرتابون احتجاجهم من المجلس أو من المكان المختبئين فيه، فإن مجلس النواب في مثل هذه الأيام هو حيث يجتمع أو بالحري حيث يختبئ النواب.
ومن جميل أخلاق الشرقيين وبالأخص: الأتراك أن الشدة وإن أنستهم واجباتهم المهمة لا تنسيهم فروض اللياقة والمجاملة، فقد قرأنا في صحف الأخبار رسالة تعزية من الرئيس الجديد للمجلس إلى والد فقيد الوطن والحرية، ورسالة أخرى على شكلها من الصدر الأعظم فقلت: وهل هذا يا ترى أهم ما توجبه عليهم الوطنية اليوم، هل هذا ما يتطلبه منهم الدستور ويفرضه عليهم اليمين الذي أقسموه؟ أنظل إلى الأبد عبيد المجاملة والمصانعة، أفي مثل هذه الدمعة الكاذبة تسر الأمة ويتعزى آل الفقيد، أما كان أجدر بالنواب أن يبعثوا إلى المابين كلمة احتجاج على ما جاء في الإرادة السنية فالمثل: «إن العفو من شيم الكرام» لا يصح دائما.
غدا يهيج الجنود ثانية فيقتلون آخر من النواب فتصدر الإرادة السنية بالعفو عن القاتلين، وكلما قتل أحد أعضاء المجلس يفر هاربا من يخاف على جلده ولا يخاف على شرفه ويمينه، فلا يمضي - والحال هذه - شهر واحد حتى تخلو كراسي النواب كلها فينعب فوقها ثانية غراب التقهقر والظلم ويقهقه تحتها شيطان المكر والدهاء والخيانة، أبمثل هؤلاء النواب تنتصر الحرية ويتعزز الدستور؟
في عهد لويس السادس عشر قبل انفجار بركان الثورة بسنة واحدة رفض البرلمان في باريس أن يصدق على قرض اقترحه ناظر المالية ليمونه سدا لعوز الملك والحكومة، فجاء في اليوم التالي لويس بذاته - وأمر البرلمان أن يصدق على هذا القرض فأبى ثانية وقام دسبريمنيل فأغلظ الكلام لجلالته وصرح بحقوق البرلمان على الحكومة، فخرج الملك ووزيره محتدمين غيظا وبعد أيام جاء الضابط داغوست ومعه فريق من الجند وبيده أمر بإلقاء القبض على دسبريمنيل فدخل المجلس وقال: جئت بأمر الملك، فقابله الأعضاء ساكتين واجمين، ثم قال: وبما أنني لا أعرف أحدكم دسبريمنيل أطلب إليه أن يقف لأن بيدي أمرا ... فقاطعه الأعضاء قائلين: كلنا هذا الرجل ولم يقف منهم أحد فخرج داغوست وجنوده يومئذ مثلما خرج مولاه ووزير مولاه في اليوم السابق.
فإن كانت هذه وطنيتهم بل هذه حماستهم وجرأتهم في أمر يعد طفيفا ماذا يا ترى يفعلون لو قتل الجنود أحد إخوانهم على باب المجلس، أيسمعون العفو عن القاتلين ساكتين، أيكتفون بتعزية أقاربه ويؤجلون البر بيمينهم إلى أن يزول الخطر، أتمتهن حرمة الدستور وكرامة مجلس الأمة، أيعتدى على الحرية وأنصارها، أيهرق دم النواب على باب مجلس النواب ظلما وعدوانا فيفر الجبناء من الأعضاء هاربين ويظل الباقون منهم ساكتين، أليس الاعتداء على أحدهم اعتداء عليهم أجمعين؟
أمر لويس السادس عشر بنفي دسبريمنيل أحد أعضاء البرلمان، فأجابه البرلمان بصوت حي: كلنا هذا الرجل، غمست حراب فريق من العسكر بدم الأمير محمد أرسلان فعفى السلطان عن الجانين وسكت النواب عن عفو السلطان، وكأني بهم يشكرون الله على سلامة دمائهم الكريمة! وهذا - أيها الإخوان - الفرق بين الشرقيين اليوم والغربيين في مجالسهم النيابية وتجاه ملوكهم .
إن الحراب التي صرعت الأمير محمدا أرسلان حاولت صرع الحرية والدستور، بل هي حراب أشربت سم الخيانة من أعلى مورد في الحكومة، فاذكروا هذا أيها الناس ولا تنسوه أيها النواب.
الحرية وحدها لا توحدنا
إني ممن يقولون بالطريقة البطيئة الثابتة في إصلاح الأمم والناس، إني ممن يرتأون أن لا خلاص للشعوب من الجهل والجمود والخمول إلا بالتهذيب والتربية، وما الثورة عندي سوى أمثولة صغيرة في تهذيب النفس وتثقيف الأخلاق؛ لأننا إذا تعلمنا أن نثور على المستبدين والظالمين من أسيادنا نتعلم أن نثور حتى على أنفسنا متى كنا من هؤلاء الظالمين والمستبدين، وهذا لعمري أهم من ذاك، ولكننا لا نحسن نحن السوريين لا هذا ولا ذاك. نحن قوم تعددت في بلادنا المدارس الأجنبية وكثر فينا التقليد والادعاء، كنا بالأمس في مقدمة الشعوب بالرضوخ للضيم والاستسلام للهوان، وصرنا اليوم في مقدمة طائفة من الناس لا يحركون في سبيل الأمة سوى القصبة واللسان.
ومتى كثر في الأمة المرشدون والناصحون المتربعون بدست السيادة بشر تلك الأمة بالهلاك، بدل أن تنصحني ساعدني، بدل أن ترشدني سر أمامي؛ إذ ما الفرق يا ترى بين منافق يناهض حاكما مستبدا ولص يندد باللصوص والقتلة؟ ما الفرق يا ترى بين متعصب يقول ما أجملك وما أسماك أيتها الحرية وبين شيطان يتغنى بمدح الملائكة؟ إن الاثنين عندي سواء.
على أنني أجد بونا شاسعا بين عالم لا يعلم أن العلم إنما وجد لنفع الناس لا لإثارة الفتن في الناس، ورجل عاش جاهلا ومات جاهلا وكان من آل الفضل في الناس. وإني - والله - لأفضل هذا الجاهل الصادق على ذاك العالم المنافق، إني لأوثر النفس الصافية الساذجة على نفس متفقهة لا تعرف من سبل الحياة إلا تلك الموحلة المظلمة، ولا من أماني الحياة إلا تلك التي يحبل بها دود الأرض وتتغذى من سم الأفاعي.
أجل يا أخي إن جمالا صالحا أو إسكافا حرا صادقا لخير من الأمراء والرؤساء والعلماء الذين لا يعرفون من الحق والعدل، ومن الخير والإحسان، ومن الإخلاص والفضل إلا أسماءها .
إن حاجتنا إلى التهذيب اليوم لأشد منها إلى السكك الحديدية والتلفونات، إن حاجتنا إلى العلم الصحيح الذي يهذب الأنفس ويرقي العقول ويثقف الأخلاق لأشد منها إلى العلوم اللغوية والفقهية واللاهوتية والخنفشارية. والتهذيب الصحيح ينبغي أن يعم عناصر الأمة بأسرها على السواء ليأتي بفائدة تذكر للأمة، وعندي أن أشد الويل والبلاء إنما هو في بيت يعيش تحت سقفه الجاهل والعالم معا.
إن وطننا بهذا البيت أيها الإخوان، وعناصر الأمة فيه كأفراد تنافرت أذواقهم وأخلاقهم وتعددت صبغاتهم القومية والدينية وتباينت فيهم درجات المدارك والعلوم، فإذا ارتقى عنصر من عناصر الأمة دون سواه يلتجئ غالبا إلى المهاجرة إذا ظلت العناصر المنحطة واقفة في طريق ترقيه كالسد في وجه المياه، أما الآية، ورب فئة صغيرة غلبت فئة كبيرة، فالتاريخ لا يشهد على صحتها إلا مرة في الألف؛ لأن الطبيعة لا تسمح أن تكون المعجزات فيها مبتذلة، والغالب المبتذل هو أن الأكثرية إن كانت في المجالس النيابية أو في الطبيعة تتغلب على الأقلية.
على حكومتنا الدستورية إذا أن تنتبه إلى هذا الأمر الخطير إن كانت ترجو أن ترتقي الأمة وتحيا، على حكومتنا أن تباشر تأسيس المدارس الوطنية العمومية الإجبارية المجانية المجردة عن كل صبغة دينية. وإن كانت لا تباشر قريبا فلا ترج يا أخا الحماسة كبير خير من هذا الانقلاب ومن هذا الدستور ومن هذا المجلس النيابي.
أظنك تعلم أيها القارئ العزيز أن لا غاية لي من الكتابة والخطابة والتأليف سوى نشر المبادئ الحرة والتعاليم السديدة في الأمة، وأن من تجرد عن المآرب السياسية وعن الأغراض الشخصية المادية يرسل كلمته في الناس دون أن يراعي خاطر أحد من الناس، منذ خمس سنوات عدت إلى وطني من العالم الجديد وحتى الآن ما عرفت من الرؤساء المدنيين والدينيين إلا من أحب أن يعرفني أو من جمعتني به التقادير، قضيت هذه المدة كلها بعيدا عن الرئاسة والسياسة فبان لي أن في طاقة الإنسان أن يعيش سعيدا دون أن يتزلف من السياسيين والأمراء أو عمال الحكومة والرؤساء، نعم عشت محروما هذا الشرف العظيم فكانت همومي الأدبية ومتاعبي السياسية أقل من هموم سواي من الأدباء.
عسى أن يعذر القراء مني هذه الكلمة الشخصية، فما قلتها إلا لأبني عليها قاعدة عمومية هي جديرة باعتبار كل من زاول صناعة الكتابة وأحب أن ينفع الناس بعلمه وأدبه. إن التقرب من العظام - وبالأخص أصحاب السيادة - منهم يفقد الكاتب مزية الحرية والاستقلال. هذه هي القاعدة العمومية التي قلت من أجلها كلمتي الشخصية، تكلمت عن نفسي، وما كنت لأفعل ذلك في غير هذه الأحوال لأؤكد لكم - أيها الإخوان - أن الآراء التي أبديها والمبادئ التي أنادي بها إنما هي ثمرة علم لا يعرف التفريق والتحزب ولا يفرق بين الجنسيات والأديان.
أحب أن أردد بعد هذا التمهيد كلمتي السابقة عن المدارس الوطنية وأردفها بكلمة ليست بأقل منها أهمية، وهي: «صيحة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح تذهب غدا بالأوتاد» إن الأمة العثمانية لا تصير حقا أمة واحدة متحدة راقية إلا إذا تأسست في البلاد المدارس الوطنية العثمانية المجانية الإجبارية، وتلقن فيها العلوم أبناء المسلمين وأبناء الدهريين وأبناء المسيحيين وأبناء اليهود معا.
بقي علي أن أقول كلمتي الأخرى، أننا لا نصير أمة راقية حرة بكل معنى الكلمتين إلا متى صار أدباء المسيحيين وأدباء المسلمين يتباحثون في أي موضوع كان، دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا دون أن يثير ذلك في شعب الملتين غبار الجهل وسموم التعصب، بل إذا كان لا يحق للمسلم أن ينتقد المسيحيين في شئونهم العمومية والاجتماعية ولا للمسيحي أن ينتقد المسلمين فلسنا - والله - بأمة واحدة وليس وطننا بذاك الوطن المجيد الجامع الذي يعبد في هيكله كل أبنائه على اختلاف المذاهب والعناصر والجنسيات، بل إذا كنا لا نتجرد عن صبغاتنا الدينية في شئوننا الوطنية والاجتماعية فحريتنا - أيها الناس - كلمة مقولة، وإخاؤنا لفظة غير معقولة، والمساواة عندنا قاعدة باطلة مرذولة.
نعم يا سيدي، إذا كان إخواننا المسلمون لا يساعدوننا في نشر التعاليم الحرة في الأمة، إذا كانوا لا يؤيدون - قولا وفعلا - آراء آباء الحرية والدستور، إذا كانوا لا يرددون صدى أحرار المغرب وعلمائه ومن ينحو اليوم في الشرق نحوهم من الأحرار الأصفياء والعلماء؛ فعبثا يحاول أبطال الدستور والحرية تجديد حياة الأمة والمسلمون العنصر الأساسي في الأمة.
وأما انتصار الجيش فلا مجد عظيما فيه إن لم يتبعه انتصار في العلم والتهذيب؛ لأن الجيش وإن دمر معاقل الحكومة الاستبدادية فنصره لا يزيل الجهل الذي أسست عليه تلك الحكومة، وما زال الجهل سائدا في الأمة. سيان عندي إن كانت الحكومة فردية استبدادية أو حرة نيابية، إن لم تباشر الحكومة في تدمير حصون الجهل إذا يعود الجهل فيدمر حصون الحكومة، ولا يتم لها ذلك إلا في تأسيس المدارس العمومية الوطنية مجردة عن كل صبغة دينية حيث أولاد المسلمين والمسيحيين واليهود والدهريين يتلقون كلهم العلوم على أستاذ مدني واحد، وتحت سقف واحد، ومن كتاب واحد، وعلى طريقة وطنية واحدة.
وما هذه ببدعة أنادي بها، فإن مكتب الصناعة في هذه المدينة أسس على هذه الطريقة الوطنية وحبذا لو أحيته اليوم الحكومة فيكون مثالا للمدارس العثمانية العمومية الإجبارية، وعبثا نحاول توحيد العناصر المتعددة في الأمة إذا كان التعليم لا يوحد على هذه الطريقة الوطنية الجامعة الحرة.
جلست مرة في قهوة من قهاوي البحر أتفرج على الناس يسبحون، تأملتهم في تلك الحالة الطبيعية وقد تجردوا عما يميز البعض منهم عن البعض، وقلت في نفسي: أين المسلم الآن وأين اليهودي وأين الكافر وأين المسيحي؟ رأيتهم يسبحون كلهم في بحر واحد تحت سماء واحدة وهم لا يستنكفون من أمواج تلعب حول قلوبهم كأنها قلب واحد وتغسل أجسامهم كأنها كلها جسم واحد. فقلت في نفسي: متى يا ترى تصير عقولنا مرنة نشيطة قوية كأجسامنا متى تصير أنفسنا كأمواج هذا البحر فلا تخضع إلا لناموس واحد هو ناموس الله، أو - في الأقل - متى تصير متساهلة كأبداننا فتسبح في بحر الآداب الواحدة وتحت سماء العلوم الواحدة دون تنافر ودون شقاق!
نظرت إلى البحر وأنا جالس في تلك القهوة فرأيت هناك المدرعات الحربية الأوروبية ومنها المدرعتان الإفرنسيتان «لاڤريته» و«فكتور هوغو» فكرهت الإقامة في بلاد لم تزل تحتاج فيها إلى مثل هذه المظاهرات الكاذبة، وهل كنا نشاهد المدرعات الأوروبية بصفة رسمية في بحرنا لو تأسست عندنا المدارس العمومية الوطنية منذ ثلاثين سنة، هل كانت تلطخ المذابح تاريخنا فتلحق بنا وبوطننا العار والشنار لو وحد منذ ثلاثين سنة التعليم فنمت في قلوب العثمانيين عاطفة وطنية شاملة وانتشر روح التساهل الديني في الأمة؟
لا يا إخوتي، أنا لا أحب أن أرى هذه المدرعات على شطوط بلادنا، أنا لا أحب أن يلتجئ أحد عناصر الأمة إلى دولة أوروبية أنا لا أحب أن أرى «فكتور هوغو» في بحر بيروت، بل أحب أن أشاهد روح فكتور هوغو متجلية في أرواح أبناء بيروت. لا أحب أن أرى «الحقيقة» على شواطئ سوريا بل أحب أن أراها في قلوب أبناء سوريا، أحب أن تحمينا المبادئ السديدة لا المدافع والمدرعات، أحب أن يحمينا العلم الخالص من الغش والتعصب المجرد من كل مصلحة جنسية أو دينية، أحب أن يحمينا الإخاء العثماني والجند العثماني والعلم العثماني.
رجل الشعب
قد مضت السنة الأولى من عهد الدستور وما ولدت حرية اللبنانيين إلا الكلام، وماذا يا ترى يلد الكلام وبالأخص ما كان فارغا أو كاذبا أو فاسدا مبرقشا من الكلام. قد انقضت السنة الأولى من عهدنا الجديد ولم يظهر فينا رجل جريء حر صادق، رجل عزوم ثبيت سكوت، يعمل من أجل هذا الوطن عملا واحدا صغيرا دون أن يستشير فيه كيسه أو منصبه السياسي، دون أن يلتجئ إلى القناصل، دون أن يستعين ببكركي التي أصبح هيكلها في جمعية الاتحاد والترقي في بيروت، بكركي وبطريركها اليوم فيلسوف تركي يحسن العبادة والصلاة مثلما يحسن العدل في السياسة والأحكام، ولكن هؤلاء اللبنانيين الذين يسجدون لشفيعتهم وهي في زي تركي أوروبي جديد وينادون في الجبل بالمحافظة على امتيازات لبنان هؤلاء يجدفون في قلوبهم إذا صلوا ويموهون وينافقون حيثما سقطوا وحلوا، هؤلاء لا يستحقون بركتك يا صديقي البطريرك، هؤلاء قوم مدغلون، والمدغل والمؤمن لا يجتمعان.
وما قولك أيها الرفيق العزيز! أتظننا نجد رجل الشعب بينهم، أتظن البحث عنه في هذا المكان يجدينا نفعا، ألا تظننا نصرف زيتنا سدى في مثل هذه الظلمات؟ احمل سراجك إذا واتبعني.
من هيكل الحرية العثماني إلى الهيكل اللبناني فرسخ أو فرسخان، تعال إذا علنا نفوز هنا بضالتنا المنشودة، ادخل وسرح نظرك في هذا المعبد الجليل الذي شيده قبل الدستور البناءون، وهؤلاء البناءون لا يتعشقون الإكليروس كما تعلم على أنهم لا يكرهون الثوب الكهنوتي الذي يلبسونه في دور الرئاسة دائما وفي دور السياسة عند مسيس الحاجة.
هؤلاء الأحرار الكرام، وفيهم من الشبان العالم والمصلح والحكيم وفيهم أيضا من يحتاجون إلى كثير من العلم والإصلاح والحكمة، يعبدون الحرية فوق كل شيء ويفادون اليوم وغدا بكل لبنان من أجلها، فإن كان فيهم من يستحق أن يكون زعيم الشعب ألا تظنه يلبس الأرجوان ويغطي أذنيه بقلنسوة من حرير إذ تبوأ غدا كرسي الزعامة، دعنا من المجاز، ألا تظنه وإن كان رجل الشعب اسما يكون فعلا رجل البنائين، هل أنت من رأينا، أولا تثق بهؤلاء الشبان المصلحين؟ تعال إذا نطلب رجل الشعب بين شيوخ لبنان وأعيانه.
نحن الآن في كنيسة الجامعة اللبنانية وفيها هيكل كبير في الصدر شفيعهم «مار نظام» له المجد وهيكلان صغيران إلى جانبيه للحرية والإخاء، وما قولك بهذا المجمع الجامع اللامع، هؤلاء هم أسيادنا اللبنانيون الصادقون، هؤلاء هم الوطنيون الطاهرون الذين يبيعون أملاكهم كلها ليحافظوا - إن اقتضى الأمر - على امتيازات لبنان. هؤلاء هم الأبطال الذين يشترون النظام الجليل الثمين بدمائهم ودماء أولادهم ونسائهم، أيريبك قولنا؟ ألا ترى فيهم الأمير والشيخ والوجيه والصحافي والكاهن و«الكرخنجي؟»
ومن من هؤلاء لا يبذل النفس والنفيس من أجل «مار نظام» العزيز! من منهم لا يحمل «المارتيني» إذا اقتضى الأمر دفاعا عن وطنه وحبا بامتيازات وطنه؟ ألا تظن هذا «الكرخنجي» يصلح أن يكون رجل الشعب وهو أقرب الناس إلى الشعب وأعرفهم به وأنصفهم في معاملته؟ أولا تظن أن في هذا الحبر المفضال وهو أشدهم شغفا بحب الشعب الذي يظن الربقة في رأسه طوقا مقدسا من سيدة حريصة، أو هذا الأمير ...
ما بالك تضحك؟ ألا ترى رجل الشعب بين هؤلاء الأسياد الغطاريف؟ أتظنهم كلهم مثل إخواني الذين يعبدون سيدة بكركي في هيكل الاتحاد والترقي؟ اتبعني إذا.
هذه سراي الحكومة، أتريد أن تدخل! لا! وأنا من رأيك، لماذا نضيع وقتنا وزيتنا سدى! أشعل السراج إذا وتقدم.
أتخيفك هذه الظلمات، نحن الآن في قرى لبنان وقد خيم الليل والسكوت، أما هذا النور الضئيل الذي تشاهده في كل قرية فهو نور الجمعيات التي تضم إليها اليوم كل من استفاق مؤخرا من نومه وشفي قليلا من مرضه. فهل تظننا نجد رجل الشعب فيها وأعضاؤها على الحالة التي وصفناها؟ امش إذا ولا تيأس قد يكون رجل الشعب في حقول هذا الفلاح صاحب العباءة المرقعة، أو قد يكون كامنا في أحشاء تلك الفلاحة التي سلمت علينا. تباركت ثمرة بطنك أيتها الأخت الفلاحة وتبارك من يعرفها ويكرمها متى ظهرت في الناس لتقود وتهدي الناس.
الوداع أيها الرفيق فقد صرفنا بعض الوقت والزيت في البحث عن رجل الشعب ولم نصرفه باطلا.
أما الآن فقد مضى العام على عهد الحرية عندنا واللبنانيون يجتمعون ويخطبون ويتباحثون ويتشاركون وينادون، بماذا؟ بلا شيء، وينددون ويؤلفون الجمعيات والأحزاب والوفود، ويحلون العقد والمشكلات بالتمويه والمسايرة والوعود.
مضى عام على حريتنا ولم يمض معه شيء من خمولنا ومصانعاتنا ورخائنا من شقاقنا وادعائنا وعبوديتنا، مضى العام الأول على الدستور وأسيادنا الأحرار هم أسيادنا بالأمس، والشعب هو ذات الشعب المفلوج الضرير الذي قضى حياته في ظلمات الجهل والعذاب.
الشعب المفلوج الضرير ماذا تنفعه الحرية والنفس فيه صماء، الشعب الضرير المفلوج ماذا يفيده قولك له: «أنا من الشعب أنا رجل الشعب.» إن كنت من الشعب يا هذا فأسفي عليك. إن نفسك مفلوجة ضريرة، وإن كنت رجل الشعب بربك قل لنا: كيف تعالج الفالج وكيف تداوي العماء، فإن كان عندك دواء نافع هاته، هاته باسم الله، داو هذا الشعب بل هذه الأمة، داوها إن شاءت أم لم تشأ، داوها وإن اضطرك ذلك إلى تقييدها ليلة ونهارا أو سنتين لتشفى، داوها بالسيف إن كنت تتأكد أنها بالسيف تبرأ.
إن كنت رجل الشعب أيها الزعيم المحبوب، إن كنت واثقا أن العناية الإلهية اختصتك لتكون طبيب هذه الأمة فلا تنتظر من الصحافة شهادتها ولا من الحكومة فرمانها، ولا تنتظر ريثما الناس يسمونك ويرشحونك وينتخبونك. وبعد ذلك يرذلونك ...
ولكن قبل أن تنادي: «دوا الفالج دوا للعين» أرني إن شئت ما في خرجك، ما هذه المراهم والنباتات؟ أليست التي يتاجر بها «المغربي» ذاك الذي درس الطب ثلاثين سنة في مغارة دانيال.
ألا تعرف «المغربي»، أما رأيته في زمانك راكبا كديشه وصيدليته في الخرج وراءه، أما سمعته ينادي، دواء للرأس دواء للعين، إن أعشابك من أعشابه أيها الزعيم العزيز ومراهمك هي نفس مراهمه، فالأوفق لك وللأمة إذا أن تبيع كديشك وترجع إلى بيتك.
تبغ وملح للفالج والعماء، سبحان الهادي، أتظن يا زعيمي المحنك المبنك أن زرع التبغ واستخراج الملح يشفيان فالج النفس وعماءها، أتظن أن التبغ والملح يستحيلان نورا وهداية في قلوب اللبنانيين، أتظن أن المال في صندوق الحكومة يصلح الشئون إذا لم يكن في الحكومة من يعرف كيف يستخدم المال لخير الأمة الأدبي والروحي قبل خيرها المادي؟
رح في سبيلك أيها المداوي اللاوي وقبل أن تكرهنا أو تنسانا اذكر منا هذه الكلمة: خير لك أن تكون حمالا أو إسكافا من أن تكون مشعوذا.
إن بلاءنا أيها الإخوان من (مغاربة) السياسة الذين درسوا المداواة ثلاثين سنة في مغارة دانيال وخانيال ونافقيال وشركائهم. إن بلاءنا من المصلحين الذين لا يصلحون أنفسهم، إن بلاءنا من المشعوذين المدغلين الذين يسجدون في الهيكل التركي لسيدة بكركي. بلاء الشعب من أسياده الذين لم يزالوا يسخرونه ويرهقونه، بلاء الشعب من الذين أورثوا الشعب الفالج والعماء وجاءوا اليوم يتحببون إليه ليداووه «دوا للفالج دوا للعين»، ورب السماوات إن كنت لا تطرد «المغربي» من بيتك يا أخي وترمي بأعشابه إلى النار تموت لا شك مفلوجا ضريرا.
من المبكيات المضحكات أن تسمع اليوم من يتساءلون: ومن يا ترى يستحق أن يخلف رجل الشعب؟ هنيئا لك يا رجل الشعب، فقد ارتحت في الأقل من المناداة «دوا للفالج دوا للعين» ومن دانيال وخانيال ونافقيال الذين لا يريدون أن تداوي شعبك بغير المراهم الفاسدة والأعشاب السامة.
لا يا أصحابي لا يا أسيادي، إن رجل الشعب الحقيقي لا ينتخب ولا يعزل ولا يقاوم ولا يموت، إن روحه تظل حية وعاملة في الأمة بعد أن يقف نبضان قلبه، إن أعماله لا تموت إذا غرست في قلب شعب حي قوي، أعصابه سليمة ونظره سليم. إن أعمال الرجل العظيم كنهر يتدفق من أعالي الجبال في أودية الهيئة الاجتماعية وسهولها، ولا يكاد يخف ماؤه أو ينضب بعد سنتين أو بعد عصور طوال حتى يبعث الله رجلا آخر عظيما فيحيي فيه الأرواح التي تلاشت على ضفتي النهر الأبدي.
أليس من المضحكات إذا أن نتساءل: «ومن يا ترى يخلف رجل الشعب» وهل تظن أن الزعيم الثبيت الحر الصادق كمقالة أكتبها بساعة أو بيوم فتقرؤها وتفهمها بخمس دقائق، ألا يخطر في بالك أن لو كان صنع الرجال العظام أمرا سهلا لكان يولد في العالم رجل عظيم كل يوم، أتظن أن إرادتي وإرادتك وإرادة من هم أكبر مني ومنك - قناصل كانوا أو بطاركة - بل إرادة الملوك والسلاطين؛ تجعل «المغربي» حكيما والمشعوذ زعيما، أتظن أن في إمكان الأحزاب أن تصنع الزعماء كما يصنع الخزاف إناء ثمينا أو الصيقلي درعا متينة؟
إن كنت تعتقد هذا الاعتقاد ولا تنبذه سريعا نبذ النواة فمسيرك ومسير أتباعك وعبيدك إلى الهلاك، إن كنت لا تصرع اعتقادك الفاسد يا أخي فاعتقادك يصرعك، إن كنت تظن يا صاحب السعادة بل يا صاحب الدولة بل يا صاحب الجلالة أن زعيم الناس كإناء من الفخار تصنعه كالفخاري بساعة واحدة وتكسره إن شئت بضربة واحدة فأنت إما مخطئ واهم وإما جاهل مكابر، وفي كلا الحالين لا خير فيك لوطنك أو لنفسك لا في أقوالك ولا في أعمالك، الزعيم الحقيقي يا مولاي هو من السماء ونصره وكسره في يد الله. ينبغي لك إذا أن تصلح عقيدتك قبل أن ترفع في سبيل الإصلاح عقيرتك، ينبغي لك أن تبيع كديشك وترمي بخرجك وعقاقيرك إلى النار وتقرأ في كتاب الحكمة والزعامة على عالميال وصادقيال لا على دانيال ونافقيال.
إن لبنان اليوم لفي حاجة إلى بطل حقيقي لا إلى رجل أو نصف رجل أو ربع رجل أو لا رجل يدعى زعيما، نحن في حاجة إلى من يستطيع أن يجمع شتات هذا المليون من ضعفاء بل من بؤساء البشر، نحن في حاجة إلى بطل يحكم هذه الأمة ويهديها سواء السبيل، وهل تظن أن الطبيعة في لبنان تضن على أبنائه بمثل واشنطون أو أبي بكر أو كرمول ولو في شكل صغير؟ يشهد تاريخنا أنها لم تضن علينا بالأبطال في الماضي، وتشهد سماؤنا وتشهد شمسنا أنها لا تضن بهم في المستقبل.
وعندنا أن مثل هذا الزعيم العظيم يباشر إصلاح الجيش فيضاعفه وينظمه قبل كل شيء، ثم ينظر إلى الشعب المفلوج الضرير فيداويه بغير زرع التبغ واستخراج الملح وتأليف الجمعيات في القرى. لا ننكر أن هذه كلها لازمة مفيدة، ولكن الألزم منها أهم، وعلى الألزم منها تتوقف اليوم حياتنا، إن كروملنا أو أبا بكرنا يا سيدي الأمير لا يصيح كالمغاربة (دوا للفالج دوا للعين) لكنه يقبض المبضع بيد من حديد ويشتغل باسم الله. إن كروملنا بعد أن ينظم جيشه ينظر في البلاد إلى من كثرت أموالهم وقلت أعمالهم كالرهبان مثلا فيحاسبهم بعدل وإنصاف ويبني بما يأخذه منهم المدارس العمومية في كل القرى والمدارس الزراعية الصناعية في كل الأقضية، هذا هو دواء الطبيب الصادق الماهر لفالج النفس وعمائها.
مثل هذا الرجل إذا دخل مجلس الإدارة ورأى الأعضاء يدخنون الأركيلة وينعسون يطردهم قائلا: إلى بيوتكم، دخنوا هناك وناموا إلى الأبد، وإذا كان اللبنانيون لا ينتخبون من لا يدخن ساعة العمل وينام فأنا أنتخبه أنا أعينه، وإذا رأيته يدخن بعد ذلك في المجلس أكسر - والله - الأركيلة على رأسه.
في مثل هذه اللهجة كان كرومل يكلم مجلس نواب الإنكليز، ولما رأى ذات يوم أن قد استفحل أمرهم معه أخرج ساعته من جيبه ورمى بها إلى الأرض قائلا: «إن لم تستقيموا أحطمكم مثل هذه الساعة»، وبعدئذ طردهم وقال: «أريد في المجلس أناسا صادقين عادلين.»
مثل هذا الزعيم إذا تصدد له أولئك الأفاضل المحنكون المبنكون الذين ترسلهم الدول الأوروبية ليتعلموا عندنا السياسة الشرقية بل ليكذبوا عنها في الدوائر الرسمية يقول لهم «وبأي حق تتداخلون في الصغير والكبير من شئوننا؟» فإذا أبرز القناصل أوامر وزرائهم يقول لأولئك الذوات الكبار «لما سالت دماؤنا في الماضي آستنا حكوماتكم وضمدت جروحنا بهذا الذي ندعوه نظام لبنان، حمتنا لتحمي نفسها من حروب أوروبية طاحنة وفي كل حال نحن لها ولكم شاكرون، أما الآن وقد برئ الجرح فلم نعد في حاجة إلى العصابة ولا إلى عناية هؤلاء الممرضين قناصلكم، بل قد صرنا رجالا أصحاء نأبى الضيم والحيف مثلكم، ولا نسألكم سوى هذا أن تعاملونا كما تريدون أن تعاملوا.»
هذا هو رجل الشعب هذا هو بطل الأمة ولا تظن أيها القارئ أن في إمكان الصحافة أن توجد مثل هذا الرجل، لا، ولا الأحزاب ولا القناصل ولا البطاركة ولا الشعب يوجده. البطل هو ابن السماوات والأرض ولا يوجده في الناس - كما قلنا - إلا الله، فإن كنت يا أخي اللبناني تشعر أن في جلدك شيئا من البطل - ولا فرق عندي إن غطأت جلدك هذا بعباءة مرقعة أو «بالفراك الأتوركا» أو بالحرير والأرجوان - إن كنت واثقا متأكدا أن في قلبك شيئا من نور الله اظهر باسم الله واحكمني وسخرني في سبيل الحق والوطن، اظهر فلا تظل طويلا مجهولا، إذا كانت تلك الروح العظيمة داخل جلدك وذاك النور الإلهي في قلبك يتبعك الناس ويطيعونك بل يؤلهونك ويعبدونك.
نعم يا إخواني، نعم يا أسيادي، إني أؤكد أن السماوات والأرض في لبنان لا تضن علينا ببطل لبناني في المستقبل، ولكن متى يظهر وأين ...؟ إن نبوءتي لا تتجاوز هذه الحدود.
والسلام عليك يا بنة لبنان.
تباركت ثمرة بطنك أيتها الأخت الفلاحة، تباركت في أحشائك جرثومة الأبطال، وتبارك من يراها ويعرفها ويمجدها متى ظهرت في الناس لتقود وتهدي الناس.
الشعر المنثور
يدعى هذا النوع من الشعر الجديد
Vers Libres
بالإفرنسية وبالإنكليزية
Free Verse
أي: الشعر الحر أو بالحري المطلق، وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري عند الإفرنج وبالأخص ع الأميركيين والإنكليز فملتن وشكسبير أطلقا الشعر الإنكليزي من قيود القافية وولت وتمن
Walt Witman
الأميركي أطلقه من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية والأبحر العرفية، على أن لهذا الشعر المطلق وزنا جديدا مخصوصا، وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة متنوعة.
وولت وتمن هو مخترع هذه الطريقة وحامل لوائها وقد انضم تحت اللواء بعد موته كثير من شعراء أوروبا العصريين، وفي الولايات المتحدة اليوم جمعيات «وتمنية» ينضم إليها فريق كبير من الأدباء المغالين بمحاسن شعره الجلية المتخلقين بأخلاقه الديمقراطية المتشيعين لفلسفته الأميركية؛ إذ إن شعره لا ينحصر مزاياه بقالبه الغريب الجديد فقط، بل فيه من الفلسفة والتصور ما هو أغرب وأجد. (1) الثورة
ويومها القطوب العصيب، وليلها المنير العجيب
ونجمها الآفل يحدج بعينه الرقيب
وصوت فوضاها الرهيب، من هتاف ولجب ونحيب، وزئير وعندلة ونعيب
وطغاة الزمان تصير رمادا، وأخياره يحملون الصليب
ويل يومئذ للظالمين، للمستكبرين والمفسدين
هو يوم من السنين، بل ساعة من يوم الدين
ويل يومئذ للظالمين •••
هي الثورة ويومها العبوس الرهيب
ألوية كالشقيق تموج، تثير البعيد وتنير القريب
وطبول تردد صدى نشيد عجيب
وأبواق تنادي كل سميع مجيب
وشرر عيون القوم يرمي باللهيب
ونار تسأل هل من مزيد، وسيف يجيب، وهول يشيب
ويل يومئذ للظالمين، ويل لهم من كل مريد مهين
طلاب للحق عنيد مدين، ويل للمستعزين والمستأمنين
هي ساعة للظالمين
هي الثورة وأبناؤها الحفاة، وصبيانها المسترجلون العتاة
ورجالها الأشداء الأباة، ونساؤها المتنمرات
وخطباؤها وخطيباتها الفصيحات، وزعماؤها وزعيماتها المتمردات
ويل يومئذ للظالمين
أنذرهم بأغلال وسعير، بقنابل تفجر ويوم عسير
يوم لا ينهون ولا يأمرون، ولا يطلقون فيهربون
ويل يومئذ للظالمين •••
ألم يأتهم حديث الرومان
يوم شغف قيصر
1
بالأرجوان، ومد يده إلى الصولجان
فإذا هو صريع خناجر أحرار ذاك الزمان، قتيل مهان كثير الطعان
ويل يومئذ للظالمين •••
ألم نقص عليهم قصص باريس
يوم دك البستيل وزفت المحابيس، يوم قطع رأس الملك لويس
2
وحزت رقاب كبار الفرنسيس وفر الطاغون والمسيطرون من وجه هول باريس
ويل يومئذ للظالمين •••
ونبأ الإنكليز
يوم بايع القوم بياع الجعة
3
وقالوا هذا ولي عزيز
يوم نادى الخمار بالناس والملك في حرز حريز
فإذا بالمستضعفين أشداء وشارل المليك ذليل نبيذ، بل على المشنقة يستعيذ
ويل يومئذ للظالمين، من كل متنمر متمرد مدين
ويل يومئذ للمفسدين، من نصر البنود الحمر المبين •••
ونبأ العالم الجديد
ألم يروا لهيب الأتون في العالم الجديد، حيث يطرح كل جائر مريد
حيث يحرق الأرجوان وتذوب تيجان الحديد
حيث تحرر العبيد، ويموت ألوف البشر من أجل هؤلاء السود المناكيد
حيث قام الأذل على الأعز، والوضيع على الجبار العنيد
ويل يومئذ للظالمين، يوم يمتع الله المستعبدين
ويطلق في الشعوب سلطان روح كمين، بل يضرم من ناره البراكين
بل يثير في الجموع روح الأمين، روح كل زعيم صادق أمين
يوم يهب المظلوم سيف الظالم الأثيم
ويذيق المفسدين حر عذاب أليم، في هذه الأرض لا في الجحيم
ويل يومئذ للظالمين من كل متنمر متمرد مدين
ويل يومئذ للمفسدين، من نصر البنود الحمر المبين. (2) ريح سموم
وبربك القيوم، ما الذي تظنه يدوم
صوت سمعته في الكروم، وقد مرت عليها ريح سموم، فجفت الأرض وعادت جزرة كثيرة الكلوم
سقطت الجفان عن فسائلها وفزعت أوراقها إلى الغيوم
صرخ صارخ من وراء النجوم، ما الذي تظنه يدوم •••
من صروح زاهية فخيمة، من رياض زاهرة كريمة، من بروج شاهقة عظيمة، من معامل حديثة أو قديمة، ما الذي تظنه يدوم
من أسراب منورة تحت الأنهار، من أرتال فيها يدفعها الكهرباء أو يجرها البخار، من بوارج ماخرات في البحار، من أساطيل تنذر بالدمار، من معالم ومعاهد في الأمصار، ما الذي تظنه يدوم
من أنفاق تحت الأديم ملؤها عجاجه، تنفثها وتثيرها القطر الولاجة
من قباب بين السحاب وهاجة، ما الذي تظنه يدوم
من جسور فوق المياه جسيمة، من جزائر على المياه عظيمة، من جبال تحت المياه قديمة، ما الذي تظنه يدوم
من سدود، محكمة منيعة من خلج كونتها الطبيعة، من ترع تؤلف بين البحار، وتجمع بين بعيد الأقطار والأمصار، من خطوط حديدية تطوق الأرض، من أسلاك برقية تطوي المسافات في الطول والعرض، ما الذي تظنه يدوم
من أبنية ذات الطبقات العشرين، من أحياء في المدن الكبرى يأوي إليها جميع البائسين، من معابد وبيع لا أثر فيها للدين، من أصقاع لا صوت فيها للأحرار الصالحين، ما الذي تظنه يدوم
من قصور مكتنفة برياض خضراء، من صروح الملوك والأمراء، من دور الرؤساء والأغنياء، من أكواخ البؤساء والفقراء، ما الذي تظنه يدوم
من شرائع ودساتير ونظامات، من تقاليد وعادات وخرافات، من أديان وعقائد وخزعبلات، من دول وممالك وحكومات، من أحزاب وطوائف وجماعات، ما الذي تظنه يدوم
صوت صارخ من وراء الغيوم، صوت ريح سموم، أي شيء يدوم
مهلا مهلا، إن هذه كلها لصالحة في ذاتها، إن هذه كلها لحسنة في وقتها
لكل شيء من العز والمجد أركان، لكل شيء من أبناء البطر والأشر أعوان، لكل شيء برهة من دهره الوسنان
ساعة أو عام أو قرن من الزمان، الطويل من الدهر في عين الأزل والقصير سيان
فلا تظنها إلى الأبد تدوم، لا وربك القيوم، مبدع الشمس والنجوم •••
إلى حين يا أخي إلى حين، كل ما في العالمين، أي ورب العالمين، إلى حين
وبعد فقل لي هل أنت من الممترين، هل أنت من القائلين السائلين، وبعد ذلك وبعد حين
أما في زمانك تأملت المغاور في الصخور، فاذكر أن الأمطار والرياح تكونها، والأمطار والرياح تهدمها
إن كل ما هو محترم معبود، من أضاليل الزمان والجدود، يظل في حرز حريز إلى أن يظهر في الناس رجل عظيم عزيز
بطل تجود به الأيام، فيصرخ في وجه الأئمة والحكام، صرخة تردها البحار والآكام، وهو قائم على المظالم البشرية، مناضل عن الحقيقة والحرية، باذل مهجته في سبيل الإنسانية
أجل إن كل شيء لحريز في موضعه حصين، إلى أن يزلزله رجل حصيف رشيد، أو امرأة عظيمة ذات رأي سديد
ومهما كانت حصونكم متينة منيعة، فساعة الزلزال والدمار شديدة سريعة
ساعتئذ يتحدث الركبان في صنيع لأحد العظام جميل، أو عمل لإحدى العظيمات جليل
أجل إن كل شيء لحريز في موضعه حصين إلى أن يقف أمام القوم رجل صالح ذو رأي سديد، حر فصيح عنيد، أو امرأة صالحة ذات رأي سديد، حرة فصيحة، لسانها من حديد
يومئذ يعلو صوت المطالب بحقوق المستضعفين المستذلين المستعبدين، صوت الأمناء والأمينات من زعماء وزعيمات على كل ظالم جبار مهين •••
وبعد أن تلاشت ريح السموم فوق الجبال، تلاها نسيم لطيف الاعتدال، فدخلت في أثره غابة من الصنوبر كثيفة الظلال، وسمعت من خلال الأغصان، صوت المحبة والمعروف والحنان
سمعت صوتا يقول: ورب الأكوان، لا يدوم إلا الإحسان والعرفان
لا يدوم إلا السجايا الروحية الفريدة، سجايا النفس البشرية الخالدة
لا تدوم إلا آثار النهضات الجليلة، ومآثر الأنفس السامية النبيلة
وما أسخف الجدل والمنطق والبرهان أمام مشروع جليل، وما أوهن التعاليم الوضعية تجاه خطب جسيم، وما أوهى الأقوال والآراء إذا قوبلت بنظرة من رجل عظيم، أو صادفت نفحة من نفحات حكيم
عندما يرفع مثل هذا البشر رأسه وصوته ولا فرق عندي رجلا كان أو امرأة يقف دولاب الأعمال، ولا يبقى شيء على حال
عندئذ يبطل الجدال، وتنكسر شوكة المال، وتحشر الرجال، وتكبر الآمال
يومئذ تنقلب المجتمعات، وترتعد فرائص الطغاة الحفاة
يومئذ تنقلب العادات والعبادات، وتهب على الأرض الذاريات السافيات
فيسأل السائل من وراء النجوم: أين مالكم ونفوذكم وشوكتكم، أين تقاليدكم وطرائقكم ولاهوتكم، أين شرائعكم ودساتيركم وحكوماتكم، أين حصونكم وصروحكم وسجونكم وجنودكم، أين مصانعكم ومعاهدكم، أين زخرفكم وسفاسفكم؟
فقل إن هي إلا برهة من الدهر الوسنان، ساعة أو عام أو عصر من الزمان
قل ورب الأكوان، لا بقاء لما سوى الجد والعرفان، والمعروف والحب والإحسان
فهي هي الجبال الراسيات، وهي هي الحصون الواقيات وهي هي الباقيات الصالحات
بلى ورب السماء والنجوم، لا يفلح المستكبر المظلوم، ولن تدون إلا آثار النفوس الذكية السامية ووجه ربك الحي القيوم. (3) تحت الرماد وفوق النجوم
تحت الرماد وفوق النجوم، ما لا تراه مما يدوم
رأيت فضيلة اليوم تجر أذيال الفخر والتبجح في شوارع الرياء وفي أزقة الورع والقداسة فكرهتها نفسي
ورأيت ما يسميه الناس رذيلة تقضي حياتها في ظلمات السكون والكتمان وراء ستار الخمول والنسيان فحن إليه فؤادي
لم إذا نبغض الأشرار، ولم إذا نعبد الأبرار
لماذا نميل وجهنا عن الفقراء الأذلاء، ونعفره أمام الأغنياء والأمراء؟
إن علية القوم أوطاهم أيها الإخوان فاحذروا من تكرهون ومن تحبون، من تحتقرون ومن تجلون
وغدا ينير الله قلوبكم فتعرفون الحق وتعبدون
لا والله، أنا لا أشمخ بأنفي على أصغر صعلوك ولا أعفر وجهي أمام أكبر الملوك (إن تحت الرماد وفوق النجوم، ما لا تراه مما يدوم)
اعلموا أن الكل في عيني سواء من الوجهة التي أنظر منها إلى الناس، كيف لا وتحت رماد نفس هذا الشرير جذوة خير حية، وفي بستان ذاك الصديق كثير من الجذور السامة والنباتات الكريهة الرائحة. كيف لا وفي الصعلوك نفس تكبر إذا انطلقت من القيود والأغلال، وفي الملك نفس تصغر إذا جردت من ترهات الأبهة وأباطيل الإجلال
لم إذا يحسد الإنسان هؤلاء الأغنياء والأقوياء، وأولئك الملوك والأمراء؟ إن أفقر البشر حالا، وأوضعهم شأنا وأقلهم مالا، لهو من أعاظم الناس، إن كان لا يحسد أحدا من الناس (إن تحت الرماد وفوق النجوم، ما لا تراه مما يدوم)
أنا لا أغبط من أبناء آدم إلا الرجل الحر حقا، الحر بكل معنى الكلمة، ولكن أين أجد مثل هذا الرجل لأعبده لا لأغبطه
أما الأغنياء والأقوياء والملوك والأمراء - تباركت أسماؤهم - فعظمتهم إما مكتسبة اصطناعية، وإما خلقية طبيعية، وجل ما في القوة المكتسبة مسروق منهوب، ومعظم العظمة الاصطناعية مختلس مسلوب العظمة العرضية الاصطناعية، هي كالسوس في عظام القوة الحقيقية، ومن يحسد السوس في العظام، أو الذباب فوق الطعام، أو الجراد على الآكام؟
وأما العظمة الخلقية الطبيعية فهي جير من روح الله
وأنا أطأطئ رأسي أمام كل قوة بشرية فيها شيء من جوهر الذات الإلهية
وإن أسمى ما في قلب الإنسان من العواطف الشريفة هي تلك التي تتجلى في اتضاعه وخشوعه أمام العظمة البشرية الخلقية التي هي حقيقة الله في الناس (إن تحت الرماد وفوق النجوم، ما لا تراه مما يدوم.) (4) داويني ربة الوادي
داويني ربة الوادي داويني
ربة الغاب اذكريني، ربة المروج اشفيني
ربة الإنشاد انصريني •••
ألا تذكرين يوم رددت وحيك بين قوم لا يشركون مع البعل إلها
ويوم قدمت ذبيحة للزهرة من يد من لا يعرف من الآلهة سواها
ويوم ناديت باسمك في هيكل إيزيس فطردني من الهيكل الكهان
ويوم تصاعد دخان بخورك على الأولمب فاكفهر منه جبين رب الأوثان
أنا من وضع بخورك في مجامر خدام هياكل الرومان
أنا من عقد أوتارك في قيثارة راقصات بابل وقين اليونان
أونسيت ما زرعته يدي حول هيكل تموز من الأشجار
وما حاكته يدي لربة الفينيقيين من أكاليل الغار والأزهار
وما خطته يدي في كتاب عبدة الشمس والنار
وما حطمته يدي من تماثيل الطغاة ودمى كبار الأبرار
داويني ربة الوادي داويني
ربة المروج اشفيني، ربة الإنشاد انصريني
انشديني على قيثارك من الألحان التي تردد صداها اليوم طيور الغاب وشحارير البستان
انشديني من الأنغام، التي يطرف بها الرعاة الأنعام
صوت نايك في الدجى، وصوت أرغنك في الضحى، أسمعيني
إلى صوت عبادك على ضفات الأنهار، وصوت أولادك في القفار، اهديني
انشري الآن حول سريري، ما كمن في الحقول من عبيري
اسكبي الآن فوق رأسي، ما تركته الأحقاب في كأسي
ألحفيني بحبك، ضمخيني بطيبك، أنعشيني بهمس شفتيك، وبلمس أناملك
رددي على مسامعي الآن، ما نسيته مما علمتني من الألحان
أسمعيني الآن، ما رددته عنك في مجالس قين بابل واليونان
داويني ربة الوادي داويني
ربة الإنشاد أصلحيني
أنا ناي الرعاة من عبادك
أنا عند العشاق من عبادك
أنا أرغن المتشرد من عبيدك
أنا كنارة الراقصات ليلة عيدك
أنا النفس التي يتجلى فيها جمالك، وينبعث منها نورك، وتنطبع عليها أسفار حكمتك، وترف فوقها بلابل سحرك
أنا صوتك جسدته الدهور، أنا روحك أنزلت في الفيدا وفي الزبور
أنا رسولك إلى صفوة العباد، إلى خير من زين الأحلام في المعاد، بل إلى كل من هام في كل واد
أنا وحيك في نشيد الإنشاد، أنا نورك في نفس من سربل التوبة بالإنشاد
أنا في قيثارك نغمة حبسها الجهل ضمن جدران الأهرام
بل أنا أغنية رددتها الليالي على الأعوام
أنا في قيثارك روح الفقنس تحت رماد المنون، بل روح أرفيوس فوق أمواج الفنون
أجل أنا قيثارك، وأنا صوتك، وأنا نشيدك
ولكن يدا أثمية خنقت البلابل في القيثار، وقطعت منه الأوتار
فجاءت اليوم بنات الهديل تداوي بسجعها سجعي العليل
داويني ربة الوادي داويني
ربة المروج اشفيني، ربة الإنشاد انصريني •••
المسيني بأناملك تعيدي إلي بهاء ملكي
عوديني في الأسحار، تشتد من نسماتك الأوتار
اغسلي جراحي بموجات من فيوضاتك الإلهية
ضمدي أوتاري برقية من رقياتك الموسيقية
أعيدي إلي ما سلبتني الآلام من مجد الحياة الشعرية
ضميني إلى صدرك بنت الأزل والخلود، فتزول عن جفني كآبة الأجيال، ويثمر في عقم الجدود
من يوم هجرت وإياك الجفان في قديم الزمان، ما رأيت أجمل من الحب فيك إلا الحنان
فحتام اليوم هذا الصد والجفاء وهذا الهجر والنسيان
اذكرني ولو مرة في ظلامي
عوديني ولو مرة في منامي
انصريني قبل أن تذبل بأيامي. (5) غصن من الورد
ركبت في الأمصار البعيدة هواي وأرحته من عنانه
غرست في بساتين الغرباء حبي فنور قبل أوانه
غرسته في أرض سمراء جديدة فناحت عليه زهور زمانه
طرحت بذور حبي جزافا ذات اليمين وذات الشمال
طرحتها في سهول الحرية فأحرقها قيظ الفوضى وداستها أرجل همجية
طرحتها في أنجاد العلم فأيبس ما نبت منها الصر وحملت رياح النزاع البقية إلى حيث لا أدري
طرحتها على شواطئ نهر الفلسفة الراكد فذوت في ظلاله الظليلة - ماتت لأنها لم تر نور الشمس
غرست حبي في غياض الحضارة الغيضاء، فأدمته الأشواك، خنقه العليق، قتلته الجذور السامة
غرسته في أرض الأحباء والخلان فمات بالاستسقاء من مستنقعات الكذب والرياء
غرسته في حقول التجارة، تجاه طواحين التمدن ، بين بيت الصراف وبيت الكاهن، فتواطأ الاثنان عليه ومدا في قلبه البلاط رصيفا للصوص
لأولئك اللصوص الذين يؤاكلون ويشاربون القضاة
ذهبت بحبي إلى الفقراء والبؤساء فغرسته في أرضهم الجدباء فلم ينبت
غرسته قدام بيت أم الحي فاقتلعته ورمته بوجهي وهي تقول: اذهب في طريقك، جاءنا قبلك مغرون فقتلوا، صلبوا، حرقوا، نطلب إنصافا وعدلا لا تعزية ورحمة
جزت حي البؤساء إلى مغاور اللصوص والأشقياء، إلى المنبوذين والممقوتين
ذهبت فغرست بينهم غصنا نضيرا من حبي فعاش قليلا نحيلا ومات قبل أن يبلغ أشده
في ظلمات قنوط المنبوذين قضى نحبه، دخان تجديف الجاحدين أعماه، خنقته روائح بذاءة اللصوص والقتلة فكفنه الفاجر بلعنته وجلقت الفاجرة فاها فوق جثته
هجرت المدن وهذه المدنية وركبت البحار
نثرت على المياه حبي كما تنثر شمس تموز ألماسها ولآليها
نثرته صباحا فتلونت الأمواج من شهواته، نثرته مساء فتوهجت من نيرانه الآفاق
كلم حبي السحاب فأجابه، فدعا البحر فلباه
لمس حبي الآفاق بأنامله فارتعدت وتموجت مبتهجة متوهجة •••
في صبح يوم من أيام الربيع بعثت حبي رائدا في صحراء جديدة، فمضى ولم يعد إلي
ناديته من قمم لبنان فلم يجبني
فتشت عليه في الآفاق وورائها في مشرق الشمس ومغربها فلم أجده، تركت حبي يهيم ثانية على وجهه
فركب هواه مرة أخرى وتركني أتحسر وأتأسف عليه، آه علي أواه عليه •••
في وطني في أرض أجدادي في التربة التي ذاقت قديما حلاوة ضربة معول رجل قوي، غرست غصن ورد طري
غرسته والآمال تدفعني والعزم يعقد شفتي
غرسته في مكان عزيز جعلته في حرز حريز بعيد عن الحضارة والناس
لا فرق عندي الآن إن صمت مسامعهم وإن فتحت
لا يهمني إن استحجرت قلوبهم واستحالت طينا أو ذابت ماء معينا
أنت أيتها الأرض أمي وسأفرح يوم تضمني إلى قلبك كما تضمين الغصن الذي أنا الآن غارسه
أنت أيتها الأرض حية أبدا، أبدا تحبلين وأبدا تلدين
مهما كان ظاهرك فالشعور فيك لا يموت، النار في قلبك لا تخبو
الخريف يزيل الوقر من أذنك والشتاء يلين قلبك والربيع يحرك لسانك والصيف يريك ثمرة أحشائك
ومن أفصح منك في الربيع وأكرم منك في الصيف
من أعظم تهيجا وعطوفا منك في الشتاء، من أشد سمعا في الخريف
من أرحم منك أيتها الأرض، من ألطف وأشفق وأحلم
تقبلين منا الأقذار وتعطينا عوضها الأزهار
تستنشقين نتانة أمراضنا وروائحها وتعيديها إلينا شذاء طيبا
تسكب لك السماء كأسا من الماء الزلال فيعكره الإنسان فتفيضين عليه مكافأة خيراتك ومراحمك
أرض أجدادي افتحي الآن لي قلبك
لا تجهميني، لا تعبثي برجائي وعملي، لا تحبسي حبي عني دهرا
أيتها الأرض التي نقبها أبي وصلت تحت أشجارها أمي لا تودعي آمالي الصخور، لا تحمليها إلى قمم الجبال فتموت هناك من الثلوج وشدة الرياح •••
على كتف هذا الوادي الذي ردد صدى صراخي وغنائي صغيرا، في هذه الأرض التي هجرتها قبل أن هجرتني الصبوة؛ غرست غصن ورد طري
كلمت الأرض بيدي لا بلساني، حصبتها ونقبتها بمعولي الصغير
طعمتها من ذاك الأسود الذي تفرزه المواشي ومن ذاك الأصفر الذي يكاد يشتعل في الصحراء من قبلة الشمس، ويكاد يذوب على السواحل من قبلة الأمواج
سقيت غصني من ماء الفؤاد، وحجبت عنه النور في أيامه الأولى
رفعت فوقه سرادق ودي وهيامي، ونثرت حوله في الشتاء أوراق الخريف البالية
ولبثت - إذ ذاك - أنتظر جواب الأرض وحكمها
كم مرة زرت غصني وهززته مستخبرا فلم تبد عليه لا إشارة الموت ولا علامة الحياة
كم مرة افتقدته وقلبت فيه الطرف مستقصيا أخباره
كم مرة وقفت أمامه والفؤاد يتموج بين اليأس والرجاء
تباركت أرض أجدادي فقد حسن في عينها اجتهادي
تباركت أرض أمي فستريني الورد على غصن تعبي وهمي
نعم الأرض كلمتني، أجابت الأرض سؤلي، رددت الأرض صدى حبي، ها إن غصن الورد ينطق كالطفل
بدت على شفتيه لفظة الحياة وأثمرت في قلبه الكلمة الحية التي تساقطت عرقا من أناملي ومن جبيني
في فمه لؤلؤة ملفوفة بلفافة ذهبية، وفي صباح الغد تستحيل لفافة لازوردية وتبدو اللؤلؤة زمردة نحيفة ندية
وبعد غد أو بعده ينشأ من الزمردة صدفة خضراء في قلبها بحور من الورد لا ترى وأجيال من الحياة لا تعد
في قلبها أوراق خضلة صغيرة ملتفة حول عرق نحيف طري، لا يعرف بعد اسم الشوك ولا معناه
في قلبها أغصان وفي قلب الأغصان ورد وفي قلب الورد بذور وفي البذور الأبدية والخلود •••
كلمتني أرض أجدادي، أحيت في الرجاء ضمت إلى صدرها طفل حبي وأنعشته بعد أن كاد يموت
نفخت فيه من روحها الأزلي فتحرك لسانه
هو ينطق بما تلقيه إليه من آيات الحب والجمال والحكمة والرجاء
أين فصاحتي من فصاحتها
الأرض لا تنطق إلا لتحيي، لا تتكلم إلا لتزهر وتثمر
ما قالت «لا» بزمانها قط، فإن كان جوابها إيجابا «فنعم» وإن سلبا فسكوتا أبديا
كل آياتها جميلة كل أقوالها منعشة محيية
وليتها تعلم بنيها القول المثمر المنعش الجميل
أو ليتها تعلم بنيها السكوت •••
كأني بالأرض تقول: ليكن عندك ذرة من الإيمان في وأعطني ساعة من العمل، فأعطيك عوضها مائة بل ألف ضعف من الحب والرجاء، من السرورة واللذة من العزم والنشاط، من الحياة البسيطة النقية التي لا سعادة للإنسان إلا بها •••
كل جرثومة على غصن الورد الذي غرسته هي لفظة من ألفاظ الأرض العذبة، هي رسالة حب من الأم لبنيها
كل برعم من هذه البراعم هو عقدة من عقد الكون، هو سر من أسرار الحياة
في أي عصر ولدت أيتها الوردة، أي أرض شاهدت أول زهرة من أزهارك واستنشقت أول نفحة من أريجك
من زرع بذرتك الأولى، من غرس أول فرع من فروعك
أول غصن من أغصانك الأصلية الأولى؛ من نقله من الحقل إلى البستان، من الوادي إلى حديقة الإنسان
أيتها الوردة البرية بل الوردة السرية من أي دغل نشأت وفي أي سلم من النبات الشوكية رقيت
لا تتكلم الأرض إلا ألغازا، الأرض لا تأتمن بنيها على أسرارها
احترز من شرك العلة الأولى، لا تبحث في أصول الأشياء
متع نظرك ونفسك فيما تراه وتسمعه وإن شئت الدخول إلى هيكل سر الأسرار فتجرد عن الجسد قبل أن تطأ أسكفة الباب •••
إني لأجد لذة شهية غريبة في مشاهدة هذه البراعيم الجديدة، وفي مراقبة نشوئها ونموها
عددتهم - والله - مرارا كما تعد الأم أسنان طفلها
افتقدتهم مرارا كما تفتقد الطيور عشوشها
تلهفت - وأي تلهف - على برعم واحد نثرته الرياح منها
ولكن زمن السرور قصير، تكاد زبدة الأشياء تذوب قبل أن تجمد •••
أواه، صرت أخشى الاقتراب من وردتي فقد أثت فروعها والتفت أغصانها وقسيت أشواكها
أواه، صرت أنظر إليها بغير العين التي شاهدت نشوء براعيمها ونمو فروعها
لهفي على وردة الحياة، تريني ألف شوكة قبل أن تفيح بنفحة واحدة من شذاها
تجرحني مائة مرة قبل أن تعطيني زرا واحدا من أزرارها (6) فؤاد
4
عند مهد الربيع
عرفتك قبل أن اخضرت من نسمتك الأولى صدور الحقول وجوانب الربى
وقبل أن نور المهد من حر شفتيك
وقبل أن بدد نور عينيك غيوم الشتاء فهدأ البحر وانجلت السماء •••
عرفتك قبل أن حاكت لقصورك الجبال طنافس العصفر والأقاحي والخزامى
وقبل أن أعدت لسريرك النمارق من الرياحين وريش الصنوبر وشقائق النعمان
وقبل أن ملأوا كأسك من دهن اللوز وماء الورد وعصير الرمان •••
عرفتك قبل أن نصبت لك العاصفة الأخيرة قوس نصر من دمها ودمعها وزفيرها
وقبل أن ولت من الغيوم الباكيات وأقبلت الضاحكات تجر ذيولها الفضية فوق صنين
وقبل أن لحفتك شمس الضحى بأشعة الحب والحنان
وقبل أن رفعت فوق سريرك عند الغروب قبة من نورها الولهان •••
عرفتك قبل أن سدلوا على وجهك نقابا من الغمام ليحجبوا هناك هنيهة رب الأنام
عرفتك قبل أن عرفت عيناك معنى الدموع وأسرارها
وقبل أن ذابت عن أهدابك الثلجة الأخيرة وسقطت عليها القطرة الأولى من ندى العشق والحياة
عرفتك قبل أن نور في خديك الورد وتلألأت على شفتيك الابتسامة
وقبل أن غردت في الغابات أطيارك وعطرت الآفاق رياحينك وأزهارك
عرفتك قبل أن سمعت أذنك هتاف الأنهر وعويل الرياح
عرفتك قبل أن عرفت من الحياة الغسق والليل والصباح
هززت سريرك بأنفاس كانت لهيبا قبل أن صارت نسيما
وأصبحت حياة بعد أن كانت سديما
وكان ربك بذلك عليما
هززت سريرك باليد التي احترقت مرا فاستحالت مسكا وبخورا حول السرير الكمين
باليد التي اكتسبت زغبا تحت رأس أمير الرياحين
باليد التي نور في أناملها الجلنار وفي راحتها النرجس والياسمين •••
هززت سريرك قبل أن نما الفؤاد مني آسا وغارا تحت قدميك
وقبل أن فاض ابتسامي نورا فوق عرشك
وقبل أن هطل غيمي دمعا حول سريرك
هززت سرير طفل الربيع قبل أن سار كلي قسما من سريره
هززته في الأعماق ففاح أريجه في الآفاق
هززته في أعلى عليين فغردت بلابله في الرياض والبساتين •••
عرفتك قبل أن ودعتك السماء وقبل أن عرفتك الغبراء
ولكنني استغربت صراخك يا بن الربيع ويا بن السماء
إن لفي بكائك سرا لا تذيعه الأزهار
وإن لفي سكوتك لغزا حفظته النجوم والأقمار
وإن لفي نظراتك المبهمة الندية شيئا من غوامض البحار •••
فهل جئتنا من ألم الفراق باكيا أم جئتنا الوحشة شاكيا
أين منك الروح التي تلقي في العيون سحرا حلالا فيذوب حبا وجمالا
أين منك الإدراك الذي يلتهب في العالم نجما فيشع في الشاعر خيالا
بل أين من نفسك الآن ما حير البرية في الإنسان
أين منك تلك القوة التي أغلت الصاعقة وأذلت البحار واسترقت الرياح والكهرباء والبخار •••
أتحلم ملائكة السماء بفراش الأرض وخنافسها
أوتذكر الفراشة يوم سارت تحت جناحها الشمس
أفي خطوط هذه اليد الصغيرة البضة آثار حبك النجوم وأسرارها
أو تحت هذه الأهداب الناعمة قبس من نورها ونارها
أتذكر شفتاك الكأس الذي سقتكه زنبقة الوادي
أتذكر الغدير الذي كان يغسل قدميك يوم كنت مضطجعا مع الدفلة تحت ظل الدلب والصفصاف
أي ابن الوادي، إن فيك من بهاء الربيع ما فيك من مجد السماء
إن لفي هذه الوردة البشرية جذوع الماضي وأريج الحاضر وبذرة المستقبل
أقبل رجليك؛ لأنني لا أنكر الماضي ولا أنبذه
وأقبل عينيك؛ لأنني أراك شاخصا إلى العلاء
وأقبل سرتك لرمز فيها بليغ جميل
ففي السرة سلسلة الحياة التي لا تتم حلقاتها إن لم تقطع
يقطعها الإنسان فيعيد وصلها الله
فاذكر قبلاتي الثلاث إن عدت في مستقبلك البعيد إلى ماضيك هذا القريب
واذكر أيضا أن في كل قبلة حسرة ما زادها العلم إلا اشتعالا •••
عرفتك قبل أن ودعتك السماء وما عرفت من سر هذا الوجود سوى الحاء والباء
عرفتك قبل أن عرفت الربيع وقبل أن هززت سريره الخفي
عرفتك قبل أن أسرنا فصرنا بديع قواف لشعر إلهي
نظمنا الإله وأودعنا سرا من أسرار بيانه الأزلي
وقال عليكم بنجم سريع فهو فيكم ومنكم يضي
بهاء الحياة ومجد الحياة إليكم بنوري إليكم يدي
فجبنا نجوم النفوس عراة وفينا الخجول وفينا الخليع
أشدنا هناك بسعد تساوى الملاك العصي به والمطيع
شهدنا هناك ظلاما تلاه بهاء تلاه ظلام سريع
وقفنا حيارى وفي الظلمتين ضياء الحياة يضي ويضيع
شهدنا الدياجي وفيها الأحاجي فهذا الإله وهذا الربيع
ذهلنا فقلنا لربي لماذا، فقال اسقطوا من مقام رفيع
وقفنا دهشنا سألنا سقطنا فجئنا وسر القريض نذيع
فديوان ربك هذا الوجود وفيه السخيف وفيه البديع
وأنت ابن أختي بيت القصيد وخالك شاعر رب الربيع
عند لحد الربيع
ومثل خيالي أشرقت يوما وغبت قبيل الصباح فؤاد
ومثل خيالي أنسيتني نعيم الحياة وبؤس العباد
ومثل خيالي أسكرتني فقلت «اليراع» فقلت «الحداد.»
ومثل خيالي حيرتني رحلت وسرك في ذا الجماد
بهاء جمالك في تربة عجبت لترب جمالا يعاد
ونور عيونك في ظلمة عجبت لنور شديد السواد
وبلبل نفسك في وحشة، بل بلبل نفسي في تي البلاد
وحلو ابتسامك تحت الأزاهر ألبس روحي شوك القتاد
فراحت إلهة حبي تهيم وتبكي فؤادي في كل واد •••
لله أنت من وردة سرية ناطقة فرطتها يد القضاء
لله أنت من شعاع فهم عجيب زال كالظل في البيداء
لله أنت من طير أسف فوق بحر الحياة فذاق ملحه وعاد إلى الفضاء
لله أنت من طفل سجدت له أطفال السماء
إيه أطفال السماء! وهذا ربيعي أصبح ثلجا فليت الربيع بل ليت المعاد
وليت النجوم تحدث عنه فهذه تجاليده في جماد
وحلو ابتسامه تحت الأزاهر ألبس روحي شوك القتاد
بنات خيالي أنيري حول خيال فؤادي في كل واد •••
كشفق من أشفاق الأيام، كحلم من جميل الأحلام كوميض لاح في الظلام، كذلك كان ابتسام الحبيب
كنفحة من نفحات الجنان ، مرت مع نسيم الفجر في البستان فرنحت الورد والبيلسان وأيقظت الشوك في القرقفان، كذلك كانت حياة الحبيب كفراشة مختبئة بين الرياحين، أمسكها عدو كمين، فدفعها إلى جهلة ظالمين، سمعت أدواتهم الأنين، فبكت حظ مثل هؤلاء البنين، كذلك كان نصيب الحبيب
ويلاه من طب أجهز على الحب
ويلاه من طب هو الشوك في نبت غمنا، ومن طبيعة هي أمنا، ومن قبور هي لحمنا ودمنا
بهاء جمالك في تربة عجبت لترب جمالا يعاد
ونور عيونك في ظلمة عجبت لنور شديد السواد •••
ركضت حولي في الدار فعلمتني حب الصغار، حبا طاهرا صافيا كله أزهار
وقفت إلى جانبي في عزلتي فكنت حبيبي وسيدي ومعلمي
فتحت أمامي أبوابا عجزت عن فتحها يد حكمة الحكماء، وسدتني بما لا تضاهيه شوكة الملوك والأمراء، وهديتني سبيلا ضلت في سبيله العلماء
أنكرت سلطة المسيطرين، فجئتني وسلطتك من أعلى عليين
لله من أطفال هي ملوك في قلوب الرجال
لله من ضعف صولجانه فوق صولجان ملوك الزمان
كفرت بحب الأطفال فبعثك الله إلي رسولا
وصرت عندما أشاهد طفلا أحييه باسمك ساجدا وأقبله واجدا
إنما هؤلاء رسل الله في الناس
رسل هم الأطفال، رسل الحب والحنان والواجب والجمال
رسل كلماتهم سلام، وسيوفهم ابتسام
لله من رسول أنت أخلصت لك الإيمان وكنت لك أطوع من البنان
ولكنك اليوم حيرتني رحلت وسرك في ذا الجماد
ومثل خيالي أشرقت يوما وغبت قبيل الصباح فؤاد •••
أقمت في وادينا صيفا واحدا كنت فيه الصيف والربيع وكتبت في قلوبنا آيات هي خلاصة البيان والبديع
نظرت إلى السماء مساء فأدهشك كوكب هناك
مددت يدك إلى القمر كأنه راحة في ذراك
سمعت أنغام الموسيقى فطربت لها كأنها بانت بديهك وذكاك
عطفت على الأزهار وأحببت الرياحين كأنما صنعتها يداك
حسدك الحسون على زقزقتك، والحمام على حركاتك والورد على شذاك
حييت كل عابر طريق باسما وفي كل امرئ حبيت أخاك
كدت تشعر بالخطوب قبل حدوثها فأدمعك قبل أن يدمعنا بلاك
كللناك بالورد والغار يا حبيب الرياحين والأزهار
وفي ربيع السماء الخالد دموعنا طل في الجلنار
بل زهور في أفلاك تدار
بهاء جمالك في تربة عجبت لترب جمالا يعاد
ونور عيونك في ظلمة عجبت لنور شديد السواد •••
من هضاب جللتها السماء إلى مدينة خيم فوقها البؤس والشقاء
حملناك - والغم يحملنا - إلى منبت التمويه والتلبيس والادعاء
إلى حمى الأطباء
ضربت في موطن الفهم والنور، فكان داؤك ذكاك، دماغ هو النبراس في غشاء هو القرطاس
ويلاه من هذا الشهاب، وهذا الالتهاب
في فترة من الزمان سقيت من مر الحياة مما يغص به جبابرة الزمان
يوم أسففت وقعت فكنت أحجية في دائك كما كنت أحجية في ذكائك
قال المداوون وقالوا، وضربوا في ميدان الحدس وجالوا، وأنت بعيد عن جهل هو عندهم اليقين
مددوك على لوح التشريح وأنت مسرع إلى من لا يحدس في شئون العالمين
أشمموك المخدرات وأنت في غنى عن هاته الترهات، كيف لا وقد أشلك الداء وخدرك الدواء؟
جاء الجزار وأعوانه بأدواتهم وعقاقيرهم، وأحاطوا بك؛ ليبعدوك عن ملائكة أسرعوا إلى لقاك
بضعوا الجلد، كسروا الجمجمة، أجالوا أدوات في الدماغ، ويلاه من أطباء يخبطون بل من جزارين يجربزون
قطبوا الجرح، لفوا رأسك بالشاش، كفنوا وجهك الأصفر بأوهامهم
ضمخوك بروائح العذاب والموت، وتركوك على سريرك
لأمك، لأبيك، لخالك، لربك
كفناك بأغشية قلوبنا وكلمناك بالورد والرياحين، بكيناك باسم كل ما أحببته وأحبك في وادي الأمين
بهاء جمالك في تربة عجبت لترب جمالا يعاد
ونور عيونك في ظلمة عجبت لنور شديد السواد
وحلو ابتسامك تحت الأزاهر ألبس روحي شوك القتاد
فراحت إلهة حبي تهيم وتبكي فؤادي في كل واد. (7) النفس الراحلة
تذكارا لراحيل دريان المتوفاة في 13 آذار سنة 1910
على أبواب الجنة تنتظر الأرواح أحبابها
بل تنتظر الأحباب أرواحها
آه على المحبين، المودعين والراحلين •••
أقف عند جثماني، لأودع أصحابي وخلاني
ومن فوق نعشي، أحيي الأعزاء المودعين
تخذت الموت منبرا، فرأيت من علاه ما لا ترون، وسمعت ما لا تسمعون
جموع مثلكم يعولون في شمال الأرض وجنوبها، وأرواح مثلي ينتحبون في السفينة التي تعبر نهر الموت والحياة، من أبناء الأرض عظماء وعظيمات
هم رفاقي الآن إلى الجنان
فلا تيأسوا، ولا تجزعوا
الموت خرافة مرهبة، الموت صورة فانية، الموت منبر الخلود، الموت هو الدرجة الأخيرة من سلم العذاب، فلم تنحبون، أيها الأحباب
على أبواب الجنة تنتظر الأرواح أحبابها
بل تنتظر الأحباب أرواحها
آه على المحبين، المودعين والراحلين •••
ما بالكم تنحبون، أواه، ودمعة الفراق من يكفر بها، دمعة الوداع من يجهلها؟
دموعكم كالوابل المتساقط على بحر هاجت أمواجه
دموعكم تسكن الرياح
دموعكم تنور حول الراحلين زهرا، وتتكون في صدف الحب لؤلؤا ودرا
دموعكم نور يضيء ساعة الفراق المظلمة الموحشة
دموعكم قط كلمات سفر الحياة
دموعكم أزهار على ضفتي نهر الأحزان ودموع الراحلين طل في كئوس هاته الأزهار
آه على المحبين المنتحبين، المودعين والراحلين •••
ساعة أزمعت الفراق، بدت لي أشياء من هناك، من وراء الكواكب والأقمار
ساعة علت صيحة الأحباب، رفعت إلي أعلام جميلة من خلال الضباب
على ضفاف أنهر الأبدية، في ظلال السدر الندية، رأيت الراحلين، على فرش من السوسن متكئين، وسمعت أطيارا تغرد حولهم، «إلى حين أيها المنتظرون إلى حين.»
في تلك الظلال أحبابي، حيث الورد لا يذوي والربيع لا يزول
حيث الحب يلعب متلهبا عن التنائي في جمع أصداف الحزن ولؤلؤ الرجاء
هناك على إحدى الروابي، أنتظر أحبابي
وأنسج لهم من أزهار الدموع والسرور، أكاليل مجد لا تبور
وأدخل وإياهم بيتا جميلا خالدا من الحب والحبور •••
على أبواب الجنة تنتظر الأرواح أحبابها
بل تنتظر الأحباب أرواحها
آه على المحبين المنتحبين، المودعين والراحلين. (8) معبدي في الوادي
إيه أم الطبيعة بل أمي، جئت أجدد معك آمال الحياة وسرورها
جئت أجدد عهدي وإيماني مع كلاء الحقول وزهورها
جئت أردد تحت هذه الأفنان الخضراء، ابتهال أبنائك الأتقياء
وقفت على ضريح الشتاء ليلا، فشاهدت هناك مشهدا جليلا
شاهدت ربة الربيع تقبل جبين أبيها، فينور الأقحوان تحت شفتيها
رأيتها تكتب بدموعها سفر الخلود، فيردده العصفر في الجلمود
ورأيت الأولاد في الحقول حفاة، يقطفون الزهور لخير من تألم في الحياة
فقلت في نفسي: ونعم الإيمان في قلوب الصبيان •••
إن في قلبي اليوم شيئا مما في قلب جاري، وفي قلب الغاب أثرا من آثاري
ألا إن قلبي في عقل هذا القروي، وعقله في قلبي الخفي. والذي يراه تحت الكلاء أراه أنا في السماء، والذي يراه في الأرض المنبثق منها نور العالمين، أراه في أكمام الورد أو في براعم الياسمين
فإذا كنت أرى ذلك في الحقل فلماذا أبرح الحقل؟
ألأسمع في الكنيسة وعيد من لا يعرف من أسرار الحياة سوى ما قرأه في كتب اللاهوت والصلاة
إن في ورقة من أوراق التوت سرا لا يكشفه اللاهوت
إلى الوادي إذا، هناك بين أشجار البطم والزمزريق وتحت أدواح الصنوبر والسنديان، أشيد هيكل الإيمان
أراني هنا في بيتي، بل في بيت الطبيعة، بل في بيت الله
ورفقائي هم حقا أحبائي، هم إخواني، حبا بحبي وإيماني
إن هيكلي لقريب من سلسبيل فضي ذهبي، يجمع بين الدم الجاري في العروق والصبيب المتصاعد في الأشجار واللبن الذي يجدد في النبات حياتها وفي الأزهار أريجها وألوانها، ومنبر مرشدي هو مرسح الإنشاد والتغريد، لا منصة التحذير والوعيد
أسمع همس الأفنان، وهي تسبح - في قلبها - الرحمن، وقد أحياها النسيم العليل الذي جاءها اليوم من بلاد الجليل •••
سماع قد بدأ الدوري بتلحينه والسنونو بإنشاده
سماع أن من حلق الحسون الذهبي تتدفق الأنغام الفضية
أن الأطيار تدعوك إلى تجديد إيمانك وآمالك في الحياة
هي تفتح لك أبواب السماء مغردة، ولا تبعدك عنها متهددة
هي تدعوك إلى العمل، وتنفخ فيك روح الجد والأمل
أي ربة الغاب إن رؤساء هيكلك يرددون صدى نشيد الربيع لا صدى منطق «الغوري» والمعضلات
وشتان بين «الغوري» والدوري، وبين الحسون والخوري •••
في ظل القويسة والغار، وبين الصعتر والوزال والخنشار وبالقرب من ضحضاح يشف عن نبات حية تحت الماء وفوق النهر الجاري تحت قدمي هذا الوادي الرهيب؛ أبني لك أيتها النفس هيكلا من الإيمان يؤمه في المستقبل البعيد من إخواني والقريب
بل أقيم فيه تمثالا للوداد والإخاء وأدعو إليه كل بشر تحت السماء
فيه أحيي اليوم أنفس المستقبل ومستقبل الأنفس العظيمة
وحياتي لا تزري بحياة الخنافس والدبابات؛ لأن الناموس الذي يحركها تحت الكلاء يحرك النجوم في حبكها والسيارات في بروجها •••
إن الأريج المنتشر من هذه الأدغال هو البخور الذي يحرقه الربيع على مذبح الحياة والإيمان
هو أريج الزعرور والقندول المختبئة أشواكهما الآن تحت نقاب جميل من الأزاهر الصفراء والبيضاء
بين هذه الأدغال الشذية وتحت شعاع ابتسامة الأشواك يلذ لي التأمل في من مات ليحيي الحب والوداعة في الناس
بين هذه الأشواك تحملني تصوراتي إلى حيث وضع الأكليل على رأس رأس الشهداء
على أن الزمان لم يبق منه سوى الأزهار التي تنور كل عام في قلوب الأتقياء مثلما ينور القندول والزعرور في الغابات
باسمك أيتها النفس الإلهية أصنع لإيماني إكليلا من أزاهر الزعرور لا من أشواكه
باسمك أشيد لحبي هيكلا من خشب السنديان وأزينه بالصنوبر والنيلوفر وبأقمار البيلسان
وإلى أتباع الذي صلب وبني الذين صلبوا أقول: تعالوا نسبحه أجمعين في وادي المسرة لا في وادي الدموع، تعالوا نتصافح تحت السماء، حيث لا حاجز يحول دون الحب ولا ما يحول دون الإخاء. (9) إنا غريبان ههنا أو جمعة الآلام
كلمة همسها النسيم في رعاة الجليل فسمعتها الدهور ورددتها الأجيال
كلمة من أغصان الزيتون في أورشليم زلزلت العروش وأسمعت ملوك الأرض صوت ذي الجلال
كلمة زرعتها دموع المرأة تحت الصليب، فنورت في السماء وكان فيها مسك ختام النحيب
هي كلمة الربيع في كل عام، بل نشيد الأطيار على الدوام، بل أغنية الأزاهر في الحقول والآكام
وإن أنفس الناس النبيلة، لتتجسد في مظاهر الربيع الجليلة
إن في كل نفحة من نفحات الربيع روح بشر عظيم وديع
إن العلم في هذه الأيام يحتفل بفوز أمراء الحرب وملوك السلام
وإن إكليل الشوك لأعظم من تيجان القياصرة، وكأس المر لأطيب من خمرة الأكاسرة، وقد يدرك هذا الإنسان، فيظل من عبيد الزمان بل من أسراء الغرور والبهتان •••
جئت الكنيسة لأردد اليوم مع الناس، ذكر أمير الناس، بل ذكر الحقيقة التي يعز نصرها بالعذاب، وتحلو بمر الشراب
دخلت الكنيسة وفي نفسي من أحد النخل والزيتون ما لا ينسيني إياه يوم الجمعة الأليم
بل في نفسي من السرور والابتهاج ما لا يضاهيه فرح الناس في العيد العظيم
إن في هذا اليوم يجتمع القمر والشمس، فيشرق الغد على المستقبل، ويشرق على الحاضر الأمس
في مثل هذا اليوم ولد على الصليب الكريم روح بشر صميم
إنه ليوم حبور أيها الأتقياء، لا يوم حزن وبكاء، بل لبس ورياء •••
وإنما نحن في جنازة المسيح، وهذا وربي تجديف قبيح
إن وراء ذاك الستار الأسود الصليب، وأمامه الآباء ووجه كل قطوب كئيب
هم يجنزون من لا يعرفون، بل يدمدمون وينعبون، والناس إليهم شاخصون
ويلاه، أأنا الوحيد الذي لا يرى ما يراه الآباء، ولا يشعر بما يشعر به هؤلاء الأتقياء
ها قد مشى في الجنازة المدمدمون، وهم في الكنيسة يطوفون
وهذا الصليب، وقد تصاعد وراءه النحيب، وأمامه البخور والطيب
وصل الموكب إلي، فما جثوت على ركبتي
سرحت في الناس نظري فرأيتهم كلهم ساجدين، ورأيت بمقرب مني رجلا آخر من الواقفين
فقرأت في وجه هذا الغريب، ما خالج قلبي الكئيب، وصرخت ساكتا: إلهنا، إنا غريبان ها هنا
ثم كلمت الغريب فقلت: ولم الجناز، ومن صلب قد فاز
ولم هذه الصلوات المبكية، وقد أشرقت على الأرض ابتسامة إلهية، فمال بالنظر إلي، ولم يجبني بشيء •••
ها قد دفنوا الصليب تحت الزهور، وانجلت غيوم البخور
وطفئت الشموع، وكفكف المدمدمون الدموع
خرجنا من الكنيسة أنا والغريب، ونفسي تناجي ذاك الحبيب
فسرنا معا إلى بستان من الزيتون خارج المدينة
وجلست تحت شجرة هناك فجلس الغريب إلى جانبي
نظرت إليه ونظر إلي، وقد استولى علينا السكون والعي
فكأننا حبيبان، فرق بينهما العرفان، فجمعهما الحب والحنان
وفي مثل هذه الساعة تفسح اللحاظ، عما تعجز دونه الألفاظ، على أنني حرت في أمره العجيب وقلت في نفسي: من يا ترى الغريب؟ وما كاد يخطر ذاك في البال، حتى وقف أمامي كالخيال
فعرفت الطيف في الحال، وقد أنكرته في شكل الرجال
وناديته مدهوشا: أخي، رفيقي، سيدي! هذا فؤادي ها يدي
نفحة من جنانك كلمة لإخوانك
أسمعت خدامك ينعبون؟
ألتمثالك الناس يسجدون، وهم عنك بعيدون؟
سيدي دعني ألقي على كتفك رأسي، فيذوب ثلج فتوري ويأسي، أقربني من فؤادك؛ لأتزود من الحب الذي لا يعرفه أحد من عبادك، سيدي اسقني من الحرية والحق والإخاء ما لا يشوبه الخوف والرياء •••
وبين أنا أكلمه في البستان، طل البدر من شرفة لبنان
فتركني ذو الجلال، مكانه كالخيال، وذاب في القمر فوق الجبال. (10) عشية رأس السنة
قم أيها الناعس المتقاعس، قم أيها البائس من الحياة
قم أيها العالم الفاتر الشعور القليل الاكتراث
قم أيها البخيل النائم على الصكوك الأوراق والكواغد
قم أيها المقامر العبوس المكتئب، وقم أنت أيها المسرور المحبور المبتهج
قم أيها الساخر بأفراح الشعب البسيط
انهضوا كلكم واخرجوا معي إلى أسواق المدينة هذه الليلة
انهضوا من رقادكم، اخرجوا من سجونكم، أطلقوا النفس من قيودها
أحيطوا بهذا الجسم النحيل، أعطوني أياديكم ولا تخافوا
تعالوا معي ولا تأسفوا على شيء فات أو مضى
اسمعوا اسمعوا، إن الأبواق تناديكم بأصواتها والأجراس تستقبلكم بألحانها، والليل يبتسم ابتساما لخروجكم •••
نعم نحن في منتصف الليل
ولكن شمس تموز في رائعة النهار لا تنير الأرض كما أنارت المدينة ليلتها هذه
أزاهر أيار كلها لا تبهج النفس وتفرجها كأزاهر هذه الأنوار
كيف لا، ومن أصوات السرور في الليل ينور الأثير في الفضاء وتزهر جنان الجوزاء؟
تعالوا وإياي إلى أكبر شارع وأجمل جادة أريكم هناك جمعا عجيبا من البائسين والبائسات، يموجون كالبحر الهائج، ويهتفون هتافا عظيما جميلا
وما هذا الشعب بشعب ثائر، بل هو محبور فاز بالحياة ساعة بعد أن عاش في حياض الموت خلال العام المنصرم
إلي لنرى أحقر الأكواخ وأظلم المضايق وأقذر أزقة المدينة، أريكم هناك أغنى الناس وأكيسهم، أرفعهم وأشرفهم
قد جاءوا هذه الليلة ليآسوا الفقراء ويعزوهم جاءوا ليتفقدوا شئون البؤساء
ولكنهم قصدوا الأكواخ والمضايق والأزقة فوجدوها خالية خاوية
في هذه الليلة يخرج الغني من قصره، والفقير من كوخه، والبائس من سجنه، والعبد من قيوده، في هذه الليلة يتحرر الإنسان •••
إليكم أيها الساخرون بأفراح الشعب البسيط
تعالوا معي إلى الملاهي فأريكم أنها مهجورة وإلى رداه الرقص فأريكم أنها مظلمة، وإلى مجالس الأنس لتروا كيف هي فارغة وإلى بيوت الشعب فتشاهدوها مزينة بأغصان النخل والشربين والأنوار الصينية المنوعة الألوان، في هذه الليلة يتحرر الإنسان
يتحرر الإنسان ولو ساعة واحدة في رأس كل عام
ولو ساعة واحدة في السنة تتساوى أفراد الأمة وطبقاتها ويخرج البشر من السجون التي بنتها البشر
تنطلق الرجال من القيود التي صنعتها الرجال
في هذه الليلة لا يذكر الإنسان شيئا سوى أنه حر سعيد محبور
ينسى الفقير كونه فقيرا وينسى الغني كونه غنيا وينسى الشريف كونه شريفا وينسى البائس كونه بائسا، وينسى الفاعل كونه عبدا
إن فرح الناس في هذه الليلة لعظيم، تكاد المدينة تضيق على ما في قلوب أولادها من السرور والابتهاج
نعم في مثل هذه الليلة يخرج الإنسان من كل ما بناه الإنسان وشيده، الملاهي والحانات والمعابر ورداه الرقص، وبيوت اللذات كلها، كلها لا تشفي له غليلا، كلها ضيقة مظلمة، كلها صغيرة واطئة
لا شيء هذه الساعة في العالم يستحق أن يقف الإنسان تحته متهللا ممجدا إلا الفضاء غير المتناهي، إلا السماء الشهباء المرصعة بالنجوم المزينة بالكواكب والأقمار
في هذه الليلة يخرج أولاد المدينة وبناتها ورجالها ونساؤها ليودعوا العام المنقضي وليستقبلوا العام الجديد
يطوفون في الشوارع متهللين فرحين نافخين في المزامير والأبواق هاتفين هتاف الصبيان في الأسواق، وهذا - ورب الناس - جميل •••
هلموا إلي أيها الساخرون بأفراح الشعب البسيط
تعالوا فانظروا كيف يسير الغني بجانب الفقير في هذه الليلة، والشريف بجانب الفاعل، والصالح بجانب الأثيم، والصاحي بجانب السكران، والكاهن بجانب الجاحد
تعالوا وانظروا كيف العاهرات المومسات يمسسن بمناكبهن مناكب الطاهرات من النساء والعذارى من البنات
وكلهم رجالا ونساء صبيانا وبناتا يهتفون هتافا واحدا، ويسيرون تحت سماء الله أول ساعة من العام الجديد بين ألحان الأجراس وأصوات المزامير والأبواق
بين صفوف طويلة من الأبنية الشاهقة المنورة المزينة بسعف النخل وأغصان الصنوبر والشربين
يموج هذا الجمع موجا في الشوارع والأزقة
يموج والكتف إلى الكتف، وكلهم في الإنسانية إخوان وأخوات، لا يعرف الواحد منهم الآخر
بل كل يعرف الجمع بأسره
لا ضغينة هذه الساعة ولا بغض ولا حسد
لا حقد هذه الليلة يكدر صفاء قلوب الناس
نعم يسير الشريف إزاء الفقير ولا يتقزز من رائحة ثيابه
يسير الصاحي قبالة السكران ولا يشمئز من رائحة فمه
يسير الجاحد والكاهن ولا أحد منهما يعفر خده ويشمخ بأنفه
يسير الصالح والأثيم معا مبتسمين
تسير العذراء قرب الزانية ضاحكة مستبشرة
والكل يهتفون هتافا واحدا ويفرحون فرحا واحدا •••
رحماكم أيها الساخرون بفرح الشعب العام
عودوا وإياي إلى زمان الصبا والطهارة
إن بين هذا الشعب المزدحم ولدا سوريا غريب السحنة نحيل الجسم أسمر اللون مفلطح الرأس طويل الأرنبة غليظ الشفتين
يفتح بمنكبيه طريقه ويتقدم مع رفاقه الأولاد الأعاجم هاتفا هتافهم، نافخا مثلهم في البوق، مرددا أغانيهم ونكاتهم قاسما أيمانهم لاعنا - في الأحايين - لعناتهم •••
من لا يأسف على زمان الفتوة وأيام اللهو والسرور الطاهر؟
من لا يقول هذا القول المبتذل ويردد مرارا في أيام الكهولة هذا الكلام المطروق؟
ويلاه أمن اليوم أندب الصبوة، أتخدعنا السنون نحن شبان هذا العصر، أتسقينا كأسا واحدة وتتقاضانا ثمن خمسين ومائة
أتكسر إلهة الشباب الكأس بعد أن ترينا إياها
أقسم بالله أيها القارئ، إن الساعات التي قضيتها في تلك الليالي لألذ وأجمل ساعات شبابي
بل هي ألذ ساعات قضيتها حتى اليوم. ساعات سرور بسيط طاهر صبياني
ولكن الساقي كسر الكأس وحطمها
أواه، سحق الساقي الكأس وسقاني مسحوقها
وإن طعم هذا المر ليذكرني اليوم بتلك الكأس الواحدة العذبة
يذكرني اليوم بتلك الليالي فأضحك عندما أتأمل فيما كنا نقوله ونفعله أنا ورفاقي الأعاجم
إي والله، حتى إني لم أزل أذكر أسماء بعضهم من صبيان وبنات
أذكر كيف كنا نخرج فنودع العام المنقضي ونستقبل العام الجديد
وكيف كنا نقف على منعطف الشارع كل مع حبيبه ونعد الوعود ونعقد العهود
رحم الله الأحباء وودادهم، رحم الله الحبيبات وعهودهن
والآن، ولا سمير للروح سوى الطبيعة، ولا رفيق غير الكتاب وبعض الأحرار الصالحين تهواهم الأذن وتتشوق إلى رؤياهم العين
غير أن المناجاة تغني في الأحايين عن المصافحة
ويا ما أحيلى من نتعشقهم عن بعد قانعين صابرين.
الباب الثالث
نور الأندلس
1
من حسنات الحياة زيارة الأندلس، ومن الكفارات عن ذنوب الناطق بالضاد الحج إلى الحمراء، التي قال فيها الشاعر:
تمد لها الجوزاء كف مصافح
ويدنو لها بدر السماء مناجيا
ومن حظي أني كنت من الحاجين، زرت تلك البلاد المباركة في موسم ظننته - أولا - موسم الأعياد، ولكني بعد أن طفت في شوارع سفيليا (إشبيليا العرب) وتنشقت هواء برها، وشممت نفح طيبها، وسمعت حمارها وفلاحها وشريفها يتغنون ب «أندلثيا» - وهم يلفظون السين ثاء - ويناجون ربة السرور جودهم ليل نهار، بعيونهم وبأرواحهم الخفيفة ساعة الأشغال، وبالعود والقانون ساعة اللهو والطرب؛ علمت أن عام تلك البلاد موسم، ومواسمها أعوام يتلو الواحد الآخر دون انقطاع.
فالأندلس بلاد الرقص والقمار، بلاد الكنائس أيضا وحرب الثيران. إنما هي قطب السرور في فلك الإسبان بل هي في نظر الأندلسيين بلاد الله وحدها، لا شريك لها في ذا الشرف الفريد، وقد قال أحد ظرفائها: «خلق الله العالم في ستة أيام ثم جلس في اليوم السابع في الأندلس ليستريح.»
على أن الزائر لا يرى حتى للخالق تعالى فرصة للسكون أو مجالا للارتياح، فالكنائس مثل القهاوي والمسارح وبيوت الميسر كلها أبدا مفتوحة، تمثل فيها الحركة الدائمة، والناس قائمون قاعدون يودعون عيدا ويستقبلون آخر، ومن غريب الأمور ولطيفها أن حيث تكثر الأعياد تقل الصلاة، فالأندلسيون قلما يصلون رغم مواكبهم الدينية العظيمة وموسيقى كنائسهم الرهيبة الفخيمة، وقد يحول ذا الجمال الظاهر في الاحتفالات، دون الصلوات، ولكن هذا بحث آخر ما لنا وله الآن، إلا أني أقول قد يستغني المرء أحيانا في الحركة عن البركة؛ إذ لا وقت لمن عيده دائم أن يحاسب نفسه، أو يحسد جاره، ولا وقت يضيعه بالتذمر والشكوى.
والذي يخيل لي أن الله بعد أن جلس في الأندلس يستريح باركها ثم هجرها، وأبناء البلاد حتى الآن يعيدون كتلاميذ المدرسة عند تغيب المعلم، وما أجمل ما فاح من تلك البركة، وما تجلى وما تجسد في تلك البقعة من الأرض، ففي سمائها وفي شمسها عرش للعيد وهاج، وفي بساتينها وفي مروجها حلة للعيد لا تبلى، وفي هوائها جرثومة سحر تدخل قلبك فتشرع ترقص فيه حتى تستهويك وتستغويك فتخف الروح منك إلى نقطة الدائرة في مدينة الطرب والسرور، بل تستوقفك بهجا، دهشا، نشوانا، فتسترسل مثل ابن البلاد، إلى كل من رقص وكل من شاد. وتسير معهم من عيد صغير إلى عيد كبير إلى عيد أكبر إلى عيد الأعياد في الربيع. ولكنك إذا جئت الأندلس من لندرة مثلا لا من مصر، تتعب من الأعياد وتملها وهم لا يتعبون ولا يملون.
ثلاثة أبواب ينبغي أن تظل مفتوحة في وجه الأندلسي: باب القهوة، وباب ال «كاسينو» وباب الكنيسة، فهو إذا خسر في المقامرة يؤم الكنيسة أو القهوة حسب ذوقه وإلهامه، ليغير من حظه، ولم أر ما سوى ذلك في تلك البلاد للهرب من الأعياد؛ بابا مفتوحا. إلا إذا لجأ السئوم إلى الجبال، أو طفق يركض جنوبا حتى قادش أو مالقة فيعتصم هناك بالبحر، أو لبس قبع الخفاء الذي يجده في خزانة الغابر من الزمان، فإن فيه باب فرج للمتفرج الغريب. أجل إن في قلب الأندلس ملجأ قلما يلجأ الأندلسيون إليه، هناك مقام لا تسمع فيه ضجة العيد، ولا تصل إليه أصداء الأغاريد.
مقام بل مقامات هي أجمل ما في الأندلس أثرا وذكرا، وقد كان لها من السرور أيام زاهرة، ومن الطرب ليال باهرة عاطرة، ومن المجد أعلام وقباب، ومعاهد وأنصاب، ما تبقى منها اليوم غير قصور متهدمة نبتت في جدرانها الأعشاب، ونظم العنكبوت مرثاته فوق النوافذ منها والأبواب. وجلس في عروشها العالية السكون، ودفن في جناتها المهجورة الشعر والأدب والفنون. وإنك لتسمع؛ لسكونها المهيب وخلوها من الأنس الرهيب همس الشمس وهي تتمشى في عرصاتها ووقع نقط الندى من أغصان الليمون والرمان، على ورق الورد والبيلسان.
طلول كانت بالأمس معاهد وقصورا، وقصور كانت يوما دائرة المجد، وقطب الحبور، في قناطرها وقبابها وأبوابها صناعة دقيقة نادرة، وفي كل رسم من رسومها آية جمال تدهش اليوم أرباب الفن، وفي كل بيت من الشعر على جدرانها درة من المعنى، أو زهرة من التقوى منقوشة في بلاط منقطع النظير لونا وتذهيبا.
وصنائع الزليج في حيطانها
والأرض مثل بدائع الديباج
هذي آثار العرب وقد أمست عروشا لربة النسيان، ومدفنا لمجد الزمان، وظلالا تجلب الأحزان، وعبرة بليغة للإنسان، وهي، وإن كانت كذلك، بهجة للناظرين، ومصدر وحي لأرباب الفنون والمتفننين، ولكن الذكرى، فيا لله من ذكرى تقبض على النفس فتجعلها كالجماد، لله من آثار تبتهج لمرآها العين فيذوب لمعناها الفؤاد، لله من بلد تغنت بمكارمه كل بلاد، لله من عزك يا بن أمية، ومن مجدك يا بن عباد، أي عبد الرحمن والمنصور والمعتمد، من شادوا معاهد العلم والدين. لقد طالما اهتزت النفس لذكر مآثركم وطالما وقفت العين شغفا عند أسمائكم في التاريخ. ولقد طالما تاقت النفس مني والعين إلى مشاهدة ما تبقى من تلك الآثار المجيدة، وها قد استجيبت طلبتي وتحقق أكبر آمالي، فقد وطأت أرضا عطرتها شمائل العرب، وجلت بلادا عمرتها همم العرب، ووقفت أمام عروش هدمتها عصبية العرب.
سررت أني فزت بمهرب من العيد، فرحت كالهائم أنشد تحف النسيان، بل مخبئات الزمان، وما البادي من أثر غير غلاف لكنز مكنون، يستخرجه العلم، وتجلوه الفنون، فمن قصر إلى برج، ومن برج إلى طلل، ومن طلل إلى متحف، سرت كالهائم الولهان، نسيت العيد في القريب البعيد من الماضي المجيد. فمن ال «هرلدا» أي: المئذنة التي شادها المهندس جابر للخليفة يوسف بن يعقوب، إلى برج الذهب الذي شاده ابن العلاء على ضفة وادي الكبير، ومن البرج إلى القصر الذي لم يزل فيه زاوية عامرة يقيم فيها ملك الإسبان عندما يؤم إشبيلية.
ومن القصر إلى المتحف، وفيه من آثار الفنون والعلم ما يدهش حتى أربابها، هذه أبواب خلاص من الأعياد ... ولكن الفرح بالخلاص لا يلبث أن يزول، فيحل محله كآبة شديدة الوقع تكاد تشابه حزن الحبيب في فراق الحبيب، وفي مشاهدة الطلول والآثار يسترسل المرء الرقيق الشعور إلى مثل هذه العواصف، وقد كمن فيها شبه سرور لا يصانع فيه، ومتى تكاثرت الأحزان واشتدت يقام لها عيد في القلب، فيضحك صاحبها وهو يبكي، ويردد الألحان وهو ينوح.
وقفت في تلك المئذنة القائمة إلى جانب كاتدرائية إشبيليا وهي أعظم كنيسة في أوروبا خلا كنيسة القديس بطرس في رومية فانكشفت تحت عيني مدينة هي شرقية بل غربية في سطوحها البيضاء، وجاداتها العوجاء، وعرصاتها الخضراء، ومصاطبها الحافلة بالفل والقرنفل والمردكوش، وأهلها السائرون في الأسواق كأن لا شغل لهم غير شم النسيم وقطف الزهور، فتراءى لي العيد ثانية كأنه يقول، لا مهرب لك مني وأنت في هذه البلاد، فحولت نظري إلى القصر وبستانه الفسيح الجميل، ثم إلى البرج على ضفة نهر الكبير، فساح بي الفكر إلى الشام، إلى الكوفة، إلى الحجاز، إلى الحرمين، جالت بي الأحلام فأدنتني من مجد العرب الغابر بل مثلته حيا أمامي.
عرب الأندلس، عرب الشام، عرب بغداد، عرب الهند، أيعرف بعضهم بعضا اليوم إذا اجتمعوا في نجد مثلا أو في الحجاز؟ وأي صلة تصل بين بني عباد في أوج مجدهم وبني أمية، وبين بني العباس، وبين ببر المغول، بل أي صلة تصلهم كلهم بعرب الجزيرة؟ وأية من تلك الدول العظيمة الهائلة يدرك سرها اليوم في اليمن مثلا، وتحترم شارتها، ويؤمل بتجديد عزها؟ أليس للعرب ما يظهر من الفكر نيرا إلا إذا احتك بأفكار بعيدة غريبة؟ أولا يثمر النبوغ العربي إلا إذا لقح بنبوغ أجبني؟ هل الفضل أو جله ببغداد للبرامكة، وبالشام وبيزنطة للرومان، وبالأندلس للفرنجة، وبسمرقند للعجم، وبكشمير للهنود؟ فما السبب إذا في مجد شاده أولئك العرب الأماجد خارج الجزيرة؟ وما السبب في قصر عهده واضمحلاله؟
2
زرت الأندلس حاجا، لا باحثا منقبا، وعدت منها وفي نفسي بهجة من شاهد أجمل ما في الآثار، وحدث أفضل من في الديار، ولا فخر في ما أقول، إنما هي الصدف إن شئت أن تدعوها كذلك، أو الجواذب النفسية إن كنت تعتقد بغير الجاذب الكائن في الأثير. وهاك القصة.
بعد أن شاهدت ما في إشبيليا من الآثار العربية والإفرنجية أيضا، وأصبحت في محشر من الأعياد، قلت في نفسي: الهرب رأس الحكمة. فسافرت إلى غرناطة، قاعدة الدنيا في ذلك الزمان، وحاضرة السلطان، وقبة العدل والإحسان، وأقمت في القصبة الحمراء أسبوعا وددت لو كان أشهرا، وكان قصدي أن أقيم ثلاثة أسابيع، لولا دف العيد وزمره.
فقد صدف أن زيارتي كانت في الربيع ولم يكن أهل غرناطة ليقيموا بعد مهرجان أيار، عيد الأندلس العظيم، وهو شبيه بعيد النيروز عند العجم والعرب، وقد يكون أخذ عنهم، وكنت شاهدت في إشبيليا فاتحة ذا المهرجان الذي يدوم شهرا كاملا، وهربت منه كما قلت، ولكن الويل للهاربين، فها إنه لحقني بخيله ورجله، بخيامه ونوباته ومشعوذيه، بأعلامه وراقصاته وأغانيه، وما كنت من النادمين أنتفع بالتجارب المكربة فأسد بالقطن إذني وأعتصم بالقصبة، بل هربت ثانية، تركت الحمراء وقصورها، وحيطانها الحافلة بجيد الشعر في مدح ملوكها، وذكر مجالسها، ووصف جناتها وبركاتها:
أعجب شيء حادث أو قديم
مربض الأسد ببيت النعيم
وسافرت إلى قرطبة، مسقط رأس ابن رشد أبي الولد، لأشاهد فيها الجامع الكبير، الذي شيد في عهد عبد الرحمن الأول مسجدا صغيرا، فنشأ والدولة نشوءا طبيعيا؛ إذ أضاف إليه خلفاء عبد الرحمن الأربعة أقساما كبيرة، زادت بفخامته وجماله، وهو اليوم كنيسة قائمة على عمد الجامع القديم، التي تتجاوز الألف عدا.
وصلت إلى قرطبة مساء، وأنا أحمد الله على خلاصي من المهرجان، لكني ما كدت أنزل من عربة السكة إلا ورب العيد والأغاريد، والكابوس العنيد ... لا، لا، هي أصداء من غرناطة لم تزل ترن في أذني. دخلت المدينة مستعوذا مستسلما، فإذا بالأصداء وقد تعاظمت، وبالأصوات وقد تضاعفت وتعددت وتجددت وترددت، لها غنات ولها هدير، غريبة الألحان والأغاني والضوضاء. وقد ملأت الفضاء وحيرت حتى السماء، فلا زئير الأسد وقد خالطها صفير البلابل يشابهها، ولا نهيق الحمير بين صياح الديوك وعجيج الثيران، ولا صدى المدافع وقد تخللها نعيق البوم وعواء الثعالب ، ولا الأبواب وقد نفخت فيها القرود، ولا الدفوف في أيدي الجنود السود، بل كلها اجتمعت في قرطبة ضجيجا، وتصاعدت عجيجا، كأنها ألحان من الجحيم، أصيبت بمغص أليم، سددت أذني مستغفرا الله مسترحما، فإذا بصوت يهمس فيها: يا هارب، يا جبان، هي نوبات المهرجان. «عيد بأية حال عدت يا عيد» ... ألا مهرب منك في بلاد الأندلس؟ ألا ملجأ للغريب فيها من نعيمك وخمرك، وطبلك وزمرك؟ وقد زاد في الطين بلة أن المنازل والفنادق بسبب هذا العيد المبارك، كانت كلها ملآنة، لا غرفة، ولا فرشة، ولا مسند فيها، لا لغريب ولا لنسيب.
فبعد أن جلنا المدينة كلها أو ما تلألأ بالأنوار منها وأجرة العربة تصعد كالزئبق في تموز، والدليل ترجماني يحرك يديه، ويهز كتفيه، شاكيا آسفا، بل خجلا من ضيق بلده في وجه الزائر الكريم، وقفنا عند بوابة كبيرة إلى جانبها مصباح صغير ضئيل، فترجل الدليل وقال كمن أنزل عليه الوحي: «انزل يا (سنيور) انزل، سآخذك إلى بيت عمي وهو بيت يليق بك.»
فنزلت والحقيبة بيدي، وكذلك قلبي، فمشيت وراءه وكان المصباح عند الباب آخر عهدي آنئذ بالنور، مشينا في زقاق ضيق، لا يمكن أن يقع السائر فيه لقرب حيطيه الواحد من الآخر - إلا إذا وقع على وجهه أو ظهره - ومنه إلى ساحة من عليها ببعض النور مصباح في شباك مفتوح، فتنفست الصعداء، ولكننا لم ندخل الساحة إلا لنخرج منها إلى شبه جادة فيها شبه قنديل ظننته لبعده بصيص الحباحب ولم نصل إليه لأتحقق ظني، بل سرنا يمينا ثم شمالا إلى زقاق آخر مظلم، وقف الدليل فيه وهلة وقال: أعطني يدك، فأنزلني درجا درجاته مثل دكات لبنان متهدمة، وهو يقول: لا تخف وصلنا، وأنا أقول في نفسي: إنه رأي غريب، في ما يليق بالغريب، أيقيم عمه تحت الأرض يا ترى؟
نزلنا الدرج دون حادث يستوجب عناية طبيب، فانبسطت أمامنا طريق شع فيها ما كنا نسيناه من حقيقة النور، فمشينا توا مسرعين، فإذا هناك مصباح لا ريب فيه فوق باب مفتوح، دخلناه كأنه باب الجنة، وسرنا في فناء الدار، وهي عامرة بالأنوار، وفيها أقفاص تغرد فيها الطيور، ومستنبتات نورت فيها أنواع الزهور، ولكن الدار خالية من الأنس، وقد كان أهلها في المدينة يعيدون، ما سوى رب البيت، وهو شيخ جليل، جاء يتأهل بالغريب وبالدليل.
تكلم الدليل فابتسم الشيخ نسيبه، وسار وهو يشير أن أتبعه، فأدخلني غرفة صغيرة، لا نافذة فيها ولا شباك، إلا أن في بابها - وهو قبالة الحوض في الفناء - ثقوبا تؤذن بتجديد الهواء، وصوت خرير الماء، وبعد المساومة - لا ضيافة في الأندلس اليوم - سألني الشيخ عن أصلي، فقلت عربي، فهش وبش، ونادى نسيبه، وهو يشير إلى قلبه ويقول: كلنا هنا عرب، إلا أنه تقاضاني أجرة الغرفة ثلاثة أضعاف إكراما للعيد، وقبض القيمة سلفا إكراما - على ما أظن - للعرب.
وبعد حديث كان الترجمان صلته، علمت أن الشيخ ممن يعجبون جدا بعرب الأندلس، وإن كان لا يعرف للضيافة معنى، ويعرف للمال ألف معنى، فهو في هذا مثل كل الإسبان بل مثل أكثر الأوروبيين اليوم، وهو من القليلين في الأندلس الذين يفرقون بين العرب والمغاربة، أو بين من جاء من بر الشام ومن جاء من إفريقية، فلا يقول: «مورو» إذا أراد أن يقول: عربي، والعكس بالعكس، وهو يفضل الأمويين على سواهم، ويعجب بما كان لقرطبة في عهدهم من الشهرة والمنزلة في العلوم والفنون. وقد أخبرني أيضا أن له ولعا في درس الآثار، وبالأخص آثار قرطبة العربية، ودلني إلى بيوت في المدينة، لا ذكر لها في كتاب الدليل حيث تشاهد فيها أمثال نادرة من البلاط الزليجي، أي المزجج المذهب.
ولم يخطر في بال الشيخ - وكان قد أطلق للسان العنان - أن قد أكون تعبا، نعسا، من السفر والضجر، فقد سر - ولا شك - بغريب الصدفة، فاسترسل في سروره، ودعاني إلى ردهة الاستقبال ليريني فيها أثرا جميلا، أثرا مدهشا، وحقا أني انتعشت حالا بما شاهدت، فتجددت في الرغبة بالسهر والحديث، كيف لا، والأثر عربي، ذكرني بما قرأته مرة عن أحد الأولياء، وكان قد مر بالزهراء، قصر المنصور، الذي :
نسي الصبيح مع الفصيح بذكره
وسما ففاق خورنقا وسديرا
فقال الولي: «يا دار فيك من كل دار، فجعل الله منك في كل دار»، ولم يكن بعد دعوته إلا أيام يسيرة حتى «نهبت ذخائرها، وعم الخراب سائرها.»
وهاك أثر جميل من ذاك الخراب، في تلك الردهة الأوربية الفرش والبناء، على حيطانها الأربعة، زنار من البلاط الزليجي منقوش فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله على نعمة الإسلام ...» وكذلك نتف من الشعر مفككة الألفاظ، مقطعة المعنى.
سألني الشيخ قراءتها وترجمتها، ففعلت طاقتي، فهز رأسه أن قال تمام، وسر جدا ثم قال: وعندي أثر آخر يدهشك، وحمل القنديل الذي كان على الرف، وخرج من البيت يتقدمنا إلى زقاق خارج الدار، وهناك، في حيط ظاهره قديم، حجر منقوش فيه «رشد» وقد كاد يمحو تلك الأحرف الزمان، فقرأتها مدهوشا، فهز الشيخ رأسه وقال: لا شك عندي أن هذا بيت آفروس - أي: ابن رشد - الذي كان يعلم الفلسفة في كلية قرطبة.
والأغلب أن بيت الفيلسوف - مثل سائر بيوت كبار المسلمين قديما - أصيب بما أصيبت به قصور السلاطين، فتبعثرت حجارته، ورست في ذا الجدار بعضها، ولكني لم أحاول أن أزعزع رأي سيدي الشيخ أو أفسد ظنا له فيه فخر وسرور، فقلت: وهل هذه الدار قديمة، فقال: الغرفة التي تنام فيها هي أقدم ما في الدار بناء، وهذا الحائط من حيطانها.
عدت إلى غرفتي وأنا لا أدري أني درت مع الشيخ حولها، فدخلتها والدهشة تملك نفسي، والهواجس تتجاذب الفكر مني والخيال، نعم، إن ما شاهدته لتافه جدا بالنسبة إلى الفخامة والعظمة في قصور إشبيليا وغرناطة، ولكن العين لا ترى ما تراه النفس، وقلما تحسب للرؤيا حسابا، إن حجرا منقوشة فيه ثلاثة أحرف عربية لشبه نافذة في غرفة صغيرة أرتني بل قربت مني ذلك العهد القديم المجيد.
وما المانع أن يكون هذا البيت بيت ابن رشد؟ أو هو - على الأقل - في الحي الذي أقام فيه، بل في مركز بيته الأصلي بالذات، وما المانع أن تكون هذه الغرفة - وهندستها عربية - غرفة ابن رشد الخصوصية؟ أصغاث أحلام. قد يكون الحجر من حجارة قبر ابن رشد، فالإفرنجة هدموا وبعثروا حتى قبور المسلمين! اعترتني الرعشة من ذي الذكرى، فاستعذت منها بغيرها، قد يكون هذا الأثر من الكلية التي كان يعلم فيها، حسن، وقد يكون من نصب أقيم له بعد موته، هذا أحسن، وإن كان لا يثبته التاريخ.
في كل حال وجدت نفسي تلك الليلة في دار لم تزل الروح العربية حية فيها، تلك الروح الخالدة في الشعر وفي العلم وفي الفنون، تلك الروح الحافلة بمصابيح من النور كابن رشد، والإدريسي، وابن العوام أبي ذكريا، والخلف أبي القاسم، وابن زيدون، وابن الخطيب، وأصحاب الموشحات وغيرهم من نوابغ الأندلس.
وها إن آثارهم أمست في كل دار من دور أعدائهم الفرنجة، وهم أو أبناؤهم اليوم من أشد المعجبين بهم. ففي قلب الأندلس روح العرب خالدة، ولكن ملكا شيدوه أمسى أثرا من الآثار، ومجدا أقاموه استحال طللا من الأطلال، ومعاهد علم أسسوها لم يبق منها حجر على حجر، إلا ما استقر، بعد انفجار بركان التعصب، في حائط جديد، أو في بيت حقير مجهول.
فما السبب يا ترى في سقوط ذلك الملك الذي شعت أنواره في ظلمات أوروبا كنجوم البادية في الدجى؟ وما السبب في اضمحلال أركانه وأصوله؟ ما السبب في زوال مجده، وفي قصر أمله وعهده؟
أقفلت الباب ونزعت ثيابي وأنا هدف لمثل ذي السؤالات ثم أطفأت الشمعة وسرت إلى السرير هائج النفس، أعللها بالنوم، ولكني توسدت الأرق، وأنا أسمع خرير الماء في فناء الدار، وأرى منعكسا على الحائط نقطا من النور الذي دخل مكسرا من ثقوب الباب. وما هي إلا هنيهة حتى بدأت تلك النقط تمتد فاتصل بعضها ببعض وأصبحت كالدائرة وهي ترتج وتتحرك على الحائط، نهضت من السرير لأرى ما في الدار، أو من فيها، فتحت الباب وخرجت مستكشفا فإذا هناك مستنبتات الزهور والشاذروان والأقفاص والعصافير فيها نائمة، ولا نور غير ما يشع من المصباح في الإيوان، عدت إلى غرفتي، وأنا أظن أن ما بدا لي إنما هو وهم مني أو خدعة البصر كما يقال، فإذا بالنور، بعد أن أقفلت الباب قد أحاط بالكرسي كالهالة واستحال دفعة واحدة شخصا هيوليا، بل رأيت جالسا أمامي شيخا جليلا يشبه الشيخ صاحب البيت إلا أنه لابس جبة وعمامة.
ذعرت لأول وهلة وهممت بالخروج، فسارع مطمئنا وقال باللغة العربية: السلام عليكم، فقلت: ورحمة الله وبركاته، أيتفضل سيدي الشيخ باسمه الكريم، فقال: ابن رشد يدعو لكم بالخير وطول البقاء. - أبو الوليد؟ - أبو الوليد ابن رشد بعينه. - ولم استحققت من فضلكم ذي الزيارة؟ - فكرت يا ريحاني، وحرت، وسألت، فجئت أجلو فكرك، وأزيل حيرتك، وأجيب سؤالك. - غمرتني والله بفضلك. - الفضل لذويه أرباب الفكر والرؤيا، ولست اليوم منهم.
قال ذلك وهو يهز برأسه كمن تهيجه فتؤلمه الذكرى. - ولكن زيتك يا سيدي لم يزل يحرق في مصابيحهم. - نعم في مصابيح الفرنجة، لا مصابيح العرب، والسبب في ذلك أن قد امتزج بزيتنا شيء من الماء، كثير من الماء، ولم يحسن العرب تصفيته مثل الفرنجة، أجل، قد خالط علومنا كثير من الخرافات والتقاليد والأوهام، نظرنا إلى العالم خلال ستار هو الإسلام، كان شفافا باهرا في الأحايين كحالة قرطبة في عهد بعض الأمويين، فترائت لنا أشياء من حقيقة الوجود والكون طلية بعضها، وبعضها غامضة أو مقطعة، فاستخدمنا منها ما استطعنا، وأهملنا منها - كرها أحيانا وجهلا في الأحايين - ما خالف قواعد الدين، لا يخدعنك ما تقرؤه في التاريخ عن تساهل الخلفاء في الأندلس وحلمهم، فإنهم - ما خلا اثنين أو ثلاثة - آثروا الملك على العلم، والسيادة المطلقة على الحرية والعدل، وكان أكثر العلماء والشعراء يأتمرون بأمرهم فيتزلفون إليهم، فجاء علمهم ناقصا بل مزيجا من العلم والخرافة والخيال.
وكان الفيلسوف الحقيقي مكروها فجارى حينا، ودارى أحيانا؛ اتقاء سيادة مطلقة، جائرة، عمياء، ولا شك أنك تعلم ما كان من إحراق الكتب في هذه المدينة في عهد المنصور، ثم في عهد أولئك البرابرة المرابطين، حتى إن أحد قضاة قرطبة، ولا أشرف بالذكر اسمه، أصدر فتواه بإحراق كتب الغزالي، وحرم قراءة (إحياء العلوم والدين) مع أن الغزالي من أكبر المزاجين، هذه أحد الأسباب في سقوط الملك العربي في الأندلس.
وهناك أسباب أخرى منها ما ذكره عرضا المؤرخون، فاذكر - رعاك الله - أن في أوائل الفتح، أي: منذ دخول طارق إلى مجيء عبد الرحمن الأموي، كان الخليفة في الشام يعين عامله على الأندلس حينا، وحينا يجيز لوالي إفريقية أن يعين من يريد من رجاله. فكان العامل تارة من قبل الخليفة رأسا، وطورا من قبل واليه في إفريقية، وطورا من قبل نفسه.
وهذا ما مكن في الطامعين بالملك روح القومية أو العصبية، وهي جرثومة خطل جاءت من الشام، فنخرت في عرش السلطان فزعزعته ثم هدمته. فلا الدين، ولا اللغة، ولا الخطوب السياسية، أزالت شيئا من العصبية أو لطفت في الأقل سورتها. وقد كنا في ذلك الزمان نظن أن لا خير في العصبية التي لا تكون اللغة أو الدين ركنا من أركانها، لا خير فيها لشعب ناهض، نشيط، طامع بالسيادة والاستيلاء، ولكننا نعلم اليوم أن الأديان في الملك كالقبائل في البادية، تولد تلك الروح الخبيثة المحدودة النظر والغاية، تلك الروح التي لا ترى في غير شئونها، وفي غير إيمانها، وفي غير عاداتها وتقاليدها، وبكلمة، في غير دائرتها المحدودة الصغيرة؛ ما يستحق الذكر والاهتمام، بل ما يستحق غير الازدراء والكره، والذم والاضطهاد. فلا خير في العصبية دينية كانت أو جنسية. - وهل يرى سيدي الأستاذ خيرا في عصبية كبرى تجمع بين عصبيات أكثر الناطقين بالضاد مثلا؟ - إذا كان ذلك ممكنا فهو غير مستحسن اليوم وغير مفيد بل قد يضر ضررا جسيما، ففي ضخامة الملك العربي استبداد (قابل بين حكم الخلفاء الراشدين وبين بني العباس مثلا أو بني أمية) وفي الاستبداد جهل، وفي الجهل حيف على العلم والعلماء؛ ذلك لأن العرب بل المسلمين لم يزالوا في دائرة من الدين ضيقة، لا يخترق النور من الخارج أو من الداخل حدودها الكثيفة. وأميرهم العالم العامل بعلمه لا يرضي العامة، وأميرهم الجاهل لا يرضي الخاصة المفكرة، فلا يستطيع والحال هذه الحكم إلا بالقوة القاهرة، والقوة القاهرة عيب وظلم قبيح في هذا الزمان.
قلت: وهل لعرب الجزيرة أمل بالترقي والتمدين؟
فقال: لا أمل؛ ما زالت العصبية أساس أعمالهم السياسية والدينية، فالعصبية من أهم الأسباب في سقوط العرب في الأندلس، وفي الشام، وفي العراق، وفي الهند، قد جاءوا هذه البلاد مثلا ومعهم نزعاتهم اليمنية والمضرية، والعبسية والشامية، وما مر عشرون سنة عليهم حتى اشتعلت الحرب بين قحطان ومضر وكانت أول حرب أهلية في الأندلس، وأخذت هذه الروح - روح العصبية - تمتد بامتداد الملك، فكان ملكا واهيا متزعزعا، تفككت أوصاله، واستقل بالحكم رجاله، فكان في «ألمرية» ملك، وفي «مرسيا» آخر، وفي غرناطة سلطان، وآخر في «إشبيليا»، وهم يتقاطعون ويتطاحنون، فجاء يوسف بن تاشفين البربري فاغتنم فرصة خلافهم ونزاعهم فساد. ثم اعترى قوم يوسف ما اعترى سلفاؤه فاستعان أهل البلاد ببعضهم على بعض فتغلبوا عليهم وسادوا. وكذلك كان في دولة المغول في الهند، فإن نزعاتهم القومية تغلبت عليهم فمهدت السبيل لتغلب أمراء الهند على ملكهم العظيم القصير العهد.
وأطرق الشيخ عندئذ ثم قال: إن للعرب فضلا لا ينكر - وإن بالغ الناس بذكره - وقد سمعتك تسائل نفسك سؤالات يشتم منها نكران هذا الفضل، أنت مصيب في قولك إن نبوغ العرب قلما يثمر إلا إذا احتك بنبوغ أجنبي، ولكن هذا الاحتكاك لم يذهب بمزية النبوغ العربية، بل أظهرها جلية، قوية، نيرة، مشعشعة، فاختفت في نورها الباهر مزية النبوغ الأجنبي، اختفت ولا عجب إلى حين؛ لأن نور العرب شديد الاحتراق، جميل الأشعة، سريع الانطفاء، ولكن الصبغة العربية أو مزية النبوغ الخاصة بالعرب إنما هي ثابتة في الصناعات والفنون.
فإذا كان للرومان فضل في تدمر ولبيظنطية فضل في الشام، ولبني ساسان والبرامكة فضل في بغداد، وللفرنجة فضل في قرطبة، وللهنود فضل في كابول، فذلك لأن النبوغ العربي بعث ما دفن من علومهم وفنونهم، فأضاءها وأحياها ، وأعاد إلى مدنياتهم مجدها، وقد تجلبب جلبابا عربيا فخيما. وبكلمة أخرى: إن النبوغ العربي استولى في الماضي على النبوغ الأجنبي فاستخدمه وانتفع به، وهو اليوم واقف بين قوات من النبوغ الأوروبي عظيمة لا يستطيع الاستيلاء عليها. - وهل يستطيع الانتفاع بها مع حفظ المزية العربية فيه؟ - نعم، إذا كان العرب يدركون أسباب سقوطهم في الماضي فيتقونها، ويجتنبونها. - وهل لسيدي الشيخ أن يذكر غير ما ذكر من أسباب السقوط؟ - قد أشرت إلى العصبية الدينية فأزيدك إيضاحا، واعلم - رعاك الله - أني أتكلم الآن كمسلم، وإن كنا في العالم الخالد مجردين تماما من صبغات الأديان كلها، أتكلم الآن كمسلم؛ لأني لم أزل أذكر القوم الذي كان الجسد منهم وأقام بينهم فترة من الزمان، ولم أزل أنظر إلى تلك الذاتية - الذاتية الإسلامية، الذاتية الفانية - كمن ينظر إلى خيال الحبيب في بحيرة الذكرى، على أني لو عدت اليوم إلى بلد الحبيب فلا أظنني أكون من الراغبين به، الناظرين إليه بعين الإعجاب.
لا يدهشنك ما أقول؛ فإن الإسلام اليوم لم يزل كما كان يوم كنت أعلم الفلسفة في كلية قرطبة إسلاما في الدين، وإسلاما في السياسة، وإسلاما في الاجتماع، وإن النبي محمدا لأول من شاد العصبية العربية على هذه الأركان الثلاثة، فكان منها أن الخليفة رفع صولجانه فوق الأرض ومده إلى السماوات، وفي تقليده السلطتين السياسية والروحية أفسدت الواحدة وأسيء استخدام الأخرى.
وهذا الخلط في الأحكام، مثل الخلط في العلوم يبدو القبيح فيه أولا فينمو سريعا فيفسد الصحيح، والغريب العجيب أنه لم يقم في الإسلام حتى الآن من أشار إشارة إلى أن النبي محمدا لو سئل في ذا الخلط لما كان عنه اليوم راضيا.
قلت: وهل يرى فضيلة الشيخ في كنه الدين خلاصا للناس من صبغات الأديان وسيادات الدنيا الدينية؟
فقال: إن نظر الإنسان محدود، وكذلك نظر الأرواح. على أن أفقنا أوسع جدا من آفاق الأحياء حتى الصالحين منهم المقربين، فالمسافة بين جرم وآخر عندنا كالفرسخ مثلا عندكم، ويصح هذا القياس في المعنويات أيضا؛ لذلك أقول - إجابة سؤالك: إن كل ما ظهر في العالم حتى اليوم من حقائق الدين والسياسة والاجتماع إنما هو خاضع لناموس التحول والانقلاب، وإن شئت قل ناموس النشوء والارتقاء، وهذا الناموس صحيح قويم في الطبيعيات وفي الاجتماعيات وفي الروحيات أيضا، صحيح قويم على قدر ما نرى الآن، وقد يسلك بنو الأرض وكل حي فيها سبيله ألفا بل ألوفا من السنين فيصلون - إذ ذاك - إلى حيث ينتهي سبيل النشوء، ويبتدئ سبيل آخر قد يكون أوسع منه وأطول.
وبكلمة أخرى: إن الله - سبحانه - لا يكشف لسكان الأرض من أسرار الوجود إلا ما كان موافقا لحال الإنسان الروحية والمادية، وأن كشف الستار يكون بالنسبة إلى الرقي في الحالين. وبكلمة أوضح: إنه تعالى مقيم الحدود وعالم بها، فلا يقدم لكم في الأرض من حقائقه دفعة واحدة إلا ما تستطيعون هضمه واقتباسه، فلو علمتم مثلا ما قد يكون حال البشر بعد ألف سنة لما كنتم بذا العلم راضين، سر أو أساء؛ لأنه إذا أنبئتم بسوء المستقبل أسأتم إلى الحاضر في استرسالكم إلى الشهوات واللذات فتفسدون حسناته الحقيقية على قلتها ففي كلتا الحالتين إذن لا تكون النتيجة حسنة ولا تكونون إذا تبصرتم راضين، وحالنا نحن في عالم الأرواح شبيه نوعا بحالكم، إلا أن حدود الإدراك عندنا أبعد جدا من حدودكم.
لذلك أقول إن ناموس النشوء والارتقاء اليوم أمامكم وحولكم وفوقكم وفيكم، فادرسوه وافقهوه، وانتفعوا به، ولا تمددوا أيديكم إلى الستار، ستار الأسرار، إذا رأيتموه يتحرك، بل كونوا متيقظين، متبصرين، راغبين بكل مظهر من مظاهر الحقيقة والوجود، تائقين إليها، وانبذوا من ثمار البارح ما لا يليق بمائدة اليوم. والسلام عليكم.
وما كاد ينهي كلامه حتى زال النور دفعة واحدة، إلا نقطا كانت تهتز فوق كرسي فارغ، وقد انعكست على الحائط خلال الثقوب في الباب.
تاريخ سوريا
في معجم ياقوت وجغرافية أسطرابون ودليل السياح شيء من تاريخ نهر الكلب وأشياء من أساطيره المستغربة، وفي أثر مشهور هناك خلاصة تاريخ سوريا القديم والحديث، خطته يد الزمان على فم المضيق الذي أذل ملوك الأرض وسمع صليل الرماح لجيوش مصر وبابل وآشور، وهناك أيضا من آثار الطرق والأقنية الرومانية، ومن الكتابات الفينيقية والمسمارية واللاتينية، ومن رسوم للملوك والآلهة منقوشة في الصخور ، ما يهم علماء الآثار فيجيئون من أقاصي البلاد ليحلوا رموزها ويكشفوا أسرارها، وهي تلذ للسياح فيزورونها ويكبرونها ولا يفهمون منها سوى ما يردده الترجمان والدليل.
أما كاتب هذه السطور وهو لبناني ابن اليوم فلا يهمه من أخبار الماضي وآثاره إلا ما ينير منها ظلمات زماننا الحاضر، فقد زار نهر الكلب أول مرة ووقف عند آثاره وكتاباته كسائر السياح دون أن يحل شيئا من رموزها غير ما يحله الكتاب والدليل، وأكثر السياح، وكاتب هذه الأسطر كان يومئذ من الأكثرية، يتطلعون إلى الأطلال والأنصاب تطلع العين إلى القمر، ولكنه كفر عن زيارته الأولى بزيارة ثانية فراقه من جميل الأزهار وطيب النبات حول آثار النهر القديمة، ومن فصاحة المشهد الطبيعي فوقها؛ ما لا يستطيع قراءته غير الشاعر ولا يحل رموزه غير الله.
وبالقرب من النهر شمالا قد شاهد وهو عائد إلى بيروت أثرا ينسي السوري كونها حمارا أو عالما أو شاعرا أو أجيرا، أثرا حديثا يذكره بماضي بلاده البعيد وبماضيها القريب، ولا فرق يذكر بين الاثنين، أجل، إن في ذا الأثر تاريخ سوريا القديم والحديث، سوريا سبية الأمم، سوريا أمة الشرق والغرب، سوريا نهب الملوك الفاتحين، سوريا حاملة نير الأجانب والغرباء. لقد كتب شلمنصر سفرا من تاريخك ما بقي منه غير أثر طمسه الزمان، ثم جاء رعمسيس وأوريليوس وأنطونيوس وبلدوين وسليم الفاتح فكتبت سيوف جيوشهم أسفارا، ولم يبق منها غير ما يهم الأثريين والسياح.
سوريا، أمي! أيكتب تاريخك بسنابك الخيل وبرماح الفرسان، فيمحي جيش اليوم ما خطه جيش الأمس، ويمزق جيش الغد ما سطره جيش اليوم؟
بالقرب من فم النهر شمالا، في صفيحة نقش عليها، فوق ما نقشه الآشوريون والمصريون والرومان، ذكر الحملة الإفرنسية التي دخلت بلادنا في سنة 1860 يقرأ الزائر تلك الآثار خلاصة تاريخ سوريا القديم والحديث، فمن نبوكدنصر إلى مرقص أوريليوس إلى السلطان سليم إلى نبوليون الثالث
1
فصول طوال، اختصرتها جيوش مصر وآشور، وسودتها جيوش الترك، وعلقت عليها جيوش الفرنسيس حاشية صغيرة مهمة، سوريا سبية الأمم متى تعتقين؟ سوريا أمة الشرق والغرب متى تنهضين؟
سوريا، أمي! متى يكتب أبناؤك أول صفحة من تاريخك الجديد؟
الأشجار الناطقة
في أحراج كاليفرنيا من ولايات أميركا المتحدة أشجار تفوق أرز لبنان قدما وكبرا، وقد حفرت في جذوعها طرق كأنها أنفاق تمر فيها العربات، هذا دليل واحد على ضخامتها المدهشة، والدليل على قدمها ظاهر في بقايا الجذوع المتحجرة في تلك الأحراج. ولكن أشجار كاليفرنيا وهي من عجائب الدنيا إنما هي جماد هائل لا سر فيها ولا معنى لها، هي عظيمة ولكنها صماء بكماء، هي قديمة ولكنها عقيمة لا قصة لها ولا تاريخ، لم يعش في ظلها نبي، ولا تغزل بها شاعر، كانت تظلل البربري ووحش الغاب، وما عند مثل هؤلاء شيء من الفكر والشعور ليزرعه حولها، إن عظمة تلك الأشجار مادية محض وشهرتها لا تتجاوز بلادها وعلم العلماء والسياح.
أما شجر الأرز وغيره من الأشجار المقدسة كالبو عند الهنود والسدر عند المسلمين ففيها غير الظاهر من الضخامة والعظمة فيها غير المادة، إن للأرزة صوتا لا يتلاشى وإن صارت هي إلى الفناء، الأرز من الأشجار الناطقة بسر من أسرار التاريخ بل من أسرار النفس البشرية.
فما السر يا ترى في القداسة التي تنمو في هذه الأشجار فتزيد قدمها جلالا وعظمتها جمالا؟ أعبثا يمزج الإنسان شيئا من نفسه وآماله بشيء من التراب والشمس والماء والهواء؟
إن كان كذلك فما هو إذا ذاك الخيال الذي يسمعني في حفيف غصون الأرز صوت مليك أورشليم وبنيها؟ ما هو الاتصال السري بين روح الأشجار وروح الشعراء والأتقياء من الناس؟ لا أتعمد الغموض في ما أقول، ولكنه يخيل لي أن بذرة من بذور الإيمان ونقطة من ينبوع الحب تقعان من يد الإنسان وقلبه عند أصول شجرة يقدسها فتختلطان وإياها، فتنموان في غصونها، وتنوران في زهرها، وتثمران في ثمارها، وتتصاعدان بخورا في صحفها، وأحيانا تحرض في قطرها وتسوس في لبها.
الحب خالد، وللأشجار التي يخصها الأنبياء والشعراء بحبهم روح سامية خالدة، وإن أرز لبنان لمن هاته الأشجار الحية الخالدة الناطقة بسر من أسرار الطبيعة والحياة، إن فيها شيئا إلهيا وأشياء بشرية روحية.
أصوات السكينة
من المشاهد الطبيعية ما يستوقف القلب، ومنها ما يستوقف القلب والعقل معا، ومشاهد لبنان المشهورة من هذه التي تحير الإنسان فتعقل منه اللسان.
على كتف وادي قاديشا أو عند مغارة أفقا أو في ظلال الأرز يقف المرء ساكتا خاشعا مدهوشا، ولا غرو فإن لهاته المشاهد الجليلة مزية معنوية فوق مزيتها الطبيعية المدهشة، أجل إن فيها من آثار تاريخ الإنسان وأديانه ومن تذكارات خرافاته وأباطيله ما لا تمحوه يد الدهر ولا تدرسه السيول والأعاصير.
ومن هذه ما نراه عند مغارة أفقا تحت جفن الجبل القائم حولها كقلعة من قلاع الفينيقيين، هناك آثار هيكل بناه الرومان للزهراء وشجرة جوز وارفة الظلال يقدسها المتاولة المقيمون اليوم في ذلك الوادي، وفوق هاته الشجرة وذاك الظل تخيم سكينة رهيبة عجيبة يتخللها نقيق الضفادع وتغريد الحساسين وحفيف أجنحة النسور، وهذه - لعمري - أصوات السكينة التي تدفن فيها عقائد الإنسان وأضاليله.
كان الرومان في أفقا وكانت الزهراء، كان الإنسان في ذاك الزمان يعبد الجمال وكان الجمال ينبوع ملذات الإنسان ومبراته، ومصدر ما تسامى من آدابه وفنونه، واليوم في أفقا يوم التعاويذ بل يوم أولياء الجوز والجميز! أسفي على امرئ يدب حول جذور الدين في قيود من الإيمان صدأى، فإن ما بقي من إدراكه وأمله لشبيه بتلك الرقاع البالية التي يعقدها في أغصان الجوزة ليقيه وليها من تصاريف الدهر وكوارث الزمان، رقعة بالية، على شجرة عالية، في ظل مغارة الجهل والخوف والغرور. أهذا ميراثك يا ولي الجوزة؟ ألا يسمعك الحسون شيئا من نشيد عباد الزهراء؟ وأنت يا ربة الحب والجمال ألا تسمعين في نقيق الضفادع بكاء عباد هذا الوادي؟ أولا تسمعين همس الحكمة الأزلية في حفيف أجنحة النسور؟
وقفت بين حجارة هيكلك عند الجوزة فرأيت حجرا كبيرا كأنه رأس صنم، في فمه وعينيه شيء من التراب وقد نبتت فيه ونورت أزهار العصفر البيضاء والصفراء، وسمعت الصنم يخاطب الجوزة فيقول: أجمل الرومانيات قبلنني وهذي أزهار حبهن في فمي.
فقالت الجوزة : أعظم الكائنات عروسي، حجابها الربيع وجلبابها الصيف، وأزهاري وثماري من نور حبها وحرارته.
فقال الصنم، ولكن الإنسان يشوه أغصانك برقاع خرافاته وأباطيله.
فقالت الجوزة: أما أنت فقد دنسك بغي الرومانيات وخلاعة الرومانيين.
فقال الصنم: إن نار الحب طاهرة مطهرة.
فقالت الجوزة: وإن رقاع الإيمان كفلس الأرملة ...
فقاطعها الصنم قائلا: بل هي كورق التين يستر بها الحارض من المؤمنين عورة إيمانه.
فعظم إذ ذاك هدير المغارة وسمعتها تقول: أفي باب أم النهر المقدس نهر أدونيس، ينبوع الحياة الدائمة، تفاخرون بما يشيده الإنسان ويقدسه؟
فأجابت الضفادع الناقة: نعم، نعم.
وغردت الحساسين: لا، لا.
ومر النسر فوق جفن المغارة مسرعا وهو يهمس بجناحيه كلمة قل من أدرك سرها من الناس.
الشعر والشعراء
الشعراء اثنان شاعر قومه وزمانه، وشاعر العالم وكل زمان، الأول يندر في شعره ما يبقى شعرا إذا ترجم إلى لغة أجنبية، والثاني عكس الأول. وقد يجيء في شعر هذا ما هو من طبقة شاعر قومه وزمانه، وقد تعلو صناعته على قريحته في حالات للنفس يغلب فيها المكتسب على الفطري، وقد يكون الشاعر الأول بعيد الإشارة علوا لا اتساعا فينظر إلى الأشياء والأكوان من ذروة سماؤها صافية ولكن أفقها محدود صغير، كثير المضايق والسدود، فيرى أصول الأشياء ورءوسها ولا يرى ما تشعب وامتد من أطرافها. وشعراء العرب ما عدا الفارض والمعري من هذه الطبقة؛ لأن في شعرهم تغلب الصناعة الشاعرية الحقيقية، فيجيء ما ينظمونه شعرا عربيا فقط لا شعرا على الإطلاق.
أما الفارض وأبو العلاء فيكادان يعلوان على هذا، كل في طريقته، وما تقيدت النفس فيهما بظاهر الأشياء الزائل، أي: بتقاليد القوم وروح الزمان، وقد يستغرب ذكري هذين الشاعرين كأنهما صنوان وقد اختلفا طريقة ومذهبا، على أنها متشابهان عند من دقق النظر في شعرهما وحياتهما تشابها جوهريا جديرا بالاعتبار.
ففي شعر الاثنين ما لا يختص بأمة واحدة من الأمم أو بزمن من الأزمنة، بل هو جامع شامل، سماؤه بشرية لا عربية، وزمانه لا هجري ولا مسيحي، وفي حياة الشاعرين حيرة وورع يتناوبهما الشك واليقين فيعلو العقل في «رهين المحبسين» على النفس وتعلو النفس في شاعر السالكين على كل معقول ومحسوس، ويجوز لنا أن نقول إن أبا العلاء من المتصوفين في بعض حالاته كما أن الفارض في بعض أطواره من الماديين، شعر أبي العلاء كالموشور صاف، ولكنه بارد، تنعكس فيه حقيقة الحياة فتتلون، فتحرق، فتنير ما يعالجه من المواضيع، وشعر الفارض قبس من النفس نرى في لهيبه أشكال أزهار من الحب جميلة وطيور ألفاظ تغرد حول عرش الأسرار.
وحقا ما يقال إن الشعر من الشعور، ومن الشعور ما رق فسال، ودق فغمض، واشتد فاضطرم فأحرق فأنار، ومن الشعور ما هو مكتسب ومنه ما هو فطري، فيغلب في الأول التصنع وفي الثاني الهوى أو الهوس. وقد قال أحد الفلاسفة: إن أول الهوس الشعر وأحسن الشعر ما كان عن هوس وغرام، وعندي لا ينبغي أن يكون الشاعر، شاعر النفس، عاقلا أو فيلسوفا، فالهوس أو الهوى أو النزعات الشديدة إنما هي صوت النفس وتنهداتها فتشجي تارة وتطرب طورا، وطورا تزعج وتكرب، وفي كل حال أن نزعات النفس لهي ماء الشعر وغذاؤه وخمره.
وكل شعر بدونها خاسئ بارد مشحوب اللون عليل، وفي هذه النزعات الشديدة لا يخضع الشاعر لشيء من أشياء العقل العادية السطحية فتظهر في كل أقواله ونغماته في مظهر طيه الدعوى التي يظنها الشاعر من لوازم الصناعة، ومن واجبات النبوغ، وقد تشتد هذه النزعة في بعضهم حتى تصبح نوعا من الجنون وتتشابه باطنا في من اختلفوا ظاهرا أو شكلا، فهوس الفارض بالأسرار - يتغزل بغوامضها - مثل هوس أبي العلاء بالعقليات وتغزله بالفناء والاضمحلال، ومثل ورع أبي العتاهية حتى أصبح الورع في شعره نوعا من الخبل، ولكن المبالغة طبيعة في الشاعر؛ لأن شعوره مجموع شعور الناس، وإن جاز لنا أن نشبه المجتمع الإنساني بجسم بشري يصح أن نشبه الشاعر بالجهاز العصبي لهذا الجسم المعنوي الحي، وأكثر الشعراء من هذه الطبقة، أي: أنهم شعراء قومهم وزمانهم.
أما الشاعر الكبير شاعر العالم وكل زمان فهو قلب العالم وعقله، فمن رقت شعوره هام - كما يقال - على وجهه أو بالحري عام على وجه الأشياء فيتلهى بلطف أشكالها الظاهرة، ومن اشتدت شعوره غاص في قعر البحار فجاءنا بشيء من لؤلؤها ومرجانها. ومن دقت شعوره غمضت معانيه فشق في الظلمات حتى ينتهي عند أنوار هي من النفس والفكر بمكان. لكل حقيقة شعاع أسود خفي، والشاعر الصميم من تمشى في ظلال الحقيقة فتتبع أشعتها حتى النهاية فيكتشف حقائق أخرى هي من حقائق الحياة كالنور من الشمس، ولا أظن أن هذه المزايا كلها اجتمعت لشاعر واحد من شعراء العرب.
قل ما رق من الشعور للمتنبي وندر ما دق، أجل، قد يتعمد أبو الطيب الغموض فيجيئنا بألغاز باردة، وفي شعر أبي العلاء لا نسمع للقلب صوتا إلا ما كان تكلفا واجتهادا. وشعر الفارض غابة مدلهمة فيها عرائس حاملات شموعا ضئيلة تركض أمامنا لتهدينا إلى جنات النعيم، ولكن الشموع تنطفئ في وسط الغاب والعرائس ينشدن ويختفين في الظلمات، وهذا أجمل ما جاء في الشعر من وصف أسرار الحب وألوهية الأسرار. أما هذه المزايا الثلاث التي تقاسمها ثلاثة من شعرائنا فتجتمع كلها لشاعر اليونان هوميروس ولشاعر الإنكليز شكسبير.
الموسيقى الإفرنجية والعربية
لا أقصد في هذا المقال الوجيز أن أعالج الموضوع فنا وتاريخا وعلما، ولا أن أنقد الموسيقى الإفرنجية في مظاهرها الشرقية، أو الموسيقى الشرقية في مظاهرها الغربية، ولا أظنني لو قصدت أهلا لذلك؛ إذ لست من أرباب هذا الفن ولا ممن يدعون إدراك دقيق أسراره، إنما هي خواطر خطرت لي يوم سمعت الفتى السوري أنيس فليحان يوقع على البيانو شيئا من نظم الأساتذة الكبار وشيئا من نظمه أيضا.
الموسيقى عند الإفرنج لغة من لغات الفنون يستطيع العالم بها، المدرك أسرارها، أن يفصح عما يخالج المرء ويسوده من شوق وحماسة وحنين وخيال، فينظم أهواء النفس أنغاما ويصف العواطف إنشادا، ويقص القصص ألحانا ، ويلبس مظاهر الوجود وحقائق الحياة ثوبا يحوكه من خيوط ذهبية وفضية على آلات تعددت أسماؤها وتنوعت أشكالها، فالموسيقى عند الإفرنج إذن هي لغة النفس والروح والعقل معا .
أما عند الشرقيين، فهي - في الإجمال - لغة القلب والعواطف، هي فن عند الغربيين أساسه العلم، وهي فن عند الشرقيين أساسه الفطرة والبداهة، وكما أن آلات الطرب عندهم عديدة متنوعة تمكن الناظم من معالجة كل مواضيع الحياة، فهي عندنا محدودة النوع والشكل، وتكاد تنحصر في ما يصح منها لبث العواطف فقط.
وبكلمة أوضح: إن موسيقى الإفرنج لغة فخيمة الألفاظ، دقيقة التركيب، كثيرة الأوضاع والأصول، وموسيقى الشرقيين لغة بسيطة قواعدها تنحصر في بضعة أصول وأوزان؛ لذلك لا يفهم الأولى ويطرب لها إلا من كان ذا إلمام بقواعدها وأصولها، أما الثانية فيكاد يفهمها جميع الناس؛ لأنها لغة العواطف على الإطلاق، فهي تدخل القلوب دون استئذان - كما يقال - وتملك العقول فتعبث بالمعقول، وتطرب العامة والخاصة على السواء.
كيف لا والناظم الشرقي مطلق التصرف يركن إلى الفطرة، ويسترسل إلى البداهة، فينظم ما تمليه عليه العواطف عند هياجها، وما توحيه إليه القريحة ساعة السرور، ولا غرو إذا ارتجل الأنغام ارتجالا، فيوقع دررا على العود مثلا ثلاث مرات وفي كل مرة يسمعك شيئا جديدا مبتكرا.
أما أساتذة هذا الفن في أوروبا فهم مقيدون بأصول وتقاليد تكاد تكون مقدسة عندهم، وهي إذا أفادت الفن وضعا وعلما تؤثر - ولا شك - في قوى التوليد وتقيد البداهة فيهم، فتجيء ألحانهم وفيها غالبا من النظم أكثر ما فيها من الموسيقى، ولو لم تكن أدوات التعبير عندهم عديدة لجاءت ألحانهم باردة وفي الأحايين بليدة، ليس في نظر الشرقيين فقط بل في نظر الغربيين أيضا.
النبوغ وحده لا يكفي إذا قصرت عن إظهاره اللغة، أو بالحري آلات الطرب، خذ لحنا من ألحان (بيثوفن) مثلا أو (لست) فترى الناظم فيها وآلات الطرب التي يستخدمها لا تقل عن الخمسين عدا، كثير الألسنة والأصوات، كثير القوافي والأوزان، بل تراه شاعرا تارة وطورا فارسا، فيقص عليك قصة تتلوها قصيدة، أو ينظم نشيدا تتلوه معارك الحرب، أو يصعد بك في عالم النفس فتراه شاعرا وفارسا وروائيا وفيلسوفا معا، يمزج زئير الأسد وهو خائض بحر الأنغام بعندلة العندليب، وصوت الطبل بنفير البوق، وحنين الناي بزفير الكمنجا، ونقرات الدف بترنيم القانون. يمزج بعضها ببعض كما يمزج الرسام الألوان، ينظم ألفاظها كما ينظم الشاعر القوافي، فلكل آلة عنده لغة يعبر بها عن أحلام النفس أو تشويقات القلب، أو هواجس الروح أو حقائق الوجود، فيجيء بها صورا رائعة فتانة، تراها بالأذن على حد قول الفارض لا بالعين «والأذن تعشق قبل العين أحيانا.»
وقل من الشرقيين - وحتى الغربيين - من يفهم مغزى ألحان كبار الناظمين ك «شوبن» و«لست» و«واغنر» و«بيثوفن» وذلك لأن عامة الناس لا يحسنون لغة الروح والخيال، ولا يدركون غالبا في مقاصد الناظم غير واحد منها، وهو أنه يستخدم كل آلة من آلات الطرب لما تحسن تقليده من أصوات الطبيعة دون سواه.
وعندي أن ألحان هؤلاء النوابغ لشبيهة بقصائد المتصوفين من الشعراء كالفارض مثلا وجلال الدين الرومي، ففيها - ولا شك - أسرار إلهية، وفيها حقائق سامية بهية، ورغم أنها تدون على الورق فيستطيع قراءتها أصحاب الفن، فقليلون من يحسنون فهمها وتلاوتها، أو بالحري تفسير غوامضها بواسطة البيانو.
لذلك نرى بونا شاسعا بين أستاذ يجلس إلى هذه الآلة الفخيمة وأستاذ يجالسها - إذا صح التعبير - فيعطيها من نفسه وتعطيه. كما أننا نرى فرقا عظيما بين شاعر يتلو قصيدة من قصائد المتنبي أو الفارض وتلميذ يلوكها ويلحن بها، وإذا استزدتني في التفضيل والمقارنة أقول: ما كل من يحسن القراءة يحسن تلاوة الشعر، ولا كل من يحسن تلاوة الشعر يجيد في إنشاد آيات القرآن. ولعمري إن ألحان كبار الأساتذة في فن الموسيقى لكمثل آيات الكتاب بلاغة وبيانا.
هذه بعض ما دار في خلدي يوم سمعت في «أيوليان هول» فتى سوريا ظهر لأول مرة أمام الأميركيين يوقع على البيانو شيئا من أناشيد «شومان» و«بيثوفن» و«لست» وشيئا مما نظمه هو من الألحان العربية، فإذا قلت إن أليس فليحان يحسن الضرب على البيانو فكأني قلت إنه يحسن القراءة، وإذا قلت إنه أستاذ في فن الموسيقى فكأني قلت إنه يحسن دون لحن تلاوة الشعر، ولكنه في ما وهب فوق ذلك.
فهو يتفنن بالقراءة والتفسير كما يتفنن الشاعر بالنظم، وكما يتفنن الرسام بمزج الألوان، بداهته شرقية، وأصوله غربية، وأسلوبه يجمع بين محاسن الاثنتين، فهو لين الأنامل طيعها شديد الشعور لطيفه، في سكناته بلاغة، وفي حركاته سحر البيان، تسيق نفسه تارة يده فيطرب في وقفاته، كما يطرب في كراته، وطورا تسبق أنامله نفسه فتلاعب البيانو، كما تلاعب العاصفة أمواج البحر، فيكاد السامع يضيع حيرة، ثم تدغدغها فيطرق دهشا، ثم ترقصها فيهتز طربا.
على أنني أحسست أحيانا وهو يوقع الألحان الإفرنجية أنني لا أستطيع أن أتتبعه وألحن غوامض فنه، ولا عجب، فإن أنشودة من أناشيد «بيثوفن» لكمثل قصيدة من قصائد الفارض، عذبة الألفاظ، غامضة المعنى، لذيذة الأنغام، شريدة الأفهام، وحسب المرء أن يقف عند شاطئ البحر فيسمع هدير أمواجه وما يتخللها من حفيف أجنحة النسور، وخفيف غطات الطيور.
ولكن الفتى فليحان طار بنا على أجنحة الخيال إلى عالم العواطف والحنين - إلى بلاد العود والدف والقانون - في ما أسمعناه من بديع نظمه وعجيب ألحانه، أجل، إن في ألحانه العربية المعنى الإفرنجية المبنى قد هز فينا أوتارا لم يلمسها شيء من بدائع أساتذة الإفرنج، وبرهن لنا ولمن سمعه من جهابذة الفن من الأميركيين أنه أستاذ ماهر وشاعر صميم، جمع بين الأصول الإفرنجية والبداهة الشرقية، ما لم يستطعه في هذا الزمان عند الإفرنج غير الإفرنسي «ده بوسي».
ولا عجب إذا برز هذا الشاب السوري في المستقبل على «ده بوسي» في ما ينظمه من الألحان الشرقية أو الغربية، ففي «التقسيم» نظمه وفي «المناجاة» وفي «رقص الدراويش» استنطق البيانو بلسان العود والدف والناي والقانون، بل أنطقها وهي آلة إفرنجية بألسنة الدراويش العربية، فكدنا وهو يرقصهم نرقص طربا ونسمعهم يصيحون «الله هو الله هو»! حتى الإغماء، وبينما هو يسمعنا «التقسيم» أغمضت عيني فخلت أن شكري السودا يلاعب بريشته الساحرة أوتار العود، وهذا لعمري عين الإبداع في الفن، بل هو برهان قاطع عندي أن في صدر هذا الفتى السوري شيئا من نار الآلهة وأشياء من نور النبوغ . ونصيحتي له وقد ملك الآن ناصية الفن وأتقن أصوله وأوضاعه أن يقلل من ترداده إلى الموارد الإفرنجية ويكثر من نظم الألحان الشرقية، فهو ابن بجدتها، والغربيون مثلنا يطربون لها طربا شديدا.
بلادي
إن الأزهار في بلادي
1
ألاعيب الطفولة، وهي هدية من الطبيعة ثمينة تتحفنا كل عيد بها، حتى إنها في عيد الميلاد تنادي الصغار وتدعوهم إلى القلل المتوجة بالثلج لتفاجئهم هناك بأزاهر البنفسج البرية. فيأتون بها إلى محراب القديس المحلي الذي يعدهم بتحقيق رغباتهم إذا كانوا يصلون بينا يقطفون الأزهار باسمه.
وأذكر أني صليت مرة في نوبة غضب وحسد فدعوت بالموت على ولد سبقني إلى نقطة مستحبة تظللها صخرة وقد نبت فيها طيب البنفسج الغزير، وما هو إلا أسبوع حتى انتشر الجدري في القرية فذهب بحياة ذلك الولد رفيقي في اللعب، فنقمت على القديس؛ لأنه استجاب طلبتي، وآليت على نفسي ألا أصلي له بعد ذلك وألا أجمع الأزهار باسمه؛ لأنه إذا كان قد سمع صلاتي فما أحراه أن يسمع مني أيضا صوت الندامة.
وهكذا قد داخل الشك إيماني منذ حداثتي، إلا أن الطبيعة لم تبرح تتحفني بهداياها - الأزهار - وهذا ما جعلني أصبو إليها بكليتي، حتى إني أقمت منها نفسا قديسا لنفسي دعوته: مار زهر المسيح
2
في غابة الصنوبر أقمته وفي حمى الصليب.
وما الذي وفق بيني وبين الكنيسة؟ لم أكن عندئذ أعلم، ولا أنا أعلم الآن، على أن هيكلي اليوم ومسيحي قائمان في غابة الصنوبر بين الأزهار.
وسواء كان محب الطبيعة شاعرا أو فيلسوفا يلبي دعوة الأزهار التي تنور كل سنة عند محراب إيمانه، والطبيعة لا تذهل ولا تغير عادتها فلئن كنا في أقصى بلدان العالم فهي تسمعنا أبدا صوتها، وإلا فلماذا - وأنا أقاسي الموت كل مرة - أجتاز المحيط لأزور وطني؟
أميركا أيضا أرض ميلادي، ميلادي الثاني، وهو أرفع في نفسي من وطني الأول، وفيها أيضا أجدني في قلب الطبيعة آمنا مستأنسا، فهذه الأقاحي من أجمل ما تصنعه التربة والحرارة والغيث، إلا أن جمالها عندي يشوبه ألم الذكرى، فالأقاحي التي عرفت دلال حبي في صباي، والتي دعت تمتمة قلبي المملوء أوهاما، هي أذكى رائحة وأبهى طلعة وشكلا، وها هنا جنات تفوق ينابيعها وبراعة يد الإنسان فيها جمال الطبيعة، إلا أني كيفما أتجه النظر في محاسنها، لا أرى بعين المخيلة إلا رسم حوض الريحان الذي كان لأمي.
وها هنا ينبت أيضا زهر المسيح، وهو أنمى وأجمل من النباتات النحيفة التي تطلع من بين شقوق الصخور في بلادي وفي ثقوبها وظلالها، إلا أني حين أتصورها يحملني الخيال إلى حقول الفتوة فأراني راكضا حافيا في تلال لبنان، مصعدا طورا في هضابه وقد كستها الأزهار، وطورا نازلا لأقطب في الوادي (يوم الجمعة العظيمة) طاقة أحملها خاشعا إلى الكنيسة وأضعها عند قدمي المصلوب العزيز.
وما أعلى الشربين في وطني الثاني وما أجمله وما أعظمه، ولكن صنوبر لبنان أقرب إلى قلبي، وللصنوبر فضل علي لا أجحده دانيا أو قصيا، فقد عشت في ظلاله ردحا أنتفع بغيثه ونفحاته الطيبة؛ لذلك لا أتحول عن حبي أشجار صباي وذكرى ألاعيب الطفولة وتلك السذاجة الطاهرة الأولى.
لله من غضب الآلهة، إن إلهة وطني لناقمة علي.
وإلا فما الذي ينبه الروح فينا ويستحوذ على قوانا العقلية ويقودنا بالعواطف إلى أمصار ندعوها الوطن أو مسقط الرأس؟ إني جاهل حائر فلا أعتبر الوطنية وجلها سياسي، ولا حب الوطن وكنهه الأنانية، ولم أكن قطعا وطنيا في أيهما ولا في ما حدده دجنسون
3
من الوطنية.
وفضلا عن ذلك أن وطنا لم تتحقق فيه الحريتان الشخصية والروحية لا يستحق الحب والإجلال، وأن المرء يستطيع أن يخدمه وهو في بلاد بعيدة عنه، ولقد عالجت وطني قريبا وبعيدا، وكنت في الحالين واحدا وكان الدواء واحدا، ولكن الداء عضال والشفاء التام قلما يكون.
4
كفانا ما تقدم في الوطنية، ولكننا نتسائل كيف ينشأ حب الوطن؟ وما هي أسبابه؟ أهل هو في اللغة؟ إن الإنكليزية عزيزة عندي كالعربية، أم هو في المعيشة الأهلية؟ أم في العادات والتقاليد؟ فما أحببت وطني لما كنت فيه، وما راقني فيه عيش رأسه البساطة والسذاجة ولا كنت أعرف إلا القليل من جماله، لذلك كنت مسرورا يوم ودعت لأول مرة أهلي وهجرت الوطن.
أو لعل حب المرء بلاده ينشأ عن المذهب القومي؟ أو ينحصر في دين آبائه وأجداده؟ لا أدري ولكني أعلم أن تلك البلاد التي أدعوها وطني كانت ولا تزال محرومة من مذهب قومي خاص، كانت في عهد أنطيوخس الكبير بل في أيام زميلي الكاتب الفينيقي سنشوناثون كما هي الآن، أما دين أجدادي فقد كان في جيب قبائي الذي خلعت يوم ركبت البحر مرتحلا.
ما هو السر إذن في حب الوطن أو في ذاك المرض الوطني المزمن؟ ألعله سحر الكهان أو دعاء آلهة الأوطان! قد ألبي الدعاء فأعود فأرى الهيكل خرابا، وقد أعود مسحورا فتحل رقية السحر عند الباب.
أو هي هدية الطبيعة بل هداياها عند الباب ودونه، التي تعاون الساحر وتعطر كلمات الآلهة ونفحاتها؟ أراني ألتمس في ذا الموضوع نور الفكر لا نور العاطفة؛ لأن الجمال وحده لا يخفف من آلام الحب والمعرفة.
أو لعل ألاعيب الصبا تمسي عندنا ألاعيب الروح؟ ها هنا إخالني اقتربت من الحقيقة، أجل إن علينا أن نعود ثانية إلى الطفولة لنفوز بشيء من البهجة والحبور في حب الوطن، وفي تلك المناظر المطبوعة صورها بالأذهان منذ أيام الصبا.
أجل إن أحلام الفتوة وسذاجتها الجميلة النقية وجمال الطبيعة الظاهر والكامن معا، لتتصل أسبابها بأشجار الوطن وأزهاره وبسواقيه ومروجه وهضابه، أجل، إن كل ما يشغف الولد في سنيه المقدسة لينطبع في ذاكرته النقية فيكون منه لنفسه حياة روحية، أبدا جديدة، ولكنها كالأزهار تخضع لناموس التطور ومشيئته، فهي تنمو، وتبرعم، وتذبل، وإذ تذبل تفرش من أوراقها سجادة تحت أقدام الذكرى، وتطلي بالذهب الباهت شفق الروح وتملأ ما يستقر عندها أريجا منعشا طيبا.
إن روح الولد مستنبت يمسي جنة أسر ما فيها أزهار الذكرى وأحزنها أشواك الهجر، وهذا - على ما أظن - السر في الحنين إليها. بل هي معبد دفنت فيه ملائك أحلامنا وأبطال التصور والأمل.
وسيكون زهر المسيح شفيعي لدى القديس في كنيسة القرية، بل لدى الإله إلهي في معبد الوادي، فإني عندما أقتلع تلك الأزهار من مكامنها في الصخور أجتهد أن أحافظ كذلك على أوراقها المطرزة، وعلى كل عقدة من لفافتها القرمزية النحيفة، فأشاطرها حياة الهجر وحياة أخرى منشأها الحب الإنساني. وإني لأجد في الاثنتين لذة لا يماثلها شيء في الأحلام والآمال المادية.
أما مستنبتات أمهاتنا - وفيها الحبق والريحان - فكم لقينا في تخريبها من أزهار السرور، وتلك الأزهار نفسها وتلك النباتات الطيبة الزكية التي كنا نتلفها لاعبين، ما زالت تنمو وتبرعم لتنشر حولها ثقة بالنفس وأملا بالحياة، وهذا كل ما يتطلبه البشر الفاني المتعثر في فيافي الخوف والشكوك.
أفلا ترى إذا أن تلك الألاعيب - ألاعيب الصبوة - وتلك الرموز - رموز الروح - لتحيا حقيقة في الأزهار التي كنا نجمعها لقديس القرية، وكم مرة ضللنا الطريق واقتحمنا العواصف في سبيلها؟ أفلا تراها في غض الكلاء وكثيف الأدغال حيث كنا نتغلغل فرحين ونضيع لاعبين؟ أفلا تراها في الأشجار التي كنا نتسلقها ابتغاء ثمارها ولا تزال أغصانها تحن إلى استماع أغانينا الجبلية؟ أفلا تراها في الجداول الفضية المتدفقة التي كنا نجتازها في الشتاء مزدرين أخطارها؟ أفلا تراها في الكروم البهجة التي كنا نسرق عنبها الذهبي والقرمزي وفي الحقول الخضراء المطرزة بالأزهار التي كنا نجمع منها لأحد الشعانين الحندقوق وشقائق النعمان؟
إن حب الوطن المجرد من هذه المحسوسات الطاهرة والتذكارات الروحية لحب سياسي مادي لا يشغل العقل منا ولا القلب.
أما تاريخ بلادي فهو - والحق يقال - تاريخ بلاد بلا علم ووطن بلا نشيد، ولكن رسالتها الروحية أضرمت قديما قلب العالم، أما تقاليدها فهي تقاليد أمة ولا ملك ولا زعيم. تقاليد شعب ولا حقوق ولا حرية. تقاليد نفس ولا هيكل ولا إيمان. ولكن روحها القديمة لا تزال حية تتألم ولذلك ستنهض للجهاد والفداء، ولئن كانت أسوارها المتهدمة وجناتها الذابلة المهجورة قائمة بين رمال البادية وأمواج البحر - بين عقمين خالدين - فإن إرثها الخالد الصليب، ومجدها الدائم الأزهار.
سوريا، بلادي، بلاد الورد والفل والوزال، أنت مهد الآلهة وفيك قبورهم، أنت الصليب والمصلوب، أنت الوطن الروحي لكل شعوب الأرض، فلما عبدت بابل تموز، ولما عبدت بعلبك المشتري، ولما استظهر الجليل على اليهودية، ولما انتصر قريش على الجليل؛ كنت ينبوع حياة جليلة تتهافت على مواردك الأمم، بل كان هيكلك هيكل المجتمع الإنساني، وكان صوتك صوت الله.
إيه سوريا بلادي، فمن دجلة إلى البحر الأحمر، ومن الطور إلى الحجاز، كانت روحك جنة الوحي وكان جمالك مطمح الملوك، وإذا كانت قد خلت جبالك من الأنبياء اليوم فإن بلابلك لا تزال تغرد في سهولك وهضابك، والورد لا يزال ينور في قلبك، والأرز لا يزال - من أعاليه وقد كللها الثلج - يمد ظلاله وينشر طيبه فوق رمالك الذهبية.
سوريا بلادي، بلاد الورد والفل والوزال، مهد الآلهة ولحد الآلهة، إنك - وإن غدوت قفرا سبسبا - لكعبة الروح إلى الأبد ومطمح أنظار الممالك والأمم.
الكنيسة والجامع1
لم أر بين سائر أماكن العبادة التي أعرفها - وقد حملت نفسي المنسحقة وركبتي التعبتين إلى هياكل عديدة - أفضل من الجامع، وما أدراك ما الجامع؟ هو المكان الذي يؤثر علي بديموقراطيته أكثر من سواه لما فيه من شواعرها المتنوعة، فليس في الجامع ما يداهن الأغنياء، أو يكسر قلب الفقراء، أو يغفل الورعين، أو يرد ثقيلي الأحمال خائبين.
وليست بشاشة الجامع بمقاعده المزدوجة، وليست رغبة الناس فيه لصدقاته، والخدمة يوم الجمعة تكاد تنحصر بخطبة مصدرها القرآن فهي إذن لحن من البلاغة تعشقه الأسماع فيحدث في القلوب خشوعا وفي الأفكار نزوعا إلى العلاء.
الجامع كبير يسع الخطباء وحتى النوام من المصلين، ويبقى بين الاثنين فراغ لا يضر، فالمنبر لا يكون دائما قريبا من الزوايا الساحرة التي تظلل المسلمين ونفوسهم فيفسدها عليهم. وهم على اختلاف طبقاتهم يجتمعون للصلاة وللراحة تحت سقف واحد، فتجد بينهم درويشا يتمتم الكلام، وشحاذا أعمى، وحمالا منهوك القوى، وأعرابيا عليه غبار البادية، وكلهم يؤمون الجامع ضارعين خاشعين، طالبين راحة بعد عناء باغين غفوة في الأصيل قصيرة، فينام هذا أمام المحراب، ويتمدد ذاك على الرخام البارد تحت الأروقة، بين يكون الشيخ أو الأمير راكعا على سجادة عجمية ثمينة، قائما بصلاته.
وهو ذا درويش يتمتم قائلا: بسم الله الرحمن الرحيم، ويعدد خرزات سبحته حتى تبلغ النفس منه درجة الغيبوبة، هو ذا فقير يتثاءب ثم يهتف: يا الله يا كريم، ويخر مكبا على وجهه، وهناك بدوي ممدد تحت الرواق كأنه جثة هامدة، وليس من ملحد أو جاهل أو طفيلي يزعج المصلين أو يعكر راحة المستسلمين.
الجامع ميناء يرتاح إليه الشحاذ والأمير، وهيكل يضم المؤمنين، وناد يقبل أولاد الله على السواء، هو حيث يعثر المنبوذ على حجر يسند إليه رأسه، فتكتنفه رهبة القبة الواسعة التي تعلوه ولا ما يحرك السكينة في ذلك المكان الرهيب إلا كلمات: الله، يا الله، يا كريم، التي تدفعها الصدور وقتا فآخر. ولئن كان الجامع قائما في سوق النحاسين فيندر دخول صوت إليه من الخارج يفسد رهبة المكان، وإن النفس لتخشع فتدعو الجسد، وتبتهج فتدعو العقل، إلى علويات السكون الذي لا يوصف ولا يحد.
لا صنوج ولا أجراس، لا آلة موسيقية ولا جوق مغنين، لا رسوم ولا تماثيل، ولكن أضواء الإيمان المشتعلة دائما تهدي النفس فتجد خلال ذاك السكون وتلك الرهبة سبيلها إلى العزة الإلهية، إلى الإله الواحد، إلى الله.
دخلت ذات يوم جامعا في إحدى القرى لأستريح، وقد خلعت حذائي عند الباب - وأنا معجب بهذا التقليد الحكيم - والحكمة فيه حسية وروحية معا.
فإنه إذا كان من العيب أن تدخل بيت الله وحذاؤك في قدميك فكم بالحري إذا دنست سجاد الجامع الثمين بأوحال الطريق وغبارها؟
ناهيك بما اعتراني من السرور في العمل بهذا التقليد؛ لأن حذائي كان ضيقا على قدمي فقلت كما يقول الكثيرون ولا شك: نعم العادة التي في ممارستها راحة واحترام.
ولم يكن داخل الجامع سوى مصليين، رجل وقور طاعن في السن في إحدى الزوايا وشحاذ قريب في أطماره من العرى في الزاوية الأخرى، أما أنا فقد جلست على حصير تحت الرواق مسندا ظهري إلى عمود، ممددا ساقي، وكنت إذ ذاك كأني في منزلي.
إن الراحة والاستسلام من أصول التعبد الحقيقي، وهما مما تجد في الجامع في كل ساعة من ساعات النهار وفي كل ساعة من ساعات الليل، ولقد صليت كما أحببت، وخرجت مع رفيقي في الصلاة وأخوي في تسبيح الله، أما الشحاذ فكان حمالا وقد ترك حمله عند الباب وإذ تعذر عليه رفعه أسرع الشيخ المهاب لمعونته مشمرا ردنه الحريري وهو يقول: باسم الله، وانحنى الحمال تحت حمله الثقيل وقد تقلص عصب رقبته تحت الحبل المشدود على رأسه ثم خطا متثاقلا ولكنها خطوات ثابتة باسم الله.
والتفت الشيخ إلي وقال لي مشتبها: وهل أنت مسلم؟
فأجبته وأنا أشد حذائي: إني أعبد الله وأكرم النبي.
فدعاني إذا ذاك إلى مناولة الغداء معه، وفي المسجد كل غريب للغريب نسيب.
ذكرني هذا بزورة لمدينة «نيوبورت» وهي مكة الأغنياء في أميركا، وهناك ذهبت للصلاة أيضا وكانت الكنيسة - وهي بناية من الخشب صغيرة رغم من يؤمها من الأغنياء - تنبئ ظاهرا بحقيقة حالها، فقد نقلت من إنكلترا منذ قرنين، وركبت تركيبا في «نيوبورت»، أجل، قد جيء بأخشابها وبراعيها الأول كذلك من بلاد الإنكليز، كنيسة قديمة حقيرة، ولكن الزجاج الملون في نوافذها خاسئ الصنع سخيف، وهو جديد يتزعزع عنده الجلال في الهيكل القديم.
أما ثمن هذا الزجاج فلا نسبة بينه وبين صناعته، وهو مثل كل شيء تافه للأغنياء في تلك البلاد الجديدة العجيبة يقاس بالذهب، وقد قيل لي: إن ثمن زجاج نافذة منها ألف ريال وهبها أحد الأغنياء.
أوليس من الغضاضة أن نذكر أسماء المحسنين في موقف السخاء والإساءة! وإني لأعجب كيف أن أولئك المسئولين عن تشويه خشب الكنيسة وجدرانها لم يضنوا بأسمائهم استحياء، قلت المسئولين عن التشويه وحقا ما أقول؛ فإنه لا يطاق أن ترى النوافذ الملونة الزجاج على حائط خشبي رقيق، لا يخلو من شارة هندسية، فتشوه جماله البسيط، وتمنع انعكاس نور الشمس عليه.
ألا إن الإحسان لا يعيش في الظل، بل ينفخ في بوقه على السطوح في رائعة النهار، فيا أيها البوق، بوق التبجح، إني لم أسمع صدى صوتك في ذلك الشرق الهادئ وفي تلك المساجد المملوءة هواء نقيا .
ومما استوقف نظري في الكنيسة أيضا تلك المقاعد المربعة الزوايا التي تستطيع أن تضع مكانها عددا من الكراسي الهزازة، وهي موضوعة على شكل الدواوين يجلس أربابها متقابلين كأنهم جالسون في بهو الاستقبال. أولئك هم أغنياء أميركا، وهذه عندهم أبهة العبادة.
ولماذا يا ترى يقسم مكان العبادة إلى مقاطعات؟ ولم لا تكون الكنيسة كالجامع الفسيح، المطلوق للهواء النقي، تؤمه حينما تشاء وتبقى فيه ما تشاء، ولا حرج عليك، ولا قيد، ولا ضريبة.
إن في المقاعد الكنائسية ما يكره المرء على طويل الصلاة، وإن فيها ضريبة مرسومة، وضغطا على الحرية الشخصية، ولقد ترغب في أن تذهب إلى الكنيسة لقضاء بضعة دقائق تنبيها للروح أو غذاء للنفس، فتكره على البقاء ساعات محصورا في المقعد فتعكر غالبا على الآخرين أو يعكر الآخرون عليك صفاء التأمل والنجوى.
وقد علمت أن مقاعد كنيسة «نيوبورت» لا تباع، ولا تؤجر ولا تقدم مجانا للمصلين، ولكنها تقتنى اقتناء فكأنها ملك لصاحب بيت أو لرب عرش يتحول بالإرث من الابن إلى الابن، فلا يستطيع الغريب أن يدخل بيت الله ابتغاء الصلاة إلا إذا أراد أن يقف عند الباب صابرا قانعا، وإن خلاص نفسه لأسهل من تمتعه بمقعد يستريح فيه من عناء الوقوف.
أما أنا فقد جلست في مقعد مضيفي، وإخال أنه تملكه عنوة؛ لأن في كتاب الترانيم اسما غير اسمه، بل فيه أسماء عديدة لأسر إنكليزية عريقة النسب، توارثت هذا المقعد بعضها عن بعض، دليل ذلك أن لم يبق فراغ في جلد كتاب الترانيم لاسم آخر.
إن الأغنياء ليقاسون شيئا من الكرب سببه غناهم، وقد تهضم كذلك حقوقهم، فقد فاه مؤسس الديانة المسيحية نفسه بكلمات مؤلمة شديدة عليهم، وقد حرمهم السماء بمثل واحد من أمثاله. فوالحالة هذه يجب أن لا يعدموا حقا بسماء أخرى على الأرض، في كنيسة صغيرة، حيث يستطيعون أن يناجوا ربهم على آخر زي دون من يزعج أو يلوم.
ها هنا يحبس أولئك الأغنياء المساكين أنفسهم ردحا قصيرا من الزمن، ولا حق لأحد من سائر سكان الغبراء أن يتطفل عليهم في ساعة يوقفونها لعبادة الله، فهم يستوون واقفين في مربعاتهم رصينين متأنقين فيرتلون النشيد المائة والسادس والسبعين أو المزمور الواحد والخمسين خاشعين. فتتشرب كل حواسهم الإيمان، ويستشعرون سلاما وسكينة لا نظير لهما في غير عالم الروح. وهذه حال الواعظ الذي لا يلقي عليهم من المنبر شيئا من أمثال الناصري عن الغني والعازار مثلا أو عن الجمل وثقب الإبرة، إن هذا المحترم ليراعي شعور رعيته وأميالها.
أستغفر الله مما ذكرت؛ فقد جئت الكنيسة لأصلي لا لأنتقد، وأما أولئك الذين قد سببوا في هذا التغيير العقلي السيئ - بعيدين كانوا أو قريبين، غائبين أو حاضرين - فإني أسأل الله لهم مثلما أبغي لنفسي من الرحمة والغفران.
قد أقامت الصلوة، ولكن الجزء المهم منها لم ينته، وسيقام في الزقاق الضيق أمام الكنيسة، حيث شرذمة من البوليس يحفظون نظام العربات الذاهبة الآتية، فيتحرك نحو الباب قطار السيارات الفخيمة المتعددة الألوان والأشكال، يحف بها الحشم وعلى دفتها السائقون الكيسون المتشامخون، والعربات تجرها المطهمات، فيثب منها الغلمان في الأثواب المقصبة الرسمية يفتحون لأسيادهم الأبواب ويطأطئون الرءوس للسيدات.
غوغاء وغرور ... ضجيج وتصلف ... معرض مدهش في العبادة ... أبهة وفخفخة في الورع والتقوى ... تعال يا أخي المسيحي الفقير، تعال معي إلى الجامع!
روح اللغة
إن للغة جسما لا ينمو إلا بالغذاء الجديد، وإن لها روحا لا يعلو أدب عليها ولا يدوم أدب دونها، ولكن الأجسام عرضة للأسقام، وآراء الناس في الأرواح لا تخلو من الأوهام. فاللغة إذا تحتاج إلى رجل الدين حينا، ورجل الطب أحيانا، أما إمامها فهو شاعرها، وأما طبيبها فهو أديبها، وما العمل إذا مرض الأديب وعجز الشاعر؟ العياذ بالله، وبما هو صحيح من روح اللغة، العياذ بمن يرى الصحيح فيستخدمه ليداوي ما اعتل فيها فيجدد قواها ويفسح لها من الحياة أجلا زاهرا. اقطع الغصن اليابس ولقح الغصن الطري، تسلم الشجرة فتنمو وتزهر، كذلك فعل دنته في اللغة الطليانية، وشكسبير في اللغة الإنكليزية، وفكتور هوغو في اللغة الفرنسية،
1
ولا ريب أن في سوريا ومصر اليوم من يحاولون شعرا ونثرا - وإن عد إحسانهم قليلا - تجديد حياة اللغة العربية وتوسيع نطاقها لفظا وبيانا.
إني ممن يتعشقون هذه اللغة الشريفة، وإذا كانت الإنكليزية تسابقها أحيانا إلى خيالي، وتجلس مكانها في معقولي، فهي لا تزال على لساني، وفي قلبي، وطي أحلامي، ليعذر مني القارئ هذا الإفصاح؛ فمن العادي الفطري أن يحب المرء لغة أجداده، ولكن لحبي غير الفطرة تؤيده وتحميه، فهو ناشئ عن إعجابي العظيم بالجميل الخالد من الآداب العربية، وما هو بالقليل إذا قسناه بغيره من مثله في لغات الأجانب.
لا يلمني القارئ إذا في تقديم العاطفة على البحث والبرهان، بل لا يلمني إذا جاءت كلمتي في روح اللغة أقرب إلى شواذ البحث منها إلى أصوله، فهي كلمة عاشق، هزني إليها صديق لي قديم سمعت حديثه أمس في دار الكتب العمومية، سمعته في نيويرك وهو في بيروت، وها أني أسرع إلى إزالة العجب: كنت مارا في شارع هذه المدينة الكبيرة، وكانت ساعة ليس لسواي حق بها، فدخلت المكتبة وسرت إلى الدائرة الشرقية منها فوقع نظري هناك على مجلة الهلال وفيها مقال ممتع للأستاذ جبر ضومط في اللغة العربية، فطالعته شيقا إلى استماع حديث هذا الصديق الفاضل في موضوع هو ابن بجدته - كما يقال - أو بالحري هو محيط محيطه، وقد راقني منه خصوصا تعداد محاسن اللغة العربية والمقارنة بين آدابها وآداب سواها من اللغات، ثم استشهاده حتى علماء الإفرنج في ما لا يحتاج عندي إلى غير برهانه أحسنت يا صديقي الأستاذ، أحسنت، ولكنك في ذكرك إياي وسؤالك استهويت واستزللت، فإني بين اللغتين مثلي بين معشوقتين لا أدري - والله - أيتهما أجمل ولا إلى أيتهما أنا أميل.
على أني قرأت صفحة في جمال الاثنتين، وألممت بما في الهامش من شرح الغامض ناهيك بغموض الشرح، فكان حظي من بعض الأسرار يسيرا، إلا أن من ذا اليسير ما يعد في عرف العارفين كثيرا، كيف لا «وبضدها تتبين الأشياء!» فالورد في الأحراج أجمل منه في البساتين، وحسنات آداب اللغة في الجاهلية - على قلتها - أبهى منها قياسا في حضارة هذا الزمان، وذلك لأن دائرة نورهم تلألأت في الظلام، ودوائر نورنا تكاد تختفي في الكبيرة البهية من الأنوار. ما العمل؟ ومن الملوم؟ إن لا فضل لنا إذا كنا نرضى أن نكون مثل من نظموا ونثروا في الجاهلية وفي صدر الإسلام، بل نحن الملومون إذا كان نورنا اليوم لا يشع بين أنوار الأمم المتمدنة فترنو إليه الأبصار مدهوشة مستهدية. •••
من جميل ما قلت يا صديقي الفاضل: إن رقي اللغة في رقي أبنائها المشتغلين بها. هذه حقيقة كبيرة أستأذنك بتقديم أختها الصغيرة، وهي: إن رقي اللغة لفي الخروج على السمج العقيم من مألوفها مع المحافظة على روحها. ولكن الخارجين من الكتاب اليوم - على المألوف وعلى الروح معا - كثيرون، فيخيل إليك وأنت تطالع ما ينشرون أنك تقرأ لغة أجنبية في ألفاظ عربية، ولكني أفضل هذا الإنشاء - وفيه من غرابة وركاكة ما فيه - على إنشاء عربي لا غبار على «سيبوياته» وقد أخذت معانيه كلها ومبانيه من «الفرائد الدرية» وغيره من «المحنطات» اللغوية.
وعندي أن ضرر مثل هذه الكتب أشد من ضرر لغات الأجانب في من لا يحسنون من الكتاب حتى الترجمة، بل لا يحسنون حتى التقليد، وأننا إذا علمنا التلميذ أن يقول كتابة «تمشى الأمير» مثلا فيكتب «تحركت ركابه» أو «أخفق المرء سعيا» فيكتب «عاد بخفي حنين»، أو «نكث عهده» فيدهشنا ببلاغة «قلب له ظهر المجن» وغيرها من ثمار البيان الشبيهة بثمار صدوم، فإننا نعلمه حديثا لا يفهمه أبناء زمانه، وإن فهموه فلا يهمهم، ولا يفيد. إن في مثل هذا القديم بل هذا التقليد جمود اللغة وعقمها، وكلنا نعلم ما يتبع الجمود والعقم.
أجل أستاذي، إن رقي اللغة في نموها الدائم، والنمو في الحياة، والحياة في ما نألف اليوم ونكتشف غدا، والاكتشاف في الفكرة والنظرة والإرادة، والفكر والنظر والإرادة لا تدوم عاملة بغير الحكمة، والحكمة في أن نخبر المألوف فنتجاوزه إلى سواه،
2
من الحسن، أن ألم بشيء من شوارد اللغة، وأحسن من ذلك أن أفهم إذا استطعت
3
أصول الشوارد، فأنتفع بالأسباب إذا كانت شاملة، وقد أتخذ من القوالب ما ترتاح إليه وفيه، أفكاري، ولعمري إن أوضاع اللغة، لا أساليب أرباب الإنشاء فيها، خير ما يتعلم التلميذ ويقتبس الكاتب العصري، ولا بد له - إذا ذاك - إذا تفرد في ذكائه، أن يتفرد في أسلوبه فينبذ السمج والعقيم من مألوف الأوضاع، ويعود إلى لوح الوجود وإلى حاضر الأمة في حياتها الجارية فيتخذ من الاثنين مادة لبيانه، إنه ليجد في الاثنين غذاء طيبا جديدا لأسلوبه ولأفكاره، لمجازه أيضا وخياله.
على رأسي امرؤ القيس والمتنبي، على رأسي ابن خلدون والغزالي، ولكن في رأسي عينين تريانني أرضا رحبة إلى جانبي الطريق التي سلكوها، ومن الحكمة إذا سرت في الحقول مستكشفا مستوحيا، أو متنزها، أن أراقب من حين إلى حين منعطفات الطريق فلا أهجرها تماما، ولا أسلكها عماوة، وهذا ما أعنيه في نبذ المألوف والمحافظة على روح اللغة. •••
كان يوم وكانت «الفرائد الدرية» لي بستانا، و«نهج البلاغة» ميزانا، و«المقامات» ديوانا وخوانا وإني لأذكر أول مرة فتحت القاموس فوقع نظري في حرف الخاء على مادة خرج فقلت: وسفر الخروج، نقرؤه في المروج، على أنه حدث قبل ذلك حادث استقام فيه نوعا أمرنا، أمر هذه اللغة وأمري. (ولا بأس بالإشارة هنا إلى ما قد لا يشير إليه سواي إلا معتذرا فمن حسناتي - كثرت أو قلت - أني حكيم في ما لا يهم الناس في الأقل ولا يضر بالكون، وهي حكمة لا يجوز التواضع عندها، ولا التفاخر بها، إني ذاكرها فقط وفي رأس الطير ورأس الحية أيضا ما ينسيهما الدنيا في ما هما فيه مباشرة.)
عندما أزمعت إذا هجر ما ألفته من ضروب الإحسان، في البلاغة والبيان، أقمت والقاموس سنة، عددتها من أيام أهل الجنة، فنسيت في خزعبلات اللغة خزعبلات الحياة كلها، وأعذب الخزعبلات أبعدها من الأصول، ومن المعقول، فما القاموس - على رأي الشدياق - بكابوس، ولا هو تاج العروس، القاموس مستودع قمح فيه من الزوان والحصى والتراب شيء كثير، وقد تزودت من بعد الغربلة «أنا على سفر لا بد من زاد» ما قد لا يكفي في نظر علماء الأزهر ابن أسبوع في الكتاب الكريم، ولكن القناعة كنز لا يفنى، وما كلف الله نفسا فوق طاقتها - إن في الأمثال وفي الكتاب تعزية للكتاب والحق يقال إن خلاصي منوط غالبا بالاقتصاد، وكثيرا ما ألجم قريحتي فنسير الهوينا في الموعرات، أو أستوقفها فنجلس نستريح في ظل السكوت ونعيمه، فيشكرنا إذ ذاك القارئ، وتشكرنا كذلك اللغة.
4
لست في المفردات الشدياق، ولست في الأوضاع اليازجي، ولا أنا من الطامعين بمثل هذا الغنى، ولكني أعلم أن للألفاظ - مثل ما للغة - من التاريخ والتطور ما يفيد اللغوي معرفته، وقد يستفيد من الإلمام به بعض الكتاب، وأعلم أيضا أن مزية الألفاظ إنما هي فيها، قائمة بنفسها، وقلما تزيدها لدى الشاعر، صقلا أو خشنا، المعرفة بأصلها وشأن تطورها.
ها هي أمامك في القاموس، اضرب صفحا عما فيه من الوحشيات والخنفشاريات، من المستهجن والعقيم والبذيء (حبذا قاموس مجرد منها) وقس الألفاظ بما عندك من حسن سمع وحسن ذوق، وحسن نظر
5
فإن للألفاظ ما سوى الرنة والوزن بل الموسيقى والشكل؛ ألوانا أيضا وروائح في ما دق وشف وتماوج وفاح من معانيها.
أجل إن من الألفاظ ما تعد من الأحياء، لها من مرونة البان، وصلابة السنديان، وسلاسة الماء الجاري، وشذا الرياحين وزمزمة الرعود، وصفير البلابل، وهمس النسيم، وإيماء الألوان ما يجعلها لدى الكاتب كنزا في الإنشاء والإبداع. اللهم إذا كان يعرف حب الآس من حب البلان، أو القمح في الأقل من الزوان، فلا يتزود من القاموس دون غربلة، ولا يغرف جشعا وجزافا من كتب اللغة.
ليس الكاتب النابغة من كان يبدعيا فقط (اللفظة للأستاذ ضومط) بل من كان أيضا حسن الذوق في الفنون الجميلة كلها، في الغناء والموسيقى والشعر والنحت والتصوير، فيستعمل الألفاظ كما يستعمل العواد الأوتار، وينظم المعاني كما ينظم الرسام الألوان، ويبني جمله مقالا كما يبني النحات نصبا أو تمثالا، ويمزج أدبه وعلمه وخياله كما يمزج صانع العطور عطوره، فتجيء فيها روح الفنون كلها، أي التناسب والتوازن والتباين في التشابه ، خلا الإبداع نظرا وفكرا وأسلوبا، وهذا لعمري الجمال بعينه، بل هذا شيء من الكمال في الآداب.
واللغة العربية تمكن الكاتب الذي يتعشقها، فيجهد النفس في افتهام بعض أسرارها، من الكثير من ذا الجمال كما برهن عن ذلك الأستاذ ضومط. بل في اللغة ذاتها براهين لا تعد، وحجج لا ترد، وقد تجسمت في من تجلت لهم روحها السامية من الشعراء والعلماء. كان أبو الطيب، فجاء الشعر منه في أوج الصناعة، فإن في أنيق مبانيه، وجديد معانيه، وجزل ألفاظه حقيقة ما قلت. وهو في مقدمة من أحاطوا علما بكل ما في الألفاظ من أسرار المعاني وأظلالها وتموجاتها فكان - في اختيارها - موسيقيا، ورساما، وعطارا، ونحاتا معا.
وكان أبو العلاء، فجاءت فلسفته الشعرية، وفيها من أصالة الرأي، ودقيق النظر، ورقيق الشعور، وغور الخيال، وحرية الفكر، ما جعل المستشرقين يقولون: إنه وجد ألف سنة قبل أوانه. وكان الفارض، فقال لهذه اللغة الشريفة: أريد منك مادة ذهبية لأسرار إلهية، أريد جلبابا هفافا لكيان خفي علي، أريد أن أبني بناء فخما لربة الحب والرؤيا، فقالت اللغة: لبيك! فنظم تلك القصائد الفريدة في لبها المنقطعة النظير حتى في الدواوين الإنكليزية والفرنسية التي أعرفها. •••
وهل أنا أنقض ههنا ما قلته في فن الإنشاء؟ عفوا أيها القارئ ... إذا كان لي أن أتطال إلى الجوزاء فأين لي أن أصلها؟ ولا تلوم البصيرة اليد في هذا العجز، ولا اليد البصيرة، على أن الشوق حسنة من حسنات الطالبين ولا حد له عندهم. وإني حتى في حبي هذه اللغة طالب، متصوف، فتعذرني، ويعذرني المقربون منها، إذا سرت حول بستانها هائما، وقد طالما ظننت الجدار الوهاج نهجا أو ستارا، فسقطت مرات عنده كذبابة تحاول الدخول من شباك زجاج مقفل. على أني تسلقت الجدار مرة؛ لجهلي مكان الباب منه، ولشدة ابتهاجي مما شاهدت سقطت في عليقة تحتي.
وسرت زمنا بين العليق والرياحين، في جادة تنتهي عند كل خطوة من خطواتي، أزرع ما قد لا يليق إذا نور، بعرش اللغة، زينة أو تقدمة، ولكني أؤمل أن ثباتي في ما هويت وقاسيت يجعلني - في الأقل - من المقربين. فها يدي ولم تزل دامية وثوبي ولم يزل مزقا، ويشهد علي سيبويه أني ما آثرت يوما ثمرة طيبة في بساتين الغرباء على زهرة اللهم ذات أريج في بستانه، لا والله حتى ولا على عنقود جميل اللون والشكل من عليق علمه - رحمه الله.
6
وهل أدناني هذا من روح اللغة؟ لا أنكر أنه استمالني وشوقني، وعلمني - فوق ذلك - السلام عند اللقاء، على أني - والحق يقال - ما رأيت غير أظلال وبعض أشعة من روحها في كتب النحو والبيان، وفي القاموس اقتفيت أثرها ولم أظفر بها، وفي دواوين الشعر ورسائل المترسلين، وقفت مرات عند هياكل لها فارغة، وقد تبقى عليها من الطيب، ونثر الأزاهر الذابلة، وسائل الشموع، ما يثير حتى في الوثني الشوق والتوقى. وبكلمة بسيطة: إن في كتب اللغة يا صديقي أدلاء فقط، وهم - وإن تعددت آراؤهم في «حتى» وسخافات شتى - يشيرون إجماعا إلى الحقيقة الكبرى، وهي: أن روح اللغة في تطورها.
فها مثلا أبو العلاء: إن طريقته في النظم غير طريقة أصحاب «المعلقات» قبله وأصحاب «الموشحات» بعده، وإن أسلوب البهاء زهير لغير أسلوب سمية بن سلمى، والمتنبي في بعض الاصطلاحات والأوضاع غير ابن زيدون فيها، وكفى بالقارئ أن يعود إلى ما هو معلوم من أطوار الشعر العربي فيبدو له من الفرق بين الجاهلين مثلا والمولدين ما لا يحتاج إلى برهان.
إن روح اللغة كامنة أيضا في عادات أبنائها - أبناء حاضرها وماضيها - وأخلاقهم وتقاليدهم واصطلاحاتهم العامة. والكاتب العصري من درس هذه العادات والاصطلاحات واتخذ منها مادة - أو في الأقل - دليلا لإنشائه، فيجيء وفيه من المعاني والمباني ما هو جلي، حي، وقريب من أفهام أبناء زمانه. ومن الخطأ أن يظن أن كل ما جاء به عرب الجزيرة إنما هو منتهى الفصاحة والبلاغة، وأن استعاراتهم كلها جميلة في كل مكان وزمان. ومن الوهم أن نتصور في الماضي رب العصمة والكمال، كما أنه من الوهم أن نحصر نبوغ زماننا في إحسان لغة مضر وقحطان، أو في الخروج عليها.
إني من الخوارج، ولكني أحترم من الماضي ما كان موافقا الحاضر ومفيدا له، أو ما كان فيه - في الأقل - حقيقة ثابتة، أو جمالا لا يغيره الزمان ولا ينكره المكان. ولست أرى شيئا من هذا في كثير مما ألفناه، فلا فائدة في أن نضع لسان قحطان في فم المصري، أو لسان حمير في فم الشامي، فينطقون بحرف اللغة ويعبثون بروحها، بل جل الفائدة في أن نتعلم أن نقتبس روح اللغة ونتشربها مما لدينا من نفيس آدابها وأوضاعها الجميلة، ومما هو حي مثمر من عادات أبنائها وتقاليدهم.
ولا شك أن اللغة العربية حافلة بالألفاظ والأوضاع التي تمكن من الإفصاح عن أدق الأفكار، وأرق العواطف، وأبعد التصورات، ولكنها تقصر عند الغريب الجديد من مظاهر الحياة في هذا الزمان، لذلك هي تحتاج إلى مجمع علمي
7
يدخل إليها بعض الألفاظ الفنية والعلمية الحديثة، ويجيز بعض الاصطلاحات العامة، كما فعل في الماضي العلماء في بغداد وفي قرطبة، وهذه من ضرورات الحياة لكل لغة من لغات الدنيا.
هل أجبت في هذه الجولة سؤال الأستاذ ضومط؟ ولا بأس - مهما كان من نتيجة ما قلت - بكلمة أخرى فيها زيادة إيضاح، نعم، قد كتبت في اللغة الإنكليزية أصف جمال الطبيعة في بلادنا كما كتبت في العربية
8
ولا يختلف أسلوبي في اللغتين إلا في النظر إلى الموضوع من الوجهة التي تفهم ولا تستغرب تماما، وفي بعض الاستعارات والآراء الاجتماعية التي تتخلل ما أكتب؛ فلكل لغة - كما قلت - روح يجتهد الطامع بشيء من شرف التأليف أن يملك بعضها، فتستملكه إذا فاز وتهديه. وفي هذا الفقير إلى رحمة شكسبير والمعري روحان قضت بهما الولادة والهجرة، فإذا كتبت في الإنكليزية أفكر غالبا وأعبر عن فكري على طريقة الإنكليز، فلا أقول مثلا: «خيم الليل على المدينة» وأهل هذه اللغة من غير أهل الخيام
9
ولا أكتب باللغة العربية: «هز يده» لعلمي أن هز اليد عندنا لا يفيد المصافحة، وهذا مثل واحد من أمثال لا حاجة إلى تعدادها.
إلا أني أشير إشارة إلى الفرق الأكبر بين لغتنا ولغتهم، وهو أننا ننظر إلى الأشياء غالبا من خلال المحسوس فتندر الحقائق المجردة في استعاراتنا. كأننا لا نفقه المعاني إلا إذا صورت أمامنا فتدركها الحواس منا قبل أن يدركها العقل، وهم ينظرون إلى الأشياء غالبا من خلال المعقول فتندر الاستعارات في حقائقهم المجردة
10
والنادر دائما عزيز، لذلك ترانا اليوم نجل الفكر فوق كل إجلال في التأليف، فنبالغ أحيانا في التجريد، وهم - رغم مدنيتهم المادية العملية - يرغبون في شيء من الخيال ويرتاحون - بالأخص - إلى الاستعارات الشرقية، أو ما استطاعوا رده منها إلى لوح الوجود العام فيفهمونه.
أما الاستعارات المنوطة بمظاهر الأخلاق في الأمة وبعاداتها وتقاليدها فلا يفهمها غالبا غير أبنائها، ولا تروق سواهم، والترجمة الحرفية من لغة إلى أخرى سمجة مستهجنة. وأسمج منها التقليد في المحسوس دون المعقول، في الحرف دون المعنى. هذا المتنبي مثلا - وله بين الشعراء عندنا المقام الأول - فلو ترجمنا بعض غلوه في مدح سيف الدولة الذي لا تغيب الشمس إلا بإذن منه، ولا غرو فهو رب الأفلاك وقاهر النجوم؛ لضحكت من ترهاتنا الأمم.
وقد زعموا أن النجوم خوالد
ولو حاربته ناح فيها الثواكل (شيء محزن!)
فما كان أدناها له لو أرادها
وألطفها لو أنه المتناول (شيء مضحك جدا!)
بيد أن من غلوه ما لا يبكي ولا يضحك، بل من غلوه ما هو جميل ومؤثر جدا؛ لأنه مبني على حقيقة في الحياة يخبرها كل من تعددت أحزانهم فلا يبالون بالجديد منها، ولا أظن أن شكسبير أو ملتن أو هوميروس أبدع في وصف هذه الحال من حالات النفس إبداع المتنبي إذ قال:
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال
على أن شكسبير لا يستعير في هذا المعنى النبال للغشاء، ومع أن ما يسمونه في الإنجليزية المجاز المتباين يكثر في شعره فهو يتحرى غالبا التناسب، فلا ينسج غشاء من الحراب أو من مادة صلبة. وشعراء الإفرنج أكثر تناسبا، وأقل غلوا، وأقرب معقولا في استعاراتهم وتصوراتهم منا، إلا إذا جاءت في باب المجون والهزل، أما نحن فنجد حتى في «محاربة النجوم». •••
وليست هذه أكبر عيوبنا اللغوية، قلت في بدء كلامي إني أتعشق هذه اللغة، فلي فيها إذا أمان يجوز الإفصاح عنها، وأماني الآن ثلاث لا غير، قد ذكرت القاموس، ونبهت إلى الألفاظ الفنية، وأشرت إلى أبي العلاء، فمن أماني إذا:
أولا:
أن يعاد تأسيس مجمع علمي؛ لينظر في ما تحتاج إليه اللغة من الألفاظ الجديدة الفنية والعلمية، فيجيزها بعد إعرابها وينشرها.
ثانيا:
أن يطبع المجمع العلمي أو إحدى شركات الطبع قاموسا عصريا مجردا من الألفاظ الوحشية والمترادفات البدوية والأمثال التي لا تنطبق على حياتنا اليوم، قاموسا مجردا بالأخص من المواد البذيئة كلها، ولا أريد بهذه إسقاط ما قد يتبادر إلى الذهن من المفردات الجنسية، بل أريد - وكل من لجأ إلى القاموس من الكتاب يعلم ما أريد ... هل تخلو صفحة منها؟ وكم من مادة لا تبدأ إلا بها؟ أوما حان لنا أن نعفو تلك «الناقة» وتلك «الجارية» المسكينة من الخدمة في القاموس؟ عار والله علينا - وآداب لغتنا تعد من آداب العالم الخالدة - أن تظل قواميسنا حافلة بالوحشيات والبذاءات، وها أننا بدأنا نشعر بوجوب تعليم البنات وتهذيبهن، والمدارس المختصة بهن تزداد عددا يوما فيوما، فهل بين قواميس اللغة ما يليق أن يستعملنه في دروسهن، أولا يحيط الكاتب علما باللغة إلا إذا حفظ الأمثال المضروبة بالناقة والجارية كلها؟ إن أمنيتي الكبرى أن أرى قبل أن أموت قاموسا عربيا عصريا نظيفا.
ثالث أماني:
أن ينشر أحد الطابعين منتخبات من لزوميات المعري؛ لأن فرائده الشعرية، ودرر فلسفته العقلية، تضيع في الكثير مما تكلفه من الترهات اللغوية، ومما تنحصر أهميته في أحوال زمانه، لذلك يقل من يطالعون اللزوميات، ويكثير من لا يقرنون المعري بغير الكفريات، فلو اخترنا من المجلدين الضخمين ألف بيت مثلا ونشرناها في كتاب جميل، لمكنا الكثير من العلم بشعره علما لا ينحصر ب «غير مجد في ملتي واعتقادي.»
و«في اللاذقية ضجة» بل يتجاوزها إلى بليغ حكمته، وسمو فلسفته، وجميل أدبه، ولا يظن أني أريد مجرد ما تدعى منها بالكفريات، لا والله، بل أريد مثل هذه الأبيات:
فلتفعل النفس الجميل لأنه
خير وأحسن لا لأجل ثوابا
والغيث أهنأه الذي
يهمس وليس له رعود
أرى اللب مرآة اللبيب فمن يكن
مرائيه الإخوان يصدق ويكذب
فشاور العقل واترك غيره هدرا
فالعقل خير مشير ضمه النادي
ومثلها كثير من الحقائق والحكم التي لم ينطق بها نوابغ الإفرنج ولا ألفها الأوروبيون إلا بعد ألف سنة من زمن كانت معرة النعمان فيه كعبة الأدب والشعر والعلم، وكان أبي العلاء ربها «الضرير» البصير!
تعددت الأسماء والظلم واحد1
في التاريخ حقائق ينشرها الزمان - أضرت أو نفعت - وإن حاول كتمانها الإنسان. ينشرها الزمان في إعادة الحوادث الأليمة والنهضات السياسية العظيمة. ومن هذه الحقائق أن من الشعوب، قديما وحديثا، في الشرق وفي الغرب؛ من حاولوا مرارا أن يزيلوا بالقوة ما في الحياة من نقص وزيادة، من أثرة وامتياز، من ضعف وقوة، من فقر وغنى، فكسروا نير الطاعة وأبوا الخضوع لسيادتي الشرع والدين، بل طالما خاض الشعوب بحرا من الدم والأهوال توصلا إلى ما كانوا يظنونه كمالا في الأحكام ومساواة بين الأنام.
أما زعماء هاته النهضات - نهضات المساواة إكراها - فلا شك أنهم ينشئون صادقين ويعملون بادئ أمرهم مخلصين، لا شك أنهم يعتنقون مبادئ الكمال في الاجتماع والدين مقتنعين لا مخادعين، ويقيمون أنفسهم أسياد حكم جديد، ورسل خير عتيد، علما منهم أن لا فوز بلا قوة ولا قوة بلا حكم مهما كان.
ولكنهم لا يلبثون أن يسيئوا استخدام القوة التي يلقونها طوع مشيئتهم في شعب ثائر وفي حكم لهذا الشعب جديد، أجل إن السيادة لتستغويهم فتغرهم، فتلعب بمطامعهم، فينقلبون وأيما انقلاب لا على الشعب مصدر سيادتهم فقط بل على المبادئ ذاتها التي من أجلها امتطوا صهوة السيادة، يتلونون حينا ويتطورون أحيانا، ويمسخون في النهاية، فيتركون في التاريخ أثرا يذكر، ولا يشكر؛ إذ يجعلهم في صف الأتوقراطيين إذا كانوا من الفائزين، أو يحشرهم إذا فشلوا مع رسل الشعب الكاذبين.
وهم في كلتا الحالين يستخدمون القوات السلبية في الاجتماع - قوات التجريد والتدمير - لنيل مآربهم، مدعين أن في ذلك تحقيق آمال المولدين الكماليين، وكأنهم يقولون: لا بدعة بلا خربة تقوم عليها، ولا كمال بلا اضمحلال ينشأ عنه. ولكنهم بدل أن يبنوا هيكل الإخاء والمساواة، هيكل الحقيقة والكمال، على خرائب الهيئة الاجتماعية التي دمروها يؤسسون حكما جديدا، لا في عدله بل في توزيع عدله. والتاريخ شاهد على ذلك، وحوادث الزمان الحاضر كذلك، (البلشفية اليوم تظلم طبقات من الناس عديدة لتعدل في طبقة واحدة، طبقة العمال، وعدلها هذا من نوع الانتقام) هذا ما أريد بالحكم الجديد في توزيع عدله فقط.
أما الحلم بالكمال الذي يمثل للإنسان حكما تاما في عدله، مستويا في ناموسه، شاملا في خيره، الحلم الذي يستنهض الشعوب من رقاد الأجيال والعبودية، ويدعوهم إلى الثورة والقتال، الحلم الذي يضرم فيهم نار الجهاد ويشعل في صدورهم نور الأمل، ويقودهم راغبين إلى الضحية، إلى الاستبسال، إلى الشهادة، إلى الموت، بل إلى التدمير والتخريب بالسيف والمشعل؛ إن هذا الحلم لحي خالد في التاريخ، يجدد الجهاد من حين إلى حين في الأمم، ويبعث الآمال في الشعوب، وهذا المبدأ مبدأ «الرجعيات الأبديات» لا ينفصل - على ما يظهر - عن مبدأ «التعمير بالتدمير».
علينا أن ندون حقيقة أخرى، فمهما كان من إخلاص زعماء النهضة المؤسسة على هذين المبدأين وطموحهم، ومهما كان من تطرف رسل المساواة وتوحش رسل التدمير فإن الأمة التي يقلبونها ويبلبلونها تعود عاجلا أو آجلا إلى رشدها فتقيم القسط، وتعزز الشرع والنظام، وتؤسس على مبادئ العدل والارتقاء حكما جديدا، يكون عدله أتم - وإن كان لم يزل ناقصا - من عدل الحكومات السابقة. إذ إن الأمة التي تخوض عباب الثورة تكتسب قوة أدبية وروحية توازي بل تفوق ما خسرته من قواها المادية.
وهذه الحقيقة في الثورات هي شواذ القاعدة، ندونها مسرورين حامدين رب العالمين، أما القاعدة ذاتها التي يثبتها كذلك التاريخ هي أن كل نهضة سياسية، أو ثورة اجتماعية، حاولت تأسيس حكم بالمساواة والإخاء بالقوة، بالسيف والخنجر، بالحراب والمدافع، حتى بتأليف الجوالي الاشتراكية، كان نصيبها من وجهة الكماليين الفشل التام.
والمتطرفون في هذا السبيل، مهما كان من فوزهم الموقت وسلطانهم البائد، يتدرجون غالبا في طريق سلكها كل ظالم في الدنيا، وكل مشعوذ في الدين، وإن إثمهم الأكبر لا ينحصر في دفع الشعوب إلى مهاوي الفوضى والأهوال، بل يتجاوزه إلى حد تتدنس عنده المبادئ الكمالية التي يودون تأسيسها على القوات السلبية في الأمة، قوات الشك والنفي والجهل والعصيان، والقوات السلبية لا تولد شيئا صالحا يدوم طويلا.
وهذه حقيقة من الحقائق التي ينطق بها التاريخ قديما وحديثا، كما سيرى قراء هذا الكتاب؛ إذ نقص عليهم قصص النهضات الفوضوية، البلشفية، في الشرق الأدنى وفي أوروبا، على كل سيادة دينية كانت أو مدنية أو أدبية. والفرق بين تلك النهضات ونهضات اليوم هو في المحيط وفي الأسماء فقط، وأن رسل الكمال، وإن شئت قل: رسل الأهوال، هم هم قرامطة كانوا، أو حشاشين، أو بلشفيين، تعددت الأسماء والظلم واحد.
ومن ينكر أن الظلم سبب كل ثورة وجهاد؟ ولكن الظلم في الماضي كان متجسدا في الملوك والكهان، وهو اليوم متجسد في الزعماء والسياسيين، أجل، قد كان الأمراء ورجال الدين أسياد الناس في الماضي، أما اليوم فأسيادنا أرباب المال وزعماء العمال. وفي كلتا الحالين الأمة التي تسود فيها الأثرة، إن في الصناعة أو في الأحكام، تلجأ - بعد صبر طويل - إلى التطرف بالمطالب المادية المؤسسة على القوات السلبية في الناس، قوات التجريد
2
والتدمير.
الثورة الحقيقية
أنا عربي شرقي ثوروي، عربي اللسان، شرقي الروح، ثوروي المبدأ. عربي لا يكره الترك، وشرقي لا يزدري الغرب، وثوروي تهمه الكعبة مثلا أكثر مما يهمه الدستور. أنا ثوروي روحي وإخواني - وإن قل عددهم - كثيرون، وسلاحنا من الله لا من معامل أوروبا، سلاحنا كلمة نقولها، رأي نبديه، بذرة نزرعها في قلوب الناس.
أنا عربي جنسيتي على لساني وفي وجهي وطي أضلعي ، أنا عربي، رمل البادية عزيز عندي كدم أبنائها وسيئات العرب أجمل في نظري من حسنات عبيد التمدن، أنا عربي، ماضي بلادي حي في فؤادي ومستقبلها نور من أنوار إيماني ، وإن قيل: حلم هو فنعم الحلم أحلمه صباح مساء عند إشراق الشمس وعند غروبها، وقد يحلمه في نومهم سواي من أبناء العرب فينسون أنهم يحلمون مثل هذا الحلم الجميل أو أنهم يتناسون فيموهون.
أنا عربي أحلم بإحياء مجد العرب - في ظل الدستور كان أو في ظل أعدائه - لا فرق عندي، وما الدستور وما الحكومة سوى آلات في يد علوية لا ترى، فإذا انكسرت الآلة مثلا أو تعطلت يجددها صانعها اليوم ويستأنف العمل غدا، ومتى نورت أشعة الشمس زهرا، وأثمرت روائح الربيع ثمارا، واستحال رمل البادية تبرا، وظلمة أديانها نورا، وخيام أبنائها قصورا؛ قل صح حلم حلمناه وتحققت آمال علم علمناه وعلمناه، ونحن في زمن عجيب تصح فيه أكثر أحلامه، وتنبئنا لياليه بغرائب أيامه.
في شمس البادية ورمالها شيء من مجد الأجداد لا يموت، وفي روح الزمان السامية علم لا تصد تياره الصحاري ولا تتجهمه الجبال، وعندما يقرن الله بين هذا الذي لا يصد وذاك الذي لا يموت - بين العلم الصحيح وهمة العرب الشماء - قل صح حلم صوره العقل والخيال ونفخت فيه الحقيقة نسمة الحياة والجمال.
أنا ثوروي أوقف حياتي لثورة سلمية حقيقية لا لثورة كاذبة سياسية، أدعو الناس إلى ثورة أفكار وأخلاق وآداب وأديان، أقول وحقا ما أقول: إن إصلاح الشرق والشرقيين يتوقف على مقدمتين جوهريتين بدونهما تظل نهضاتنا مناهضات غايتها السيادة والإثراء، وينحصر إصلاحنا في تغيير الثياب والأعلام والأسماء.
إن في تصفية الدين وفي التفريق بينه وبين السياسة مقدمتين جوهريتين للإصلاح الحقيقي الذي يبتدئ في وفيك أيها القارئ، ويتدرج إلى سوانا، إلى أولياء الأمر فينا، إلى رؤسائنا وحكامنا. أصلحوا الحياة في البيت وفي المدارس وفي المعابد تصلح الحكومة، ليصلح كل فرد نفسه فيصلح المجموع. قلت هذا مرارا، وسأقوله دائما في مثل هذا الموضوع.
أنا عربي حر، وليست حريتي من فضل الدستور ولا من مكارم إخواني الأتراك، حريتي من الله، وإذا فقدتها فأنا المسئول في ذلك لا الحكومة. ومتى بدأ الشرقي يشعر أن حريته من الله لا من الحكام والرؤساء ، وأن دينه لله ولا شأن فيه للعلماء، والمتنطعين؛ بشر الشرق إذ ذاك بنهضة اجتماعية حقيقية عظيمة.
لست بناكر أن في الشرق اليوم نهضة فكرية بدت آثارها في أطرافه وفي أواسطه في اليابان وفي الهند والصين وفي بلاد العرب، ولكنها مادية سياسية ولدتها تجارة الغربيين وشيدت أطماعهم معالمها. بل هي نهضة نرى للأوروبيين فيها اليد الطولى فهم القابضون على زمامها، وهم أسياد زعمائها، ومع ذلك نرى فيها ثمرة قد يجنيها أبناء البلاد إذا أصلحوا أخلاقهم ونبذوا ربقة المتنطعين من رجال الدين، والمستأثرين من الحكام، والمشعوذين من السياسيين، ونهضوا مسلحين بحرية حقيقية هي منحة الله لا منحة الدستور. أما هذه الثورات السياسية التي يضرم نارها أصحاب الأطماع والسيادة ويشن غاراتها ذوو الزعامة الدينية؛ فلا خير فيها لأحد من الناس.
هذه ثورة اليمن مثلا، فهي مهلكة للترك وللعرب، هي ثورة أحقاد جنسية وأغراض سياسية، فريق فيها سلاحه الأثرة وفريق سلاحه الجهل، نرى الأتراك فيها يضربون أعناق البدو بسيف الحرية، ويحشون أمعاءهم بقنابل المساواة، ونرى العرب وزعماءهم حاملين على الدستور باسم الخلافة والدين، فأين العدل إذا في سياسة الترك وأين العقل في ثورة العرب؟ لا - وربي - إن الحق في هذه الفتنة محتجب احتجاب الشمس إبان الزوابع والأعاصير، ومهما كانت نتيجتها فلا يستقيم الأمر ويمهد سبيل الثورة الحقيقية - أو بالحري الانقلاب العظيم - إلا إذا أصلح الترك سياستهم وفهم العرب دينهم.
الثورة الحقيقية - ونحن من أنصارها، من رسلها - إنما هي التي يزرع الزمان بذورها في قلوب الناس وفي عقولهم، بل هي التي يشعل الله نورها في أرواح البشر، هي الثورة التي يتقدمها ري العراق مثلا وسكة الحجاز، وحرية الطباعة، والتجارة والتعليم، هي التي تنمو في الجامعة نموا هادئا ثابتا بطيئا كما ينمو النخيل في الرمال. هي التي تبتدئ في البيت، وفي الحريم، وفي المدارس والمعابد. هي التي يحمل بنودها أصحاب الآراء السديدة وأنصار المبادئ القويمة الجديدة، هي التي تنشر راية العلم الصحيح في معاهد التعليم وراية الحق في دوائر الحكومة، هي التي نفادي من أجلها بأرواح أحرار لا غرض لهم في تعشق الحرية غير تعميم نعمائها بين الشعوب.
الثورة الحقيقية، أو بالحري الانقلاب العظيم هو الذي يساعد في ارتقاء الأشياء والحياة مما هي إلى ما ينبغي أن تكون. مثل هذا الانقلاب يصلح حال الترك ويصلح حال العرب، بل يصلح الشرق كله والشرقيين.
الولايات المتحدة: آزار سنة 1911
حكومة المستقبل
حكومة صغيرة إلا في عدلها، حكومة محدودة إلا في صلاحها، ادع إليها الناس، وبشر بها الناس، سيحبل بها الفجر، سيلدها النور، فتترعرع في حجر العلم، وتتغذى من ثدي الأدب والدين. هي آتية وكل آت قريب، حكومة جغرافية طبيعية لا أمر فيها ولا كلمة لغير من نشأ في أرضها، بشر بها الناس. حكومة أدبية روحية لا أثرة فيها لغير الحق ولا سيادة لغير الأمانة والإخاء والسلام، ادع إليها الناس. وسيكون حكامها من أمراء الحكمة والفلسفة والفنون، وسيكون شعارها: الحكومة للرعية لا الرعية للحكومة. بشر الناس بحكومة المستقبل. •••
على أن بعض السياسيين والاقتصاديين يعتقدون أن العلم في اكتشافاته واختراعاته ليضمن في المستقبل سلامة الممالك العظيمة، بل يعتقد غلاة القائلين بفضل الاستعمار الدولي أن المستقبل إنما هو لمثل هذه الممالك المترامية الأطراف، الرافعة راياتها ومدافعها فوق السود والصفر والبيض من الشعوب، وأن الممالك الصغيرة ستنقرض انقراضا قليلا قليلا، فتتوارى جنسيتها في جنسية الغالبين السائدين، ويتلاشى استقلالها في ظل من في أيديهم اليوم صولجان العلم وصولجان الثروة. وبعبارة أخرى: ستجذب الممالك الكبيرة الممالك الصغيرة فتبتلعها كما تجذب المذنبات النيازك. وأحوال شعوب الأرض المستضعفة تؤيد اليوم هذا الرأي، تؤيده إلى حين، تؤيده إلى أن يشرق عليها نور العلم الصحيح والحرية الحقيقية، والعلم والحرية لا جنسية لهما. ليست الحرية ملك آبائكم أيها الرافعون في بلادكم منارها، السادلون في مستعمراتكم ستارها، إنما أنتم واثقون بمن قد يخونكم، وما خان العلم إلا من أساء استخدامه، اليوم يخدمكم يا أسيادي وغدا يخدم عبيدكم وأعداءكم. وحين يقبل العلم بوجهه على الشعوب الصغيرة المستضعفة يكبر رويدا رويدا قصدها، ويشتد ساعدها، فتنتبه إلى كنوز أرضها ومعالم ثورتها، وحسبها أن ترى في البد، مطلع العلم والحرية؛ إذ ما من أمة وقفت في ضياء الفجر فآثرت على الإقدام الرجوع إلى الظلمة.
وقد فات أولئك السياسيين والاقتصاديين أن الممالك إنما تقوم بالرجال، وبالفكر، وبالطاعة، وأن رجال اليوم لا ينصرون الحكومة قلبا وقالبا، ولا يخدمونها، ولا يطيعونها، إن لم يكن لهم فيها ومنها منفعة خصوصية. جرد الدولة البريطانية من مستعمراتها مثلا، فتتزعزع الحكومة في لندرا، وينهض جيش عرمرم من سباهلة المأمورين، من أبناء الدواوين المقفلة، فيقلبها ويدك عرشها في ليلة واحدة. بل جرد المستعمرات من جنود الاحتلال فتعود السيادة دفعة واحدة إلى أصحابها الشرعيين، لا، ما لي والشرعيات وجل العاملين فيها إن كان عندنا - أو عند الأوروبيين - يؤثرون خير السائدين على خير المسودين، ويرفعون على مصلحة الأمة مصلحة الأعيان والمتمولين. لو فرضنا إذا أن جنود الدول الأوربية عصوا في المستعمرات أوامر ضباطهم وحكوماتهم؛ تعود السيادة عاجلا إلى أصحابها الطبيعيين - والحقوق الطبيعية قبل الحقوق الشرعية - ويتقلص ظل الممالك الضخمة العريضة حتى مراكزها الجغرافية الأصلية.
أجل، إن الدول العظيمة، ذات الشوكة والصولة والاقتدار تعود دولا صغيرة إذا عصى الجيش أوامرها، بل تتقوض أركانها إذا ولت بدل أبنائها في المستعمرات رجالا منها، أي: من البلاد التي ترفع فوقها أعلامها ومدافعها. ولا أشك في أن رؤساء الدوائر وأبناء الدواوين - بل عبيدها - إذا عزلوا اليوم يصبحون غدا في قاعدة بلادهم من معاندي الحكومة ومنابذيها، فالقوة المؤسس عليها مجد هذا الملك الضخم العظيم إنما هي قوة اصطناعية تزول رويدا رويدا كلما ازداد انتشار العلم في الشعوب والأمم. •••
كلما ازداد المرء قوة من نفسه كبر قصده وعظمت همته، قف معي عند هذا، قلت كلما ازداد المرء قوة من نفسه، ولم أقل: من الحال التي هو فيها - من أصحابه أو محبيه، أو من منصبه، أو من ثروته - بل من نفسه، من داخل قلبه ، من ذلك المصدر الخفي الإلهي الذي لا تبلغه يد الناس ولا يد الحكومة. كلما ازداد من مثل هذه القوة الحقيقية ابتعد عن كل قوات العالم السياسية الخبيثة. وبكلمة أخرى : إن المرء، متى نشأت فيه طبائع الحرية الفردية الروحية، لينفر من هاته الطواحين السياسية التي تحاول طحن إرادته وسحق ذاتيته الروحانية العالية، وأننا لنرى اليوم شيئا من هذا التمرد والتنابذ في من هم أساس الملك وعموده، في الجنود وفي الجماعات.
كان الخوارج في صدر الإسلام يقولون: لا حكم إلا لله. وهذه كلمة حق قالها أناس قوة أسيادهم من الجماعة لا من أنفسهم، وقوة تلك الجماعة نشأت في تلك الأيام من أحوال ليست طبيعية، كانت للخوارج يوما وعليهم أبدا؛ وذلك لأن الكلمة الكبيرة: «لا حكم إلا لله» كلمة لا يحق لجماعة ما اتخاذها دستورا إلا إذا كان أسياد - بل أفراد - تلك الجماعة في درجة من الرقي يعرف فيها كل نفسه، ويعرف حقيقة الله كما تتجلى في الأكوان، وفي الأشياء، وفي الناس، ويعرفون فوق ذلك أن من يخدم أخاه الإنسان من تلقاء نفسه إنما هو خادم نفسه.
لا حكم إلا لله، يحق لي أن أقول هذا القول متى كانت سنة الله ثابتة في، سائدة علي، آخذة بمجامع قلبي وعقلي، مشترعة لنفسي، مقضية في أعمالي أبدا وأقوالي. وما هي سنة الله؟ في كتب الدين نجدها، وفي كتب العلم، في سفر التكوين، وفي سفر الفيزيولوجيا، في علم الصحة، وفي علم الأدب، في نذر الأنبياء، وفي نصح العلماء نجدها، في النملة وفي الأفلاك وفي الإنسان نجدها، على أن هذا ليس من مبحثي الآن.
ومثل ما قال الخوارج في صدر الإسلام: لا حكم إلا لله، يقول المصلحون في أروبا اليوم لا حكم إلا للجماعات، ويالها من جولة أسمعتنا نعيق الزعماء في الأرض بعد أن أرتنا قبسا من الإنسان في السماء. وإني لأجد في هذا السقوط من العلويات الإلهية إلى حضيض الجماعات شيئا من التقدم والتحسين في الأحكام، اللهم إذا كانت أنفس الزعماء والمصلحين كأنفس الخلفاء الراشدين وأمثالهم . على أن ما قلته في الخوارج يصح نوعا في الجماعات، بل قد يكون الصلاح والأمانة والإخلاص في زعماء الجماعات أقل جدا مما كان منها في زعماء الخوارج، ولكن الأحوال التي تكتنف الجماعات اليوم وتتكيف في حياتهم تكثر فيها وسائط التهذيب والتربية، وإذا كانوا غير أهل لأن يقولوا اليوم كلمتهم المشهورة ويتخذوها شعارهم، فهم أهل لذلك غدا. أجل إن يومهم لآت وإنه على الممالك العظيمة الأثيمة ليوم شديد عصيب.
الملك يضعف بالنسبة إلى ازدياد عدد الأفراد الأقوياء الأمناء في الجماعات، أولئك الذين يزدادون قوة من باطن حالهم، من أعمالهم، من حريتهم، من صلاحهم، فيحررون أنفسهم ولا يكون في ذلك شيء من الفضل لأحد من الناس سواهم، أولئك الذين يرفعون ذاتيتهم الروحانية الأدبية فوق كل سلطة مادية تحاول قتلها أو إيقاف نموها. أولئك الصالحون المتمردون كلما ازداد عددهم في العالم ضعفت الممالك الطاحنة وتقلصت رويدا رويدا أظلالها المهلكة.
وهذا ما يثبتني في اعتقادي أن المستقبل إنما هو للحكومات الصغيرة، الكبيرة في عدلها ونزاهة ولاتها، للمالك الحقيرة القويمة المنهاج، لا لتلك العظيمة الأثيمة. ولا يدهشنك قوي أن الحكومات المحلية المستقلة كل الاستقلال، بل الحكومات المدنية المركزية هي التي لا بد للأجيال الجديدة المستقبلة منها، وإني لمؤكد أن مدنية المستقبل إنما هي تلك التي تكون حكوماتها منها وفيها ولها على الإطلاق، وتكون صغيرة محدودة لا أطماع سياسية لها ولا دولية، حكومة محدودة إلا في صلاحها، حكومة صغيرة إلا في عدلها، حكومة أدبية روحية لا أثرة فيها لغير الحق، ولا سيادة فيها لغير الأمانة والسلام، حكومة أساسها هذه الكلمات: إنما الحكومة للرعية لا الرعية للحكومة.
وهذه في مدنية المستقبل حكومة المستقبل، وهي كائنة اليوم جنينا في الشعوب الصغيرة وفي الجماعات، هي كائنة وكل كائن آت، هي آتية وكل آت قريب، فادع إليها الناس وبشر بها الناس.
الصوم
للصوم أسباب صحية واقتصادية ودينية، منها طبيعة الإقليم، والقحط في الأحايين، والأدواء التي تتفشى دائما في الربيع. والغاية من جعله طريقة دينية هي - ولا شك - تعميم فوائده، فالناس في الماضي لم يكونوا ليعرفوا من المفيد والمضر إلا ما أوجبه الدين أو أجازه أو أبطله، لذلك أدخل الحكماء والمتشرعون الصوم في الأصول الدينية، والوثنيون أول من فعلوا ذلك ، ومن المعلوم أن قواعد الدين وأصوله مبنية كلها على مبدأ الثواب والعقاب، على جنة وجحيم في غير هذا العالم، ومعلوم أن كل عمل يعمله المرء إنما جزاؤه منه وفيه، فإذا عمله لغير ما فيه من الفائدة الناشئة عنه يمسي تقليدا مضرا فاسدا.
أذكر أني قرأت عن إحدى قبائل الهند أنها كانت تصوم صوما طويلا مضنكا فكان العدو - عدوها - يغتنم هذه الفرصة فيغزوها بعد صومها ويتغلب عليها. إن مثل هذا الجهل، ومثل هذه المبالغة في إماتة النفس وإنكار الذات، ليفسد في الصوم غايته الأصلية الأولى.
وفي قواعد الأزدرشتيين على المجوسي أن يصوم بل يطوي بضعة أيام في الربيع، وكل على طاقته، وهم لا يزالون مثابرين على الصوم ومنهم من يسعى لنشر هذا المذهب في أميركا اليوم، ويدعى دينهم المجوسي الجديد «مازده» وهو دين فلسفي إلهي. وقد اجتمعت هنالك ببعض المزديين وطويت على طريقتهم بضعة أيام في الربيع فرأيت في العادة فائدة كبرى فاتبعتها، ومن الأميركيين أنفسهم من يطوون عشرين وثلاثين يوما، وقد قال ابن خلدون إنه يعرف، أو إنه سمع ممن يعرفون، أناسا يطوون أربعين يوما وما يزيد.
أما التنحس - أي: الانقطاع عن اللحم - في الصوم فأصل الطريقة من الهند، ونذكر أن أبا العلاء المعري اتهم بدين البراهمة لتنحسه أربعين عاما، وفي أوروبا وأميركا اليوم طائفة كبيرة من المتنحسين، وفي لندن وباريس وبرلين مطاعم مآكلها كلها من البقولات والخضر والحبوب مطبوخة وغير مطبوخة.
الصوم إذا والتنحس مبادئ صحية فلسفية أدخلها الحكماء في قواعد الدين ليستفيد بها الناس أجمعون، ولا ننكر أن للصوم فوائد معنوية روحية فوق فوائده الصحية، فهو يعلم المرء استخدام إرادته وضبط نفسه، ويعوده إنكار الذات واحتقار اللذات، ويعده أيضا في بعض المذاهب بغفرانات لا علاقة لها بمعناه الروحي ولا بفوائد الصوم الصحية.
فالصوم والتنحس مدة محدودة يطهران المعدة والدم ويهيئان الجسم إلى فيضان الحياة في الربيع أو ما يسميه العامة «جري الماء» الذي يعم كل حياة آلية من نباتية وحيوانية، في فصل الشتاء تتقلص نوعا العروق والشرايين ويبرد الدم ويخمد فيبطأ في دورانه ثم يجيء الريع فتلين العروق وتتمدد فيصعد الصبيب في الأشجار وتتجدد السرعة والنشاط في الدورة الدموية في الحيوان والإنسان، فإذا كانت المعدة خامدة - ولا بد من خمودها إذا أشغلت كثيرا أيام تبطأ الدورة الدموية - وإذا كان الدم بطيئا في سيره لا يحمل كل ما تهيئه المعدة من الغذاء فيكثر عند دخول الربيع الأخلاط في الجسم والنفاط؛ لذلك كان الأقدمون الذين لم يهتدوا إلى طريقة الصوم يلجئون إلى الحجامة والفصادة كل ربيع، وفي البلاد المتمدنة حيث أبطل الصوم يكثرون من المساهل والمرطبات. ومن الغريب أن اللبنانيين اليوم - وهم يصومون صياما طويلا - لم يزالوا يفتصدون في الربيع، ولست أدري لم الفصادة إذا واظب المرء على الصوم وأحسن طريقته أي: جعل الغاية منه علمية صحية، فيقلل الأكل وينقطع عن اللحم ويكثر الرياضة، وإني لأعجب ممن يصومون إماتة وورعا ويجعلون إفطارهم مقدار غدائين وثلاثة، فيأكلون الظهر أو بعد نصف الليل كالرومانيين في مآدبهم، فأين الفوائد الروحية والصحية من مثل هذا الصوم؟
ولعمري إن الذنب في هذا الصوم المضر ذنب أرباب الدين ولهم ما لهم من السلطان على أرواح المؤمنين وأبدانهم، فكان ينبغي عليهم أن يعلموا الناس كيفية الصوم ويشيروا إلى فوائده كلها المادية والروحية، ولكن أرباب الدين اليوم يمالئون الناس في أميالهم ويتذرعون بأسباب تافهة ليعفوا المؤمنين إذ لا يستطيعون إكراههم.
أخذت الكنيسة الكاثوليكية هذه الطريقة طريقة الصوم عن الديانة الوثنية وأخذت عنها طرقا أخرى مفيدة قبل أن تغلبت عليها، أما مغزى الصوم الديني وأهميته فالفضل فيهما لسياحة المسيح أربعين يوما في البرية. ولم يكن له - أي: للصوم - في أيامه الأولى شبه وجه من الإماتة التي تبطل اليوم معناه، ولم تكن محدودة أيامه، بل كان كل إنسان يصوم طاقته يوما أو يومين أو أربعين يوما وفي الجيل الخامس لم يتجاوز مدة الصوم عند المسيحيين الستة والثلاثين يوما ثم صارت إلى الخمسين وثبتت عليها عند اللاتين، أما الكنيسة الأرثوذكسية فلم ترض بصوم واحد واثنين بل جعلت أصيامها ثلاثة مدة اثنين منها كل أربعون يوما.
ومن أهمل الصوم في الماضي كان يحرم نعما روحية عديدة ويعاقب فوق ذلك عقابا شديدا، وفي عهد «شرلمان» كان يحكم بالموت على من لا يصوم الصوم كله، ومن أهمله مرة أو مرتين تقلع أسنانه.
أما اليوم فلا خوف على أسنان من لا يصوم ولكن الخوف كله على معدته وآدابه.
وجدير بالذكر أن الكنيسة الإنكليكانية لم تزل تواظب على الصوم مواظبة شديدة، ولذلك أسباب لا صحية على ما أظن ولا روحية، معلوم أن إنكلترا بلاد بحرية والسمك فيها كثير ... وكم من طريقة وثنية أفادت تجارة مسيحية!
وعندي أن الأحكام القديمة في الصوم خير من هذا التساهل الذي أضاع مزيته الدينية وفوائده الصحية معا، وهذا مما يدعو إلى الأسف، فحبذا المؤمنون لو صاموا صوما علميا صحيا، فقللوا من الأكل، وأكثروا من الرياضة، وانقطعوا عن اللحم، ليريحوا المعدة ويطهروا الدم قبل فيضان الحياة في الربيع.
هباسيا
مهد العلم الحديث
ألقي الرواية جانبا، سيدتي، فأقص عليك قصة حقيقية، محورها المرأة والعلم وقطرها الظلم والتعصب، تعالي معي أحدثك ماشيا فتفهمين كلامي ماشية، أنا الآن في حي الأعيان من المدينة وها قصر الملك أمامنا، وبالقرب منه المتحف الشهير الذي بناه أحد الملوك الفاتحين، وفي هذا المتحف دار العلوم التي يؤمها الطلبة من كل حدب وصوب، من الشرق يأتون ومن الغرب، ومن الجنوب ومن الشمال ليتلقوا العلم والفلسفة من امرأة عالمة حكيمة.
أقف بك، سيدتي، أمام هذه الكلية العظيمة، كلية لا شرقية هي ولا غربية، أقف بك أمام هذا المعهد القديم - وهو مهد العلوم الحديثة - الذي شيده الأمراء وخلد ذكره المؤرخون والشعراء. ما أبهى هذه الرواقات وقد غصت بالطلبة من كل أجناس الناس والطبقات، وما أعظم هذه المكتبة وفيها ما يربو على الأربعمائة ألف مجلد، ولكنها وا أسفاه ستوزع على الحمامات بعد حين، ولا يعصى العلم على ابن العاص! ولا الأربعمائة ألف مجلد تقوى على كتاب واحد، إن لله في خلقه وفي كتبه شئونا.
نعم، سيدتي، نحن في سراديب التاريخ فلا يهولنك ما ورائنا وما أمامنا من الظلمات، على أني أقف بك موقف النور لنذرف دمعة على العلم وعلى إحدى نسائه العاملات.
ليست المكتبة أعظم ما في المتحف العظيم بل هناك دوائر أخرى سترينها، هذا المرصد الفلكي الذي يبعد الإنسان من الخرافات ويقربه من الله، وهذا المعمل الكيماوي حيث الملك نفسه كان يشتغل بضع ساعات في النهار باحثا عن إكسير الحياة، وهذه دار التشريح ولا أظنك تحبين أن تدخليها، وقد تتعوذين إذا أخبرتك أن الأطباء فيها يشرحون الأحياء أيضا ممن حكم عليهم بالإعدام ابتغاء التوصل إلى الحقائق الطبية الراهنة، لا تتكرهي سيدتي، فقتل المجرمين خير من قتل الأبرياء.
تعالي فأريك جنينة الحيوانات وبستان النباتات حيث الطلبة يتعلمون من الأمثال الحية علمي النبات والحيوان، ولا تظني أن التعليم في هذا المعهد العظيم ينحصر في العلوم الطبيعية فقط، بل يتناول أيضا العلوم العقلية والروحية، فإن هذا المعهد لكمثل معاهد العلم كلها، إنما هو مهد الحقائق والأضاليل معا، ورب حقيقة تشعل الأوهام نورها، ورب أوهام كبعض الأطيار تبيض بيوضها في عش الحقائق، فقد نبغ في هذا المعهد العلمي المتشرعون واللاهوتيون والأطباء والفلاسفة والعلماء.
لا، يا سيدتي، ليست كلية «أكسفرد» هذه ولا معهد «الصربن» لسنا الآن في لندرا أو باريس، إنما نحن في المدينة التي ولد فيها العلم الطبيعي واللاهوت المسيحي تحت سقف واحد فتخاصما وتنازعا طويلا وكان من شأنهما في قديم الزمان ما كان، إنما نحن في قاعدة البلاد المصرية، في باريس الزمان القديم، في الإسكندرية على عهد الرومان، والمتحف الذي وصفت فروعه العلمية هو الذي شيده «بطليموس سوتر» وابنه «فيلادلفوس» وكان المليكان يدرسان ويعملان فيه مثل سائر الطلبة والعلماء.
المؤرخون متفقون في أن كلية الإسكندرية هذه كانت - في زمانها - أعظم معهد للعلم في العالم. كيف لا ومن مرصدها رصدت النجوم والكواكب التي استنار بها فيما بعد من علماء أوروبا الفلكيون، كيف لا وفيها وضعت فلسفة «أرسطاطاليس» الاستقرائية موضع العمل، وكان من ثمارها أن معهد «بطليموس» هذا أضحى مهد العلوم الحديثة.
ومن من علماء اليوم ينكر فضل «أرخيميدس» في الرياضيات؟ ومن لا يذكر «بطليموس» و«آبولونيوس» و«هباركوس» في علم الفلك؟ ومن لا يعرف «إقليدس» ومبادئه في الهندسة التي يتعلمها الطلبة في المدارس حتى اليوم؟ وقد لا تعلمين، سيدتي، أن «أراتوسينوس» وهو من علماء هذا المعهد أيضا، قاس الأرض قبل علماء الخليفة المأمون، واكتشف شكلها الكروي قبل «كبرنكوس» و«غاليلو»، وأن «هيرو» اخترع آلة بخارية قبل «جان وطس» الإنكليزي، وأن «تيزيبوس» أول من اخترع ساعة مائية، وأن «يوليوس القيصر» بعث يطلب من هذا المعهد الإسكندري «سوسيجينوس» الفلكي ليصلح له الروزنامة الرومانية على الحساب الشمسي، فالمعهد الذي ينبغ فيه مثل هؤلاء العلماء العاملين، لا شك، عظيم، وأعظم منه من كانوا يلقون فيه الدروس العالية.
الفيلسوفة العذراء
ومن هؤلاء، سيدتي، الفيلسوف «ثيون» الذي درس الرياضيات في القرن الرابع «ب.م» وراقب كسوفا سنة 365 وألف في الفلك والطبيعيات تآليف درست كلها، ولكن أعظم تآليف «ثيون» وأعماله إنما هو ابنته البارعة هباسيا، ولدت هذه الفتاة في الإسكندرية، وقرأت العلوم على أبيها، وكان لها ميل خاص في الرياضيات والميكانيكيات، وقبل أن وقفت حياتها على العلم والتعليم سافرت إلى أثينا وتلقت هناك الشريعة والفلسفة، ورافعت في المحاكم، ونشأت نشأة عجيبة دلت على مقدرة عقلية فيها تضاهي مقدرة أعظم الرجال. ولما توفي أبوها كانت قد تمكنت من العلوم وبرهنت في مواقف عديدة على تضلعها ورسوخها في الرياضيات والفلسفة، فرقيت في العشرين من عمرها وهي عذراء إلى منصبه، وظلت تعلم في المتحف الإسكندري أربعين سنة، فهاج أخيرا عليها هائج الجهل والتعصب فقتلها شر قتلة - كما ستعلمين.
هباسيا زينة نساء الإسكندرية في تلك الأيام، ورئيسة الفلسفة الأفلاطونية، وصديقة الأمراء المحبين للعلم والعلماء، ومرشدة الحكام، وعدوة التعصب والخرافة، كلنا نسمع بالملكة «كليوباترا» الداهية الفاسقة، ولكن من منا يسمع بهباسيا العالمة العفيفة العذراء؟ في المتحف الذي وصفته كانت تلقي دروسها على الألوف من الطلبة وفيهم الأعيان والأغنياء واللاهوتيون، في ذاك المتحف كانت تعلم بأفصح لسان وأجلى بيان فلسفة «أفلاطون» الجديدة التي تدعى في تاريخ الفلسفة «نيوبلاطونيزم»، في ذاك المتحف الذي شيده «بطليموس» رفيق الإسكندر أنارت هباسيا أنوارا أطفأها الجهل والتعصب فظلت بعدئذ أوروبا تعمه في الظلمات أحد عشر قرنا.
وقد كانت هذه الوثنية الفاضلة رائعة الجمال، فصيحة اللسان، شديدة العارضة، سديدة الرأي، سريعة الخاطر، شريفة الشمايل، والخصال. وإن آباء الكنيسة أنفسهم ليعترفون لها بذلك، على أنها كانت تتعب فكرها عبثا في مسائل قد تشغل الفلاسفة بعد ألفي سنة من اليوم كما أشغلتهم منذ ألفين مضت، من أين الحياة وإلى أين؟ فإن هباسيا، سيدتي - أمد الله بحياتك وأنارها - كانت تحاول حل هذا اللغز القديم العظيم: ما هو العقل؟ وما هو العلم؟ وما هو الله؟
في مثل هذه المواضيع الخطيرة كانت الفيلسوفة العذراء تلقي دروسها وخطبها، والحقيقة أن فلسفة الإسكندرية في أيام هباسيا وقبلها إنما هي مزيج من فلسفات اليونان كلها كفلسفة المشائين والرواقيين والكلبيين وغيرهم.
ومن تلاميذ هباسا الذين حازوا شهرة في زمانهم «سينيسيوس» أسقف عكا، وقد بعث هذا الأب الفاضل برسائل عديدة إلى ابنة «ثيون» البارعة، فيها ثناء جميل عليها واعتراف بفضلها وجميلها عليه. ولم تزل هذه الرسائل محفوظة، وفي إحداها يستشير المراسل أستاذته في عمل الأسطرلاب دليل أنها كانت تميل إلى علمي الفلك والميكانيكيات أكثر من سواهما، وقد ألفت كتابا وشرحت كتب «آبولونيوس» في هذه المواضيع، ولكن ابن العاص الذي جاء الإسكندرية بعدئذ لم ير فيها وفي الألوف مثلها كبير فائدة فوزعها على الحمامات لتسخن على نارها المياه. برد الله مثواه!
قد شهد المؤرخون لهباسيا الوثنية بالعفة والنزاهة كما شهدوا لها بالفضل والعلم والحكمة، وهم متفقون في أنها عاشت وماتت عذراء، وأما ما قاله «سويدس» في أنها اقترنت بالفيلسوف «أزيدوروس» فلا صحة له، وقد قيل: إنه محض اختلاق وافتراء، والنمامون منذ البدء كثيرون، فالأسقف «سينيسيوس» أول من اعترف بفضلها وعلمها، وعندما تعرف بها وأخذ يحضر محاضراتها كانت أضحت في الأربعين من عمرها، وكانت قد قضت في المتحف عشرين سنة تخطب وتعلم، وظلت الصداقة بين الفيلسوفة الوثنية والأسقف المسيحي نقية الأسباب وثيقة العرى، فلا هباسيا اعتنقت الدين المسيحي ولا «سينيسيوس» خلع ثوبه الكهنوتي (على أني قرأت في أثر لأحد آباء الكنيسة أن أسقف عكا لم يتقبل قواعد الدين المسيحي ولم يعترف بعقائده كلها، فهل في ذلك دليل على أرجحية الفلسفة في كفة ميزانه؟ الله أعلم.)
أما في سلوكها ولبسها ومعيشتها فقد كانت آية البساطة والجمال، وإني لأتخيلها واقفة أمام تلاميذها بثيابها البيضاء المهلهلة وقد عقصت بشريطة من الحرير شعرها، وسدلت على كتفها ذيل ردائها، وفي رجلها العارية نعل يونانية بسيطة، فلا قبعة تثقل رأسها، ولا مشد يضعف رئتها وقلبها، ولا كعبا عاليا يضر بعمودها الشوكي، وبمجموع أعصابها. آية في البساطة والبراعة والجمال! وحبذا لو عادت نساء اليوم، سيدتي، إلى الزي اليوناني القديم البسيط، خمسة أذرع من القماش الكتان الرقيق خير من عشرين ذراعا من الحرير الثقيل المخيط على آخر «موده» فلا تثقلي وتشددي جسمك، سيدتي، كما لو كان جسم عدوتك، ناهيك بأمر الاقتصاد والتوفير، على أننا لسنا الآن في موضوع الأزياء والاقتصاد.
لنعد إلى هباسيا، وقد وصلنا إلى ما يثير الأحزان من أمرها فإن هذه العالمة الحكيمة التي كان يكرمها الإسكندريون الراقون ويستفتيها العلماء العاملون، ويستشيرها في أمور السياسة الحكام؛ لم تنج من كره المتعصبين من المسيحيين، فبعد أن خدمت العلم والفلسفة أربعين سنة خدمات جليلة ماتت موت الشهداء على أفظع طريقة وأنكرها - كما ستعلمين.
البطريرك كيرللوس
لم تكن الإسكندرية في ذاك الزمن مهد العلوم المادية فقط، بل كانت عش الكلام أيضا والسفسطة، وبينا كان «نستوروس» و«كيرللوس» يتنازعان في عقيدة عبادة العذراء و«اثناسيوس» و«آريوس» يتناقشان في عقيدة المشيئة الواحدة والمشيئتين، كان علماء الإسكندرية يشتغلون هادئين باكتشافاتهم واختراعاتهم، ومن آباء الكنيسة الذين اشتهروا بالفصاحة والعلم، وبالتعصب والدهاء، وبالمعاندة والمكابرة، الكاهن «كيرللوس» الذي كان بطريرك الإسكندرية على زمن هباسيا، فبينا هي كانت تلقي دروسها في العلوم الفلسفية على الألوف من الطلبة كان «كيرللوس» يثير من على منبره خواطر النصارى على اليهود، ولما ارتقى إلى المنصة البطريركية في الإسكندرية كانت هباسيا في أوج شهرتها وقد تجاوزت الخمسين من عمرها، ومنذ ذاك الحين إلى أن قتلت لم يطب للبطريرك عيش ولم يسغ له شراب.
وإن أمره في التعصب والحقد والاستبداد مشهور لدى المؤرخين، فحينما ذهب إلى أفسس ليناقش «نستوروس» في عقيدة العذراء استصحب زمرة من رعاع الإسكندرية حتى إذا ضاقت به أبواب الجدال هاجهم على عدوه، وعندما تبوأ كرسي السيادة طرد اليهود من الإسكندرية وبعث بعسكر على معابدهم وبيوتهم فنهبوها ودمروها وارتكبوا من الفظائع فيها ما تقشعر لهوله الأبدان.
ولا يخفى عليك يا سيدتي أن البطريرك في تلك الأيام كانت له قوة الحاكم المدني، فإن فرقة من الجنود كانت دائما موقوفة لخدمته لتنفيذ أوامره، على أن محافظ البلد «أورستيس» لم يستطع صبرا وسكوتا على هذه الفظائع التي ارتكبها «كيرللوس» باسم الدين، فناهضه برهة وكانت هباسيا في هذا الخصام نصيرة المحافظ بل نصيرة الحق، واستمر هذا النزاع إلى أن حدث الحادث الهائل الذي أودى بحياة ابنة «ثيون» العالمة الجميلة.
ولا تظني يا سيدتي أن هذا هو السبب الوحيد الذي أثار خاطر «كيرللوس» على هباسيا، فإن رأس الخلاف بينهما لأبعد من هذا، أجل إنما هو نزاع بين العلم والخرافة، بين التعصب والفلسفة، بين الحرية والاستبداد، بل هو نزاع بين عذراء وثنية أقامت على فضائل الدين المسيحي دون أن تعتنقه وبين بطريرك استخدم الدين واسطة لإشفاء غليله ونيل مآربه، وفاز بذلك فوزا مبينا، حتى إن المحافظ «أورستيس» أشفق على منصبه وحياته من تعصب البطريرك وتغيظه، ولكن ذنب المحافظ ذنب سياسي فقط، وذنب هباسيا سياسي علمي ديني، لذلك اختارها «كيرللوس» هدفا لحقده وغضبه، وسأنقل إليك حادثة قتلها كما رواها واتفق في روايتها المؤرخون.
عندما كانت هباسيا عائدة في عربتها من المتحف الملكي قاصدة بيتها تصدى لها جمهور من رعاع المسيحيين وفيهم الرهبان وفي مقدمتهم بطرس الشماس الذي كانت له في الجريمة المنكرة اليد الطولى، فأسقطوها من العربة، وجروها إلى السيزاريوم - وقد كانت في ذاك الزمان كنيسة للنصارى - ونزعوا عنها كل ثيابها ومزقوا جسدها تمزيقا بصدف المحار - وقيل: بشقف من القرميد والفخار - ثم قطعوها إربا إربا وذهبوا بها إلى خارج المدينة وأحرقوها هناك، وكان ذلك في آذار سنة 415 في عهد الملك «تيودوسيوس» الثاني.
فقدس «كيرللوس» في صباح اليوم التالي على عادته، وأكل جسد الرب، ولكنه لم يستطع أن يقول ما قاله «بيلاطوس» قبله بأربعة قرون «أنا بريء من دم هذا الصديق» لا؛ فإن البطريرك مسئول عن قتل هباسيا على هذه الطريقة الفظيعة الشنعاء، وقد يتطرف المؤرخون ويعتدلون بحسب نزعاتهم السياسية وصبغاتهم الدينية، ولكن ما من واحد منهم يرتاب في أن البطريرك «كيرللوس» هو العامل الخفي على قتل هباسيا، وقد قال «ثيودورس» وهو من آباء الكنيسة المشهورين، إن لكيرللوس يدا خفية في هذه الجريمة، وقال أحد المؤرخين المعتدلين: إن لم تقتل هباسيا بأمر صريح واضح من البطريرك فقد قتلت بعلمه وإرادته.
وقد أدهشني عنوان طويل لكتاب طبع في إنكلترا سنة 1730 في هذا الموضوع، قال المؤلف إن هذا «تاريخ امرأة عظيمة في علمها وفضلها وفصاحتها وأخلاقها وجمالها، قتلها إكليروس الإسكندرية ومزقوها إربا إربا إكراما لخاطر بطريركهم الذي يدعى بلا استحقاق القديس كيرللوس.»
وفي قتلها أقفل باب المتحف العظيم الذي شيده رفيق الإسكندر. في قتلها كانت نهاية العلم والفلسفة في المغرب، في قتلها تم للتعصب النصر على الحرية والتهذيب، فأقفل باب النور الذي فتحه «بطليموس» في الإسكندرية كما أقفله «يوستنيانوس» في أثينا، فكان «سميليسيوس» آخر الفلاسفة في بلاد اليونان وكانت هباسيا خاتمة الفلاسفة في بلاد مصر، ومنذ هاتين الحادثتين المنكرتين تبتدئ ما يدعى في التاريخ «العصور المظلمة» وتستمر في أوروبا أحد عشر قرنا.
هذي هي سيرة هباسيا، «العظيمة في علمها وفضلها وجمالها» بل هذه قصة النزاع بين الدين والفلسفة في ذلك الزمان، ومهما قيل في البطريرك كيرللوس فمن المقرر يا سيدتي أن الرجل الذي يعمل ما عمله في اليهود، الرجل الذي يهيج رعاعه على «نستورس» في مجمع أفسس، الرجل الذي يستخدم القوة العسكرية لإثبات عقيدة لاهوتية وتعزيزها؛ لا يتردد في أمر امرأة عملت على هدم صروح الخرافة والأوهام، فقولي - إذا: رحم الله أمثال «كيرللوس» من البطاركة وجعل أمثال هباسيا من المقربين المكرمين.
القديس أغسطينوس والغزالي
1
الرأي محترم أيا كان مبديه، محترم إلى أن يظهر الخطأ فيه، وعلى المفكرين أن يخلصوا العمل في النقد والتمحيص فيحملون على ما فسد من الآراء والعقائد، ولا يتعرضون لأصحابها. فإذا قال أحد الفلاسفة مثلا: «إن الله لا يوحي إلى أحد من الناس وحيا خصوصيا ماديا كما في الكتب المقدسة» فليس من العدل والإنصاف ولا من التعقل والحكمة أن نحمل عليه سبا وشتما وتعييرا، فنقول: إنه كافر، قليل الأدب، جاحد نعمة ربه، وقد يكون هذا العالم الملحد أشرف عملا، وأسلم نفسا، وأكرم خلقا، من أدعياء الدين الذين يسفهون ذاك العالم ويثيرون عليه أحقاد الجهلة وغضب المتعصبين. أوما قالوا حتى في نبي الإسلام إنه سفه الأحلام وضلل الناس.
إن نظر الغزالي في الوحي الإلهي كنظر القديس أغسطينوس بعينه، وقد أوتي كل منهما بلاغة جلت الحق تارة وطورا بهرجت الضلال، فهما على السواء يحصران الوحي في حادث خطير، منقطع النظير، يخرق نواميس الكون المألوفة، فيتجلى فيه الله لواحد من الناس يدعى رسولا أو نبيا، ولكنهما يختلفان في إثبات الحادث وفي من خص بالتجلي وبالوحي. والقديس أوغسطينوس من هذا القبيل أشد نزعة إلى التخصيص من الغزالي، وهو إلى قبول العقائد الدينية أسرع منه إلى نفيها أو تمحيصها، ولو أتيح للاثنين أن يجتمعا في هذا العالم لتناقشا وتنازعا وظل كل في وحدته الروحية بعيدا من الآخر، وإني لأتصورهما في الجنة أو الفردوس أو في ما يلي هذه الحياة من نعيم أبدي، على وفاق تام، وصفاء لا تعد فيه الأيام، يردد كل منهما من حين إلى حين، مذكرا لا آسفا، ما طالما ردده في الحياة الدنيا.
فيقول القديس أوغسطينوس: أشعلت نفسي لأنير هيكل الدين وطريق الإنسان، ولكن علم الكلام لا يصلح النفس ولا يعزز الدين.
ويقول الغزالي:
غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد
لغزلي نساجا فكسرت مغزلي
اللهم إذا كانا يذكران العالم الذي اختلفا فيه مذهبا واتفقا مسلكا، وقبل أن أتوسع في التنظير بينهما أقول كلمة في النظرية الكبرى التي هي أساس الأديان كلها - النظرية التي يتفق القديس أغسطينوس والغزالي في القسم الأول منها ويختلفان في القسم الأخير، أي: أنهما يؤمنان بالوحي الإلهي ولا يؤمنان بكل من ادعاه من نوابغ الأمم.
2
إن الله جوهر أزلي سرمدي ينبعث منه جوهر الحياة التي تظهر في الأرض أنواعا وأشكالا فتتدرج إلى الإنسان وإلى ما فيه من عقل وضمير وإدراك تميزه عن الحيوان، وإذا أوحي إلينا أمر ما ولم يقبل الوحي كل الناس، فمن هو المسئول يا ترى؟ أفلا يجوز التنظير بين الجوهر الأزلي الإلهي ومظاهره في الحياة الموزعة المقسمة في الناس؟ أولا ينبغي أن يكون لما نشأ عن الجوهر الأصلي جاذب قوي فيه؟ وبعبارة أجلى، إذا تكلم الله - عز وجل - بلغة من لغات الأمم أفلا يكون كلامه مقبولا معتبرا بل مقدسا عند كل من تكلم في الأقل بتلك اللغة؟ واختيارا ذلك لا كرها وإن لم يكن كذلك فما الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق؟
إذا أنا أبديت رأيا فمن المستحيل أن يستحسنه الناس أجمعون؛ وذلك لأنني لست إلا بشرا، وأن ما في من الجوهر الأزلي الإلهي لقليل جدا بالنسبة إلى ما هو متوزع في العالم، ولكن مصدر هذا الجوهر يفوق كل ما نشأ عنه وتوزع منه؛ لذلك نقول ونتيقن أن الله عالم بكل شيء، وقادر على كل شيء، وناظر كل شيء. عنده علم الغيب وبيده زمام الحياة والأكوان فإذا أوحى إلينا من لدنه سنة ما فمن الضرورة أن تنطبق على حقيقة الأشياء الدائمة الأزلية فلا تقبل تلك السنة التغيير والتبديل وأن ما ينافي سنن الكون لا يمكن أن يكون منزلا من عند الله.
على أن وحيه - سبحانه تعالى - إلى من خص من الناس بجزء كبير من ألوهيته يكون دائما متقطعا، وغالبا غامضا؛ لذلك تناقضت الآيات في الكتب المقدسة وتضاربت فيها الآراء ، وأنا من الذين يجلون النوابغ ويقدسون الأنبياء، ولكني لا أستطيع أن أقبل رسالتهم كلها بحذافيرها.
العصمة لله وحده، وما هو منزل من لدنه تعالى ينبغي أن يكون منزها عن الأغلاط، والمنزه عن الأغلاط في الكتب أو في الناس إنما هو كامل تام، والكامل التام لا يقبل التحسين، ولا يحتاج للتأويل ولا ينفعه الشرح العصري والتفسير. والحال أن الكتب المقدسة كلها تؤول اليوم آياتها وتفسر، لا لشرح غويصها وكشف غامضها، بل لتوافق الانقلابات الحديثة ولتنطبق على مقتضى الحال والمكان والزمان، وفي كل هذه الكتب آيات يناقض ظاهرها وباطنها الحقائق العلمية، إذن ليست هي منزهة عن الأغلاط، وبالتالي ليست هي منزلة موحية.
وقد يكون مصدر هذه الآيات مصدرا مجهولا ترتبط أسبابه الغامضة الخفية بنفس الإنسان المتوقدة ذكاء، السامية خلقا، البعيدة حجة، والإنسان - نابغة كان أو نبيا - هو عرضة للخطأ والنسيان يجيء في الأحايين بالمناقضات ولا يدركها.
3
أقف عند هذا الحد لأعود إلى ذينك العالمين الكبيرين المنقطعي النظير في الروحانيات وفي البلاغة، وإني لأفضل حياة قدساها بالعمل الصالح الجليل على كثير من غزير ما سوداه من الأوراق في الإلهيات والكونيات.
فإن للغزالي وللقديس أغسطينوس محرابا خصوصيا في مسجد نفسي الحافل بالأنوار، وإن نورهما ليكسف أحيانا تلك التي أوقدها الذكاء ولم تلمسها الروح، أجل إني لأفضلهما في الأحايين على كثير من النوابغ والعلماء، ولا أظنني مخطئا إذا قلت إن العربي واللاتيني على شرعة واحدة من الحق والحقيقة، كلاهما يسلك مسلك التوحيد كلاهما من كبار المتصوفين، وقد قال أحد السالكين: إن التصوف من الصوف، ثلاثة أحرف هي أصول ثلاثة:
ص:
الصدق والصبر والصفاء.
و:
الود والورد والوفاء.
ف:
الفرد والفقر والفناء.
وإلا فكلب الكوفي خير من ألف صوفي.
والغزالي سيد السالكين في الإسلام شبيه فعلا وقولا بالقديس أغسطينوس سيد السالكين في المسيحية، وللاثنين نظرات في الدين وفي الكتب المقدسة وإن غربت شكلا بعضها عن بعض قربت روحا وتشابهت خطا.
وعندي أن كتب الدين مصابيح تنار بها مسالك الحياة لا مقاييس تقاس بها العلوم البشرية، وسيدي الغزالي كأستاذي القديس أغسطينوس يضعف أسباب الدين وينفي القداسة منه حين يرفعه على العلم. الغزالي يرى في القرآن القسطاس القويم لكل العلوم البشرية، والقديس أغسطينوس يرى ذلك في التوراة والكتابان لا تقبل حجتهما اليوم في سنن الكون كلها وفي أمور الحياة كافة، ففي القرآن مثلا: تجري الشمس لمستقر، وفي التوراة: تقف الشمس إكراما ليشوع بن نون، وتلاميذ المدارس اليوم يعرفون أن الشمس لا تجري ولا تقف وإنما تدور على محورها، والأرض تجري في الفلك حولها.
4
أذكر أني أشرت يوما إلى هذه الآية في حضرة عالم من علماء المسلمين فكتب إلي بعدئذ شارحا مفسرا ليبرهن أن النبي كان عالما بحقيقة الشمس والسيارات حولها، ولكن في عهد النبي لم يكن أحد يشك في أن الشمس تدور حول الأرض، بل كان هذا الوهم شائعا في الشرق وفي الغرب حتى بين العلماء، والنبي محمد تتبع ما كان شائعا فقال: والشمس تجري لمستقر لها، ولكن المدهش شرح سيدي الشيخ، قال: إن اللام في قوله لمستقر، إما بمعنى «على» مثلها في قوله:
ويخرون للأذقان
وقوله: «فخر سريعا لليدين وللفم» أو بمعنى «في» مثلها في قوله:
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة
أو بمعنى «مع» مثلها في قوله: «وكأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا» وعلى كل هذه التقادير يكون المعنى تجري في مستقرها، أي: تجري وهي مستقرة في مكانها من دون انتقال عن فراغها الحايز لها، ولعله أشار إلى حركتها المركزية على نفسها.
أدهشني هذا التفسير من سيدي الشيخ ولكنه لم يقنعني؛ فإذا سلمنا بدقائق لغوياته كيف يمكننا أن نسلم بأن الشمس تجري وهي مستقرة في مكانها؟ ولكننا إذا رفضنا قول النبي في طبيعة الشمس وناموسها - ولا لوم عليه في ذلك؛ لأن الخطأ هذا كان عاما في ذلك الزمان - فلا نرفض ما سمي من نظرياته الروحية والأدبية، ومن شرائعه الاجتماعية التي تنافي ناموس التطور والارتقاء.
مثال آخر من هذه التفاسير التي لا أبرئ الغزالي منها.
فقد كتب إلي صديقي الشيخ يقول أيضا: إن القرآن الكريم يشير إلى بدء خلق الإنسان وعلم الحياة بقوله تعالى:
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين
وقد فاته أن هذا الوصف ينطبق على خلق الحيوان أكثر منه على خلق الإنسان؛ لأن أهم ما امتاز به الإنسان إنما هو العقل والروح والضمير، وقد أغفلت كلها في الآية، وأن ما فيها من وصف لخلق الإنسان لا ينطبق لا على سنن العلم ولا على سنن الدين، «خلقناه من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين» تعالى الله عن مثل هذه السمادير والرطانات، ثم قال شيخي الفاضل: ويشير إلى علم طبقات الأرض في قوله:
سبع سماوات ومن الأرض مثلهن
فإذا حصرنا كل سماء من سماوات الكتاب في سيارة من السيارات وفلكها؛ بان لنا أن عين النبي لم تر غير القليل من سماوات الله، فإن علم الفلك يبرهن ويحقق أنها لا تعد ولا تحد، وأن أكبرها أصغرها في نظرنا وأبعدها منا.
وغني عن البيان أن للكتب المقدسة كلها تقاسيم وشروحات زادت غموضها غموضا وألقت بين الناس الفتن، «أودعتهم أفانين العداوات.»
5
والغزالي والقديس أغسطينوس من كبار الأساتذة في علم الكلام الذي هو مصدر كل هذه التفاسير والشروحات، على أن روحانياتهما الصافية المجيدة لتشفع بما جاءا به من سمادير التفسير. ومن الغريب أنهما يتشابهان في كثير من طباعهما وأطوار حياتهما، فالغزالي مثل القديس أغسطينوس كان في أيام حداثته في ضلال مبين على ما يقول، فقد جاء في كتابه «درر القرآن» هذا الكلام الجميل في فئة من الناس. «لم يدركوا أشياء من عالم الأرواح بالذوق إدراك الخواص ولا هم آمنوا بالغيب إيمان العوام، فأهلكتهم كياستهم، والجهل أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء وكياسة ناقصة، ولسنا نستبعد ذلك، فقد تعثرنا بأذيال هذه الضلالات مدة؛ لشؤم أقران السوء وصحبتهم حتى أبعدنا الله عن هفواتنا ووقانا من ورطاتها.»
أما القديس أغسطينوس فعد إلى كتابه الذي يدعى «الاعترافات» تجد في كل صفحة من صفحاته شيئا من هذا الجهر المدهش المفيد.
وقد قال الغزالي - مشيرا إلى علم الطب وعلم النجوم وعلم الهيئة والحيوان إن هذه علوم «ولكن لا يتوقف على معرفتها صلاح المعاش والمعاد» ولكنه قال أيضا: كما يستحيل الوصول إلى اللب إلا من طريق القشر، فيستحيل الترقي إلى عالم الأرواح إلا بمثال عالم الأجسام.
وفي أقواله كثير من مثل هذه المناقضات؛ لأنه إذا زعمنا هذا الزعم فلا تصح العلوم الروحية إلا إذا صحت العلوم المادية، والحقيقة في هذه إنما هي باب إلى الحقيقة في تلك، وهو نفسه القائل بها، وقد وضعها في قالب بديع جميل. «من ذهل عن تدبير المنزل والمركب لم يتم السفر، وما لم يتم أمر المعاش في الدنيا لا يتم أمر التبتل والانقطاع إلى الله الذي هو السلوك.»
العلوم المادية إذا هي أساس العلوم الروحية، وكتب الدين مصابيح تنار بها مسالك الحياة لا مقاييس تقاس بها العلوم البشرية.
وقد يتفق كبار العارفين والمفكرين في أمور منها أمر التشويش؛ لأن التعمق في دار العلوم يؤدي إلى التغلغل في سرادبها.
وجدير بالناظر إلى أسرار الكون في منظار الغزالي أو القديس أغسطينوس أو العلماء الماديين التمثل ببيت للمعري، الفيلسوف العقلي، إذ قال مرددا صدى صاحب السر الأعلى:
أوف ديوني وخل أقراضي
مثلك لا يهتدي لأغراضي
صديقي الأعز
إن لم تحاسب نفسك سرا حاسبك غيرك جهرا
لي صديق من علماء المسلمين حر الكلمة، شديد العارضة كثير المعارضة، لا يوارب، ولا يصانع، ولا يحابي، يصدق في الجدال، ويصلب في القتال، منيع عنيد مريد، يؤمن بالله ولا يؤمن بسواه. يخالف لا ليعرف، بل لينصف وينصف، فينتزع الحقيقة من بين جنبيك إذا جنت على عمد هناك، أو يريك أنها بعيدة منك غريبة عنك، وأن حياتك بلاها لكالطلل في الصحراء، بل كالكتابة على الماء، له صديق من أعز الأصدقاء بل أعزهم - وايم الله - لدي وأقربهم إلي - إلى ذاتي المجردة المعنوية العلوية - إلى قدس الأقداس فيها.
وهو لا يزورني إلا في حين عثرة من عثرات النفس، أو كبوة من كبوات القلم، أو سقطة من سقطات العقل والعمل، وقد جاءني منذ أيام يناقشني الحساب فسلم وجلس، وأشعل سيكارته وطلب فنجانا من القهوة وبدأ باسم الله: لم أكن في المدينة ليلة خطبت خطبتك «روح الثورة» ولو كنت فيها لما حضرت الحفلة، فإنني أفضل قراءة المفيد من الخطب - وما أقلها - على استماعها، وبودي لو جعلت الحكومة ضريبة على الخطابة العصرية والدستورية وخطبائها المصاقيع؛ إذ لست أرى فيها كبير فائدة، فالخطيب المليح الطلعة، الحسن البادرة، العالي الصوت، الكثير الحركات والسكنات، يموه ما شاء وشاءت عنجهيته ويخبط في دقيق الأمور خبط عشواء، فيسمعه القوم مرتاحين معجبين ويصفقون لنكتة باردة أو لطعنة صادرة تفوتهم تمويهاته كلها وما قد يتخللها من شذرات حق ولمعات برهان.
والخطيب العالم الرصين الحصيف يمله الناس ولا يعلق من خطبة ساعتين في أذهانهم غير كلمات الشكر للجمعية التي انتدبته وبعض عبارات الثناء على تأدبهم وكرم أخلاقهم وجميل صبرهم في الإصغاء إلى مثل معضلاته وترهاته. الخطيب الأول ضرره أكثر من نفعه، والخطيب الثاني لا يفيد قطعا.
فاستأذنت الأستاذ بكلمة فقال: أدركت لحنك لا الخطيب الأول أنت ولا الثاني، يتهمونك بالعلم يا صاح وأنت بريء منه.
فقلت: وشأني في ذلك شأن شاعرنا المعري القائل:
يظن بي اليسر والديانة والعلم
وبيني وبينها حجب
أقررت بالجهل وادعى فهمي
قوم فأمري وأمرهم عجب - نعم ويسمونك فيلسوفا وما أنت بفيلسوف، ويدعونك شاعرا ولست بشاعر، والحق في ذلك عليك، لاستطعت لو شئت أن تكون أحد الثلاثة، ولكنك طماع طماح، لقد اشتغلت في درع نفسك الأيادي الثلاث - يد العلم ويد الفلسفة ويد الشعر - فبالغت في صناعتها وترصيعها فرقت حتى كادت تنقصف وتبلى، درع أنيقة الصنع وهاجة براقة، تبهر الناظر إليها، وتخدع السامعين بها، ولكن من ينقرها مثل نقرة الناقد يسمع الغنة في صوتها ويأسف أسفا شديدا، نعم، درعك رقيقة دقيقة واهية لا تقيك الأضاليل المقدسة وأغاوي الحياة الدنيا. خذها يا ريحاني مني، ينبوعك لم يزل عكرا، ومياهه لم تزل متشتتة ، أما النفس فلم تملك بعد عنانها، لم تزل بعيدا منها، لم تزل عدوها، وبالتالي عدو الحقيقة.
ولكن هذا غير الموضوع الذي حملني إليك، قلت لم أسمع خطبتك، ولكني قرأتها في المجلة وكنت قد طالعت في مجلة أخرى علمية خطبتك «الأخلاق» فما وجدتك فيهما فيلسوفا ولا عالما ولا شاعرا، بل أديبا كسائر الأدباء تطلي الحديث وتجمجم الكلام، تصدع ببعض الحقائق وتوهم الناس أنك مظهرها كلها، بل إنك محتكرها.
أبدأت تجربز يا صاح وتداوي وتجامل وتحابي، ما هذا عهدي بك، عرفتك حرا غير هياب، وجريئا غير مذبذب، فما بالك صرت تتكلم كعلمائنا الموقرين عبيد الأمراء والأغنياء؟ كنت تحمل على الكهان مثلا فاعتضت عن اسمهم الحقيقي بأدعياء الدين أتعميم منك هذا أم تلطف؟ طرت إلى الهند بنا في خطبتك «الأخلاق» لترينا شر الخرافات والأضاليل هناك، وعندنا نحن المسلمين ما هو أخبث منها وأضر، ذكرت شرائع «كنفوشيوس» وتعاليم «بوذا» التي لا تصلح للناس في كل مكان وزمان وأغفلت ما بلي من شرائعنا ونحن لم نزل نقدسها.
فقلت: والحق في ذلك على صاحب المجلة؛ لأنه بدل من خطبتي ألفاظا كالتي أشرت إليها وحذف منها كل ما خاله «يخدش الأذهان» عملا بالقول المأثور: ودارهم ما دمت في دارهم. - يا للذل ويا للعار! أية دار وأي قوم؟ أيفرقنا التعصب، ويقتلنا الجهل، وتجهز علينا المداراة؟ ولكنك في موضوع الثورة أغفلت أهم الحقائق أو أنك تجاهلت وداريت، فاعلم - أصلحك الله - أن من الحقائق الرائعة أن الثورة للأمة كالحمام للإنسان، تنبه فيها الدم وتوقظ النشاط وتجدد القوى الروحية والمعنوية. ناهيك بالنظافة، فالخمود الملازم حكومات الشرق كلها والأقذار التي تراكمت عليها والفساد الذي اعتراها لا يزيلها غير الحمام، حمام الثورة الغالي.
ولعمري إذا انحط الجيل إلى درجة يصبح الدم في عروقه كالماء فهدره لا يضر وقد ينفع، جيل كهام مرض عقيم لا يصلحه غير السيف، ألا فالسيف يمهد السبيل لتهذيب الجيل الوليد الجديد. اعلم - أدام الله تمكينك - أن للدم عاملا هو أهم في بعض الأحايين من عوامل العقل، أما العقل فإذا اختل يلقي صاحبه بالبيمارستان فيؤسر هناك، والدم إذا فسدت ماهيته وأبطل عمله فهدره وحقنه سواء. ومن أشرف عوامله أنه إذا امتهنت حقوق الإنسان ينبهه الدم الحي في عروقه ويستفزه . والدم يحمله على المناهضة والمكافحة. والدم يثير منه كريم العواطف وشريف السخط والغضب.
وأما الجيل الذي لا يشعر بالمظالم ولا ينفر منها، الجيل الذي ألف العبودية، ولم يزل يسترحم حكامه ليجددوا له القيود والأغلال، فأي فضل له في الحياة، على أن الأمة وإن لم يبق فيها غير واحد من أبنائها يدرك الحقيقة ويصدع بها لا تعدم رجاء فأملا فسعيا ففوزا في تجديد حياتها وعزها ومجدها.
ألا إن ثورة طبيعية دموية لتلقي كلا منا إلى ساحل الحياة. الطفل يولد باكيا والأم في تلك الساعة العجيبة ضارعة متألمة متوجعة، الولادة - كل صنوف الولادة - طريقها الدم ومهدها الأنين، والثورات في الأمم صنف منها. وبعد أن يولد الطفل تأخذ الأم بالتعافي فتشفى رويدا رويدا ويمتعها الله بضعف ما ذبل من حسنها وما انحل من عزمها وقواها. الأم! الأمة! إن فضل كلتيهما لعظيم، وعذاب كلتيهما أثناء الولادة - أثناء الثورة - شديد أليم.
ولعمري إن ولادة الروح الجديدة في الأمة لأهم من الولادات البشرية كلها، هذه هي الحقيقة بعينها أضعتها أو حاولت أن تخفيها في التفلسف بنواميس الكون الأزلية - سامحك الله.
وهلا خطر في بالك أن الثورة المقبلة في البلاد سيكون الجوع مثيرها، آسيا الصغرى وقد بارت أرضها ونضبت ينابيع الرزق فيها وتزاحمت على مواردها القليلة القصية الأجانب من الرومللي وأوروبا. أيموت سكانها جوعا وحكامها في كراسي الحكم آمنون مطمئنون؟ لا والله، الثورة التي ينفخ الجوع في نارها لأشد هولا من سواها، كان إذا اقترح أحد رجال «نبوليون» عليه اقتراحا يبادره سائلا: وهل أنت كافل مغبته؟ أفلا يثير مثل هذا العمل الشعب البائس الجائع، «نبوليون» العظيم - ولم يخش يوما صولة جيوش الأعداء المتألبة - كان يخشى ثورة رأس أسبابها رغيف من الخبز، هياج الشعب البائس؟ لطالما خشاه أكبر أبطال العالم واتقوه، والويل ثم الويل يوم يستفيق شعوب المشرق من سباتهم الطويل العميق فيبتدرون الحسام، يمتشقونه على الظلام. •••
وهذا بعض ما قاله سيدي الأستاذ ناصر الدين البغدادي منتقدا خطتي وخطبتي، وهو عندي من أعز الأصدقاء بل أعزهم غير مدافع ؛ لأنه لا يجاملني ولا يداريني ولا يداهنني، لله دره من صديق يناقش غير عاذر وينبه ويذكر وينذر، وبما أنني بحت باسمه إلى القراء سأهديهم عما قريب رسمه - إن شاء الله.
رسم
الأستاذ ناصر الدين البغدادي
التقيت في الشارع الجديد «ببيروت» بسيدي الأستاذ ناصر الدين وهو يمشي بين خطي «الترام» منكسا رأسه يناجي نفسه، فجبهني بعد السلام بكلمة من كلماته القاسية شأنه كل مرة نتقابل. - جنيت يا ريحاني علي. - بم؟ - أوتسأل متجاهلا؟ ألا تعلم - رعاك الله - أني أتمثل دائما بقول الشاعر:
وخمول ذكرك في الحياة سلامة
ودهاك من أمسى لذكرك ناشرا - ألأنني بحت إلى القراء باسمك ووعدتهم برسمك؟ - هو ذاك. فما الاسم والرسم والجسم غير أشراك للأنفس وحبائل للعقول؟ المرء بأفكاره، ولكنكم معشر الكتاب تعنون بزخارف الشهرة وتلهون بالأباطيل، أما الحقيقة فلا تعرفكم ولا تعرفونها، وإذا اجتمعتم بها مرة في الزمان تجاملونها ظاهرا وتلعنونها سرا، شأنكم وأسيادكم. وما الفائدة يا ترى من شهرة تطلبونها، وأسماء تذيعونها، ورسوم تزخرفونها؟
سمادير والله وترهات! جاءتكم من أوروبا فحسبتم الحياة لغوا بدونها، أي فضل لشهرة لا تجديكم نفعا في غرة كل شهر حين يتقاضاكم الخياط والإسكاف والفراش والبقال والحمال؟ أتنقدوهم من ذائع صيتكم؟ أتهدونهم جميل رسمكم؟ أتحبونهم من ترهاتكم؟ أتتلون عليهم من رطاناتكم؟ أشعلوا النار وانفثوا في العقد حاوتكم. هيهات، هيهات، خذها مني، لتأكل النار يوما سماديركم كلها وأوهامكم، نار الفكر، نار العقل المقدسة لتحرقكم أجمعين. أما أفكاري فإذا كانت تفيد فهي لك، بثها في الناس، وادعيها - إن شئت - ما قيل، لا من قال، والفكر الذي لا يقبله الناس إن لم يدعم بشهرة باطلة أو باسم كبير رنان لا يستحق أن أحرك من أجله أناملي أو لساني.
الحقيقة تنبو عن الطبل والزمر، وإذا أغفلت زمنا وشعرت بدنو أجلها تلجأ إلى السيف فينميها ويعيدها عزيزة ظافرة، خذها مني، ودعني في خمولي آمنا شر الناس، بعيدا من ضوضاء الشهرة، مرتاحا من تكاليف الحياة الاجتماعية، ضوضاء الشهرة؟ إن مسامعي لتستك منها ولتنبو عنها، أما ضوضاء الثورة - صليل السيوف وقرع الرماح ودوي المدافع - فمثل الأغاريد في أذني.
وبينا هو ينثر من حكمه وبيانه، ويكنس الهواء بأردانه، إذا بجرس «الترام» يدق، وحمال ينق، وحوذي يصيح، وحمار يحلف بالمسيح، وأميركي تعثر في الزحام و«كدم»،
1
وظريف سمع الأستاذ ينطق بالفصحى فتهكم: استفيقوا، إنكم في الطريق فاستفقنا، وإلى الرصيف تسابقنا، ولكن الأستاذ وقد صدمه الحمار، تعوذ واستجار، وصاح: يا للعار وللشنار، أتيس يسوق؟ ووحوش تفلت في السوق؟ فضحك سائق «الترام» وتنطس في الفك والإدغام، ونادى الحوذي: يابو مشمش اللوزي، ظهرك، رجلك، فذعر صاحب الطبق ووثب، وقد شاهد المنية عن كثب، فنطح الأستاذ في قفاه، وراح يلعن أمه وأخته وأباه، فضربه الحوذي بالسوط فلم يصبه، ولكنه أصاب من سيدي ناصر الدين أذنه، وعلق بجسر العربة ردنه، فانشدح وزحف، ورسا على الرصيف وتلهف: يا ما أحيلى البعير العاري، تجوب به القفار والصحاري، ومسح العرق من جبينه، وهو يضحك في كم الفلسفة من حينه. - أي - والله - فردن ممزق، رحمة في مثل ذا المأزق. - والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، رب زحام، فيه كأس الحمام. - تمام، لا بارك الله في المدينة وبهرجها، أما وقد نجونا من مهلكاتها هذه المرة - وقد لا ننجو منها مرة أخرى - فلا بد من خطبة أخطبها غدا في المسجد، وأحب أن تسمعها. وبما أن المسجد الذي أصلي فيه صغير ولا يعرفه من الناس غير المقيمين بجواره؛ أدلك اليوم عليه فتؤمه صباح الغد فتسمع خطبة عربية (ومكن اللفظة الأخيرة ووقف عندها) خطبة عربية بليغة وجيزة، لا كالخطب العصرية التي هي أطول من شهر رمضان، وأبرد من ظلف الظربان. خطبكم العصرية؟ إن هي إلا رسائل جافة عقيمة حرية أن تنشر أو بالحري أن تدفن في مجلاتها العلمية التي لا يطالعها غير المتنطسين - أدام الله تمكينهم - مجلاتنا العلمية التي لا تزيدها السنون إلا قشورا .
وكاد الأستاذ يذهل ثانية فيقف غضبا ناقما في قارعة الطريق لو لم أستوقفه على الرصيف ريثما ينتهي من كلامه، وما خلته ينتهي وموضوعه مجلاتنا العلمية.
وكان وقوفنا قدام دكان تباع فيه الأسلحة، وصاحب الدكان صديق الأستاذ - ولا غرو - فبادره بالسلام وسألنا أن نشرف المكان، فقال الأستاذ على الفور: إن ما في حانوتك ليشرف الإنسان، أفلم يقل الشاعر:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
وأنت يا ريحاني مخطئ في ما كتبته في ريحانياتك
2
التجاسر على أبي الطيب وكلامه عين الحكمة؟ سامحك الله! اجلس. ها هنا سر من أسرار الحياة.
وأخذ الأستاذ مسدسا وشرع يقلبه ويتأمله. - إني لأوثر السيف على هاته الآلة الدميمة، ألا فالسيف عنوان الفراسة، السيف راموز الشجاعة والبطولة، وهذه - مصوبا المسدس نحوي - سيمة الغدر، ضريبة الجبن، أم الاغتيال. إن ما يجيئنا من أوروبا ليذهب بالبأس والمنعة والنشاط والحضارة، تعلم الناس الدهاء وتشربهم روح المكر والجبن والخداع.
ولكن هذا غير ما أبتغي من قولي إن ها هنا - وأشار إلى المسدس - سر من أسرار الوجود والفناء، أعطني يا أبا حسن رصاصة، تأملها يا ريحاني، قطعة من الحديد صماء، لا توزن عشرة دراهم ولا تبلغ طور بنصري هذا، إذا وضعتها في هاته الآلة الإفرنجية الدميمة وأطلقتها عليك تخترق الأضلع منك، وتخمد جذوة الحياة فيك، الحياة هبة إلهية من لدنه تعالى. ألست من القائلين بهذا؟ يكللها نور العقل الذي يدرك الإنسان بواسطته ما خفي من الأشياء، وما دق من الحوادث وما بعد من الأكوان، وينظم بفضله الشعر، ويقيس الشمس، ويوزن النجوم، ويحلل طبقات الأرض ويخطط فلك السماوات وأبراجها، ويدس مع ذلك الدسائس لأخيه الإنسان - ينافق ويخادع ويجور ويتجبر - أما هاته الآلة فبكلمة واحدة من كلماتها تبطل كل أعماله السامية والسافلة معا.
ألا إن الرصاصة هذه لأبعد سرا من الحياة وأسبابها فإنها إذا استقرت في صدرك أو تحت أضلعك توقف الحركة الدموية فيك فتفسد القوة العاقلة الإلهية والشيطانية، فتدعك جثة باردة هامدة، أقبس سماوي في الإنسان تطفئه قطعة من الرصاص؟ ومهما يكن من عز له وسلطان - مليكا كان أو قائدا أو شاعرا أو نبيا - فهو إذا بغت بهاته الآلة الذرية الدميمة يقف مذعورا مرتجفا صاغرا - سيفك يا صاحب الدولة! ملكك يا صاحب الجلالة!
فقلت: وما أدراك أن عامل الرصاصة هذه كعوامل الزلازل والسيول في الأرض فتنبت نبتا جديدا وتجدد فيها أصول الحياة. - وإن جثة الإنسان لتعمل عمل الزلزال في تربة الأرض فتغذي الكلأ وتنميه وتبعث الخصب فيه. دعنا من هذا الآن وانظر إلى الواقع، ها إني أتحرك وأتكلم أمامك أرى الأشياء فأعقلها إلى حد ما، أحب وأكره أغضب وأعطف، أبتهج وأتألم، أضحك وأبكي، هي حقيقة لا إخالك تنكرها، وهاته الرصاصة حقيقة أخرى، إذا اعترضت الأولى أفسدتها، صرعتها، هدمتها، حولتها ترابا ودودا وكلأ وحيوانا، أمر غريب! سر عجيب! في هاته الرصاصة كلمة كامنة تمحو إذا بدت كلمة الله المتجسدة في الإنسان؟
فاستأذنت الأستاذ قائلا: ولكن حبة من القنب أو نقطة من السم إذا سرت في عروق الإنسان تفعل فعل هاته الرصاصة. - وهذا أغرب وأعجب، أفلا يؤيد كلامي أن أتفه الأشياء وأحطها لتفسد مبدأ الحياة في الإنسان، لتخمد مصدر النور فيه، لتهدم ما بناه الله، قم بنا أهدك إلى المسجد.
فودعنا صاحب الأسلحة، وخرجت أتلو الآية:
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى . •••
ونكبنا عن السبل الفجاج، والغوغاء فيها والعجاج، فأدلجنا في أحياء دامسة، كسراديب الأطلال الدارسة، ليلها لا يدور وظلامها لا يغور، جاداتها أسنان منشار، وحوانيتها حفائر وأوجار، ولكنها بالنمارق مفروشة، وبالبضائع مصفوفة، وفيها التجار متربعون، يسبحون وينعسون، العطار قبالة العطار، مثل الدمى في خزف الأغيار، والبزاز تجاه البزاز، كأنهما وردتان من شيراز، إذا رغبوا في المصافحة، أو المكافحة، فما هي إلا أياد تمدد، وكلمات تردد، وأصحاب جلوس، لا كسب يقيمهم ولا فلوس، ولا حب ولا وقار، ولا ولي ولا نعار، ولا سيف ولا نار، كأنهم صبيان الجنان، تجارتهم سلام وأمان، فشكرت على ذا الاكتشاف العناية، وتلوت الآية:
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين * لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجن .
فسمعني الأستاذ الرفيق ووقف شائلا بأنفه مبتسما ابتسام الإنكار والتحقير هامسا في أذني: ذئاب في جلود الحملان، ما خلتك تخدع بالسبح والتناعس.
ثم استأنفنا السير ساكتين، فاجتزنا سوق العطارين، فسوق البزازين، فمنعرج في سوق الخضر، فجادة البدو والحضر «وأنا الضارع، أتلو القوارع» فميدان ككفة الميزان، في وسطه بركة كالكشتبان، فجادة أخرى، وأخاديد تحت البيوت تترى، لست أدري الآن من أيها خرجت، وأيها دخلت، حتى وصلنا - والحمد لله كثيرا - إلى زاوية الأستاذ المباركة. فوقفنا في باب مكتبة هناك، لا كفر يدنسها ولا إشراك، يباع فيها المصحف والغزالي، والبردة والبيضاوي، صاحبها شيخ عبوس دميم، في جبة بيضاء كالريم، لحيته تندى بالخضاب، وأنفه صيوان بلا أطناب، عيناه نقطتان هزازتان، كأنهما زئبق في كشتبان، وأذنه صغيرة زباء، تبدو كالدواة من تحت عمامته البيضاء.
فألقى إليه الأستاذ السلام، ثم قال وهو يشير إلي: أتعرف من الرجل.
فأجاب الشيخ على الفور: إفرنجي كافر - ولا شك. - بل هو من المستشرقين.
فترجرج الزئبق في ناظريه إذ زلقني بهما، وخاطب الأستاذ قائلا: وماذا يريد؟ - يبحث عن الكتب الإسلامية. - لا أبيع، لا أبيع.
وعاد الشيخ إلى مجلسه غير حافل بالزائر الغريب.
فضحك الأستاذ ناصر الدين قائلا: جازت ولا بأس يا شيخي، هذا صاحبنا الريحاني الذي طالما وددت أن تراه وتتعرف به.
فأخذت الشيخ دهشة جعلته هنيهة كالجماد، ثم ترجرج الزئبق في عينيه، ولاح في وجهه وميض من النور، فنهض إلي هاشا باشا، يعتذر ويستغفر، وأجلسني إلى يمينه على الديوان وهو يقول: لا كانت ساعة، لا كانت ساعة، خدعتني يا ناصر الدين، بل هذه القبعة لعنها الله! خدعتني.
فقال الأستاذ: وليخدعنك من هذا الرجل أشياء أخرى لو عرفتها، فإن لكل رأي من آرائه قبعة، ولكل شيطان من شياطينه جبة. ظاهره أوروبي، وباطنه - الله أعلم بالسرائر.
فهتف الشيخ قائلا: لا سمح الله، لا سمح الله.
فقال الأستاذ شارحا الاكتفاء: كيف لا وبين الشرقيين والغربيين وهدة عظيمة.
فأجبته ذاكرا الآية:
وهو على جمعهم إذا يشاء قدير .
وفي تلك الآونة مر بياع السوس يقرع الفنجان بالفنجان، مناديا «برد يا عطشان» فأوقفه الشيخ في الباب وأمر لنا بقصعة مما في قربته السوداء الزرباء الردغاء، وقال يطمئنني: لا تتقزز، للطاهر كل شيء طاهر ثم مد يده إلى رزمة من الكتب تحت الديوان فأخذ منها كتابا ونفض عنه الغبار قائلا: هذا سفر جليل أحب أن تطالعه أهديكه ذكرا لزيارتك مكتبتي، فقبلته شاكرا وقرأت ما على جلده فإذا بالآية:
إن الدين عند الله الإسلام ، فخطر لي فكر، ولكني تذكرت ما جاء في الكتاب الكريم: ولا تسألوا عن أشياء إن تبدو لكم تسؤكم.
وفطنت - إذ ذاك - أنني في غور من المدينة بعيد الأرجاء وأن دون منزلي سراديب وأخاديد لا يرمقها «قمر»
3
البلدية بشيء من نوره، فقمت أعتذر، فقال الأستاذ ناصر الدين: لا أدعك والله ترجع وحدك، أما المسجد فها هو في وجه هاته المكتبة، تعال غدا.
فدهش الشيخ لهذه الدعوة وبهت، وأومأ إلى الأستاذ فكلمه كلمة في الزاوية، ثم خاطبني مجاملا معتذرا مستغفرا ملحنا ملغزا، فأراحه وأراحني الأستاذ بكلمة من كلماته الصريحة إذ قال: أما ترجمة ذا الهذيان كله فإليك بها: لا تجئنا غدا بالقبعة.
فقلت: وعلى رأسي الطربوش والعمامة.
وفي اليوم التالي يممت المسجد ... وكان الأستاذ ناصر الدين في المنبر فسمعته يقول:
ويل أمراء الناس، من عواقب الإفلاس، ويل أمراء الكلام من منطق الأيام، ويل أمراء المؤمنين، من كتائب الحق واليقين، إفلاس في الإيمان، مغبته السقم والهوان، إفلاس في الآداب، مغبته العقم والخراب، إفلاس في الحكومة، عواقبه معلومة، ويل المنافقين والطغاة من نهوض الجماعات. ويل الأمة، من جهل الأقسة والأئمة، قلانس لا تزين، وعمائم لا تعين، أرياء وإكرام، أسفه واحترام، أفسق وإجلال، أنفاق وإقبال، لا ورب الجلال! ويل للرؤساء المتنطعين، ويل للأعيان الأغمار، يحلفون بالرسل والأنبياء وهم لإبليس أخدان وحلفاء، ويل الظالمين، من حمم البراكين، ويل لصوص الملك والسفاء من غضب الأرض والسماء، غدا ينقدون مما يضربون، غدا يشربون، مما يسقون، غدا يأكلون، مما يطبخون، غدا يحصدون، مما يزرعون. ازرع العاصفة، تحصد القاصفة، ليحصدون والله مما يزرعون.
وهل يحصد المرء غير ما يزرع، ازرع الوفاء تحصد جميل الدعاء، ازرع الآداب، تحصد المجد والإعجاب، ازرع الصدق والرصانة، تحصد الثقة والأمانة، ازرع العلم والحلم والإحسان ، تحصد السؤدد وولاء الزمان، ازرع البر والقناعة، تحصد الحكمة والدعة. ولكنك إذا زرعت الأثرة، تحصد النقمة، وإذا زرعت الفسق والفحشاء، تحصد الويل والبلاء، وإذا زرعت الريب والشبهات، تحصد الخيانات، وإذا زرعت الكذب والبهتان، تحصد الذل والهوان، وإذا زرعت الجهل، تحصد التعصب الذميم، وإذا زرعت الظلم تحصد الجحيم.
جر أن الزارعين فسادا، ليحصدون رمادا، والزارعين عارا ليحصدون نارا، وحبة سبل الإثم والفساد مجيدة عروش الظلم والاستبداد، ولكن الزنابير تكمن في الأزاهير، وتحت الرياحين تلبث الثعابين، اليوم ديوان وإجلال وغدا سجن وأغلال، اليوم قبة مضروبة وغدا منصوبة، اليوم تاج وصولجان وعود وكاس وقيان، وغدا؟ لا جنازة غدا ولا أكفان.
لنا النفوس، وللطير اللحوم، وللوحش العظام، وللثوارت السلب. •••
وبعد الخطبة والصلاة، اجتمعت في مكتب الشيخ مبغض القبعات تجاه المسجد ... بنفر من إخواني شبان المسلمين الذين ينزعون إلى الوهابية في الدين وإلى شبه مذهب الخوارج في السياسة.
فقال سيدي ناصر الدين: هؤلاء من غراس الناشئة الإسلامية الجديدة.
وقال أحدهم مشيرا إليه: من غرس هذا الفاضل.
فرفع الأستاذ يديه مستغفرا الله مرددا قول لبيد:
إذا المرء أسرى ليلة خال أنه
قضى عملا والمرء ما عاش عامل
بذور للزارعين
جاءتني من الأستاذ ناصر الدين البغدادي هذه الكلمة الشديدة تصحبها بعض غراس من مغرس أفكاره الكريم:
أبقاك الله أيها الريحاني ومتع بك، اعلم أنني زرعت من «بذورك» في مزرعتي فلم تنبت إلا قليلا، وهذا القليل سريع النشوء سريع الذبول، وقد بعثت بمثال منه إلى ناظر الزراعة في العاصمة ليفحص ويحلل علنا نهتدي إلى أسباب السقم فيه فنتلافاه، وإخال أن مكروبا غريبا كامنا في «بذورك» يحول دون نموها، وهاك مثال من الغراس «البلدية» السليمة الجيدة وما أقلها وا أسفاه! أغرسها في بستان أدبك ليتمتع بثمارها الناس، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
ناصر الدين البغدادي
وقد غاب عن سيدي الأستاذ أن المكروب الذي أشار إليه قد يكون في التربة لا في البذور نفسها، وليته بعث بمثال منها أيضا إلى «ناظر الزراعة في العاصمة.»
أما الغراس التي تفضل بها فهاك بعضها.
يبقى الملك بالعدل مع الكفر، ولا يبقى بالجور مع الإيمان.
حديث شريف
السلطان الكافر العادل إذا أفضل من السلطان المسلم الجائر. •••
أتخشون الموت أيها الناس ولا تشعرون بموت أنتم فيه، إن عظاما في الأجداث بالية لخير من هاته الأشباح التي تتمشى في أسواق المدينة. •••
أصلحك الله أيها الأديب المصلح! أتمسح حذاءك ثلاثا كل يوم ولا تمسح نفسك مرة في السنة؟ أبماء الوجه تغسل يدك الأثيمة وتلحف بماء الورد مثل العاهر البغي نتاناتك؟ أتجرد يراعك على النائين من الظلام وأمام أسيادك الطغاة العتاة تعفر وجهك، إلى النار بيراعك وإلى «البويجي» بنفسك لا بحذائك. •••
مارك الله أيها الأمير، فإن من تطريهم من العرانين، يصرون الدرهم بالقلشين، ومن تنصرهم من الغطاريف، يعوذون بالله الرغيف، وأصحابك الأعيان، الباقي في خاتم مجدهم فص أو فصان، يبتاعونك غدا برتبة ونيشان، انتصح مارك الله ورعاك، واطرق باحثا عن رزقك غير هذا الباب. •••
نظرة في الهيئة الاجتماعية الشرقية صائبة ترينها مركبة في الإجمال من طبقتين من الناس، الساهرين والنائمين، الظالمين والمظلومين، المغتصبين والمغتصبين، أما النائمون فينهضون بعد طويل الرقاد أقوياء أشداء، فيظلمون أبناء الليل اللصوص وقد أصبحوا كهاما سفهاء. •••
روى أبو داود في سننه أن النبي قال: «سيأتيكم ركب مبغضون يطالبون منكم ما لا يجب عليكم فإذا سألوا ذلك فأعطوهم ولا تسبوهم وليدعوا لكم.»
وهل كان أبو داود جاسوسا للأغيار فلفق الحديث؟ وهب أن النبي
صلى الله عليه وسلم
نصح مرة هذا النصح لقومه أيرضى أن يكونوا مستذلين مستعبدين مدى الدهر؟ أحديثا تقدسون! أسيفا للباغي تصقلون وتشحذون؟ أجواهر للطغاة تصوغون؟ وايم الله إن جواهر في تاج الظالم لأغلال في أيدي الأمة، وإن سلامة الشرق والشرقيين لفي تحطيم التيجان والأغلال.
قال ابن مسعود: قال لنا النبي: إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : أدوا إليهم حقوقهم واسألوا الله حقكم، إن في هذه الحكمة طريقان قويمان إلى عرش الكفر وسجن الإيمان، في هذه الحكمة الشرقية وأمثالها يحلل الظلم ويقدس الاستعباد، قوم يسودون لا واجب عليهم غير البلص والاغتصاب، وقوم مستعبدون تعودوا أن يسمعوا طائعين، ويسلموا صابرين ساكتين، ومعاذ الله أن تكون هذه سنة الحياة القويمة. إن عكس الآية في الشرق لهي عندي عين الحكمة، خذوا حقوقكم من الظالمين أيها الناس ومتعوهم على المشانق بحقوقهم. •••
لا تأمن شر الاغتصاب إلا إذا اقتلعت عينه، الاغتصاب داوه بالاعتصاب. •••
إن بدويا منتهى البلاغة عنده قوله: لا أو نعم لأفضل من أولئك الأدباء المتحذلقين والسياسيين المرائين الذين يقضون حياتهم بين ال «لا» وال «نعم» مصانعين مذبذبين منافقين.
أبرشية الفريكة
قد يسر قرائي ما أنا مقتطفه اليوم من جريدة الفريكة
1
الرسمية، قال المحرر في محلياته:
قد آب إلى كرسي الأبرشية
2
بعد أن غاب شهرا حسبناه دهرا، سيادة أسقفنا الجليل فاستقبل خارج المدينة استقبالا عظيما وأقيمت له حفلة تحت البطمة القديمة، نادرة المثال فخيمة، وما كادت تهتز الأسلاك البرقية بخبر قدومه حتى خف إلى ملاقاته أبناء الرعية الكرام، تتقدمهم الجمعيات الخيرية والإصلاحية رافعات الأعلام، هاتفات هتافا رددت صداه الآكام، ونخص بالذكر من هاته الجمعيات «أخوية الأقاحي» التي توارى تحت أعلامها البيضاء اخضرار الحقول، و«جمعية الشقائق» التي ملأت راياتها الحمراء الربى، و«حزب القندول الوطني» وبنوده الصفراء تنور في الجموع، فتغني الموكب عن الشموع، وما كاد يصل القوم إلى البطمة المشهورة حتى اعتلى رئيس حزب الإصلاح الدكة فكان - وايم الحق - خطيبا، هز في الفضاء غصن بيانه فتناثرت منه الأزهار والأشواك، فهتف الناس صارخين: ما وقف - والله - على منبر سواك، ثم أسف الحسون شاعر سيادته الرسمي، فوقف على ذؤابة قندولة زاهرة وتلى في تهنئة راعينا وتمجيده، بل في نفجه وحلجه وتنجيده
3
قصيدة لو سمعها حافظ لكان لها حافظا، ثم ارتجل السنونو أحد شعراء سيادته الاحتياطيين أبياتا من على سماقته هي السحر الحلال كما يقال ولفظ أحد الجداء الحولية كلاما في إصلاح الطائفة فتن به السامعين، ونثرت إحدى البقرات النجل على سيادته زبدا من فيها هو ذوب اللجبن، وقدمت إليه طفليها، عجلين توئمين، فقبلهما وباركهما وعلق في رقبة كل منها عوذة العين . ومن ثم استأنف الموكب السير وسيادة راعينا شمس كواكبه فدخل المدينة وأبناء الوادي في الحلل البيضاء والحمراء والصفراء ينشدون مهللين بيتين من الشعر نظمهما الدوري، فبرز على المطران جرمانوس فيهما، وعلى الخوري، صاحب ديوان الشنطبوري.
4
قال شاعر السماقة يتأهل بسيادته:
عدت وعاد الربيع
عدت وعاد الهناء
عليك سلام الربيع
عليك سلام السماء
وقد قال الحسون: إن شعر الدوري هذا من نوع الأناشيد الدينية التي يقيسها ناظموها بالأصابع ويقطعونها كالشعر ليكسبوها في الأقل ظاهر شكله، ووددنا لو كان في إمكاننا إتحاف قرائنا الكرام بقصيدته الغراء - أي: قصيدة الحسون - ولكن مخبري جرائد السماء التقطوا من الهواء دررها الغالية قبل أن تقع إلى الأرض.
على أن سيادة أسقفنا الجليل أخصنا بما جادت به قريحته في المأدبتين اللتين أقيمتا له تحت الزيتونة وتحت السنديانة
5
والخطبتان من نفائس الخطب، في الواحدة منهما ما يسمونه إعجاز الإيجاز وفي الثانية بلاغة عجيبة ما وقفنا على كلام للعرب في وصف مثلها.
6
خطبته تحت السنديانة
قال أعزه الله، وأيد في العالمين مبداه:
يا أيها الذين آمنوا، ثلاث ما قل قليلها، الغربة، والكربة، وأضغان ذوي القربى، وثلاث ما كثر كثيرها، البرية، والحرية، والنعمة الإلهية، جعل الله قسمتكم من تلك قليلة ومن هاته كثيرة والسلام.
ومن خطبته تحت الزيتونة
أربع وعظتني اليوم فأعظكم بها:
رأيت الوردة تفتح للنور قلبها وتميل إلي بوجهها وهي تقول: إن فيك - أيها الإنسان - نسمة من جمالي ونفحة من شذاء كمالي، فهلا كنت نزيها في حبك مثلي؟
ونظرت إلى زهر المسيح وهو يلوح في شقوق الصخور كأنه واقف في بابه ينتظر عودة أحبابه، فسمعته يقول: تراني - أيها الإنسان - أحن حتى إلى الصخور، فهلا كنت وديعا مثلي؟
ونظرت إلى جبل صنين وقد بدت ذؤابته السوداء من تحت كوفيته البيضاء فرأيته يخلع قميصه ليستحم في شمس الربيع، وسمعته يقول: لا العواصف تقعدني - أيها الإنسان - ولا السموم، لا الشتاء ولا الصيف، فهلا كنت ثابتا مثلي؟
ثم حولت نظري إلى مغرب الوادي فرأيت أشجار الصنوبر الشماء تزدحم على ربوة هناك وقد ضاقت بها التربة فاشتبكت أغصانها وجذوعها بعضها في بعض وسمعتها تقول: إن فوق رءوسنا وتحت أقدامنا ما يكفينا، فهلا كنت - أيها الإنسان - قنوعا مثلنا؟
فيا أيها الذين آمنوا إن في الجبال، وفي الأشجار، وفي الأزهار لآيات لقوم يسمعون ويبصرون، قل: جعلني الله نزيها كالورد، وديعا كزهر المسيح، قنوعا كالصنوبر، ثابتا في الملمات كصنين. حديث شريف أسمعنيه الله وإني لحديثه من السامعين وبرسل ربيعه من المؤمنين.
هذا ما اقتطفته من جريدة الفريكة الرسمية لقرائي الأعزاء لقوم يبصرون فيستبصرون، ويسمعون فيؤمنون.
وأما المستحجرة قلوبهم والمتجزوتون
7
فإنهم وإن أنذرتهم لا يؤمنون.
هذا، ولقد طالما تاقت النفس إلى كتابة رسالة شائقة، عربية المعنى والمبنى، أي: عربية الحروف والمفردات والجمل، وعربية الحبر والورق أيضا، إكراما لأسيادي المتنطعين فأطرزها بالتفاسير وأكشكشها بالشروحات، فيقول الناس عند قراءتها: لله دره ما أرسخه في اللغة قدما وما أطوله باعا، ولكني أعجز - والله - عن مثل هذا، وجئت خالطا الآن شيئا يسيرا من عجزي في هذه الحفنة من «البذور»، وأستغفر الله بداية ونهاية في ما قد يعده قرائي الأعزاء وأسيادي الأساتيذ تطفلا، وأسأله تعالى سترا يمتد على تلفيقات ليس لها حد، ولكنها تلفيقات فيها من الحقائق والرقائق ما لا تخفى أسرارها على المؤمنين.
على الأرض السلام
«على الأرض السلام» مقالة طالعناها في جريدة تدعى الأبوقلبس، ننقلها إلى قراء اللغة العربية لا خدمة لدولة من الدول المتحاربة، ولا تعزيزا لمبدأ من المبادئ السياسية المتغالبة، ولا من أجل أمة من الأمم المنكوبة، ولا إكراما للحقيقة المهانة المصلوبة، ولا حبا بالوطنية التي أسكتت المدافع حكماءها، وبلبلت المخلصين من أبنائها، ولا بغية أن نهدي أحدا أو نضلل أحدا من الناس.
ننقل المقالة إلى قراء اللغة العربية؛ لأنهم ألفوا في هذه الأيام المنقول - معقولا كان أو غير معقول - والمألوف غالبا مستحب، والمستحب حجته برقبته، ونأسف أننا لا نستطيع أن نهدي كل واحد من القراء وبالأخص السوريين بركة من الأثر الذي عثرنا على الجريدة فيه، فالسوريون أجدر الناس بمثل ذي البركة والإكرام.
كيف لا ونحن أرقى الشعوب فكرا وأعظمهم قدرا، وأشرفهم نفسا، وأسلمهم عقيدة، وأبعدهم نظرا، وأشدهم على جواهر العقل حرصا، كيف لا وفينا شيء من كل الأمم ما سوى جنون الأمم، كيف لا، وقد رفضنا أن نحارب من أجل الوطن أو نبذل في سبيله استقلالا قليلا مما هو اليوم أبخس الأشياء، ولكن الدم السوري عزيز والنفس السورية أعز، والسوريون حتى البقالون منهم لم يؤخذوا بخزعبلات الوطنية وبما يزينه من الأوهام أدعياء الوطن، فهم أبعد الشعوب نظرا، وأثقبهم فكرة، أي والله! وأسماهم عقيدة، وأشرفهم نفسا، فالسلام على السوريين أينما حلوا، وكيفما ضلوا، وإليهم خصيصا نزف هذه المقالة من جريدة الأبوقلبس.
وقد يتساءلون: وما جريدة الأبوقلبس؟ ومن هو كاتب المقالة التي نشرفها اليوم بحلة عربية؟ فهاكم القصة:
لما كنا السنة الماضية في إسبانيا خرجنا ذات يوم من مدينة على شاطئ البحر المتوسط نبتغي النزهة، فوصلنا بعد أن اجتزنا مسافة خارج الصور إلى صخور تغسل أقدامها الأمواج وبينها بقايا مركب عرفنا من حرف على صفحة من حديد مكسرة مصدئة أنها غواصة (صبمارين) ألمانية، وبين بقايا هذه الغواصة عثرنا على فرد وجمجمة منشور رأسها وقد سد بالورق، فرفعنا السدة ففاحت من الجمجمة رائحة الخمر، فقلنا: وهذه من فظائع الألمان، يشربون الخمر اليوم بجماجم الأعداء مثل أجدادهم في غابر الزمان، ثم كشفنا الأوراق فإذا بها جريدة الأبوقلبس وفي صدرها ما يلي: «جريدة بشرية.»
تصدر في رأس كل سنة في أي لغة كانت في أي مكان كان، يحررها فريق من الكتاب لا وطن لهم ولا دين.
ويساعد في تحريرها بعض من كانوا بالأمس وزراء، وأصبحوا اليوم ممن ينطقون حقا، ويقولون صدقا، اشتراكها جمجمة من جماجم الأعداء.
وعلى هامش إحدى صفحاتها كتب بقلم رصاص ما يلي:
أنا جوهان شميت قبطان الغواصة
100-U
أغرقت في شهر واحد خمسين مركبا من مراكب العدو، منها باخرة كبيرة أقلت ركبا كثيرين فيهم عدد من النساء والأطفال، ما نجا منهم واحد. ومنها مركب شحن عجبت لشجاعة قبطانه فخلصته واثنين من بحريته وأنزلتهم غواصتي، وأقمت وإياهم يوما وليلة تحت الأمواج وفوقها إلى أن أوصلتهم إلى الشاطئ سالمين فأعطيتهم مئونة يوم من الخبز واللحم المقدد وقنينة من الخمر، فوضعها القبطان في الحقيبة التي كان قد خلصها وودعني قائلا: «يا هر شميت»، أنت ألماني شريف النفس، كريم الأخلاق، فعسى أن تجمعنا التقادير بعد هذه الحرب فنردد ذكرى هذه الأيام العصيبة وأكافئك على معروفك حق المكافئة.
ثم أخرج من حقيبته جمجمة فأهدانيها قائلا: هي أعز ما لدي الآن أرجوك أن تقبلها ذكرا مني، فقد كان صاحبها من أبناء وطنك ولم يكن شبيهك بغير الشجاعة، أسرني ذات يوم في وسط الأوقيانوس وجوعني ورجالي ومثل بأحدهم ترويعا ولكن على الباغي يا «هرشميت» تدور الدوائر، المثل بالمثل في هذه الأيام السوداء، سن بسن، وجمجمة بجمجمة، فإليك أهديها، أعيدها إلى ألماني كريم الأخلاق، وهذه الجريدة طالعها فإنك على ما ظهر لي ممن يعرفون الحقيقة ويحبونها، في جانب الله كانت أو في جانب الشيطان.
نعم «جوهان شميت» يحب الحقيقة ويعرفها إن كانت لابسة خوذة ألمانية أو قبعة إنجليزية، فقد طالع هذه الجريدة الصغيرة وخطت يده هذه الأسطر على هامشها قبل أن قبضت على المسدس الذي خلصه من جهنم هذه الحرب. ولا يظن أحد أني هربت من واجبي أو أني جبان، أنا قبطان «الغواصة»
100-U
خمسين مركبا من مراكب العدو أغرقتها في شهر واحد، فما بقي إلا مركبي أغرقه ودماغي أبعثره، وأنا في عملي الآن أخدم ألمانيا العتيدة، بل أخدم الإنسانية التي ستقيم في الأمم سيادة علوية جديدة.
قبطان الغواصة
جوهان شميت
هذه قصة الجريدة التي لقيناها على شاطئ البحر المتوسط في إسبانيا، وفيها قصة القبطان الألماني الشجاع، الكريم الأخلاق، أما المقالة الرئيسية فيها فهذا عنوانها كاملا: «على الأرض السلام» «ورصاصة مسك الختام» «لام.»
ومغزى المقالة هو أن كاتبها الذي يتمنى أن تنتهي هذه الحرب بل يصيح بالأمم المتطاحنة صيحة إنسان عاقل مجرد من الغايات السياسية والجنسية والشخصية يطلب من الدول باسم الإنسانية المصلوبة والشعوب المنكوبة أن تقرر أمر الحرب بالتصويت العام لا في الاجتماعات السرية في النظارات الحربية والخارجية . فلو سئل كل امرئ في الأمم المتحاربة اليوم ما إذا كان يريد أن تستمر الحرب أو تنتهي بمهادنة يتبعها صلح عام لأجاب قائلا: لتنته الحرب، ليستتب السلام، وكاتب المقالة وزير من الوزراء أدار شئون الحرب في نظارته سنتين ثم اعتزل السياسة.
أما عنوان المقالة ففيه غموض بل نكتة يعسر علينا بادئ بدء فهمها، ولكننا بعد أن تصفحنا الجريدة كلها وجدنا أن محرريها متفقون بإلقاء مسئولية هذه الحرب على رجل واحد في أوروبا، وهذا الرجل يدعى: «وليم هوهنزولرن.» وهم متفقون أيضا في أن جزاء العمل من مثله، ولكن من يقتل الملايين من الناس أو يسبب قتلهم يمسي خارج الشرائع العادية، الطبيعية منها والاجتماعية، فما معنى إذن «ورصاصة مسك الختام، لام؟» ليست «اللام» اسم الكاتب ولا هي عبارة مختزلة غامضة من مثل ما يفتتح بها المحرر أكثر مقالاته وآياته، وإنما هي لام بسيطة أي «ل» الجر أو الوصل، وغموضها ينجلي في عبارة صريحة نقتطفها من الجريدة، وهاكها:
حرية الفكر في العالم اليوم مقيدة، لذلك نلجأ في الأحايين إلى الألغاز، وقراؤنا الألباء يكتفون بأول حرف من الكلمة أو بأول برعم من الفكرة.
هذا مفهوم، و«مسك الختام رصاصة» مفهوم أيضا، ولكن رصاصة لمن ل «وليم هوهنزولرن» ولا ريب. وكاتب المقالة يقترح أن تهدى الرصاصة إليه يتصرف بها كيف شاء، ومن رأي أحد قراء تلك الجريدة أن يقرر ذلك في مؤتمر السلم وأن يستحضر ممثلو الأمم في المؤتمر بربريا من برابرة إفريقيا ليحمل الرصاصة إلى «وليم» المذكور. وهذا حكم الإنسانية على عدو الإنسانية، ونقتطف أيضا من جريدة الأبوقلبس مما يتعلق بالموضوع ويجلي غوامضه ما يلي:
المجرمون الصغار تقاصهم الحكومة، والمجرمون الكبار يقاصهم الله، وما لمن ينكره من هؤلاء حتى الله، ويأبى أن يدنس ناموسه به، إلا زبانية الجحيم يناديهم قائلا: قاتل نفسه يقرئكم السلام.
وإلى قراء العربية بعض آيات باهرات من جريدة الأبوقلبس:
لس عود،
1
ورب الوجود، للبشر عدو لدود، رأسه الجنود، والطبول والبنود، ومعامل البارود.
لحل
2
ورب الفكر والعمل، لا تقطع الأمل، ولا تكن من المتعصبين، للوطنية أو للدين، الحروب وكروبها، على الملوك والسياسيين ذنوبها. •••
سنح
3
والمقيد ما فلح، عقل الأمم اليوم في صحافتها والصحافة في القيود، تمجد البنود، وتكثر السجود، لرب القرود، المقدس الحدود، ارفعوا الأبيض من البنود، أو الأحمر وكسروا القيود. •••
الحقيقة المصلوبة تناجي ربها، وتستعيذ ممن يدعون حبها. •••
سنح، ومن فلح، لا تنتهي هذه الحرب حتى تشترك بها كل الأمم، فسارعي أيتها الأمم إلى السلاح، على جارتك أشهريها لذنب أو لغير ذنب ليشبع البشر من الحرب، ليشبعوا اليوم.
دقوا الطبول قبل أن تكسروها، ارفعوا البنود قبل أن تمزقوها، الوطنية اليوم - أيها المجانين - والإنسانية غدا. •••
لسبيم
4
والرب الكريم، وزبانية الجحيم، كان للبشر في ما مضى من الزمان ثلاثة أعداء: الجهل، والنعرة الدينية، ورؤساء الدين. وللبشر اليوم ثلاثة أعداء: الجهل، والنعرة الوطنية، والجرائد.
وقاف
5
وسورة الأحقاف، ورب الأحلاف، التعصب الوطني مثل التعصب الديني. لكل أجل.
الصحافة المضللة مثل رؤساء الدين المضللين. لكل أجل.
السيادة العسكرية مثل السيادة الخرافية. لكل أجل.
وليم هوهنزولرن مثل نقولا رومانوف وعبد الحميد. لكل أجل.
والاشتراكية الكاذبة مثل الأديان الكاذبة. لكل أجل.
الباسيفيست الأعمى مثل الجندي الأعمى. لكل أجل.
حكم الفوضى مثل الحكم المطلق. لكل أجل.
أدعياء الحرية مثل أدعياء الدين. لكل أجل.
صياح الزعماء مثل تمويه الوزراء. لكل أجل.
سفسطة المتكلمين مثل تفوق المتوحشين، لكل أجل.
الشعوب المظلومة باسم الوطن مثل الشعوب المظلومة باسم السلطة المطلقة. لكل أجل.
جشع المتمولين مثل نفاق الاشتراكيين. لكل أجل.
من يغتنون اليوم من معامل المدافع والقنابل مثل الجياع والمرضى في البلدان المنكوبة. لكل أجل.
وقبل أن ينقضي أجلهم كلهم عبثا ننادي: على الأرض السلام، على الأرض السلام!
لس عود، ورب الوجود، لسنا من المقيدين إلا بالإنسانية ولسنا من الساجدين إلا لرب البشر. •••
عدو البشر العنيد، اضربه بالحديد، وهات جمجمته، نزين بها قصر السلم الجديد.
شبلي الشميل
في الشرق نوع من النبوغ قلما يدرك الشرق كنهه، وفي الشرقيين خاصة صفة من آل العلم والعرفان قلما يقدره حق قدره، مثل منه رجل قد تقل تآليفه وتكثر نفحاته، يرسل نفسه نورا في الناس عملا لا كتابة، فكرا لا قولا، يتشرب ما يوحى إليه مثلما تتشرب الأزهار النور والندى ومثل الأزهار يبثه عفوا أريجا طيبا، حياته الدنيا نبراس يستضيء به الناس. وجوده أينما حل منهل عذب يرده الأدباء عشاق الحرية والحقيقة والكمال، كلمته المقولة نبأ أثيري تتناقله دوائر الأدب وتتلقفه الألباب، كلمته المكتوبة حجة على الباطل وضربة على الضلال قاضية. قد لا يعمل بذاته عملا خطيرا ولكنه يستنهض للأعمال الخطيرة أنفسا آن فيها النبوغ، قد لا يؤلف كتابا خالدا ولكنه يوحي إلى غيره خالد الآراء والآيات، يوقف حياته لا للشهرة والمجد، ولا للثروة والسيادة، بل لخدمة الحقيقة، وخدمة الأمة، وخدمة العلم والأدب في الاثنتين، يكبر أعمال الناس مهما صغرت إذا كان فيها ذرة من الحق، ويستصغرها مهما كبرت إذا كان فيها ذرة من الباطل، عقله شمس مشعشعة لا ليل يحجبها، ضميره بستان زاهر ربيعه لا يزول.
مثل هذا الرجل إرث روحي يستثمره الناس دون أن يضجوا باسمه، مثل هذا الرجل دائرة نور تضيء، فتشعشع فتتسع، فتتفكك فتولد دوائر أخرى نيرة في قلوب الشعوب الدانية والقاصية، نفس هذا الرجل حلقة رقي دائم تربط جيلا بجيل وأمة بأمة، وما موته - إذا فقهنا سر النبوغ - غير مظهر من مظاهر حياته.
مثل هذا الرجل يندر في المغرب على رقيه ونهوضه، ولا يندر في المشرق على خموله وجموده، نوابغ الغرب ينشئون في وسط تعددت طبوله وزموره، ونوابغ الشرق يقنعون بما يكتنفهم من سكون وإهمال، وقد تكون هذه الحالة في عين الحكيم خيرا من تلك وأجمل.
شبلي شميل ممن وصفت.
شبلي شميل خير مثال لهذا النوع من النبوغ في الشرق، فيحق للأمة العربية أن ترثيه ويغتفر لها الإطراء في الرثاء، تعودنا نحن العرب الغلو في تعداد فضائل الميت كما تعودنا إهمالها في حياته، وقد لا نكون مسئولين في الحالين وشأننا في تقاليدنا معروف.
كاتب هذه الكلمة واحد من الألوف الذين اتصلت بأنفسهم شعلة من نفس الشميل فأضرمتها غيرة على الحق، وشوقا إلى الحرية، ولو برهة من الزمان، وهي كلمة وجيزة، والشميل يستحق كتابا سيكتبه - إن شاء الله - من هو أهل لذلك.
قد تكون هذه الكلمة خالية من الرثاء ولكنها لا تخلو من الإطراء، ولا غرو وكاتبها من محبي الشميل ومريديه، ولكن بدل أن نبكي الرجل يجب أن نسر - كأمة - ونفتخر أنه نبغ في الشرق، وأن موته - كما قلت - إن هو إلا مظهر من مظاهر حياته.
مات شبلي شميل ثابتا - لا شك - في اعتقاده أو في عدم اعتقاده، وأمره والآخرة وربه، ولا ريب عندي أنه سيكون من المقربين إذا آمنا بما أنزل في الكتب المقدسة، بل إني على يقين أنه أسعد في حاله اليوم - ولا عدمية لمن كان مصباح هدى في الناس - مما كان بالأمس. من محاسن شبلي شميل أنه ثبت في مبادئه حتى آخر أيامه، فقد كان أول من نشر مبدأ النشوء والارتقاء في الأمة العربية، وظل متمسكا به حرفا وروحا بين أن أشياعه الأولين في أوروبا تدرجوا منه إلى مبادئ أخرى لا سبيل الآن إلى ذكرها.
ومهما كان من أمر فيلسوفنا في هذا الصدد فإن إخلاصه باهر، وتجرده ظاهر، كافرا عد أو مؤمنا وإن ما ندعوه كفرا أو زندقة أمسى زيا عند الأدباء يتحلون به في شبابهم وينبذونه غالبا إذ يتجاوزون سن الأربعين، وعذرهم في ذلك أن الخبر والزمان يعلمان المرء ما لا تعلمه الكتب. قد يصح ذلك، ولكن الحماسة من مزايا الشباب الجميل، والحقيقة تألف الحماسة وتهواها.
وعندي أن النبوغ الحقيقي هو ما تدوم فيه تشويقات الشباب وحماس الشباب، وفيلسوفنا الشميل ظل شابا في اعتقاده، شابا في مبادئه، شابا حتى آخر أيامه في حماسه. ومن الحقائق الراهنة أن المرء إذا لم يكن ذا شأن في الهيئة الاجتماعية يذكر يكن غالبا جريئا في رأيه، جريئا في الجهر باعتقاده، وأما إذا طمع بأشياء الدنيا، أو حاز مقاما بين الناس، أو أمسى ذا ثروة أو سيادة؛ تستولي التقية على علمه وأدبه، فيلطف من شدة لهجته ويجعل المداراة رأس سلوكه، وهذا ما لا يصح أن يقال في شبلي شميل.
لو طلب هذا النابغة السوري سيادة لجاءته صاغرة، لو طمع بأشياء الدنيا لنال منها كثيرا وأصبح ثريا عبقريا في قومه، ولكن سيادة العلم فوق كل سلطان، وشبلي شميل ألبس هذه السيادة لباس العفة والنزاهة، ولم يسئ إليها يوما بشيء من التذبذب أو المجاملة أو المداراة. خذ كلمة من كلماته في شيخوخته تظنها كتبت في شبابه، وفي حملاته على الظلم والظالمين، كما في مباحثه الاجتماعية والعلمية، كان التجرد والإخلاص من عوامل نفسه الحية أبدا القوية.
أجل، إن من أجمل ما فيه استهتاره في سبيل الحق والحقيقة، تمشى في الأرض سامد الرأس، عالي الهمة، أبي النفس، طاهر الذيل، مضطرم الفؤاد، بعيد النظر، صلب العود، شديد اللهجة، لا يدنو إلا من الفضل في الناس، ولا يلين لغير الحق في أعمال الناس.
رفع لواء التمرد على طغاة الزمان وأرباب الضلال والبهتان مذ دخل ميدان الفكر والعلم ولم يخفضه يوما في حياته، ولواؤه لواؤنا، حمله وحده بالأمس وستحمله الأمة - أمتنا - غدا. إن هذا السوري الكبير سئم مما في الأمة الشرقية من جهل وخمول، وجمود وسبات، فصرخ فيها صرخة مستنهض دوت في العالم العربي قاطبة، وسيردد صدادها كل أديب حر مسلما كان أو مسيحيا، وماذا يهم إذا كفروه وهو من مصابيح الأجيال المقبلة؟
قلت إن من رجال العلم والعرفان في الشرق من يبث روحه قولا وفعلا أكثر منه خطا ونشرا، ومع أن تآليف الشميل وحدها كافية لأن تجعل له مقاما ساميا عزيزا في الأمة العربية ففي حياته الفردية من المآثر ما يماثلها إن لم نقل يفوقها فائدة وفضلا، وعسى أن يفي هذا الباب من سيرة حياة فيلسوفنا الكبير من يباشر غدا تآليفها، فقد كان ولم يزل له سيادة على العقول غير السيادة التي تولدها التآليف، وقد كان ولم يزل له منزله في القلوب غير التي يحرزها النبوغ. شبلي شميل غرس طاهر غرسه الله في الناشئة العربية الجديدة، وسينمو بعد موته أكثر من نموه في حياته.
جرجي ديمتري سرسق
دفنت في الترب ولو أنصفوا
ما كنت إلا في صميم الفؤاد
على ضريحك أزهار من جنات الحب والبر جميلة، وفوق جثمانك نور من أنوار الله المقدسة الجليلة، وحولك قلوب تحترق اليوم بخورا فيتصاعد إلى السماء أمامك ويضمخ أعلاما أنارت لياليك وأيامك، كنت في الأمس للناس زعيما فأصبحت اليوم لربك كليما، قربك منه تعالى جهاد في سبيل الحق والبر والحرية، يندر مثله في بلادنا السورية.
أيها السادة
عاش فقيدنا حرا لا يعرف إلا الواجب سيدا، ومات حرا لا يعرف غير الله عميدا، عاش شريفا صادقا أبيا، ومات شريفا صادقا أبيا، عاش شجاعا ومات شجاعا؛ فقد رأيناه يبش لأصحابه ويحدثهم ضاحكا حتى في الساعة الأخيرة الرهيبة، وقد سمعناه في اليوم الأخير من حياته الدنيا يقول لطبيبه: يا حكيم في مكتبتي رسائل عديدة ينبغي النظر بها فقم أنت فيها مقامي.
وليست الرسائل هذه من أشغاله الرسمية بل هي مما كان يتوارد عليه دائما من المظلومين والبائسين، من اللاجئين إلى رحمة في فؤاده جمة، وعدل في صدره عميم، وأريحية لا تعرف التجهيم، أجل فقد كان قلبه بحرا تجري إليه أنهر من هموم الناس وشئونهم، وما رد يوما سائلا، وما كان إلى غير الحق والعدل مائلا.
فيا له من خطب جلل أفقدنا رجلا حقا قديرا، وصديقا صدوقا غيورا، وعاملا في سبيل الحق عزوما جسورا، وأميرا من أمراء الإحسان كبيرا، وفيلسوفا في الشدائد صبورا شكورا. وإن خسارة آله فيه وأصحابه لجزء من خسارة الأمة والوطن، فلتبكه الأمة وليبكه الوطن.
كلنا نعلم أن جرجي ديمتري سرسق لم يكن في سبيل الإنسانية قوالا، بل كان فعالا، لا يمل العمل، كان جنديا لا يسكره الفوز، ولا يقعده الفشل، كان من الزعماء المجاهدين الذين تكسبهم النزاهة والإخلاص احترام الناس أجمعين، الأصدقاء منهم والأعداء. كان خصما أديبا حليما شريفا، ولم يكن كخصومه حقودا لدودا عنيفا، وقد نال في طريقته هذه القويمة الجميلة ما يعجز دونه أصحاب المكايد والدسائس والأضاليل، وقد أخبرني مرة أنه رافق القنصل يوما في زيارة إلى أحد المعاهد العلمية في الثغر، فلما رآه رئيس ذلك المعهد بادره قائلا: لسنا على ما أرجو بأعداء. فأجابه فقيدنا العزيز: لا أعرف غير الضلال عدوا.
إذا كانت هذه منزلته عند الخصوم فماذا عساها تكون عند الأنصار والأصحاب، حبذا الرجال مثله وحبذا الزعماء، وحبذا الأصدقاء - أصدقاء الإنسانية والأدب، أنصار المبادئ الشريفة الحرة السامية.
فلو جاء اليوم من أحبوه واحترموه وأكبروه كل بزهرة واحدة إلى ضريحه لبات فقيدنا وحوله ربى من الأزهار جميلة.
ولو رفع إلى الله الدعاء له كل من أحسن إليه لملأت كلمات الدعاء أرجاء السماء.
ومهما كان القبر - أيها السادة - مقرا أبديا أو جادة إلهية فإن فقيدنا لممن يقدسون القبور وينيرونها.
ومهما كانت عقيدة المرء الدينية أو العقلية في هذه العاجلة الفانية، فإن تقديسه الواجب، وتفانيه في سبيله المجيد، ليجعلانه من الأتقياء الأطهار، والمقربين الأبرار، ولا خوف على هؤلاء في الآخرة ولا هم يحزنون.
الترقيع في العمل
أبناء وطني
يصح في زحلة قول الشاعر:
وأستكبر الأخبار قبل لقائها
فلما التقينا صغر الخبر الخبر
قد أحببت هذه المدينة وأحببت أهلها يوم لم أكن أعرف من وطني سوى اسمه، يوم كنت في الولايات المتحدة، وعندما عدت إلى سوريا كانت أول رغباتي أن أزورها فجئتها ماشيا من الفريكة ونسيت مشقة السفر ساعة أشرقت عليها من بين الكروم فتذكرت إذ ذاك ما كان يقوله أصحابي في نيويورك وقلت صدقوا والله، زحلة عروس مزينة! فإن منظر مدينتكم من أي من هذه المشارف حولها لمن أبهج المناظر التي شاهدتها في لبنان.
وقفت بين الكروم على تلك الربوة الجميلة وحييت المدينة التي هي مسقط رأس أعز أصدقائي في الغربة، وحييت فيها بواسق الحور الناطقة بلسان حال رجالها، وروافه الصفصاف الناطقة بلسان حال نسائها، ولجين البردوني الجاري في حياة أبنائها، وقفت متأملا هذه المدينة المختبئة بين الجبال كلؤلؤة بين الصخور، أو كزنبقة بين الأدغال ورددت قول الشاعر الإنكليزي:
كم زهرة وسط الآفاق عابقة
وحسنها غير منظور من البشر
ولكن شذا زحلة كشذا تحيات صديقي المعري في رسائله إذا مر في الصحراء عطر منها شواسع الأرجاء، شذا زحلة وفيه مزيج من البخور الذي كان يحرق بالأمس على مذبح الخرافى فصار يحرق اليوم على مذبح العلم كان يحرق بالأمس أمام أصحاب السيادة فصار يحرق اليوم أمام الشعب والوطن، كيف لا وفي مثل هذه الحفلات ينور عقل الأمة، ومنها ينبعث طيب التهذيب والعرفان. كيف لا وفي هذه الحفلة دليل واضح على أن كهنة الله الحقيقيين يخرجون من معسكر الجهل والاستبداد لينصروا أبناء النور على أسياد الظلمة.
تسرني بل تبهجني مظاهر الحياة الجديدة المتجسدة في نهضاتنا الوطنية ومساعينا الأدبية، ولكنني لا أستحسن تعدد المقاصد والمسالك فيها، فلو أن الجمعيات في البلاد عملت كلها شهرا واحدا فقط لغرض وطني واحد لكنا في أسابيع قليلة نصل على نتيجة لا توصلنا إليها السنون الطوال، لو فكرنا كلنا في وقت واحد في أمر واحد وعقدنا الأواصر عليه ووطنا النفس إلا نذره قبل أن نحل العقدة فيه أو نقطعها؛ لكنا نصل إلى شيء حسي جميل في مشاريعنا ومساعينا.
ولكن الذين يدينون بدين الله دون واسطة سماسرة الدين، ويجلون الحرية والوطن دون أن يقدسوا الأحزاب والجمعيات، لم يزل صوتهم متضعضعا وكلمتهم لم تزل متشتتة، ولا أقول إن عددهم قليل؛ لأن صوتهم لو كان واحدا وقلبهم واحدا، في ظل الأرز أو حول الشاغور، أو في وادي الفريكة، كما هو في زحلة لكانوا - على قلة عددهم - يأتون بما لا تستطيعه الأحزاب اللبنانية كلها من الأعمال الوطنية التي لا يشوبها التحيز الديني، ولا يفسدها التغرض السياسي أو الشخصي، نعم نحن في حاجة إلى جامعة لبنانية تهذيبية تؤسس في الجبل المدارس الوطنية الحرة، وتنير فيه المنابر الأدبية الحرة، نحن في حاجة إلى جامعة لبنانية من هذا الشكل تبعد عن المصلحين وإصلاحهم والمرقعين وترقيعهم، وتباشر تأسيس معاهد جديدة لحياتنا الاجتماعية الجديدة، المدارس الحرة والمنابر الحرة هي التي تشعل مصابيح العلم والتهذيب في الشبيبة وفي الشعب؛ لأن مثل هذه الحفلات هي - والحق يقال - مدارس الأمة العالية، مدارس الرجال والنساء.
لكني أرى أن الأمة لم تزل بعيدة عنها على ما في البلاد من الإقبال عليها، لم يزل بين المجموع العظيم الذي هو الشعب وبين صوتنا جدار هائل مظلم شيدته الأجيال وقدسته السيادة، ولم نزل إذا شرعنا نعمل عملا أدبيا كان أو سياسيا نباشره ونحن واقفون في ظل الجدار الشامخ فيتلاشى أمامه شيء كثير من قوانا. لذلك أرتئي أن نبعد قليلا قبل أن نرفع صوتنا؛ فيصل - إذ ذاك - صداه إلى ما وراء سد الجهل المنيع. ومعلوم أن في الحرب لا تطلق العساكر نارها على قلع العدو إلا من مسافة معلومة، لنخرج إذا من هذا الظل المهلك قبل أن نرفع صوتنا، والذين يقيمون هناك ويصيحون كمن يقف في سفح جبل صنين من جهة البحر وينادي من هناك الزحليين.
فمن لا يستطيع أن يصعد في الجبل إذا ليصل إلى ذروته عليه أن يدور حوله أن يبعد عنه، ثقوا يا أسيادي أن الصوت الذي يجب أن تسمعه الأمة عاجلا أو آجلا وتنقاد له إنما هو صوت من كانت حنجرته سليمة وصدره خاليا من جراثيم أمراض هذا الزمان، من حب الشهوة وحب السيادة وحب المال ومحبة الذات الخبيثة، أما المصدورون والمعتلة حناجرهم فكلما صيحوا دنا أجلهم، دعوهم إذا يصيحون وهم لتماثيلهم عاكفون، وفي الظلمة إلى حاجاتهم يحلجون، إن الله عالم بما يفعلون، دعوهم يصيحون ويحرجون ويحرفون ويحرمون، ولكنني أنصح لكم أن تخرجوا من مستنقعاتهم القتالة ومن ظل صداقتهم المهلكة، اخرجوا فإن الله مع الخارجين، صعدوا في جبال الحقيقة فإن الله مع المصعدين.
الكلمة المفيدة أحب إلينا أن تحفظوها دون أن تصفقوا لها استحسانا من أن تستحسنوها ضاجين وتنبذوها بعد ذلك غير مكترثين. الكلمة المفيدة وإن خرجت من فم الجمال ينبغي أن نزرعها في قلبنا لتثمر في أعمالنا، ولكننا لم نزل نطرب للقول ونحجم عن العمل.
كنا في الدور الماضي لا نسمع من الأمة سوى صدى التأوهات والأنين، فجاء الدستور ينشدنا شيئا من نشيد الوطن الذي لم ينظم كله بعد لينسينا آلامنا ويرينا بوارق آمالنا، ولكننا لم نزل في ما كنا عليه من الصخب والفوضى فلا نسمع من نشيد الوطنية إلا الوقفات المحزنة، والصيحات المزعجة، وبدل أن نقف قليلا ونسكت لنسمع ونستفيد، لنفكر في ما نحن فيه وفي ما نحن إليه سائرون، لم يزل كل منا يغني على ليلاه ويستر برقعة من ثوب الحرية عراه.
نعم ترانا نمزق ثوب الوطن لنرقع ثوب الأحزاب، نمزق ثوب الحقيقة لنرفع ثوب الدين، ومهما تعددت مساعينا الوطنية ومشاريع حكومتنا الإصلاحية فإن هي إلا من باب الترقيع والتجبير، لنرقع نظام لبنان، لنجبر رجل لبنان، لنصلح مدارس لبنان. وربي صرت أكره لفظة الإصلاح بقدر ما كنت أرددها في الماضي؛ ذلك لأنني أكره الترقيع في الأمور، وأصبحت أعتقد أن القديم البالي الذي لا يمكن نبذه - إن كان في الرجال أو في المبادئ - لا يمكن إصلاحه. نظام لبنان، اطبخوا لنا على ناره طبخة من العدس فنشكركم، رجل لبنان المكسورة، اقطعوها قبل أن ينخر السوس في كل العظام، رجل من خشب خير منها، مدارس لبنان أقفلوها فتصلحوها، خير للشعب أن يبقى أميا من أن يسقى من الجهل والذلة والتدين ما يكفي ليقتل أعظم أمة في العالم.
الذي لا يمكن نبذه في مثل حالنا لا يمكن إصلاحه، والعكس بالعكس، فكروا قليلا في هذه الحقيقة؛ فإنها تنطبق على أمور وشئون كثيرة في الحياة. إن كلفنا الزائد في الأشياء يجعلنا عبيدا لها، ومهما صار من أمر فسادها وإفسادها لا نستطيع نبذها ولا إصلاحها، وإن انقيادها الأعمى للرجال لا يمكننا من نبذهم عندما نشعر بضرهم، ولكن إذا هم عرفوا أننا قادرون على ذلك إن لم يعدلوا ويستقيموا، فلا تشغلنا بعدئذ مسألة إصلاحهم.
وبكلمة أخرى: خادم في بيتك إذا كنت لا تستطيع طرده عندما يستحق الطرد فلا تستطيع إصلاحه عندما يتهامل في واجباته، كنيستك التي هي بيت الله إذا كنت لا تقدر أن تستغني عنها عندما تصير بيت باعال فلا تستطيع إصلاحها. ابنك الضال إذا استأنس منك ضعفا في واجباتك الأبوية يستبد في أمره ويستمر في غيه. فكم بالحري كاهنك أو حاكمك أو شيخك أو أميرك أو معلم مدرستك، القوة الاحتياطية إذا إن كان في الأمور المالية أو الأمور الأدبية والاجتماعية؛ هي ألزم من القوة المستخدمة، فهي التي تحفظ استقلالنا وشرفنا، وتعزز حرية عقلنا ونفسنا، تجاه من هم فوقنا ومن هم دوننا.
أما الترقيع في الأمور فهو عين الكذب والخداع؛ إذ نكذب بالرقعة على أنفسنا ونخدع بها الناس، وعندي أن ثوبا باليا خير من ثوب مرقع، وشحاذا من شحاذي أرمينيا خير من الشحاذين الذين يوهمون الناس أنهم من المحسنين؛ لأن الأول صادق في ظاهره وباطنه والثاني كاذب في الاثنين، الأول تعرفه إذ تراه والثاني يخدعك وجهه وقفاه، ولكنك لا تستطيع أن تخدع الناس إلى الأبد أيها الشحاذ المحسن، غدا ينكشف أمرك، فينكرك المحسنون الحقيقيون، وينكرك كذلك الشحاذون، أجل سادتي إن كان ثوبي مرقعا، أو عقيدتي مرقعة، لا بد أن تأتي ساعة أنسى فيها نفسي، فيزول انتباهي، فتبدو ذلتي.
من أسر على سريرة ألبسه الله رداءها، فهل تظن يا صديقي أنك تستطيع أن تستر ترقيع حبك إلى الأبد، أتظن أيها المحترم «المتجزوت» أن رقاع دينك تخفى على الله؟ أتظن يا صاحب السعادة والتجلة والكرامة أنك تستطيع أن تستر رقاع سياستك طول حياتك؟ ألا تظنون يا أسيادي أن النفس تشعر بهذا العار الذي نلحقه بها حبا بدنيانا، حبا بكل زائل تافه في الحياة، حبا بالمال أو بالشهرة أو بالسيادة أو بالوجاهة الفارغة؟ نعم إن ساعة يكشف الله فيها عما في ثوب نفسنا من رقاع الجبن والذل والكذب من رقاع التمويه والرياء والنفاق؛ لأشد الساعات ويلا، فنود لو كنا عراة من أن نقف في نور الحقيقة بأطمار مرقعة.
إن بليتنا يا أصحابي ليست من الإكليروس فقط بل من أصحاب الوجاهة فينا أيضا، من ذوات لبنان أصحاب التجلة والكرامة؛ فهم لا يتقدمون ولا يفسحون لغيرهم فيتقدم، هم لا يعملون عملا واحدا مجردا من أجل الوطن، ولا يدعون غيرهم أن يعمل مقدار ذرة. هم واقفون في وجه الشعب ولم يزالوا يفسدون في كرمه الجديد، لم يزالوا يتداخلون في شئون الحكومة، ويحاولون الضغط على المأمورين.
مشايخ القرى وقسوس القرى وأغنياء البلاد، احبسوا خمسة أو ستة منهم بدل أن تحبسوا المجرمين الصغار فتستحقون إذ ذاك شكر الأمة، أغنياء الجبل امنعوهم من التدخل في شئون الحكومة فنشعر حالا بتحسين في حالنا. يزول إذا ذاك الكابوس عن صدرنا، نتنفس إذ ذاك الصعداء. قد حان لنا أن نقلع عن الترقيع ونقدم ولو على عمل واحد كبير. وإذا كنا لا نستطيع نبذ أطمارنا المرقعة لننزع منها الرقاع على الأقل، دعونا نقف يوما واحدا أمام الله في حقيقة حالنا لا في حال التمويه والادعاء والوهم والخداع.
إن لبنان في الدور الماضي كان أحسن في نظري مما هو اليوم؛ لأن حالته وإن كانت سيئة كانت حقيقية، كان واقفا أمام الله والناس بخلق أطماره، كنا نعرف عبيد بكركي من عبيد الحكومة، كنا نعرف الرجل الحر الصادق إذا شاهدناه بين الألوف من الناس، ومن أين لنا أن نعرفه اليوم وبياع البصل أصبح من الأحرار فصار يجتمع وسيده الأمير في ناد واحد؟ لا يا سيدي عبثا ترقعون أطمار شيخنا المسكين، وعبثا تدهنون رجله المشلولة بزيت الجمعيات، فإن هذا الزيت الذي نفاخر به اليوم لا يفرق كثيرا عن زيت مار دومط، والحق يقال إن الجمعيات في البلاد لا تستطيع أن تعمل عملا كبيرا مفيدا إلا إذا اتحدت كلها تحت رئاسة رجل واحد، وعملت كلها ولو شهرا واحدا - كما قلت - لغرض وطني واحد. فالنهضة الوطنية وإن كان وراءها مال البلاد كله، وخيرة رجال الوطن كلهم؛ لا تصل إلى غايتها، ولا تفلح بمسعاها، إن لم يكن لها زعيم عظيم، إن لم يكن في طليعة أبطالها قائد قوي، تقي، ذو بصيرة وجرأة وضمير وإقدام.
روح الثورة1
أيها السادة والسيدات
كنت منذ أسبوعين في الكورة فتحققت ما طالما سمعناه بطرق الانتخابات في لبنان وبالأخص في ذاك القضاء، حدثت الوجيه هناك والكاهن والفلاح فأدهشني من الكل جهرهم بما هم فيه من المفاسد السياسية جهرا لا يقيده أدب ولا حياء.
يرشون ويرتشون ولا يخشون أمرا، بل يفاخر الفريق منهم أن زعيمهم يبذل الأموال الطائلة في سبيل انتخابه ويضربون الأمثال تزكية واستبراء. وما سمعنا قبل اليوم بقوم يقترفون المآثم المدنية ويبرئون أنفسهم بالأمثال السائرة. حدثت كاهنا في إحدى القرى فقال مجيزا أعمال المرشحين: «اللي بدو يعمل جمال لازم يعلي باب داره.» وحدثت فلاحا فقال مدافعا عن صاحبه: «زعيمنا رجل الشعب، ومحبوب من الشعب، زعيمنا عدو المشايخ.»
فقلت: «ولكني سمعت أن بلغ من أمر زعيمكم أنه اشترى المندوب من الشعب بخمسين ليرة.» - وأكثر يا سيدي. - وأنه بذل ثلاثة آلاف ليرة في انتخابه. - وأكثر يا سيدي. - وقد قلت لي: إن الشعب يحبه كثيرا وينصره. - هذا مؤكد يا سيدي. - فيا للعجب إذا كان الشعب يحبه وينصره وقد كلفه إلى بذل ثلاثة آلاف ليرة، فكم يضطر المرشح المسكين أن يبذل من المال يا ترى لو كان الشعب يبغضه ويناهضه؟ - أوه، شيء كثير، شيء كثير.
قال هذا وهو يلف سيكارته ولم يبال بما قال، كأن الرشوة عنده مثل فلاحة الأرض أمر لازم لا بد منه.
ثم سألته قائلا: ألا تعلم يا رجل أن الرشوة ذنب قصاصه الحبس؟
فأجاب الفلاح الذكي: «على رأسي يا سيدي، ولكن فرجيني الحبس بالأول والحكومة اللي بتقدر تحبسني.»
فقلت في نفسي كأن هذا الفلاح قرأ السياسة على أستاذ أوروبي، الحق للقوة، إن كان في برلين أو في الكوره، ولئن أحزنني استهتاره وتحجر ضميره فقد سرني منه طعنه الحكومة اللبنانية هذه الطعنة النجلاء. ولم أتمالك أن سألته سؤالا آخر، وكان قد عمد إلى محراسه ليستأنف عمله، فقلت: إذا كنت لا تنصر زعيمك الذي تحبه كثيرا إلا إذا رشاك فما الفضل في حبك؟
فأجاب على الفور: «هذا كلام يا سيدي، لما بيصير في فلوس ما بيعود في حب.»
وكبس على السكة برجله، ووكز الفدان بمساسه، ترح هه! وعاد إلى فلاحة أرضه.
أيتها الأرض المباركة! ليت قلوب أبنائك كقلبك حية محيية، وليت ضمائر أبنائك كضميرك الذي لم يزل - والحمد لله - طيبا متنبها متيقظا، نعطيه الحبة فيعيدها إلينا عشرين حبة وخمسين.
ولكن في الكوره فضيلة جميلة غير فضيلة الأرض لا ينبغي أن أغفل ذكرها: الكوره، على ما فيها من جهل وطغي وفساد، ترفع اليوم علم التعليم الوطني الحر في لبنان، هناك إلى جنب المفسدات السياسية عثرت على شيء من دواء أمراضنا الاجتماعية والأدبية، إذا أحسن استعماله كان الدواء الشافي لها كلها. عرجت في عودتي على أنفه وزرت تلك الزاوية الصغيرة المقدسة فيها، القائمة فوق الصخور، على شاطئ البحر، حيث تزرع اليوم آمال الأمة في الناشئة الجديدة. هناك حسنة من حسنات التعليم لم أر مثلها في لبنان، مدرسة لا طائفية ولا إكليريكية ولا أجنبية، مدرسة وطنية صغيرة في ظاهرها، كبيرة في مقاصدها، يؤمها البنات والصبيان من سائر الطوائف والملل ويتلقنون فيها تحت سقف واحد مبادئ الإخاء الحقيقي، والعلم الصحيح، والحرية الصافية، وحب الوطن المقدس، يتشربون فيها روح الألفة وروح المعرفة معا.
لست يا سادتي بماسوني، ولكن مدرسة صديقي جبران المكاري، وإن كنت لا أستحسن بعض الجزئيات في طرق التعليم فيها، إنما هي من طلائع الكلية اللادينية الوطنية الحرة التي ننشدها، والتي يتوقف عليها وعلى أمثالها إحياء المبادئ الشريفة في هذه الأمة، بل إحياء روحها الوطنية المائتة، وبعث ما دفن من آمالنا، نحن الأحياء القلائل، نحن أبناؤها المبشرين ببعث مجدها، المرشدين إلى سبل الهداية فيها.
هناك فوق تلك الصخور على شاطئ البحر شاهدت طلائع ثورة في التعليم نبهتني إلى موضوعي الليلة، ولا غرو، فنحن في زمن ثوراته أكبر ما فيه، وإن لم يمسسنا الله اليوم بغير الضر منها فذلك لأن أولياء الأمر فينا لم يدركوا من مبادئها غير القشور، وأن في لبها إذا ظفرنا به لمنافع جمة وخيرا عميما، لذلك اتخذت «روح الثورة» موضوعا أحدثكم به الليلة علنا نخترق القشور فنغذي بلب الحقائق عقولا أوهنتها الترهات، ونقوي بها أنفسا أقعدها الجهل والخمول.
أيها السادة والسيدات
من فضائل أجدادنا أرباب النبابيت ما يعد اليوم رذيلة، ومن وحوش الماضي الهائلة لم يبق غير هياكل في متاحف العلم والتاريخ. ومن مواعين الأسلاف أصحاب الأناقة ما لا يصلح اليوم لبيت الفلاح، ومن أديان الأقدمين الإلهية والحيوانية لم يبق غير المتهدم من أنصابها والطامس من رموزها ورسومها، إن آلهة الإنسان لمثل مواعينه لا تصلح مدى الدهر، نشعل النار يوما أمامها، ويوما تحتها، ويوما فيها. نقدم المحرقات اليوم، ونحرق المعبودات غدا، الثابت في الحياة ثابت إلى حين، وأما الانقلاب فثابت إلى الأبد، أجل إن يدا سرية علوية تعمل أبدا في الأمور وفي الأشياء فتحولها وتغيرها وتبدل منها.
التطور سنة الحياة في الجزئيات منها والكليات، في العلوم وفي الأديان في السياسة وفي الأمم، في الطبيعة وفي الناس. خذ شيئا واحدا من أشياء الأقدمين وقابله بما نشأ منه وقام اليوم مقامه فتكاد تجهل الأصل، وتدهشك درجات التحسين فيه والارتقاء، وقفت مرة في أحد المتاحف الأوربية أمام معرض من السلاح، فرأيت أدوات الحرب والقتال كلها مصفوفة بحسب تاريخها ورقيها، أولها النبوت الشوكي الذي قطع من الغاب لقتل وحوشها، وآخرها البارودة الحديثة التي يطلق بها عشرين مرة في الدقيقة، وقد اخترعها الإنسان لقتل الإنسان، فقلت في نفسي: وفي المستقبل تمسي البارودة هذه مثل نبوت الأولين أثرا من الآثار، بيتها المتحف وبارودها الصدأ.
ولا شك عندي أننا وإن كنا ابتدأنا بالنبوت الشوكي وتدرجنا منه إلى الغواصات والطيارات الحربية سنتدرج أيضا إلى الحجة والبرهان، إلى التشريع والسلم العام. ولكن الانقلابات في زمن السلم أعظم منها في زمن الحرب، وروح الثورة حية ثابتة أبدا، روح الثورة كائنة في كل الأمم وفي كل الأماكن وفي كل الأزمنة، وهي في الناس وفي الطبيعة عاملة دائما، إما خفية وإما ظاهرة، إما هادئة وإما هائجة، إما بانية وإما هادمة.
الثورة
2
يد الانقلاب، وناموس النشوء والارتقاء روح الثورة، ولهذا الناموس الإلهي مظاهر قد تستغرب لتنوعها فيه، فهو عامل في الناس وفي الأشياء على السواء، في كل مكان وزمان، ولكن رد الفعل فيه يختلف ونتائجه تتنوع، المياه كلها واحدة أصلا، السحاب يسخن فيذوب فيسقط على الأرض ماء طهورا، ولكن مجاري المياه تختلف باختلاف التربة التي تسقط فيها، فيجري منها المالح والمعدني والقراح، فالعوامل التي تعمل خفية في الأشياء قلما يراها الإنسان، ولكنه يشاهد نتائجها التي تظهر في الأحايين فجأة فيكبرها ويدعوها ثورة وانقلابا. وما الثورة إلا سلسلة من حوادث خفية تتجسم في مظهر من مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية، الثورة شجرة جذوعها أعظم من فروعها وتربتها أقدم من سمائها. الثورة حادث خطير خمسه الأخير يظهر للعيان وأخماسه الأخرى خفية سرية. الثورة كلمة الله مجسدة في الأشياء، تجعل الجماد حيا، والحي نارا، والنار نورا، والنور حقا وعدلا ورقيا وسلاما.
كان الحديد جمادا فصار في الكور حيا، وساعة يدخل النار يبتدئ فيه تاريخ الثورة الطبيعي، وساعة يضعه الحداد على السندان ويرفع فوقه المطرقة يبتدئ فيها تاريخها العملي، فنراه بعدها حربة، أو مدفعا، أو معولا، أو سندانا. وكذلك الحجارة التي تصير كلسا، والكلس الذي يصير طينا، والطين الذي يصير جدرانا، والجدران التي تصير سجنا، والسجن الذي يصير عاملا حسيا بين الطبيعة والإنسان. كيف لا وهو الحلقة الأخيرة من سلسلة الثورة الطبيعية، والفصل الأول من تاريخ الثورة المدنية، وقس على ذلك في حوادث الاجتماع وفي مظاهر الطبيعة والأكوان.
إن الزلزال أقرب نتيجة إلينا من نتائج عناصر تحت الأرض ثائرة بعضها على بعض، وإن تفجر البراكين وتساقط الشهب وفيضان الأنهار نتائج ظاهرة حسية لسلسلة حوادث بعيدة الأسباب خفية. ولا أظن حادثا واحدا اجتماعيا أو طبيعيا أثر في تاريخ الأمم أو تاريخ الأرض تأثيرا كبيرا وكان منفردا في مفعولاته وعوامله عن بقية الحوادث أو منفصلا عن السابق واللاحق من مجاري النواميس الكلية الشاملة. في تاريخ الأرض مثلا أزمان بائدة تعرف بأزمنة الحجر والجليد والنحاس وغيرها، يفصل بعضها عن بعض حادث في الطبيعة خطير، ولكنه لا يفصلها - على ما أظن - تمام الانفصال. وإني لأجسر أن أقول - وإن كنت قصير الباع في هذا العلم - إن حوادث هذه الأزمنة سلسلة بعض حلقاتها خفية لا مفقودة، وقد أخفاها الحادث العظيم كما تخفي المرجانة في السلك مكانها. وقد يكون الحادث الخطير همزة وصل محيية لا همزة قطع مهلكة، فيحمل بذور الحياة من زمن إلى زمن، وينقل مبادئ الرقي من جيل إلى جيل.
وإن ناموسا كليا أزليا يغير في ماهية الحوادث إلى حد محدود ولا يتغير قطعا، تتفجر البراكين فتقذف بحممها خارجا فتغير تربة الأرض حولها، وقد تغير شكلها أيضا فتجعل السهول جبالا والجبال سهولا، ولكنها تقف عند هذا الحد ولا تتعداه، فلا تستطيع أن تجعل البحر أرضا أو الأرض ماء. والطوفان كالبركان لا يخرج عن ناموسه ولا يتعداه، فالمياه إذا طمت هدمت ودمرت، فتستحيل الأرض بحرا إلى حين، وقد تتغير تربتها وعمرانها، ولكن مركزها تحت الشمس لا يتغير.
والذي يصح في تاريخ الأرض والكائنات يصح في تاريخ الأمم والحكومات، فللثورة ناموس، وللناموس طريق، وللطريق منصات فيها عرائس تحمل شموعا يوقدها الله للناس وهي شموع الزعامة والهدى. والزعامة بدونها صوت ولا عين، وسيف ولا يد، والزعيم الكبير الصادق من سار إلى غرضه في نور تلك المنصات، فيحق أن يدعى - إذ ذاك - زعيم الناس ولا يجوز أن يدعى زعيم الثورة؛ ذلك لأن الثورة سنة والزعماء مسوقون بها عاملون لها، حاملون بنودها، مستمدون من أنوارها، كل على قدر طاقته. وإذا استطاع أكبر تمساح في النهر أن يوقف سيره أو يغير مجراه، وإذا استطاعت النسور أن تسد فوهة البركان أو تخمد ناره؛ يستطيع الزعماء في الثورة التأثير على ناموسها الذي هو روحها الحية الإلهية الأزلية.
في الأمس خطب اللورد مورلي في مجمع المؤرخين الذي التأم بلندرا - واللورد مورلي من نوادر أرباب السياسة والأدب والفكر في العالم اليوم - فقال إن للبداهة في السياسة تأثيرا كبيرا في تاريخ الأمم أي: أن رجلا عظيما في كلمة يرتجلها أو في عمل يعمله بداهة وعفو القريحة، يغير مجرى الحوادث التاريخية المهمة، قد يصح هذا في فروع الحوادث لا في أصولها، من من الزعماء كان أعظم في الارتجال من ميرابو؟ ومن من أرباب السياسة كان في البداهة والإقدام أعظم من بزمرك ؟ أما ميرابو فلو شاء إيقاف الثورة أو تحويل مجراها لما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولو خدم بزمرك غير الوحدة الألمانية لما كان فيها سريا عبقريا. لو عمر ميرابو لاستطاع - في الأكثر - تلطيف فظائع الثورة الإفرنسية، ولو مات بزمرك قبل أن يتمم عمله لتممه بعده سواه.
في الحياة ناموس يعلو به النوابغ، ولكنهم لا يعلون عليه، وإن شجاعة الرجال، وفصاحة الزعماء، وبداهة السياسيين، تؤثر بظواهر الحوادث لا بجوهرها، وعندنا من تاريخ الدولة العثمانية برهان على ذلك قريب. هذه الثورة الأخيرة - وقد تسمونها دسيسة - أسقطت الوزارة الكاملية وأودت بحياة أحد زعمائها، فهل غيرت شجاعة أنور وأصحابه شيئا من جواهر الأمور؟ هل عززت شأن الجند؟ هل صانت شرف الأمة؟ هل فازت برد غارات العدو؟ هل خلصت أدرنه؟ هل ظفرت في الأقل بصلح شروطه أحسن للدولة من الشروط التي عرضت على الوزارة السابقة؟ ولو نهض صباح الدين وأنصاره غدا ودكوا الوزارة الحاضرة دكا أيتغير يا ترى من روح الحركة الفكرية الثورية شيء جوهري؟ لا لعمري! لو وفق العثمانيون إلى أكبر زعيم في العالم لما استطاع اليوم رد الطوفان، ولما استطاع اليوم سد فوهة البركان. •••
بعد هذه الإشارة الخصوصية التي ساقني البحث إليها أعود إلى عموميات الموضوع، قلت: إن للثورة ناموسا ثابتا في كل الأمم وفي كل الأزمنة، عوامله أكثرها خفية وبالأخص في أوقات السلم. ولا تنحصر هذه العوامل في الحكومة وفي السياسة فقط، بل هي حية محيية في كل دائرة من دوائر الحياة، بل في كل نفس بشرية راقية. ففي كل امرئ تحدث ثورات منه وعليه في ساعات من الحياة بوادهها أجمل ما فيها، فتلج في النفس أصوات تزعزع فيها المألوف، وتنزع منها شكيمة العادات، فتنقلها من فكر إلى فكر، ومن حال إلى حال. وهذا قسم من الحقيقة في سنة التطور؛ لأن الثورة لا تنحصر في الرجال بل نراها عاملة حتى في الأطفال، فالطفل الجائع يثور على أمه عندما تمسك عنه اللبن، حتى إذا أصاخت الأم لصراخه وأجابت طلبته يستحيل الجوع فيه شبعا، والصراخ غناء، هذه ثورة الطفل الطبيعية، وقد كللها النصر، أما إذا تغلبت شهوته على حكمة أمه فتثور عليه معدته فيدعى الطبيب - أي: الأجنبي - لينظر في أمره، وهذه ثورة أخرى طبيعية، سببها التفريط ونتيجتها التورط والفشل.
وما يصح في الأطفال من هذا القبيل يصح في الرجال، على أن الطبيعة أمنا لا ترحمنا ولا ترثي لحالنا، ولا تتساهل بتنفيذ شرائعها فينا. إن بثورا تظهر في جسم الإنسان لدليل ثورة في دمه، فقد حمل الدم ما لا يستطيع حمله فرفضه ثائرا فظهرت آثار الثورة في جلد صاحبه. وما يصح في المادة يصح في النفس، توبة الجاني ثورة في نفسه كللت بالفوز. الانتحار نتيجة ثورة في قلب المرء أفسد اليأس قصدها وغير الفشل نتيجتها. الراهب إذا تزوج فلثورة فيه على نذوره، والخليع إذا ترهب فلثورة فيه على شهواته. والنفس الأثيمة إذا ارتدعت واهتدت فلثورة فيها على الشر والضلال، وإذا تسامت فلثورة فيها على الخسة والسفالة والجهالة، وقس على ذلك في كل أطوار النفس وتقلباتها ارتقاء وانحطاطا.
قلت: إن روح الثورة حية عاملة في دوائر الحياة كلها، وفي كل فترة من الزمن تتجسم نتائجها فيبصرها الناس ويدركونها. خذ التجارة مثلا، إن طرائقها وأساليبها وأدواتها اليوم غيرها منذ مائة سنة، وفروعها الجديدة المتعددة لم تخطر للفينيقيين ولا من سبقهم من التجار في بال. تدخل بيت شركة من الشركات في أوروبا أو في أميركا اليوم فلا تجد فيه غير المكاتب والدفاتر والآلات الكاتبة والأوراق وبينها وإليها مئات من الشبان والبنات واقفين وجالسين يكتبون ويحسبون، فتظن نفسك في دائرة من دوائر الحكومة، فتسأل: ما هي تجارة هذه الشركة، فيقال لك أن لا تجارة لها.
وبعد أن تطلع على حقيقتها يدهشك أمرها وتستغرب ماهيتها، فتقول في نفسك: وكيف يمكنها أن تدفع رواتب عمالها الكثيرين وهي مؤسسة لفحص دفاتر التجار أو لتقدير أرباحهم، أو لنشر الإعلانات، أو لمطالعة الجرائد فتقص منها ما يهم عملاءها من الأخبار. وهنالك أبواب أخرى عديدة للارتزاق ما حلم بها الإنس في الماضي ولا الجن، وهذا التفريع والتخصيص في العمل إنما هو نتيجة ثورات سلمية في طرائق التجارة القديمة. وإننا لنشاهد أكبر مظاهرها في الولايات المتحدة، هنالك عند إشرافنا على نيويورك نرى أعلام الثورة قائمة أمامنا مجسمة في تلك الصروح الشامخة، وإن ثورة الأميركيين على الهندسة المعروفة في فن البناء القديم لمن أظهر ثورات السلم والتجارة.
ولا أخص الأمة الأميركية بكل ما نشاهده اليوم من أدلة الانقلاب ومظاهره الخطيرة، نحن في زمن عظمت فيه أعمال العقل كما عظم البناء عند الأقدمين، ففي مدنية الغرب أشكال معنوية وحسية من ضخامة الأهرام وغرابتها. هذه أبنية الأميركان وقد فاقت قلل الجبال علوا، وهذه اختراعات العلماء واكتشافاتهم ملأت أعلامها الأرض بحرا وبرا وجوا. فأين منها الأهرام وأبو الهول وأين منها هياكل المصريين ومعاهد الرومان؟ أيفاخرنا الماضي بقبور أبطاله وبما تجسم من مجد ملوكه وخرافات كهانه؟
هذه معاهد العلوم ومجد أربابها مجدها، وهذه صروح لملوك الثروة ومعاهد الخير والإحسان تشفع بهم وبها، بل هذه مساعي أبطال العلم والعمل، إن آثارهم تدل عليهم. وإننا لنراها اليوم في الشرق وفي الغرب، في أقاليم الأرض كلها وفي قطبيها، في صحاري الجنوب وفي ثلوج الشمال، في السهول قائمة وفي الجبال، في البحار ماخرة وفي الأنهار، فوق المياه تعج وتحتها، في الأثير تضج وفي الفضاء، تحت المعادن تهدر وفوق السحاب. وهي كلها من فضائل الثورة العظيمة ثورة السلم والعلم، ثورة الفكر والعمل.
أجل سادتي، إن مساعي الإنسان في هذا الزمان عقمت أو أثمرت لجسيمة كلها عظيمة، بل هي كلها ثوروية، ومثلما تكثر فيها أسباب الرقي والمجد والسعادة تتعدد فيها أسباب البؤس أيضا والفقر والشقاء. جئني من الماضي بحسنة أريك من مثلها في الحاضر حسنات، جئني بسيئة أعدد من شكلها سيئات. البؤس عندنا مثل النعيم كلاهما جسيم، والخير مثل الشر كلاهما عظيم. والقبيح في هذه الحياة المادية الجديدة مثل الجميل تتصل أسبابه بمساعي الإنسان العقلية المحضة، فيفسد الطمع نتائجها، وتشوه الأنانية جمال مقاصدها.
على أن ذلك لا يدعو إلى اليأس عند من يفكر في الأمور ويطلع على شيء من تاريخ الثورة الاجتماعية السلمية، ثورة العلم والعمل في الغرب، فإن هي إلا حديثة النشأة كثيرة المحن، وإن ما تضمره لنا الأيام من فوائدها لأضعاف ما نشاهده منها اليوم. ولو لم تكن روح الثورة - أي: سنة التطور - حية في هذه الحياة ثابتة دائمة لما قبل الحكيم مدنية الغرب وأكبرها. كيف لا ولم تزل للعبودية فيها آثار ظاهرة وأشراك مهلكة، وفيها في أحياء البؤساء ظلمات لا تولد غير المنكرات.
كيف لا وفقر اليوم عبودية لا تقاس بعبودية الماضي، والعبد الراضي بسوء حاله غير العبد المدرك لبؤسه المتمرد على أسياده، المطالب بما لغيره من وسائل العيش والرقي والسعادة. وهذه من حسنات مدنيتنا التي تنبه كل من عاش في ظلها ونورها وتستنهضه ليطالب - في الأقل - بما له من الحقوق المدنية والطبيعية، نعم إن روح الثورة فيها لا تقعد، وعينها لا تنام وعقلها لا يقف، ويدها لا تكل أبدا.
أما الثورة السياسية فلي كلمة وجيزة في طرق الفوز والفشل فيها، من استقرى التاريخ يعلم أن الثورة الحقيقية العظيمة نتائجها العميم خيرها؛ إنما تبدأ فكرا وشعورا، ولا يبقى من آثارها بعد أن تحدث فعلا إلا ما كان منطبقا على ما نضج في الأنفس والعقول، بل لا ينمو من بذورها إلا ما وافق التربة التي تزرع فيها. مثال ذلك الجمهوريات في مدن إيطاليا في الأعصر الغابرة كجمهوريتي فلورنسا والبندقية، وحكومة كرومويل في إنكلترا، وعروش نابوليون في أوروبا، فإنها لم تدم طويلا، عززها السيف حقبا من الزمن، ثم قلبتها الفوضى، وأبادتها التقاليد الوطنية. وقد يكون نصيب جمهورية الصين اليوم نصيب تلك الحكومات القصيرة الأجل.
فالثورة الحقيقية ذات النتائج الثابتة إنما هي بنت التعاليم السديدة والمبادئ السامية لا بنت المدافع والحراب، على أن السلاح يعززها عند نشأتها، إذا جرد السيف في سبيلها من كان عارفا ماهيتها، مدركا بعض أسرارها، محترما ناموسها، مستأصلا من التقاليد والخزعبلات ما يعترض سيرها ونجاحها.
فالانقلاب الأدبي الذي يحدث أولا في النفس ثم يتدرج منها إلى البيت، فمعاهد العلم، فدوائر الاجتماع، يولد ثورة نحتاج فيها اليوم إلى سلاح يؤيدها ويعززها، وإلا عدنا إلى ما كنا فيه. إن انقلابا في الأخلاق والعقول، وفي طرائق التعليم والتربية، وفي دوائر الأدب والاجتماع ليحدث الثورة الصالحة التي لا يتبعها رد فعل خبيث، ولا تأتي إلا بالإصلاح الثابت الناضج المفيد.
ولكن هذا الإصلاح لا يتم بلا انقلاب في الأحكام، ولا يتم انقلاب بلا ثورة سياسية، ولا تنجح الثورة السياسية بلا ضحية، ولا تصح الضحية إن لم يكن صاحبها عالما بأهمية ما هو فاعل، ثابتا بما يؤمن، مدركا شيئا من المذهب السياسي الاجتماعي الذي ينبغي أن ينصره بلسانه ويده، وبماله ودمه. تيقنوا هذا: إن المفاداة بالنفس لا بد منها في تأسيس الأديان أو في نشر المذاهب الاجتماعية، أو في تأييد الحقائق العلمية، أو في تعزيز النهضات السياسية. إن في دم الشهيد مكروب الثورة، ولكنه لا ينتشر إلا إذا كانت الأجسام مستعدة له، ولا تكون كذلك إلا بعد أن تظهر فيها آثار الثورة الداخلية الهادئة، وهذه - كما قلت - تظهر في حينها ولا يمكنا أن نعجل حدوثها أو نؤجله. وقد تنمو الثورة السياسية في فساد الماضي والحاضر كما ينمو النبات في الأقذار، والاستشهاد في سبيلها يزيد بنموها لا بنمو ثمارها.
أما روح الثورة فهي واحدة في الأمم المتمدنة، لكن أساليبها تختلف باختلاف طبائع الأمم، وقد تتنوع أدواتها بحسب تقاليدهم وعاداتهم. ففي أميركا مثلا تعمل الثورة اليوم بالفأس والمعول، وفي فرنسا بالريشة والقلم، وفي إنكلترا بالقياس والميزان، وفي ألمانيا بالمجهر، وفي إيطاليا بالخنجر، وفي روسيا بالديناميت. أما في الشرق فالثورة لم تهتد بعد إلى أدوات العمل ولم تحسن استخدام واحدة مما ذكرت. جربنا الريشة والقلم فكنا فيهما مقلدين، جربنا القياس والميزان فكنا فيهما عابثين، لجأنا في الأستانة وفي مصر إلى الرصاص، وفي الهند إلى الديناميت، فكنا فيهما مجرمين، جربنا الثورة السلمية فكنا مخطئين، جربنا السيف والمدافع فكنا فيهما ضالين مضلين، والحق يقال: إن سلاح الثورة عندنا لم يصقل بعد ولم يطهر.
ولا يفوتنكم أن البادئ بالثورة السياسية يكون غالبا إما فريستها وإما تاجرها ، وقد يكون تاجرها وفريستها معا، يأكل من مالها ثم تأكله، وقد يذهب ضحية على مذبحها، فيكون «كالتربيل» الذي يرميه الصياد في البحر فيدفع السمك إلى سطحه فيصطاده إذ ذاك قوم أشبه بالصيادين منهم بالزعماء.
الزعماء! عممت في ما قلته فيهم فأخصص. إن الهيئة الاجتماعية كالجبل، الخيرات عند قدميه، والصحة في وسطه، والمحل في رأسه، في أسفل الهيئة الاجتماعية الجهل في العمل والذل، وفي وسطها شيء من التهذيب والدهاء، وفي رأسها السيادة والأثرة، يستثمر القاعدون عند أسفل الجبل الأرض فيبعثون بالغلة - ما خلا أجورهم - إلى من في رأسه، فيأخذ من في وسطه قسما منها لقاء دفاعهم عن حقوق الإنسان كما يزعمون.
وفي أيام الثورة السياسية يكثر في هذه الطبقة الزعماء الأدعياء طلاب السيادة والمال، فيهضمون حقوقا يزعمون أنهم يدافعون عنها، ويسلبون من تحتهم ومن فوقهم، ويتآمرون مع السادة أصحاب النفوذ الخبيث فيتبوءون مجالسهم، مجالس الظلم والاستبداد والإثم والفساد، ويسكتونهم بشيء مما يكسبون، وفي مضايق الخداع والنفاق يتقاسمون ما يغنمون. هؤلاء الزعماء - وقد أمسوا في قمة السيادة - يصدرون أوامر هي كالصخور التي يدحرجها الصبيان من أعالي الجبال، فتحطم الأشجار في طريقها، وتسحق الأزهار، وتدمر ما غرسه الإنسان وتهدم ما بناه.
يدمرون ويفسدون، ومن فسادهم يكسبون، فهم تجار لا زعماء، يتاجرون بالسياسة وبالحرب وبالدستور، يتاجرون بأدوات الجند ومعداته، برتبه وجهالته ودينه وكسائه، بخبز يومه. يتاجرون بآمال الأمة وأملاكها، يتاجرون بويلاتها وولاياتها، يتاجرون بدمها ودموعها، يتاجرون بأقدس الأشياء لديها. عفوا سادتي فقد أحسنت إليهم في ما قلت، فلو أحسنوا التجارة في الأقل لانتفعت الأمة بعض النفع بتجارتهم، ولكن دأبهم أن ينهبوا ويبيعوا ويخزنوا وكل في قلبه يقول: بعدي الطوفان.
أيستغرب الفشل في ثورتنا، والانخذال في حزبنا اليوم، وهؤلاء السفهاء الأغمار زعماء الأمة؟ ربي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ أوتتبع الظلمة أمة خرجت منها، تتلمس إلى باب النور طريقها؟ لا لعمري، فإنها وإن فسدت في أيادي الطغاة المفسدين لا تلبث أن تنتقل إلى من يصلحها من المصلحين الصالحين، فيعززونها فتعززهم، ثم يشعلون منها مصباحا نيرا صافيا في الأمم.
فإنها إذا وقفت هناك وجدت من يأخذ بيدها ويهديها سواء السبيل، هناك طائفة الأدباء الحقيقيين العاملين بجد وإخلاص في سبيل الرقي والعدل والحرية، وفي سبيل العلم والحكمة والجمال. فعليهم وحدهم يتوقف تحرير الإنسان.
واعلموا أن الإنسان لا يتحرر تحررا حقيقيا تاما إذا لم تشرب روحه الثوروية روح المعرفة والشعر والحكمة، وأن الأدباء الحقيقيين من شعراء وفلاسفة - أصحاب الفنون الجميلة وأرباب العلم والحكمة - لا ينتمون إلا إلى حزب واحد في العالم هو حزب الحق والحرية والحقيقة والجمال، ولا يكبرون ويجلون إلا فئة قليلة من الناس، رواد المدنية الجديدة، دعاة الثورة السلمية الاجتماعية، المهذبين المعززين المرشدين المعزين، أرباب الفنون الصادقين، النوابغ الهادين.
هؤلاء نجلهم ونكبرهم، ولا نجل من الناس سواهم، ولا يهمنا من الطوائف والملل غير المتساهلة الراقية منها، تلك التي يقف رؤساؤها عند واجباتهم فلا يتعدونها، ويزرعون في قلوب الناس حب الحرية الأدبية والروحية قبل كل شيء، ولا يناهضون روح الثورة - أي: سنة الارتقاء المقدسة - وإنما يهمنا ويهم كل ذي شعور حي شريف أن ينتصر الهدى على الضلال، وأن تكلل الحقيقة في الفنون والجمال، يهمنا أن تعزز الحرية الشخصية في كل مكان، يهمنا أن يتمتع بحق المساواة تجاه الأحكام كل من بني الإنسان، نهتم لما كان سديدا من التعاليم، سليما من العقائد، ساميا من الآراء.
أجل، إن التعاليم السديدة السامية لا تفسد أحدا من البشر، وهي لا تفسد مدى الدهر، وإن روح الثورة التي تتغذى دائما بها لا تخمد ولا تضمحل، وإنما لها هجعات ولها يقظات، ومتى أنار الله مصباحها في دوائر الأدب والدين والسياسة، وشعرت الأمة شعورا حقيقيا صافيا أن العدل أساس الملك، وأن العمل به واجب مقدس، وأن طلب الحقيقة وحب الجمال في الحقيقة ضرورة من ضرورات حياتها، وأن الحرية نور يومها والشجاعة هواؤها وسماؤها؛ متى أصبحت الأمة تدرك هذه الجوهريات، وتجد في طلبها وتسعى لتحقيقها، بشرها بفوز مبين في مضمار الرقي والمجد والعمران.
الأخلاق1
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
شوقي
أيها السادة والسيدات
لم يخلق الإنسان أميرا ولا كاهنا ولا سلطانا، وما خلق بوذيا ولا مجوسيا ولا مسيحيا ولا مسلما، إنما هي الشرائع تسترق والأديان تفرق، أما السيادة فللعقل، وأما التفاضل فبالمآثر والمبرات، أجل، ولا ينبغي أن يرفع امرؤ على آخر ويفضل بغير عقله ونفسه وأدبه وأخلاقه. كل منا خص بلقب من خالقه أشرف من ألقاب الملوك والسلاطين، ألا هو لقب «إنسان»، ولكل منا حقوق طبيعية متساوية ملازمة غير متعدية لا يستحق أن يدعى بشرا من ينام عنها أو يغضي عن امتهانها، ولكل منا حقوق سياسية اجتماعية تنشأ في حياتنا المدنية ومنها. عار علينا أن نسكت عمن يهتضمها من أولي الرئاسة والإمارة.
وأرى ملوكا لا تحوط رعية
فعلى م تؤخذ جزية ومكوس؟
ولكل منا حقوق أدبية نفسية ليس فوقها غير سنة الله السائدة في الأكوان والأشياء لا نخضع فيها لسواها، لسنة الله التي تنير في الإنسان الضمير كما تنير في السماء الكواكب والنجوم، لسنة الله التي تقرن نور الشمس بنور اليراعة، وقوس القزح بألوان الطاووس، وزئير الأسد بصوت النبي، وتغريد البلابل بقوافي الشعراء، فحقوقنا الأدبية النفسية التي لا نخضع فيها لغير سنة الله إنما هي برهاننا على وجود الله ولا حق أثبت منها وأعلى. قد ألقى في السجن فأحرم حقوقي المدنية، وقد أحرم قوتي وأسام العذاب فتمتهن حقوقي الطبيعية، ولكن السجن والجوع والعذاب لا تذهب بذرة من حقوقي الأدبية الروحية.
إنك إذا استطعت حبس نور الشمس، أو إيقاف ريح السموم، أو تقييد أمواج البحار؛ لتستطيع سلب حق من حقوق أخيك النفسية، ولكنها قد تغفل فيها فتفسد فتضعف فتموت، وكذلك حقوقه المادية كلها. ولا حاجة لأن أضرب لكم الأمثال إيضاحا، فحرية الحركة مثلا من حقوقي الطبيعية، وحرية التابعية من حقوقي السياسية، وحرية الفكر والضمير من حقوقي النفسية، وسياج هاته الحقوق كلها الأخلاق، بل الأخلاق الطيبة السليمة المجيدة السامية. فإذا فسدت الأخلاق في أمة نامت تلك الأمة عن حقوقها، وإذا نامت عن حقوقها استبد حاكمها، وإذا استبد حاكمها ساء حالها، وإذا ساء حالها خربت ديارها، وإذا خربت ديارها حق لأمة ياقظة ناشطة راقية أن تتولاها فتعمرها.
ملك أساس الجهل والسفه، وقوامه الاستبداد والجور، ومظاهره الفقر والبؤس والقذارة، له يوم من الدهر فيزول، أمة لا تسمع فيها غير التأوه والأنين، والصراخ والشكوى، لها يوم من الشقاء فيزول، ثم يبعث الله من يحل قيودها، ويمسح دمعها، وينعش بالعدل نفسها، وبالعلم يجدد قواها. كانت أيام تباد فيها الأمم، يبيدها الجهل أو الوباء أو المجاعة أو الظلم أو الحرب، وأما اليوم فالأمم تجدد شبابها؛ لأن المعارف والعلوم غير منحصرة في فئة صغيرة من الناس، والأوبئة التي تساعد في إفشائها الأضاليل كعقيدة القضاء والقدر وغيرها يكاد العلم يستأصلها.
وعاطفة في الأمم الراقية شريفة تمدها أموال كثرت في البلاد المتمدنة لا تمكن المجاعات من البشر، والحكومات الاستبدادية لم تعد تطاق، والحروب شبه حروب أتلأ وجنكيز خان أمست في خبر كان. فلا خوف على الأمم اليوم إذا إلا منها وفيها، الخطر على حياتها في قلبها، في نفسها، في حكومتها، في الخاسئ الجامد من علومها ومذاهبها وتقاليدها، في فساد أخلاقها وأحكامها وشرائعها.
وجدت الشرع تخلقه الليالي
كما خلق الرداء الشرعبي
فالاخلاق السليمة السامية المجيدة إنما هي سياج حقوقنا كلها بل هي من أهم أركان الترقي والعمران. إنها لنور العدل في الملك، ونور الإيمان في الدين، ونور الصدق في العلوم، ونور الحياة الحقة في الأمة. ولنا أن نسأل: ما هو مصدر هاته الأنوار المعنوية وما هي خاصتها وغايتها، وبكلمة أوضح: ما هي الأخلاق؟ وما هي أصولها وأسباب رقيها؟ وما هي عوامل الفساد فيها؟ وكيف تصلح إذا فسدت في الأمة؟ سأجيب مختصرا عن كل من هذه المسائل ثم أقابل بين ما تسامى من أخلاقنا ومن أخلاق الغربيين؛ لعلنا نهتدي إلى الأسمى فنتخلق بها.
1
الخلق غير الطبع والمزاج، الخلق إطلاقا ما يظهر من الفكر والنفس، والمزاج ما يظهر من الشعور. وفي القاموس الخلق الطبع والسجية والمروءة والعادة والدين، فجاء في التحديد بين الطبع والدين ما قد يكون من أهم مظاهر الأخلاق وأصولها، ففي الطباع والسجايا شيء من الوراثة التي ليست من بحثي الليلة، وأما المروءة مثلا فخلق في الناس، المروءة مظهر من مظاهر النفس بل صفحة راسخة من صفاتها لا يحتاج صاحبها إلى اجتهاد أو تكلف في إظهارها.
وكذلك الشجاعة والكرم والحلم، وكذلك الجبن والبخل والغضب. هذه أخلاق قد تكون خاصيتها معنوية ومادية معا، قد تكون في كريات الدم وفي الجهاز العصبي وقد تتصل أسبابها بنجوم السماء. إن مزايا النفس السامية التي لا يأتي عليها كيل ولا قياس ليراها الناس فيقدرونها إنما هي مادية روحية، ومصدر المادة فيها لم يزل غامضا نوعا كمصدر الروح.
أما المتطرفون من علماء النفس وعلماء المادة فعلى غير هذا الرأي، على أنه لا ينكر أن مزايا النفس في بعض أحوالها كالكهرباء لا تعرف إلا بمظاهرها؛ ففي الخلق العظيم المجيد شيء من طبع البربري وأشياء من سجية النبي الإلهية، وأما الخلق العظيم عند السالكين - أي: الإعراض عن العالم والإقبال على الله تعالى بالكلية - فتلك مسألة أخرى أجيء بعدئذ على ذكرها.
ولهذه المزايا النفسية علم هو علم الأخلاق أو علم السلوك ألف علماؤنا فيه مجلدات قلت فائدتها - على كثرتها - وقد تستغربون قولي إن في علم الأخلاق عندنا ما يفسد الأخلاق السليمة السامية، كان العرب في صدر الإسلام وفي الجاهلية يقومون المعوج في أميرهم بحد السيف، كانوا يقولون للظالم المستبد من أسيادهم: إما أن تعدل وإما أن تعتزل، ويعملون بما يقولون، فجاء بعدئذ من علموا علم الأخلاق بمقتضى الحكمة العلمية فقالوا: «ادفع إليهم ما طلبوا من الظلم ولا تنازعهم فيه وكف لسانك عن سبهم.» و«لا تجعل سلاحك على من ظلمك الدعاء عليه ولكن الثقة بالله.» وقال مالك بن دينار - والكلام منسوب إلى الله: «لا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم.» وقيل أيضا - والكلام منسوب إلى نبي الإسلام: «سيروا على سير أضعفتكم.» وكثيرة في كتبنا العربية أمثال هذه الحكمة العملية التي قلما تراعى الحقيقة فيها، وضعت لتقييد المظلوم وأنزلت لتأييد الظالم، فأفسدت أخلاق الاثنين.
أما الحكمة الخلقية فبينها وبين الحكمة العلمية تفاوت عظيم وفي تراجم النوابغ من رجال التاريخ مثال حي لهذا التفاوت، خذ أيا منهم «يوليوس» القيصر أو نبي العرب أو «لوثيروس» أو «كرامويل» أو «نابوليون الأول»، نوابغ السيف والروح والقلم نوابغ الملك والدين، كل خطير النفس، رفيع الأهواء، بعيد الهمة، كانت شرعته الحكمة الفطرية في ما ناله من جسيم الأمور إلى أن صار سيدا في الناس ورب ملك في العالم. فوارس من فوارس السماء أوقدوا في الناس مشعال الحرية والحقيقة فملئوا البلاد نورا ظنوه نورهم، فرفعوا أنفسهم إلى مقام الآلهة، واتخذوا الحكمة العملية سيفا لتعزيز شئونهم وتنفيذ مآربهم، وفي الشرق حتى اليوم ملوك وأمراء، لا يستحقون أن يكونوا عبيدا لأولئك النوابغ الأبطال، يرفعون أنفسهم إلى مقام الآلهة ويكلفون الناس التبخير والسجود.
ومن شر البرية رب ملك
يريد رعية أن يسجدوا له
الأخلاق قوى كامنة في النفس تؤثر فيها الحوادث والأشياء فتظهر عفوا لغرض أولي هو ارتياح النفس واطمئنانها، ولا يطمح صاحبها - بادئ بدء - إلى معالي المجد أو الشهرة أو الغنى أو السيادة. خذ الغربي الراقي في أمة فسدت حكومتها، فهو يناهضها في الدرجة الأولى طوعا لحكم ضميره فتطمئن نفسه، ورغبة بإصلاحها ثانيا فتصان حقوقه، وإذا تتبع عمله أصابه في الدرجة الثالثة منه بعض النفع والفائدة، فيغره إذ ذاك الكسب وتستهويه السيادة فيصبح وا أسفاه! سياسيا شرعته الحكمة العملية.
أما الشرقي في مثل حاله فقد يتمثل بأقوال الحكماء التي ذكرت شيئا منها ويستعيذ من الظالم بالله. إذا وقف الغربي عند الدرجة الثانية من عمله كان عمله شريفا مجيدا، وإذا تعداها كان عمله مشوبا مشينا، وفي كلا الحالين يظل أحسن من أن «ندفع إليهم ما طلبوا من الظلم ولا ننازعهم فيه» إن عظم الهمة، والجرأة الأدبية، ومناهضة الظلم والظالمين، لأخلاق غربية، وإن التصون والتقية والاستسلام إلى الأقدار لأخلاق شرقية ...
نشكو الزمان وما أتى بجناية
ولو استطاع تكلما لشكانا
2
قلت إن الأخلاق مزايا راسخة في النفس تظهر في مظاهر شتى لغاية أولية هي إرضاء النفس واطمئنانها، كالاستسلام إلى الأقدار مثلا عند الشرقيين، أو السعي في مناهضتها عند الغربيين، أو الهرب منها عند السوريين. لننظر الآن في أصول الأخلاق وعوامل التربية فيها، إذا أجلنا الطرف في عالم الحيوان رأينا فيه أمثلة من العمل والصناعة ورقي الحواس قلما نشاهد مثلها في الإنسان.
ولكننا لا نرى فيها عامل الرقي حيا ثابتا دائما، فالنمل مثلا لم يرتق في عمله منذ مدحه سليمان الحكيم - كأنه مثل الإنسان يضر به الإطراء - ولا النحل ارتقى في صناعة العسل ولا البلبل في فن الإنشاد، ومهما بالغ الإنسان في تربيتها تظل الغريزة فيها واحدة، وتبقى قواها محدودة، وفي الإنسان شيء أدبي روحي ثابت لا تؤثر فيه الحوادث والأشياء.
الإنسان مدني بالطبع وسيبقى مدنيا، وفيه فطرة خير لا يضعفها نكد الدنيا ولا يزيلها البؤس والاستعباد، وفيه عاطفة الحب حية أبدية، وفيه نزعة إلى المجد والعلى هي إكليل أهوائه العالية كلها، وفيه مزية سامية إلهية تحبب إليه ما هو ثابت دائم أزلي، فيعجب من مظاهرها في النمل والنحل والطيور، ويأخذه الخشوع والتهيب عند ما يشاهده منها في نظام الكواكب والأفلاك، وعندي أن هاته الخاصية البشرية الإلهية التي تتساوى أصلا في الناس، البدو منهم والحضر، وتتفاوت فرعا، إنما هي المصدر الخفي لما ينشأ فينا من الأخلاق فتتباين وتتفاضل عملا بسنة الألفة والانفراد.
فخلق النساك هو واحد، في الهند وفي جبل آثوس، لا يتغير، والوفاء في الكلاب لا يظهر إلا في مرافقتها الإنسان، وأخلاق البدو من العرب كانوا أو من زنوج أميركا هي واحدة. وما يصح في البدو يصح في القبيلة، وما يقال في الرجل المتمدن يقال في الأمم المتمدنة، أي: أنها لا تفضل بعضها بعضا أدبا وأخلاقا، ولكنها تختلف في ذلك اختلاف عاداتها وتقاليدها وشرائعها.
حرية الإفرنسي الجمهوري مثلا لا تفوق حرية الإنكليزي الملكي، وليست أخلاق الإنكليز بأفضل من أخلاق الفرنسيس، بل الأمتان تستويان في الفطرة البشرية السامية كما تستوي أفرادهما ولا تختلفان إلا ظاهرا وعرضا كما تختلف الطيور في ريشها ولونها وكما تختلف في شكلها أوراق الأشجار - لا يفوتنكم أن موضوعي الأخلاق لا الطباع - أما النزعة الشديدة إلى العلم، والطموح وإلى المآثر العالية، والصبو إلى استطلاع ما وراء الأشياء، إلى اكتشاف أسرار الطبيعة ليستخدم ما فيها من القوى الكامنة في سبيل الرقي والعمران - رقي الإنسان وعمران البلاد - فهذه كلها من المزايا الراسخة اليوم في روح المدنية الجديدة.
ولا فضل لأمة على أخرى إلا بما أحرزته من جسيم الأمور في مضمار الفكر والبحث والعمل، بما أكسبها نوابغها من مجد في سبيل الإنسانية ومفخرة. وهذه السجايا الشريفة في الأمم إنما هي نتيجة الأخلاق السامية في أفرادها العاملين، وهي السبب أيضا في ما قد يكون أسمى منها في أبنائها الآتين.
يقال: إن الإنسان ابن الأحوال أسير الحوادث، خاضع لأحكام الزمان مقود بزمام القضاء، وقد يكون الحيوان وما في البشر من الحيوان كذلك، أما الإنسان - وفي كل جماعة وكل أمة تجده - فهو فوق الأحوال والجموع والحوادث، وهو في الأحايين يتغلب على القضاء، فيكتشف بلادا جديدة، ويغير خريطة العالم، ويذلل العناصر، ويسوق إلى غرضه سنن الأكوان ويهدم الهياكل ويؤسس الأديان، يزعزع الممالك ويبيدها وينفخ في الأمم المائتة روح الحياة. الإنسان حر في إرادته وعمله وفكره مهيمن على نفسه، مالك زمام الحوادث التي ترفع به إلى ما فوق اصطلاحات الجموع وأحكام الناس. ولو لم يكن كذلك لكان اعتقادنا بالله باطلا، ولو لم يكن كذلك لكانت أخلاق البشر كغرائز الحيوان، لا يعمل بها ناموس النشوء الحي، ولا تؤثر فيها عوامل الارتقاء الثابتة.
يقال: إن سر السعادة هو في تكييف أميالنا لتوافق الأحوال التي نحن فيها لا في تكييف الأحوال لتكون لنا سلما إلى تشوقاتنا البعيدة وآمالنا العالية. وقد يكون هذا سر النجاح في التجارة وفي السياسة لا سر السعادة، وقد يوافق الصيرفي والإسكاف والبقال، ولكن الإنسان المدرك ما فيه من قوى الأكوان الكامنة الناظر إلى اليد العلوية التي ترصع الأفلاك بالنجوم، وتخط فيها الأسرار، وتنصب منها للنفس البشرية محجة أنوارها لا تنطفئ، الإنسان الذي لا يعيش ليومه ولنفسه، يرى أن عليه أن يسعى أبدا سرمدا في ترويض عقله للفكر، وإرادته للعمل، وشعوره لما رق ودق في الحياة. علينا أن نجاهد في سبيل العلم الذي هو أساس ملك الإنسان في الدنيا وفي الآخرة.
هذه الأرض موطئ قدمي الله وموطئ قدمي الإنسان، ما فيها ينبغي أن يكون طوع إرادته، خاضعا لفكره، عاملا بمشيئته، البخار والكهرباء والأثير درجات في الفكر والاكتشاف تؤدي إلى درجات في سماء النفس فوقها. من كان ليحلم في الماضي أن قوة كامنة في الفضاء يتمكن الإنسان من تسخيرها لتحمل أنباءه من أربعة أقطار العالم بعضها إلى بعض، التلغراف اللاسلكي اليوم، والتلفون اللاسلكي غدا، وبعد غد إن شاء الله نخاطب بعضنا بعضا بواسطة النفس التي هي آلة الفكر الكهربائية، أتقول: إن هذه أضغاث أحلام؟ ولكن أحلام السلف وأوهامهم هي اليوم حقائق راهنة.
أجل سادتي، إن هذه الأرض وهي ذرة في فضاء الأكوان بما فيها من قوات ظاهرة وكامنة، وبما فوقها وحولها من العجائب والأسرار، إنما هي موضوع مساعي الإنسان الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية، «إن الوجود لسر مكشوف» كما قال الشاعر الألماني الشهير، ولا يرى منه ويدرك - على ما أظن - غير ما نستطيع استخدامه والانتفاع به، وما يرى ويدرك لا يذلله غير العقل، ولا يعمل العقل إلا حرا مشجعا، ولولا هذه الحرية وهذا الإقبال على العلم في البلاد العامرة الراقية لما اتصلنا إلى ربع ما نحن فيه ممتعون من ثمار العلوم والصناعات، وإن حب العلم وتشجيع العاملين به لمن ثمار الأخلاق الشريفة السامية.
3
ها قد عدنا إلى أصول الأخلاق بعد أن انتقلنا قليلا إلى بعض نتائجها، أجل إن أصول الأخلاق لفي هذه النفس الخالدة القلقة السامية المتيقظة، النازعة إلى استطلاع أنباء ما وراء الطبيعة؛ لإصلاح شئون المجتمع، ولرفع شأن الأفراد فيه والجماعات.
والأخلاق في نشوئها ونموها وتنوعها خاضعة مثل مظاهر الكون لعوامل خارجية طبيعية واجتماعية، ولكن طيب شذاها لا يتغير على تنوع عوامل الرقي فيها. غصن ورد تزرع نصفه في تربة حارة في إقليم حار ونصفه الآخر في تربة باردة في إقليم بارد، فلا يتغير في وردهما غير الحجم واللون، أما شذا الوردتين، بل نفسهما، بل خلقهما؛ فهو واحد في الحالين.
هذا في النبات، وفي السياسة إذا تغيرت الأحوال تتغير مبادئ السياسيين، وأما فضائل النفس فهي واحدة في كل مكان وزمان، والنفس الكبيرة السامية لا تعمل فيها الحوادث ولا تفقدها الأحوال فضيلة واحدة من فضائلها، على أن مسلكها قد يتغير في الناس ويتنوع فتكسبه الأحوال شيئا من روحها وطبيعتها. قال ابن خلدون: «الإنسان ابن عاداته ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه.» والأصح أنه ابن الاثنين.
من الباحثين في طبائع البشر والعمران أناس يقولون: إن عوامل الهواء والشمس تغير في جوهرها تغييرا بينا. ومن هؤلاء العلماء «منتسكيو» وابن خلدون، أما ظاهر تأثير الهواء والشمس ففي الأجسام كما نشاهده مثلا في ألوان البشر وريش الطيور.
رأيت في أحد متاحف لندرا نوعا من الطير من فصيلة واحدة بعضه من إقليم بارد وبعضه من إقليم حار ولا يختلف سوى لون الريش في الطيرين، أما تأثير الإقليم في الأخلاق البشرية ففيه نظر، يقول «منتسكيو»: إن الجبن خلق في سكان البلاد الحارة، وإن الشجاعة من أخلاق سكان البلاد الباردة، ولكن الرومانيين قديما «سكان إيطاليا الحارة» غلبوا السكسونيين «سكان إيطاليا الباردة» فتأملوا.
وعندنا في العرب شاهد آخر، كان عرب البادية أحسن خلقا وأرقى نفسا من أهل البلدان المتمدنة التي احتلوها وسادوها. ناهيك بشدة بأسهم وشجاعتهم. فإذا كان صحيحا ما يقول ابن خلدون و«منتسكيو» إن الحر يذهب بالبأس والمنعة، وهما من الأخلاق المجيدة في الناس، لم لم يؤثر قديما في الرومانيين ولم لم يؤثر في العرب؟ أوليست شجاعة الأمم المعنوية الروحية فوق شجاعتها المادية؟ قد فات ابن خلدون هذا.
وما قولنا في الحبش وهم جيران العرب يسكنون في منطقة واحدة ولا يفصل بين الأمتين غير البحر، فأين منهم بأس العرب ومنعتهم؟ وأين آدابهم وأين شعرهم وأين نبيهم؟ فهل تشقي الشمس قوما وتسعد قوما؟ وهل كان الإقليم محابيا في أمة متحاملا في أخرى؟
وهاكم مثالا آخر من بحث ابن خلدون في تأثير الإقليم في الأخلاق، وصف السودانيين بالخفة والطيش وشدة الطرب ونسب ذلك كما فعل «منتسكيو» بعده إلى هواء بلادهم وشمس الإقليم الحارة. وقد كتب «تسيتوس» المؤرخ الروماني فصلا في الشعوب الألمانية القديمة الذين استوطنوا البلاد الشمالية الباردة فوق نهر الدانوب فوصفهم كما وصف ابن خلدون السودانيين بالميل الشديد إلى اللهو والطرب، فقال: «إنهم في أيام السلم لفي هرج ومرج دائما قائمون.»
ولم ينسب المؤرخ الروماني ميلهم هذا إلى العوامل الطبيعية. إن أخلاق القبائل في أمور كثيرة هي واحدة - كما قلت - ولا تختلف باختلاف الإقليم - كما يظهر مما تقدم - أما إذا كانت طبيعة الفرح والسرور انتشار الروح الحيواني - كما يقول ابن خلدون - وطبيعة الحزن انقباضه وتكاثفه، فتكون الحرارة سبب الأولى ويكون البرد سبب الثانية. ولكن هذا نظر سطحي، فالألمانيون القدماء كانت تغلب فيهم - كما قال المؤرخ الروماني - طبيعة الفرح والسرور، وأهل أوربا الشمالية اليوم وهم من سليلة أولئك الأقوام تغلب فيهم طبيعة الحزن والكآبة، وهواء تلك الأصقاع اليوم هواؤها منذ ألفي سنة، وإقليمها واحد لم تتغير فيه شمسه وسماؤه، فما السبب في تغير طباعهم يا ترى؟
لم أكن لأستوقفكم عند هذا البحث لو لم تكن قد اتهمت سماؤنا نحن السوريين بخمود طباعنا، فقال الأوروبيون: إن لطيف هوائنا وجميل جونا لمما يدعو إلى الخمود والخمول، ومعاذ الله أن تكون هذه السماء الجميلة سماؤنا أم هاته الآفات في أبنائها، وإنما هنالك عوامل أخرى مدنية ودينية وأدبية غير عوامل الشمس والهواء والحر والقر. إن الأخلاق مزايا راسخة في النفس تعمل في إظهارها الأحوال الاجتماعية في الدرجة الأولى، ومن هذه العوامل الاجتماعية العادات والتقاليد والشرائع والأديان، فهي تعمل في إصلاح الأخلاق كما تعمل في إفسادها.
وهاكم مثالا من ترهات أمة شرقية مما لم نزل نحن في بعضها، كانت للتتر أيام جنكيزخان قوانين وأحكام سخيفة يراعونها وينزلونها منزلة الشرائع الإلهية، ومن أغربها أن من يرمي سكينا في النار يعد مجرما قصاصه الشنق. وكذلك من نام على سوط، أو ضرب حصانا برسنه، أو كسر عظما على عظم آخر. ولكنهم وإن احترموا مثل هاته الترهات من الأحكام لم يروا في نكث العهد عيبا، ولا في السرقة والنهب والقتل ذنبا. فالأحكام السخيفة والقوانين الباطلة أفسدت أخلاقهم فأمسوا لا يعرفون من الخير والشر غير ما أجازه الحاكم أو أبطله. والشرائع السخيفة الباطلة في أمة لا تعرف غير أميرها سيدا تذهب بحرمة النواميس الطبيعية والإلهية، ناهيك بما لها من التأثير الخبيث في روابط الألفة وفي الجامعة الوطنية.
إن الشرائع ألقت بيننا إحنا
وأودعتنا أفانين العداوات
ليس الذنب إذا ذنب سمائنا وهوائنا، بل هي الشرائع كما قال المعري، ولم تزل كما كانت في أيامه تعبث بالعقول وتفسد في الأخلاق و...
كم وعظ الواعظون منا
وقام في الناس أنبياء
فانصرفوا والبلاء باق
ولم يزل داؤك العياء
4
أما عوامل التربية في الأخلاق فعديدة أذكر أهمها الليلة ولا أفيض فيها لضيق المقام، وإذا حصرت النظر في أوروبا فلأن مدنيتها خلاصة مدنيات العالم جمعاء، في الأعصر الخالية عند سقوط الدولة الرومانية كان الدين المسيحي العامل الوحيد الصالح في تلطيف أخلاق البرابرة هناك، ولكن الفساد الذي اعترى الكنيسة وأربابها بعد ذاك تفشى في البلاد وعم شعوبها فخيمت عليهم ظلمات أمرها في التاريخ مشهور.
وكلنا نعلم ما كانت فيه تلك الأمم من الجهل والخرافة والخمول يوم أشعل العرب مشعال العلوم في بغداد، فاتصل نوره بالأندلس وشع منه أشعة في صوامع الرهبان في أوروبا. فالرهبان إذن أول من اشتغلوا في إحياء العلوم في بلاد لم يكن ليسمع فيها غير قرع الرماح، وصليل السيوف، وصوت الكنيسة الرهيب.
وللحروب الصليبية فضل في تدميث أخلاق الأوروبيين، وتلطيف أذواقهم وتحسين نسلهم. ونظام الإقطاعات الذي لا يرى فيه بعض المؤرخين غير الجور والعسف والاستبداد ربى في العامة أخلاقا شريفة أهمها الوفاء والصدق، وأسس في الأسر الأوروبية سيادة المرأة. والنهضة الإصلاحية الدينية حررت نفس الإنسان من قيود السلطة المطلقة، والثورة الإنكليزية الأولى أعطته حجة بحقوقه، والثورة الإفرنسية الشهيرة متعته بها وعلمته التؤدة والاعتدال. وهناك عوامل أخرى عديدة كاكتشاف أميركا، واختراع الطباعة، وإحياء الفنون والصناعات، مما هو من نتاج العقل الذي يجلو مظاهر الأخلاق ويشحذها.
ولا يفوتننا أن نذكر بعض الفلسفات الأوروبية وفضلها في تهذيب الأخلاق كالفلسفة الاستقرائية التي أحياها «ديكرت» في فرنسا و«بايكن» في إنكلترا، فلقنت الأوربي حكمة الريب وعودته أن يسأل «كيف ولماذا» في كل عقيدة ومذهب وتعليم وحببت إليه البحث العلمي والتمحيص. ثم الفلسفة الكمالية الألمانية التي غذت عقله ونفسه، ثم الفلسفة الإنكليزية العملية التي غذت جسده فاشتد ساعده وصحت عزيمته.
وفي هاته الفلسفات كلها ترى أن المقام الأول في العمل إنما هو للإرادة، فالإرادة إذا ضعفت في المرء ضعفت فيه فضائل النفس والعقل والجسد كلها، والإرادة مثل كل الجوارح فينا ينميها الترويض وتعززها الممارسة. وهل تظنني مغبونا إذا حرمت نفسي قليلا مما اعتدته من أساليب الراحة والرفاه أو عملت عملا صغيرا أستثقله متعمدا في ذلك لا إماتة نفسي بل ترويض إرادتي للعمل؟ فإذا مر علي سنة وأنا كل يوم أعزم عزما مهما كان صغيرا وأنجز العمل به أستطيع أن أقول مع الفيلسوف (كنت): «علي أن أفعل أذن لي أن أفعل.» إذ ما الفائدة من هذه الأفكار الجميلة أفكارنا، ومن هذه الأخلاق الفاضلة المجيدة، إذا كنا لا نروض أنفسنا لها، ونعمل بها عازمين حازمين، لينتفع بها الناس ولينتفع بها الوطن؟
ولا أنكر أن الضرورة في الأحايين تغير من أخلاق الناس فتحسنها أو تفسدها، ضاقت مدينة أثينة على سكانها أيام مجدها والأرض المجاورة لم تكن خصبة فقلت المواشي وعزت فأغفل الناس الأضحية، فأفتى الحكماء، أن هدية تهدى إلى الآلهة لخير من ثور يذبح لها، فاتخذ الأثينيون الفتوى سنة؛ لأنهم كانوا أشد من الآلهة حاجة إلى اللحم، وكان هذا سبب اعتدالهم وحكمتهم حتى إن الناس بعدئذ - وقد نسوا أو جهلوا الأسباب - قالوا: إن الأثيني أرقى في خلقه الديني من سواه، ومثل هذا في التاريخ أمثلة عديدة لأمور صغرت أسبابها وكبرت نتائجها.
أما عوامل الرقي الفلسفية والفنية التي ذكرتها فقد لا تلزم لتهذيب الأخلاق في القبائل البدوية، وقد تحرم منها أمة وتكون أخلاقها سليمة كأمة العرب في صدر الإسلام، ولكن الملك إذا اتسع وتعددت فيه المساعي والنزعات قام في ظله من مظاهر الأبهة والجلال، والنفوذ والاقتدار، ما لا تسلم عواقبه ويسلم الملك منها إذا حرم عوامل الرقي الخلقية والعملية والفلسفية والفنية. ولنا على ذلك شاهد من الدول الشرقية الماضية ومن الدولة العثمانية اليوم. ولكن بحثنا الليلة في الأخلاق لا في السياسة.
قد اتضح لكم إذا أن العوامل الاجتماعية تؤثر في الأخلاق مثلما تؤثر عوامل الإقليم - أي: الحر والبرد - في الحيوان وفي ما هو حيواني في الإنسان. بقي علينا أن ننظر خصوصا في ما يحط الأخلاق ويفسدها فتخمد في سبيل المجد والعلى ولا ينشط صاحبها إلى نصرة ما فيه إقامة حق أو إزهاق باطل. ولا يطمح إلى مأثرة ولا تسمو إلى منقبة همته، بل يغضي على الضيم خاملا وقد رئم المذلة والاستعباد.
وإن عبدا لعاداته الذميمة لكمثل عبد الحكومة الأثيمة، ففي الغرب - كما في الشرق - مذاهب وعقائد وتعاليم تذهب بالبأس والمنعة والشجاعة والإباء، فتطفئ في المرء نور الضمير، وتخدر منه الحس والشعور، وتقعد فيه الإرادة إلا في سبيل الأباطيل والمنكرات. أحقا أن الغاية القصوى من الحياة أن ينجح الإنسان في عمله مهما كان وكيفما كان؟ على رسلك أيها المتكالب في سبيل المال العابث بما في الحياة من جوهر الكمال. إن في الحقول وفي الحراج وفي المناجم ما في السماء وفي البحار وفي النفس البشرية من جمال، لا يوزن منه للتجار ولا يكال، وأنت أيها الزعيم، زعيم العمال، سمعت أناسا يقولون: إنك تتاجر بالفقر والفقراء فتمسي غنيا، وأنتم أيها البائسون المؤمنون بمن لا يصدقون ويل منكم ساذجين، يشحذون فيكم الغرائز ويقضون على أخلاق سليمة فيكم خامدة ويغرون عليكم الأسياد، وإلى غاياتهم على بؤسكم يسيرون.
وما انخفضوا كي يرفعوكم وإنما
رأوا خفضكم طول الحياة لهم رفعا
وسيدي صاحب الدولة والرتب العالية إنجيله غير إنجيل المسيح الذي يتبجح باسمه، إنجيله كتاب عرفناه، هو: «كتاب الأمير» رأيناه يتخذه دستورا لأعماله وأقواله، «وكتاب الأمير» لمكيافلي - أيها السادة - يعلم الكذب في السياسة والمكر والغدر والسفسطة والرياء.»
قال «الكردينال ريشليو» في وصيته السياسية: إن الحاكم لا ينبغي أن يولي صاحب الشرف والوجدان، وفي كتبنا العربية التي تعلم الملوك والسوقة السلوك كثير من هذا، وإن نصيحة «ريشليو» لتذكرني بما قاله عمر عندما عزل زياد بن أبي سفيان، قال زياد: لم عزلتني يا أمير المؤمنين ألعجز أم لخيانة؟ فقال عمر: لم أعزلك لواحدة منهما ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس، فالشرف إذا والكياسة والذكاء والوجدان؛ عيوب في صاحب السياسة، غربيا كان أو شرقيا، إلا إذا استخدمت في المصانعة والكذب والمكر والخداع.
على أن الشرقيين قد لا يرون في مدنية أوروبا غير آفات أفضت فيها في خطاب لي سبق فينفرون منها بل ينبذون من أجلها المدنية كلها زاعمين أن فيها ما لا يوافق حالهم وشئونهم وطباعهم. ولعمري إن ما فسد في تلك المدنية لا يوافق أحدا من الناس لا شرقيين ولا غربيين.
وفي أوروبا وأميركا كثيرون من ذوي الرصانة والحصافة، نوابغ في العلوم وفي الفنون وفي الآداب، يحملون على ما في مدنيتهم من الموبقات والمنكرات وأكثرها آفات ظاهرة تعرف الحكومة كيف تتأثرها لتصلحها أو لتستأصلها. وأما في الشرق فآفات المدنية خفية دقيقة يصعب على العلماء معالجتها ويعجز في سبيلها الحكام.
الغربي بما فطر عليه من حب الحرية والجهر بالأمور يجرأ على عمل قد يكون مخالفا سنن العدل المصطلح عليها، ولا يخفي قصده عن الناس بل يسير إليه في رائعة النهار ويعززه بحجة عقلية أو سياسية. وقد يكون مجرما مع ذلك أو فوضويا، أو شاعرا أو سريا. أما الشرقي فنفسه كتاب من الأسرار مختوم لا يعلم منه إلا ما نقش على الختم «اللطف، المجاملة، المصانعة، الاستسلام» تحدث الشرقي في أجل الأمور أو في أحقرها، وتطلق لنفسك العنان في النصح أو النقد أو التقريع، فيهز رأسه مؤمنا محبذا، أي نعم، تمام، الحق معك، هذا صحيح، حبذا والله. ثم يذهب في شأنه ثابتا في ضلاله.
إخواني، في كل أخلاقنا الكريمة الشريفة ما وجدت خلقا واحدا يقارن الجرأة الأدبية والحرية الأدبية، شعوب وأمم تفرقوا مذاهب وهم في حاجة إلى التفاهم قبل كل شيء، ومفتاح التفاهم التصريح بمقاصدنا وغاياتنا، التصريح بما تكنه أفئدتنا مما يختص بشئوننا الاجتماعية والدينية.
أما هذه الحرية السياسية التي ترفع في الجرائد وفي الأندية عقيرتها فليست صافية من شوائب التقية والتعصب والمخاتلة. لم يزل هذا الشرقي شرقيا - مسلما كان أو مسيحيا - فيقف مثلا أمام الحاكم مكتفا مزررا، ويتأدب تأدبا لا يمنعه من الغيبة والنميمة عندما يخرج من الديوان، ويظهر أن سب الحاكم سرا، هو خلق قديم من أخلاق الشرقيين؛ لذلك قيل في الأمثال: ادفع إليهم ما طلبوا من الظلم ولا تنازعهم فيه، وكف لسانك عن سبهم.
5
على المرء أن يدفع الحجة بالحجة، والظلم بالحق، بل بالتمرد إذا اقتضى الأمر والعصيان، فيكون التمرد - إذ ذاك - حقا والعصيان واجبا، عليه أن يطالب أبدا بحقوقه المهضومة مهما كانت، فإذا نام عن صغيرها لا يستطيع صيانة كبيرها، ولكن الشرقي، لوفرة أدبه، أو لكبر نفسه، أو لشدة ورعه، يغضي على الضيم ويعود إلى الله، وقد يتأوه في سره ويشكو الزمان.
والحق يقال: إن في الناس حتى في الغرب كثيرين مثل الشرقيين يسكتون ولا يعارضون ما زالت تجارتهم رائجة، وما زالوا على شيء من العيش رغد هنيء، ولكن هذه المظالم التي أصبحت من المزايا الشرقية المحضة لا تكثر في الأمم الغربية، ولا بد للتجار أصحاب الذراع والميزان من المجاملة والمكايسة، فالحضارة تنبه في الإنسان غرائز لا أثر لها في فطرة أهل البادية، وحبذا أخلاق العرب، حبذا البأس والمنعة وعزة النفس والمروءة والإباء والشهامة والوفاء. ولكن الأحكام الشرقية والتقاليد الدينية والمذاهب السياسية ذهبت بأكثرها.
في كل جيل أباطيل يدان بها
فهل تفرد يوما بالهدى جيل
ترانا لا نأتي عملا لا يكون منصوصا عليه في كتب الدين، ولا نخطو خطوة لم يخطها قبلنا أجدادنا، ولا نقول في مشاكل الحياة قولا لا نستطيع إسناده أو إسناد مثله إلى أحد الأئمة الكبار، ولا يمسنا ضر أو خير إلا منه تعالى، فنتوه في جهلنا قائلين: إنا لله! ونتربع على بساط المذلة صارخين : إنا لله! ونركب مطية الجبن والعجز متأوهين: إنا لله! وتحل بنا سبع ضربات مصر فنصرخ مبتهلين: والحمد لله والشكر لله!
جميل هذا التناهي في الورع والتقوى، جميل هذا الصبر والاستسلام، ولكن في المغرب أمما أراحوا الله من صراخهم، وشكواهم فأفلحوا، أي سادتي، خلق الله الطير ليطير بجناحيه لا ليتمرغ بهما في أوحال اليأس ويكسرهما على صخرة الإيمان، وأجنحة النفس والعقل في الشرقي لم تزل - والحمد لله - سليمة ولكنها مكبلة مقيدة، قيدتها القناعة والاستسلام، قيدتها عقيدة القضاء والقدر، قيدتها الأحكام الظالمة، قيدتها السيادة الدينية المطلقة، قيدتها الطاعة العمياء، قيدتها التقاليد والخرافات، بل قيدتها المرأة في قيودها. حلوا قيود المرأة الشرقية فتحل قيود الشرق كلها تدريجا.
ومن غريب سجايا الشرائع والأحكام أنها تحرر جيلا من الناس وتستعبد آخر، كانت عقيدة القضاء والقدر قديما من أكبر عوامل النصر في الإسلام، وهي اليوم من أكبر العوامل في تأخر المسلمين، والشريعة التي حررت المرأة من أحكام الجاهلية وعاداتها أمست اليوم نيرا على المرأة لا يطاق، الشريعة التي تقبلها امرأة العصر الخامس لا تقبلها امرأة العصر العشرين، والتي تقبلها امرأة اليوم قد ترفضها امرأة الغد، وهذا هو ناموس الترقي الحي الدائم الذي يخدع المتشرع والمصلح والحكيم، سنن الأدب والدين والسياسة إنما هي من عقل الإنسان، وإنما هي التي أبقت عقل الإنسان في قيود الجهل والعبودية زمنا طويلا.
على المرء أن يكون متيقظا عاملا ناشطا مفكرا، فلا يقبل اليوم من الشرائع التي سنت لأجداده ما لا يوافق حاله، ولا يساعده في ترقية نفسه وعقله، بل في ترقية قواه الحيوية والروحية كلها. عليه ألا يكون ممن:
عاشوا كما عاش آباء لهم سلفوا
وأورثوا الدين تقليدا كما وجدوا
فما يراعون ما قالوا وما سمعوا
ولا يبالون من غي لمن سجدوا
لو سلم «كولمبوس» بالمقدر لما سافر سفرته العجيبة، وما أعظم تلك الثقة ثقته بنفسه ونتيجتها. ولو سلم أولئك الإنكليز القلائل بالقضاء، ورضخوا لمظالم حكومتهم لما هجروا بلادهم، وما أعظم نتيجة تلك الهجرة، جمهورية جديدة عظيمة! ولو سلم العلم بأحكام القضاء لكانت الأوبئة والأمراض تبيد سوريا وقبائل من البشر كل عام.
ومن العقائد التي تعلم السجود لغير الله ما هو مجحف بالفضيلة، مفسد للحقيقة الكلية المطلقة، كعقيدة الثواب مثلا والعقاب، فالجحيم يجعل الإنسان هلوعا قاسيا جبانا، والجنة والسماء تنسيانه واجباته في هذا العالم، وما رأيت ورعا أجمل من ورع من يمارس الفضيلة حبا بها ومن أجلها، أما عقيدة القضاء والقدر فهي المسئولة عن أكثر ما نحن فيه من الاستكانة والمذلة والخمود. «علي أن أفعل» فالمقدر للجماد ولما فينا من جماد، لا للعقل المفكر والنفس الخالدة، إن الأحوال الظاهرة لبنت الفكر، وإن الفكر لسيد الحوادث، من سعى سعيا جميلا في تكييفها لتوافق نزعات النفس السامية، ولتحقق آمال الفكر العالية؛ كان من الصالحين المقربين من الآلهة. وما يعترضنا في طلب الحقيقة، وفي تعشق صورة الكمال من جهل وتعصب وتقاليد وخرافات؛ فمن الشيطان هي، لا من الله. وعلينا أن نناهضها لنذللها ونستأصلها تماما.
قال إمرسون: «النفس الخالدة هي التي ترى الخلود في كل شيء، وتساعد في تكوين العالم.» وفي النفس مرآة إلهية تنعكس فيها صورة الكمال. وكل فكر جميل يصقلها وكل فكر خبيث يشوهها، علينا إذا أن نهجر أميالنا السيئة وآمالنا الباطلة ونزدريها إذا اعترضت الفكر الجميل في سيره وسعيه وجده. إن إرادة الإنسان إذا أدركها وروضها لعظيمة، ومتى بدأ يقول «علي أن أفعل أذن لي أن أفعل»، كما قال الفيلسوف «كنت» ويقرن بالعمل قوله، يتدرج إلى السيادة المطلقة في ممالك الحيوانات والنبات والأثير، وفي ما فوقها للنفس من ملك لا يحد.
لكل منا دائرة اجتماعية صغيرة يستطيع أن ينير فيها مصباح الفكر والحب والإرادة، ولكل منا سلسلة حوادث يتألف منها المهم في حياتنا الإصلاحية فيستطيع أن يكفيها لتوافق ما سما من أفكارنا وما سلم ورق من شعورنا، هذا إذا كانت لنا ثقة بأنفسنا فنعزز بالعمل الإرادة فينا.
لا بد من سقوط كل عقيدة، دينية كانت أو سياسية أو فلسفية من شأنها أن تبقي الإنسان في ضعفه وجهله وخموله، ولا بد من اضمحلال مذاهب وتعاليم ركنها الأول من الوهم والخرافة، ولا بد من نسخ كل شريعة لا يقرها العقل ولا يخضع لها الضمير. وما نهض بالأوربيين من مهامه الجهل والهمجية والاستعباد غير تحررهم من خزعبلات السياسة والأحكام، ومن قيود الخرافات والأوهام.
في جزيرة جاوى نوع من الشجر لا ينمو في ظله نبت ولا يعيش حيوان، شجرة في جذعها وأغصانها سم يسم تربتها وظلالها فتراها وما حولها من الأرض الجدباء كأنها واحة في قلب البادية. وهذه لعمري شجرة الخرافة، يزرعها أرباب الدين في النفس فيسمون فيها بالفضائل والأخلاق، وتمتد ظلالها إلى العقل وإلى القلب فتفسد فيهما الفكر والشعور. شجرة جذعها من الخوف وسمها من الجهل، وأغصانها من الأوهام، وثمارها - وإن كانت كبيرة جميلة - فكتفاح سدوم قلبها من رماد وكبريت! فمتى يتقلص ظلك في الشرق أيتها الشجرة السامة المهلكة؟ متى يستأصلك العلم من أنفس الشرقيين؟ ومتى يطرد هؤلاء الكهان الذين يرعونك بالتربية ويتاجرون بسمك وثمارك؟
نكذب العقل في تصديق كاذبهم
والعقل أولى بإكرام وتصديق
أولئك الذين يتاجرون بتفاح سدوم يفسدون في الناس عقيدة الإيمان الحقة، الإيمان سر القوى البشرية من عقلية وروحية وأدبية، الإيمان الحي الصادق يحرك صاحبه إلى المفاداة بالنفس والنفيس في سبيل الحق والشرف والعدل والحق والمجد والعلى. وفي سبيل العلوم التي تحبب هذه الفضائل إلى الناس، وفي سبيل الفنون التي تحيي فيها صورة الكمال. قديما كان النبي الكاتب الشاعر في الناس، وما كان يتهيب الموت إذا اعترضه في سبيله، فيسجل كلمته على أعداء الحق بل أعداء الله ولسان حاله يقول: على الدنيا السلام. فأين شبه الأنبياء في أدباء هذا الزمان وشعرائه.
تراهم يتزلفون إلى ذوي السيادة ويصانعون صونا لمصلحة أو جرا لمغنم، أما الإيمان فميت في صدورهم. فالأديب الذي يفادي بسعادته في سبيل أدبه، والسياسي الذي يفادي بمنصبه في سبيل وطنه، والعالم الذي يفادي بحياته في سبيل عمله؛ إن هؤلاء وإن عدوا من الكافرين لمن أجمل الناس ورعا وأصحهم اعتقادا وأصدقهم دينا؛ ذلك لأن إيمانهم بالله. وبالحري بما في النفس البشرية من القوة الإلهية الكامنة، لحي صادق مجيد، أتمجد الله يا هذا؟ كن عادلا محبا منصفا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر عاملا في تحقيق أمل واحد من آمال النفس السامية، فإن في اقتدائك بالمقربين منه تعالى تمجيدا كافيا لاسمه.
6
عقائد في الشرق وأضاليل تفسد العقول والأخلاق فما الذي يصلحها؟ لا أقول قول «منتسكيو» إن على الحاكم أن يستخدم القانون لينبه من أنامهم الدين، أو بالحري الاعتقادات الدينية الباطلة، فالعقائد الفاسدة لا تزيلها غير العقائد السليمة، والقانون لا يجرأ على اقتلاع شجرة الخرافة من أصولها؛ لأن ذوي المصلحة الذين يتاجرون بسمها وثمارها كثيرون.
فالعلم الصحيح وحده ينبه من خدرته التقاليد والخرافات، وينعش منه النفس والجسد أما القوانين والأحكام فتعجز عن إصلاح ما أفسدته من الأخلاق. إن عصرنا لهو عصر البحث والنقد والتمحيص، وإذا كانت لا تسود هذه الروح روح الزمان الراقية في آدابنا وأدياننا وسياساتنا واجتماعاتنا، فلا تصطلح أخلاقنا أبدا ولا تفك فينا قيود العقل والروح.
في كل الفلسفات الأدبية القديمة والحديثة ما وجدت أصلح من فلسفة الرواقيين وأسمى. منشئها «زينون» اليوناني، فإن فيها من المنبهات العقلية، والمقويات الروحية، ما لا نجده صافيا في الحقائق التي نلقنها اليوم. فلسفة الرواقيين تعلمنا الواجب الذي لا يتعدى العمل به اللازم المفيد، وتعلمنا الصبر على الشدائد وعظم الهمة، وتعلمنا أن ننظر إلى السرور والحزن بعين هادئة وقلب مطمئن. وتشدد العزيمة فينا فتحصن النفس من طوارئ الدهر وتعدها لنوائب الزمان، وتحبب إلينا الفضيلة حبا بها لا حبا بجنات تجري من تحتها الأنهار.
لمذهب الفيلسوف «زينون» الفضل الأكبر في عظمة رومية وبأس أبنائها، بل هو مهد رجالها العظام من قادة وسياسيين وفلاسفة وقياصرة، لو حكم علي بالتمذهب لما اخترت غير الرواقية مذهبا.
لا أنكر أن ماضي الشرق غني بالنوابغ العظام، بالذين تفردوا ذكاء وروحا وأخلاقا، فنظموا الشعر، واشترعوا الشرائع ووضعوا التعاليم، فكانوا أعلاما يهتدي الناس بها، ولكن المعلمين منبهون مرشدون، والأنبياء إلى الطريقة القويمة هادون، على أن «الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام» بل فطر على أن يهتدي بمصابيح العلم والحرية، فالعلم ينير الحوادث ودلائلها، والحرية تمكنه من الاستفادة بها فكرا وعملا.
إن في كل قوم حكمة، ولكل زمان سياسة، وفي كل حالة تدبيرا يبطل الأخير منها السابق لها، إن تعاليم «كنفوشيوس» السياسية تغاير الشرائع الدستورية التي تأسست عليها اليوم جمهورية الصين، وفلسفة بوذا الاجتماعية والدينية تتقوض في ظل الأحكام الإنكليزية، وإن ما أنزل على نبي العرب لإصلاح حال العرب ورفع شأنهم أكثره لا يصلح اليوم لإصلاح شئون أمم كبيرة لا يستطيعون أن يعيشوا كالبدو في بيوت من الشعر.
وفي الشرقيين من أدركوا هذا، ممن عظم خلقهم وكبر قصدهم وبعدت همتهم، وإننا لنرى شيئا من هذا الإدراك السامي حتى في المتفردين بالتوحش من الفاتحين، رجل رجلاه في الدم وفي رأسه شيء من السماء نظر إلى السماء وقال: إذا كان الله في كل مكان لم لا نعبده في أي مكان كان، ففي أشواك نفس «جنكزخان» الذي هدم الجوامع واعتنق الإسلام وردة جميلة من وردات الحقيقة السامية، وإن كلمته لتذكرني بما رواه لنا «القديس أوغسطينوس» عن «فكتورينوس» العالم الوثني الشهير في زمانه، فإنه أخبر أحد أصحابه يوما أنه اهتدى إلى الدين المسيحي فقال صاحبه: لا أصدق حتى أراك في الكنيسة، فقال «فكتورينوس»: وهل الجدران تجعل المرء مسيحيا، الحقيقة تتجلى في الأحايين للبربري تجليها للفيلسوف.
وإننا لنجد في الشرق اليوم في أي مدينة كانت أناسا تساموا عقلا وخلقا، ولكن خاصة أخلاقهم لازمة غير متعدية بين أن الغربيين إذا سمت أخلاقهم صحت منهم العزيمة وبعد القصد، فيعملون بما أوتوا من المواهب لخير الناس. وإننا لنرى هذا الفرق في حكمتنا وحكمتهم - كما قلت - وأزيدكم من ذلك مثالا، جاء في بعض الكتب: إن الرجل الفاضل الرشيد لا ينبغي أن يرى إلا في مكانين، إما مع الملوك مكرما، وإما مع النساك متعبدا، هذه حكمة الشرق. إنما الفاضل الرشيد من لا يرى لا مع الملوك مكرما ولا مع النساك متعبدا، بل في معمعان الحياة عاملا، هذه حكمة الغرب. فالزهد والانقطاع عن الدنيا كالإخلاد إلى نعيم العيش كلاهما يورث الخمول والخبال، وإذا سلمت عواقبه فلا يربي في صاحبه غير الفضائل اللازمة أو السلبية. وهاكم قصة تمثل ما أريد: التقيت مرة في الطريق على شاطئ البحر بدرويش اسمه الشيخ عبد الله، وهو من السالكين، طريقته مولوية، فأخبرني أنه وصل إلى سوريا منذ خمسة عشر يوما قادما من الحجاز ماشيا، وقضى في الطريق خمس عشرة سنة، وأخبرني أنه جاء سوريا ليزور فيها قبر أحد الأولياء في نواحي طرابلس.
تركت ضياء الشمس يهديك نورها
وتبعت في الظلماء لمحة بارق
على أنه بان لي بعد أن حدثته في طريقته وأحواله - ولي نزعة إلى استطلاع أخبار هؤلاء الدراويش - أن الحاج عبد الله على شيء من العلم، وأنه في سلوكه وقنوته لمن الصادقين، ولم يطلب مثل أكثر إخوانه صدقة لوجه الله، ولكنني عند مصافحتي إياه مودعا وضعت في يده قطعة من نحاس هذه الدولة فقبلها شاكرا. وسرت في طريقي أتأمل في من جاء ماشيا من الحجاز - وقضى خمس عشرة سنة في الطريق - ليزور قبر ولي من الأولياء.
أرسلت غربك تبغي الماء مجتهدا
وما على الغرب لما خانك المرس
وكنت وصديق لي نقصد يومئذ عمشيت لنزور فيها قبر ولية من وليات البر والحجى، هي «هنريت رنان» أخت الفيلسوف الإفرنسي الشهير، فكنا والحاج عبد الله سويين من هذا القبيل لكلانا مزار تحركنا إليه عاطفة الورع والتقوى، ولكن هذا غير ما أبتغي من القصة. في اليوم الثاني ونحن عائدون إلى بيروت - وكانت السماء يومئذ ماطرة - تراءى لنا خيال أسود على حجر إلى جانب الطريق، فاقتربنا منه فإذا به الحاج عبد الله يستريح تحت المطر من عناء السفر - وهؤلاء الدراويش لا يخافون الزوابع والرياح - فحدثناه ثانية، وقدم إليه رفيقي شيئا من المال - وهذه النكتة - فرفضه قائلا «لم يزل معي والحمد لله مما تفضلتم به البارحة.» القناعة كنز لا يفنى، ولكنه كنز لا يعمر البلاد.
خلق الحاج عبد الله ما يسمونه في لغة المتصوفين خلقا عظيما؛ لأنه أعرض عن العالم وأقبل بكليته على الله تعالى، ولا أظنكم تجهلون ما في هذه الطريقة طريقة السالكين والنساك من تعطيل الحواس الظاهرة والكفران بالذات. وإن السالك ليقتل إرادته ويخلد إلى السكون الذي يولد الخمول والكسل.
وفي الهند عند البراهمة غرائب من أساليب الكسل والخمول. عقيدة البوذي مثل عقيدة المتصوفين في نتائجها وفي بعض أصولها، والغاية القصوى منها اتحاد المرء والمبدأ الأولي الدائم مبدأ اللاشيء - أي: العدم الأزلي - فالبوذي يغمض طرفه ويقول: إنني جزء من هذا اللاشيء الأزلي اللانهاية له، وفي قتلي الإرادة، واستئصالي الرغائب والآمال الدنيوية من صدري، أفوز على النفس فيتم اتحادي بالظلمة الأزلية الأبدية، وهي تدعى عندهم «نرفانا» أما المتصوف فيدعوها جمع الجمع - أي: العزة الإلهية - وإذا سئل البوذي ما هي «نرفانا»؟ أجاب: إني حين أغمض طرفي وأعود إلى نفسي مرددا: «أم، أم» أظفر بها، «أم، أم»! الله الله! قد يسعد النسك صاحبه، ولكنه يخرب العالم.
مثل هذه العقائد أصولها في أوحال العادات والخرافات، وفروعها في سماء النظريات والأوهام، لا تربي في المرء أخلاقا سامية مجيدة يتعدى خيرها، ولا يلازم صاحبها وينحصر فيه، ومن سخيف تقاليدها مثلا ما نراه متبعا عند البراهمة فعلى البرهمي ألا ينظر إلى الشمس عند شروقها وغروبها، ولا يطأ حبلا ربطت به بقرة، ولا ينظر إلى امرأته حين تأكل أو تعطس أو تتثاءب، ولا يلبس لطعام الظهر غير ثوب واحد، ولا يستحم عريانا، وغيرها من آداب السلوك المستغربة المضحكة.
حتى إنه في إزالة الضرورة تراه مقيدا بخرافات بوذية، فقد حظر على البرهمي أن يزيل ضرورة على الرماد أو في حقل مفلوح أو على ربوة خضراء أو على وكر نمل أبيض، وغير هذه من الأوهام التي ينزلونها منزلة النواميس الطبيعية بل الإلهية. وهم مع ذلك أصحاب تجلة وكرامة، محترمون في قومهم مؤلهون، فلا غرو إذا كانوا متقاعدين متخاذلين خاملين، لا يعملون عملا مفيدا، الجلالة والوقار والكسل قلما ينفصل بعضها عن بعض، وكل أمة يغلب في شعبها وهم الأبهة والجلالة، تستنيم إلى الضعة، ويخمل منها الحس، ويكثر فيها الكسل.
هؤلاء نساك الروح، رهبان الشرق، براهمة ومتصوفون، يهربون من الحياة ويزدرونها، أما نساك العقل فإليكم خبرهم. في المغرب اليوم عصبة الفلاسفة المتفردين الذين يعرفون الأحكام ولا يقرونها، ولا يتعرضون لها مباشرة، يعيشون في حقولهم بعيدين عن ضجيج المدن والناس، مستقلين مطمئنين، لا يتطلبون شهرة ولا مجدا. يعيشون على الفطرة الأولى من الوجهة الجسدية، وعلى أرفع ما اتصلت إليه العلوم والحكمة من الوجهة العقلية والروحية والمعنوية.
ترى أحدهم بدويا في غرائزه وطباعه، حضريا في مزاجه وأخلاقه، أميرا وفلاحا في وقت واحد، وكثيرون من هؤلاء في الولايات المتحدة في البر لا في المدن يعيشون في عزلة عن الناس، كل في دائرته كالنجوم في حبكها، وتشع أنفسهم أشعة الألفة الحقيقية التي تربط كل دائرة بأختها، ولكل منهم مهنتان سماوية نسكية قوامها الآية: «على الأرض السلام وبالناس المسرة» ومهنة دنيوية زراعية قوامها الفكر والعمل، فيحرث أحدهم الأرض، ويربي المواشي، «ويقطر عربة أفكاره بالكواكب السيارة» كما قال «إمرسون» وقد زرت أحد هؤلاء الكبار مرة في بيته فلقيته عند وصولي قدام باب الإسطبل حاملا جراب قمح يطعم منه الدجاج، وبعد أيام دعيت إلى مأدبة في المدينة جمعت من رجال العلم والأدب أشهرهم هناك وكان صديقي هذا رئيسها وقطب دائرتها.
فتأملوا هؤلاء النساك نساك العقل، نساك الفلسفة، لا ينكفون عن العمل المفيد، مهما كان زريا، ولا تأخذهم أوهام الأبهة وخزعبلات الوقار والجلالة، وقد لا تعجبكم أخلاقهم أو بالحري سلوكهم، فهم لا يحفلون بما تلقناه في الشرق من المجاملة والمصانعة في الضيافة، ولا يحسنون من اللطف الشرقي الألف باء، ولكن صدقا في أقوالهم، وحرية في أعمالهم، وجرأة في حريتهم؛ تقربهم إلى الفطرة البشرية الأولى التي لا تعرف القهر والضغط، فيسترسلون مع الطباع، ولكنهم يستعملون في ذلك الفكرة والتمييز. والفطرة الأولى أقرب إلى الخير، على ما فيها من غلاظة وسماجة، لبعدها عما ينطبع في نفوس أهل المدن من سوء الملكات، وقبيح العادات، وفاسد الاصطلاحات، وهذا ما يحمل ذوي الألباب والحصافة اليوم إلى السكنى في القرى أو التنسك في البرية.
ذلك مبلغ نساك العلم والأدب، وتلكم طريقتهم النسكية الفلسفية ، ناسك الروح يعطل الحواس منه لوهم فيه أن ذلك يقربه من ربه، وناسك العقل يهذبها ويرعاها أبدا بالتربية ليقترب من نفسه فيعرفها، شعاره بساطة العيش مع سمو الأدب، فيقرن لذة الحراثة بلذة التأمل، ولذة التأمل بلذة العمل. ناسك الروح يبعد عن الناس ليقترب من الله، وناسك العقل يعتزل الناس ليقترب حقا من الناس، فيعيش طبق فلسفته وبموجب علمه فيصير أهلا لأن يخدم الناس وينفعهم. فما قولكم بالناسكين ناسكنا وناسكهم، وأي منهما أقرب إلى الله؟
وهاكم مثالا آخر من أخلاقنا الكريمة التي قلما تفيد. في لبنان يكثر الشحاذون ومنهم نساء من العرب يستعطين ليعيشن أولادهن ورجالهن! ومن هؤلاء البائسات بدويتان استوقفتاني يوما فأدهشني أمرهما، بعد أن جاءتهما الخادمة بشيء من الدقيق جلستا على الدرج قدام الباب وفتحت كل| جرابها، فأخذت البدوية الصغيرة واسمها حسنى تفرغ من جرابها الملآن في جراب رفيقتها الفارغ، فسألتها السبب في ذلك، فقالت: هي ضرتي ورجلنا يؤثرني عليها ويضربها ضربا أليما إذا عادت المساء وجرابها فارغ، فأشاطرها ما معي لأرد عنها الضرب.
فعجبت لكرم أخلاقها ولكني أسفت لما ربيت عليه من الذلة والاستكانة والاستسلام، فهي لا تستطيع ردع زوجها المتوحش إلا بهذه الحيلة الجميلة، ولو حاولت ردعه ساعة غيظه لضربها أيضا، حبذا شهامة مقرونة بالقوة والعصيان، لحم الضبع يلزم له أسنان الكلب، وإنه ليحق لمثل هذه المرأة أن تهجر زوجها، ولباركها الله لو فعلت، ولكن زوجها ممن يدينون بدين يأمر بضرب النساء.
وهاكم قصة أخرى تمثل ما أريده بالأخلاق اللازمة المتعدية، مر أعرابي بعجوز فطلب منها طعاما، فجاءته ببضع حيات مشوية وبكوز من الماء المالح، فاستغرب ذلك وسألها السبب، فقالت: هذا كل ما عندنا في هذا الوادي، فتعجب الأعرابي وسأل العجوز كيف تقيم هناك تأكل الحياة وتشرب الماء المالح؟! فقالت: وكيف تكون بلادكم؟ فوصف لها بلادا فيها دور رحبة واسعة، وثمار يانعة لذيذة، ومياه غزيرة عذبة فقالت العجوز: وهل يكون لكم من سلطان يحكم عليكم ويجور في حكمه؟ فقال الأعرابي: قد يكون ذلك، فقالت آكلة الحيات: إذا - والله - يكون ذلك الطعام اللطيف، والعيش الظريف، مع الجور والظلم؛ سما ناقعا، وتعود أطعمتنا مع الأمن ترياقا نافعا. حكمة العجوز بليغة، وجميل إباء نفسها، ولكن ذلك لا يردع السلطان عن غيه ، ولا يكبحه عن جوره وظلمه.
أجل إن قناعة الحاج عبد الله وشهامة البدوية حسنى وعزة نفس العجوز آكلة الحيات لفضائل كلها جميلة ولكنها سلبية ملازمة، شريفة أخلاقهم روحية، ولكن شيئا كهربائيا لينقصها، مثل هذه الأخلاق في الشرق لا تؤهله لمناهضة الظلم والظالمين؛ لأنها غير مقرونة بإدراك النفس ما لها من الحقوق وما عليها، وقد يصح أن نقول: إن في مثل هذه الأخلاق الشريفة نورا وليس فيها دم. الشرقي يهرب من الظلم معتصما بالله «لا تجعل سلاحك على من ظلمك الدعاء عليه ولكن الثقة بالله»، فالهرب إلى البرية من الظالم جبانة، والهرب إلى الله من الحياة كفران بالحياة وبباريها، نفس الحاج عبد الله جميلة ولكنها ضالة، ونفس العجوز أبية ولكنها مستسلمة، ونفس حسنى البدوية كريمة ولكنها خامدة خاملة، فحيلتها لا تزيل شراسة الخلق في زوجها، وكان ينبغي لها أن تتفق وضرتها لتهجرا مثل هذا البربري، فإن خفاشا في كهف لخير منه.
أقول - وحقا ما أقول - إن الشرقي يظل شرقيا قاعد الهمة، عاجز الرأي، خامد الطباع متخاذلا مستسلما، قانعا من زمانه بالضعة والذل، إذا كان لا ينفض عن نفسه غبار السنين من الكسل والخمول، ولا يكسر قيودا من التقاليد والخرافات والعادات، قيدت منه العقل والنفس والجسد.
الإنسان الذي خلقه الله على صورته تعالى ومثاله، إذا تقيد في كل أعماله وأقواله وأفكاره، لا يبقى فيه شيء من صنعة الله حر جميل، الفكر! انهضوا به من قبور التقاليد، النفس! حرروها من خزعبلات الأوهام، الجامعة! ارفعوها على الحكومة والحكام، الأخلاق! روضوها للعمل المفيد. إن أخلاقنا الروحية لرأس مال كبير في حياتنا الجديدة، علينا إذا أن نستخدمه لخيرنا وخير الشرق بل لخير الناس أجمعين. وإن من لا يرجو من هذه الحياة خيرا لهو غالبا ممن لا يستأهلون الخير ولا ينالونه.
كلمات اليأس لا يزيل تردادها اليأس، التأوه والأنين لا يصلحان الشئون بل يوهنان القوى ويورثان الخبال. لنعود أنفسنا ترداد كلمات الأمل والرجاء، فإنها وإن كانت مبنية على وهم مستحب، أو فكرة طائشة، لتعودنا في الأقل العمل ، وتوقظ فينا النشاط وتشحذ منا الإرادة. إن أملا أردده في نفسي كل يوم لا يلبث أن يملكها فيدفعني إلى العمل لتحقيقه. المريض لا يشفيه الأنين، والشقوة لا يزيلها الاستسلام إلى الأقدار، لتبرهن خطتنا في أمور الدنيا والآخرة على عقلنا، ولتبرهن قوتنا على خطتنا، ولتبرهن أعمالنا على هذه القوة فينا.
وحبذا الشرقيون والغربيون لو أخذ بعضهم عن بعض مما هو جميل في أديانهم، صحيح في آدابهم، سام في فنونهم، سليم في عاداتهم، سديد في عقائدهم، عادل في أحكامهم وشرائعهم. فالحق يقال: إن خلاصة آداب الشرق والغرب - بل خير ما في الاثنين ممزوجا موحدا - إنما هو الدواء الوحيد لأمراض هذا الزمان الاجتماعية والدينية والسياسية، فالغربي عندئذ يعود إلى الله، والشرقي يرفع عنه تعالى بعض أثقاله.
الباب الرابع
الشعر المنثور
(1) النجوى
1
يا ذا الجلال الأزلي، ألحفني بشيء من جلالك
يا ذا النور الدائم، امددني بقبس من نورك
يا ذا القوة غير المتناهية، ابعث منها في قواي •••
إنما أنا مبدأ الحياة الأزلية، وعين الحب والقوة، وأني حي فيك، عليم بنجاويك •••
أنت الحياة بأجمعها، أولا وآخرا، وإني لأحيا بك •••
إنما أنا مصدر الإدراك البشري، وسأزيدك إدراكا بأنك جزء مني •••
ساعدني اللهم لأجمع قواي الروحية، والعقلية، والجسدية، في سبيل الحق والحب والحكمة •••
إني أيها الإنسان مصيخ إليك، مطلق يديك، منعم عليك •••
يا أيها الينبوع السرمدي،
المنبعثة منه أنوار الحب، المتدفقة منه مياه الحياة والعافية، إني أفتح لك عقلي وقلبي، وأبسط أمامك روحي، فلا تحرمني فيض مكارمك، ولا تبعدني عن ينابيعك •••
إن ينابيعي لفي النجوم، وفي ما يربط النجوم بعضها ببعض، وفي ما ينشأ عن ذا الارتباط من قوة وعافية
إن ينابيعي لفي الحقول، وفي ما ينشأ فيها من الأزهار، وفي ما يبعث من الأزهار أريج الحب والجمال
وهي كلها أمام عينيك، وطوع يديك يد العقل والكشاف، ويد الروح الخالدة •••
إنك إلهي، ولا إله لي إلاك •••
إني نبض الحياة فيك، وروح الحب فيك، ونور الحكمة فيك، كن علينا أمينا، فهي الألوهية دينا ويقينا.
الرياض، في 1 كانون الثاني سنة 1923م (2) على رمل الإسكندرية
إيه أيتها الأمواج الخالدة، كم شاهدت من أمواج الإنسانية ومن بحورها الفانية
أمام عيونك الزرقاء، وفي ظل ابتسامتك الفضية، كم تبخر بحر ونضب، وكم تبددت تحت أقدامك موجة هادرة شامخة من أمواج الناس
على هذا الساحل الذهبي الجميل لعبت الملوك قديما أدوارها، فتغنت بها أرباب الفنون ورددت صداها ألسن الشعراء
بالقرب من صدى هديرك الهائل هاجت أمواجهم وماجت، فعادت إلى حيث لا يبلغ مدك ولا تبصر عيونك الرمل والصخور
عادت أمواج أنفسهم المضطربة إلى حيث لا نبع إلا نبعك الدافق من ميازيب ذهبية، في بساتين من النور الأزلي الروحاني
هناك نبعك أيتها الأمواج، وهناك أيضا نبع الإنسانية
لقد هجت قديما في صدر الإسكندر فجئت به إلى هنا ليبني لك هذه المدينة الزاهرة
لقد حملت أنطونيوس إليها ليطفئ لوعة غرامه
لقد منحت القيصر قسطا من عظمتك، فخاض عبابك طمعا بملك عظيم، بل شغفا بوجه وسيم
وأراك الآن هائجة في قلوب الصغار والأذلاء، كما هجت قديما في قلوب الملوك والأمراء
أراك مضطربة مبتسمة معا إذ تشاهدين على ساحلك هذه الأمواج المزدوجة من بحر الإنسانية
هي تتمازج على الرمل في كنف الصخور تمازجك في بطن أمك
هي أمواج من النفس يحن بعضها إلى بعض، ويهيج بعضها على بعض، ويختفي زبد الواحدة تحت زبد الأخرى، ويذوب زجر الهائجة تحت مد المدبرة
الحب أيتها الأمواج يؤيدك
والحب يحمل إليك هذه الأمواج القلقة الفانية
ومهما عظم اضطرابها على سواحلك الذهبية فإنما راحتها في ابتسامتك الفضية الدائمة •••
لا تعجبي من هياج هذا الإنسان واضطرابه فما هو سوى طوائف من الأسماك والحيوانات البحرية تختبط في بحر من النفس لا يرى
إن مدينتنا من المدن الكائنة تحت أمواجك، أيها البحر الهائل أيها الرقيب الأزلي
وفيها من الحيتان والدلافين ما يزري بحيتانك ودلافينك
فيها يهدر بحر من هذه الإنسانية المتكالبة
ولكل موجة من هذا البحر الغريب لون يختلف عن الآخر
لكل موجة صوت لا يشبه أخاه
لكل موجة شكل ومنهج وعبوسة وابتسامة •••
هذه الإسكندرية، وفي بحرها تشاهدين الآن ما لم تشاهديه فيما مضى من الزمان
أمامك الآن أمواج مزبدة من نهر التايمس الهادئ، وأمواج هادئة من نهر المسيسبي المتدفق، وأمواج كرواسي الجبال من أنهر السين والرين والدنوب، وأمواج عليلة لطيفة من بحر الأحمر وبحر الهند وبحر فارس
هي الأمواج يتلاطم بعضها بعضا، ويمتزج بعضها ببعض
هي الأمواج تقتل بعضها بعضا، ويصبو بعضها إلى بعض
وفي هذه الحركة الدائمة تذوب الذات وتتلاشى الأصوات
في هذا العراك الشديد والضجيج المديد، تضمحل الأشكال وتنقرض الرجال
أجل، هم يشيدون الصروح وهم يهدمونها، هم يؤسسون الممالك وهم يبيدونها
ثم تطحن وجوههم تحت أقدامك، وأنت باسمة ضاحكة •••
أيتها الأمواج الناطقة بلسان الفناء والأزل، الحاملة إلينا نباء من الموت ونباء من الخلود
إن بحر الإنسانية ليفيض وينضب، ليزبد ويهيج، ليهدأ ويتبخر ويتلاشى، وأنت إلى الأبد في عين الشموس والأقمار
تشاهدين أباطيل هذا الزمان، كما شاهدت أباطيل الأزمنة الغابرة
تسمعين ضجيج أبطال هذا الجيل في ال «بورص» كما سمعت من أبطال الأجيال الماضية صليل الرماح في ساحات القتال، وتستقبلين الشمس كل مساء لتلحفيها ليلا بحبك، كما كنت تستقبلينها يوم لم تكن على سواحلك المدن
ولا عمران كان، ولا نبت ولا حيوان. (3) نبوكدنصر الشحاذ
ولم تنبح الكلاب؟
من ذا الذي في الباب؟
إن في الباب مليكا دوخه الزمان
إن في الباب شبحا محنيا تحت وفاضه، متكئا على هراوته، يمد يده باكيا، ويهينم شاكيا
شبح مخيف يرتعد كالمحموم، لا يعرف أمن الناس هو أم مما فوق أو تحت طبقات الناس
طيف من أطياف العياء والمذلة، نهب داء وفاقة، يطوف البلاد كفارة عما اقترفه من الآثام سواه
تصرخ فيه معدة ظالمة، فتذل فيه صورة الصمد المتعال
تصفر في رأسه الرياح فتصرعه، فيردد صداها شبح الوساوس والأيام
يهذي فيتساقط اللعاب من فيه، أسير أسقام وأوهام
يدق صدره مستعطفا فيرتجف هيكله الهشيم، ارتجاف قصبة في الرياح
إن في الباب شحاذا يستنبح الكلاب
إن في الباب مليكا دوخه الزمان •••
وإليك بخبره من فيه «أنا نبوكدنصر من بين النهرين - نبوكدنصر الشحاذ ، الملك، ملك بابل وآشور - الله سبحانه يطوف بي في العالم مثقلا بما ترونه من ذلة وفقر ومرض وصرع وجوع وأوجاع ... أعطوني الله يعطيكم!»
ولله من ملك تخرق عيناه اللقمة، قبل أن تدخل اللقمة فمه
لله من ملك طي هذه الأطمار، في هذا الهيكل الهشيم المخيف
على كتفيه وفاضه، وعلى ذراعيه مواعينه، وفي يده هراوة يستعين بها على الدهر والكلاب
لله من ملك على رجليه من آثار المفاوز أشواكها، وفي ساقيه جروحها، وقد ركمت عليها الأسفار غبارها
لله من ملك يتساقط الدم من أنفه، والدمع من عينيه، فيجمد على لحيته اللجين وعلى صدره الياقوت
ويورد الصرع خديه، فتلتهب الأحلام في محجريه
هنالك شيء من الهول ألبسه الدهر قميصا حاكتها شياطينه
بل هنالك غور غدور من ظلمات الزمان، ونبأ من عصور عقم فيها الهيكل والصولجان
وفي ناظريه ساعة الصرع غيظ يحتدم - ولا غيظ من علوا العروش مجدا
في ناظريه يتجسم الويل وقد ذاب عظما وعزا، ووجدا
ها هو أمامك مغمي عليه
قد ذبل الورد في وجهه، واضطرم الوهم في ناظريه
قد ذهب التلجلج من فيه والرجف من يديه، فهو لا يهينم الآن شاكيا، ولا يمد يده باكيا
هو يرغي ويزبد لا كالصريع، بل كالمليك المنيع، وقد شخص إلى الفضاء يصب عليه لظى تغيظه
كأن ملكه في الفضاء، وكأن عرشه في كبد السماء «أنا نبوكدنصر ملك بابل وآشور، تاجي، صولجاني، وزرائي، موعدكم غدا. إلي بآلة الصيد، لا، أشعلوا الأنوار، أين الإماء الحسان؟ حركوا الأوتار، تعالي ... تعالي إلي، ليس الآن وقت العبيد، سوقوهم إلى السجن، إلى النار، الخائنة، الفاسقة، إلى النار، آه عليك، آه علي، أواه على ملكي ...»
وهذا مليك دوخه الزمان، وعضه الويل في الكبد والوهم في الجنان
إن في الخيال الثائب إلى رشده، الواقف أمامك الآن، الناطق بخليط من لغات العرب والكلدان، نبأ من غور ظلمات الزمان
إن فيه تجسم ظلم الدهور وعدل الزمان
بل فيه تتجسد أرواح من جاروا على الإنسان
بلى، إن في مثل هذا المتسول الصريع المجنون، ليتقنص الظالمون •••
ولم تنبح الكلاب؟
إنما نحيب الكلاب هذا لا نباحهم
نحيبهم على من في الباب، على مليك صرعه الزمان، على شحاذ عضه الوهم في الكبد والويل في الجنان
حتى الكلاب ينتحبون ويتساءلون
أين الروح التي نفخها الله في هذا الذي خلقه على شكله ومثاله؟
وأين الكرامة التي تميز البشر عن الحيوان؟
وأين الإباءة التي ترفعه على أسياده إلى خالقه؟
أين من الرجال عزة النفس والشرف والحمية والعزم والنشاط؟ •••
إن في الباب شحاذا من بؤساء الكلدان ممن أرهقهم سيف ابن عثمان
طواف يطوف البلاد متسولا كفارة عن ذنوبه وآثامه
بل عن جرائر حكامه
هو حجة الزمان، على طغاة الزمان
هو دمل من دمامل مجتمع الإنسان
هو ثمرة طغيانكم أيها الرؤساء والحكام،
هو صنع يدكم الأثيمة لا صنع يد الله.
إلى الذي صلب
من ديوان ولت وتمان
Walt Whitman
الشاعر الأميركي الشهير.
2
إن روحي أيها الأخ الحبيب لتصبو إلى روحك
لا تبالي إذا كان الكثيرون يرددون اسمك مرنمين ولا يفهمون
أنا لا أردد اسمك مرنما، ولكني أفهمك، وهناك آخرون مثلي، إني لأختصك بحبي أيها الرفيق العزيز
سلام عليك، وعلى الذين معك، من قبل ومن بعد، وسلام كذلك على الآتين
ألا إننا نعمل معا لنعقد في الناس عهدا واحدا، ونحيي فيهم وصية واحدة
نحن القليلين، المتساوين، لا نحفل بالزمان، ولا حدود عندنا للبلدان
نحن المحيطين بطبقات الناس جمعاء، وبقارات الأرض كلها
نحن المسلمين بكل الأديان
نحن المحبين، المؤاسين، المدركين، المؤلفين بين الرجال
نمر بالخصومات والمزاعم ساكتين، ولكننا لا ننبذ شيئا مما زعموا، ولا ننكر أحدا من المتخاصمين
إن لغط القوم وضجيجهم لبمسمع منا في كل حين
إلينا تتصل شقاقات العباد، والمعاير، والأحقاد، من كل جيل وبلاد
هي تكتنفنا لتعتقلنا يا رفيقي، ولكنها عبثا تسعى
إننا أحرار، نسير في العالم، ولا قيد فيه يقيد مثلنا
نضرب في مناكب الأرض وسهولها، نجوب أنجاد الحياة وأغوارها، لنترك في الزمان وفي الناس آثارنا الخالدة
بل لنشرب الأجيال روحنا والدهور، فينشأ الرجال والنساء في مقبل القرون، وهم إخوان مثلنا محبون.
نيويورك
أبنت التمرد في العالم القديم، وعروس التفرد في العالم الجديد، وأم الفوضى في العالمين. ويل لأبنائك وعشاقك
أطليقة الهنود بالأمس، ومحظية اليهود اليوم، وحاملة بنود الثورة غدا، ويل لأبنائك وعشاقك
مهدك الحقول وفيه ثعابينها، سريرك المعادن وفيه سمومها، عرشك جبال الثروة وحوله وحوشها. ويل لأبنائك وعشاقك
أحشاؤك من الحديد وفيها عقمه، صدرك من الخشب وفيه سوسه، فمك من النحاس وعليه صداؤه، جبينك من الرخام وفي جماله جموده. ويل لأبنائك وعشاقك
تشربين ذوب الإبريز، وتأكلين معجون اللجين، وتنتعلين أجنحة العلم، وتلبسين الفاخر من الحرير النادر من الحلي، وقلبك قار يشتعل، ويل لأبنائك وعشاقك
أبنت الألوان والأنوار، شعرك في الليل أشقر، وأسحم في النهار، تصبغينه لكل مراود وتغسلينه لكل مغيار. ويل لأبنائك وعشاقك
أبنت الهمس والصياح، ليس في صوتك نغمة من أنغام الفجر والصباح، بل في صوتك رنة الذهب وجموده، إن في الملاهي وإن في الأسواق، إن في المصارف وإن في الكنائس. ويل لأبنائك وعشاقك
أبنت الثروة والاحتكار، في مخازنك خيرات الأرض، وفي خزائنك الأموال والحلي، وفي قصورك عجائب الحضارة، وفي جاداتك بهاؤها وضجيجها وهولها وعجيجها، وفي أكواخك الظلمة والفقر والجوع والأنين، ويل لأبنائك وعشاقك
في أسلاك قلبك أبناء الحب والخداع، وفي عروقك أعباء التجارة والأطماع، وفي أعصابك اهتزازات شرور السرور، وفي ربلاتك شهوات صرعى الغرام، ويل لأبنائك وعشاقك
لله منك حرة نعارة، تاجرة فاجرة، عذراء الجنون أنت وزانية الفنون، في فسقك وفي برك سلطانة أثيمة. ويل لأبنائك وعشاقك
مهلا بنت المعادن والكهرباء، مهلا ربة العمل والغناء، إن من ذي الأرض جمالك لا من السماء
جمالك نور في زجاج يزول إذا كسر الزجاج، جمالك في قصورك لا في خدورك، في مسراتك، لا في مبراتك
جمالك يملأ الفضاء نورا والنفس ظلاما، نبت أثيل أوراقه جسيمة وأزهاره سقيمة، هذا جمالك
نهر من الكهرباء، على ضفتيه جمال من الرخام، وغابات من الحديد، هذا جمالك
ليل باهر، نجومه من معامل الإنسان الفانية، لا من معامل الله الأبدية، تعسا لذا الجمال
ساعة، أولها ابتهاج، وآخرها تثاؤب، قبحا لذا الجمال
مسرح الأهواء واللذات والأطماع صدر جمالك. آخر ما اخترعته المدنية من آيات الكذب والمصانعة عين جمالك
ضخامة تتمخض بها التجارة، فيلقبها التجار بالعظمة والفخامة، لقد كذبوا - والله - وكفروا
جمال معبودهم كدولار، صك في الليل وطلي في النهار، تبا لذا الجمال •••
أفي ساعديك عروس العالم الجديد يعظم حسنك، أفي أصغريك يضمحل أفي سفاهتك يحيا، أفي بداهتك يموت؟
أيتلألأ في عيونك ازرقاق نور المجون، وينطفئ في قلبك سناء شعلة الشعر والفنون؟ •••
أعروس العالم الجديد، عرس من أنت اليوم، وغدا عرس من تصبحين؟
أمن خدر الهنود، إلى خباء اليهود، إلى قبضة القرود؟
أمن أكواخ الحرية، إلى مخادع الفسق، إلى صروح الثروة، إلى هاوية الثورة والويل والهلاك؟
رحم الله أنفسا عرفتك طاهرة، ويل لأنفس عشقتك عاهرة ••• «نيويوركليم» حسدتها اليوم أورشليم «نيويوركليم»، وفيها العبرانيون يمرحون، ولا ينتحبون، ويل ل «نيويوركليم»
أفي صحافتك كما في تجارتك، أمن على منابرك ومسارحك، يعلو صوت إسرائيل أصوات أبنائك الحقيقيين؟
أتملأ «تامار» أسواق الليل دعارة وملاهيه فسادا؟
أتقبض «ياعيل» اليراع اليوم كما قبضت السيف في سالف الزمان؟
وشتان بين عدو وعدو، بين الظلم «سيسرا» الأمس والحق وهو «سيسرا» اليوم •••
أبنت اليهود والقرود، أين منك اليوم فضائل الجدود؟
ماضيك من النور والنار، وحاضرك نور مستعار
ومستقبلك؟ لا بد للمستعار من أن يزول، «وحسن الوجوه حال يحول.» •••
في حسنك لعنة جسمها الله في ذي الأبراج تحت سمائه
أصاغها من التبر، وضمخها بالطيب، وكللها بالتيجان ذات القباب المذهبة
قباب هي دمامل الأرض، وأنفس تحتها هي دمامل الحياة •••
وغدا تصير أبراجك في أنفاقك، ويدفن مجدك الكاذب تحت أنهارك، فتبكيك عندئذ نينوى وتترحم عليك بابل.
نيويورك، في كانون الأول، سنة 1910 (4) بلبل الموت والحياة
في القفص يغرد البلبل، وفي الأودية تولول الرياح
والأشجار تنثر أوراقها على أزاهر تموت في الحقول
ومن اليم يتصاعد السحاب فيثير في قلب الآفاق أشجانا تسوقها رياح تذيب السحاب
أراها ثائرة حول صنين فيسمعني الوادي صدى نشيدها، وأرى أوراق الغاب على صدور الرياح فيسمعني الحب صدى آمالها وأرى زجاج النوافذ وقد قبلها الشتاء فيسمعني الليل بكاءها، ويريني الفجر دموع أسرارها
إنه ليوم السكينة، ليله وليل أعاصيره سويان، وصوت النعي وصوت البشير فيه شبيهان
إنه ليوم سكينته من القبور، وصراخه من أعماق قلب الديجور
في الأودية والأحراج وفي السهول والجبال تتقطع أنامل الطبيعة في نول آمالها، ويذوب قلبها على مذبح جمالها
إننا لفي الخريف، وإلى جانب الموقد على جلود الصوف تجلس أنفس الجبال لتسمع في النار نشيد الزمان
والزمان يندب ابنه المشرف على الموت، يندب العام الذي دفن الأزاهر تحت ما تناثر من أوراق حبه، وجاء يحفر قبره في الثلوج
وفي القفص يغرد البلبل، وفي الأودية تولول الرياح •••
ألا قف بي على أطلال العام، نر مشهدا شيدت فيه هياكل الحزن والهيام، هياكل يرفع الربيع تماثيلها فيسقطها الشتاء الهدام
إن صوت النعي لينتشر في الغابات والحقول، في المروج والجبال وبين الأشجار والصخور
إنه ليخرج من الصخور كهدير الأمواج حول طنين الأجراس، ومن الأشجار ألحانا تحسبها منظومة من مراثي أرميا ومزامير داود
وإنه ليهز أدواحا راسخة في أرضها فينبه فيها شمائلها
يتشامخ الصنوبر كبرا وعتوا فتغمز أعناقها الرياح
يتماوج الزيتون حبا وحنوا فيبدو على أغصانها نثار فضي كالنجوم الماثلة بين الغيوم السوداء في الليلة الليلاء
وإنه ليهمس في قلب السماق واللوز فتختال غنجا ودلالا
وإنه ليضرب على أوتار الأرز فيسمعنا نشيدا قديما، ويرينا - ولو في القبر - سحرا حلالا
وإنه ليصرخ في الأرض صرخة حق تزعزع السهول من الأرض والجبال
وإنه ليسكت فتنصت السماء، وتنصت البحار، وتتناثر من الأشجار أوراق آمالها ذات اليمين وذات الشمال
فتحملها رسل الخريف لتكلل بها العام وهو في حال الاحتضار
ورقة بالية، من شجرة عالية، تحملها العواصف إلى حيث لا تدري الأيام، أهذي هي الحياة؟ أهذا هو الموت؟
في القفص يغرد البلبل، وفي الأودية تولول الرياح •••
أسدل الظلام على الآفاق سدوله
من البحر إلى الجبال تتسارع الغيوم السوداء وعلى أهدابها زبد يكلل الأمواج إذا هاجتها الأعاصير
إنها لبحر من السحاب زاخر فوق بحر هائج من الماء
وفوق جبال يذري ثلوجها الهواء
وفوق أودية تتقصف فيها الأشجار
وفوق سهول يغشى اخضرارها الغبار
وفوق كنائس مهجورة تصفر في كواها الرياح
وفوق مقابر لا يخيفها الليل ولا ترعبها الأعاصير
وفوق كهوف فزعت إليها وحوش الغاب
وفوق أنهار تجرف إليها الزوابع الصخور والأشجار
من أعالي الجبال إلى أعماق الأودية والبحار
من سهول الحياة وجبالها، تحت سماء الليالي وسحابها، إلى أعماق بحار الأبدية
أهذي هي الحياة؟ أهذا هو الموت؟
في القفص يغرد البلبل، وفي الأودية تولول الرياح •••
يولي الخريف وتبقى ظلمات يومه، فنشاهد غروب شمسه، ونرتشف شفاه نوره
ظلمات تذوب من قبلات الشمس وقد مالت إلى المغيب، فبدت أشعتها من خلال الضباب المتكاثف فوق اليم، فلمست أسلاك سحر بيوت الجبال، فتلألأت في زجاج نوافذها قطع من الماس المنقطع النظير، ولا ماس أمراء الهند ولا ماس معادن أوفير
تغرب شمس الخريف فيتكون حولها من أنيق الأشكال وجميل الألوان ما يعجز عن وصفه البيان
وأنى نحاول تصويرها على القرطاس وقد سكرت منا الحواس
إن أمواج النور على جبين الخريف لكندى الفجر على زنبق نيسان: هذا تشربه الشمس وذاك يشربه الظلام
تعالوا إخواني نرتشف كأس الشمس وكأس الظلام
ففي القفص يغرد البلبل، وفي الأودية تولول الرياح •••
الغروب في مجده وفي أجمل بلاد الله من يستطيع وصفه؟
من يستطيع تصوير شيء من جمال حركاته وسكناته، من بديع ألوانه وخيالاته، من هول اضطرابه وهدوئه، من بهاء بعده ودنوه
لا يتوقعن القاري أن ننقل إليه طرفا من سماء سوريا على صحيفة من القرطاس
إن ما يتنوع فيها من الألوان، وما يتعدد فيها من أشكال الجمال ساعة مغيب شمس الخريف؛ ليستحيل استخراجه من هذا السائل الأسود «الذي يسود الوجه والقلب أحيانا.»
جل ما نستطيعه أن نشير إشارة إلى جمال الطبيعة وغموضها، إلى غرائب شمسها وأسرار غسقها
يقصد السياح جبال سويسرا ليشاهدوا منها غياب الشمس، والشمس هناك تغيب في الأحراج أو تختفي في الثلوج
وشمسنا - شمس سوريا - تستحم في البحر فتتورد من مشهد استحمامها الجبال
قف معي والجبال نشاهدها الآن، قف معي والبلبل ننشد جمالها
ها إنها قد دنت من الماء فتجسمت حولها الألوان جبالا وسهولا، وبسطت الغيوم أودية وحقولا، وبدت الأنوار في الضباب جزرا وصخورا، وغزلت من أناملها في المياه خيوطا براقة وفسولا
هي تبعث حبها في الغيوم فتشعلها إشعالا، فيخيل للناظر أنها عرائس راقصات، في مروج خضراء، على شواطئ بحيرات من دم المحبين حمراء
بل حول جبال كأنها البراكين، ترقص أرواح المحبين
سوتهن الشمس من الغيوم فأحيتهن قليلا نارها، ثم احتجبت عنهن فاستحلن جمادا، ثم ظهرت قليلا فأبدعت وودعت، ثم أرسلت في الجماد نورها فكونتهن بوارج، والبوارج تجري ملتهبة في بحر رهو من اللؤلؤ المذاب
والغيوم أشكالا، وقد أشعلت إشعالا، شبيهة بمدينة أحرقها أهلها خوف أن يحتلها العدو
ألا في الضباب وقد بدت أشباحا أثر الهاربين، وفي السهول الخضراء وقد جرت فيها السواقي الحمراء كتائب الفناء
من مدن النور، إلى ساحات الحرب، إلى ظلمات الليالي. أهذي هي الحياة؟ أهذا هو الموت؟
في القفص يغرد البلبل، وفي الأودية تولول الرياح •••
ومن ساحة القتال، تنتقل النفس إلى مملكة الحب والجمال
عند المدينة المحترقة المدمرة أرى قصرا فخيما، حوله بحيرات صفراء، على وجهها خيالات من الضباب الشفاف، تبدو من لمح البصر وتغيب
كأن كل ما في العالم من العنبر، وكل ما في السهول من الزعفران يذاب في تلك البحيرات، لتغتسل فيها بنات النور بل الحب والسرور، حول أميرتهن أميرة البدور
وإلى جانب هذه البحيرات الراكدة بحر هائج من عصير الرمان، تعلو أمواجه حباحب من عصير الفل والأقحوان، وعلى شاطئ هذا البحر ظلال مدينة قائمة في الفضاء، حولها سواق جارية زرقاء، وفي السواقي صخور كبيرة شهباء، ووراء الصخور سهول فسيحة خضراء، وفوق السهول جبال سوداء وبيضاء، وفوق الجبال نجمة واحدة حمراء
مدينة سماوية في أرض سماوية تستمد الشمس منها النور، فتعكسه خيالات وألوانا كالموشور
إنما الشمس موشور الله، وإن ما نشاهده من غريب ألوانها وأشكالها لهو فيض نور الله منعكسا على الشمس، فتظهر لنا العجائب وتخفيها قبل أن يفيق القلب من سكرة الابتهاج لينطق بالتسبيح
في القفص يسبح البلبل، وفي الأودية تسبح الرياح •••
أشرف النهار على الموت كما أشرف الخريف
يموت الخريف تحت جنح الظلام على صدر العاصفة، ويموت النهار معانقا الشمس وهي تقترب من الماء بما فيها من جمال وبهاء
إن النهار ليغتسل معها عريانا، فيغرق معها فرحا ولهانا، بل يموت على صدرها ميتة الغرام نشوانا
مليك من ملوك البحار فاجأه الموت ساعة الحب والحبور
وقف الموت إلى جانب سريره، والملك معانق مليكة قلبه
ناداه الموت، فنهض الملك مسرعا وقد ارتعشت جوارحه وامتقع وجهه
نهض مسرعا ملبيا، فتسربل بأفخر الأرجوان، ولبس درعه وخوذته، وامتشق حسامه وركب مركبه، فأضرم فيه النار وأسلم شراعه إلى الرياح
خاض المركب عباب البحر محترقا ملتهبا، وعلى ظهره الملك، وعلى وجه الملك ملك الموت
وكأني بالنهار هذا الملك الجبار
إنه يموت موتا جميلا، يموت موت إله من آلهة الرومان، متوجا بأفخر التيجان، وقد رصعه بأبدع الحجارة، مكللا بأجمل الأزاهر التي تقدمها الأرض إلى ابن من أبناء أميرها الزمان
بل تقدم إليه في الخريف ما أعطاها في نيسان
إن في تاجه العجيب لمن الجواهر أفخرها وأغربها
إن فيه لتمتزج الألوان، فمن زرقة الزمرد، إلى حمرة الياقوت، إلى بياض اللؤلؤ، وبينها تتموج صفرة الفيروز وبريق الماس
كلها تذوب وتمتزج حول رأسه امتزاجا عجيبا
كلها تتموج وتستحيل أشكالا من حال إلى حال، تسير مسرعة، سرعة البرق أو الخيال
هناك منها سهول من الزعفران وربى سربلتها الأقاحي
وهناك بساتين من الورد وجنات من السوسن، وهذا فراش من القرنفل، وذاك وساد من الجلنار
كل تلك الأزاهر وهاتي الجواهر سوتها الشمس ونثرتها حول حبيبها المشرف على الموت
نسجت منها الأكاليل والتيجان لتزين بها ضريحه، أذابتها لتغسل ذراعيه ورجليه
أجل إن كل ما على وجه الأرض من الأزاهر، وكل ما في معادن الأرض من الحجارة الكريمة، وكل ما في أعماق البحر من اللؤلؤ والمرجان؛ تذاب الآن حول النهار الذي قضى على صدر الشمس لتزيد موته مجدا وغرامه جمالا
أومن أجل الموت كل هذا الجمال؟
أومن أجل الموت كل هاته الأزاهر والجواهر السماوية؟
أومن أجل الموت تنشر الطبيعة على الآفاق عبيرها وشذاها، فتختم الفجر بمسك حبها، وتضمخ الغسق بسوسن أحزانها؟ •••
في القفص يهينم البلبل، وفي الأودية تحشرج الرياح
قد اكفهر جبين صنين واستحالت الألوان البهية قطعا من الليل
تبدد طيب الرياحين في الفضاء، وراء الغيوم السوداء
سقطت المدن المنورة واضمحلت، ولت العرائس الراقصات، غاصت الجزر الفضية في البحار، استحالت البحيرات الذهبية بركا من الزفت، وسكب الليل منه كأسا شربها الموت
أواه قد دفن النهار، دفن في ضريح من الماء، مكفنا بكفن نسجته يد الليل من نور أقمار السماء
وقد سكت البلبل في القفص، وسكتت في الأودية الرياح.
الفريكة، في 1 شباط، سنة 1913 (5) الأناشيد الثلاث (من كتاب خالد)
وضعه المؤلف باللغة الإنكليزية وهو مقسوم إلى ثلاثة أقسام عنوان الأول «في السوق» والثاني «في الهيكل» والثالث «في كل مكان» وقد افتتح كل قسم بأنشودة: رمز فيها إلى معناه، أولها وهي فاتحة القسم الأول: «إلى الإنسان» والثانية: «إلى الطبيعة» والثالثة: «إلى الله».
إلى الإنسان
مهما جزل خيرك، ومهما تفاقم شرك، لا أزال أخاك، مهما عليت في مدارج الحياة، ومهما تسفلت لا أزال أخلص لك، وأؤمن بك، وأحبك. أفلست عالما بما فيك، بما يأسرك، وبما يناديك؟ ألم تدمني تلك البراثن، أولم تشفني تلك الأجنحة؟ تعال إذا، تطلع إلى العلياء، ها هو الهيكل الكلي الأكبر وقد جعل محطا لنا لا محجة.
ولقد تشيد عند معالم المشرق والمغرب، فوق الجبال المشرفة على الغرب تحتها وعلى الشرق، هيكل الأمم جمعاء لا تعبد فيه آلهة كاذبة باطلة. فإن آلهة الفلسفة واللاهوت والآلهة التي صورها الإنسان على صورته البشرية الفانية وآلهة الكهان والأنبياء؛ لمدفونة كلها تحت ينبوع الهيكل، وقد غدا مذبحا ومحرابا - ينبوع الهيكل الذي تتدفق منه روح بارينا الأزلية - بارينا المحيي المميت، يغضي الطرف حين تنشب البراثن في قلبنا، ويبتسم حين تظهر الأجنحة في جروحنا، وحقا إن رب الدموع والابتسام ربنا، وينبوعه في ذا الهيكل فائض مدى الدهر، قف ها هنا وارتو، قف ها هنا وارتو .
إلى الطبيعة
أيتها الأم الأزلية، السماوية الجهنمية، المكتنفة الأكوان، المغذية أحياءها، الملتهمة أبناءها، إني لك أبدا سرمدا، أيتها الآلهة المتوجة بالنجوم، المنتعلة الدرر واللآلئ؛ إني لك أبدا سرمدا ولئن كنت وليد هزيمك وجيشانك، أو ثمرة من ثمار أحشائك، أو شعاعا روحيا من نورك، أو فلذة صماء عمياء كونت من دمعك وابتسامك، أو يراعة آبدة من العقل الذي فيك أو في ما فوقك، فإني لك أبدا سرمدا، ها أنا ذا أمامك، أخر ساجدا عند قدميك، أسلم نفسي وكلي إليك، المسيني أيضا بقضيب سحرك الإلهي، اطرحيني ثانيا في بودقتك السرية، أعدي صنعي ولا تحرميني مما فيك شيئا، أكثري في من سكينة جبالك، وسمو سمائك، وهول بحارك، وقدس أحراجك، وصفاء ينابيعك، وشمم أرزك وثبات الراسيات في أرضك.
عانقيني واهمسي في أذني بعض أسرارك، املئي حواسي وكياني من نفحاتك ونسماتك، افتحي أمامي أعماق روحك المخيفة الهائلة، اطرحيني على صدر عواطفك يسر إلي بعض ما فيك من قوة وعز وعظمة وجلال، اغمسيني في مغيب شمسك علني أفوز ببعض شيء من إلهيات فنونك. أنشديني نشيد السر أيتها الأم الأزلية، كأسا من حبك السماوي الجهنمي، فإني لأقبل الرأفة والعسف منك لأعرف السر في عسفك ورأفك.
امسحيني بزيت البداهة المقدس لأظل قمينا لك، ولا تصديني ولا تجفيني، فيضمحل في الصميم من الحب، العميم من العطف والمبرة، يا أيتها الأم الأزلية مليكة العرش الأزرق والقبة الزرقاء، إني أبتهل إليك، وأقبل رجليك، وأطرح بنفسي بل بكلي لديك، ولست متشوفا إلى ما عسى أن يكون ومنك، فلئن صرت مجمرة في يد كاهنك الأكبر غدا، أو بخورا مني في المجمرة، أو يراعة في هيكلك، أو سراجا مطفيا في محرابك أو لو صرت كوكبا في منطقتك، أو شمسا في تاجك، أو لؤلؤة في نعلك، لتريني قانعا راضيا لأنني متيقن أن ذلك خير كله وسلام.
إلى الله
عبثا طلبتك أيها الرب الإله في أديان الناس، وعبثا بحثت عنك في سرداب عقائد الناس، وعبثا كنت أنادي وأنادي كثيرا في مساجد الناس، ولكني لقيت في كتب العالم المقدسة بعض آثار سماوية طامسة، فلقد توضح لي حرف ساكن من اسمك في «الفيدا»
3
وحرف في «الزند آفستا»
4
وحرف في الإنجيل وحرف في القرآن، أجل وفي كتاب الجمعية العلمية الملكية وفي سجلات جمعية المباحث النفسية، بعض الحركات التي لا يحسن الجنس البشري الطفيل أن يحرك بها اليوم الأحرف الساكنة المركب منها اسمك، وأنى لأمم الأرض - ولم يزالوا في طفولة الحياة يلكنون ويتلعثمون - أن يحسنوا النطق باسمك، ناهيك بإدراك كنهه؟ ممن تجيئنا أحرف العلة التي بدونها لا تلفظ ولا تفهم الأحرف الساكنة في الكتب المقدسة؟ من يهدينا إلى تلك الهمزات همزات الوصل الإلهية التي تجمع بين الكواكب البعيدة المتقابلة في أطراف الأفلاك السماوية؟
فلقد خطت على نقاب السر الأبدي كلمات وأمحت كلمات، ثم خطت وأمحت، وكل أمة من أمم الأرض المتمدنة فسرت حرفا من هذا النباء الطامس العظيم، ولكن الحركات وهمزات الوصل التي لا بد أن يأتي بها علماء المستقبل والأنبياء لتحيي جمودا في أحرف الكتب المقدسة الساكنة وتبعث فيها سلاسة الماء والهواء، وتزيل اللكنة من لسان هذا الجنس البشري الطفيل ومن قلبه.
خالد (6) هجروها
5
هجروها وبانت الهديل ينحن على آكامها
لعنوها وجروحهم مضمدة بأعلامها
في أجمل بقعة من أصغر عوالمك، تحت أقدس الأبراج من سمائك، حول أعذب الموارد في خير مروجك، بين أنقاض دفنت فيها أنوار وحيك، جلست هنيهة أستريح
أسندت رأسي إلى جزع أرزة وارفة الظلال تقبل أغصانها بقية عمد هيكل خرب قديم
وسمعت أصواتا شبيهة بأصوات رياح الشتاء في مقابر الجبال
وبدت أصحابها كالأشباح يضجون في الأنقاض ويولولون، ينعون، ويكبرون، ويقتتلون
وبينما هم كذلك وإذا بحية جميلة على عمود من المرمر تشير برأسها إلى بيت تحت العمود من العنكبوت
نظرت إلى البيت فرأيت الرتيلاء تحوك أخياطها آمنة فيه، وحيات صغيرة تلعب حوله ولا تؤذيها ولا تؤذيه، ورأيت الأشباح يقتتلون فيهدمون الأكواخ التي ابتناها الإنسان في الأنقاض
أشباح الماضي يبنون في أخربة الماضي ويهدمون ما يبنون
فاستوت الحية على عمود الهيكل وشرعت تقول: ويل الإنسان إذا فكت في الظلمة قيوده، ويل الأمم إذا أطلقت في الليل سجناؤها، ويل البلاد إذا قدست فيها سيادة هي كالظل في رواق الهيكل بل كطيف الموت في أنقاض الحياة
هجروها والحية تندب أطلالها
لعنوها والعنكبوت آمن في ظلالها •••
سمعت قرقعة القيود فظننتها صليل السيوف والرماح
فابتسمت الحية وأومأت إلي أن أتبعها
سرنا بين الأنقاض حتى خربة الهيكل فدخلناها وإذا فيها ألوف من الرماح والصلبان مكردس بعضها فوق بعض
وفي الزاوية قناة رمح وبقية صليب تحوك الرتيلاء حولهما بيتها السري العجيب
فقالت الحية: إني لأرى ما لا تراه
فقلت: وماذا ترين؟ فقالت: أرى زنبقة نامية فوق الصليب محنية فوق الرمح تقبله، وأرى وردة حمراء في الرمح تنور فوق الصليب
وعلت - إذ ذاك - أصوات الأشباح في الأطلال فقالت الحية: وإني لأسمع ما لا تسمع
فقلت: وماذا تسمعين؟ فقالت: أسمع صوتا يقول: وهذه قيود الجهل فكتها يد الأطماع
وقيود الفاقة حطمتها أنياب الجوع
وقيود الاستعباد قطعتها سيوف الضلال
وقيود الدين أذابها الصداء
وقيود الجور كسرتها الضغائن والأحقاد
وأما ضمير الأمة فلم يزل في قيوده ونفسها لم تزل راسفة في الأغلال
هجروها والفتنة تنفخ في نارها
لعنوها والليل ينسج في دارها •••
رأيتهم خارج المدينة ينحبون، سمعتهم تحت أسوارها يجدفون، اقتربت منهم فزجروني، بعدت عنهم فلعنوني
قالوا: أنت منا ولست منا
وقالوا: أنت معنا ولست معنا
فقلت: حقا ما يقولون، وسرت في سبيلي بعيدا عن الهاجر والمهجور، أردد قول حية الأطلال، وأتأمل الرتيلاء التي تحوك من قلبها بيتا للرمح والصليب
هجروها وآمالهم مكفنة بأعلامها
لعنوها والبرق يشق غيوم آثامها •••
والشهب في الظلمات، والذئاب في الغابات، ورماد المحرقات، تحت أنقاض الخرافات، وعذارى الهيكل الباكيات، إن الهلال والصليب ليحترقان تحت قدمي رب السماوات، وقد مال بوجهه إلى البرابرة في الصحاري والفلوات
ربي، إن في أمتي لبقية صالحة
ربي ، إن في بلادي لمطلعا لم يزل عامرا بأنوارك
ربي، إن في ضفاف النيل لعرشا حوله شموع العلم والهدى نيرات
إن في أرض فرعون لبقية روح حية علمية، طاهرة زكية، تبهج الناصري وتثلج قلب الهاشمي
إنها لحية في الآداب، زكية في أنوار العلم، علية في الفنون، طاهرة في إمارة الشعر وأمرائها
ما رأيت ملكا للسيف يدوم، ولا سيادة تعزز بغير البر والعدل والحجى
إن لشمس اليقين غيبات وعودات، ولآمال النفس هجمات ويقظات
وفي ترب الحياة بزرة وإن تراكمت فوقها ألف خريف، وثلوج ألف شتاء، تظل حية طيبة يسمع تنهداتها الشاعر ويرى النبي نور شذاها، تشرق شمس يوم هنا فتذيب الثلوج، فتهب الرياح، فتنتثر الأوراق، فنسمع - إذ ذاك - ما يسمعه الشاعر ونرى ما يراه النبي
ليهجروها حانقين ضالين، ليلعنوها يائسين قانطين •••
سرت في طريقي أنشد مجدا لأمتي بعيدا، فسمعت على ضفاف النيل لصوت عصر المأمون صدى جميلا جديدا
ورأيت الشاعر والفيلسوف والأديب إلى جانب الأمير جالسين، وعلى أنقاض هياكل الظلم والخرافة معاهد تشيد للعلوم والفنون والآداب
فقلت في نفسي: وهل تحقق حلمنا أيام آياتها أعجب من أعاجيب الموحيات فتمجد نفحات الشعراء، وتعزز شوكة الأمراء؟ ويسير الفريقان في طريق واحدة إلى محجة واحدة، وتصبح مصر كعبة العلماء، وقاعدة ملك النبوغ والذكاء
أجل، إن دولة العلم والأدب لأعظم شأنا، وأسمى مجدا، وأثبت أعلاما من دولة النار والسيف والدماء.
الفريكة، نيسان، سنة 1913 (7) الشرق
تمهيد
تتمثل في هذه القصيدة حالة الشرق الحاضرة في ظل تقاليده وعاداته، تمثيلا يشمل بعض الإشارات من لفظ ومعنى تقربه حيا من بصر القارئ وبصيرته. ولكن القصيدة لا تحيط بالشرق كله، وقد تنحصر بالشرق الأوسط والشرق الأدنى؛ لما للإسلام فيهما من حرمة وسيادة. ويسمع للهند فيها صوت شديد تختلط فيه أصوات الماضي الجامد بأصوات الحاضر الثائر؛ لما للأجانب والكهان في الهند من السيادة والنفوذ، والشرق بين الاثنين حائر اليوم، تتنازعه عوامل العلم والدين فيثور تارة وطورا يعتريه الفتور فيعود إلى القديم الجامد وعينه في الجديد اللامع الخلاب. وبكلمة أخرى: إن الشرق يتكلم فتسمع في كلمه صوت الشاعر وصوت الفيلسوف وصوت الأمير وصوت الصحافي وأصوات الكهان والعلماء - أم أم! الله الله!
والعجيب الغريب أن ذكاء بعض الأدباء والشعراء في مصر كبا كبوة عند هذه الكلمة التمثيلية، فاستعاذ بالله من طمطمانيات الشعر المنثور، واعتصم منها بشيء من الأدب القديم العقيم، وبأشياء من السخافات في النقد والمبتذلات.
1
أنا الشرق
أنا حجر الزاوية لأول هيكل من هياكل الله، ولأول عرش من عروش الإنسان؛ لذلك تراني محني الظهر، ولكني قويم الرأي ثابت الجنان
أنا جسر الشمس
من أعماق ظلمات الأكوان إلى الأفلاك الدائمة الأنوار تصعد كل يوم على كتفي وتكافئني مكافأة جميلة
أجل إن في جيوبي، وفي يدي، وفي نفسي من ذهب الفجر ما لا نظير له في معادن الأرض كلها
تزودني الشمس للترحال، وتزود مني البصر أيضا والجنان، وأنا على ثباتي في رحلة دائمة، كالكواكب لا تبصر حركاتها
إن أول القافلة، قافلة نفسي، ليتصل بالجوزاء
وإن آخرها ... لست أدري اليوم أين آخرها
قد يكون واقفا مستكشفا في أبواب ليفربول
أو نائما تحت عرائش الياسمين في سمرقند
أو جادا على ضفاف النيل
أو ضائعا في السكة البيضاء في نيويرك
ولكني قنوع رضي مطمئن؛ لأني وإن كنت لا أرى ساقة القافلة فإني مبصر قادتها
وإني لأسمع طنطنة الأجراس عند المساء
وصوت الرسول يجيئني كل صباح مسلما
وفي يده ثوب جديد ألبسه ليومي
نسج من لا ينسج إلا لصاحب الجلال، رب الليل والنهار.
2
أنا الشرق
قد جئتك يا فتى الغرب رفيقا
فكن صبورا، إذا كنت لا تحسن السكون
إني مثقل أحمالا لا تراها العين التي ترى الأقطان وتشتهي الثروة والجاه
ولو رأت عيناك بعض ما أنا حامل لخررت ساجدا، ولرحت شاهدا
وفي جيوبي أيضا وفي يدي أشياء من حقول النفس ومن جبالها، وأشياء من أغوار الحياة
أشياء ترضي الله، وترضي الإنسان، وأشياء لا ترضي لا الإنسان، ولا الله
منها ما أوده نبذه لو استطعت دون أن أضر بسيدي صاحب الجنود والمدرعات
ومنها ما أود إخفاءه لو أني لا أستحي من نفسي الباصرة
ومنها ما أود إصلاحه، لو كان لصناع هذا الزمان ضمير يشفع باليد الرجفة والبصر الكليل
وهناك أشياء يا فتى الغرب، لك فيها الحبور والسعادة
عندي ما يسكن نفسك المضطربة وينعشها
عندي ما يشفي ما في قلبك من أمراض التمدين
عندي ما يبعث فيك عدلا يتجاوز استياءك، وحرمة لما يقدسه سواك
عندي ما يقيدك رجلا ويدا لتهدأ وتستريح، فترى الكون - والعقل منك مطلق والقلب مطمئن - وتتأمل كذلك أسرار الوجود.
3
أنا الشرق
لي عرس في الليل القديم البهيم لا تفارقني أبدا
ولي أيضا في كل يوم بكر من الحسان
تجيئني ممتطية جواد الفجر، لتخبر البصر مني والجنان
أراها فتهتز جوارحي طربا
وأرى صباي أمامي يهتف للفجر
لجلال الفجر الذي يجري في النفس مثل سلسبيل فضي في الجبال
فتبدو خلاله الأعشاب الخضراء، وهي تعانق الحجارة والصخور، فتبعث فيها روحا يستحيل التجويد عندها نشيد حب وتشويق، نشيد وطن يستفيق.
4
أنا الشرق
أنا شبح يا فتى الغرب الباسل
شبح في موكب الزمان، في موكب الحياة الدنيا
ولكن للشبح صوتا بل أصواتا، تسمع شيئا منها اليوم وستسمعها مليا غدا
أصوات متضاربة، متنافرة، إلا أنها من قلب واحد، لها صدى في هياكلي كلها، ولها صدى في كليات بلادك
صوت يضج في الخلوات، ويتراجع في الأماكن المقدسة
وصوت يحدو في الصحراء ويملأ جبال تقواي سكونا طيبا
وصوت يهمس في أذن أدواتك رغبة جديدة مستطلعا قصدها ومغزاها
وصوت يتماوج سلاما على وجه المياه في الأنهر المقدسة
وصوت يحن شوقا في ظلال الحرمين
كما أنه يئن ويطن في المنابر الجديدة، منابر الوطن
صوت ينشد «نرفانا»
6
لإلهة من ذهب ذي عيون من زمرد جاحظة
ويتغنى ب «كرما»
7
وبالقضاء والقدر في أكواخ البؤس والإثم والشقاء
وصوت يهتف استحسانا في ملاهي بلادك يا فتى الغرب وفي مراقصه
كما أنه يحدث في قهواتك، حول كأس من الخمر، بأحدث رأي علمي في الجاذبية، وبأحدث رأي سياسي في عصبة الأمم.
5
أنا الشرق
أحتمي من العالم بنفسي
أستعيذ من العالم بالله «أم، أم!» - الله ! الله!
ساعة، ثم سكرة، ثم آية
إله عينه سوداء،
8
وشيطان عينه حمراء،
9
وملك عينه زرقاء،
10
يلبسون الحياة، ويعيدون إلي قديم الحياة
يرقصون في ظلال البنيان والنخيل
ويحرقون البخور في هيكل أحلامي
ويهمسون ، وينشدون، ويصيحون، طالبين الإطلاق - الإطلاق - إطلاق النفس، والعقل، والروح، والجسد
يهمسون: «واه أم، واه أم، واه!»
11
ويرقصون
يصيحون: «لبيك اللهم لبيك» ويسجدون
ثم في ساحات المدينة يخطبون، وبالأبواق ينفرون، وعلى الثورة يحرضون «لبيك اللهم لبيك.» «واذكروا الرجيم الأجنبي وإن كان حاملا إنجيلا» «ولا تخافوه وإن كان حاملا مدفعا رشاشا» «ولا تعاملوه وإن كانت بضاعته هبة» «واه أم، واه أم، واه!» «لبيك اللهم لبيك»
ساعة من الابتهاج الروحي حول سرير الوطن، يتلوها استسلام طويل تحت عرش الله
ساعة، ثم سكرة، ثم أعجوبة
أبحث عن ذي العين السوداء، وذي العين الحمراء، وذي العين الزرقاء؛ فلا أجدهم
بل أسمع ما يشبه أصواتهم في سراب ال «كرما» وفي فيافي القضاء والقدر
أنغاما شجية روحية تذيب الشهوات أشواقا، وتحوك للنفس أحجبة من خيوط الشمس، وتفرش لها طريق الفرقدين أزاهر سرمدية
ولكني وا أسفاه! أستغرب ذي الأنغام اليوم، ولا أستحبها وبالأخص عندما أطالع يا فتى الغرب صحافة بلادك الفضاحة التي تنبئني بما لطياراتك من الصولة والاقتدار، وكيف يمكنها أن تنسف أساطيلك البحرية وتبيدها.
6
أنا الشرق
عندي فلسفات، وعندي أديان، فمن يبيعني بها طيارات
أتحسبها سفاهة مني، أوتظنها تجديفا؟
قد يكون ذلك، قد يكون
أنا نفسي أجهل اليوم صوت نفسي، صوت المجالس، وصوت المنابر، وصوت الصحافة
أجل، إن لي أيضا صحافة فضاحة يا فتى الغرب
ولي منابر قد لا ترضى بها آلهة أجدادي
ولكنها منابر جديدة، حريتها فتاة لا تعرف التمويه
فلا تسمعك ما يسر إن لم تجئها بما تريد
وهناك سر أهمسه في أذنك يا فتى الغرب
ليست الأديان والفلسفات ما تظنها
وليست ما تظن أني أظنها
فلا للحراثة هي، ولا للتجارة، ولا للسياسة، ولا للتقشف
إنما الأديان والفلسفات كمصافي الماء
هي مصافي الحياة، تصفيها - في الأقل - من بعض الحشرات والجراثيم.
7
أنا الشرق
عندي تذوب الألوان كلها وتمتزج، فتتماوج نورا بعضها في بعض تحت ريشة رسام الزمان
ألوان الغروب، وألوان الفجر، وألوان الليل السرية، لها كلها أفق واحد عندي، وسماء واحدة
من الأخضر الناضر لذي النبوة التي تزرع الثريا بذورها، إلى الأصفر الفاقع لذي السر الذي يخلع العذر والعذار، إلى الأحمر القاني لذي إرادة لا تذعن لبشر أو جن، إلى الأزهر الباهي لخيال يسحر الساحرين بيانا
هذا سلم من النفسيات لا تجده عند سواي
وهناك الأرجوان لسفاهة تجلس على العرش والزعفران لمجد هوت عروشه
والجلنار يتماوج ظلالا حول عرش الأهواء والشهوات
والرماد المنتثر لما كان في سماء الفكر كوكبا نيرا
والأسود القاتم لدمقراطية شابة تحمل عصا التأديب
والأبيض الناصع لمصرية تحمل غصنا من النخيل
كلها تمتزج في آفاق نفسي
وتذوب في سماء آمالي
وتستحيل خمرا في كأسي
أجل إن خمر الأجيال الغابرة، وخمر الأجيال الحاضرة، التي لم يحسن تصفيتها الزمان؛ لتملأ الكأس التي أشربها كل يوم، فتعيد إلي روح النبوة القديم المجيد، وتثير في ألم الذكرى وتجدد في حب الجهاد.
مصر، في 14 فبراير، سنة 1922 (8) مصر
12
1
هي أكبر الشرقيات الباسمات للدهر، وهي أحدث الشرقيات الناهضات
هي أول من هزت الشمس سريرهن، وأول من قبلهن الليل على ضفاف النيل
هي أول من لعب في ذرى الصناعة والفنون، وأول من رقص والقمر تحت النخيل
هي أول من بنى ركنا للعلم، وبيتا للحضارة، وأول من شيد للحيوان هيكلا وللموت قصورا
هي أول من نطق في قلب العالم كلمة العبادة والابتهال
هي أول من أضرم في ليل الحياة نار الإيمان
هي أول من نحت تمثالا جميلا، ورسم ذكرا وأملا للإنسان
هي أول من كون من شتات الغيب عالما حقائقه أغرب من خرافاته
هي أول من نصب للحق الأنصاب، وأحرق البخور للخرافات، هي أول من شيد للخيال معالم تباهي معالم الحق جلالا وخلودا
هي أول من حمل ميزان القسط، وأول من استرق العباد
لها الصولجان المرصع ماسا، ولها السوط الملطخ دما
هي أول من قال للموت لا، وأول من قال للحياة نعم
لها في الموت حياة، ولها في الحياة المآثر الخالدات
هي مصر
آية الزمان، ابنة فرعون
معجزة الدهر، فتاة النيل.
2
هي في هيكل الحب إلهة تسجد لها آلهة الأمم
هي في هيكل الجمال ربة لا تخضع لآلهة الزمان
ورد خديها من وادي الصفاء، وزنبق جبينها من جبال البر وذهب شعرها من معدن الفجر، وقرمز فمها من بساتين الخلود
هي في السراديب مشكاة فيها مصباح يضيء، وهي في الفضاء نار على علم
هي ابنة رموز أسرارها في فم العاصفة، وفي قلب النسيم
لها صوت يهيج حتى النخيل إلى الخيال، ويبعث حتى في الرمال شوقا إلى النيل
هي ربة العشق، وربة الموت، وربة الخلود
هي مصر
آية الزمان، ابنة فرعون
معجزة الدهر، فتاة النيل.
3
هي في قلب العالم سيدة الإيوان الجديد، إيوان البر والحق، إيوان الحرية والحجى، لسانها عربي، وقلبها شرقي، وعقلها غربي
لها في ظل الهرم أثر خالد، ولها في ظل تمثال الحرية زاوية للحكمة والعدل
هي التي شاركت إيزيس هيكلها، ورعمسيس عرشه
وهي التي تتغنى اليوم بأنغام النور الذي كلل - هذا الصباح - رأس أبي الهول
لها صوت سمعته قبل الهرم الصحراء، ونسمعه اليوم نحن الواقفين في ظلال الأجيال التي شاهدها ذا الهرم
من ضفاف النيل، إلى ضفاف بردي، إلى شاطئ الفرات، إلى وادي الكنج، صوت مصر يتماوج كالنسيم، ويزمجر كالرعد، ويخترق ظلمات الجمود كالنور
إن كلمة مصر لكلمة العرب، وإن كلمة العرب اليوم لغيرها بالأمس، ولغيرها غدا
ولكنها أبدا كلمة مصر، مصر الخالدة، مصر الفراعنة، مصر المماليك، ومصر «الزغاليل.»
كلمة علم تنطق بها مصر تنير مصابيح الهدى في الأمم العربية، الدنية والقصية
كلمة عطف تفوه بها مصر تنعش قلوبا خدرها ريب الزمان
كلمة حق في وادي النيل يردد صداها في الشام وفي بغداد، بل يتراجع صوتها بين طنجة وسمرقند، في كل بلد عربي القلب واللسان
آية الزمان، ابنة فرعون
معجزة الدهر، فتاة النيل.
4
حيتني بغصن من النخيل، وبزهرة من السوسن
أسمعتني نشيدا سمعه قبلي كاهن إيزيس، وأديب الرومان، وشاعر العرب
همست كلمة في أذني ملأت فؤادي من فيضها القدسي، فيض الذوق والشوق والهيام
فتحت لي باب خدرها فبهرت نورا، فسكرت حبورا
ذكرت يوما كان فيه ابن مصر عبد الملوك وهو اليوم سيد تنصت له السلاطين
ضحكت مصر في ليالي الغم، وبكت في فجر الابتهاج
وضحكت لضحكها، وذرفت لدمعها الدموع
ضحكنا سخرية، وبكينا سرورا
جالستني مصر يا فرعون، وهي تذكرك وتقول: هل كان في من شيدوا الأهرام رجل واحد حر؟
بسمت لي مصر يا فرعون، وهي تذكرك وتقول: هل في مصر اليوم رجل واحد يطيق العبودية؟
تبارك أبناؤك يا مصر، وتباركت بناتك الناهضات
إن فيك ينور سر التجديد والخلود
إن سحرك يا مصر ليبعث الحياة في سكان أهرامك
إن فضلك يا مصر لينطق حتى أبا الهول
إن روحك يا مصر لكالندى في الأكمام، بل كأشعة الشمس تكلل الندى
إن جمالك يا مصر لكالخمر في كأس من النور، بل كالنور يسير على وجه النيل
آية الزمان، ابنة فرعون
معجزة الدهر، فتاة النيل.
مصر في 20 فبراير سنة 1922 (9) رب العراق
13
1
أصافحه والقلب في يدي
أحييه والروح على لساني
أكبره وكلي كلمة الإكبار
أقف أمامه فتنكشف أمامي أعاجيب الزمان
أنظر إليه فتنظر منه إلي ربات الأقاليم
ألمس ردنه فيرتعش جسمي، فينتعش، فيهتز ابتهاجا
ولا عجب وهو كثير الأطوار غريبها
يكلل رأسه السنديان، ويجثو عند قدميه النخيل
تقيم له الجبال الهياكل، وتنبسط لقدومه السهول
يقبل الثلج فمه، وتقبل الرمال أعطافه، وتمتزج أنفاسه بالخليج والبحار
له كلمة تخيف، وله كلمة تثير، وله أخرى تحيي وتميت
وهو يسير في سبيله هادئا مطمئنا
يولي وجهه تارة الغرب وطورا الشرق، ولكنه ثابت مستقيم في الحالين
يحمل الخير من الشمال إلى الجنوب
من إقليم إلى إقليم يجيء بفيضه، ويتحول غربا وشرقا لتعم بركاته البلاد
تقول له الجبال: أقرئ السهول سلامنا، ويقول هو للسهول: أقرئي سلامي قحطان ومضر.
2
هو رب العراق، وهو حياته الخالدة
عينه عين الدهر، ولسانه لسان الزمان، وحافظته حافظة الخالد من الأكوان
قد شاهد من الممالك ما قام منها بالسيف، وما قام منها بكلمة سحر حلال، وما قام منها بالعلم والفنون
تلألأت على ضفافه أنوار السرور والأهواء، وجرت في ظلال نخيله مواكب العزة والمجد - إلى حين
ثم انطفأت الأنوار، ودرست القصور، واضمحلت آثار العظمة كلها - إلى حين
وظل هو سائرا في سبيله هادئا مطمئنا.
3
هو رب العراق، هو حياته الخالدة
كلمة سحرية أوجدت في أرضه التوحيد، وبعثت من فيافيه صدى التكبير والتمجيد
كلمة سحرية استعادت من بابل علمها، ومن آشور مجدها، واستعربت من آداب إيران، وكللت الثلاثة بالسامي من الإيمان
كلمة سحرية، كلمة الإسلام، أحيت دار السلام
فنشأت فيها معاهد العلم والفنون، ونبغ الشعراء والمولدون، وظهر من الحكمة والأدب كل كنز مكنون، ومرحت في ظلال غرائبها العبقرية وشقيقاتها الخيال والمجون
كلمة سحرية، نشأت بعدها «الليالي العربية»
14
التي أصبحت للأمم جمعاء
بل هي «الليالي البشرية» بنات العبقرية العربية
بل ليالي النفس، التي ينعشها أبدا الخيال، وتحييها أبدا الآمال
لله أنت يا بغداد الرشيد، فلا يزال ذكرك يعطر أرجاء الآداب الغربية
لله أنت يا بغداد المأمون، فلا يزال نورك يشع بين أنوار العلوم البشرية
لله أنت ما كان أقصر يوم الحكمة فيك، وما كان أقصر ليالي السرور
وكل عزيز قصير الأجل
كل عزيز مطمح الصائلين والطغاة
سقطت بغداد، نهبت، دمرت، ضربت عليها الذلة، خيم فوقها الليل البهيم، فنامت نوم الأسير وهو يئن من وطأة الكابوس
ثم نامت نوم المثقل جسمه بالمخدرات
ولكن الكارثة الأسيوية لم تغير مقدار ذرة في من هيكله في الجبال، وعباده في السهول
فظل سائرا في سبيله هادئا مطمئنا.
4
إن رب العراق، مثل آلهة الهند، ليتجسد من حين إلى حين في بشر كريم
من حامورابي، إلى آشور بنوبال، إلى نبوكدنصر، إلى المنصور والرشيد والمأمون؛ هذه مراحل سعيدة ما شكا إلا قصرها الزمان
ثم لبس الزمان الحداد، ودام الحداد ألف سنة
ورب العراق يسير في سبيله هادئا مطمئنا.
5
أرب العراق!
جلست إلى جانب طريقك، جلست يا دجلة على شاطئك، ونور القمر يلبس بغداد اليوم ثوبا من السحر مؤنسا باهرا
جلست يا دجلة على شاطئك، ونور الشمس يكشف عما في بغداد اليوم من أشباح الحياة، وقديم المحزنات
جلست على شاطئك يا دجلة، وظلمة الليل تحجب بغداد وتعطف عليها، فلا تخدعها كالقمر ، ولا تفضحها كالشمس
وسمعت إذ ذاك صوتا يقول: ليحي قحطان، ليحي العرب
وسمعت صوتا آخر: لتحي المدنية، وليحي كل من أشعل مصباحا من مصابيحها إن في الغرب، وإن في الشرق
وصوتا ثالثا، أشد وقعا من الاثنين يشق يمينه الظلمات: ورب العراق، إن قلب العراق حي إلى الأبد
ورب العراق، إن روح العراق لتبعث اليوم من ضريحها القديم
ورب العراق، لقد قرب زمن التجسد الجديد
وسيتجسد ربك في هاشمي كريم، يعيد مجد بني العباس الكرام
وسيتجسد كذلك في أمة ناهضة كريمة، تضيف إلى ذلك المجد مجدا رفيعا جديدا.
بغداد، في 14 أيلول، سنة 1922 (10) رفيقتي
15
هي رفيقتي في السفر، بل هي المبتدأ في حياتي والخبر
عرفتها في بلاد الغربة صغيرا، وعشقتها شابا، وعبدتها كهلا، وأمست في حياتي في منزلة ذات الحب والحكمة والحنان
كانت أول من أشعل في طريقي مصباح الفكر، وأول من هداني إلى مروج الخيال، بل كانت أول من استغواني، فتغلغلنا في أدغال الشك، وخرجنا منها إلى بساتين اليقين
قالت عندما كلمتها: نعم، ثم قالت: لا راحة لك معي ولا خير في حياتك بدوني، فقلت: لا راحة لي دونك، ولا خير براحة بعيدة عنك
هي عشيقتي المقصودة، وإلهتي المعبودة، ورفيقتي النصوحة الودودة
قبلنا قسمتنا كما نقبل الشمس، وكما نقبل السموم، دون أن نمجد الأولى كل يوم، أو نشكو الثانية كلما قامت تصيح وتنوح
أقمنا في بلاد الغربة زمنا خبرنا فيه هناك حلو الحب، ومر الجهاد
ثم رحلت، والشرق محجتي، وبلاد العرب منها قبلتي السعيدة، سافرت من نيويورك وحدي، ولكني، عندما مرت الباخرة بتمثال الحرية، أحسست بيد تستوقفني، وبصوت يعيد إلي الذكرى، ويلحفني بالخجل والعار
هو صوتها، وهو وجهها، وقد ازداد نورا وجمالا •••
قالت - وهي تبتسم: أفلا تخجل من نفسك؟ أتسافر وحدك إلى البلاد العربية؟
قلت: أخشى عليك منها؛ من وعورة المسلك فيها، من جمود الأفكار، من تجهم النفوس، من تعدد المذاهب، من وحشية البدو، من ترفض الحضر
فقالت - والحنق يشعل لهجتها: أيعجزني ما لا يعجزك؟ لا والله
أما الترفض والتجهم والجمود والجهل فمن أجلها خصيصا أرافقك الآن
ولكنك لا تعرفين طبائع القوم وعاداتهم، ولا تحسنين المداراة والمجاملة، ولا هم ألفوا مثل صراحتك، وقد تجرحهم نصال كلماتك
فأجابت - وصوتها الهادئ يكمن الحب والغضب: خير لك أن ترجع إلى بيتك من أن تسافر وحدك إلى البلاد العربية
إن لي في تلك البلاد من أحبوني، من تعشقوني في الماضي، وأبناؤهم اليوم يعيدون ذكراي، ويتشوقون إلى مرآي
إن لي في تلك البلاد آثار مجد تتوق إلى زيارتها نفسي
وإن لي فيها قولا جاءت ساعته، وعملا قرب يومه، وقصدا دنا أجله
أما أنت فقد تجاوزت الأربعين، فنعم صوتك، ولانت كلمتك، فما الفائدة إذن من زيارتك البلاد العربية؟
لو كان لي أن أزورها وحدي لقلت لك: ألزم البيت والكتاب وضع لوحة التعليم فوق الباب
ولكني اخترتك رفيقا، فلا تكن عقوقا
هي رفيقتي في السفر، بل هي المبتدأ في حياتي والخبر •••
هي الحرية
جاءت تزور البلاد العربية، وتزرع فيها بذورها الطيبة الصفية
هي الحرية التي أستمد منها الحياة، وهي الحياة أوقفها على خدمة هذه الأمة التي لا يجمعها اليوم غير أمل وخيال
هي الحرية رفيقتي، شاهدت قلب ما شاهدت، وسمعت كنه ما سمعت، وكان سرورها وكان حزنها أضعاف ما اعتراني من الحزن والسرور
ابتسمت في الحجاز ابتسامة المريض، وبكت في تهامة بكاء اليائس، وضحكت ثم تأوهت في اليمن، وجلست تستريح في العراق
هي الحرية تخاطبك أيتها البلاد العربية
هي الحرية تخاطبكم يا أسيادي أصحاب العظمة والجلالة
أيها الملوك والأئمة والأمراء والسلاطين، إن في يدكم كنزا أنتم عليه أوصياء
إذا صنتموه من الأجانب فلا تستهدفوه للجهل
إن في يدكم إرثا استحفظكم به الله
إذا حميتموه من كل نفوذ سياسي خبيث، فاحموه أيضا من التعصب الذميم، ومن روح الرجعة الوخيم
إن في يدكم أمة لا تعرف خيرها الحقيقي ، وهي لجهلها طعمة لكل صائل وكل نهاب
إذا رددتم عنها الطغاة المستعبدين، فلا تكونوا أنتم من المستعبدين الطغاة
أيها الملوك والأئمة والسلاطين والأمراء، إن في كلمة واحدة اليوم حياة هذه الأمة
والكلمة لكم، فهل أنتم بها ناطقون؟
الكلمة: «الاتحاد»، فهل أنتم في أمر واحد متحدون؟
والأمر الأول الجوهري «الصلح»، فهل أنتم بالصلح راغبون؟
والصلح أساس الوحدة العربية، فهل أنتم في سبيل الوحدة مجاهدون؟
والوحدة العربية أساس الحرمة القومية، فهل من حرمة تعززون؟
وحرمة الأمة لا تعزز بغير العلم الصحيح، فهل من معاهد العلم الصحيح تشيدون؟
إذا كنتم تفعلون فإني، أنا الحرية، وأقيم بينكم وأبشركم بمستقبل مجيد
وإلا فسأعود إلى أقصى البلاد، وألبس على بلادكم العزيزة الحداد.
بغداد، في 18 أيلول، سنة 1922 (11) العود إلى الوادي
16
أنخت بمنعطف الوادي وقلبي يحدثني بالرحيل
أرسلت في الأحراج والكروم رائد الحب فعاد ينشد بلاد النخيل
قلت: ولبنان؟ فقال عليل
ولكن الوزال سلم علي والسنونو رحب بي والصنوبر استبشر بإيابي
فتيقنت أنه بيتها، وإن كان الخادم من غير ذي المكان
كلمته، فأجابني بلسان لا أفهم اللكنة فيه
كلمته ثانيا، فعلم من لهجتي أني صاحب الدار، فأدخلني البستان وتركني وشأني
فبادرت إلى البيت فإذا هو كالطلل وحشة وسكونا
فها الشوك وقد امتد إلى أسكفة الباب، وها العشب وقد نبت خلال الأحجار في الجدران
بيت أبكم، أصم، لا كوة مفتوحة فيه تسمع الصوت، ولا شق في الباب يحيي الجاي
بابا كباب اللحد قرعت، فلم أسمع جوابا
فجلست أنتظر لعل الأهل غيب أو نيام
جلست في ظل شجرة من الأزدلحت نور زهرها فعطر طيبه الهواء
وكان الأصيل وكان النسيم اللعوب، فتساقط الطيب من الأغصان في حجر السكون كأنه ذوب الشعر في قلب الليل، أو شوارد الروح في بحيرة الأحلام
وتغلب النسيم، فنمت، وقلبي يحدثني بالرحيل •••
انتقلت من بستان في قلبه السكون والجفاء إلى بلد ضوضاؤه تملأ الفضاء
وسمعت أصواتا تعددت النعرات فيها وتنوعت اللهجات، من سجون الحياة في المدينة وفي الجبال
أصواتا تنادي وتستغيث، وأصواتا تتأوه وتئن، وأصواتا تصيح الويل والثبور، وأصواتا تنجد في الجدال وتغور، وأصواتا فيها تهديد ووعيد، وأصواتا في المجالس لا تعلم ما تريد
ثم سمعت صوتا يهمس في أذني: أيدهشك ما تسمع؟
قم بنا، وليدهشنك ما سترى
عرفت صاحب الصوت، رفيق الأسفار والأفكار، فتبعته
وقفنا في الباب، فإذا بالخادم هناك يرحب بنا باسما
دخلنا البيت، فإذا هو مشين بصور سخيفة في آطار مذهبة، ومفروش بالكماليات الغالية من صناعة الغرب، إلا غرفة واحدة فيه لا تزال كما كانت يوم هجرناه
فاستأنست عند وقوفي في الباب بحصيرها ومسندها، بعمودها وموقدها، بجلد الغنم حول الموقد والشمعدان، وبما تلبد على الحائط وفي السقف من الدخان
فهتفت قائلا: هذا هو بيت أمي، تبارك بيت الأمة
مشى الخادم أمامنا وهو يبتسم ويفرك يديه كفا على كف كأنه يقول: إن عملي حسن وستستحسنونه
ووقف في الزاوية عند هيكل أشار إليه بيده إعجابا، ثم قال: ترانا نحترم معابد الناس
فراعني ما رأيت، وأحزنني ما سمعت
حزنت، حنقت، خجلت، جزعت
كأنه لطمني بتلك اليد يده، وذبحني بتلك الكلمة من كلماته
هناك، في ذاك الهيكل، بين الشموع والدمن والأزهار الصناعية، رأيت إلها مرعبا مخيفا، إلها شبيها ببعض آلهة الهند، وحشيا فظيعا، إلها من آلهة الشر، تعددت في جسمه الواحد الأيدي والرءوس
وفي كل رأس عينان حمراوان تنظران إلى الآخرين شذرا، بل نقمة وانتقاما
وفي كل يد خنجر يقطر دما، وفي مقبض كل خنجر نجمة رسمت بالماس والياقوت
كأنها رمز الثراء، وبراءة من السماء
ملت بنظري عن الهيكل، وأسرعت إلى الباب، وقلبي يحدثني بالرحيل •••
رأيتها خارج البيت، خارج البستان، بعيدة من الهيكل، جالسة وأحزانها في قارعة الطريق
عرفتني فقامت تلاقيني، وفي خطواتها وهن وارتجاف
جلسنا على صخرة، في ظل تينة هرمة، يغرد في أفنانها الحسون، ويداعب حولها الفراش الأقاحي، وينثر تحتها الهواء حرير زهر القرقفان
وخيم علينا السكون، وسارعت إلينا الهواجس والظنون - ظننتك سعيدة يا أمي - خلتك تعلم يا بني - أصدقيني الخبر يا أمي - لا تسأل سؤالا قد يحزنك جوابه - هل أنت تعبدين ذلك الإله الفظيع؟ - اسأل الخادم في البيت - وهل هو أعلم منك بما في فؤادك؟
فابتسمت هزءا وقالت: هو عالم بكل شيء - وهل في ذاك الإله الوحشي الفظيع ما يعزيك يا أمي، أو يفيدك، أو ينعش أملا واحدا من آمالك؟ - اسأل إخوانك، أبنائي، أولئك الذين لا يخافون لا خادم الهيكل ولا الخادم في البيت - وهل أنت راضية عنهم يا أمي؟
فأطرقت ثم قالت: وهل تظنني راضية عنك يا بني
ثم نظرت إلي وكأنها تجيب على سؤال أفصحت عنه عيناي: ذنبك الأول الهجر، وذنبك الثاني العود إلي - أفلا تسرك إذا عودتي؟ - وما الذي جئتني به، بعد هجر طويل، من البلدان التي سحت فيها؟ - جئتك بسكينة الدهناء والنفود، تلك التي تملأ النفس ورعا وخشوعا، فتزيل منها الهواجس كلها والهموم - لا تنفعني يا بني، لا تنفعني - جئتك بقناعة البدوي ومروءته، بشجاعة البدوي وحريته، باستقلال البدوي واطمئنانه - لا تنفعني يا بني، لا تنفعني - جئتك بالشمم العربي والإباء، بالشهامة العربية والوفاء، ببساطة العيش وكرم الأخلاق، بالجرأة والبطولة في الشدة وفي الرخاء - لا تنفعني يا بني، لا تنفعني - جئتك يا أمي، بفكرة سامية من المدن الأوروبية - العمل الصالح أصح الأديان - وجئتك كذلك بحرية الإفرنسي في ثورته، وبنشاط الأميركي في عمله، وبإيمان الأحرار أجمعين بالحياة وبالناس - لا تنفعني يا بني، لا تنفعني - وماذا تبغين يا أمي، يا روح الأمة التاعسة الحزينة، ماذا تبغين - رءوس الإله الذي رأته عيناك - إله التفرقة والتعصب والشقاق - لا أبتغي اليوم سواها •••
بعد برهة من الزمان، وأنا عائد من الوادي، التقيت في الطريق بخادم البيت وخادم الهيكل، بذاك الذي يحترم معابد الناس وذاك الذي يرتزق منها. وكلاهما حامل عصاة يتوكأ عليها
فقلت - بعد أن سلمت: ما الخبر؟
فقال خادم البيت: إلهكم مات
وقال خادم الهيكل: والويل للقتلة الكافرين
قلت: وإلى أين الآن؟
فقال الأول: إلى البحر، وقال الثاني: إلى البادية
قلت: والحمد لله، وسرت في طريقي مسرعا إلى البيت
فلما وصلت إلى منعطف الوادي لاقتني امرأة خارج البستان، ما عرفت منها، أول وهلة غير الجمال
بل هي فتانة هيفاء، في حلة بيضاء، وقد زينت شعرها الأسود بأربعة أزرار من الورد، وحملت بيدها قمقما ترش منه ماء الزهر
أدخلتني الدار، فإذا فيها أربعة أنوار، باهرة الضياء، ومرآة كبيرة تنعكس فيها آيات على الحائط خطت بماء الذهب
فقرأت الأولى: أربعة قلوب في جسم واحد
والثانية: أربعة هياكل في قلب واحد
والثالثة: أربعة حقائق في عقل واحد
والرابعة: أربعة عقول في ذات واحدة
وكانت دهشتي الكبرى، وفرحي الأكبر، في غرفتها الخاصة، في الزاوية المقدسة، في مكان الهيكل منها
دخلت وهي آخذة بيدي وتقول: قد رأيت معبدي الجديد يا بني، وسأجمعك الآن بإخوتك خدامه؛ بابن الشام، وابن لبنان، وابن حوران، وابن فلسطين
اليوم عيدي يا بني وعيدهم أجمعين.
في 17 أيار، سنة 1923 (12) أراك يا بلادي بعينين
17
1
أيها السائح الأديب، إن في البلاد السورية غير جمالها الطبيعي ومحاسنها الشعرية
أيها الوطني الكئيب، إن في البلاد غير البؤس والجمود والتقهقر والخمول
إن في رأسي عينين، عين السائح وعين الوطني
أرى شمس الصباح تغسل رءوس الجبال، وتدفئ صدور الربى فيتماوج طربا كل ما تلمس وكل ما تنير، ثم تدخل بيت الإنسان فتراه في ظلمات من الكلام وفي بحر من الدموع
أسمع الحسون يغرد ساعة الفجر، وأسمع سحابة النهار انتحاب أمة مات في قلبها البلبل والحسون
ألمس في النسيم روح المجد الذي يصيغ في خرائب التاريخ إكليلا من النور والخيال لربة الذكرى والجمال
وأبحث في الخرائب الجديدة عن أثر مجيد فلا أرى غير جثة هامدة عند ركمة من الرماد
أحمل فكري إلى الغاب هربا من فكر وطن مجذوم فأعود وفي حنين إلى الجذم
أقف عند الغروب على قمة الابتهاج أودع الشمس فأسمع الألوف على شاطئ اليأس يودعون الوطن
أجالس السكينة الزكية في ظل الصنوبر فأسمعها تقول: كنت أسمع أمس وقع المعاول وغناء الفلاح ولا أسمع اليوم غير أبواق السيارات وثغثغة المتفرنجات
وأجالس المتفرنجة فتصارحني قائلة: أتفضل أن تراني مثل تلك الفلاحة في فسطان كالجرس شكلا وقبقاب من خشب؟
يمر النسيم في ظلال الأودية فيحرك الأوراق في الأشجار والأدغال، فأرى خلالها خيال تلك الفلاحة الساذجة التي كانت تكشف ساقها للشمس، وشعرها للهواء، وأصبحت اليوم تلبس أجربة الحرير والقبعة الخضراء، وتلمس بيد غنجها السماء
همست في أذن المتفرنجة: أين الفلاحة منك ؟ فوبختني بلحظة باريسية ووقفت تودع، فمشى القلب معها إلى الباب
إن في قلبي عينين، عين السائح وعين الوطني المغروس بين الصخور.
2
أيها السائح الفيلسوف، إن في البلاد غير ما يوحي إليك الشعر ويقرأ على مسمعك من كتب الأنبياء
أيها الوطني الذكي الفؤاد، إن في البلاد غير ألواح العلم والأدب، ترددها فخورا قانعا بما اكتشفه الإفرنج راضيا بما اخترعه العرب
إن في البلاد حياة بشرية لحمها ودمها من لحم ودم الشعراء والأنبياء
إن في البلاد أنصابا وآثارا فيها من أبواب العلم والأدب ما لا تجده في كتب العرب وكتب الإفرنج
وإن في البلاد أيها السائح الحر تقاليد دكت أمس في بلادك معالمها، أفترى في زماننا ما رآه أجدادك في زمانهم؟
إذا كنت من الإخوان الذين ينصرون الحقيقة في كل مكان، فهلا وقفت في سياحتك لترفع في سبيل الحقيقة صوت أدبك؟
أترضى أن يكون السيف الذي أورث وطنك شرفا وعزا - هما رأس مالك اليوم - في غمد الخطل تحت أمر الطمع والظلم؟ أتمر به ساكتا بل مطمئنا ثم تقف على منابر البلاد لتثني على جمال الطبيعة فيها؟
إنك أخ لنا وإن اختلف اللسان، ونأسف أن يكون في رأسك عين واحدة لا عينان
أو أنك تركت في بلادك سلاح الحق والحرية، وجئت تنشد في بلادنا الروح الشعرية
أيها السائح الإفرنسي جئتنا غابنا وعدت مغبونا
إننا نعلم بما ستكتب وبما تبتغيه، ونعلم ونود أن تعلم أن الشعر في القلب لا في صخور الجبال والغابات، وأن القلب الذي لا يشعر بما يقاسيه الإنسان يحرم من موحيات الشعر وإن ازدهت حوله بكل ما في الطبيعة من جمال وجلال
وأنت أيها الوطني الفصيح، إن في الحياة فصاحة غير فصاحة اللسان، وشعرا غير شعر الكلام
إن في الحياة من القوى التي فيها مجد - إذا استخدمها العلم والإخلاص . وفيها - إذا استخدمها الجهل والنفاق - ذل وهوان
إن في الحياة - إذا عدت إليها - مفكرا حرا عاملا جريئا؛ ما يعيد إليك الثقة بالنفس، والأمل بالناس، والإيمان بالله
خذها مني ولا تأخذها لا من الإفرنج ولا من العرب
كلمة خشنة صادقة هي لك ومنك خير من درر الألفاظ والمعاني التي كان لها يوم، وكانت لها دواوين ومقامات
حقيقة صغيرة تكتشفها أنت خير من فلسفات ثمينة يهديكها من قد يروم استعباد أعز ما فيك
إن لي عينين، عين السائح وعين الوطني.
3
أيها السائح الأديب، إنك تبغي الجمال في الحقيقة، وجئت لا تنشد غير جزء منها
إن الحقيقة كلها لمثل ربك جمال يدوم
أيها الوطني الأديب، إنك تبغي الحرية في بلادك وقد ذبحتها ذبح الشاة في فؤادك
إن فيك ما في السائح ولكنه دفين الدموع، وإن في السائح ما فيك ولكن حب الذات يطفيه ويخفيه
وإن في ما فيكما وهو حي، حر، صالح، منير
حقيقة هي كالشمس، وحرية هي كالجبال
خذها عني ولا تأخذها لا عن العرب ولا عن الإفرنج
أريدك عاملا أولا ثم كاتبا مفيدا
أريدك حرا أولا ثم ثورويا مريدا
أريدك عاشقا أولا ثم شاعرا مجيدا
إي أخي الوطني، إن معولا تحيي به باعا من الأرض خير من يراع تدبج به المقالات الإصلاحية التي لا تصلح شيئا ولا تفيد غير أعدائك
إي أخي السائح، إن صوتا ترفعه على جور من أهل بلادك في البلاد، تأباه أنت وتقاومه في بلادك، لخير من تآليف تقص فيها قصص شعب فقير في كل شيء سوى كرم الأخلاق
أجل، إن في البلاد حياة عرفت من الأحزان أشدها ومن الفرح أسماه وأصفاه
فيها صلب صفوة العالمين، وفيها رقصت عشتار ربة الفينيقيين
وفيها يصلب كل يوم أمل من الآمال ويرقص في كل يوم وهم من الأوهام
فهل أنت أيها السائح الأديب ممن حملوا اليراع على آمال الشعوب، أم على أوهامها؟
إننا نرى ما في بلادك من حقيقة وجمال في العلم وفي الفنون
أفلا ترى ما في بلادنا من شدة يقاسيها شعب صبور قنوع، ومن عطف مع ذلك يزين أمة وديعة كريمة؟
خذ عنا فلا تضل، نأخذ عنك فلا نموت.
الفريكة، في تشرين الثاني، سنة 1923 (13) نفحة من لؤلؤة
18
يا أيتها الساكنة قعر ذاك النهر القصي، يا أيتها الراقدة تحت تلك الأمواج الغريبة، لا تجزعي، ولا تخافي
أنت أميرة اللؤلؤ، واللؤلؤ هناك يلاقيك مرحبا
أنت ملكة المرجان، والمرجان يمجدك منشدا
يا أيتها الزنبقة المدفونة في مياه الغربة، ليست الغربة بعدك بعيدة
وليس القعر دائما رمز السقوط والحزن والبلاء
أنت في غرقك ترتفعين، وفي هبوطك ترتقين
وقد كنت بعيدة عني، فأدناك مني الموت، فأصبحت حية في ذكر لا يموت
أنت في مخيلتي تنيرينها، أنت فيها شمس الحب والذكرى، إلى أن تفنى المخيلة
أحببتك حبا روحيا، وروحك لا تزال رفيقتي، على م الدمع إذا والحداد؟
أبعدتك الهجرة الأولى، فأدنتك الهجرة الثانية، وأنت الآن في أفئدة محبك وفيها من اللؤلؤ والمرجان، ما يندر في نهر الأمازان •••
نعم فقدناك محدثة مطربة
فقدناك ووجهك ينير المجالس والقلوب
ولكنني لا أزال أسمع نغمات صوتك، وصدى كلماتك، وأنت تنشدين أو تحدثين
وهو ذا وجهك أراه حيث أوجه نظري في كل مكان، أراه في النور وفي الظلمة، في ليل الحزن وفي فجر المسرة، على الجدران، وعلى الأشجار، في الوادي، وفي رءوس الجبال على وجه الفجر وعلى وجه الأمواج الضاحكة
أراك في الصفصاف وأذكر حنوك
أراك في أغصان البان وأذكر صباك وجمالك
أراك في السوسن وأذكر شذى حديثك
أراك في الغدير وأذكر نغمات صوتك
أراك في البنفسج وأذكر حشمتك ولين جانبك
أراك في خمائل الورد وأذكر جميل غيرتك
أراك في النور الذي ينبثق على العالم فيذكرني بكرمك
أراك في الشفق الذي يودعنا كل يوم إلى يوم واحد وأذكر وفاءك وصدق عهدك
أراك على قمم الجبال وأذكر شرف نفسك وعظيم إبائك •••
نهضت باكرا أتفقد زنبقة في بيتي، وجدتها، ورأسها على صدرها ذابلة
ماتت الزنبقة عطشا
لله من سر في ذا الماء! نقطة منه تحيي ونهر يميت
نظرت إلى الزنبقة المائتة فارتعشت نفسي، ولطالما انتعشت من مرآها
أين قلبها اليوم يخفق حبا وأين شذاها؟
إن نيسان ليبعث ما دفن في كانون، فيطرب لذلك الإنسان، ويبتسم منجل الزمان •••
أي منجل الزمان، إن في الوجود حروجا أزاهرها من روح الله
وهي التي نورت قبل وستنور بعد أيامك وتبتسم دائما لابتسامك
وأنت من تلك الأزاهر أيتها الروح اللطيفة الطاهرة
كنت في حياتك الدنيا محجة الأفئدة المحبة، وكعبة القلوب الصافية، ولا تزالين كذلك
لا تزالين عندي أعجوبة البعد والزمان
كلما رأيت لؤلؤة أسألها عنك
وكلما رأيت مرجانة أرى فمك، وأسمع كلماتك الدرية.
في النكبة
الصليب، أو يوم في بيروت
1
دخلت المدينة التي كنت أعرفها فرأيتني فيها غريبا، سرت في المدينة التي أحبها قلبي فهالني ما شاهدت، وقفت على منعطف جادة من جاداتها الكبرى، علني أرى أحدا من أصحابي وإخواني، فمر أمامي أناس بل أشباح من الناس لا أعرفهم ولا يعرفوني، لبثت حائرا مستغربا لا أدري أبين قومي أنا أو بين قوم من الأغيار بل من غير ذا العالم.
ولا شك أني في المدينة التي كنت أعرفها وكانت تعرفني ولكن قومي - أين قومي؟ أين إخواني؟ أين أحبابي؟ أفي هذه الأطمار من ودعت أمس سريا؟ أهذه الأشباح ما تبقى من تلك النفوس الأبية؟ أفي هذه الهياكل من كانوا بالأمس من الكرام الأماجد ينشدون أسمى الأماني، ويشيدون للعلم المعاهد ويرفعون للآداب الأعلام؟ أفي هذه الأجسام المتداعية من عرفتهم رجالا أشداء يتاجرون ويعلمون، يجاهدون ويسعدون، يأكلون ويضحكون ويلعبون؟
وقفت ساعة على منعطف الجادة والكآبة ملء فؤادي، ألقيت السلام على أحد المارين فلم يرد علي، ولم يقف ليرى من سلم، ظل سائرا في سبيله مثل سواه منكس الرأس، محني الظهر، واجما واجفا، ساكتا قانطا، لله من ذي الهياكل وذي الأشباح، رأيتهم يمشون كأن في أرجلهم قيودا، رأيتهم يتسللون كأنهم هم المجرمون لا حكامهم، رأيتهم يتحايدون بعضهم بعضا كأن فيهم جربا، قلما يقف أحد منهم في الشارع، وقلما يكلم أحد أحدا، كأن كل إنسان منهم غريب في البلد، منكسو الرءوس محنيو الظهور يسيرون.
وإذا رفع إليك أحد وجهه ظننته أثرا من الآثار، أو رمزا من رموز الجوع والفناء، فترى العين منه جامدة غائرة تكاد تختفي تحت جفن عليل ذليل، وترى الفم مفتوحا مرتخيا كأن في أعصابه شللا، وترى الوجنتين كأنهما طليا برماد جبل بالدموع.
إنما هؤلاء أبناء المدينة التي كنت أعرفها وكانت تعرفني، المدينة التي أحبها قلبي، المدينة التي بثثت فيها شيئا من نفسي، المدينة التي أحبت في الإيمان بالناس، وجددت في حب الوطن وحب الحياة، وأين هي اليوم من الحياة؟ وأين فيها اليوم من كانوا بالأمس من أمراء الحياة؟
رحت أبحث عن صديق لي منهم، وصلت إلى بيته فوجدت الباب والشبابيك كلها مقفلة، سألت صاحب الدكان قرب البيت فلم يجبني، لم يكلمني، كررت السؤال فهز كتفيه متجاهلا، قلت: إذا كنت لا تعرفني أفلا تفهم لغتي؟ أكلمك بالعربية، وأنا مثلك من هذه البلد، بل أنا أخوك ابن وطنك، لا مأمور حكومة ولا جاسوس، وما غايتي من السؤال سوى ...
فقاطعني الرجل قائلا: رح عني يا شيخ، رح عني.
ذهبت مطرودا ورحت أبحث عن صديق آخر لي، بيته في حي الأعيان، وقفت في الباب أقرع الجرس، فجاء الخادم في زي الأرناوط يسألني ما الخبر، كلمته بالعربية فأجابني - وكأنه يسبني - بلغة لا أفهمها وأقفل الباب.
قفلت راجعا والغم يقودني إلى بيت آخر في الحي، طرقت الباب ففتحه جندي سألني بالعربية حاجتي.
قلت: جئت أزور جرجي أفندي ... فأجاب مستعجبا: ليس هنا، هذا بيت تيمور باشا، فقلت: وجرجي أفندي؟ فقال: لا أعرفه، وأقفل الباب.
اجتزت الطريق في الجنينة أمام البيت وأنا متيقن أنه بيت صديقي؛ فكم مرة جلست وإياه في تلك الخيمة خيمة الياسمين التي لم أزل أذكرها، وكم مرة تمشينا مساء في ضوء القمر بين هاته الزهور وتحت هذه الأشجار، أشجار الليمون والنخيل نتباحث في شئون الحياة وفلسفة الوجود.
طفت حول البيت لا أدري من شدة اليأس والغم مسيري.
تيمور باشا من هو تيمور باشا؟ وبين أنا أردد الاسم هاجسا مر ولد في قميص بالية مقدودة وهو يلوك طرفها، فأوقفته سائلا أتعرف من هو صاحب هذا البيت؟ فأجابني على الفور: وكيف لا أعرفه، هو بيت سيدي ومعلمي جرجي أفندي ... - وأين جرجي أفندي اليوم؟ - أنت تمزح، كأنك لا تعلم .
قطعت من هذا الحي رجائي، ورحت أبحث في حي آخر، طرقت بابا طالما فتحه الخادم متأهلا مرحبا وطالما دخلته باسما مسرورا، دققت أولا وثانيا ولبثت أنتظر، ثم دققت بعصاي وهممت بعد هنيهة بالرجوع لظني أن هذا البيت أيضا من البيوت العديدة التي هجرها الأماجد الكرام، فسمعت إذ ذاك وطء أقدام على الدرج ويدا تعالج الباب، فتحت فيه النافذة الوسطى فلاح منها شيخ ملتح طاعن في السن.
قلت: هل مختار أفندي في البيت؟
وما كدت ألفظ الاسم حتى أقفل باب النافذة وسمعت الشيخ يقول: جاءوا يهزءون بي وبأحزاني ... كلاب ... خنازير ...
استحال نور النهار في عيني ظلاما وأحسست أني مثل سائر الناس أمشي والقيود في رجلي، همت في المدينة على وجهي لا أدري إلى أين يحملني اليأس، وأين تحط بي الكآبة.
أين أصحابي؟ أين إخواني؟ أين أولئك الذين كانوا بالأمس نور المدينة بل مصابيح الأمة؟ وبين أنا سائر في زقاق من الأزقة رأيت امرأة جالسة على قارعة الطريق كأنها من شدة الهزال والعياء «مومية» مصرية، وإلى كلي جنبيها صبي ذابل رأسه في حجرها، وهي تمد من أجلهما يدا رجفة نحيلة، كأنها عظام يحركها شبح الموت. - أعطوني الله يعطيكم، الله يتحنن عليكم، الله يفتح لكم أبواب الخير، الله يقيكم من الجوع، الله يصون حريمكم وأولادكم، حسنة للصغار، كانوا أربعة وصاروا اثنين ...
فقال أحد المارين: صدقت، وغدا تدفن الثالث وبعد غد الرابع.
ورأيت الناس - مع ذلك - لا يبالون، يمرون أمامها كأنهم عمي صم لا يرون صورة الشقاء في سواهم ولا يسمعون صوت البلاء في غير قلوبهم، لا تستوقفهم عاطفة الشفقة ولا تحركهم عاطفة الحنان، وهل يلامون وكل واحد منهم يحمل صليبه ويجر قيود بؤسه وغمه في مدينة الغم والبؤس، والجوع والدموع؟
ساعة واحدة فأحسست بثقل تلك القيود، فكيف بمن قيدوا بها ثلاث سنوات؟ لا عجب إذا استحجرت قلوبهم.
وما مشهد الأم وأولادها بفظيع إلى جانب مشهد آخر شاهدته، هو ذا ولد مستلق على الرصيف، ألصقه الجوع بالدقعاء فظننته إذ رأيته ميتا، وهو ذا كلب قريب منه يصك عظما جريدا، فلما رآه الولد طفق يدب على بطنه ويديه حتى وصل إلى الكلب فنزع العظم من فمه وهو لا يبالي بنباحه، وسارع زحفا وهو يلتفت رعبا، كأنه خاف أن يراه أحد من الناس.
خرجت من المدينة ونفسي كنفس تلك الأم، وقلبي كقلب هذا الولد، وبين أنا سائر إلى الحرج رأيت في حقل على بضعة أمتار من الطريق ما ظننته لأول وهلة قطيعا من المعزى، فاقتربت منه فإذا هناك ثلاث نساء وولدان في قمصان سوداء بالية مجتمعون حول مزبلة يمدون إليها أيديهم فيبحثون فيها كالدجاج عن شيء يخففون به مضض الجوع، عفوا ربي! قد كفرت بك وأنكرت عنايتك الإلهية، وجدفت على اسمك وسمائك، أتضن على مثل هؤلاء من أبنائك حتى بالموت؟ أبشر خلقوا على شكلك ومثالك يقتاتون من المزابل؟ ويسابقون الكلاب على عظم جريد؟ لله من ذي المشاهد البشرية الفظيعة المريعة! لله من نكبة سودت يومنا! لله من جوع مسخ قومنا.
دخلت حرج الصنوبر واللعنة في قلبي وعلى لساني، نظرت إلى شمس المغيب من خلال الأغصان وفكرت بالبلاد التي ستشرق بعد بضعة ساعات فيها، أتشرق يا ترى في قلوب من هاجروا إليها فيسارعون بالنجدة، بالفرج، بالخلاص، قبل أن تنقرض أمتهم؟ أيموت الأطفال في الأسواق، أيسابق الصبيان الكلاب على العظام، أيقتات الناس من المزابل، وأبناؤك يا سوريا في مصر وباريس وأميركا يتنازعون ويتطاحنون ويستشهدون على صفحات الجرائد؟ أفي الذل والشدة أنت تترقبين الفرج مع كل شارقة وكل غاربة، وأبناؤك الأحرار يستمهلونك بين هم يتناقشون في الاحتلال والاستقلال؟ إن كل سوري حي الجنان والوجدان، ليود قبل كل شيء خلاص بلاده وإنقاذ البقية الباقية فيها.
عدت إلى المدينة تحت جنح الليل في أزقة كأنها المقابر، عفوا، إن المقابر تنور الأزهار وتغرد العصافير، وفي هذه الأزقة بيوت بل أكواخ تبكي فيها الأطفال وتنوح فيها النساء.
وصلت إلى ساحة الاتحاد فوجدتها خالية مظلمة، تعثرت هناك بكلب فتحرك قليلا ولم ينبح، الجوع والرعب يعقدان حتى ألسنة الكلاب، وما كدت أصل إلى وسط الساحة حتى رأيتني أمام مشنقة تدلت منها جثة في قميص بيضاء، فتراجعت مذعورا فإذا أنا بين عدد من المشانق، بل بين أصحابي وإخواني شهداء الحق والوطن والحرية، وقد استحال ظلام الليل نورا على وجوههم، عرفت معنى سكوت الناس في البلد، هو ذا مصدر الرعب السائد في قلوبهم، هو ذا مصدر البلاء المخيم على أنفسهم، وعرفت معنى تغيظ الشيخ وكلامه: جاءوا يهزءون بأحزاني ... كلاب ... خنازير ... إي مختار أفندي ... إي جرجي أفندي ... إي إخواني كنت في المدينة نهارا أبحث عنكم فها قد جمعني بكم الليل، جمعتني بكم نجوم السماء، ولكن النور الذي ينير وجوهكم حير فؤادي، فتلفت أستطلع مقامه فإذا في وسط المشانق صليب كبير يعلوها كلها، وعند الصليب امرأة في ثوب الحداد جاثية ترفع إلى المصلوب يديها.
أمي، أم أمتي! هي خالدة لا تموت، لا تموت وفي قلبها ذرة من الرجاء، لا تموت وإن أمست أرضها غابا من المشانق، لا تموت وفيها من أبنائها من يموتون شهداء الحق والوطن والحرية.
اقتربت منها وألقيت عليها السلام، جثوت قربها وطفقت أقبل يديها ورجليها، فنظرت إلي تسألني: من أنت؟
قلت: أنا أحد أبنائك من المهجر.
فقالت: لا بارك الله بأبنائي في المهجر. - ولكنهم اليوم يفكرون في خلاصك، يسعون في إنقاذك.
فأشارت إلى الصليب قائلة: هو ذا خلاصي وتعزيتي الكبرى. - ولكن أبناءك يموتون شهداء لتحيي حياة جديدة، وغدا ترين جيش الحرية في أرضك. - منذ ثلاث سنوات وأنا أسمع كل يوم هذا الكلام، وأعلل النفس بالآمال. - ولكن أبناءك اليوم يتطوعون في جيش الحرية. - لا أصدق حتى أراهم وأرى بريق السيوف والرماح، فقد سمعت أنهم لم يزالوا منقسمين بعضهم على بعض، انظر إلى هذه المشانق، تأمل هؤلاء الشهداء في ساحة الاتحاد - الاتحاد بالموت، الاتحاد بالشهادة - فهل تعرف المسلم وهل تعرف المسيحي؟ هل تميز بين اللبناني منهم والسوري؟ - ولكن في أبنائك يا أمي من يطلبون استقلالك.
فصاحت بي وقد استوت واقفة ترفع إلى السماء يديها: استقلالي! أواه! أواه! استقلالي بماذا يا بني؟ أبالموت والجوع والذل والهوان؟ استقلالي بالمشانق؟ استقلالي بالقبور؟ أتطلبون استقلالي يا بني وأنا في آخر نسمة من الحياة؟ خلصوني أولا ثم اسعوا في استقلالي. - ولكن بعض أبنائك يا أمي لا يريدون خلاصك على يد فرنسا، فمنهم من يفضل إنكلترا، ومنهم من يؤثر العرب، ومنهم من لا يدري ما يفعل ويقول، ومنهم الجبناء الإمعيون الذين ماتت فيهم روح الحنان وعاطفة الشرف والوجدان، أما أبناؤك الأحرار فستشاهدينهم غدا شاكين السلاح، يحاربون في أرضك من أجلك، يفادون بأنفسهم في سبيلك.
فنظرت إلي نظرة يأس واسترحام، وقالت: منذ ثلاث سنوات يا بني وأنا أترقب طلائع الخلاص، منذ ثلاث سنوات وأنا جاثية عند الصليب أسأل الله أن يعطف على أبنائي، أن يفك قيودهم، أن يخفف - في الأقل - شدة النكبات المتوالية عليهم. منذ ثلاث سنوات وأنا مقيمة في ظل المشانق، في ظل الرعب والهول، في ظل الجوع والتجويع، أترقب لأبنائي في أرضي طلوع الفجر، فجر الفرج، فجر الخلاص، فجر الحرية ...
وأبنائي في مصر وباريس والمهجر يتنازعون ويتحزبون ويتخاذلون، وأنا اليوم لا أطلب سوى الفرج وكسرة من الخبز ليأت الفرج يا بني ولو عن يد القرود، ليأت الخلاص ولو عن يد الشياطين ...
أخت البلجيك
حكي أن يوسف لما ملك خزائن الأرض كان يجوع ويأكل من خبز الشعير، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع.
إخواني السوريين: إذا كنا لا نخاف أن نشبع فننسى الجائع أفلا نخاف أن يقال فينا: إننا أناس لا نعرف التأسي والإحسان، أناس لا أثر في قلوبنا لتلك العاطفة الشريفة عاطفة البر التي تميز الإنسان عن الحيوان؟ سوريا اليوم أخت البلجيك، أختها في الشدة والأسى، أختها في الفاقة والجوع، ونحن في بلاد أميركا راتعون في بحبوحة من العيش تحت سماء الأمن والسلام.
وما منا من ليس له في الوطن المنكوب أم أو أب أو أخ أو أخت أو نسيب، فهلا ذكرناهم اليوم إذا كنا لا نذكر سواهم؟ أننسى سوريا أمنا وهي اليوم تستغيث؟ أننسى البائس فيها والجائع وفي كل ساعة في هذه البلاد يتجلى لنا البر والإحسان في أشرف الحلل وفي أجمل المظاهر البشرية؟ أفلا نشارك الأميركيين أنفسهم - وقد كانوا السابقين - في جمع شيء من المال لإعانة المنكوبين والبائسين في سوريا؟ هي فرصة نقرر فيها - في الأقل - شأننا في هذه البلاد، هي فرصة نثبت فيها أريحية طالما رددتها أمثال العرب، وكرما هو عنوان الشرقي، ووطنية لا تعرف اليوم التحزب والتفريق، وطننا في حاجة إلى المال بل في حاجة إلى ضرورات العيش، فهل نرد فارغة يدا مدت إلينا؟
ينبغي أن نجمع - في الأقل - عشرة آلاف ريال نبعث بها إلى الوطن، ولو كل سوري في الولايات المتحدة يدفع ربع ريال فقط لجمعنا أضعاف هذه القيمة.
فيا أخي السوري - أنت المقيم خارج نيويورك - زك مالك الآن. ريالا واحدا تبذله في سبيل الوطن المنكوب اليوم خير من مائة ريال تبذلها غدا في سبيل إصلاحه واستقلاله. أرسل ما تجود به نفسك إلى الجريدة التي تقرؤها، أو إلى المحل التجاري الذي تتعامل معه، أو إلى صندوق اللجنة لإعانة منكوبي سوريا في نيويورك، وإن ما تجمعه اللجان المختلفة يصل إلى اللجنة الأميركية التي عرضت علينا مساعدتها فيرسل - إذ ذاك - إلى الوطن.
عار علينا وكلنا آمنون ناب الجوع أن ننسى اليوم الجائع في بلادنا، عار علينا أن يدعونا الغريب إلى إعانة وطننا المنكوب فلا نلبي الدعوة.
في كتاب جاءني من الوطن أن بين الأيدي الممدودة للاستنداء أكفا لم تتعود ذلك، فكيف بعامة الناس إذا؟ سوريا اليوم أخت البلجيك، أختها في الشدة والأسى، في الفاقة والجوع، فهل نسمع نداءها ساكتين، وفي عروقنا ينبض دم أجداد كرام، وفي صدورنا عاطفة بشرية حية؟
إن الكريم وإن كان فقيرا يقاسم الجائع كسرته. فكيف بالغني؟
لا نسألكم أن تقاسموا الوطن ثروتكم، إنما نسألكم بذل اليسير مما لديكم.
نسألكم أن تقتدوا بيوسف الصديق فتذكرون - في الأقل - الجائع، لا نطلب منكم اليوم اكتتابا باسم مشروع خيري أو نهضة وطنية، إنما نستحلفكم باسم الإنسانية أن تبرهنوا على أنكم من أبنائها، وبرهنوا للوطن أن العاطفة الوطنية لا تزال حية في صدوركم، وبرهنوا للأميركيين على أنكم أسرع منهم في إنقاذ إخوانكم من الجوع.
أجل، إن خير البر عاجله، وإن سادات الناس في الدنيا الأسخياء.
نيويورك، في 25 ك2، سنة 1915
صوم وإحسان
أمة تصوم أشهرا، أمة تجوع وتجوع، أمة غشت الدموع بصرها فأمست لا ترى غير يد القضاء وقد استل سيف النقمة أمة جمد الدم في عروقها، برد الدم في قلبها، فأمست لا تستطيع حتى النداء مستغيثة، مستجدية أمة تتلاشى سغبا، تموت جوعا، فريسة ظلم تواطأ والقضاء، ونحن من دمها ولحمها، من صميم قلبها من خيرة أبنائها، ناءون عن هول أولئك البرابرة وعن هول ذلك القضاء، آمنون شر الاثنين، راتعون في بحبوحة من العيش حريزة، في بلاد جزل خيرها، وعم اليوم برها، بل نحن في بلاد تقرأ علينا روح الغيرية فيها أمثولة جميلة كل يوم، أمثولة في نكران الذات، في الشفقة والإحسان، في الرحمة والحنان.
فهلا أخذنا عن تلك الروح روح الغيرية في الأميركيين وهلا سمعنا لها واقتدينا بها؟ هلا وقفنا على المنكوبين في بلادنا يوما واحدا من أيام عملنا؟ يوما واحدا نقدسه للوطن المهدد بالاضمحلال، يوما واحدا نجرد فيه أنفسنا من كل آمالنا المادية، من أغراضنا الدنيوية، من غرائزنا الحيوانية، من مهامنا التجارية والخصوصية كلها، يوما واحدا من نكران النفس والضحية، نتجه فيه نحو ذلك الوطن المنكوب وطننا، ولا نفكر فيه بغير إخواننا الذين يموتون اليوم جوعا.
لست في ما أكتب الآن مبشرا، ولا مقرعا منذرا، وليس في قصدي النظر إلى الصوم من وجهته الدينية، ولا من وجهته الصحية، كلمتي هذه تمليها علي نفس متألمة متوجعة، من القلب هي لا من الرأس، فإذا دعوت السوريين إلى الصوم يوما واحدا كاملا فذلك لأنبه فيهم العطف والحنان، فيشعرون بما يقاسيه إخواننا في الوطن.
البعد جفاء، وما لا تراه العيون لا ترثي له القلوب. في مدن سوريا وفي سهولها، في قرى لبنان وأوديته وهضابه ألوف من إخواننا اليوم يقتاتون بالأعشاب، بل يسقطون في الطرق من الضنى، بل يموتون في البرية سغبا وجوعا، ونحن البعيدين عن هذا المشهد المريع قلما ندرك معنى ما فيه من البؤس والويل، قلما نشعر بحقيقة أهواله.
لذلك أقول: صوموا يوما واحدا فقط تعرفوا معنى الجوع، يوم واحد تحرمون فيه لذيذ العيش يدنيكم من أولئك البائسين المقضي عليهم بصوم طويل مهلك، المقضي عليهم بالموت جوعا، يوم واحد من التقشف يقربنا من الوطن، يقربنا من البلية الهائلة المخيمة عليه، فيحيي فينا الحنان، ويوقظ فينا عاطفة الإحسان.
وماذا يكلف هذا العمل؟ شيئا من العزم، وقليلا من الإرادة، احسب نفسك أيها السوري مضطرب المزاج تشكو تلبكا في المعدة فيصف لك الطبيب الحمية أو القليل من اللبن، أفلا تمتنع إذ ذاك عن الأكل عاملا بنصيحة الطبيب؟ احسب نفسك في بلاد من بلدان العالم المنكوبة اليوم، أفلا تضطر - إذ ذاك - أن تصوم؟
حكي أن يوسف لما ملك خزائن الأرض كان يجوع ويأكل من خبز الشعير، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع.
وقد أنسانا الشبع الجائعين، حسبك يوما من التقشف تكفر فيه عن إحجام منك في سبيل البر وإهمال، حسبك يوما من الصوم يقيك - إن شاء الله - ألم الجوع وذله، فلو كنت في سوريا اليوم وقيل لك: إن إخوانك في المهجر لا يسمعون ولا يلبون نداءك فماذا كنت تقول؟ لو كنت أسيرا في الوطن اليوم أيها الغني فماذا يفيدك مالك وأنت لا تستطيع أن تبتاع به لوازم العيش؟ بل لو كنت من أصحاب السيادة والجاه هنالك وجاءك أمر الحكومة أن ادفع ألف ليرة عن بلادك، فإنك تدفعها صاغرا، وتراها تصرف في سبيل الظالمين العتاة من يجوعون اليوم إخوانا لك في الوطن.
إخوان لنا هنالك يعيشون اليوم في هولين؛ هول المشانق وهول المجاعة، الفقير يموت سغبا، والغني يموت رعبا، ونحن في هذه البلاد آمنون شر الاثنين يومنا زاهر وليلنا هني، لا رعب يحرمنا النوم ولا جوع يحرمنا صفاء العيش. ومع ذلك ترانا نتردد إذا جاءنا مستنجد باسم الوطن فنتعلل، وفي تعليلنا الرياء، ونبذل النصح، وفي نصحنا العار والبلاء. والحق يقال إن أماجد فينا لا يشعرون قطعا بما يقاسيه إخواننا في الوطن، قد خمدت فيهم المخيلة، اضمحلت قوة التصور، فلا عين لهم سوى تلك الظاهرة في رءوسهم، ولا بصيرة سوى تلك التي تنبهها فيهم أقرب الأشياء إليهم. إني أرتأي إذن أن يصوم كل سوري يوما واحدا كاملا ليذكر - إذ ذاك - الجائع، أجل، لنقتد ولو يوما واحدا بيوسف الصديق.
وللصوم فوائد جمة غير التي تعدها الكنيسة ويحددها الدين، على أني أقول للمتدين التقي: صم واسأل الله الفرج واليسر لإخوان لك في الشدة، وإلى الأديب أقول: صم تتنبه فيك المخيلة، وتنفتح فيك عين الروح، وإلى الغني أقول: صم تر الجائع ولو كان بعيدا عنك ألوف الأميال فترثي لحاله، وإلى المتألم من المعدة أقول: صم تبر، وإلى النهم الأكول أقول: صم يوما تتحقق النعمة التي أنت فيها، وإلى النساء أقول: صمن وحرضن الرجال على الصوم.
لا أريد أن أزعزع إيمان من آمن بالصوم والصلاة، ولا أن أدغدغ ريب مرتاب، فلكل طريقته أو بالحري قصده في الصوم، ولكل فائدة، إن الصوم من وجهة دينية مفيد، ومن وجهة علمية مفيد، ومن وجهة اقتصادية مفيد، ومن وجهة صحية مفيد.
وليس الغرض من مقالي هذا أن أذكر الجائع فقط، بل أريد أن يكون له من صومنا قليل من العون على جوعه، فإن ليوم الصوم الذي ينبغي أن يكون عموميا فائدة مادية كبرى، كل منا يصرف دولارا - في الأقل - على طعام يومه، دولارا نحرمه أنفسنا ونعطيه الجائع، فأية خسارة نخسر؟ إنما هو عمل جليل جميل مبتكر، فيه دليل واضح على قوة روحية فينا تدعمها الإرادة ويزينها رقيق الشعور والإحسان.
في الولايات المتحدة وكندا مائتا ألف سوري، فلو صام كل منهم أو أكثرهم يوما واحدا وبعث بمصروف ذلك اليوم دولارا أو دولارين أو نصف دولار إلى لجنة إعانة المنكوبين لجمعنا بهذه الطريقة وحدها في الأقل مائة ألف دولارا.
إني وربي جاد مخلص في ما أقول، ولست أبتغي الباطل المستحيل، إن مثل هذا العمل لا يستوجب سوى شيء من العزم وقليل من الإرادة، وحبذا الجرائد المعقبة على هذا الرأي إذا استحسنته، وحبذا الإكليروس مبشرين به، يوم صوم عمومي، نادوا به وادعوا إليه الناس، يوم مقدس يسجل لنا في تاريخ نكبتنا، ناهيك بأن مثل هذا العمل يكبره الأميركيون فيذيعون خبره في جرائدهم، وفي هذا فائدة كبرى، فائدة أخرى لنا، يوم صوم تعينه اللجنة أو الإكليروس فنتوفق فيه - إن شاء الله - إلى جمع مائة ألف دولار في الأقل، وما أجمله يوما إذا تقدم اليوم الذي سيعينه رئيس الولايات المتحدة لإعانة المنكوبين في سوريا، فإنه ينبه الأميركيين إلينا فتكون التبرعات في الكنائس ضعف ما قد تكون.
من أغنيائنا من يصرف عشرة وعشرين دولارا على عشائه، ومنهم من يصرف مائة دولار في ليلة واحدة، زادهم الله خيرا وكرما، ولكن عشاء واحدا يحرمه الغني نفسه ويخصص به الجائع؛ لأجمل في عين الله والناس من مائة مأدبة فخيمة، وما فضل الإنسان على الحيوان إذا كان لا يستطيع أن ينكر ذاته يوما واحدا ليقي أخاه ويل الجوع؟ ما فضل المرء إذا كان لا يستطيع التقشف يوما واحدا في أيام يسره وإقباله؟
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير (الآية).
وقد يزيل الله نعمته عنك غدا أيها الغني فتكره على تقشف لا فضل لك فيه، وقد تذكر إذ ذاك الجائع ولا تستطيع إسعافه فتندم على ما فات ولا ينفع الندم، اذكر الجائع في إقبالك، خصصه بشيء من يسرك صاف لوجه الله، صم يوما واحدا مع من يصوم أشهرا وكن من المحسنين المقربين.
كراغزمور، نيويورك في 1 آب، سنة 1916
الجوع
إذا نضبت في البلاد الأنهار، واستحالت السماء نحاسا حاميا ترسل أشعة شمسها نقمة وانتقاما، فتحرق الأشجار، وتأكل النبات، وتجفف الأرض، وتجعل الحقول كالصحراء، يحدث في الناس مجاعة لا يد جانية فيها للإنسان.
وإذا غزا الجراد زرع أمة ومروجها، يلتهم الأخضر واليابس كشمس النفود في الصيف، فلا يترك وراءه شيئا يصلح للغذاء؛ يحدث في البلاد مجاعة لا يد أثيمة فيها للإنسان.
وإذا ألقى الوباء في أمة عصاه، وشرع يفتك فيها فتكا ذريعا أوجب عليها النطاق الصحي فأبعدها عن خيرات الأرض دون تخومها، قد تجهز عليها مجاعة لا يد جانية فيها للإنسان.
وإذا كانت أمة في حرب فحاصرها العدو وحبس عنها الزاد فأبت التسليم صاغرة، قد تهلك جوعا، ولا ذنب في ذلك على العدو أو عليها. أما إذا وطأ الجيش المحاصر أرضها، وأبت البقية الباقية الرضوخ والاستكانة، ملجة في العصيان، فقد يتخذ الفاتح التجويع طريقه للاستيلاء التام، وقد يكون الذنب في ذلك عليها.
ولكن أمة طائعة أولياء أمرها، أمة مخلدة إلى السكينة، أمة بريئة طاهرة الذيل، تربأ على الضيم صبورة، سكوتة، جلودة، لا تزال تربتها في الأقل جيدة، وأنهارها جارية، وسماؤها مقيمة على عهودها، ترسل غيثها رحمة وخيرا؛ في مثل هذه الأمة لا تحدث مجاعة إلا لأحد أمرين، لجهل فيها أو لجور في أولياء أمرها.
والمجاعة التي لا يد فيها للطبيعة أو للقضاء أو لله إنما هي جناية الإنسان الكبرى على أخيه الإنسان.
إن خيرات الأرض لتكفي أبناء الأرض. وإن التكافل والتعاون لمن أوليات الوجود الإنساني، الوحشي منه والمدني. فإذا أغفلنا الآن البحث في أسباب المجاعة ونظرنا في نتائجها فقط تحتم علينا النظر أيضا في الطرائق الفعالة لإزالتها، ولإزالتها سريعا.
أمة صغيرة في بقعة قصية من الأرض تتضور اليوم جوعا، وأمة كبيرة، عزيزة الشأن، عظيمة الصولة، يفيض عنها من خيراتها، أليس من العدل إذا، بل من الواجب المقدس، أن نأخذ مما فاض عن هذه لنطعم تلك الجائعة؟ نعم، وما يصح في الأمم يصح في الأفراد. هذا التعديل في خيرات الأرض عدل لا فضل فيه لمن أعطى ولا شكر عليه ممن قبل العطاء.
الأمة المنكوبة أمتنا أيها الناس. الجياع فيها إخواننا. وإن الفائض عنا اليوم لا حق لنا فيه. لا والله، ليس ما فاض من خيرنا اليوم لنا بل هو للجياع في بلادنا. ولو كنت من أولي السيادة والسلطان لأخذت اليوم من الشبعان لأطعم الجائع. لفرضت على كل سوري مقدارا من المال يدفعه - راضيا أو مكرها.
وماذا يضر السوري لو دفع اليوم دولارا واحدا لإغاثة إخوانه في الوطن؟ دولارا واحدا على كل سوري الفقير والغني سواء.
إني من أصحاب الرأي لا أصحاب السيادة. لذلك لا أستطيع أن أضرب ضريبة هي حق - والله - على كل سوري. ولكني عملت بطريقتي وبحقي فدعوت إخواني في المهجر في مقال سبق إلى الصوم يوما واحدا يدفعون ما يوفرون فيه إعانة للمنكوبين. وقلت إننا إذا خبرنا الجوع نرثي لحال الجائع فنسرع لإغاثته.
وكي لا يقال إني أبشر بما لا أفعل؛ بدأت بنفسي عاملا برأيي. فإني محاسب لقلبي إذا مال وللساني إذا قال. لذلك صمت عن الأكل والشرب والتدخين يومين وصالا، ودفعت نفقة يومين إلى اللجنة، وجئت في هذا المقال أطلع القارئ على ما خبرته من نتائج الصوم ومفعول الجوع، وإذا كانت كلمتي في الصوم ذهبت أدراج الرياح فعسى أن يؤثر عملي فيحمل إخواني في المهجر على الاقتداء بي.
من الساعة السابعة مساء حين بدأت أصوم حتى الساعة الثالثة بعد الظهر في اليوم الثاني لم أشعر قط بالجوع. ولكني أحسست بطنين في أذني، وبتجفف في لساني، وبشيء من المرة في فمي. على أني في الساعة السابعة، أي: بعد مرور أربع وعشرين ساعة، بدأت أشعر بالجوع وبالعطش وبشيء من الدوار.
كنت أصيل ذاك النهار أتمشى وصديق لي في أحد شوارع المدينة، فمررنا بمطعم صفت في شباكه أنواع الخبز والكعك والحلويات، فوقفت أمام الزجاج الحائل دوني وتلك الجنة ناسيا ذاتي أتمثل في نفسي ولدا فقيرا جائعا لا فلس في يده يفثأ به سورة جوعه. اخترقت الزجاج عيناي وما فيهما من نهمة إلى الأكل، فتحلب اللعاب في فمي، فغصصت بمر مذاقه، ثم غصصت هذا وأنا لا أشعر حقا بمضض في الألم في معدة فارغة وقلب يقتر شواء، لأني أجوع مختارا، والمسكين الذي صورته أمامي، بل أمام تلك المآكل المصفوفة وراء الزجاج، يجوع مكرها. إن جوعي ينتهي ساعة أريد، وأما جوعه فلا يزول إلا ساعة يتصدق عليه أحد المحسنين. ألا إن حالة اجتماعية توجد مثل هذا المسكين الجائع لحالة ذميمة، منكرة، فاسدة ، جهنمية. وإذا كانت كذلك فكيف بها والمسئولون عنها يجوعون عمدا أمة بأسرها؟
لقد شاركتك جوعك يا أخي فتعال أقاسمك كسرتي، عله تعالى يبعدني من ذي الحاجة والاستجداء الذي هو أشد ويلا من مضض الألم الذي يولده الجوع. ألا فليردد كل سوري هذا الكلام، هذا الابتهال. وليتمثل حول مائدته الفاخرة صبيا فقيرا عضه الجوع، أنهكه، أقعده، أضناه، أورثه الهزال والخبل، فيسارع إلى إغاثته.
من غريب أمر الصوم أن صاحبه لا يشعر بالجوع إلا في الساعات التي اعتاد أن يأكل فيها. فإني بعد أن نمت الساعة العاشرة استفقت نصف الليل ولا أثر في نفسي للصوم كأني قضيت البارح وقد أكلت - على عادتي - ثلاث مرات.
ولكني نهضت صباح اليوم الثاني وفي ساعة الفطور نهمة إلى الأكل. هذا - ولا شك - من قبيل العادة. على أن مظاهر الجوع ازدادت نوعا وشدة. فتحت فمي فإذا به كالقطن جفافا. بلعت ما تحلب من رضابي إذ مررت بركوة القهوة فإذا به أمر من الحنظل. نظرت إلى لساني فإذا به أبيض كالحليب. لمسته بإصبعي فإذا به كعباءة الراهب خشونة. أما أذناي فازدادتا طنينا، وأحسست أن رأسي جسم غريب ركب مؤقتا بين كتفي. نزلت الدرج وعدت إلى غرفتي فانتابني نوبة من الارتعاش شديدة أقعدتني بضع دقائق وأنا أرتجف حتى أطرافي. وكنت أثناء ذلك أحس بموجات حارة تتماوج في داخلي - وبالأخص في جوار المعدة.
فقلت في نفسي قد عضك الجوع يا رجل، قد دنوت من إخوانك في الوطن. نعم بدأت في اليوم الثاني أشعر بالجوع وأتألم من شعوري. كيف لا وهذا الضعف في رجلي - وبالأخص في مفاصلي وركبتي - إنما هو احتجاج المعدة على صاحبها، بل على باريها، بل على من في أيديهم خزائن الأرض، المسئولين عن توزيع خيرات الدنيا على عباد الله.
مررت بركوة القهوة ثانية فوقفت أمامها راغبا مترددا. ثم امتنعت لأني آليت على نفسي أن أصوم يومين كاملين. وفي البيت المقيم فيه أناس في الدور الأسفل يطبخون طعامهم فتتصاعد أحيانا روائح المطبوخات فتسطع في منزلي وتزعجني جدا. ولكن اليوم يوم الصوم والجوع. وإن امرأ يقتر شواء يتصاعد صوت نشيشه من فوق النار إلى منزلي لأحب عندي من مطرب أو مطربة. وإن روائح الشواء. والأبازير في أنفي لألذ من روائح المسك والبخور.
ولت ساعة الفطور وولى معها مضض الجوع ولا غرو، فإن للعادة حتى في الأكل - كما قلت - تأثيرا شديدا. إذ ما السبب يا ترى في رغبتي بالطعام ساعة اعتدنا الأكل وفي نسيانه بل الرغبة عنه في سواها؟ أما الفكر مني ففي اليوم الأول من صومي كان لا يزال رائقا صافيا، ولكنه في اليوم الثاني أصبح خاسئا حسيرا.
ومن غريب أمر الصوم أيضا أن الذي يصوم يومين يستطيع أن يصوم خمسة بل عشرة وصالا. في مساء اليوم الثاني لم أشعر بشهوة إلى الأكل شديدة كمساء اليوم الأول. وقد قرأت أخبار أناس صاموا أسبوعين وثلاثة دون أن يتعطل فيهم عضو من أعضائهم الحيوية كالكبد أو الكليتين أو الرئة أو القلب. ومعلوم أن الأقدمين كانوا يكثرون من الصوم والتنحس. فقد قال ابن خلدون: وقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوما وصالا.
على أنه لا ينكر أن الصوم أياما وصالا يفقد المرء قواه الجسدية والعقلية. فإن العضلات والأعصاب لتتقلص وتذوب من الاقتيات مما كونت منه، وإن العقل ليخسأ ويمرض من تشرب دم لا غذاء فيه. وبكلمة أخرى: إن الصائم طويلا، الطاوي أياما؛ يعيش على لحمه ودمه، يأكل بالحقيقة نفسه. نعم إخواني، إن الجائع يعيش على لحمه ودمه، والجائع كرها يقاسي من مضض الذل - ذل الحاجة وذل الطلب - ما هو أشد من مضض الجوع.
كتبت مرة نبذة أنتقد فيها بعض التعابير العربية التي نرددها نحن الكتاب وقلما نتحقق معناها. من جملتها قولنا: «الجوع المدقع» فاستغربت إذ عدت إلى القاموس النعت وقلت إن لا أحد يجوع جوعا يلصقه بالدقعاء - أي: التراب - إذ مهما اشتدت سورة الجوع لا تبلغ درجة يصح أن ننعتها بالدقوع.
ولكني تحققت اليوم خطئي. فإن الجوع يوهن، يهزل، ينهك، يقعد، يهلك. وإن كان الجائع هائما في البرية يطلب الأعشاب يقتات بها فليس من الغريب أن يسقط في الطريق من شدة الجوع. نعم، رأيت كلاب السوق في الشرق في جوع ألصق بطونهم ووجوههم بالتراب، وكنت أجل البشر عن ذلة الكلاب وجوعهم.
فوا أسفاه! إننا لنتحقق اليوم من حال بلادنا صحة التعبير العربي، بل تحققنا التقصير فيه لا الغلو. إن ألوفا من إخواننا مطروحون اليوم في الطرق والأسواق تتلاشى أجسامهم عضوا عضوا، عيونهم شاخصة إلى الشمس نهارا وإلى السماء والنجوم ليلا، يسألون باري الأكوان كسرة من الخبز. قلوب واجفة، أبصار خاشعة، نفوس حزينة حتى الموت، معد تلتصق بالأضلع منهم كما تلتصق أجسامهم بالدقعاء. بالتراب. في فمهم المرة الصفراء - مر الحياة - يبتلعونها ثم يبتلعونها، وفي أعصابهم المتقلصة غصص الرعشة، وفي أجسامهم المرض والوهن.
شيوخ وأطفال، نساء ورجال، يسارعون إلى المدينة من الجبال علهم يلتقون في أسواقها ومن فضلات ذوي اليسار فيها كسرة من الخبز، فيتساقطون في الطرق كورق الخريف، وقد استحوذ عليهم الجوع المدقع. أفلا تشاركهم جوعهم يوما واحدا. أيها السوري؟ أفلا تمدهم بنفقة يوم من أيام يسرك؟
لو مر بهؤلاء المناكيد الجياع وحش ضار أو عقاب كاسر لمال بوجهه عليهم، لرثى لحالهم. وإننا نعلم أن في الحيوان غريزة هي أشرف من غريزة الإنسان التي أفسدتها المدنية والتكالب فيها. من الطيور من يطعم صغارها من قلبها إذا لم تجد لهم رزقا.
أيها السوري النائي عن إخوانك المنكوبين، جئت أخبرك خاشعا لا مفاخرا أني صمت يومين، فأنهكني، أقعدني يوم واحد من الجوع. فكيف بمن يصومون أياما، بل أسابيع؟ اليوم اليوم! من كان غنيا فليستعفف من كان مترددا في التبرع فليتقدم. من كان متقاعدا فلينهض. من كان في سبات فليستفق. وما الفائدة من القول: غدا غدا. إن مثل هؤلاء المستحجرة قلوبهم الذين يلوحون بثربدتهم للجائع لأقرب إلى الضاري من الحيوان منهم إلى الإنسان .
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
الصوم! التقشف يوما واحدا تملكون تلك النفس منكم الشارهة إلى اللذات. إن مثل هذه السيادة على أنفسكم لأشرف من وجاهة يجرها لكم المال. صوموا يوما واحدا وتصدقوا علينا بدولارين مما رزقتم. الأمة أمتنا جاثية على قارعة الطريق تئن من ألم الجوع - الجوع المدقع - الجوع المهلك. فهلا تسارعنا بل تسابقنا إلى إغاثتها؟ «أليس بلسان في جلعاد؟»
الشحاذة
من أنعم النظر في الصالح من أعمال الناس، كبيرها وصغيرها، ظاهرها وباطنها، خصوصية كانت أو عمومية؛ تحقق ما للمآرب النفسية فيها من المكانة والأهمية. وبعد النظر في طائفة منها، في الطبقات العالية كانت أو في ما دونها من الهيئة الاجتماعية؛ يرى أنها تقسم إلى قسمين: تلك التي تنحصر تماما في الأنانية، وتلك التي تتجاوز الأنانية إلى شيء من الغيرية.
وبكلمة أوضح: من أعمال الناس ما تنحصر فائدتها في أصحابها فقط، ومنها ما يلحق الغير بعض فوائدها. وقد يندر اليوم العمل المجرد عن كل مأرب نفسي أو غاية ذاتية، العمل الذي فيه نكران الذات، وصافي المبرات. أما نكران الذات ففكرة قتلها التمدن الحديث. وأما صافي المبرات فلا تجدها اليوم سوى في كتب الأقدمين وسير القديسين.
وقفت عند كتابة ما تقدم لأشعل القنديل، فوقع نظري على كتاب كنت قد طالعت الليلة البارحة فصلا منه أزال من نفسي مفعول ساعات في أحد الملاهي. الكتاب للقديس إفرنسيس الأسيسي وفيه من جميل أعماله، وعجيب كراماته، ولطيف سيرته، ما قد يضحك رجل اليوم المفاخر بروح العصر، المكبر نفسه، العامل إطلاقا لها. ولكنه ينعش ويبهج من لا يزال في قلبه شعلة من الإيمان.
فتحت الكتاب وقرأت فصل العشرين منه وفيه أن إفرنسيس الأبر ذهب يوما إلى الغاب خارج المدينة ليقابل الذئب الذي كان يغشوها فيقتل من أهلها ويخرب من أعلاقها فالتقى به وهو قادم البلد يطلب فريسته. فكلمه باسم الرب والسيد المسيح وخطب وداده، وأمره أن يرعوي عن غيه، وهداه فوق ذلك إلى الدين المسيحي! قرأت القصة ولبثت برهة بين مصدق ومكذب، بين مؤمن ومرتاب. وأظنني ضحكت منها في قلبي إذ ألقيت الكتاب جانبا لأعود إلى ما باشرت من هذا المقال.
جمح القلم في يدي إذ جلست إلى المنضدة أفكر في أسلوب لكتابة ما خبرته في يوم سبق من أمر الشحاذة. ولا أكتم القارئ أني شحذت يومين من أجل المنكوبين في بلادنا وقد علم أني صمت من أجلهم يومين أيضا. ولكني لم أصم على طريقة الأبرار والقديسين. وهذا ذنبي. عملت عملا لا شك أنه صالح ومفيد ولكني شوهته بمقالة أعلنته فيها، فألفت أنظار الناس من عملي إلى نفسي. على أني أتعزى بكلمة للإمام علي - رضي الله عنه - «سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك.»
لماذا إذا أعيد اليوم فعلة أخذني فيها شيء من الندامة؟ ما الدافع إلى الكتابة؟ العجب، الشهرة، المجد الباطل؟ لا أنكر ولا أدفع ما نالني منها. إلا أني لست وحدي المسئول عنها؛ إذ لو كان لي أن أتنكر لفعلت. ولو جاءني جني بالقبع الأخفى للبسته وخرجت أشحذ لوجه الله. وهل أكون راضيا تمام الرضا بالتنكر وما فيه من نكران الذات يا ترى؟ سؤال لا أستطيع الجواب عليه؛ لأنني لم أخبر حقيقة أمره، وقد لا يأتي بالفائدة التي أتوخاها.
وهل في الكتابة في الشخاذة الآن شريف قصد أو كبير فائدة؟ لست أدري. ألا تدري؟ إذن لا تكتب. إن شر ما يسوده ويبيضه الكتاب اليوم مقال لا يقين ولا اعتقاد فيه.
سمعت هذا الصوت خاشعا وقلت: طوعا وكرامة. إذن لا أكتب. وإذ هممت بتمزيق ما سودت من الأوراق طرق الباب طارق ففتحت فإذا هنا شيخ طاعن في السن، نحيل الجسم، بهي الطلعة، في ناظريه ضياء وهاج، وعلى فمه ابتسامة جميلة، وهو يستأذن بالدخول.
دخل وجلس على الديوان، فجلست على كرسي قباله قائلا: أيتفضل حضرة الزائر باسمه وقصده.
فقال - والابتسامة تنير وجهه: رأيتك البارح في الشارع يا ريحاني ورافقتك متنكرا. - أمر عجيب! - عجيب في نظرك لا في نظري. وقد سمعتك الآن تناجي نفسك وتناقشها الحساب.
فأدهشني بل هالني كلامه فاستحوذ علي السكوت.
ثم قال: «جميل ما فعلت. ولكنك لست مقيما على الجميل من فعلك وليس في طاقتك احتمال نتائج الخمول ونكران الذات. أنت ابن عصرك مثل سائر الناس. وفي قلبك مرض هو مرض هذا الزمان. تقرأ في كتب القديسين فتضحك أحيانا مما تظنه وهما وخرافة. وتحاول الاقتداء بالأبرار فتشوه بالإجهار أعمالك. على أن هذا مما لا يدعو إلى اليأس في مثل حالك. إذا خلت الأرض من أناس يأتون بعجيب الآيات فيلينون أطباع الذئاب ويهدونهم سواء السبيل - وفي مدينتكم اليوم كثير منها في صورة البشر - فذلك لأن الإنسان قد فقد نعمة الإيمان وأعماله كلها - كما قلت في بدء مقالك الذي هممت بتمزيقه - منحصرة في نفسه، مملوءة من أنانيته. ولكن كبار النفوس والأخلاق يقومون بأعمال قد يفيض من منافعها على الناس. فيغتفر إذ ذاك ما فيها من حب الذات والغرور بالنفس. قلت: إني رافقتك أمس ولكني لم أشاركك سرورك بفوزك، فإن الذين سألتهم ريالا للجياع في بلادك فسبقت منهم الروح اليد والبشاشة العطاء؛ لخير منك. بارك الله فيهم وأصلحك.»
قال هذا ونهض مودعا، فقلت وفي نفسي اضطراب يمازجه شيء من الغيظ: ولكنك يا سيدي لم تتفضل علي باسمك.
فنظر إلي مبتسما مطمئنا ومد يده إلى جيبه وأخرجها فإذا هي نور يضيء كأنه مصباح من الكهرباء كبير أشعل في غرفة صغيرة مظلمة. ملأ النور منزلي فأخفى الضياء الباهر كل ما فيه من فرش وصور وكتب إلا كتابا. هو كتاب القديس إفرنسيس الأسيسي. فدهشت، ذهلت، ارتعبت، وفركت بعد هنيهة عيني محملقا، فإذا أنا وحدي في الغرفة والباب مقفل، والنور مضيء كالعادة، والأوراق التي كنت قد هممت بتمزيقها لم تزل في يدي.
تبارك الله وتباركت آياته! فإني وإن صغرت دونها لمن الناظرين إليها في الفترات الروحانية بعين الإجلال. وإني وإن كنت ممن لا يستحقون أن يلمسوا أردان أصحاب المبرات والكرامات لمن الذين يجلون أعمالهم ويحبذون في مثل هذه الأيام العصيبة الاقتداء بالقليل السهل منها.
احمل عصاك إذا وامش إلى الشحاذة، باسم المنكوبين ومن أجل الجياع في وطنك. وإذا كان لا بد من الكتابة أيضا فللتذكير فقط. عل أفرادا من إخوانك يتنبهون إلى ما فيهم من الإيمان الحي فيكبرونك برا ويفوقونك عطفا وإحسانا.
وما أجمل المباراة في المبرات !
التعميم والتخصيص
التعميم والتخصيص، كلمتان شغلتانا شهرين عن نكبة الوطن. كلمتان زرعتا في قلوبنا بذور الشقاق، أبعدتانا - كسوريين - بعضنا عن بعض، بعثتا في جاليتنا النيويوركية نزعات ونعرات كاد يتلاشى ذكرها. كلمتان ألقتا بيننا الأحن والفتن، أضحكتا منا السوريين داخل البلاد، وستحملان السوريين في مصر والأميركيين في هذه البلاد على ازدرائنا واحتقارنا.
التعميم والتخصيص، كلمتان لا يعرفهما الموت، ولا تكترث بهما المجاعة. ولعمري إن من واجبات السوري الأولى بل من واجباته المقدسة في هذه البلاد بالأخص أن ينسى أو يتناسى اليوم كل ما يفسد جوهر الأمور، كل ما يحول دون المشروع لإغاثة المنكوبين.
منذ باشرنا العمل وأنا وبعض الإخوان نحبذ الاتحاد وننشد الوفاق. قلت - ولا أزال أقول: إن مشروعنا هذا لا ينجح نجاحا تاما دون أن نوحد كلمتنا، ونوحد غايتنا، ونوحد عملنا. وأشهد بالله أني وإخوانا لي في اللجنة وخارج اللجنة مجردون عن كل غاية سوى الغاية الجوهرية الكبرى من المشروع. وإني لأرفع هذه الغاية على كل قانون، وكل نظام، وكل فلسفة، وكل حزب، وكل عظيم فينا.
أنا في هذه اللجنة خادم المنكوبين في سوريا، لا المتحزبين والمشاغبين في نيويورك. وطني الجائع، وطني البائس، وطني المشرف على الموت، لا أرى اليوم سواه، ولا أسمع نداء سواه ولا أعرف سواه، ولا أكبر مصيبة سواه. وفي هذا أنا من المخصصين لا المعممين.
ولا يظن السوريون أني متفرد بهذه العاطفة الوطنية. كلا. إني أرى فينا - في نيويورك وخارجها - كثيرين ممن يقولون قولي، ويشعرون شعوري، ويعملون عملي.
لا يزال - والحمد لله - في الجالية السورية النيويوركية بصيص من الضمير الحي. لا يزال في السوري - على ما فيه من الأنانية الشديدة - عاطفة سامية جميلة تغلو على أمياله وأهوائه. لا يزال - والحمد لله - فينا من يتطلع من كوى النزعات القروية والسياسية والشخصية إلى اللب دون القشور. فهو إذا قال: بلدتي، وأبناء بلدتي. يعمل في الحقيقة لوطنه، وللجياع في وطنه.
التخصيص والتعميم، كلمتان في كلتيهما حق، وفي كلتيهما تضليل. جميل بالمرء أن يخصص أولا أبناء بلاده بإحسانه. وأجمل من ذلك أن يتناول إحسانه غير أبناء بلاده.
ولكننا نحن السوريين من الأمم الصغيرة والمستضعفة. ومع ذلك ترانا نحسن دائما إلى سوانا. أذكر أننا في نكبة الطليان في سيسيليا كان سوريو المهجر في مقدمة من مدوا يد الإحسان لإغاثة المنكوبين في تلك الجزيرة. وغيري يذكر غيرها من أمثولات البر التي تبرهن على غيرتنا، على إنسانيتنا، على عاطفة كرم هي من أخص حسنات السوري.
فما بالنا - وشعورنا الإنساني لم يزل حيا سالما فينا - ننادي بالتخصيص؟ ما بالنا - وكلنا سوريون، سليقة الكرم فينا شرقية، وعاطفة البر فينا غريزية - نتقاعس ونتردد في إغاثة المنكوبين في وطننا العزيز؟
إن التخصيص القروي في حالنا، ونحن بعيدون عن الوطن ولا علم لنا بأماكن النكبة ومقدار شدتها في كل قرية؛ لمن المبادئ الفاسدة نظرا وعملا.
أنا من قرية صغيرة في لبنان تدعى الفريكة. سكانها لا يتجاوزون المائة عدا كلهم من المزارعين. ولا ريب في أنهم كلهم اليوم في حاجة إلى الإسعاف. فلو قلت بالتخصيص القروي أو البلدي، لوجب علي وحدي في هذه البلاد إغاثة أبناء قريتي. وقد لا أتوفق إلى ذلك. ومثلي - لا شك - كثيرون من القرى الصغيرة في سوريا ولبنان. فهل التخصيص من هذه الوجهة حق، وهل يأتي بالفائدة المرغوبة؟
وهناك سوريون كثر عددهم، وجزل خيرهم، قاموا يخصون بلدتهم بإحسانهم. وقد لا تحتاج بلدتهم إلى كل ما يجمعونه من المال. فهل يجوز يا ترى أن يمنعوا إحسانهم عمن لا عضد ولا عون لهم؟ وهل يستقيم في عملهم معنى الإحسان الحقيقي؟ إذا كنا ننهض نهضة واحدة - كسوريين - لإغاثة الأجانب في نكباتهم أفلا يجدر بنا اليوم أن نعمل كذلك لإغاثة إخواننا في الوطن؟
التخصيص من هذه الوجهة مبدأ فاسد. في مثل هذا التخصيص تضليل وتقصير، ناهيك عما فيه من الأثرة وحب الذات.
على أننا إذا قلنا بالتعميم في إحساننا، إذا قلنا بإغاثة المنكوبين في وطننا الأشد حاجة منهم فالأشد، ففي قولنا هذا شيء من التخصيص. بل فيه معنى التخصيص الحقيقي. فاللجنة السورية اللبنانية لإعانة المنكوبين إنما هي لجنة تخصيص بالنسبة إلى اللجنة الأميركية العمومية. وهذا التخصيص في التعميم إنما هو المبدأ الوطني الذي لا يزال سائدا معززا في العالم. وجدير بالأمم المستضعفة - في الأخص - ألا تسترسل إلى نزعة هي أصلا بدوية، نزعة القبائل التي يقال فيها: «إن عيشها في رماحها» كل قبيلة، بل كل عشيرة، بل كل بيت لنفسه.
إن ضعفنا كأمة صغيرة لمن دواعي الشدة التي نحن فيها. فكيف بنا إذا جزأنا ضعفنا مائة جزء، لا صلة بعضها بين البعض ولا عاطفة وطنية أو عاطفة إحسان تربط بعضها بالبعض. إنما هذا عود إلى البداوة أيها الناس ونحن عن البداوة اليوم بعيدون. فأناشدكم بالله أن نعمل كأمة جمعت كلمتها ووحدت غايتها؛ ليكون لنا من ضعفنا شيء من القوة.
قلت إن لا يزال في الجالية السورية النيويوركية بصيص من الضمير الحي، من الإحسان الحقيقي، قد يستحيل غدا لهبة جميلة، بل نورا سماويا. وبرهاني على ذلك آخذه من قانون بعض اللجان الخصوصية التي أنشئت لغاية محدودة ولوقت محدود، فهي كلها تعترف بوجوب بل بوجود لجنة عمومية. وتقرر في قانونها أنها لا تناهض عقدها، بل تعضد كل مشروع وكل لجنة عمومية لإعانة المنكوبين. فهذا بصيص من الضمير الحي حول رماد الغايات الذاتية، والمآرب الخصوصية والمنافسات السياسية.
إخواني السوريين: لست - وأيم الله - ممن يحملون عليكم بالتشنيع والتقريع. إني لعالم بضعفنا وبمواطن الضعف في سوانا من الشعوب. فلا فائدة اليوم في التأنيب والتثريب.
قلت: إن اللجان الخصوصية أنشئت لغاية محدودة ولوقت محدود، ولا ريب عندي أنها كلها اليوم أجزاء حية عاملة مخلصة من اللجنة العمومية. وغدا - إن شاء الله - تجتمع الأجزاء وتتوحد وتتدعم في اللجنة السورية اللبنانية لإعانة المنكوبين.
لجنة واحدة في نيويورك لا غير، لجنة واحدة عمومية. وسيحق لنا - إن شاء الله - أن نفتخر بها، وبنتيجة مسعاها. لجنة واحدة نباري فيها لجنة إخواننا في مصر. لجنة واحدة تبرهن للسوريين في الوطن وفي المهجر أننا كلنا اليوم نعمل يدا واحدة، وقلبا واحدا، وروحا واحدة.
قد جمعتنا النكبة أيها الإخوان فقمنا نسعى للمنكوبين في الوطن أين كانوا. في بيروت أو في لبنان، في الشام أو في طرابلس، في حمص أو في حلب، وللمنكوبين من كانوا مسيحيين أو مسلمين. قد جمع الجوع بين أبناء الوطن، فليجتمع أبناء الوطن على الجوع.
كتاب إلى صحافي
حضرة الصديق الفاضل محرر جريدة ...
أدهشتني منك كلمة في مقالك «إعانة المنكوبين» بل أحزنتني. قلت - أعزك الله ولا أعز مقالك: الأمر المهم الآن هو أن يؤلف اللبنانيون المهاجرون لجان إعانة محلية - أي: أن أبناء كل قرية لبنانية في المهجر يؤلفون لجنة ... إلخ.
فيا صديقي الذي كان حرا، هل أنت حقا من دعاة الوطنية الجديدة؟ هل أنت من المبشرين بالروح القومية التي لا تعرف التقسيم والتحزب؟ هل أنت من أنصار المبادئ الوطنية الشاملة العامة؟ هل أنت حر تسير أمام قرائك إلى الأمام؟ هل أنت من قادة الرأي العام الذين سيذكرون في المستقبل إذا ذكر البناءون والمصلحون؟ إذا كنت كذلك فالرأي الذي أبديته لا ينطبق قطعا على المبادئ التي نحن ننصرها ونسعى في تعزيزها. إذا كنت كذلك فاقتراحك تأسيس لجان محلية اقتراح مضر بخطة وطنية طالما فاخرت بها وجعلتها شعار جريدتك.
إن بليتنا الكبرى يا صديقي لهي في التفريق والتقسيم والتحزب، في التفريق الجنسي، والتقسيم القروي، والتحزب الديني، بليتنا أننا لا نفكر في أمورنا الوطنية كوطنيين، كسوريين، بل كشويريين وكسروانيين ومرجعيونيين ودمشقيين ... إلى آخره من السخافات والضربات القروية. وما زلنا نفكر كذلك ونعمل كذلك، وما زال فينا من قادة الرأي العام أناس يؤيدون هذه الفكرة السخيفة العقيمة الذميمة، فلا أمل - والله - بوطنية ننشدها، ولا رجاء بتحقيق مبادئنا القومية الجديدة.
الفكرة القروية يا صديقي إنما هي السبب الأول في تقهقرنا وانحطاطنا، في شقاقنا وضعفنا وفسادنا، الفكرة القروية فكرة سخيفة عقيمة، خسيسة ذميمة. إن الفكرة القروية لمن أكبر أعداء الوطنية. فهل أنت وطني أم قروي؟
إذا سمحت لي أن أجاوب عنك أقول بعد الجواب: لا تغمد سيفك إذا إلى أن تصرع الفكرة القروية فنراها أمامنا مائتة. إن سم هذه الفكرة لمن أخبث السموم، ومن أول نتائجه أنه يسري إلى البصر فيجعل صاحبه قصير النظر. خذ لك مثلا: قصدت الحكومة اللبنانية مرة تبني طريق عربات بين قريتين وقررت أن يتقاسم أهل القريتين النفقات مناصفة، فاحتج أحد الفريقين، أنهم لا يدفعون إلا ربع المصاريف؛ لأنهم لا يسافرون كثيرا مثل سكان القرية الأخرى!
أمثل هذه العاطفة تدعى يا ترى عاطفة وطنية؟ أوبمثل هذه العاطفة تشيد أعلام العمران وترفع أركان المدنية؟ إذا كنا لا نرى في التكافل والتضامن مصلحتنا الخصوصية التي تتألف منها المصلحة الوطنية، فتربيتنا السياسية ناقصة فاسدة، ووطنيتنا من زخرف الكلام الذي قلما نحسن سواه.
ساعدنا يا صديقي لننفي عنا هذه التهمة، ساعدنا لنقتل الفكرة القروية، التي هي عدوة الوطنية. ساعدنا لنعزز - قولا وعملا - المبادئ القومية الجديدة التي لا تعرف التقسيم والتحزب والتفرقة، ساعدنا لنزرع في العقل السوري بذور الحقيقة السياسية الكبرى، وهي هذه: المصلحة الوطنية تتألف من المصالح الخصوصية، والمصالح الخصوصية لا تقوم إلا بالتضامن والتعاون، الفرد للكل والكل للفرد، فإذا عملنا بهذا المبدأ صرنا أمة ذات شأن، وإلا فعلى آمالنا الوطنية السلام.
في الحرب وبعدها
في الدرجة الثالثة
1
من المشاهد التي لا أنساها حياتي مشهد الجنود الإفرنسية في ال «غاردي لست» وال «غاردي تور»
2
مشهد رهيب خطير طالما استوقفني معجبا، أضرمني حماسة، هزني طربا، ضاعف في حب فرنسا والفرنسيين، فوددت أن أكون منه لا من المتفرجين، غبطت رجاله على ما شاهدوه، غبطتهم على ما نالوه من المجد، غبطتهم على ما خبروه وقاسوه، غبطتهم على حياة أبعدتهم عن سفاسف الحياة وأنستهم ماديات الوجود.
كنت أجلس في القهوة ساعات أتأمل هذا المشهد العظيم فيتغير أمامي ولا يتغير، في أي وقت من النهار والليل كنت أشاهد في المحطة وفي ساحتها أمواجا منه زرقاء بيضاء تموج رائحة جائية، داخلة خارجة، من ساحات القتال إلى المدينة ومن المدينة إلى ساحات القتال، فلا تكاد المحطة تفرغ من الجنود المسافرين حتى تمتلئ من القادمين، تأملهم أيها القارئ، منذ ساعة كانوا في الخنادق، تحت عواصف المدافع وأمطارها، دخانها لم يزل في عيونهم، أوحال الخنادق وغبارها وأوساخها لم تزل متراكمة على أثوابهم. خوذاتهم وقد علقت في حقائبهم تفصح عن معارك خاضوها، غير لونها الدخان، شوهتها شظايا القنابل، منها مكسرة، ومنها مثقبة، ومنها ما أمست أثرا من الآثار يحتفظ به الجندي كما يحتفظ بأوحال الخنادق وأوساخها.
وتأمل العائدين إلى ساحات القتال بعد فرصة سبعة أيام، إن أثوابهم وحقائبهم لم تزل هي هي، تطليها الأوحال، ويحجب لونها الحقيقي الغبار، فإن الأزرق أصبح رماديا والأحمر بنيا مائلا إلى الذهب العتيق، أتذكر لون البحر إبان العواصف؟ إزرقاق يتماوج بين لون الغيوم ولون الأفق المدلهم، هذا هو لون أمواج المجد التي كنت أشاهدها في تلك المحطة في باريس.
تباركت أرض لا تزال تنبت مثل هؤلاء الرجال، تباركت روح لا تزال منشأ الشجاعة والبسالة فيهم، قدست - والله - غبارهم وقدست الأوحال المتراكمة على جوانبهم، إنهم أبناء فرنسا الحقيقيين، هم مصدر مجدها الباهر، هم أركان عزها وصولتها واقتدارها، هم العاملون في تخليد ذكرها ومدنيتها، هم حماة روحها الجليلة التي أنارت العالم وحررت الشعوب، هؤلاء هم ال «بوالو»
3
أبطال ال «مارن» و«السوم» و«فردون»
4
بل أبطال الحرية وحقوق الإنسان.
وإنه ليدهشك منهم سيماء وجوههم، لا الغم ولا الابتهاج، لا القلق ولا الضجر، لا الخمود ولا الحماسة تبدو في ملامحها، هناك مسحة غريبة مبهمة بعيدة كالأفق، سرها عميق، هادئة باردة ساكنة، هي كالحجاب وقد ألبستهم إياه الحرب، هي من نشأ الخنادق وقد أشربت نارا وطليت دخانا، ترى الجندي منهم فلا تصدق أنه من الأبطال، تنظر إلى عينيه فتنكر وجود الحماسة في صدره، خطواته ثقيلة كحقائبه، نظراته هادئة كنفسه، قلما يبتسم وقلما يتكلم، كأن ما تشاهده منه إنما هو ذاته الهيولية، أما ذاته المعنوية الروحية فكأنها لم تزل في الخنادق، أو كأن شبح الحرب لم يزل ملازما له مستوليا عليه.
أدهشني أمر هؤلاء الجنود وحيرني، ولكني تيقنت حقا صدق الآية «المرء بأصغريه» بل بأحد أصغريه في مثل هذه الحال، بقلبه فقط، تباركت هذه القلوب الكبيرة من أبنائك أيتها الأمة المجيدة.
على أنني حزنت لما شاهدتهم يوما يركبون القطار في عربات الدرجة الثالثة منه، الدرجة الثالثة لمجد فرنسا! الدرجة الثالثة لأبطال العالم! إنه لحيف - والله - ولكنها الضرورة تقضي بمثل ذا الحيف. وددت مرارا أن أشاهد هذا الجندي البسيط في الدرجة الأولى، يزينها ويشرفها بغباره وأوحاله، وما الرياش تفترشه السيادة أو الوجاهة في هذه الأيام العصيبة غير ترف ذميم، ولعمري إن ما يفترشه الجندي ليليق بالملوك، والدرجة الثالثة في القطار أصبحت الدرجة الممتازة.
لذلك سافرت يوم تركت باريس في الدرجة الثالثة علني أقترب من هؤلاء الأبطال فأشاركهم ولو يوما واحدا في مشقة السفر، وهناك أمر آخر حبب إلي الدرجة الثالثة، لما كنت أشاهد الجنود في ال «غاردي لست» كنت أتشوق إلى استطلاع أخبارهم، إلى معرفة حقيقة أمرهم، إلى الدخول إلى مكنونات صدورهم، إلى كشف أعماق سرهم، رأيت الضابط يمرح في أسواق باريس فراقني أناقة المظهر، وبهاء الطلعة، وجمال الثوب، وسيماء العزم والحزم والنشاط. ولكني قلت إن ذلك من نتائج التدريب والتنظيم أما داخلهم فقد يكون مضطربا متزعزعا، ورأيت الجنود المشاة ال «بوالو» الذين تدور عليهم رحى الحرب، أبناء الخنادق والنار، رائحين جائين من ساحات القتال إلى بيوتهم ومن بيوتهم إلى ساحات القتال، كأنهم من عمال المدينة، لا تهزهم بهجة العطلة ولا يستفزهم الشوق إلى مشاهدة الآل والخلان. ويدخلون المحطة عائدين إلى جحيم الحرب كأنهم عائدون إلى أشغالهم العادية أو إلى بيوتهم، ومع ذلك فقد خامرني بعض الريب مما كنت أشاهد، فقلت: قد يكون ظاهرهم الهادئ الصامت نتيجة ما دوخت الحرب من داخل أنفسهم.
حدثت بعضهم فكادت تكون لغتهم منحصرة بنعم ولا، كأن أصوات المدافع وأمطار القنابل علمتهم السكوت وأفقدتهم عادة الحديث. فقلت في نفسي: علهم يخشون التبسط والإفصاح بل تيقنت أن المرء في المدينة أيام الحرب - جنديا كان أو مدنيا - يجمجم الكلام ويطليه، فيخالط آراءه شيء مما توجبه الحكمة والأحكام من التحفظ. أجل، إن لطفنا مثلا لا يخلو في المدن من المصانعة وآراءنا لا تسلم من الضغط، وطالما تاقت نفسي إلى مجالسة الجندي في زاوية بعيدة من دوائر الأحكام، من مراكز السياسة، من ضوضاء الأسواق، من همس المقاهي، من ظل الجواسيس! وهذه فرصة اغتنمتها، فرصة في الدرجة الثالثة نادرة.
فضلا عما كان يهزني من الشوق إلى الاقتراب من هؤلاء الأباسل الأشاوس؛ وددت الاقتراب من أوحالهم، من غبارهم، من روائحهم، من أوساخهم، بل من روحهم الحقيقية الخالدة الواقفة اليوم مجردة من أباطيل المجد وخزعبلاته، الممتشقة سيف الحق والحرية، تلك الروح طي ذاك الثوب الأزرق الكمد البالي إنما هي التي ألبست فرنسا اليوم حلة من المجد لا يبليها الزمان.
ركبت القطار من ال «غاردورساي» قاصدا إسبانيا، وقد أدهش قصدي بعض الأصحاب، فتفننوا في التذكير والمداعبة، السفر في هذه الأيام جنون، كأنك لا تطالع الجرائد، كأنك جاهل حقيقة الحال، لا فحم ولا عمال، لا بخار ولا كهرباء، قد يقف القطار بك في بادية لا ظل فيها ولا ماء، ومحجتك إسبانيا! قد تصل سالما يا صاح لو كان لك هجين تمتطيه. فلم أكترث بمثل ذا التثبيط والمداعبة، يممت المحطة باسم الله ووزير الشحن والنقل، وعددت وأنا على الرصيف عربات القطار فإذا هي أربع عربات من الدرجتين الأولى والثانية وعشر عربات من الدرجة الثالثة، فأعجبني من الشركة هذا النظام والاحتياط، وسررت أن أكون من الأكثرية في صف المسافرين، والأكثرية هذه الأيام ممن وصفت، من الجنود.
ستة منهم رفاقي في العربة، أحدهم جزائري أو إفرنسي في الزي التونسي الذي ذكرني بجيش لبنان المنكوب التاعس، والبقية في الثوب البسيط الأزرق، الأغبر، الأسحم، أو بالحري الملون بلون الخنادق، وبين هؤلاء كهل تجاوز الأربعين سنا، عمليق كبير الهامة، شديد البنية، كث اللحية وجهه كالجلد إذا بل في الماء ونشر ساعة في الشمس، وعيناه تحت حاجبين رهيبين جمرتان متقدتان، أما صوته فيا لله منه، لا يزال يرن صداه في أذني، ولكن الرجل وضاء المحيا تنسخ ابتسامته غضبا تمثل في جفنيه، وتزيل ما قد يعتريك من الاشمئزاز إذا سمعت صوته الخشن الجهوري، تمثله يصيح بال «بوش» فيرجفون خوفا ورعبا، وما فتئت الألفاظ من فمه كجدول من الماء بين الصخور ، لها ضجة، وللضجة في صدره صدى غريب.
جلس هذا العمليق تجاهي وجلس إلى جانبه شاب أمرد، أشقر اللون، أزرق العين، دقيق البنية، لطيف الصوت فكه النفس، وأخذ يداعبه كأن له عليه دالة الصحبة فوق دالة السلاح. - لم يتغير عليك شيء حتى الآن، هذه العربات مثل الخنادق، تكتف واطو رجليك وقل الشكر للوزراء. - ولكنها خنادق متزعزعة يا بني، فها إنها بدأت تتحرك. - كما يتحرك ال «بوش» أو الفيل. - لا بأس يا بني، عطلة يقضيها مثلك في القطار خير من عطلة في المدينة. - أو في باريس اليوم وقد خلت من أمثالك. - ومن الفحم والحطب.
فقاطع حديثهما الجزائري قائلا: وما أحلى شمس إفريقيا اليوم!
فأجابه أبو اللحية: أما أنا فقد نسيت الشمس وأكاد أنكر وجهها إذا أطل.
ثم أشعل غليونه وبصق على الأرض (نحن في الدرجة الثالثة أيها القارئ، والخنادق تنسي الجندي ما تعوده من آداب التمدين).
أما الجزائري فأخرج لفائف من جيبه ووزع منها على رفاقه ثم أشعل لفافة ووقف أمام الشباك يتنشق الهواء. - ما قولك؟ أتنتهي الحرب في الصيف المقبل؟ - لو سألتني متى تنتهي حياتي لسهل علي الجواب. - وماذا يهم متى تنتهي الحرب ما دام وزراؤنا بخير. - سمعت أن الوزارة متزعزعة وأن وزير الحربية ...
الكلام للجندي الأمرد الذي قاطعه العمليق أبو اللحية هامسا كلمة في أذنه، فنظر الشاب إلي - إلى الغريب - وسكت.
التجسس! الحذر من التجسس! عادة ألفناها في هذه الحرب فكادت تمسي ملكة فينا كلنا.
وقد علمت بعد أن تعرفنا وتآخينا أنه ظنني تركيا أتجسس للألمان وكان في نيته أن يتبعني حيث نزلت ليتحقق أمري - ليتجسسني - ولكننا شربنا في «تولوز» كأسا على ذكر خطئه - ضاحكين.
بعدنا عن دوائر الحرب السياسية، ورحاها العقلية، فانقشع الجو قليلا، فتنفست الصعداء، وكانت كل ساعة تمر تبعد الجنود أميالا عن ساحات القتال فأحسست ونحن نمعن في السير جنوبا بارتياح منهم للحديث، وما لبث الأمرد أن تحقق أمري فقبل مني لفافة تركية، بل مصرية، بل أميركية منتحلة اسما عربيا! وأجاب متلطفا على سؤال سألته، أخبرني أنه من فيلق الأغراب الشهير. ولما علم أنني سوري لبناني هتف هتاف الدهشة والاستحسان، ونهض من مكانه فجلس إلى جانبي يحدثني بلهجة لا تحفظ فيها ولا تردد. - بلادكم جميلة، يا موسيو، أنا لم أزرها، ولكني قرأت للامرتين وشاتوبريان، وكان لي رفيق في الفيلق سوري، طالما حدثني عنها وشوقني إليها، السوريون شجعان، وأعرف منهم من نال صليب الحرب، زماني لا أنساهم، قد حاربنا جنبا إلى جنب في «شمباين» وفي «السوم» وفي «فردون» ونمنا في الحنادق جنبا إلى جنب، ولي منهم صديق عزيز.
مد إذ ذاك يده إلى جيبه فأخرج أوراقا بحث فيها عن صورة أرانيها. صورته وجندي آخر معه. - هذا هو صديقي اللبناني، اسمه سليم، سليم ... ولكننا قلما نذكر الأسماء الحقيقية في الخنادق، كنا ندعوه علي بابا - مازحين - وكان خفيف الروح، لطيف المعشر، حلو المزاح، ذكي الفؤاد، ينظم الشعر ويتغنى به. وكم من ليلة في فترات القتال كنت ورفاقي نجلس في الخندق على القش فيقص علينا قصصا شبيهة بألف ليلة وليلة، ويغني لنا الأغاني العربية فيطربنا ويضحكنا كثيرا. وكان يخبرنا بما هو جار اليوم في بلادكم فتتساقط الدموع من عينيه. مسكينة سوريا، مسكين لبنان، كنا نستمع حديثه آسفين غاضبين فنود لو كنا هناك لنكسر رأس التركي، لنشفي غليلنا منه، لنمحو من الأرض ذكره وأثره ... مسكين علي بابا! مسكين سليم! يا ليلي يا ليلي، لم أزل أذكر هذا النغم الذي كان يتغنى به في سكون الليل وظلماته.
ثم مال محدثي بوجهه إلى رفاقه وطفق يسرد هذه القصة، وكنت قد سمعت كثيرا من مثلها في باريس وتحققت شجاعة السوري في ساحة القتال تحت نار المدافع، وقرأت في الجرائد كثيرا من وصف غرائب الاتفاق التي خلصت من الموت كثيرين من الجنود المستهترين، ولكن علي بابا - الحديث للجندي. - في ليلة مقمرة مثلجة، سكنت هنيهة فيها مدافع العدو شعرنا بشيء من الضجر والملل فعقدنا الحلقة ونادينا علي بابا، فلم يجب، خرجت أبحث عنه فوجدته جالسا على كيس من الرمل خارج الخندق تحت الثلج ورأسه بين يديه، فاقتربت منه فإذا به يبكي، سألته الخبر فقال إنه وصله كتاب من آله في لبنان ينبئ أن ألوفا من السكان هناك ماتوا جوعا، وإن ألوفا من المنكوبين يهيمون في الحقول والأودية يلتقطون الأعشاب ليقتاتوا بها. فحاولنا أن نعزيه بما شاهده كل منا من أصناف الموت حولنا، والبعض أساء مداعبته فاستشاط سليم غيظا وطفق يلعن الأتراك وال «بوش» ويندب حظ بلاده، وفي تلك الآونة استأنفت المدافع هولها فجاء ضابطنا يقول: أريد منكم متطوعا، فكان سليم أول من لبى الدعوة، كأنه يئس من الحياة فاستهتر، أو كأنه أراد أن يطفي نار تغيظه في انتقامه من ال «بوش». «خرج سليم توا ليقوم بواجبه، خرج كالمجنون، فتتبعناه بنظرنا من خلال الأسيجة وهو يدب على الثلج خارج الخندق في ضوء القمر، دب حتى حاجز الشريط فنهض إذ ذاك قليلا وبين هو يجتازه ...»
كمل الجندي عبارته بإشارة أفصح من الكلام، ثم قال: وما هذا بغريب، كثيرون مثله أكلوا الشريط، كثيرون مثله ألبسوا إكليلا من الشوك، جاء الضابط ثانية يسألنا متطوعا آخر، فتقدم منا اثنان كنت أنا منهما، فراح الأول يحمل أوامر القيادة وخرجت أنا مسرعا لأنقذ صديقي علي بابا، دببت إلى المكان الذي سقط فيه فلم أجده هناك، بحثت ثم بحثت عبثا وعدت حائرا إلى الخندق، وكانت إذ ذاك مدافع ال «بوش» تمطرنا وابلا من النار، فقطعت الرجاء من عود السوري وتأسفت كثيرا عليه.
ولكن بعد ساعة أو أقل سمعت صوتا خارج الخندق يناديني باسمي، عرفت الصوت وخرجت مسرعا، فإذا بشبح على بعد بضعة أمتار استوى واقفا وخطا بضع خطوات وسقط ثانية على الثلج، سمعته يقهقه ورأيته يلوح بشيء في يده، فهرولت إليه فإذا به كما ظننت علي بابا وبيده رأس ألماني هالني منظره في ضوء القمر ... «ابصق بوجهه، رأس تركي، رأس غليوم، قطعته بيدي، خذ ابصق بوجهه ...» وكان يئن من جروح في زنده وكتفه دامية، وهو ينطق بمثل هذا الكلام ويهذي كالمجنون أو المحموم، حملته على ظهري وهو قابض على الرأس بلحيته يلوح به، وأسرعت عائدا إلى الخندق، ولكن قبل أن أصل أحسست برصاصة أصابتني بل أصابت حملي، أصابت علي بابا في ظهره فاخترقت قلبه. مسكين علي بابا، خلصني من الموت يا موسيو، لو لم يكن على ظهري لأصابتني تلك الرصاصة حيث أصابته. هذه تقادير الحرب.
دفناه في الصباح متأسفين كثيرا عليه، وقلما تأخذنا عاطفة الأسف والحزن ونحن تحت هطل المدافع ولهيب النار، ولكننا تأسفنا كثيرا على علي بابا، وإني لأحزن يا موسيو كلما فكرت به، وذاك المشهد الهائل وهو قابض على رأس الألماني بلحيته يلوح به في ضوء القمر، وتلك الضحكة المرعبة ضحكته، لا أنساهما حياتي، ولا أنسى صديقي السوري ... سأحتفظ بهذه الصورة يا موسيو، كان سليم خفيف الروح، لطيف المعشر، وكان شجاعا، حبذا لو كان لي يا سيدي أن أضحي بحياتي من أجل سوريا كما ضحى علي بابا بحياته من أجل فرنسا.
الحق والقوة
قيل: إن الحق يعلو ولا يعلى عليه. وقيل أيضا: إن الحق للقوة. وفي كلا القولين شيء من الخطأ وشيء من الصواب، في كلا القولين قياس لسلوك الناس والأمم يرعى ويلغي عملا بما يسود الحياة من المطامع المادية أو الروحية. ففي القول الأول حقيقة سامية نصفها ظاهر جلي، ونصفها غامض خفي، نصفها دائم أزلي، ونصفها يتغير ويتلون تبعا للزمان والمكان، ووفقا لمطامع أولي الأمر والسيادة. مثل ذلك: أنا كلنا نقول بإقامة الحق وتعزيزه. هذا هو النصف الأول الجلي من الحقيقة الدائمة، ولكننا لا نتفق كلنا دائما على معنى الحق، وهذا هو النصف الثاني الخفي من تلك الحقيقة. النصف الذي لا يدرك إلا ما ظهر منه، ولا يظهر إلا ما كان منه موافقا لمصالح أشياعه.
أما القول الثاني: الحق للقوة. فالنظر فيه يتوقف على النظر في تاريخ صاحب هذه القوة، فردا كان أو أمة، وفي الغرض الذي من أجله تستخدم تلك القوة. فإذا كانت مثلا تستخدم دفاعا عن ضعيف مظلوم، أو عن حق مهضوم؛ كان الحق فيها ولها ظاهرا لا يختلف في صحته اثنان. وإذا استخدمت في سلب أشياء الناس، ونهب بلادهم ، واستعباد الشعوب الصغيرة، وهدم معاهد العلم والكنائس، فتلك قوة وحشية بربرية لا يقوم في جانبها حق، ولا ينشأ عنها غير الإثم والضلال.
على أن الحق الذي لا يعلو ولا يعلى عليه إنما هو من الكمالات، إنما هو أمنية من أماني النفس السامية، وقد يتحقق كله أو جزء منه في زمن من الأزمنة وفي شعب من الشعوب. يتحقق وا أسفاه! إلى حين؛ إذ من حقائق الوجود المؤلمة المحزنة أن الكمالات إذا وضعت موضع العمل لا تلبث أن يفسد شيء من كنهها فتمسي في حاجة إلى الترميم والإصلاح، مثل ذلك في تاريخ الأمم دعوة النبي محمد إلى الإسلام، ودعوة الثورة الإفرنسية الأولى إلى الحرية، فلولا القوة لما انتشرت الأولى في المشرق والمغرب، ولما تكللت الثانية بالنصر في أوروبا جمعاء.
ولكن كمالات النفس والاجتماع كالجواهر الغوالي، إذا تمتع بها الإنسان، وتحلت بها الأمم، يذهب شيء من رونقها وجمالها، فتحتاج إلى الصقل والإصلاح من حين إلى حين.
الزمان والإنسان أفسدا العمل برسالة النبي وبرسالة الثورة الإفرنسية، فاستولى على الإسلام الجهل والخمول، واستولت على الحرية السيادة المطلقة والمصالح المادية. ولكن في كلتا الرسالتين - رسالة النبي محمد ورسالة الثورة الإفرنسية - جوهر الحقيقة الأزلية الإلهية، فلا يدوم استيلاء الجهل والأطماع عليهما طويلا حتى يهب أبناء من قاموا بتلك النهضتين العظيمتين ليعيدوا إلى الإيمان الطهارة والعز، وإلى الحرية الصولة والمجد.
وهذا معنى الحرب اليوم في أوروبا ومعنى الثورة اليوم في بلاد العرب، تداعت أركان الحرية في أوروبا لعوامل اجتماعية وسياسية ليس من شأننا الآن البحث فيها، فتغلبت عليها في إحدى ممالك الغرب السيادة المطلقة بل السلطة العسكرية، وغرها الطمع فقامت تهدد الحرية في أوروبا جمعاء، ولكن فرنسا - مهد هذه الحرية وحامية ذمارها - وثبت ثانية وثبة الأسد، فاستلت سيفها الباتر، وحشدت جنودها الأباسل، لتنقذ من براثن الألمان أشرف مبادئ الاجتماع وأعظم ركن من أركان الحكومات الدستورية الحرة، ففي هذه القوة المجيدة التي أظهرتها فرنسا حق يعلو ولا يعلى عليه.
وتداعت أركان الإسلام في المشرق والمغرب من خمول استولى على شعوبه، وأطماع استحوذت على أمرائه وأعلامه، فاغتنم الترك هذه الفرصة لاستخدام ما بقي من قوة فيه لمآربهم الذميمة وأغراضهم الأثيمة. فنهض العرب في البقاع المقدسة نهضة الأشاوش بل نهضة أجدادهم الكرام أنصار النبي لينقذوا الإسلام من مطامع الأتراك وجورهم، ويلبسوه ثانية حلة العز والمجد والسيادة، وفي هذه القوة التي أظهرها العرب حق يعلو ولا يعلى عليه.
فلو لم يكن للإفرنسيين وللعرب قوة تناضل عن الحق الذي هو إرثهم الروحي وتعززه لظل هذا الحق أمنية من أماني النفس بل نظرية من النظريات لا أثر لها في سلوك الناس يذكر ولا فائدة منها للأمتين.
أفلا يحق لنا إذا أن نقول: إن الحق للقوة اليوم عند الفرنسيين وعند العرب؟ أولا يحق لنا أن نقول: إن الحق في الأمتين يعلو ولا يعلى عليه؟
أما عند أعدائهما، عند الألمان والأتراك، بل عند من يحاول ذبح الحرية وإذلال الإسلام، فالقوة قوتهم إنما هي قوة ذميمة عقيمة، لم تنشأ عن حق ما، ولا تعزز حقا صغيرا من حقوق الإنسان.
أجل، القوة التي لا يعرفها الحق ولا تعرفه إنما هي قوة عقيمة همجية، لا تقوم فيها حياة الاجتماع، ولا تدوم معها حياة الحكومات دستورية كانت أو ملكية مطلقة، والحق الذي لا تؤيده القوة ولا تعززه الحكمة إنما هو حق خيالي شعري لا أثر له يذكر في سلوك الإنسان والحكومات.
وإني لا أرى بين الأمم المتحاربة اليوم غير الأمم الكبرى المتحالفة وعلى الخصوص هذه الأمة الإفرنسية العظيمة التي يحق لنا أن نقول في مقاصدها ومساعيها القولين اللذين صدرت بهما مقالي: الحق للقوة، والحق يعلو ولا يعلى عليه.
أجل، إن الحق للقوة التي تظهرها فرنسا اليوم دفاعا عن كيانها، دفاعا عن حريتها وعن حرية الأمم جمعاء، والحق الذي يعلو ولا يعلى عليه إنما هو هذا الحق الكبير المجيد الذي تفادي فرنسا اليوم في سبيله النفس والنفيس فتكلله بالنصر وتعززه، كما هو شأنها في كل نهضاتها وثوراتها الاجتماعية والسياسية.
وهناك في المشرق، في بلاد العرب، في البقاع، المقدسة، أمة صغيرة عدا ، كبيرة فضلا ومجدا، غنية بما أورثها الأجداد من علم وإيمان، فتستحق أن تقرن اليوم بفرنسا؛ لما قامت به من مجيد الأعمال حتى الآن في سبيل الحق والحرية والاستقلال، وستحقق آمالنا - إن شاء الله - نحن الناطقين بالضاد، النائين عن الأوطان، والعالمين بالغث والسمين من نزعات الأوروبيين.
باريس، في 12 كانون الثاني، سنة 1917
لا حياة إلا بالحرية ولا حرية إلا بالسيف
5
إخواني أبناء وطني
في هذه الحرب وأهوالها حقيقة كلية علية لا يطفأ نورها ولا تزعزع أركانها، هي من أوليات أسباب الوجود، ومن أهم دعائم المجتمع الإنساني، ومن أعظم أركان الأمم والحكومات. حقيقة أولية أزلية لا تتبدل ولا تتغير، تزول الأمم وهي لا تزول، تضمحل الممالك وهي أبدا حية ثابتة نيرة منيرة، تتقلب الأحكام وتتساقط العروش وهي قائمة كتمثال الحرية في ميناء هذه المدينة، لا تزعزع الحروب أركانها، ولا تطفئ مصباحها كوارث الزمان.
والحقيقة هذه هي أن الإنسان لا يفلح ولا يسعد ولا يرتقي إلا بممارسة حقوقه الطبيعية، وأن الأمم لا تنشأ إلا بنشوء أفرادها، وأن الحكومات الحرة لا تقوم إلا بشرائع عادلة تسنها المجالس النيابية، لا بأوامر تصدرها الملوك والسلاطين. وأول حقوق الإنسان الحرية. حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل.
وأول أسباب الرقي في الأمم الحرية الاجتماعية، والحرية السياسية، والحرية الدينية. وأول دلائل الحياة الحرة الراقية أن يتمتع أفراد الأمة على السواء بهذه الحقوق الطبيعية، فيسعون دائما في تعزيزها، وينهضون للدفاع عنها عندما تقيد أو تمتهن. ومن أكبر دعائم الحكومات الحرة المستقلة قانون يكفل لشعبها هذه الحقوق الأولية، ويوجب عليها الدفاع عنها يوم ينهض عليها الظالمون يحاولون قتلها.
حقيقة أولية أزلية إلهية لا تموت في أمة قبل أن تموت تلك الأمة وتضمحل آثارها، فهل تظنها تموت في فرنسا؟ هل تظنها تموت في إنكلترا؟ هل تظنها تموت في روسيا؟ هل تظنها تموت في أميركا؟ في هذه الأمة الفتاة المجيدة التي أنارت مصباح الحرية منذ مائة سنة، والتي سجلت على الظالمين كلمة ترددها اليوم أمم الشرق والغرب، بل تسطرها بالدم على لوح الوجود: لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.
إنما هي هذه الحقيقة التي تبدو لنا اليوم من خلال ظلمات الحرب وأهوالها، تسمعنا صداها المدافع، ترينا سناها الحراب، تحرك القنابل اسمها المجيد، تتغنى بها الجنود في الخنادق وفي البحار، تسطرها الطيارات على جبين السماء وراء الغيوم، ترفع بنودها الأمم وتقيم لها الأنصاب والتماثيل.
لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.
هذه الحقيقة إنما هي التي تنير قلوب العمال اليوم في معامل البارود والسلاح وتثبت في العمل أيديهم، هذه الحقيقة إنما هي التي تبذل من أجلها خيرات الأرض، وقوى الممالك، وحياة الشعوب، هذه الحقيقة إنما هي التي تحرك اليوم أدوات الحراثة وأدوات الشحن والنقل، كما تحرك يراع الكاتب ولسان الخطيب.
هذه هي الحقيقة الخالدة في قلب الجندي تحبب إليه الموت في سبيلها، تحدثه بالنصر في ظلمات الليل، تكلله بالمجد في ساحات القتال، تنعشه فتجدد قواه ساعة يستريح. تضرم في نفسه نارا ساعة يهجم على العدو، عدوها، وتزهر نورا في كل جرح من جروح أبطالها وشهدائها.
لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.
هذه هي الحقيقة التي دفعت بالمرأة اليوم إلى دوائر الأعمال الشاقة، فتراها في أوروبا وفي هذه البلاد تقوم مقام الرجال، فتشتغل في معامل البارود والسلاح، وفي دوائر سكك الحديد وتسير العربات، وتخدم في المطاعم، وتحرث الأرض، وتحارب أيضا - كما في روسيا اليوم - كإخوانها الفدائيين. هذه الحقيقة يلبس شارتها الرفيع والوضيع في الأمة من نساء ورجال، ويجاهد في سبيلها السياسي والكاهن والفلاح. أجل إن الفلاح اليوم يحرث حقله لا حبا بالكسب بل دفاعا عن الوطن، والسياسي يخدم الأمة اليوم لا حبا بالشهرة والمجد بل حبا بالوطن، والكاهن يصلي اليوم لا في سبيل النفوس بل في سبيل الوطن.
لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.
من أجل هذه الحقيقة الأولية حاربت الأمم الكبيرة والصغيرة ثلاث سنوات، أهوالها منقطعة النظير وفظائعها تروع حتى البرابرة. حاربت ثلاث سنوات وستحارب ثلاث سنوات أخرى إذا اقتضى الأمر، بل ستحارب إلى أن تنتصر الحرية نصرا مبينا فيحطم عرش القيصر بل عروش القياصرة، ويقضي على حلفائهم الأتراك السفاحين قضاء مبرما. ملايين من شبان فرنسا وإنكلترا وروسيا يموتون في هذا السبيل المجيد، ألوف ألوف الملايين من المال تبذل لهذه الغاية الشريفة. والأمم الصغيرة، البلجيكيون والصربيون وأبناء الجبل الأسود الأشاوس، يؤثرون الموت والاضمحلال على أن يعيشوا عبيدا للألمان أو لسواهم من أصحاب السيادة المطلقة الجائرة الأثيمة.
الألمان يا إخواني هم أعداء هذه الحقيقة الأولية الأزلية الإلهية، هم أعداء الحق الأساسي من حقوق الإنسان كلها. أما الأتراك حلفاؤهم فهم أعداء الحرية منذ اكتسح هولاغو مدينة بغداد، خلق الأتراك أعداءها، وعاشوا أعداءها، وسيموتون أعداءها. من هولاغو إلى عبد الحميد إلى جمال باشا. يا لها من سلسلة جهنمية، من بغداد إلى أرمينيا إلى البوسفور إلى سوريا اليوم، إلى كتشانف إلى أطنه، إلى بيروت ولبنان والشام. يا لها من سلسلة فظائع ومظالم، آخر حلقة منها مثل أول حلقاتها، صيغت من أرواح الناس، وجبلت بدماء الناس، يا له من تاريخ يبدأ بالسلب والنهب والتدمير وينتهي بالشنق والصلب والتجويع، تاريخ كتب بدم الأمة، فلا تخلو صفحة من صفحاته من جريمة اقترفها أبناء هولاغو وجنكيزخان.
ولعمري إن عهد الحكم الدستوري أكثر عهود الأتراك فظائع، وأشده أهوالا؛ فقد اقترفوا باسم الدستور جرائم يروع ذكرها حتى تيمورلنك ويهول أمرها حتى عبد الحميد، باسم الدستور حاولوا أن يمحقوا الأمة الأرمنية، فأسروا شبابها وقتلوا شيوخها وأطفالها ونساءها، وباعوا في المدن بناتها، باسم الدستور شنقوا أحرار سوريا، وقتلوا شبيبتها الراقية، ونفوا وجهاءها والأشداء من رجالها، باسم الدستور نهبوا بلادنا، سلبوا بيوتنا، جوعوا أهلنا، قتلوا ثلاثماية ألف نفس بين مسلمين ومسيحيين، من أمة بريئة مخلدة إلى السكون.
كلكم تعلمون ذلك فلا حاجة لأن أصف الفظائع السورية، على أنكم قد لا تعلمون أنه باسم الدستور والملة أيضا ينقلون الأكراد والأتراك اليوم إلى بلادنا فيهبونهم أملاكنا، ويسكنونهم في بيوتنا؛ قصد أن يمحقونا تماما وأن يجعلوا سوريا كولاية من ولايات الأناضول. ومن منا يا ترى يرضى بذلك؟ من منا يسمع بذا الاضطهاد الفظيع الهائل ويسكت؟ من منا يتصور تلك المشانق - مشانق الذكاء، مشانق الحرية، مشانق الأحرار - وينام بعد ذلك هنيئا؟ من منا يفكر بتلك الفظائع ويمثل لنفسه ظلام تلك النكبات التي نكبت بها بلادنا وأمتنا ولا تستفزه الحمية القومية والنعرة الوطنية؟ ولد الأتراك أعداء الحرية بل أعداء المدنية، وسيموتون أعداءها، ولكننا نحن السوريين لم نخلق لنكون عبيدهم إلى الأبد، لا - ورب السماوات - ولو عشت عبدا حياتي كلها فسأموت - في الأقل - حرا، سأموت مجاهدا في سبيل حريتي وحرية قومي.
إخواني أبناء وطني، إن الشعوب الصغيرة تنهض اليوم على ظالميها، تمتشق الحسام لتقطع ربقة الجور والاستبداد، لتحطم قيود الاستعباد، فهلا اقتدينا بالشعوب الصغيرة، وبالأخص إذا كان لنا اليوم من ينصرنا ويساعدنا من الدول الكبرى؟ أو هلا اقتدينا بعرب الحجاز؟ قد ظهر لي بعد رجوعي من باريس أن كثيرين من السوريين يرتابون في أن دولة كبيرة من دول الأحلاف تريد خلاصنا وتتأهب اليوم لأن تنقذ بلادنا وأمتنا من الحكم التركي الفظيع. فإليكم ما استطلعته وتحققته أثناء إقامتي في باريس، إلى المشككين المترددين أوجه - على الخصوص - كلامي، وقد حذر علينا الجهر بمثله قبل اليوم.
عندما وصلت إلى باريس الشتاء الماضي أخبرني شكري غانم، وهو أقرب السوريين إلى الحكومة الإفرنسية اليوم كما أنه حائز على ثقتها «أن النظارة الحربية تؤلف للزحف على سوريا فيلقا يدعى فيلق الشرق وتحب أن يتطوع السوريون فيه ليكون لهم يد في تحرير بلادهم، وسألني عما إذا كانت الدعوة إلى التطوع في أميركا تصادف استحسانا وقبولا»، فأجبته وقتئذ أن السوريين - على ما أظن - لا يلبون الدعوة إلا إذا كانت رسمية، أو بالحري إذا تأكدوا أن الحكومة الإفرنسية نفسها تدعوهم إلى التطوع، ولكن الحكومة في ذاك الحين لم تكن في حالة تمكنها من الجهر بهذه الدعوة، فأهملت وقتيا.
ثم مر شهران فدخلت أميركا في الحرب فتأسست على إثر ذلك اللجنة السورية في باريس لهذه الغاية، واللجنة السورية الباريسية إنما هي أداة وصل بين فرنسا والسوريين، فقد تأسست برضى الحكومة بل بإشارة منها وحضر جلساتها أحد المتوظفين في الدائرة الخارجية ووزير من الوزراء. وهذه اللجنة مؤلفة من وجهاء السوريين هناك؛ من أدباء وتجار، فتبرع أعضاؤها بمبلغ من المال، وكان من أول أعمالها أنها بعثت بوفد إلى أميركا الجنوبية ليدعو السوريين هنالك إلى التطوع.
ولما كنت منذ شهر في باريس قابلت متوظفيها وبعض أعضائها واطلعت على قانونها الأساسي فوجدت أن الغاية الأولى منه هو تحرير سوريا ولبنان بواسطة فرنسا من الحكم التركي، ودعوة السوريين إلى التطوع في هذا السبيل تفصح عما يخالج قلب كل سوري وتعبر عن أقصى أمانينا.
وغاية اللجنة الباريسية الأساسية إنما هي غاية لجنتنا بالذات، أي: أنها تنحصر في تخليص البلاد من الأتراك، وهذا هو المهم بل الأهم اليوم. فعلينا إذن أن نخلص البقية الباقية من قومنا في تلك البلاد التاعسة أو نفتح لهم في الأقل بابا للخلاص، وأعلمكم أيضا بأني لم أكتف بمقابلة موظفي اللجنة وأعضائها بل حبا بتحري الأمور وتحقيق مقاصد الحكومة الإفرنسية قابلت بعض المتوظفين في النظارة الخارجية ووزيرا فيها من الوزراء، وهذا الوزير هو ثقة في المسألة السورية وكلامه فيها يعول عليه، هو حافظ تقاليدها، ودليل سياستها، فترجع إليه الحكومة في الكبير والصغير من مشاكلها، ومما قاله لي هذا الوزير: إن فرنسا تحب أن تساعد السوريين إذا هم ساعدوا أنفسهم، وإنها تريد أن تخلص بلادهم من الحكم التركي وتؤسس فيها حكومة عادلة راقية تكفل لأهلها الأمن والسعادة وتمهد لهم سبل الرقي والنجاح، وستمنح الحكومة كل ولاية من ولايات سوريا - ولبنان منها - استقلالا نوعيا، بمعنى أن سيكون لسائر الولايات مثل ما كان للبنان قبل الحرب مجالس إدارية ونظامات محلية توافق حالها وسكانها، وأن الحاكم العام سيعين للوظائف العالية من هو أهل لها من السوريين أنفسهم.
قلت للوزير: إني أتكلم بلسان الفئة الراقية من السوريين - أي: بلسان الشبيبة السورية المتهذبة الحرة المعتدلة، التي تطمح إلى الحرية والاستقلال تدريجا - فقال: نحن متفقون، وأول خطوة تنوي الحكومة الإفرنسية أن تخطوها لتحقق آمال الشبيبة السورية الراقية هي أن تؤسس في البلاد مدارس عمومية إجبارية مجانية علمانية ،
6
وهذه عين الحكمة؛ فإن أساس الحكومات النيابية التهذيب، وسياج الحرية التهذيب، وحياة الأمم الراقية التهذيب، ولم أزل أذكر كلمة الوزير الأخيرة، قال عند الوداع: ذكر إخوانك في أميركا بالمثل السائر: إن الله يساعد من يساعدون أنفسهم ... وقل لهم: إن فرنسا تحب أن تساعدهم ولكنها تحب أيضا أن يكون لهم يد في تحرير بلادهم.
خرجت من النظارة الخارجية مقتنعا أن لا خلاص لنا اليوم إلا بواسطة فرنسا، وأننا إذا أضعنا هذه الفرصة نجني على البقية الباقية في بلادنا المنكوبة، هي فرصة خلاصهم الوحيدة والذنب ذنبنا لا ذنب الأتراك إذا كنا لا نغتنمها اليوم. تركت باريس وجئت نيويورك مقتنعا بصحة المشروع بل بلزومه، وكان في نيتي عند وصولي أن أسعى وبعض الإخوان هنا في تأسيس لجنة لهذه الغاية الوطنية الشريفة المقدسة، ولكني وجدت أن اللجنة قد تأسست بفضل بعض الأدباء الأحرار والتجار، وأن غايتها نفس الغاية التي ننشدها، فانضممت إليها مسرورا، وقد جئنا في هذه الحفلة نعلن أمرها وندعوكم إلى مناصرتها.
إخواني أبناء وطني، هذه أول مرة في تاريخ سوريا أسس السوريين لجنة غايتها التحرير من نير الأتراك، وهذه أول مرة في حياتنا السياسية أقدمنا على عمل لسانه السيف لا القلم وعربونه الدم لا الكلام.
نعم قد نهض اللبنانيون في الماضي يدافعون عن حقوقهم بالسيف ويفادون بحياتهم في سبيل استقلالهم، ولا ننكر ذلك بل نذكره دائما مفاخرين، ولكن قد كان في ما مضى بين لبنان والولايات السورية جدار أقامه الفساد والتفريق، فتمتع اللبناني بحقوق حرمها أبناء الولايات. وأما اليوم فقد قربنا المهجر بعضنا من بعض وأصبح اللبناني وابن الولاية واحدا قلبا وقالبا، غايتنا واحدة، روحنا واحدة، مبدأنا واحدا، خطتنا واحدة، ولجنة تحرير سوريا ولبنان ثمرة هذا التقرب وهذا الائتلاف.
زرع الترك فينا بذور الشقاق
7
في الماضي فنبت شوكا وقلاما ، ولكن مظالمهم الأخيرة حصدت ما زرعوا وتركت الأرض وراءهم بورا، فعلينا نحن سوريي المهجر أن نزرع فيها بذور الوطنية، قد ألفت الفظائع بين المسلم والمسيحي وبين اللبناني وابن الولاية، لم تعف المشانق أحدا لدينه، لم يستثن التجويع أحدا لجنسه، ولم يميز بيننا النهب والسلب والنفي والاضطهاد.
إخواني أبناء وطني، لقد جمعتنا اليوم النكبات فهل تفرقنا العصبيات والتعصبات؟ في هذه اللجنة اللبناني والسوري والفلسطيني يعملون عملا واحدا ويسعون سعيا واحدا، كلنا سوريون وسوريا واحدة لا تتجزأ، وهذا مبدأ من مبادئنا الوطنية السياسية.
أما أولئك الذين لم يزالوا ينادون بالعصبية الدينية أو الطائفية ويحاولون زرع بذور الشقاق فينا، أولئك الذين ينفثون في جامعتنا سم الجهل والتعصب والتفريق، لمطامع نفسية دنيئة، أو لمآرب سياسية ذميمة، فإنما هم يقتفون أثر الأتراك المفسدين المضللين السفاحين. لغتهم عربية ولكن روحهم تركية، هم أعداء الأمة والوطن، أجل، إن من ينفخون اليوم في بوق النعرة الدينية أو يتسلحون على أعدائهم بالنزعة الطائفية لمارقون خائنون، هم - والحق يقال - رجعيون، والرجعيون إما جاهلون متعصبون، وإما منافقون مجرمون.
السوري اليوم واحد، والمشانق نفسها تنطق بذلك، فما اللبناني والشامي، والبيروتي والحلبي والفلسطيني، والمسلم والدرزي والمسيحي واليهودي؛ إلا أسماء أولى نسمى بها. أما اسم العائلة عائلتنا فهو سوريا، وسوريا واحدة لا نقبل بتجزئتها، ولا - والله - نحن لا نقبل بتخليص ولاية دون أخرى من الولايات السورية، ولا الحكومة الإفرنسية تريد ذلك.
8
من جملة ما قاله لي الوزير الذي حدثتكم عنه كلمة أثرت بي وأحزنتني، قال: عجيب أمركم أنتم السوريون، تتفقون في الجوهريات وتختلفون في توافه الأمور، وجدير بكم أن تقتدوا بالأرمن اليوم، الأسبوع الماضي كان جالسا في هذا الكرسي أمامي نوبار باشا وإلى يمينه نائب بطريرك الأرمن وإلى شماله فوضوي أرمني هم يوما أن يقتل نوبار باشا، فجاءوا يقولون لي: كنا في الماضي مختلفين منقسمين بعضنا على بعض وأما اليوم فلا أحزاب ولا طوائف تفرق بيننا، كلنا اليوم حزب واحد وأمة واحدة، كلنا أرمن، فهلا اقتديتم أنتم السوريون بهم؟
كلمة حق أسكتتني وأحزنتني، ولكن أملي بالاتحاد كبير، وإيماني بأبناء وطني لا يتزعزع، في السنة الماضية جمعت كلمتنا ووحدت قلوبنا لجنة إعانة المنكوبين، وستجمع اليوم كلمتنا وتوحد قلوبنا لجنة تحرير سوريا ولبنان. ولعمري إن غاية اللجنة هذه لأشرف وأعظم الغايات؛ لأن في إعانة المنكوبين خلاص قسم من الناس فقط وفي تحرير البلاد خلاص أمة بأسرها، خلاصها في الحاضر، وخلاصها في المستقبل، وهذه اللجنة بغايتها أولا لا برجالها، بمبدئها لا بمنشئيها، وأنا ممن ينشدون ويقدسون غايتها، ويسعون في تعزيز مبدئها، ويتشرفون أن يكونوا من أعضائها.
نعم إن مثل المشروع الذي ستقوم به هذه اللجنة يشرف العاملين من أجله، الساعين في تعزيزه، المفادين بأرواحهم في سبيله، وأي شرف - رعاكم الله - أجمل من ذا الشرف وأسمى؟ شرف الجهاد في سبيل الحرية، شرف السعي في تحرير أمتنا من نير العبودية، شرف النصر على السفاحين المدمرين أبناء هولاغو وجنكيزخان، بل شرف القتال جنبا إلى جنب وجنود فرنسا البواسل جنود الحرية منذ نشأت الحرية، جنود النصر في ساحات الوغى، جنود الحق في حرب الأمم، جنود المجد في سبيل المدنية، والسوري والإفرنسي أخوان، يأتلفان ويتحابان؛ فقد حاربا في الماضي معا وحاربا معا في هذه الحرب أيضا. •••
وغدا يحارب الجنود الإفرنسية فلا بلادنا ليحرروها، غدا يضحون بحياتهم من أجل الحرية حريتنا، فهلا شاركناهم في هذا الجهاد وهذه التضحية؟ إخواني أبناء وطني، نحن لا ندعوكم إلى الحرب في سبيل أمة غربية أجنبية، بل في سبيل أمتنا وبلادنا ندعوكم إلى الدفاع عن بيوتنا، عن حريمنا، عن أهلنا المنكوبين اليوم، ندعوكم إلى السلاح لاسترداد حقوقنا المسلوبة، ولإنقاذ بلادنا من براثن الغول التتري، الوطن يناديكم، البقية الباقية فيه تستنجدكم، تستغيثكم، أرواح الأحرار، أرواح شهداء الأمة، تصرخ بكم، يا أبناء سوريا الثأر! الثأر! الانتقام! الانتقام! أرواح الألوف من قومنا الذين ماتوا جوعا وتجويعا تناديكم اليوم يا بني لبنان وتدعوكم إلى الجهاد إلى السلاح، وصوت الأموات إنما هو صوت السماء، بل صوت الله.
من منا يسمع هذا الصوت ولا يستجيبه؟ من منا تجري في عروقه دم الرجال يسمع هذه الدعوة ولا يلبيها؟ ألا يحرك صوت الأموات - في الأقل - أرواحنا النائمة؟ ألا يستنهضنا اليوم نداء الجياع والمنكوبين الذين لم نعد نستطيع أن نعينهم بالمال؟ تجمعنا اليوم على الأخص رابطة الدم، تجمعنا اليوم نزعة الثأر والانتقام، عشنا مئات السنين عبيدا، أفلا نعيش أحرارا ولو يوما واحدا قبل أن نموت؟
إخواني أبناء وطني، في أوروبا وفي أميركا اليوم روح تسود كل نزعات الإنسان، وكل أمياله، وكل أمانيه، وهذه الروح إنما هي روح التضحية، روح المفاداة بالنفس في سبيل الحرية ومن أجل الوطن، هذه - وربي - ضحية شريفة يضحيها الإنسان، ولكن هناك ضحية أشرف وأعظم، إلا وهي ضحية المرأة، ضحية الأم التي تفادي بابنها في سبيل الوطن، ضحية الزوجة التي تفادي بزوجها، ضحية الفتاة التي تفادي بأخيها وبخطيبها.
فعلى النساء السوريات إذا أن ينهضن اليوم فيناصرن هذه اللجنة ويساعدن في تحقيق آمالها ونجاح دعواتها، يا بنات سوريا، إليكن أوجه كلامي، ويا شباب سوريا، يا شباب بيروت، يا شباب الشام، يا شباب لبنان، يا شباب حمص وحلب، يا شباب فلسطين، إياكم أنادي، من منكم في هذه القاعة يحب أن يتطوع في فيلق الحرية تحت هذا العلم؟ من منكم يفادي بحياته من أجل الوطن؟ يلزمنا فدائيون، تفضلوا، ليقف الفدائيون ليقف من أحب التطوع، الموقف موقف عمل، لا موقف كلام، موقف جنود لا موقف وعود، قفوا، تقدموا، تطوعوا الآن، ولنتمثل كلنا بقول الشاعر:
لا تسقني كأس الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
سنة 1950
كذلك انتهت حرب الأمم يا بني، الحرب التي ترى أثرا من أهوالها في وجه أبيك وشيئا من عبرها في نفسه، الحرب التي أورثتني عينا من زجاج وعينا لوجداني من النور. وأنا واحد من أربعة ملايين نجوا من نيرانها مشوهين ظاهرا، مطهرين قلبا ووجدانا، بل أنا واحد من عشرات الملايين في كل أمة قضوا ثلاثين سنة آسفين على ضحايا تلك الحرب البشرية، قانطين من مساعي الإنسان، يائسين من مناهج الأمم، صابرين على عقم الأيام.
انتهت تلك الحرب الضروس يا بني، وما كان من نتائجها الظافرة، المخالفة لما تقدمها من الحروب، سوى سقوط الدول الأوتوقراطية الثلاث - أي: ألمانيا والنمسا وروسيا - وظهور الدول الصغيرة الجديدة في قلب أوروبا، وهي على حداثة سنها غاضبة على ماضيها، غير راضية بحاضرها، ناظرة بعين اليأس والرجاء إلى مستقبلها.
انتهت تلك الحرب عند عقد معاهدة فرساي التي لم يكد يطوي الزمان عاما عليها حتى نسي العالم تلك الآيات الرنانة التي كان يرددها الوزراء والرؤساء والصحافيون والزعماء، نسينا أو تناسينا «جمعية الأمم» و«حرية الشعوب الصغيرة» و«الحكم الذاتي الاختياري» و«استئصال السياسة السرية» و«تخفيض السلاح» وغيرها من المبادئ، التي سفك العالم المتمدن دم شبيبته من أجلها، نسيناها يا بني أو تناسيناها، وعدنا ظاهرا إلى ما كنا فيه قبل الحرب.
أما تأثير الحرب الأدبي والروحي فظل حيا في قلوب الناس وشرع ينمو في الهيئة الاجتماعية التي قلما تؤثر السياسة بها، والتي لا يظهر تأثيرها بالسياسة والأحكام إلا تدريجا، وببطء وغموض تملهما النفس، ويكاد ينكر العقل حقيقة فيهما دائمة، نعم يا بني، قد زرعت تلك الحرب بذور السلم في العالم، ولكنها لم تنم بادئ ذي بدء إلا في الطبقات الواطئة من المجتمع البشري، في طبقات العمال والفقراء، الطبقات التي التهمت نار الحرب رجالها، الطبقات التي لا يكون حرب في العالم دونها، بل لا تقوم حرب إلا بها وبضحاياها. وبما أن الذين تولوا الأحكام بعد تلك الحرب كانوا من الطبقة الوسطى التي تدعى في أوروبا «بورجوازي» لم يكن الشعب راضيا بها، ولما نهض العمال والفلاحون في روسيا يؤسسون حكومة منهم ولهم، حالت دون مساعيهم دول الأحلاف، فسقط ما كان يدعى الحكم البلشيفي، كما سقط قبله الحكم البورجوازي والحكم الأوتوقراطي.
وإذا عدنا إلى التاريخ ودققنا النظر في مجرى الأحكام التي أسسها الناس؛ نرى أنها تشير إلى دائرة فيها لم تزل ناقصة، فمن الحكم الأبوي، أي: حكم الحكماء في قديم الزمان، تدرجنا إلى الحكم الاستبدادي، أي: حكم الملوك والأمراء، ومنه إلى الحكم الدستوري أي: حكم الوجهاء والأكابر، ثم الحكم الاشتراكي، أي: حكم العمال الذي نحن فيه اليوم، والذي سيتبعه - ولا شك - هو الحكم الأبوي، الدستوري، الاشتراكي، الذي تتم عنده دائرة الأحكام كلها. ويظهر أنها تتبع بعضها بعضا على هذه الصورة طبقا للتاريخ وعملا بناموس النشوء والارتقاء، فإذا تأسس حكم العمال على عرش الحكم الاستبدادي مثلا لا يلبث أن يسقط فيقوم مقامه الحكم الدستوري البورجوازي، كذلك كان في روسيا عندما سقطت البلشيفية.
إن لحرب الأمم من هذا القبيل نتيجة شبيهة بنتيجة الثورة الإفرنسية، إذ إنها أسقطت الملوك الأوتوقراطيين عن عروشهم، وولت مكانهم بعد انقلابات عديدة من ادعوا زعامة الشعب من وجهاء الطبقة الوسطى، طبقة البورجوازي، فلم يكن الانقلاب النهائي الأخير سوى انقلاب سياسي قضي فيه - ولا شك - على أصحاب التيجان وأرباب الشرف الموروث، وتعززت فيه سيادة أولئك السياسيين والزعماء الذين كانوا يرددون ألفاظ الحرية والمساواة، ويتشدقون بتلك الآيات الذهبية الرنانة، ثم يخدمون بأعمالهم وشرائعهم أمراء المال وأرباب المعامل والتجارة.
أجل يا بني، انتهت حرب الأمم ولم تنته حرب الأحزاب، أحزاب ذوي الثورة والسيادة وأحزاب العمال، لم تنته حرب الطبقات بعضها على بعض المتأصلة أسبابها في المجتمع الإنساني بل في أعماق الطبع البشري.
حكم الأوتوقراطيون زمنا طويلا فسقطوا فاندثرت آثارهم، ثم حكم الوجهاء والأكابر، زعماء الطبقة الوسطى، فكان حكمهم شبيها من وجوه عديدة بحكم الطغاة أرباب الصولجان والجنود، أي: أن مصالح الأفراد، وتقاليد الدول، ومآرب ذوي الثروة والسيادة، ومطامع السياسيين، بل آفات الهيئة الحاكمة كلها، كانت تظهر دائما بمظهر الشرائع والأحكام تارة على العمال وطورا على أرباب الفكر وأنصار الكمال، ويا لها من شرائع سنت لتعزيز الحكومات، لتعزيز الجندية، لتعزيز الأحزاب السياسية، لتعزيز المشاريع المالية والاقتصادية، يا لها من شرائع سنت باسم الديمقراطية فما انتفع بها غير أعدائها.
ثلاثون سنة ولت يا بني، والشعوب - وقد شبعوا حربا - راضون بما كان، ساكتون عن مظالم قديمة وجديدة، صابرون على فساد الأحكام وعقم الأيام، نعم رضينا بشرائع سنها مؤتمر السلم، وبعهود عقدت بين الأمم، قبل العالم معاهدة فرساي كما يقبل المريض الدواء.
ولكني لم أزل أذكر يوم عاد الرئيس ولسن من أوروبا مكللا بإكليل الإكرام والإجلال، مزودا زقوم الخيبة والفشل، ويا له من يوم تمثلت فيه آمال الأمة الأميركية لابسة الحداد، وآمال الدمقراطية مذبوحة على هيكل المطامع الدولية، وآمال الملايين من أبطال الحرب مدفونة معهم على ضفاف ال «مارن» و«السوم» وفي سهول «فلاندرس» و«شمباين.»
حتى إن أعداء الرئيس ندموا على ما بدا منهم من الاسترسال إلى التعصب السياسي والتحزب، وكانوا حانقين على ساسة أوروبا الذين أكرموا الرئيس إكراما جميلا منقطع النظير، وقد استطاعوا بدهائهم وغموض سياستهم وبمساعدة فريق من الأميركيين أنفسهم أن يحولوا دون ما كان يبشر به من الكمالات السياسية ويسعى إلى تحقيقها.
مهما قيل بالرئيس ولسن يا بني، فإننا اليوم متفقون مقتنعون أنه من أعظم رؤساء هذه البلاد، بل من أعظم كبار الزعماء في العالم، وإننا لنرى اليوم أن الأمم المتمدنة لم تكن عند انتهاء الحرب مستعدة لقبول كمالاته السياسية، ومع أن أغلاطه كبيرة كثيرة؛ فقد كان بعيد النظر وصادق اللهجة في سياسته الدمقراطية العمرانية، وإن الأمة التي ترفعه الآن إلى مقام «لنكلن» و«واشنطون» لهي عالمة بمواطن ضعفه، مدركة كل أغلاطه، وأكبر هذه الأغلاط وأضرها بخطته الدمقراطية الصميمة هو أنه أغضب الحزب الجمهوري قبل سفره إلى أوروبا، فإن تقيده في ذلك الزمان بحزبه الخاص إلى درجة التعصب الأعمى حمله على أن يؤثر سيادة الحزب على سيادة الأمة، والحكومة ناشئة من الأحزاب كلها.
نعم قد كان الرئيس من هذا القبيل رئيس حزبه لا رئيس الأمة جمعاء، ولكنه كان أيضا رئيس الأمم الصغيرة المظلومة في العالم بأسره، تلك الأمم التي كانت تنظر إليه نظر العليل إلى الشمس والسماء، وهي تؤمل أن يجيئها من يده الخلاص والحرية، نعم يا بني، إني لا أبالغ إذا قلت: إنه وإن كان - سياسيا - رئيس الحزب الدمقراطي فقط فقد كان - معنويا - رئيس الأمم جمعاء، ولكن القوة المعنوية لم تؤثر في سياسة ذلك الزمان الأوروبية، التي تواطأت وأعداءه عليه، وقد كان ولسن من هذا القبيل كمن يفادي مجانا بنصف ميراثه، كمن يرمي بنصف ثروته في البحر، أجل، قد أفقر الرئيس نفسه سياسيا، قد شطر قوته بيده شطرين، وترك عند سفره إلى أوروبا شطرا منها وراءه يسعى في مقاومته.
ولا أحد ينكر اليوم أن الحزب الجمهوري ساعد الساسة الأوروبيين في تحقيق مقاصدهم الاستعمارية ومطامعهم الدولية، بل ضرب الحرية ضربة أقعدتها، دوختها يا بني عشرين سنة، أجل، قد غلب ولسن في ذلك الزمان لا بقوة الحجة، ولا بسداد الرأي، بل بمساعدة أعدائه في هذه البلاد، فعقدت تلك المعاهدة في فرساي، المؤسسة على الانتقام والأثرة، وكانت الغرامة الحربية التي فرضت على ألمانيا أهم ما فيها.
معاهدة فرساي - وحق الغالب لا حقوق الأمم معزز فيها - لا تختلف يا بني عن معاهدة فيانا، وقد رضي العالم المتمدين بها؛ لأنه - كما قلت - كان قد شبع حربا، وقرف السياسة والمتاجرة بالسياسة، بل كان - والحق يقال - منهوكا، مستضعفا، سقيما.
على أن الأمم الصغيرة الجديدة التي ذكرتها تنبهت بعد بضع سنين إلى الخدعة الدولية وعلت فيها صرخة الأحزاب الوطنية، فتضاربت الآراء والمصالح، وتباينت المقاصد والغايات ودقت طبول التمرد والعصيان. فتفجرت براكين الثورة في الشرق الأدنى وفي البلكان، فتدخلت الدول العظمى بشئونها واحتلت بلادها بضع سنين، مثل ذلك احتلال روسيا قسما من بولندا، واحتلال ألمانيا قسما آخر، واحتلال النمسا قسما من أراضي السرب.
أثارت هذه الحركات الرجعية ثائر الشعب العام أو بالحري العمال من اشتراكيين وبلشيفيين وفوضويين فأخذوا يترقبون الفرص للوثوب على الحكومات الجمهورية المالية - حكومات الوجهاء والأكابر - أو بالحري الحكومات القيصرية الجديدة التي تواطأت وأمراء المال وأرباب الكنيسة في قديم الزمان.
قلت يا بني إن ذلك السلم الذي عقدت عهوده الدول الغالبة إنما كان سلما تقليديا، أي: أنه كان مبنيا على مصالح الدول الأوروبية الكبرى في بلادها، وخارج بلادها، وعلى مطامعها المالية والاستعمارية والتجارية. فقد قيدوا ألمانيا بغرامة تكاد توازي ثروتها كلها، وتقاسموا مستعمراتها، وقطعوا الطريق على تجارتها، زد على ذلك أن إنكلترا احتلت فلسطين والعراق، واحتلت فرنسا سوريا، واحتلت إيطاليا قسما من البلاد الإفريقية العربية، ثم استولت على مراس بحرية في الأدرياتيك ادعاها الجوغوسلاف والسربيون، كذلك سادت البورجوازي سيادة مطلقة، فتبنك الوجهاء والأكابر ثلاثين سنة وهم متقلدون زمام الأحكام، قابضون على ناصية الزمان.
أجل، يا بني، إن معاهدة فرساي قسمت العالم المتمدن قسمين كبيرين أساسيين ، قسم الحكام وأنصارهم من ذوي المصالح المالية والتجارية، وقسم العمال الذين كانوا يحتجون من حين إلى حين بالإضراب عن العمل وبنهضات ثوروية محلية لم تأت بكبير فائدة.
استمرت هذه الحال ثلاثين سنة عاد فيها العالم المتمدن إلى تقاليده السياسية القديمة، ساد فيها حزب المحافظين بل الرجعيين في كل الجمهوريات وأمعنت الأمم بالمنافسات التجارية والتكالب المالي، ومن أشد هذه المنافسات وأخبثها ما نشأ منها بين إنكلترا وأميركا؛ ففي سنة 1925 كانت بحرية الولايات المتحدة البحرية الثانية في العالم، وظلت تزداد عددا وقوة حتى كادت تفوق البحرية الإنكليزية، وقد جرى بين هاتين الأمتين ما جرى بين إنكلترا وألمانيا قبل حرب الأمم من المباراة في بناء الأساطيل والطيارات.
زد على ذلك أن الولايات المتحدة التي لم يكن لها بواخر شحن تذكر قبل الحرب؛ أصبحت بعدها في الصف الأول من قوات البحار والتجارة، ولكنها لم تستطع بادئ ذي بدء أن تجاري إنكلترا في أجور الشحن؛ لأن النوتيين الأميركيين يتناولون أضعاف أجور النوتيين الإنكليز، فاضطرت لذلك الشركات الأميركية أن تستأجر نوتيين من الأجانب وفيهم من أتباع المملكة البريطانية، فامتعض لذلك أرباب الشركات الإنكليزية وسعوا لدى حكومتهم فاحتجت مرارا من أجلهم، ولكن حكومة واشنطون وهي تميل بسمعها إلى الشركات الأميركية لم تسمع احتجاج الحكومة الإنكليزية، التجارة يا بني التجارة! إنما هي أم الحروب، والزعماء والوزراء والسياسيون والصحافيون آلات كلهم بيدها.
قلت إن أميركا كادت تفوق إنكلترا ببحارتها وبتجارتها، بل فاقتها واجتازت حدودها كل البحار، فصرنا نرى البواخر الأميركية تحمل البضاعة الأميركية والإنكليزية والإفرنسية إلى الصين واليابان والهند وأستراليا والشرق الأقصى، فضلا عن جمهوريات أميركا الجنوبية التي حلت أميركا فيها محل ألمانيا التجاري قبل حرب الأمم، ولا بد في مثل هذه المناظرة التجارة الشديدة، وهذا التحاسد والتضاغن من شر يستثمره السياسيون ويساعد في تعميمه الصحافيون ، والزعماء الطامعون بالثروة والسيادة. لا بد في مناظرة تجارية وسياسية بين أمتين من يوم تتفجر فيه براكين الطمع والحسد والضغينة، وكذلك كان.
فقد أضرب عن العمل في أحد المراسي الشرقية النوتيون الإنكليز فشاركهم بالإضراب بعض النوتيين المشتغلين في بواخر أميركية كانت راسية هناك، فاستخدمت الشركة الإنكليزية نوتيين من الأهالي، فهددهم المضربون بالقتل إذا اشتغلوا، فحدث بين الفريقين مناوشات اضطرت الحكومة المحلية، وهي إنكليزية، أن تخمد نارها بالقوة العسكرية، فأطلق العساكر الرصاص على المضربين وبينهم من رفعوا العلم الأميركي، وكان ممن قتلوا بعض النوتيين الأميركيين.
نقل البرق خبر هذه الحادثة فنشرته صحف الأخبار بالقلم العريض: «قد أهين العلم الأميركي، قد قتل عدد من المواطنين الأميركيين.» فثار ثائر الناس، وفي مقدمتهم السياسيون والصحافيون، على إنكلترا، ولكن صحف لندن روت الحادثة على غير ما روتها صحف نيويورك، وقالت: إن الحق على المضربين، وإن جنود بريطانيا العظمى عملوا الواجب عليهم.
ولما شرعت الصحافة الأميركية تنادي وتصيح: «الحرب الحرب!» نهض العمال والنساء يحتجون عليها وعلى الحكومة، ولكن احتجاجهم لم ينجح. طلب الرئيس من الحكومة البريطانية عذرا أو تعويضا فأبت ورفضت بتاتا، تدخلت فرنسا وألمانيا واليابان في الأمر، ولكن النعرة السياسية والمصالح التجارية تغلبت على كل احتجاج وكل اعتراض، أشهرت أميركا الحرب على إنكلترا وشرعت توا تجهز الجيوش، وكذلك فعلت إنكلترا، ولكن الأيام حبالى بالمعجزات يا بني، ونهضات الأمم تنمو سرا نموا بطيئا، فتظهر فجأة لتطهر المجتمع من أمراضه وأدرانه.
أجل، يوم صدق الرئيس على شريعة التجنيد الإجباري ظهرت في الأمتين الأميركية والبريطانية قوات العمال دفعة واحدة وقد توحدت كلها كلمة، وقصدا، وعملا.
كلمتنا السلام، وقصدنا السلام، وعملنا السلام، وحجتنا السلام.
عزلا وقفنا أمام دار الحكومة نرفض حمل السلاح، لا دفاعا عن أنفسنا ولا دفاعا عن الأمة.
عزلا سرنا في الأسواق، وفي مقدمتنا النساء حاملات البنود البيضاء لا الحمراء، وبينهن أمهات من سفكوا دماءهم في حرب الأمم.
عزلا اجتمعنا في الساحات العمومية، وبيننا ألوف ممن خاضوا عباب حرب الأمم، ونجوا منها مشوهين مثلي.
لا يا بني ، لم ننس تلك الحرب وأهوالها، ولم تنس النساء ويلاتها، ولم تنس الأمهات أحزانهن، نهضنا وإخواننا البريطانيين نهضة واحدة على الحكومات المالية التجارية الطاغية، لست أنسى حياتي يوم أمرت جنود الحكومة بتبديد اجتماعنا أمام دار الحكومة، أمرنا بالذهاب إلى بيتنا فأبينا، فأمر الجنود بإطلاق الرصاص علينا، تباركت تلك الساعة يا بني، وتبارك الإخاء والولاء، فلما أمر الجنود بإطلاق الرصاص رموا سلاحهم إلى الأرض وأسرعوا إلينا يعانقوننا. تعانق الجنود والعمال يا بني، واتحدنا على العدو، عدو التمدن والإنسانية، نعم، قتلنا في تلك الساعة الحرب في مهدها، وأسقطنا حكومتها وأربابها، في تلك الساعة يا بني أشرقت شمس الإخاء والحرية لأول مرة على العالم.
أجل، قد سقطت حكومة واشنطون وحكومة لندن في أسبوع واحد وأخذت ثورة العمال السلمية تمتد وتنتشر في فرنسا وألمانيا وروسيا والنمسا وإيطاليا، سطع نورها في أمم أوروبا وأميركا جمعاء، بعثت البلشيفية من قبرها وقد طهرها الفشل والزمان، فاستولت وهي عازل على زمام الأحكام في العالم المتمدن، وكانت النساء - تبارك اسمهن وجنسهن - العامل القوي في فوزنا فوزا مبينا.
عصينا يا بني، تمردنا، خلعنا نير الطاعة لحكومات تجارية طاغية، انتصر السلم نصرا مبينا، فازت الحرية والإخاء فوزا باهرا، رفع العمال راياتهم البيضاء لا الحمراء في كل العواصم الأوروبية، وبعد أن استتب حكمهم الدمقراطي الاشتراكي عقدوا مؤتمرا في نيويورك قرروا فيه ثلاث مبادئ أساسية:
أولا:
استيلاء الحكومة على الشركات العمومية كلها.
ثانيا:
تحديد ثروة الشركات التجارية والمالية وثروة الأفراد.
ثالثا:
تأسيس شركة للحكومة عمومية في كل ولاية، رأس مالها ما زاد من ثروة الأفراد والشركات الخصوصية، فينفق ريعها على المشاريع العمومية، والمعاهد العلمية والفنية والصحية، وقرر المؤتمر أيضا مبدأ الرئيس ولسن في الحكم الذاتي الاختياري لكل الأمم صغيرة وكبيرة، فجلت إنكلترا عن الهند وعن مصر، وجلت فرنسا عن سوريا وعن المغرب الأقصى، وخرجت ألمانيا وروسيا من بولندا ومن المستعمرات الجديدة التي احتلتها، ثم تأسست جمعية الأمم التي استولت على جنديات وحريات الأمم المشتركة بها، وكان رئيسها الأول رئيس أحزاب العمال الأميركية.
وحكم العمال الذي نحن فيه الآن يا بني هو الحلقة الرابعة من دائرة الأحكام البشرية التي ذكرتها، فمن الحكم الأبوي، أي: حكم الحكماء، إلى الحكم الاستبدادي، أي: حكم الملوك والأمراء، إلى الحكم الدستوري، أي: حكم الوجهاء والمتمولين، إلى الحكم الاشتراكي، أي: حكم العمال. إلى الغد يا بني، ولكنما الغد لله.
رفيق السفر والمؤتمر
1
قد كان أول اجتماعي به في مؤتمر واشنطون لتخفيض السلاح، وهو يمثل جريدة نيويوركية يكتب إليها رسالة كل يوم دون أن يحضر اجتماعات المراسلين بمحدثي الوفود المختلفة أو يؤم وزارة الخارجية متسقطا الأخبار، ومع ذلك كان يكتب المقال الذي لا يحتاج إلى كثير عمل ومشقة ويقبل لقاءه مبلغا من المال، وكان يقبل أيضا دعوة سيدات واشنطون الغنيات في حال أن ليس بينه وبين أمثالهن ما يحلل الخبز والملح، فهو اشتراكي وهن في غير تلك الحال لا يرين فيه ما يوجب غير التفاتة يمازجها شيء من التنازل والازدراء، إلا أن الغرائب تعددت في أيام ذاك المؤتمر، كيف لا واللورد ... يتناول الغداء وأحد المراسلين. إننا يا سيدي في بلاد ديمقراطية، والمسيو ستيفان لوزان «رئيس تحرير الماتان» يمشي إلى إدارة إحدى الجرائد وفي جيبه مقال مكهرب موضوعه لا شيء، عند احتياجه إلى المال، والمستر بلفور - يجيء بنفسه ليحدث المراسلين فيشرح لهم الفرق من وجهة أدبية بين الغازات السامة والطيارات المدمرة، ويتفلسف في شرعية استعمال الطيارات مثلا وعدم شرعية الغازات.
وهذه بعض الشعوذات السياسية التي نجا صديقي منها، أما زملاؤه المراسلون فما كانوا لينظروا إليه بعين الاهتمام التي كانت لسيدات واشنطون الغنيات، أو لتلك الجريدة التي كانت تنشر رسائله وتعلن عنها كأنها الدواء الوحيد لأدواء العالم كلها، قالوا إن حرفته التشاؤم وكفى، أما أنا فأحببت الاجتماع به؛ لأنه كان ينصر مبادئ طالما روضت هذا القلم في خدمتها، ويجاهد في سبيل الإنسانية جهادا مبرورا يستحق احترام كل من أخلص الحب للإنسانية، هذا من حيث التعارف والائتلاف. وهناك أمور تناكرت - أو بالحري تناقضت - حببت إلينا الاجتماع، منها أنه يكتب من اليسار إلى اليمين وأنا أكتب من اليمين إلى اليسار، أنه غربي إنكليزي وأني شرقي عربي، أنه ممثل أكبر جريدة في المؤتمر وأني ممثل أصغر الجرائد، أنه مادي محض وأني مادي روحي معا. كل هذه حببت إلينا الاجتماع فاجتمعنا وكان ذلك في نزله قبل العشاء.
وكنت قد طالعت بعض تآليفه واطلعت على رسمه في إحدى المجلات فأعددت نفسي إلى خبر يكذب الخبر - كما هي العادة في أكثر المؤلفين - ووعدتها بخيبة الأمل، فما كان شيء من الاثنين؛ لأن المستر ولز
9
شبيه برسمه وإن كان غير ما نتصوره في وجوه الاشتراكيين، وإنه ليصح فيه ما قالته أم «برنارد شو» في الكاتب المعروف «كننغهام غراهام»: «هذا الرجل لا يشبه الاشتراكيين بل يشبه الرجال الأماجد.» والمستر ولز من الأماجد، ولا غرو، وله فوق ذلك من رونق الشباب ما يدهشك جدا إذا علمت ما عدد سنيه وعدد مؤلفاته. أما المؤلفات فلا تقل عن الخمس والأربعين، فهب أنه بدأ يكتب في سن العشرين وكان له في كل سنة كتاب لكانت سنه 65 ولكن الحقيقة هي خلاف الرقمين، فهو في السادسة والخمسين من سنه، وفي السادسة والأربعين من شبابه، يسلب الزمان عشر سنوات وهو مطمئن إلى الزمان، هذا هو المستر ولز، وهذا ما أدهشني منه عند أول مقابلة.
وإننا إذا سلمنا أن هذا الروائي المؤرخ لا يتحرى في ما يكتب الترسل والإبداع أو الاشتهار بأسلوب خاص فإن غزارة مادته، وسعة علمه، وكبر همته التي لا تعرف الكلل، وخلاء وجهه من أثر العمل في التوليد الدائم، بل من دلائل التعب والملل، لما يستحق الذكر ويستوجب الإعجاب، فهو في حركاته وفي وجهه وفي اطمئنان نفسه وفي ظهره الهادئ إجمالا شبيه بقسيس لم يعمل في حياته عملا غير تحبير المواعظ أو انتحالها، وللمستر ولز أيضا مواقف في الوعظ، إلا أنها غير مواقف المحترمين أصحاب الإنجيل، فقد وعظ ضد كل شيء في العالم ولم يستثن الديانة المسيحية، وهو تلميذ الأستاذ هكسلي، ومن أنصار مبدأ النشوء والارتقاء الثابتين.
وما همني من أمره تلك الليلة غير نظرات في الإسلام والأمم الشرقية في كتابه «موجز التاريخ» فإنه بعد تأليفه هذا الكتاب، وبعد رجوعه من روسيا، وفي معالجته موضوع «الحرب والسلم» في واشنطون، أصبح شبه نبي اجتماعي بل أمسى طبيب العالم بأسره، وما هو مثل بعض الأطباء يصف الدواء الواحد لكل الأدواء، بل له وصفات خاصة لا تزال تستغوي المطلق من العقول، وأنا في السياسة وفي الدين لا أزال مطلق الرأي والعقيدة، لي في الصحيح من تعدد المذاهب شغف يغتفر عنده التنقل والغزل، وقد كان لي بعد موعدي مع ولز موعد مع الزعيم الشاب السياسي الصيني والنغتون كو.
قد اجتمع الشرق والغرب في واشنطون وتنازعا ثم عقدا معاهدة، إلا أنهما لم يتفقا على نظام أدبي واحد في السلوك السياسي تتبعه الدول جمعاء. وهذا لعمري سبب المحنة، بل سبب المحن السياسية كلها في العالم، فإذا كان الشرق يتوق إلى وطنية غير معادية لأوروبا، بل هي بالعكس بنت التهذيب الأوروبي، وإذا كان الغرب في تطوره السياسي ينحو نحو اشتراكية تعطف على وطنيات الشرق الناشئة نشأة جديدة، ثم تسير هاتان النهضتان في خط مستقيم الواحدة نحو الأخرى، فإلى متي يا ترى نعمد في حلنا المسائل الأجنبية إلى ما ألفناه من تعصب في التشريق أو التغريب؟ إلى متى تبقى المسألة مسألة شرق وغرب؟ ومتى تصير مسألة عدل وأدب وكفاءة؟ هذه من المسائل التي سألتها المستر ولز تلك الليلة.
ولا أذكر أنه اتقاها أو أجاب صريحا عليها، قال: «إن أوروبا سائرة إلى الدمار، ولكن لا يزال عندها أشياء يمكن أن يستفيد الشرقيون بها، وخير لهم أن يسرعوا.» فقلت: «إذا كانت أوروبا أو بالأحرى المدنية الأوروبية في حال النزاع، والشرق الحر الناهض الذي يفك رويدا رويدا قيوده القديمة ينظر إليها نظر المعترف بالفضل المستمد الإسعاف، فماذا عندكم تمدوننا به؟ ما هي عندك طريق الخلاص؟»
فأجاب المستر ولز قائلا: «العلوم التقنية (الفنية)، فإن الاستقلال الوطني والاجتماعي موكل بالاستقلال الاقتصادي، ولا تفوز الأمم بالاستقلال الاقتصادي إلا بإحسانها العلوم الطبيعية كالهندسة والكيمياء والميكانيكيات كلها، هذا ما يفتقر إليه الشرقيون، ويمكنهم أن يتعلموه في كلياتنا، وخير لهم أن يسرعوا.»
وهو يقول بالإسراع قولا ممكنا، كأنه يرى قرب حلول مصيبة أشد هولا من التي لا تزال تخيم على العالم، ولا يرى للروحيات في المحنة أو في درئها دخلا أو لزوما. أذكر أنه قال: إن بعض مصيبة الشرق هو استرسال أبنائه في الشعر. «وما قولك بالدين؟» «إنه يتوقف على ما فيه من الخير العملي، كلنا نكره التدجيل كما أنا نكره التدين الآلي، ولكن في القرآن أشياء كثيرة حسنة تكاد تهمل، فحبذا تجديد الحياة فيها وإهمال القديم المنافي لخير هذا الزمان، المعادي لطبعه. ناهيك بأن القرآن عروة الإسلام الوثقى، أو هو - في الأقل - وسيلة يحسن استخدامها في تحقيق الوحدة الإسلامية، وإن وحدة أية أمة من الأمم مفيدة لها ولغيرها، فالوحدة تعيد إليها كرامتها وتوجب عليها القيام بعهودها، أما الإسلام اليوم فمشتت الشمل، مبدد القوى، ولو لم يكن لدى المسلمين من واسطة إلى الاتحاد لوجب عليهم اختراعها، ولكن كتابهم خير واسطة. خذ لك مثلا شخصيا: لست ممن يؤمون الكنيسة للصلاة، ورأيي في الدين أنه لا يزال في حال الامتحان والتجربة، فالكلمة المتناهية حكمة لم ينطق بها بعد لا في الكنيسة ولا خارجها، ولا في الشرق ولا خارج الشرق، ومع ذلك إني على يقين تام من أمر واحد، فإذا كانت انكلترا في خطر من الاحتلال الأجنبي - العربي فرضا - وكان أبناؤها مشتتين مبددين في أربع زوايا الأرض دون رابطة تربطهم بعضهم ببعض فلا أتردد في دعوتهم إلى الإنجيل بل أتخذ الكتاب المقدس شارة جنسية، وعلما وطنيا، وعروة شاملة في الوحدة القومية.»
قلت: «من رأيك إذن أن يتمسك المسلمون بالقرآن ويتعلموا العلوم الطبيعية؟»
قال: «أولا ترى أن ذلك خير لهم؟»
إن المستر ولز على جانب عظيم من اللطف والذوق، فلا هو يحتكر الحديث ولا يبدي رأيه كأنه آية منزلة، وقد ظهر لي أنه لم يحط علما بالإسلام، وما ساح قط في بلاد إسلامية ليدرك الفرق الأساسي بين شعب انكليزي يعتصم طالبا الوحدة بالإنجيل وشعوب إسلامية مختلفة متعددة تعتصم بحبل الله وبكتابه للغاية ذاتها، فالشعب الإنكليزي أليف الفكرة العلمية الحرة وإن لم يكن متطرفا فيها مثل المستر ولز، وهذه الفكرة - أم التهذيب والعلم - التي تشترك بها الأمم الأوروبية الراقية تقي الإنكليز - في عودتهم إلى الإنجيل كرابط سياسي - من الرجعية، من التقهقر، بل من تجديد الحروب الدينية، أما الشعوب التي لم تعرف في تاريخها كله ولا في أدواره الباهرة مظهرا من مظاهر الحكم المدني البحت، والتي لا ترى في دنياها ما هو جدير بالنظر والاهتمام غير ما كان له صلة في الدين والآخرة، لا يخلوا رجوعها إلى كتابها تحقيقا للوحدة السياسية من أخطار التعصبات الدينية وأضرار النعرات المذهبية، والخطة المثلى لمثل هذه الشعوب - الخطة التي استحسنها بعدئذ المستر ولز وفضلها على الأولى - هي أن تسعى في تحقيق الوحدة الجنسية القومية لا الوحدة الدينية.
ولكننا وقفنا تلك الليلة عند هذا الحد في الموضوع، ووقفت أستأذنه بالخروج؛ لأن الساعة كانت الثامنة وما كان قد لبس ثوب المساء للعشاء، إلا أنني في الختام أثنيت على روايته الأخيرة التي طالعتها بسرور وإعجاب وهي في رأيي أحسن رواياته وأقصرها، ولها مقدمة هي من الإبداع بمكان، فقد تحرى في شكلها سفر أيوب. إلا أن المساجلة هي بين الله والشيطان فقط، وقد اختلق المستر ولز شيطانا جديدا له ذوق وأدب، وله كذلك إلمام بالعلوم وعلى الأخص علم النشوء والارتقاء، سأل الله الشيطان قائلا كما قال قديما في سفر أيوب: وماذا تعمل في الأرض؟ فأجابه الشيطان: أحرك فيها من أجلك.
قلت للمستر ولز: إني تشرفت بالتعرف إلى شيطانه وإني أعرف شيطانا آخر يشاطره الذوق والأدب، وهو فذ بين أقرانه، شيطان عربي، تلفيق أديب عربي: «هل قرأت في كتاب ألف ليلة وليلة قصة إبراهيم الموصلي ليلة كان أرقا ضجرا - ولكنني أؤخرك عن موعدك.» - لا، لا، قصها علي، الناس في واشنطون لا يتعشون قبل الساعة التاسعة.
فقصصت عليه قصة إبراهيم والشيطان الذي زاره نصف الليل، فقال المستر ولز ضاحكا: «حقا هو لطيف كريم، يغني للمغني ليسليه.»
فقلت مصححا: «بل ليعلمه أغنية جديدة.» - نعم، نعم، وعل الشيطان أن يعلم العالم عقيدة جديدة» ومد يده يصافحني فقلت: «وقد يكفي أن يحرك العقائد القديمة فتبخر ثم تصفى. مساء الخير.
وكذلك انقضت ساعة لذيذة مع المستر ولز، إلا أنه غاظني بعد أيام في مقال أشار فيه إلى «السوري المسلم» الذي زاره، وما زرته ليكتب عني، ولم أتمالك أن بادلته «الفضل» في مقال لي، وكان قد ألقى المسيو بريان خطابه الشهير في المؤتمر فاستشاط المستر ولز غيظا ونسي تعاليمه الاشتراكية والدولية كلها في ما كتبه في فرنسا ومطامعها، فلقبته إذ ذاك بالأممي
10
البريطاني، ولم نجتمع لا حربا ولا سلما في واشنطون بعد ذلك.
2
في صباح يوم من يناير اشتد برده كانت السيارات الجميلة تتقاطر نحو البحر في نيويورك، فتقف أمام مرسى إحدى البواخر الكبرى ويخرج منها الأميركيون رجالا ونساء وقد جاءوا من أقاصي الولايات المت حدة وأدناها، وهم إلى السياحة التي فطموا عنها مدة الحرب أشد شوقا من الصياد إلى الطير ومن الطير المسجون إلى الفلا. أضف إلى هذا النشاط وهذه الحالة النفسية بهاء في الملابس والأمتعة، وأثرا ظاهرا في الغنى، وأمثلة باهرة في الجمال، فيتجلى لك رهط السياح الأميركيين بما يبهج العين، ويلمس القلب، ولا يمس العقل إلا نادرا، يوقظ العواطف ولا يحرك فكرا، وهم خلاصة الناس يرحلون مدركين أهمية الرحيل وأهميتهم، يفرون من برد أميركا طالبين الشمس في مهدها، راغبين بنسمات السحر في ال «ريفيارا»، وبعليل الهواء في وادي النيل.
وكنت قد ودعت نيويورك ومحجتي غير محجة السياح، وفي صدري أمل غذته السنون وتعهدته الحوادث، فما تلفتت مني لا العين ولا القلب عندما أبحرت «الأدرياتيك» ومرت بتمثال الحرية، كنت وحدي، ولم يخطر قط في بالي أن سألقى بين ذاك الرهط الفخم أحدا أعرفه، ولكني وأنا سائر إلى غرفتي التقيت على الدرج برفيق المؤتمر المستر ولز، وكان قد ودع واشنطون مثلما ودعت نيويورك وفي نفسه من المؤتمر ومن مهمته الصحافية ما أفصح عنه الوجه تعبا وضجرا، ولا غرو إذا كان قد سئم السياسة وراح يطلب زاوية في بلاد الله يفوز فيها بالعزلة وبشيء من النزهة.
قلت إن ظاهر المستر ولز لا يدل على حقيقة أمره، فهو أشبه بالتاجر الغني منه بالمؤلف والفيلسوف، ومع أن كلمة يكتبها اليوم يردد صداها في العالم المتمدن كله، ومع أن نفوذه الأدبي والسياسي أشد من نفوذ كثيرين من ساسة أوروبا، فهو على جانب عظيم من البساطة والاتضاع، لا تكلف في لبسه، ولا في حديثه، ولا في سلوكه، يعتزل الناس إلا ما كان فيهم من حسن الوجوه وحسن القدود، وهو من رسل الإطلاق في الحب بل الإطلاق في أمور عديدة من الحياة الدنيا، إلا أنه لا يطارد على ما علمت ولا يصول، قال لي أحد المسافرين وكان كرسيه إلى جنب كرسي: «يقال إن في نية المستر ولز أن يكتب لنا إنجيلا جديدا، فيا لها من مصيبة.»
وعندما أخبرت المستر ولز بخوف جاري وتشاؤمه قال ضاحكا: «بل أحب أن أصحح أو أعيد كتابة بعض فصول من التوراة.» ليس الرجل لامعا في حديثه ولا يجيء بالنكتة أو بظريف الجواب إلا نادرا، وإن ما فيه من الإخلاص والرصانة، والحصافة والاستقامة، ليشفع حتى بالمبتذل أحيانا من آرائه، ولكنه في حديثه مع السيدات أبرع منه مع الرجال، وعنده شيء من المجون الإنكليزي الذي أشبهه بمن يلبس نعلا من الكوتشوك فلا تسمع إذا زارك وطء قدميه، لا أريد بذلك أن مجون المستر ولز خداع غدار يجيئك من حيث لا تدري، بل هو من النوع الذي تسرك إشارته ولا يسوءك صوته، وكان لي منه حظ يذكر بالرغم عمن كان يميل إليهن من السيدات ومن يحمن منهن حوله، فكنت أحتفظ كل يوم بأثر من نفسه وبشيء من حديثه، وقد كان لنا جلسة ذات يوم طويلة تبادلنا بعدها التآليف وكتب هو على كتابه: «إلى أمين الريحاني، بعد حديث مستحب في مواضيع هذا العالم - عالمنا.»
وفي ذاك اليوم بعد ذاك الحديث سألتني إحدى السيدات: «وهل من صحة لما يقال من أن للمستر ولز أربع زوجات.» فقلت: «هو يعجب بالمسلمين ولكنه على ما أظن لم يعتنق حتى الآن الإسلام»، فأجابت على الفور: «ليس من الضروري أن يعتنق الإسلام.» وفي جوابها ما يشير إلى باب من أبواب النهضة النسائية الحديثة في أوروبا وأميركا، فإذا وصلت إلى الباب تقرأ ما كتب فوقه وهي كلمة واحدة: المساواة.
وللمستر ولز في فلسفة الزواج الجديدة أسهم عديدة، منها ما يشق كبد الاصطلاحات، ومنها ما يصيب كبد الحقيقة، ومنها ما يرمى في الهواء فلا ندري أين يقع وماذا يصيب، إلا أن سلوكه في الحياة لينطبق على مبادئه وتعاليمه، أي: أنه مطلق الحرية والتصرف في انتسابه السياسي مثلا وفي اختياره الجنسي، وهو وإن كان له أكثر من زوجة واحدة - ليس لي أن أثبت الأمر أو أنفيه - لا يدعي العصمة ولا النبوة، وهو وإن كان اشتراكي المبدأ، لا يحترم كارل ماركس مثلا ولا يحتقر لويد جورج، ولا يرى في ضيافة الأغنياء ما يراه الشيوعي القصير النظر.
إن التعصب الأعمى لمن الآثار القديمة، والمفكر المهذب الحصيف يسير مع الزمان وأبناء الزمان مواليا في ما لا ضر فيه، ولا يطلب من الناس غير الصدق في القول، وكرم الأخلاق في العمل، وحسن الذوق في الاثنين، وقد يقتنع أحيانا بحسن الذوق فقط. ألا ما أسخف الرجل الذي يفاخر دائما بماله أو بدينه أو بمذهبه السياسي وما أثقله، إن أهم ما في الحياة الناس، ومن يحفظ التوازن بين شئون الناس وقضايا الحياة كلها إنما هو صديقنا الأكبر ومعلمنا، بل هو من المحسنين إلينا.
ولا أبالغ إذا قلت: إن المستر ولز من هؤلاء الأفراد القلائل في العالم، فما ضره إذا لبس مثل التجار الأغنياء ونام في كرسيه على ظهر الباخرة مثل سائر الناس - وغط كذلك - وما ضره إذا لعب بالورق مع السيدات؟ إنه طالب راحة ونزهة، وهل في كل الجمال البشري ما يرتاح إليه المرء ارتياحه إلى وجه جميل وابتسامة جميلة؟ فضلا عن أن الروائي يرغب دائما بالحياة على اختلاف مظاهرها، يبحث دائما عن موضوع، عن عروس، عن حادثة - غريبة أو جديدة - لرواياته.
حدثني ذات يوم مراسل إيطالي كان معنا في مؤتمر واشنطون وكان في الباخرة، وهو شاب جميل، نقطة دائرة من الأوانس باهرة، قال ينتقد كتاب المستر ولز «موجز التاريخ» إن الفصول المختصة بتاريخ إيطاليا مفعمة بالأغلاط والمقدسات الفاسدة، ولا يدرك ذلك إلا المؤرخ الإيطالي ومن كان متضلعا بتاريخنا، إنما المستر ولز روائي لا مؤرخ، فقلت: إنه أكثر من روائي وأكثر من مؤرخ، هو فيلسوف ومصلح وحكيم. والمؤرخ غالبا عقيم وإن اجتمعت فيه مزيتا الفلسفة والحكمة؛ لذلك نفضل تاريخ ولز بما فيه من الأغلاط على تواريخ لا أغلاط فيها ولا حياة، أما النوع الأول أي: الخالي من الأغلاط فغير موجود والنوع الثاني نادر جدا، وقد لاحظت أن في فصول أخرى غير التي أشار إليها الكاتب الإيطالي قرب المستر ولز من الحقيقة ولكنه لم يفز بها، وعل إشارة خير من عبارة.
انتقلت ومحدثي من التاريخ إلى الفنون، وبينا كان يتكلم عن النهضة الفنية الحديثة في إيطاليا وثبت منه نظرة أوقفت الكلمة على لسانه، فغير الحديث هاتفا: «لله هذه الفتاة، أتعرفها (وكانت قد مرت بنا أجمل فتاة في الباخرة) هي ابنة السيدة التي تجلس إلى المائدة قرب المستر ولز، وهو حتى الآن لم يعرفني بها، أكذلك يكون المؤرخ الحقيقي؟» فتأكدت عندئذ أن حسد الكاتب هو حسد القلب، لا حسد الأدب.
3
ليس للمستر ولز خطة اشتراكية أو طريقة عملية لإصلاح العالم، فهو اليوم اشتراكي علما لا اشتراكي عملا، وقد يقبل الهيئة الاجتماعية والسياسية الحاضرة بما فيها من المنكرات إلى أن يحدث حادث يقلبها بطنا على ظهر، وإنه في ما يكتب يمهد السبيل لمثل ذا الحادث بل يستسرع يومه، وله في المستقبل نظرات هي في الغرابة مثل نظرات المستر برنارد شو، إلا أن لها هالة علمية وفيها لب النشوء والارتقاء. في المستر ولز سلامة ذوق يتخلله شيء من المجون، وفي المستر شاو مجون يتخلله شيء من سلامة الذوق.
قلت للمستر ولز: «إذا كان الحب المطلق والأسرة كما هي اليوم يتناكران ويختلفان فأيهما تنبذ، بل أي منهما أنت تنصر؟» فأجاب قائلا: «لا بد للقائل بالحب المطلق أن يتنازل عن بعض أشيائه لكي تصان الأسرة في حالها الحاضر إلى أن يصير أمرها إلى الحكومة فتؤسس دائرة خصوصية تتولى شأنها.»
ولو سألت المستر شاو هذا السؤال لقال لي: «إذا كان القائل العامل بالحب المطلق ذكيا يشتري للأسرة، التي يهمه أمرها، سيارة من سيارات الحرب، وإذا كان قويا ينصب لها - بدون مقدمات - المشنقة.»
غني عن البيان أن نتيجة مبدأ المستر ولز الحاضر تضر بصالح الفرد وتحول دون نشوئه النفسي والعقلي، بل هي تناقض تعاليمه الأساسية في الاجتماع، وهو يدرك ذلك ولا يعتذر عنه، قال الشيطان للرب: «إني أحرك في العالم من أجلك ولخيرك»، وفي بستان المستر ولز الأعشاب السامة، والنباتات الطبية والزهور كذلك والثمار، وهو يفتح لك الباب قائلا: أهلا وسهلا، ولكنه لا يرافقك دليلا، ولا يعترض إذا اقتديت بشيطانه وكنت في البستان صاحب حركة فتخلط الأعشاب بالزهور، لعلك تهتدي إلى حقيقة جديدة من حقائق الوجود، ولعل السم في هذا العشب مثلا يزيل المرض في تلك الشجرة.
وهناك مبادئ أخرى أساسية في النشوء والعمران، منها مثلا: أن الإنسان لا يزال مصعدا ولم يصل إلى آخر درجة من سلم النشوء والارتقاء، وأن الأوروبي - فردا لا اجتماعا - لا يزال خاضعا للناموس الطبيعي القائل ببقاء الأنسب وصالحا للعمل به، ولم يصل - كما يظن بعض العلماء - إلى القنة التي يختنق عندها إذا لم ينكس راجعا، فالمرء والمدنية من هذا القبيل جسمان مستقلان.
قال المستر ولز: «إننا في بداية أمرنا في الاكتشاف والعلم، ولا نزال قيد الأوليات في استخدامنا المبادئ العلمية في الحياة وعلى الأخص في أساليب البحث والجدل، ومن الحقائق التي لا تحتاج إلى برهان أن كل ما كان من ارتقائنا في الماضي ليس هو اليوم كما كان، حكوماتنا، وعلومنا، وطرائق الحرب، تغيرت كلها، فهل يعقل أنها ستبقى على ما هي اليوم بعد خمسماية سنة؟ أما إذا قلت: وألا تتغير من الحسن إلى السيئ أو من السيئ إلى الأسوأ؟ أجيبك: كلا؛ وذلك لأن نشوء الإنسان هو من السافلات إلى العاليات ومن السيئ إلى الحسن دائما.»
وهو يرتئي كذلك أن مبدأ النشوء والارتقاء الذي ظهر وتعزز في الشعب السكسوني سيؤهل هذا الشعب أيضا للعمل الأكبر في تكييف مصير العالم ومستقبله، وما هو بالغريب أن تحاول أمة تسود العالم بواسطة مبدأ علمي اكتشفه علماؤها، ولكننا نخشى - ويحق لنا أن نخشى - مثل هذه السيادة إذا كانت غير مدعومة بمبادئ اجتماعية شريفة، وتعاليم روحية سامية. «أقول - وعسى ألا تظن قولي غرورا: إن أميركا وانكلترا تتقدمان الأمم في سبيل الارتقاء، وتهديانها إلى حكومة العالم المستقبلة، الحكومة الأممية.»
لذلك دعيت المستر ولز «الأممي البريطاني» وهو بشر مثلي ومثلك لم ينتصر بعد على عوامل الوراثة فيه، ولن تتنصر روحه في الجيل الثاني أو الثالث من ذريته على نواميس هي في سيرها ونشوئها وزوالها بطيئة جدا، والبرهان على ذلك، خذه من مبادئ المستر ولز ذاتها، بل من التعاليم الدروينية، وهو يحاربك بها، ولكنه يعتقد أن الحرب حتى بين حقائق الوجود تجلي الحقيقة الكبرى في المثل الأعلى وتقربها من الناس، «فإذا كنا غير مستعدين اليوم للمثل الأعلى في الحكومات فينبغي لنا أن نقبل المثل الذي يدنو منه وهو الحكم الإنكليزي، وهذا مثال من المجون الذي يحسنه المستر ولز.»
لكنه لا يريد بالحكم الإنكليزي - كما يتبادر للذهن - الاستعمار أو الانتداب، بل يريد التشبه، الاقتداء، الاقتباس، «إذا كنا أحسنا أمرا فلكم الثمرة ولنا، إذا كان دستورنا مثال العدل والحكمة فخذوه دستورا لكم. إن في الشرق الأقصى اليوم نهضة نحن مديونون بها لأميركا، فقد خطونا في مؤتمر واشنطون خطوة كبيرة نحو الحقيقة الكبرى في الاجتماع وفي السياسة، أجل، إن الفضل لأميركا في طرح المسألة الصينية على بساط البحث وحمل الدول على اتفاق أساسي بخصوص الصين، وجوهر هذا الاتفاق - كما تعلم - هو أن المساعدة لا تكون في أن تدخل الدول الأوربية إلى الصين حاملة الإنجيل بيد وبرنامج التجارة باليد الأخرى، بل المساعدة هي أن نخرج من تلك البلاد، ليس إلا، وقد تم في مؤتمر واشنطون ما كانت الدول تخشاه، فقد أقرت الدول أن تخرج تدريجيا من الصين، كل بلاد لأهلها.»
وهذه من المبادئ التي لا يستطيع المستر ولز اليوم إلا نصرها، لهو وإن كان أمميا يدرك أن لا بد من حكومات في الشرق تتقدم الحكومة الأممية التي يبشر بها ويدعو إليها، الوجود قبل العدم. فيجب أن تظهر الحكومة الوطنية في الشرق قبل أن تزول، وستكون الصين أول الأمم الشرقية الكبرى المتمتعة بحكومة وطنية، فهل تكون أول الأمم الشرقية التي تنبذها؟ يقول المستر ولز: لا أدري، ولكنه متأكد أن الوطنيات ستعم الشرق كله، فتنتقل من الصين إلى الهند ومن الهند إلى بلاد العرب. - «وستكون سوريا آخر مراحل الوطنية في سياحتها الغربية؟» - «كلا، على السوريين أن يبدءوا بالجهاد، فالنهضة إذا بوشر بها في طرفي الشرق - الأدنى والأقصى معا - تكون أسرع في سيرها ونجاحها.» - «وما قولك بمصر؟» - «إني من أنصار المصريين في الاستقلال إذا استثنينا منه ترعة السويس، فلا يجب أن تستولي على الترعة دولة واحدة من الدول؛ لأنها ممر عمومي في طريق التجارة والأسفار التي تصل الشرق بالغرب، ويجب أن تكون - والحال هذه - في يد حكومة أممية، أو حكومة مؤلفة من دول العالم الكبرى. حكومة تكفل حياد الترعة وشيوعيتها وتحميها، أما الدول الصغيرة فلا تنفع إذا اشتركت بهذا الحكم، وقد تضر، فهي غالبا تبيع أصواتها في تقرير الأمور، نعم، يحق لمصر أن تكون من الدول المسيطرة على الترعة، وما خلا ذلك فأنا قلبا وقالبا نصير استقلالها التام.» - «أولا تظن أن في استطاعة مصر أن تحمي الترعة؟» - «ليست المسألة في نظري مسألة حماية فقط، أنت تعلم أني أنصر المبدأ الذي يقول بالاستيلاء العام على طرق التجارة والأسفار العمومية في العالم بأسره، وما نفع المبادئ إذا ظلت إلى الأبد في العقل والخيال، ينبغي أن توضع موضع العمل، ولا بد لكل عمل من بداية.» - «وهل تطلب العمل بذا المبدأ في ترعة باناما أيضا؟ وكيف يمكنك أن تنفذه؟» - «نعم، إن النظريات والمبادئ خاضعة مثل كل أمر من أمور الحياة لناموس النشوء والارتقاء، فإذا بدأنا في مصر ننتهي في أميركا.» - «ولكن لمصر - كما لسائر الأمم - الحق الأول، الحق المطلق، في أرضها.» - «لا يحق لأمة من الأمم أن تملك أرضا لا تستثمرها ولا تدع غيرها أن يستثمرها، وعلى هذا القياس أقول أيضا لا يحق لأمة من الأمم أن تستولي وحدها على طريق عامة من طرق العالم وتقفلها يوم تشاء دون من تشاء من الأمم، زد على ذلك أنها لا تستطيع - وهذا أشد ضررا - أن تحميها في زمن الحرب.»
ولا يختلف رأي المستر ولز في الأمم الشرقية، إذا جردناه من المبدأ الاشتراكي، عن رأي بعض الأحرار من السياسيين الأوروبيين، فهم رغم عطفهم على الشرقيين، لا يثقون بهم حتى الآن الثقة التامة، «ليكن لهم الاستقلال السياسي»، يقول السياسيون والمستر ولز أيضا: «ليتمتعوا بالحكم الوطني، وليتعلموا أثناء ذلك العلوم التقنية والميكانيكية والاقتصادية، وإذا كانوا لا يجيئون إلى أوروبا لهذا الغرض، ليكن لنا حق التعليم في بلادهم.» قلت: «وهل تظن أن هذه العلوم تكفي لتقدم الشرقيين ورقيهم؟»
فأجاب على هذا السؤال وهو يذكرني بكلمة قلتها في واشنطون إذ سألني أحد المراسلين الشرقيين: ما هو دينك؟ فقلت: لا دين لي اسما ورسما، ولكني أعتقد بالله أبينا أجمعين، وأعتقد كذلك بالإخاء البشري.
فقال المستر ولز - مجيبا سؤالي: أضف إلى العلوم دينك هذا، ولا أظن أن أمة من الأمم تحتاج أكثر من ذلك - إذا عملت به - لرقيها وعمرانها.
سوريا ولبنان
لا شيء بلا شيء
حقوق الشعوب الصغيرة، حرية الشعوب الصغيرة، استقلال الشعوب الصغيرة؛ كلمات يرددها اليوم السياسيون والمصلحون في العالم المتمدن، ويردد صداها زعماء الشعوب الصغيرة وكتابهم دون أن يدركوا أسبابها ويتدبروا معناها. ونحن السوريين من هؤلاء الشعوب وفينا من مرددي الصدى كثيرون، منهم المتحمس السليم النية الذي يقيس أمور بلاده بأمور بلاد أقام فيها وجهل تاريخها وتقاليدها، ومنهم الشاعر الناثر الذي يظن أن الكمالات في نظم القصائد وتحبير المقالات، ومنهم الصحافي الذي لا يهمه من الوطنية والاستقلال إلا ما جاء منهما في شكل الدينار، ومنهم التاجر الذي يجهل حتى تاريخ بلاده ولا يعلم من حوادث الماضي والحاضر إلا ما تنشره وتمسخه الجريدة التي يطالعها. وكلهم وطنيون إما قلبا وإما قالبا فقط، كلهم على اختلاف نزعاتهم وتباين مقاصدهم، ينشدون الحرية ويطلبون الاستقلال.
وقد فاتهم أن لا شيء بلا شيء، لا شيء مجانا.
حقوق الشعوب الصغيرة، حرية الشعوب الصغيرة، استقلال الشعوب الصغيرة. مليح. على الرأس والعين، وقد طالما بشرنا بهذه المبادئ وطالبنا بها بين قومنا في الوطن - حتى في عهد عبد الحميد - وبين الأميركيين في هذه البلاد، ولكنه، وإن أكبرنا نظرية فيها الحقيقة، لا يفوتنا عملية فيها حقيقة أخرى، فمن النظريات التي نعتقد بها ونثبتها في الناس باللغتين العربية والإنكليزية أن ينبغي أن يكون للشعوب الصغيرة ما للشعوب الكبيرة من الحقوق المدنية والسياسية والدينية والاجتماعية.
على أنه إذا طالعنا التاريخ وتدبرنا مغزاه يتضح لنا أن الشعوب الكبيرة إنما نالت حقوقها بالسعي والجهاد، بالعلم والتهذيب، بالتضحية والمفاداة، وأن لها من القوة المادية والمعنوية ما يمكنها من حفظ هذه الحقوق والدفاع عنها عندما تهضم أو تمتهن، أجل، قد نالت حقوقها بالسيف وصانت حقوقها بالسيف، هذا ما يعلمنا التاريخ، هذا ما تعلمنا حوادث اليوم، بل هذا هو معنى الحرب الحاضرة.
وما كان في الماضي بالنظر إلى هذه الأصول الاجتماعية والوطنية سيكون أيضا في المستقبل، فكيف ننال حقوقنا نحن السوريين؟ أنظن أنها تجيئنا مجانا من هذه الدولة أو من تلك الأمة؟ أنظن أنها تهدى إلينا لوجه الله أو من أجل الإنسانية والمبادئ الدموقراطية؟ لا شيء بلا شيء، لا شيء مجانا، الحرية لا تشرى إلا بالدم، الاستقلال لا ينال إلا بالتضحية.
إذا طلبنا الحرية والاستقلال إذن فبالسيف ينبغي أن نطلبهما، وإذا تم لنا ذلك فبالتهذيب والوحدة الوطنية نحافظ عليهما، قف معنا عند هذا أيها القارئ ... إننا لا نكتب شغفا بالكتابة ولا نتحرى في ما نكتبه مجرد الألفاظ الرنانة والتنميق الفارغ. إن في كل كلمة فكرا نريده ونحب أن نقدمه جليا للقراء، قلنا بالسيف ينبغي أن نطلب حريتنا، أما إذا طلبناها اليوم بغير السيف، إذا طلبناها بالكلام، بالكتابة، بالعرائض، وإن كنا متحدين في ما نطلب، فلا ننال منها إلا شبه الحرية. أي: الحرية الناقصة المقيدة بإرادة من ساعدونا لننالها والمقيدة كذلك بمصلحتهم السياسية، وهذا معقول؛ لأن الطبع البشري وإن تغيرت الحكومات لا يتغير، ومن الحقائق الطبيعية أن كل شيء بين الناس وبين الأمم متبادل، لا شيء بلا شيء، لا شيء مجانا.
أنت مثلا مظلوم، وظالمك أقوى منك، فلا تستطيع وحدك أن تنال حقك منه، ترى نفسك بين أمرين، الطاعة أو التمرد، فتعيش في الحال الأولي عبدا وقد تموت في الثانية حرا. أما إذا أحببت أن تعيش حرا فتستعين على الظالم بجارك القوي، فيقول لك الجار: يدي ويدك عليه، فإذا قلت: لا أستطيع أن أقاتل، يقول هو في نفسه سأقاتل إذا عنه وأتقاضاه من عمله وحريته شيئا لقاء ما سأبذله في سبيله. وقد يقول لك: سأقاتل إذا عنك من أجل الإنسانية، فتقول: نعم الجار، لو لم يكن دمي من دمه لما كان يقاتل عني ليحررني من ربقة الظلم. ولكن الحقيقة هي أنه لا يقاتل عنك إلا إذا كان له غرض فيك.
هذا كلام صريح يفهمه من يقرأ ولو ماشيا، ونحب أن يتدبره السوري ويجرد نفسه من الأوهام، لا شيء بلا شيء يا أخي، لا شيء مجانا.
لننظر إذن في الحال التي نحن فيها الآن، نحن كأمة محرومون حريتنا واستقلالنا، حريتنا بيد الأتراك، واستقلالنا بيد الدول المتحالفة، فهل نستعيد حريتنا بمجرد أن نطلبها من الأتراك؟ وهل ننال استقلالنا بمجرد أن نطلبه من الدول؟ هذا غير معقول.
أما إذا وعدتنا دولة من الدولة بحريتنا واستقلالنا ودعتنا إلى الجهاد معها في هذا السبيل فهل تظنها تفعل ذلك إكراما لسواد عيوننا؟ تركيا عدوة الأحلاف اليوم فمن مصلحتهم أن يتغلبوا عليها، أن يسحقوها، ومن مصلحتنا كذلك، ولكن إذا جاءتنا الحرية بهذه الطريقة السلبية فلا نحن مستحقونها ولا نحن نستطيع أن نحافظ عليها، والحقيقة أنها لا تجيئنا صافية تامة إلا إذا كان لنا يد في الجهاد في سبيلها.
علينا إذن أن ندعو إلى التطوع، وعلى القادرين منا أن يتطوعوا في الفرقة الشرقية، ذلك لأن الفرقة الشرقية وإن تكون إفرنسية فهي مؤسسة باتفاق خصوصي بين فرنسا وحليفاتها، ونحن ممن يعتقدون بصحة هذا المشروع، بوجوب هذه الحركة، بقداسة هذا الواجب، نحن ممن يدعون السوريين إلى التطوع؛ لأن التطوع اليوم إنما هو الخطوة الأولى إلى تحريرنا وتحرير بلادنا، بل الخطوة الأولى نحو استقلالنا التام في المستقبل.
التطوع لازم إذا كنا نريد حرية واستقلالا، التطوع لازم إذا كنا نريد أن نكون أمة من الأمم الراقية المتمدنة، التطوع لازم إذا كنا نحب أن نتحرر من ربقة الظالمين السفاحين. التطوع لازم إذا كنا نتوقع ممن ساعدنا من الدول أن تشاركنا بثمار النصر على العدو، التطوع لازم إذا كنا ندرك الحقيقة الأولية في التعاون والتضحية، التطوع لازم إذا كنا نريد أن نكون أسياد أنفسنا وأصحاب الرأي والعمل في شئوننا، وإذا كنا لا نضحي بشيء في سبيل حريتنا فلا نحن نستحقها ولا هي تليق بنا، إذا كنا لا نفادي بأنفسنا في سبيل الوطن فلا حق لنا به ولا حق لنا أن نعترض على من يحررونه ويعمرونه.
نيويورك، في 10 تشرين الأول، سنة 1917
لنا ولكم
لا غنى للأمم بعضها عن بعض وبالأخص المتجاورة منها، وما من أمة مهما عظم شأنها تستطيع أن تعتزل العالم فتقول لبقية الأمم: لا حاجة لي بكن ولا حاجة لكن بي، فالتبادل سنة الاجتماع، والتعاضد سنة العمران. قد كان للصين سور هدمته التجارة، وقد كان للشرق نطاق من التقاليد والخرافة قوض التمدن قسما منه كبيرا.
الأمم والشعوب في حاجة بعضها إلى بعض، والتعاون والتبادل من سنة الرقي والنجاح، أجل، وسيكون لهذه السنة بعد الحرب شأن عظيم، سيكون لها من المكانة والنفوذ ما لم يكن لها قبل الحرب، كيف لا والمخلصون النزيهون من المصلحين ينادون اليوم بالاتفاق الدولي وبالتحالف العام؟ لا يضر التضامن بالاستقلال بل يساعد في تعزيزه، ذلك لأن الاستقلال الذي يضرب نطاقا وهميا أو سياسيا أو تجاريا على أمة ما لا يلبث أن يتلاشى بتلاشي قوى تلك الأمة وخيراتها.
الشعوب لا تحيا إلا بمبادلة ثمار سعيها، والأمم لا ترتقي إلا بمبادلة ثمار العلم والعمل فيها، فإذا كانت هذه سنة العمران بين الأمم المستقلة بعضها عن بعض، حكما وسياسة، فكيف بها بالشعوب التي هي من دم واحد وقطر واحد ولغة واحدة؟
السوريون من الشعوب المستضعفة وهم لذلك في أشد حاجة إلى التفاهم والاتحاد، إلى التعاون والتضامن، لا حياة لنا إذا تقسمنا وتجزأنا أحزابا وطوائف، مذهبا وعصبية، بل في انقسامنا واعتزالنا بعضنا بعضا موت الوطنية التي لم تزل في المهد، في انقسامنا باب لاحتلال أجنبي لا حد له ولا شروط تقيده، وقد حان لنا أن نفهم ذلك.
فينا اليوم فريقان بل حزبان، حزب رسم دائرة صغيرة وقال: هذي هي بلادنا، هذي هي دائرتنا، وكل من كان على غير مذهبنا هو خارج الدائرة، وحزب رسم دائرة كبيرة حول الدائرة الصغيرة وقال: هذي هي بلادنا، وهذي دائرتنا تضم دائرتكم وتصونها. أصحاب الدائرة الأولى يقولون: لنا وحدنا. وأصحاب الدائرة الثانية يقولون: لنا ولكم. الدائرة الأولى لبنان، والدائرة الثانية سوريا. الأولى رمز لمبدأ النهضة اللبنانية، والثانية رمز لمبدأ الوحدة السورية.
فأي المبدأين أصح أيها القارئ؟ وأي المبدأين تعتنق؟ المبدأ الثاني مبني على الفكرة الاجتماعية السديدة أن لا حياة للشعوب الصغيرة المستضعفة إلا بالاتحاد، بالتعاون والتضامن، والمبدأ الأول مبني على الفكرة الطائفية التي لا ترى الحق في غير الاعتزال، والتي أمست عند الأمم المتمدنة ضربا من التقليد أو أثرا من الآثار.
المبدأ الثاني مبني على السنة الأساسية لا شيء بلا شيء، فإذا ساعدنا من يرغب بتحريرنا من ذوي الصولة والاقتدار ننال الصافي من غايتنا، وإذا ترددنا وانقسمنا وتفرقنا فلا ننال من حريتنا إلا ما تمنحنا إياه الدولة المتغلبة أو ما تراه موافقا أولا لمصلحتها. أما مبدأ أصحاب الدائرة الضيقة الصغيرة فمبني على وهم أن فرنسا مثلا تساعدنا وإن كنا لا نحرك ساكنا في سبيل أنفسنا، وأنها تمنحنا حريتنا واستقلالنا - هذا إذا فازت بطرد العدو من بلادنا - حبا بتقاليد قديمة طوى ذكرها الدهر، أو إكراما للصليبيين، لا أظن السوريين يؤخذون بمثل ذا التمويه.
لا شي بلا شيء - كما قلنا في مقال بنا سبق - والحقيقة التي ينبغي أن تكون فوق كل مصلحة وكل سياسة هي: أن فرنسا تبتغي من بلادنا شيئا لقاء ما ستضحيه في سبيلنا ، وهذا حق لا ينكره إلا المكابر أو الدجال، لنفرض إذا أن اللبنانيين استقلوا استقلالا تاما تحت رعاية فرنسا - كما يزعم المضللون - فماذا في لبنان من وسائل العمران التي نستطيع أن نبادل فرنسا بها لقاء رعايتها؟
إي أصحاب الدائرة الصغيرة، أصحاب الفكرة البدوية العقيمة، إي إخواننا القائلين بمثل هذه اللبنانية، كيف نصون ديارنا ونحمي ذمارنا إذا اعتدى الجيران علينا؟ بل كيف نحافظ على استقلالنا إذا حاولت الأكثرية في سوريا وهي من المسلمين أن تنزعه منا؟ بل قولوا لنا كيف نصون حدودنا البرية والبحرية؟ أبأسطول فرنسا؟ أبجنود فرنسا؟ وهل يعقل أن فرنسا تبذل من مالها ودم أبنائها في سبيل استقلالنا لمجرد كوننا من سليلة الصليبيين - كما يزعم الزاعمون؟ أيظن الناس أننا على هذا المقدار من السذاجة؟ لنجرد أنفسنا من الأوهام، لنقلع ساعة عن التضليل والتدجل، ولنفكر في معنى الاستقلال تحت رعاية فرنسا أو غيرها من الدول.
نحن في زمن ساد فيه مبدأ الاقتصاد وعلت على كل نزعاته المصالح الصناعية والعمرانية والمالية، فإذا كانت فرنسا أو غيرها من الدول ترغب في بسط حمايتها على شعب من الشعوب فلا تباشر في تحقيق رغبتها إلا إذا كان في بلاد هذا الشعب أبواب لمشاريع صناعية، ومصادر تجارية واقتصادية، تقوم بنفقات هذه الحماية أو في الأقل ببعضها، هذا من أصول الحماية أو الاحتلال أو الاستعمار، ولا يخفى علينا أن فرنسا بعد هذه الحرب تكون في حاجة إلى المال شديدة، وكفاها ما في بلادها من الأرض الخراب والمدن المتهدمة التي يجب ترميمها وتعميرها، فهل تظنها أيها الأخ اللبناني تنفق من فضلاتها علينا وعلى بلادنا إكراما لسواد عيوننا أو إكراما لكوننا - كما يزعم الدجالون - من سليلة الصليبيين؟
لا شيء بلا شيء، لا شيء مجانا. مبدأ قويم سديد لا ينكر صحته إلا الجهلاء أو المضللون، وإذا بسطت فرنسا حمايتها على بلادنا فلا مشاحة أن سيكون لها يد كبيرة في تعمير البلاد واستثمار موارد الرزق فيه لتنفق منها على ما تقتضيه الحماية من النفقات. وهذا عدل؛ لأننا إذا كنا عاجزين اليوم عن نيل حريتنا واستقلالنا وحدنا، وإذا كنا راغبين في أن تبذل دولة من الدول شيئا من قواها في سبيلنا، فالتبادل بالمنافع واجب، وإذا كانت بلادنا خالية مثلا من سبل العمران ومصادر الرزق فلا يغرننا أن الدولة التي ستساعدنا تمنحنا حرية خالصة من كل شائبة، وتهبنا استقلالا تاما صافيا لوجه الله.
لذلك نقول: إن الفكرة اللبنانية، بل الفكرة القومية الطائفية، هي فكرة قديمة عقيمة، هي لو عمل بها اليوم ضربة قاضية علينا، فقد كانت سبب تقهقرنا وبلائنا في الماضي، وستكون إذا سادتنا سبب تقييدنا في المستقبل، ولكننا واثقون بتعقل المستقلين رأيا وعملا من اللبنانيين، فسينبذون - ولا شك - هذه الفكرة آجلا أو عاجلا وسينبذون كل من بشر بها إما جهلا وإما تضليلا.
وايم الله، ليس أحد أشد غيرة منا على لبنان، وليس أحد أشد رغبة منا في أن يكون للبنان استقلال نوعي على شكل ما كان له في الماضي، بل أبعد قصدا من ذاك النظام وأمتن أساسا. فنحن ممن يطالبون باستقلال محلي لا يخرج عن الرابطة الوطنية، فيكون لنا الحق مثلا أن ننتخب والينا أو متصرفنا منا ويكون لأهل الشام وأهل حلب وأهل فلسطين نفس الحق ونفس الاستقلال. ولكننا نكون كلنا مرتبطين بالرابطة الوطنية، خاضعين لحكم وطني وحاكم عام، عاملين بسنة التضامن والتعاون التي هي سنة الاجتماع وسنة العمران.
لبنان، لبنان! قد زهدنا إخواننا السوريين بلبنان، كأن لأهل لبنان حقا لا حق به لغيرهم من السوريين، يا لها من عصبية تذل، يا لها من لبنانية ضيقة، إن السوري أخي والمسلم أخي، وإن الحق الذي أتمتع به وحدي ليضعفني أدبيا؛ لأنه يثير المحروم منه علي فيضطرني إلى أن أقاتله ظلما وعدوانا.
سوريا واحدة لا تتجزأ، فإذا نال السوري حريته ونوعا من استقلاله يشمل ذلك اللبناني والفلسطيني، المسيحي والمسلم والدرزي على السواء. والذي يخاف من مثل هذه المساواة هو ضعيف عاجز لا ثقة له بنفسه، ولا هو أهل للحرية ولا الاستقلال.
وإذا كانت فرنسا لا تستطيع أن تبسط حمايتها على سوريا كلها فهي لا تبسطها على لبنان وحده، والمستقبل شاهد على ما نقول.
1
بين شاعر وعالم
في صفحة واحدة من «مرآة» اليوم قصيدة ومقال يستحقان الذكر والإعجاب، أما القصيدة فلصديقي الشاعر أبي ماضي، وهي من جميل شعره مبنى ومعنى، إلا أنه يندب فيها آماله الغوالي وأحلامه الحسان.
وأما المقال فلصديق آخر اجتمعت به لأول مرة في باريس وقد استصحبه والده ليلقي عليه درسا من لوح الوجود في التمدن الغربي وما فيه من محاسن وآفات، فشمت في زيدان الصغير حينئذ نفسا سماعة، وفكرة واعية جلية، وهو اليوم صاحب الهلال يعالج في المقال الذي نقلته «المرآة» موضوع اليوم، فيبرهن بأجلى حجة على وجود الوحدة السورية الجغرافية والقومية.
القصيدة «زهرة من أقحوان» إنما هي أنشودة يأس تطرب وتحزن، والمقال «سوريا على مفترق الطريق» إنما هو نبراس علم ينير ولا يثير، وفي هذا كما في تلك وطنية صادقة صافية لا أذناب لها، ولا غبار عليها، على أن في القصيدة - كما في المقال - شائبة تعد نقصا في نظر أولي النهى والعرفان.
صاحب الهلال الشاب يحذو حذو أبيه في الإنشاء والتهذيب، فلا يمس في مباحثه الشخصيات شأن العالم الحقيقي، ولكنه يتحاشى حتى التقية الإساءة إلى أحد من الناس، أو إلى حزب من الأحزاب، أو إلى طائفة من الطوائف.
بحث في المقال الذي نشرته «المرآة» في الوحدة القومية بحثا علميا فوقف فيه عند حد المزالق والأخطار، ولم يبد لنا رأيا في حل مشكل المشاكل السورية، ولا أشار إشارة إلى طريقة ما تمكننا من التوصل إلى الوحدة القومية. ولعله كتب مقالا آخر لم أطلع عليه يدلنا فيه - بعد أن وصف الدواء - إلى من يحسن تركيب أجزائه، على أنه أكد لنا في مقاله هذا أن «ليس من شأن الهلال خوض ميدان السياسة التحزبية»، والسياسة اليوم لا التهذيب قابضة على نفس سوريا وعلى عقلها وعلى موارد تجارتها وعلى خيراتها الدفينة، فكيف يمكنا أن نخلص بلادنا من قبضة السياسة التحزبية؟ أو كيف يمكننا - في الأقل - أن نجعل يد السياسة عليها يد برد وسلام، يد حكمة واتحاد ووئام؟ هذا هو القسم الثاني بل القسم الأهم من مقال صاحب الهلال تركه - على ما أظن - لغيره من الكتاب، وسنكتبه عنه - إن شاء الله.
أما الآن فأعود إلى القصيدة التي راقتني جدا، قد أجاد إيليا أبو ماضي شعرا وأحسن خيالا، ولكنه خدع نفسه والقارئ معا في استسلامه في أول القصيدة إلى القنوط، قد ظن نفسه يائسا، ظن رأيه دفينا، ظن فكره ذبيحا، ولكن ربة الشعر أتته بمعجزة من معجزاته فأرته في النهاية يأسه الدفين وقد نور أملا جديدا.
ساقني روح خفي
نحو ذياك المكان
فإذا بالسر أضحى
زهرة من أقحوان
زهرة الأمل ما أجملها، وإن كانت بنت يوم تجدد حياتها الأيام، لا يا أخي الشاعر، آلهة الشعر لا تعلم اليأس، وربة النبوغ لا تعرف القنوط.
بكى أرميا أورشليم، وأورشليم لا تزال على وجه الأرض، ولعن أشعيا إسرائيل وإسرائيل، لا يزال حيا يعد النقود ويصيغ منها قيودا للناس!
ابسم يا صديقي الشاعر للأيام وإن كانت عصيبة، القنوط سم للنفس، والبكاء لا يفيد الأمم، ولا يخفى عليك أن من شأن الشاعر في المواقف الوطنية أن يشحذ النفوس ولا يكسرها، أن ينير القلوب ولا يحرقها.
وأنت يا صديقي العالم أكرم بك وأنعم من بحاث نقاد مجرد من الغايات النفسية والمآرب السياسية. ولكن البحث في شئون الأمم بحثا علميا لا يفيد وحده، التعليل حسن، وإزالة العلل أحسن، ونور الشمس للعليل خير من الاثنين، أجل، إن العلم الصحيح ما أقام إلى البناء دليلا، وأوجد إلى العمران سبيلا.
قرأت قصيدة أبي ماضي فقلت في نفسي: إن اليأس في من يحسن مثل هذا الشعر، ويتجلى له مثل هذا الخيال لمن المخيرات لا المصيرات، هو يأس اختيار لا يأس اضطرار.
وكنت وأنا أطالع مقال زيدان الابن أتوق دائما إلى شعلة حماس في حججه الدامغة ، والحماس لا يشين علم العالم، وإن كان مثل الشاعر فوق الأحزاب، وإن موهبة الواحد في نظري لهي شطر من موهبة الآخر.
العالم عين الأمة والشاعر روحها، وإن أمة فيها عالم واحد وشاعر واحد لأمة حية راقية، لا تضمحل وإن تشتت أبناؤها في أربعة أقطار العالم. فعلى الشاعر أبي ماضي وعلى العالم زيدان؛ سلام من أخ لهما، يحزن لما صارت إليه بلاده ولكنه لا يبكيها ولا يندبها، فإن أورشليم رغم مراثي أرميا لا تزال على وجه الأرض، وإسرائيل رغم تشتت أبنائه لا يزال حيا عزيزا بما له من نفوذ في بلاد الله، وسوريا أخت أورشليم، والسوري جنسا - في الأقل - ابن عم إسرائيل.
نحن اليوم في موقف يستوجب - فوق كل شيء - الشجاعة والصبر، ثم الشجاعة والصبر، والسياسة وإن بلبلت شعبا ما فهي لا تستطيع استئصاله. أجل، إن الأمة التي لا تقنط لا تموت، فإذا حرمنا نحن اليوم التمتع بأمنيتنا الوطنية لا بد - إذا واصلنا الجهاد في سبيلها - أن يتمتع بها أبناء سوريا في المستقبل.
التطور والاستقلال
أنا سوري أولا، ولبناني ثانيا، وماروني بعد ذلك، أنا سوري أنشد الوحدة السورية، القومية، السياسية، الجغرافية. أنا سوري أجل مسقط رأسي لبنان، وأحترم مصدر لغتي العرب، وأستوكل في ديني الله وحده. أنا سوري لبناني أفتخر ببطولة المردة، كما أني أفتخر بصدر الإسلام وبمجد بني أمية في الأندلس، أنا سوري لا ينسى نهضة العرب على الأتراك ومن شاركهم بها واستبسل في سبيلها من السوريين واللبنانيين، ولن ينسى شهداء الوطن وما قاساه اللبنانيون من الأهوال حبا بفرنسا والفرنسيس. أنا سوري يود أن يرى في سوريا حكومة دستورية لا مركزية، أساسها العدل والمساواة بالحقوق والواجبات، وعمودها الوحدة الجنسية الجغرافية.
أنا سوري لبناني أعتقد بفصل الدين عن السياسة فصلا تاما دائما، لا قولا فقط بل فعلا وشرعا؛ لأني مدرك - كما يدرك كل عصري عاقل حر - أن حجر العثرة الأول في سبيل الوحدة القومية إنما هو التحزب الديني. أنا سوري لبناني ماروني أنظر إلى الماضي مودعا، وأتطلع إلى المستقبل مسلما مستبشرا .
قلت مرارا ولا أزال أقول بفصل الدين عن السياسة، قلت مرارا ولا أزال أقول برفع العصبية الوطنية على العصبيات الدينية كلها. كان السوريون في الماضي - ولا يزال أكثرهم اليوم - ينتسبون أولا إلى دينهم ، ثم إلى مسقط رأسهم، ثم إلى وطنهم فيقول اللبناني الماروني: أنا ماروني شبابي مثلا لبناني. ويقول الدمشقي المسلم: أنا مسلم دمشقي سوري، فقلبت الآية لتوافق روح الزمان بل روح التطور والعمران. ولا خلاص لنا من التحزبات الطائفية، المبددة، المهلكة، إلا بنمو هذه العاطفة الجديدة فينا. الوطن أولا في قلب من يحب الوطن حقا ويجاهد في سبيله، والطائفة أولا في قلب من يتشدق بحب الوطن وهو لا يريد بالوطن غير طائفته.
هب أن زعماء الطوائف السورية كلها اتفقوا في حكومة واحدة سورية وقاموا يؤسسونها كإسلام ومسيحيين بل كسنيين وشيعيين ودروز وموارنة وأرثوذكس ويهود؛ فاتحادهم لا يدوم طويلا، وإذا دام لسبب ما يظل متزعزعا واهيا لا يؤلف من القوميات الدينية قومية واحدة وطنية، لا، لا. ما زال المسلم في دار الأحكام مسلما، والماروني مارونيا، وقس على ذلك. ما زلنا أمة مقسمة عاجزة تؤثر صالح الطوائف على صالح الوطن، بل تفضل المآرب الذاتية على الصوالح العمومية.
إني ممن يعتقدون، على كل ما حدث في سوريا في السنة الماضية
2
أن التطور سنة طبيعية، وأن فصل الدين عن السياسة من نتائج التطور السياسي والديني؛ لذلك لا أوافق إخواني اللبنانيين في استقلال ينشدونه غير مدركين أن نصفه وهم ونصفه تعصب ديني. كما أني لا أوافق مواطني الدمشقيين في استقلال تام ناجز يطالبون اليوم به وهم في حاجة إلى مال الأوروبيين وعلم الأوروبيين في بادئ أمرهم، بل هم في حاجة إلى جند منظم يستأصل شأفة العصابات المجرمة ويوجد الأمن والطمأنينة في البلاد.
أجل، إني لم أزل أعتقد بمشارفة أوروبية إلى أجل محدود؛ حتى يطمئن المسيحيون إلى إخوانهم المسلمين فتنمو بين الشعبين تدريجا ثقة تمكنهم من التآلف والاتحاد. فإذا كان إخواننا في دمشق شريفين نية، مخلصين عملا، فليفتحوا قلوبهم وعقولهم إذا وليرحبوا بمن يريد مساعدتهم .
إنهم يطالبون اليوم بالوحدة السورية، ويعدوننا بحكومة دستورية حرة مؤسسة على سنن الدمقراطية بل على سنن العدل والإخاء والمساواة، نعم الغاية غايتهم، ولكن حكومة مستقلة في قلب بلاد يستولي الغير على أبوابها البحرية لا تفي بواجب الاستقلال، ولا تنعش أملا في حياتنا الوطنية، فاللبناني وهو يستنجد الإفرنسي مذعور خائف، مذعور مما حدث، وخائف مما قد يعاد من ماض أليم.
فيا إخواني الدمشقيين، قولوا لفرنسا - إذا كنتم مخلصين في ما تطلبون وتعدون: إننا نود أن نكون وهذا الشعب اللبناني أمة واحدة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بل عليهم أقل مما علينا إكراما لتقاليدهم وعملا بما توجبه طبيعة بلادهم. تعالي إذن راقبينا خمس سنوات مثلا فتتأكدين حسن نيتنا وتتحققين - إن شاء الله - حسن عملنا. إننا لنرحب بك يا فرنسا إذا ساعدتينا في تعزيز الوحدة القومية الجغرافية، ولكننا نصدك، نقاومك، نهدر دمائنا في محاربتك إذا حاولت قتلها.
ولا شك عندي أن سياسة فرنسا السورية ستكون منذ الآن فصاعدا سياسة توحيد لا تفريق،
3
ولا شك عندي أن الأمير فيصلا وهو الزعيم البصير الحكيم يستطيع أن يقف بالمتهوسين عند حد التعقل والاعتدال، فإذا كان السوريون في المنطقة الشرقية يريدون استقلالا وطيد الأركان فليعلموا أن لا سبيل إليه إلا باتحادهم واللبنانيين، وما زال في البلاد فئة من الناس تفزع إلى حكومة أوروبية، ما زال شبح الاحتلال منتصبا فيها يهدد كيان القومية الوطنية.
وبكلمة أوضح ما زال لبنان يقبل بالمشارفة الإفرنسية بل يطلبها، والسوريون في الداخلية يرفضونها، فستبقى الحكومة المشارفة مضطربة الرأي، متزعزعة الأصول، لا تدري أتخرج من لبنان أو تبسط سيادتها في المنطقة الشرقية أيضا. وقد كان هذا موقف فرنسا منذ دخلت سوريا حتى الشهر الماضي، فكان - ويا للأسف - سببا من الأسباب التي شجعت عصابات الأشقياء في ما ارتكبوه من الفظائع باسم الوطن. إلا أن هناك أسبابا أخرى قد تتعامى في غيرتنا المذهبية عنها. ليست المسئولية في هذه الفظائع على حكومة دمشق، ولا على العصابات فقط، ولا على الحكومة المحتلة وحدها، لنسجل الحقيقة وإن كانت علينا، فإذا تقصينا الأسباب يتضح لنا المسئولية في بادئ الأمر إنما هي على اللبنانيين أنفسهم، وقد وكلوا أمورهم السياسية إلى رئيس طائفة مسيحية، فاستحالت المسألة وقد اكتسبت صفة دينية، احتجاجا على الإسلام صريحا جليا، ناهيك باسترسالهم إلى حب فرنسا حتى الهوى، حتى الجنون، فكرهوا المتعقلين من المسيحيين إياها ونفروا المسلمين.
ولا بد من تسجيل حقيقة أخرى - وإن كانت مؤلمة: إن المسلمين لأشد إخلاصا في وطنيتهم من المسيحيين، وأسد رأيا وخطة؛ فهم يطلبون استقلالا تاما دون وصاية أوروبية وهذا صريح جلي، والمسيحيون يتغنون بالوطنية ويطلبون استقلالا ناقصا بمشارفة هذه الدولة أو بمساعدة تلك الأمة. ولا بأس بالحماية بل نراها اليوم واجبة إذا كانت محدودة الأجل، مرتبطة بشروط لا تقدح بالوحدة القومية ولا تضر بمصالح الوطن.
ولكن الأقلية المسيحية ستظل - على ما يظهر - أقلية، وهي تنقص بسبب المهاجرة يوما فيوما، والأكثرية الإسلامية ستظل أكثرية في البلاد السورية. إن المسيحيين لفي حاجة إذا إلى حماية دائمة، والحماية الدائمة احتلال، والاحتلال إنما هو الاستعمار، فهل الاستعمار يا ترى نوع جديد من الاستقلال؟ وهل ينطبق مثل هذا الاستقلال الموهوم على وطنية اللبنانيين؟ أيرضون بمشارفة إفرنسية دائمة بل باحتلال بعيد الأجل، بل باستعمار يفقدهم تدريجا جنسيتهم، ولغتهم، وتقاليدهم، فيمسون كأبناء الجزائر والتونسيين؟ بل يمسون لا لبنانيين يعرفون ولا فرنسويين.
أوما حان لبني لبنان أن يفهموا أن فرنسا تريد بسط حمايتها في البلاد السورية كلها، وأنها تلعب بساداتنا اللبنانيين وبالإكليروس لعب الأكر؟ فلما كان موقفها متزعزعا في سوريا، لما كانت تخشى أن تتغلب السياسة الإنكليزية على سياستها كما تغلبت سنة الستين؛ أخذت تشجع اللبنانيين في طلب استقلالهم مقرونا بمشارفتها، أجل، وقد شجعتهم إلى حد أن أذنت برسم الأرزة في العلم الإفرنسي وبرفعه علما لبنانيا في الجبل، ولكنها حين تعزز موقفها في ما أقره مؤتمر سان ريمو غيرت خطتها اللبنانية فأمرت بطي العلم - علم المجد والاستقلال الموهوم - بل منعت رفعه والمظاهرات به لأسباب قد تكون غامضة عند أعضاء مجلس الإدارة، ولكنها واضحة في نظر ذوي الألباب.
إننا نلوم فرنسا على مثل هذه السياسة، وإننا نحترم الصراحة وإن كانت علينا، فلو أحسنت فرنسا النصح للبنانيين منذ البدء، ولو لم تمالئ الإكليروس اللبناني وتمده بسكوتها
4
في حماسه الطائفي؛ لما حدث ما حدث من المظالم والفظائع في المدن المجاورة المنطقة الشرقية، فهل كان في سوريا خوف من العصابات قبل سفر البطريرك الماروني إلى باريس؟ وهل أخلص المسيو كليمنصو النصح للوفد الديني اللبناني؟ كلا، ثم كلا، فلو عمل هذا الإفرنسي الكبير بمبادئه الحرة وسلك في سياسته اللبنانية المسلك الذي يسلكه في سياسته الإفرنسية لقال للبطريرك وحاشيته: خير لكم أن تتحدوا وجيرانكم ونحن في البداية نشارف على هذا الاتحاد إلى حين، لو قال لهم هذا القول بدل أن «يجاملهم» فيعطي البطريرك تعهدا ارتبنا بقيمته في ذاك الحين وتحققنا قلة قيمته اليوم؛ لما أمعن اللبنانيون بالهوس الذي جر عليهم الويلات، إن كليمنصو الحر كان رجعيا في سياسته اللبنانية.
المردة والصليبيون
يكثر الناشدون استقلال لبنان، المتغنون بحب فرنسا، من ذكر المردة والصليبيين، وقد فاتهم أن أحوال الماضي لا تنطبق قطعا على أحوال الحاضر. قد حارب المردة في قديم الزمان من أجل دينهم لا من أجل استقلالهم المدني السياسي، قد تحالفوا وملوك بيزنطة لا لأن بيزنطة كانت أقرب إليهم من دمشق، ولا لأن الروم من جنسهم ودمهم؛ بل لأنهم كانوا مسيحيين. وقد حارب الموارنة العرب لا لأن العرب جاءوا يقوضون استقلالهم ويحتلون بلادهم بل لأن العرب مسلمون، فلو كان الاستقلال السياسي المدني في نظرهم أعز شيء يذودون عنه لما رضوا بعدئذ بسلطة الأغيار يوم تحالفوا والصليبيين باسم الدين أيضا ورغبوا بهم أسيادا في البلاد ما يزيد على المائة سنة.
إن مقاومة اللبنانيين العرب إذا لمن أجل الدين لا من أجل الاستقلال، فقد كانت المسألة في تلك الأيام دينية بحتة، واليوم نرى الموارنة يؤثرون الفرنسيس على سوريي دمشق؛ لأن الفرنسيس - على ما فيهم من كره لمزج الدين بالسياسة - لا يزالون يمالئون الموارنة على سبيل الدين، والموارنة لا يزالون يقاومون العرب لا حبا باستقلالهم بل لأن العرب مسلمون .
والبرهان على ذلك أنهم يرضون بمشارفة إفرنسية لا أجل محدود لها، مشارفة تستحيل تدريجا إذا شاءت فرنسا احتلالا تاما دائما، ولا يؤاخون مواطنيهم في البلاد ويتحدون وجيرانهم. إن اللبنانيين من هذا القبيل رجعيون ، ونزعاتهم لا تزال دينية كما كانت في أيام المردة والصليبيين.
وا أسفاه! أفلا تغير ألف سنة شيئا من هذا الشعب اللبناني الجامد في بلاده الناهض في بلاد الأجانب؟ وهل يظل منقادا إلى الإكليروس وإلى الأعيان عبيد الإكليروس، أولئك الذين لا يهمهم من استقلال لبنان غير أن يظلوا متبوئين كرسي السيادة، قابضين على نفوس اللبنانيين وعلى عقولهم؟ أتعد المشارفة الأوروبية غير المحدودة الأجل استقلالا؟ أويمكن أن يكون لها أجل محدود والحال التي توجبها، أي الأكثرية الإسلامية والأقلية المسيحية، حالا دائمة لا تتغير؟ أنسلك اليوم ونحن في القرن العشرين مسلك أجدادنا أبناء القرن العاشر؟ أهذا ما نسميه منعة ومجدا واستقلالا؟ أتتطور الأمم في سائر المعمورة عملا بسنة الارتقاء ويظل اللبناني مقيدا بقيود التقاليد العقيمة، قيود العصبية الطائفية، قيود صاغها الإكليروس والأعيان في الأجيال الغابرة ولا يزال الإكليروس والأعيان يستخدمونه اليوم لمآربهم الذاتية؟
ولكن البحر مفتوح لبني لبنان والعالم الجديد يناديهم، فضلا عن الأحوال الاقتصادية التي تحول دون إقامتهم في بلاد ضرب الفقر فيها عصاه وخيم البؤس على ربوعها.
قد كان من حق الموارنة بل المردة في الماضي أن يحاربوا العرب الذين جاءوهم ينادون: الجزية أو السيف أو الإسلام، ومن حقهم أن يرفضوا الثلاثة، ولكن لا جزية اليوم ولا سيف ولا إسلام، إنما هي دعوة إخوان لنا في الوطنية، دعوة سلام وولاء، دعوة إلى التعاضد والتضافر في تشييد وطن أساسه الحرية والعدل والمساواة، فهل يتقدم السوريون المسلمون ويتأخر اللبنانيون المسيحيون؟ هل يرفع علم سوري في دمشق وعلم إفرنسي في لبنان؟
قلت في بدء مقالي إني سوري أولا، ولبناني ثانيا، وماروني بعد ذلك، أي: أني وإن كنت من سلالة المردة، ابن هذا الزمان، وبيني وبين أجدادي ألف سنة من التطور، والرقي والعلم والعمران. فإذا قلبت الآية لا أكون خائنا بلادي، جاحدا ديني، بل أكون مخلصا لنبوغ أمتي، عاملا بسنة التطور التي ينبغي أن تسود بلادي وشعبي.
على رسلكم إخواني، إني لبناني مثلكم، ولكني أعتقد اعتقادا شبيها بالإيمان وهو أن لا حرية ولا استقلال لسوريا إلا إذا كان كل سوري يقلب الآية ويسلك بموجبها، فيقول الأرتودكسي اللبناني: أنا سوري أولا، ولبناني ثانيا، وأرتودكسي بعد ذلك. ويقول الدمشقي: أنا سوري أولا، ودمشقي ثانيا، ومسلم بعد ذلك، ويقول الحوراني: أنا سوري أولا، وحوراني ثانيا، ودرزي بعد ذلك، ويقول الفلسطيني: أنا سوري أولا، وفلسطيني ثانيا، ويهودي بعد ذلك.
أجل إخواني، إن الوحدة الوطنية لا تكون إلا بمثل هذا الانقلاب الديني بل هذا التطور الاجتماعي الوطني، وإن الوحدة القومية وإن بدت اليوم حلما من الأحلام كائنة لا محال، هي حلم ستحققه الأيام. إي إخواني اللبنانيين لنتطلع إلى الأمام، فقد شغل الفينيقيون دورا من التاريخ كما ينبغي، وقد استبسل المردة في سبيل ملوك بيزنطية السفاحين من أجل الدين، فمثلوا دورهم في ذاك الزمان كما ينبغي، وقد مثل الموارنة الذين حاربوا مع الصليبيين دورهم كما ينبغي، ونحن اليوم في زمان غير زمانهم، وأحوالنا غير أحوالهم، وعالمنا السياسي غير عالمهم، يجب علينا إذن نحن أبناء هذا الزمان أن نمثل دورنا كما ينبغي لنا. إن مزج الدين بالسياسة يقضي على الاثنين بالفساد، وإن وطنية فيها مساعدة إفرنسية دائمة هي وطنية فاسدة في بادئ الأمر، زائلة لا محال في آخره.
إني أغار يا إخواني اللبنانيين على مصلحة لبنان كما تغارون، وأجاهد في سبيله كما تجاهدون، إلا أني أرى حدودا أوسع من الحدود التي ترون وتطلبون، ولا أخاف على اللبناني إذا شارك في بعض أموره السياسية والاقتصادية الدمشقيين، بل أعتقد أن اللبناني فردا إنما هو في منزلة أرقى الشعوب، ولا يكون مغلوبا على أمره حيث كان وكيف كان. أومن حاجة لأن أشير إلى نبوغه ونشاطه ونهوضه خارج بلاده؟ أضف إلى ذلك أن العقل يسود دائما في شئون الأمم وسياسات الدول، العقل هو الأكثرية، وإن خوفنا على اللبناني إهانة له.
أجل إننا نهين اللبنانيين عندما نطلب لهم استقلالا ضمن دائرة صغيرة كلبنان الصغير أو الكبير، بل نظلمهم إذا حصرنا مواهبهم وقواهم كلها في صخور لبنان.
عشرون حجة
لو لم أكن أعتقد اعتقادا تاما أن مصلحة جبلنا وخير أبنائه إنما هما في اتحادنا مع إخواننا في الداخلية لما كنت - والله - أقول كلمة في هذا السبيل، بل لكنت من الداعين إلى عكس ذلك. أجل، إن خلاصنا، وسعادتنا، ونجاح بلادنا في الحال والاستقبال؛ تتوقف على أمر واحد نقرره اليوم، وهو اتحادنا وإخواننا السوريين، ولا أسأل النازعين إلى الانفصال العدول، ولا أتوقع في ما أقوله القبول، دون أن تسمعوا برهانا بل براهين فإذا كنت أقول بالاتحاد وأعتقد أن ما أقول هو الحق فلي على ذلك عشرون حجة: (1)
إن تقسيم البلاد السورية إلى ولايات مستقلة تماما بعضها عن بعض يقضي على استقلالها ووحدتها، ويمكن منها الطامعين بالاستعمار. (2)
إن تقسيمها إلى «دوائر نفوذ» أوروبية يعيد إلى الوجود المسألة الشرقية التي كانت السبب الأول في بلائنا وتأخرنا، كيف لا وقد كانت بلادنا - لا أذكر الجبل وتدخل القناصل في شئونه كلها - مسرح أطماع الدول الأوروبية، وكنا نحن ضحية سياستهم الخارجية وأغراضهم التجارية. (3)
إذا استقل لبنان عن الداخلية تنقطع عنه أهم لوازم العيش، باب الحنطة وهو في حوران يقفل دون حاجته وطرق النقل وأهمها في يد السوريين تمنع عنه، أو يميز في أجورها عليه. (4)
أكثر من نصف تجارة بيروت هي مع تجار المدن في الداخلية فإذا استقل لبنان خسرت بيروت أهم موارد تجارتها، وقد بدأ البيروتيون يشعرون بذلك ويتألمون. (5)
إن فصل لبنان عن الداخلية خطأ جغرافي وقسمة غير طبيعية؛ لأن في يد لبنان أبواب البحر ولا حاجة له بها كلها، وفي يد دمشق وسائل النقل ولا سبيل لاستخدامها كلها لتنتفع بها البلاد السورية قاطبة. (6)
حياة البلاد الاقتصادية تضطرب، وحياتها الصناعية وهي في حاجة إلى حرير لبنان تختنق تدريجا، وحياتها المالية تمسي في قبضة سماسرة «القطع» والمتاجرين بالصكوك والأوراق. (7)
البريد والتلغراف وسكك الحديد وهي في أيدي الضغائن والمنافسة تكون معرضة أبدا للخلل والتخريب ؛ إذ يتجاذب طرفيها شعبان نافران بعضهما من بعض، قائمان بعضهما على بعض. (8)
بدلا أن يكون في البلاد جمرك واحد تتعدد الجمارك ومزعجاتها وأضرارها في كل المدن الكائنة على حدود اصطناعية، فتجهز على الصناعة والتجارة، وتكره إلى الناس - وعلى الأخص المصطافين في لبنان والسائحين - السفر في سوريا. (9)
بدل جند واحد يناسب عدد سكان البلاد تضطر البلادان إلى تجنيد جندين على نسبة جائرة لا تطاق لتحمي تخومها من تعديات جارتها، ويكون لبنان من هذا القبيل مظلوما جدا؛ لأن اللبنانيين - وهم الأقلية - يمسون في خطر دائم من هول عصابات الجهل والتعصب. (10)
لا يستطيع لبنان وحده أن يقوم بنفقات حكومته المدنية، فكيف يقوم بنفقات جند كبير؟ إن العجز في ميزانيته أمر معلوم، خذ لك مثلا، قد بلغت ميزانية الجبل سنة 1909 تسعة وخمسين ألف ليرة، فلو فرضنا أن لبنان استعاد الأراضي المسلوخة عنه - لو فرضنا لبنانا كبيرا - فلا أظن الميزانية تبلغ أكثر من مائة ألف ليرة، أضف إليها دخل الجمرك الذي لا يبلغ أكثر من مائة ألف ليرة سنويا، ثم دخل البريد والتلغراف والملاحات - قل مائة ألف ليرة أخرى - فتبلغ ميزانية الجبل ثلاثمائة ألف ليرة، فإذا كان مستقلا يقتضي له جند لا يقل عن العشرة آلاف عدا، ونفقاته دون المعدات، إذا فرضنا ثلاث ليرات راتب الجندي شهرا تبلغ ثلاثمائة ألف ليرة، فمن أين نجيء بعد ذلك بما يلزم لدفع رواتب المأمورين والمشارفين على المأمورين فضلا عن نفقات الشرطة والمدارس والمشاريع العمومية لترقية الصناعة والزراعة في البلاد؟ (11)
إن خيرات لبنان الدفينة لا تستثمر بغير المال والعمال والأخصائيين، فإذا كان دائما مهددا بالعصابات، ولا أحد فيه يأمن على ماله وحياته، وكانت أحواله وجيرانه كأحوال الجمهوريات الصغيرة في أميركا الجنوبية، أي: دائما في احتراب، فالعمال يهجرونه، والمتمولون لا يبذلون مالا فيه، والأخصائيون لا يفادون بعلمهم ووقتهم إكراما لأجدادنا الذين حاربوا مع الصليبيين. (12)
المشارفة الإفرنسية على لبنان مستقل عن الداخلية تتدرج إلى احتلال دائم، والاحتلال الدائم يقتل روح القومية، فيمسي لبنان كتونس أو الجزائر، ويفقد اللبنانيون روحهم القومية، وآدابهم العربية، وتقاليدهم الوطنية والاجتماعية. (13)
من الحقائق التي لا ينكرها من كان له إلمام بتاريخ فرنسا الاستعماري أنها لا تبذل من خزينتها شيئا من المال يذكر في ترقية مستعمراتها، فإن خطتها الاستعمارية مبنية على القول المأثور عندنا «من دهنه سقيله» ودهن لبنان لا يكفي وا أسفاه! طبخة واحدة من طبخات العمران في هذا الزمان ... (14)
إن الرأي العام في فرنسا والأحزاب المعارضة الحكومة يقاومون كل سياسة خارجية، وكل خطة دولية، تستوجب إرسال جنودا إفرنسية إلى الخارج، وفي الحوادث السورية الحاضرة برهان واضح على ذلك، وإن جندا لبنانيا بقيادة ضباط فرنسويين لأشبه بجند تركي بقيادة ضباط ألمان، بل هو أقرب إلى الفوضى منه إلى التنظيم. فإذا كان المأمور اللبناني يتذمر من سلطة المستشار فكيف بالجندي، ونظام الجندية الحديث كالحديد لا يلين لأحد، ولا يذوب حتى في نيران القتال؟ (15)
إن روح الزمان المادية لروح احتكار واستئثار، وهي رغم ما تفكك من ملك ضخم، ورغم ما تألف حديثا من الدول الصغيرة لا تزال أشد ميلا إلى الكبيرة منها، بل هي عدوة الأمم الصغيرة باطنا وفعلا، وعلى الأخص إذا كانت في بقعة من الأرض طالما تطاحنت فيها الشعوب، ولا تزال تشرئب إليها أعناق الاستعماريين في أوروبا، وإن أمة لا تتجاوز المليون عدا لتذهب ضحية ذوي الأطماع القريبين منها والبعيدين. (16)
إن الحرب الاقتصادية في العالم اليوم تقضي على الأمم بالوحدة الجغرافية في الأقل وبالتضامن والتكاتف، لتصون مصالحها، وتحفظ كيانها، وتمهد سبيل رقيها المادي. (17)
السوريون جيراننا لهم ما لنا من خير يرجى، وعليهم ما علينا من شر يتقى، فضلا عن أن الجار - مهما كان دينه - أقرب إلينا من الأغيار؛ بما يربطنا وإياه - في الأقل - من روابط الجنس واللغة والجغرافية، وإن مأمورا أكلمه بلغتي خيرا من مأمور أضطر إلى ترجمان لأعرض عليه أمري. (18)
إن انفصالنا عن إخواننا في الداخلية دليل على تعصب فينا ديني وسياسي، بل هو دليل على أننا نؤثر حب الذات على حب الوطن، أو أننا جبناء نخشى الأكثرية فلا نصلح لتكوين أمة حرة، راقية، مستقلة. (19)
إن في لبنان من جودة العقل والنشاط والذكاء ما يرفع شأنه ويعزز اسمه أين كان، بل يكفل له المساواة ويصون حقوقه ومصالحه وإن كان من الأقلية في البلاد. (20)
وأخيرا، إذا تم اتحادنا نستغني في مدة خمس سنوات - أو عشر بالأكثر - عن المشارفة الأجنبية، وإذا ظللنا منقسمين فلا أمل لنا بالاستقلال. أما إخواننا المتحمسون في دمشق فخير لهم أن يذعنوا إلى أميرهم الحكيم فيفوزون باستقلال يضم تحت رايته الأقليات في البلاد، ولكن الاستقلال الناجز التام والأقليات لم تزل ذعرة خائفة نافرة لا يحقق أمنيتهم وأمنيتنا بوحدة سورية قومية شاملة. وهناك أمر خطير قد يكون فاتهم وهو أن الخطر التركي لا يزال مخيما في الشمال، والخطر البلشيفي يمتد جنوبا، فهل نستطيع يا ترى أن نرد الخطرين ونتخلص منهما في بادئ أمرنا وليس لدينا من الجند وعدة الحرب ما يكفي اليوم لردع عصابات الأشقياء في البلاد؟
فإذا تم اتحاد الدمشقيين واللبنانيين، وتمكنوا من تأسيس حكومة دستورية ثابتة، تستطيع حفظ الأمن والنظام، وتكفل للأقليات حقوقها، وتجري في أحكامها على سنن العدل والمساواة؛ تنتهي عندئذ مهمة الدولة المشارفة، ولا عذر ولا حق لها - إذ ذاك - بالبقاء في البلاد.
الطريقة الوحيدة إذا لحل قضيتنا المعضلة هي أن يتحد اللبنانيون والدمشقيون ويتفقون على مشارفة إفرنسية محدودة الأجل.
إن الهوس غالبا ضلال، والعناد في غير الحق قتال، وإن امرأ يرتئي رأيا أو يعتقد اعتقادا ثم ينبذه إذا تحقق فساده لأكبر نفسا ولأشد جرأة من المستبسل في ساحة الوغى. أجل، إن الجرأة الأدبية هي أن نقول الحق في ما يتجلى لنا منه، وإن كان قولنا اليوم ينفي قولنا بالأمس.
অজানা পৃষ্ঠা