وادي الفريكة مهيب أكثر منه جميل، هو عميق ملتو، ينحدر من قرية صغيرة ليغسل رجليه في نهر الكلب. هو صغير ولكنه كثير الزوايا والأسرار يجمع بين الدلب، الذي لا يعيش إلا بالقرب من الماء، والصنوبر، الذي يكتفي بمشاهدة البحر من أعالي الجبال. وفي الشتاء تنثر الطبيعة تحت قدميه أزاهر الدفلي، وتكلل رأسه في الربيع وفي الصيف بأزاهير اللزان. ومع هذا الجلال والدلال تراه حاملا على منكبيه كثيرا من الأطواد التي تخضع صاغرة تحت قدمي صنين، نعم إن ملتقى الجبال على منكبي وادي الفريكة، هنالك تعانق جبال القاطع جبال كسروان ومن أعطافها تتدفق في الشتاء المياه التي تجري في نهر الكلب، هنالك تمتد الأعناق وتنحني الرءوس وتضغط الخدود بعضا على بعض. وفي الصباح قبل أن يغيب القمر وتشرق الشمس تتلألأ فوقها إلهة الحب لتباركها إلى الأبد. تشرق الزهرة من وراء جبل صنين وترسل أشعتها الباهرة فوق الجبال التي يعانق بعضها بعضا عناقا أبديا على منكبي وادي الفريكة.
في هذا الوادي من الصخور الشامخة والمنحدرات المخوفة والوهاد العميقة والكهوف المظلمة؛ ما لا يرغب الناس في الانحدار إليه، فهو يقول للفلاح: تعال وفأسك ومنجلك، ويقول لمحب الطبيعة تعال بأفكارك وتصوراتك، كما تقول الرياض لمحب السرور: تعال بالعود والدن.
في صباح يوم من الأيام التي تقف حائرة بين الخريف والشتاء لبيت دعوة الوادي، خرجت من بيتي بمعطف مشمع وأخذت أقفز عن الربى وأدب من تحت الصخور حتى وصلت إلى قلب الغاب، نزلت لأتفقد الوادي بعد أن اغتسل بسحابة الخريف الأولى، هبطت على عادتي لا ترويحا للنفس كما يقال، بل طالبا الإلهام ناشدا الفائدة. نعم أنا أقصد الوادي كما يقصده الفلاح ولكن فأسي ومنجلي يختلفان نوعا عن فأسه ومنجله، وأحمالنا ونحن عائدان تختلف كثيرا بعضها عن بعض. على أن حطب الغاب يفيد في هذه الأيام أكثر من حطب الخيال والفلاح هو الفيلسوف الحقيقي، ولكن ذلك قلما يهمني، قد انحدرت إلى الوادي ووقفت على صخر يشرف على النهر وتأملت فعل العواصف والأنواء الليلة البارحة - تلك الليلة التي دخل إله الشتاء بعروسه الطبيعة.
كيف لا ومياه النهر والسواقي حمراء كالدم ... وقفت هنالك مبتهجا فأحسست بأن روحي انفصلت عن جسمي وطارت فوق الأشجار البليلة وفوق الصخور الشهباء في الصيف السوداء بعد الأمطار، طارت وطار معها ما تراكم على رأسي وقلبي من الأفكار والخيالات والأماني، طارت مسرعة صامتة كما يطير السنونو والحسون في هذا الفصل. شعرت بأن روح الوادي تجسدت في وروحي تجسدت في الوادي، فأنا إذن والوادي سواء. في نفسي ما فيه من الظلال والخيالات والكهوف، في نفسي ما فيه من الصخور الشامخة والمنحدرات الهائلة والسواقي الفائضة والأنهر الجارية، في نفسي ما فيه من العصافير والجنادب والنسور ومن الهوام والذئاب أيضا أيها القارئ البعيد القريب.
صعدت قليلا وجلست تحت خرنوبة غضة وتنفست متنشقا هواء الأحراج المنعش فكاد يكون لنفسي صدى في حفيف الأوراق، في ظل هذه السكينة يكاد المرء يسمع خفقان قلبه، وعند توقلي في الصخر سمعت صوت رفرفة العصافير فالتفت إلى جهة الصوت وإذا بسرب كبير من السنونو فر من أمامي ففكرت في نفسي قائلا: لو كان للطير أن يقرأ الأفكار لما كان هذا السرب يفر الآن من وجهي بل كان يجيئني مغردا فأقبله ويقبلني ويسير بعدئذ كل منا في سبيله، ولكن إخواني البشر لم يعودوا الطير مثل هذا والسنونو لم يقرأ شيئا حتى اليوم مما أكتبه، إلى الآن لا يعرفني، وهل يلام على ذلك والإنسان نفسه لم يزل يعجز عن فهم ما انطوى عليه الإنسان؟
السكينة بعد العواصف، أتأملتها في زمانك؟ هي عندي نوع من الراحة الأبدية، السكينة في الوادي تكاد تكون في هذا الفصل غير عالمية، فما أنعشها للنفس وما أجمل وقعها على الأذن والقلب! ولو جاز أن تقول إن للسكينة ألحانا وأنغاما لقلت إنها أشجى في مسمعي وأبدع من ألحان أمهر الموسيقيين.
وما معنى الألحان التي لا تسبقها وتتلوها السكينة؟ إنها عندي كلا شيء، بل هي ضجيج مزعج ممل، وأما العبير المنتشر في الغابات بعد الأمطار - وخصوصا بعد السحابة الأولى من فصل الشتاء - فيحير الكيماوي والنباتي والعطار، فما أشذاه وأطيبه وما أبعده وأغربه! أيفاخرني الخليع بروائح الحشيش والأفيون وحبوب المسك والعنبر وغيرها من «نسخات» المصريين؟ فوالله إن روائح الغاب والوادي بعد الأمطار لأطيب منها شذى وأبعد منها غرابة وأشد منها فعلا في النفس.
مر علي ساعة من الزمن وأنا أتنشق هذه الروائح وأفكر في الحشاشين والروحيين والبوذيين، في أولئك الذين يسكرهم الإيمان أو الأفيون فيرتفعون بأحلامهم إلى ما وراء الطبيعة أو ينحدرون إلى ما تحتها، فنهضت وقد تخدرت أعصابي من أرج الأشجار الندية وأفيون الأرض الندية، ونظرت بعين البصيرة إلى الأفق من خلال الأغصان فتنسمت من الغيوم المتراكمة فيه خيرا وقلت في نفسي: إلى البيت يا ولد إلى البيت! فها قد اختبأت في أعشاشها الطيور وعادت إلى أوكارها الحشرات والهوام وعدت نحو حظائرها الماشية. ها قد انهزمت السكينة أمام الرياح وهبت الأوراق الصفراء البالية من الأدواح لتختبئ في الغياض والأدغال.
وأنت، فما الذي يبقيك هنا؟ عد إلى عشك قبل أن تحاصرك الرياح، عد إلى عشك قبل أن تسل عليك صوارمها الغيوم وتطلق مدافعها، قبل أن ترسل عليك السحب شآبيبها. فقبلت نصيحة نفسي ونظرت حولي باحثا فرأيت بالقرب من شجرة صنوبر كبيرة صخرا قد نقرت فيه الديم والأعاصير مغارة صغيرة فتقدمت نحوها ودججت تحت الصخر إليها دجا، وتأملت بعد ذلك حكمة الطبيعة ورحمة العواصف والرياح، لا أيها القارئ، إن الطبيعة لا تظلم بنيها مهما اشتد غضبها ومهما تعامت في مناحيها الهائلة المخوفة. وأما أولئك الذين يخافون الأمطار ويخشون الأعاصير فيتفرجون عليها من وراء الزجاج فذرهم في نعيمهم يمرحون. أولئك فقراء الروح لا يدركون الغرض الجوهري من الحياة الدنيوية، ولا يعرفون ما غرب وخفي فيها من اللذات الروحية والجسدية، كم من مرة سمعت صوت النفس يناجيني قائلا: امش تحت المطر الهاطل وعرض خديك لسهام الغيوم - بل لقبلاتها - فهي تسيل شوقا إليك، وإذا وجدت نفسك في الغاب أو في الوادي في مثل هذه الآونة فلا تخف على جلدك من الذوبان ولا تهرول إلى البيت كالجبان، بل قل لنفسك مكانك تحمدي أو تستريحي! افرح بكل مظهر من مظاهر الطبيعة واستفد إن كان عندك ذروة من العلم.
عليك بشجرة وارفة الظلال فاشغل فكرك أو قلبك بشيء تراه حولك ولا تكن من الخاسرين، هذه الفرص ثمينة يا صاح، وهي أندر من الغراب الأعصم، ولعلك لا توفق أيضا للاقتراب من الطبيعة في شدة غضبها - في ساعة تهيجها واضطرابها، فاقترب منها الآن! تعلم منها الثبات والإخلاص واستمد منها القوة والجلال.
অজানা পৃষ্ঠা