من منا يذكر اليوم من تآليف فلتر التي لا تحصى سوى رسائله وبعض رواياته، وأما روسو فأكثر الذي كتبه يقرأ حتى في زماننا الحاضر، ومن لا يقرأ «الاعترافات» أو «إميل» أو «الميثاق الاجتماعي» اليوم على نحو ما كان يقرؤها أبناء القرن الثامن عشر على عهد الثورة؟
عاش روسو الفيلسوف عيشة طبيعية بعيدا عن الرسميات والتصنع وسقط في خروجه عن المألوف سقطات عديدة ولم يكتب ما كتبه إلا بعد الاختبار والتأثر، ولم يؤلف كتبه الشهيرة إلا بعد أن قاسى ألوان العذاب واضطهد أشد الاضطهاد، وأما فلتر الخفيف الروح الواسع الاطلاع الطويل الباع الذي بز زملاءه ذكاء ودهاء فعاش غالبا في مكتبته بين المحابر والأوراق، عاش بعيدا عن الشعب كما يعيش الأمير أو الملك وإذا خرج مرة فإلى بيوت الأشراف وقصور الملوك، وهكذا ألف ما ألفه وفي نفسه من تأثير هذين الوسطين شيء كثير، ومثل هذه المقابلة يصح إطلاقها على هوغو والشاعر الألماني هيني ، وكنت أود لو أذكر كتابنا عوضا من هؤلاء الإفرنج فعندنا اليوم من المؤلفين من يصح بين بعضهم مثل هذا التنظير، ولكن ماذا يمكنني أن أقول وأنا لم أزل أردد كلام النبي الذي قرأته البارح.
قال نبي الإسلام: «ما آتى الله أحدا علما إلا أخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه أحدا.»
لنقسم الكتاب قسما آخر إذا، لنقل إن الكتاب اثنان أحدهما يكتب ليرضي الناس والثاني ليرضي نفسه، الأول يكتم علمه حبا بكيسه والثاني يبثه حبا بأدبه، فالذي يكتب ليرضي الناس لا يحتاج إلى معرفة قرائه وما نشئوا عليه من التهذيب والأخلاق ولا يهمه إن اختلفت مذاهبهم وتباينت مزاياهم وتضاربت أذواقهم فهو يجاريهم على ما يشاءون ويخوض عباب البحر جاريا مع الأمواج سائرا مع التيار العام، ومعظم ما ينبغي له درسه ينحصر في أحوال قرائه المدنية والاجتماعية وأذواقهم الفطرية، فيكتب ما يلائم ذلك ويبسم ساخرا وهو يسوق بين التهكم والمجون يراعه.
هذا إذا كان عالما خبيثا وأما إذا كان غرا غبيا فيقول قوله معتقدا أن الحق معه لا مع سواه، ثم يرفع حاجبيه ويصعر خديه ويقول في نفسه معجبا: حقا إن المرء بأصغريه، أما العالم الحقيقي والكاتب المخلص المستقيم الذي يكتب ليرضي نفسه أولا فهو يحتاج من المطالعة أوسعها ومن الدرس أكثره ومن البحث والتنقيب أدقهما ومن الجراءة الأدبية أشدها. الأول يتذلل لهذا البك، ويتملق ذاك الباشا، ويجامل هذا المطران، ويطنب في مديح ذاك الأمير، ويثني على كل ذي سلطة وسؤدد، عادلا كان أو ظالما، جاهلا أو عالما، صادقا أو خبيثا، دنيئا أو نزيها. والثاني يحافظ على كرامة الأدب ليعزز ما عنده من العلم ويبثه دون مراوغة ومحاباة فلا يقال عنه إذ ذاك هو عالم، ولكنه جبان.
فمثل هذا الكاتب يبدي آراءه، سخط القراء أم رضوا، هو لا يكتم علمه أحدا، هو لا يبعد الحقيقة عن الناس ولا يبعد الناس عن الحقيقة. الكاتب الأول يمحق بأعماله ما اكتسبه من العلوم إذا كان مكتسبا شيئا، ويمسي بعد ذلك كعامة الناس، فيقف أمامهم لا ليفيدهم ولا ليساعدهم على تحسين حالهم بل ليسلك مسلكهم في كل الأمور ويقتفي أثرهم في كل شيء. والكاتب الثاني يدرس أحوال الأمة متأملا ويبحث في أخلاق الناس المتباينة فيفيد إذ ذاك إذا كتب ويصدق إذا انتقد، الأول مسئول عما يكتبه لجيبه فقط والثاني مسئول لضميره. والعالم الذي يكتم ما يعلمه خشية أن تكدر القراء أقواله هو كالطبيب الذي يحجم عن العملية خوفا من أن يؤلم المريض، أو هو كالقاضي الذي لا يرشد المذنب ويوبخه خشية أن يكدر خاطره الكريم. فما أجمل ما روى نبي الإسلام إذا:
ما آتى الله أحدا علما إلا أخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه أحدا.
وما أقبح وأسخف ما يقول أولئك المحافظون المنقادون إلى الذوق العام الفاسد، فإذا قرءوا مقالة مفيدة فيها شيء من الآراء الجديدة يمتعضون ويشمخون ويزدرون صاحبها قائلين: إن هذا لا يوافق القوم ولا يلائم أذواقهم ومشاربهم، فلهؤلاء ولمثلهم أقول: كيف يتسنى لكم إصلاح الذوق العام الفاسد إذا كنتم في كتاباتكم لا تقولون ما يكدر ولا تبدون رأيا جارحا ولا تنتقدون انتقادا صحيحا إذا كنتم تنوون أن تجعلوا الذوق العام قياسا عاما لكل ما تكتبونه فخير لكم أن تستعفوا وتتركوا للشعب القول، فهو يزيدكم في أصول المجاملة علما ويثبت فيكم ما ألفتموه من حب الملاطفة ومراعاة الخواطر.
الكاتب الحر هو العالم الحقيقي الذي يضع أمام الناس نتائج علمه وثمار بحثه ودروسه فيفيد الأمة بجميع مظاهرها مع محافظته على كرامة العلم وحرمة الأدب، هو يقول قوله وإن كان ذلك معاكسا لميل العامة ومخالفا لأذواق الأفراد وأهواء ذوي السيادة، من كتب للمستقبل لا يجازى على عمله في الحاضر ومن كتب للحاضر فلا يبقى له ذكر في المستقبل. ويجدر بنا كلنا التمثل والعمل بقول من قال:
جعلك الله ممن يطلب العلم رعاية لا رواية وممن يظهر حقيقة ما يعلمه بما يعمله.
অজানা পৃষ্ঠা