آلامنا روحية أكثر منها جسدية، يعود الرجل من أشغاله في المساء أو من ملاهيه بعد نصف الليل فيستلقي على سريره متكرها متأففا متذمرا، فيشكو وقد خارت قواه من ألم في أعصابه أو في معدته أو في رأسه، ويظن أن أوجاعه موضعية، يظنها جسدية، والحقيقة - على ما أرى - هي خلاف ذلك، فالجسد لا يمرض من العمل وأعضاؤه تزداد قوة ومرونة ونشاطا بالممارسة والتمرين وهذا ناموس طبيعي، من أين إذا آلامنا وأوجاعنا، ما هي أسبابها أين مصدرها، أيمكن أن يكون لها مسبب غير مادي، أيمكن أن تكون آلامنا الجسدية ناتجة عن ألم أصلي أساسي جوهري روحي؟
سؤال أجيبكم عنه حالا بلا تردد وبالإيجاب، نعم سادتي وسيداتي إن مصدر هذه الآلام الروح، فالروح منا تئن وتتأوه وصدى أنينها يظهر في كل جوارحنا وفي كل حواسنا ، الروح تتألم من الضغط عليها، من احتقار الإنسان إياها، من إهماله شئونها، من اهتضامه حقوقها، الروح تتأوه من قيود السلطة كما أنها تتألم من قيود العبودية، فالرئيس والمرءوس سواء من هذا القبيل، الظالم والمظلوم يشكيان من مرض واحد فالروح في كل منهما تتألم من حيوانية الإنسان الخبيثة، من أهوائه من ظلمه من استئثاره من بغضه من توحشه من ذله من جهله من جنونه، فإذا كانت الأشغال تسكن آلام النفس فالعزلة تضعف شكوتها ويستأصلها العود إلى الطبيعة.
ورب قائل يقول أتريد أن يكون الناس كلهم نساكا وزهادا وكيف يتسنى ذلك، فالجواب أن ذلك غير ممكن وغير مطلوب، فالعزلة أنواع، وربما امتهنت حرمة القاموس وتوسعت قليلا بمعناها المحدود، فقد تكون شوقا في النفس لسبر غور النفس، لإدراك كنه قواها، لكشف الحجاب عن بعض أسرارها، وهذي هي عزلة الفيلسوف، أو قد تكون اعتصام النفس بعالمي الخيال والجمال فرارا من مسئولية الحياة الاجتماعية وواجباتها الصناعية، وهذي هي عزلة الشاعر، وهي ممكنة في المدينة وبين الجموع كما في الصحراء أو في الجبال؛ لأن الشاعر وإن خالط الناس وحدثهم فهو دائما فوقهم وبعيد منهم، ثم قد تكون العزلة طمعا في النفس لفتح ممالك عالم النفس، لرفع أعلام الحقيقة والحب والحق فوق صروحها، وهذه عزلة الأنبياء، وهناك أنواع أخرى من العزلة لا يهمنا ذكرها؛ لأنها تغيرت عما كانت عليه حين قال المتنبي بيته المشهور في وصف الأسد:
في وحدة الرهبان إلا أنه
لا يعرف التحريم والتحليلا
قد اتضح لكم أن الميل إلى الوحدة والاعتزال ينشأ في النفس وعنها، وكما أن النفس تتطلب المعرفة فهي تبتغي شيئا من العزلة تتغذى أثناءها من المعرفة. يقول الإفرنج في السياحة تكملة التهذيب، أي: أن المرء مهما درس وطالع وتعمق في العلوم وتغلغل فتهذيبه يظل ناقصا إذا كان لا يعرف من العلم إلا مسقط رأسه أو عاصمة بلاده ، فإذا كان في السياحة تتمة التهذيب ففي العزلة تتمة السياحة؛ لأن المرء لا يكون قد ساح قط إذا كان لا يعتزل قليلا بعد سياحته في العالم ليحاسب نفسه، ليفحص بتأن وهدوء ما في مخادعها، ليغربل ما فيها من الحقائق والخرافات والآراء السديدة المختلطة مع الخزعبلات. وبكلمة أخرى ليسقي النفس من ماء الفكرة الذي يتقطر ويتكرر في العزلة، ولا تظنوا أن كل من التجأ من المفكرين إلى هذه الطريقة انتفع بها، والذي لا ينتفع منها لا يستطيع نفع الناس.
لما كنت في نويرك قصدت يوما مدينة كنكرد بالقرب من بسطن (وهي المدينة الصغيرة التي أعطت العالم الجديد أكبر شعرائه وفلاسفته) لأزور فيها بيت الفيلسوف إمرسن والحرج الذي بنى فيه الشاعر طورو مسكنه أو بالحري كوخه للعزلة فعاش فيه متنسكا سنتين وألف هناك كتابه النفسي في فلسفة العمران وفلسفة الانفراد، والكاتب الذي كان رفيقي ودليلي في هذه الحجة - وهو شيخ جليل في الصحافة وفي السن - كان رفيقا وصديقا أيضا لأكثر شعراء كنكرد وفلاسفتها الغابرين فسألته عما إذا كان في المدينة اليوم من يعد من طبقة هؤلاء الرجال العظام، فقال: إن الطبيعة يا صديقي لا تجود علينا بالنوابغ كل سنة، فهي لا تعطي العالم إلا أفرادا قلائل كل عصر وما كل من اعتصم بالعزلة يصل إلى ذروة التفرد والذكاء. فمنذ سنين جاء هذه الأصقاع شاب إنكليزي واختار بيت طورو هذا مقرا لعزلته وعاش فيه كما عاش طورو سنتين، ولكنه يئس بعد ذلك وهجر كنكرد ومن ذلك الحين لم نسمع عنه شيئا.
فعزلة طورو إذا أو عزلة النابغة أثمرت من الأدب والشعر والفلسفة ما يعد من طبقة ما كتبه أكبر نوابغ العالم، وعزلة الثاني العقيمة أضرت بصاحبها؛ لأنه لم يتدارك الخطر قبل حلوله، وفاته أن الوحدة الطويلة الأمد ما عدت لمثله وأن نفسه لا تطلب مثل هذا الغذاء، لذلك لا أعمم في قولي ولا أغالي بمحاسن العزلة ومنافعها إذ ما كل من اعتزل تفرد ولا كل من تفرد أفاد الإنسانية، على أن العزلة تنفع الكل إذا أخذ منها كل بقدر ما تطلبه نفسه أو بالحري إذا عرف كل إنسان كمية الجرعة التي ينبغي أن يأخذها، فمن نفس متجمدة لا تطيق العزلة أكثر من أسبوع إلى نفس متوقدة لا ترضى بأقل من سنة أو أكثر وبينهما تتفاوت المدد كما تتفاوت العقول، هذي هي القاعدة، فمن جرب العزلة بحكمة واعتدال انتفع لا شك منها فهو ينتفع عقليا وجسديا وروحيا إذا أحسن استعمال الدواء.
وأفضل ما في العزلة للمفكرين أنها تقرب الفرد من نفسه، فالحياة الاجتماعية - كما اتضح لكم مما ذكرته - تبعدنا عن أنفسنا حتى نجهلها جهلا فاضحا؛ لأن معرفة المرء نفسه غير ممكنة في أي حال من أحوال هذا المجتمع المضطرب، وإذا جهل المرء نفسه بعد عنها بعدا شاسعا، وإن حاول خدمة الإنسانية وهو بعيد عن نفسه، أي: جاهلها لا يستطيع إلى ذلك سبيلا مهما أجاد ببيانه وفصاحته، ومهما بالغ في آرائه وأكبر الناس دعواه، لا خير في مثل هذا مهما صاح ونادى ودعى القوم وادعى. وإن صياح المصلحين ليذكرني دائما بهدوء الفلاسفة، بل يذكرني بما جاء في التلمود من حديث دار بين أشجار الغابة وأشجار البستان، قالت أشجار الغابة لأشجار البستان: لماذا لا نسمع لأغصانك صوتا ولا صدى فأجابت أشجار البستان: لأنني مشتغلة عن الولولة بإنماء ثماري، ثم سألت أشجار البستان أشجار الغابة قائلة، ولماذا تسمع الناس لأغصانك هذا الدوي وهذه الجلبة فأجابت أشجار الغابة: لكي يشعر الناس بوجودي.
لذلك قلت: إن كان في الحركة بركة ففي الفلوات بركات وفي الهدو نمو وسمو، فالنور - يا سادتي - ينبثق على العالم هادئا ساكنا، وإن شمس الحكمة لتحتجب غالبا عند هبوب العواصف والزوابع، فمن الأنفس السامية المتفردة الهادئة ينبثق نور الحب ونور الحكمة ونور الحقيقة. وفي الأنفس السامية المتفردة الهادئة ينابيع الجمال كلها. جمال الفنون وجمال الروح وجمال الحياة السعيدة، وإلى الأنفس المتفردة السامية الهادئة تعود بنا حسنات التمدن الحديث لترينا فيها أسبابها، لذلك كتبت فوق بابي: في إصلاح الفرد إصلاح الأمة.
অজানা পৃষ্ঠা