قال أبو الطيب يمدح سيف الدولة:
نهبت من الأعمار ما لو حويته
لهنئت الدنيا بأنك خالد
ومن من الأدباء والشجعان لا يعجب بالمادح والممدوح لما كان في هذا من البسالة وفي ذاك من الذكاء، ومن منهم لا يكرم الاثنين ويعظهما لو قرنت بسالة الواحد مع الحلم وذكاء الثاني مع الفضيلة، وإن قلنا إن ذكاء المادح بعيد عن البشريات فبسالة الممدوح بعيدة عن البشريات وعن الإلهيات أيضا. ولذلك نود ألا يقتدي أرباب الرجولية من الملوك بسيف الدولة وأن لا يقتفي نوابغ الشعراء أثر المتنبي، إذ ماذا ينفع الذكاء الذي يستخدم في المجاملة والتدليس والمداهنة، ومن يأسف على تلك العقول التي تحرق في المجامر مع البخور على مذبح الظلم لتمجيد الظالم ومدح مظالمه، فلو قطع سيف سيف الدولة عنق الذكي الذي يحاول قتل الحقيقة بذكائه لاستحق - إذ ذاك - مديح الشعراء الصادقين.
ولمعترض أن يقول: إن في شعر المتنبي الذي ترويه بعض الحقيقة فقد قطع سيف ذلك الأمير الألوف من الأعناق التي لو جعلت بعضها فوق بعض ووقف هو عليها لصار رأسه بين النجوم خالدا، ولكن من من البشر يتمنى الخلود لوحش مفترس، ومن منا يود لو كان الجزار في العالم إلها، ومن منا يصدق أولئك الذين يتبعهم الغاوون.
أما المتنبي فلذكائه عندي من الإعجاب ما لشخصه من الاحتقار؛ لأن الرجل الذي تخصه الطبيعة بقريحة وقادة فيضرمها أتونا ليحرق فيه عرائس الحقيقة والعدل لا يستحق أن يدعى رجلا حقا.
والذكي الذي يزحف ويدب تحت غبار الظالم الأثيم يجحد نعمة إله السماء واهب الذكاء. ولا تظنني أول من آخذ المتنبي بذلك، فقد نظر أبو بكر الخوارزمي قبلي إلى تناقض حكمته وتفاوت طرفي فعلته، ومما قاله فيه: «ويخلع خلعة من نظمه تساوي بدره على عرض لا يساوي بعره.» وهنا يجب أن أنبه القارئ إلى مبالغة أبي بكر وشدة ولعه بالجناس والتوشيح والتدبيج، فإذا عرف ذلك يضرب عن «بدره وبعره» صفحا، وقد قال أيضا عن المتنبي: «ويزف كريمة من كرائم شعره إلى من لم تقم عنده كريمة. (وولعه بالتوريات أشد من ولعه بالسجع والترصيع) ولم تعرف له قيمة ... لو رأى الطمع في جحر فأرة لدخله، ولو أتاه الدرهم من است كلب لما غسله.» إلى آخره من القول العنيف السديد الشديد.
وعندي أن العقل كالمرآة من إحدى وجوهه، والاستقامة له كالطهارة لتلك المخلوقة المحبوبة، ويجب أن يلازمه الصدق أبدا كما يجب أن تلازمها الطهارة، ومتى تجرد الاثنان عن تينك الفضيلتين تصبح المرآة مومسة والعقل قوادا. ولا لوم على المومسة التي تعرض جسدها على الناس إذا اضطرتها إلى ذلك الحاجة، وأما الشاعر الذي يتاجر بذكائه مغضيا عن الحقيقة والعدل فحبل من مسد أشدده في عنقه وألحقه بأبي لهب، أجل إن العقل الذي يدنس في أوحال التدليس والكذب ما هو إلا متاع ينادي عليه صاحبه بالمزاد، قد تعذر - والله - البغي؛ لأن الحاجة غالبا ترميها خارج البيت والفقر يبقيها في الشوارع واحتقار الناس إياها يمدها في طغيانها ويبعدها عن النور.
والشرائع لا تبدد من حولها الظلمة بل تزيدها في أعم حالاتها ظلاما، ولو خصتها الطبيعة بإرادة قوية وروح سامية لعادت - لا شك - عن غيها، بيد أن الشاعر الذي يبيع ذكاءه بدرهم، الشاعر الذي لا يخدم الحقيقة ولا يذب عن الحق، الشاعر الذي يخلع عن عقله ثوب الاستقامة وعن نفسه حلة الأبوة وعن قلبه رداء الصدق فما قولك به؟ ما قولك بهذا الجربز المتمخرق العريان أعدت المشنقة لسواه؟ أويعد من الحكماء من قال أيضا:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
অজানা পৃষ্ঠা