سيداتي وسادتي
عندما كتبت هذه الرواية الصغيرة لم يخطر في بالي أمر تمثيلها، وقد ألفتها لغرضين غرض أدبي وغرض سياسي، فالغرض الأدبي ظاهر للأدباء من خلال الخيال والغرض السياسي نقطة محوره، ومهما كان من أمر الرواية فما هي إلا وقفة أمام الباب الذي لا بد أن يدخله الأدباء بعد حين، فقد عفنا الروايات المترجمة التي قلما تنطبق على حالنا، وقد حان لنا أن نضع تاريخ الأمم الشرقية وبالأخص تاريخنا على المرسح ليقتفي الناس آثار أجدادنا الحسنة ويتحايدوا منها السيئة.
ومن العجز أن نتهافت على موائد الإفرنج وعندنا في تواريخنا العربية وحياتنا الاجتماعية من الحوادث والعبر ما كان يكفي ساردو وروستان وأبسن خمسين عاما لو تفرغوا لدرسها ووضعها في قالب التمثيل. وما روايتي هذه سوى وقفة أمام باب هذا الموضوع - كما قلت - وبما أنني أشتغل اليوم في نظم بعض حوادث تاريخ العرب لتمثل في إنكلترا أو أميركا أود لو اهتدى بعض إخواني من الأدباء إلى شيء من هذه الحوادث المهمة فيفرغونها في قالب تمثيلي على طريقة قريبة بقدر إمكاننا من كمالات هذا الفن.
أما الغاية السياسية من الرواية فلا شك أنها ظهرت لأكثركم وتدبرتموها وما عبد الحميد فيها سوى واسطة لإظهار الحقيقة المؤلمة التي طالما شغلت المفكرين.
من الألفاظ الساحرة التي تتدهور على ألسنة الخطباء في هذه الأيام لفظة المساواة، والمساواة أيضا هي محور الفكرة السياسية في الرواية، ولكن بين ما أرتئيه في هذا الموضوع وما يرتئيه غيري بونا شاسعا؛ فالمساواة لفظة طالما تحمس لها الشعوب في ما مضى من التاريخ، ووجدت فيها الأمم خلاصا إلى حين، وإن كان في تاريخ الرومان أو الفرنسيس أو الأميركان، فإن هي إلا فترة مرت فأضرمت في الشعوب هوسا أبعدهم عن الحقائق الطبيعية والاجتماعية وأعادهم إليها بعد حين، والتاريخ شاهد على هذا، على أن الوقت لا يسمح الآن في استطلاع شواهده، ولولا ذلك لكنت أبين لكم كيف خابت آمال الرومان والفرنسيس والأميركان في عقيدة زال شغفهم بها بعد أن وضعوها في حيز العمل.
على أنني أصرح أمامكم الآن أنني لست من المعتقدين بأن الناس ولدوا متساوين كما جاء في دستور الولايات المتحدة، فالناس لا يولدون متساوين لا في القوى العقلية ولا الجسدية ولا الروحية، وهذه حقيقة لا حاجة للإسهاب فيها. وإنما الناس متساوون اسما أمام الشرع أما فعلا فهم في البلاد التي تدعى مهد المساواة كإخوانهم في البلاد التي كانت في الماضي قبرها. فالأميركي والعثماني شبيهان من هذا القبيل، وفي الأمتين ذو النفوذ يخنق المساواة بنفوذه، وذو المال بماله، وذو السيادة بسيادته، وذو العقل بعقله، وذو القوة بقوته. ومهما تحمسنا وبالغنا في القول ينبغي أن تكون الحقيقة محجتنا في كل حال.
والحقيقة يا سادتي هي أن المساواة لا حقيقة لها في البشر اليوم، والذي يمكننا أن نصل إليه بعد طويل الجهاد والثبات في مضمار الارتقاء هو أن يعرف كل امرئ مركزه ويجازى كل امرئ على عمله، وهذه - في نظري - هي المساواة الحقيقية، ليجاز ، كل امرئ على عمله بعدل وإنصاف، وأنا الكفيل بأن الناس لا تحلم بعدئذ بالمساواة.
إذا ما الفائدة للفاعل يا ترى من معرفته أنه وسيده متساويان إذا كان سيده هذا لا يجازي عمله بعدل وإنصاف! المساواة الحقيقية إذا هي أن يجازى كل على عمله، أن يجازى المجرم على جرمه، والفاعل على عرق جبينه، والعالم على عمله، والذكي على ذكائه الذي يظهر في أعماله، ورب الفنون على عرائس صناعته والشاعر على نفائس شعره.
فالمجرم إذا كان من المتشردين أو من السلاطين ينبغي أن يكون في نظر الشرع واحدا، وفي نظر القضاة واحدا، وفي نظر السجان واحدا، أي: أن الحقيقة تطلب شريعة واحدة وميزانا للعدل واحدا وسجنا واحدا لمن ساوت بينهم الجرائم والآثام. ولا فرق بين الصعلوك من هذه الوجهة والأمير وبين الفقير والغني.
أذكر لما كنت في الولايات المتحدة أن المحكمة العليا حكمت على أحد أرباب الاحتكار هناك بالحبس ستة أشهر لخرقه نظام الحكومة المختص بالشركات الاحتكارية، فزج في السجن كبقية المذنبين، ولكنه لم يعش هناك كما عاش إخوانه السجناء، فقد اختصته الحكومة بثلاث غرف فرشها من ماله بالطنافس والرياش، وأذنت لأحد المطاعم أن يقدم له طعامه كل يوم في الأوقات المعينة وكان أصحابه وعماله يزورونه كل يوم كما لو كان في بيته أو في مكتبه.
অজানা পৃষ্ঠা