وقد ذهب لوك، بعد أن قضى على مبدأ الأفكار الفطرية، وبعد أن عدل عن الاعتقاد الباطل القائل إن الإنسان يفكر دائما، إلى أن جميع أفكارنا تأتينا بواسطة الحواس، كما فحص أفكارنا البسيطة وأفكارنا المركبة وتتبع روح الإنسان في جميع أعماله، وبين مقدار نقص اللغات التي يتكلم بها الناس ومقدار ما نأتي من سوء في استعمال الكلمات في جميع الأوقات.
وأخيرا يأتي أمر إنعام النظر في مدى المعارف البشرية، وإن شئت فقل عدمها، ففي هذا الموضوع ما يجرؤ على عرض الكلمة الآتية متواضعا: «قد لا نغدو قادرين على معرفة كون الموجود المادي المحض يفكر أولا.»
وقد بدا هذا الكلام الحكيم لكثير من علماء اللاهوت تصريحا فاضحا قائلا: إن الروح مادي هالك.
وبالويل والثبور ينادي بعض الإنكليز الأتقياء على شاكلتهم، ويكون الخرافيون في المجتمع كما يكون الجبناء في الجيش، فيبدون ذوي هزل وناشرين لذعر، ويدعى بأن لوك يريد هدم الدين، ومع ذلك فإنه لا دخل للدين في هذا الأمر الذي هو مسألة فلسفية صرفة كثيرة الاستقلال عن الإيمان والوحي، فليس على الإنسان إلا أن يبحث بلا حدة في إمكان قدرة المادة على التفكير، وفي استطاعة الله أن يوصل الفكر إلى المادة، غير أن علماء اللاهوت يبدءون بقولهم - في الغالب - إنه يجدف على الله إذا لم يكن الإنسان على رأيهم، وما أكثر ما يشابه هذا أردياء الشعراء الذين كانوا يدعون أن دسبرثو يقول سوءا عن الملك؛ لأنه استهزأ بهم.
وقد اشتهر الدكتور ستلغنفليت بأنه عالم لاهوتي معتدل؛ لأنه لم يصب شتائم على لوك تماما، وإنما خاصمه فهزم لإقامته الدليل دكتورا وإقامة لوك الدليل فيلسوفا عارفا بقوة الروح البشرية وضعفها؛ ولأنهما تخاصما بأسلحة كان يعرف طبيعتها.
ولو كنت من الجرأة ما أتكلم معه بعد مستر لوك حول موضوع بالغ هذه الدقة لقلت: إن الناس يجادلون منذ زمن طويل حول طبيعة الروح وحول خلودها، فأما خلود الروح فإن من المستحيل إثباته ما دام يجادل حول طبيعتها أيضا، ولا جرم أنه يجب أن يعرف الموجود معرفة أساسية كيما يقرر كونه خالدا أو لا، ويرى العقل البشري من قلة القدرة على إثبات خلود الروح ما اضطر الدين معه إلى الإيحاء به إلينا، وتقضي مصلحة جميع الناس المشتركة باعتقاد خلود الروح، ويأمرنا الإيمان بهذا، ولا شيء أكثر من هذا، وقد حكم في الأمر، وأما طبيعة الروح فغير هذا، والدين قليل الاكتراث لجوهر الروح على أنها تكون فاضلة، فهي ليست سوى ساعة دقاقة فوض إلينا أمر إدارتها، ولكن الصانع لم يخبرنا بالشيء الذي ركب منه نابضها.
أنا جسم وأفكر، ولا أعرف أكثر من هذا، وهل أعزو إلى علة مجهولة ما يسهل علي أن أعزوه إلى العلة الثانية الوحيدة التي أعرفها؟ هنا يقفني جميع فلاسفة المدرسة مبرهنين، ويقولون: «لا يوجد في الجسم غير الاتساع والصلابة، ولا يمكن أن يكون في الجسم غير الحركة والصورة، والواقع أنه لا يمكن الحركة والصورة والاتساع والصلابة أن تصنع فكرا؛ ولذا فإن من غير الممكن أن تكون الروح مادة.» ويرد جميع هذا البرهان الكبير الذي كرر كثيرا إلى ما يأتي حصرا، وهو: «لا أعرف المادة مطلقا، وإنما أتنبأ ببعض خواصها تنبؤا ناقصا، والواقع أنني لا أعرف هل من الممكن أن تقرن هذه الخواص بالفكر؛ ولذا فبما أنني لا أعرف شيئا فإنني أوكد توكيدا تاما كون المادة لا تعرف التفكير.» وهذه هي مادة البرهنة المدرسية بصراحة، وكان لوك يقول لهؤلاء السادة ببساطة: «ولكن اعترفوا بأنكم جاهلون مثلي، وما كان خيالكم وخيالي ليستطيعا أن يدركا كيف تكون للجسم أفكار، وهل أنتم أحسن إدراكا للوجه الذي تكون للمادة فيه أفكار مهما كان أمر هذه المادة؟ وأنتم لا تدركون المادة ولا الروح، فكيف يمكنكم أن توكدوا شيئا ما؟»
ويأتي الخرافي بدوره، ويقول: إنه يجب إحراق من يرون إمكان التفكير بعون من الجسم فقط، وذلك نفعا لنفوسهم، ولكن ما يقولون إذا ما كانوا أنفسهم مذنبين بالإلحاد؟ والواقع من يجرؤ على الادعاء مؤكدا من غير إلحاد غير معقول بأنه يستحيل على الخالق أن ينعم على المادة بالفكر والشعور؟ وروا - كما أرجو - أي ورطة تردون إليها أنتم الذين يحددون قدرة الخالق على هذا الوجه؟! إن للحيوانات مثل أعضائنا ومشاعرنا وإدراكنا، ولها ذاكرة، وهي تركب بعض الأفكار، وإذا كان الله لا يستطيع أن يحيي المادة وأن ينعم عليها بالشعور، فإنه لا بد من أحد الأمرين: إما أن تكون الحيوانات آلات صرفة أو أن تكون ذات نفس روحانية.
ويبدو لي أن من الثابت تقريبا كون الحيوانات لا يمكن أن تكون آلات بسيطة، ودليلي على هذا أن الله جعل لها من أعضاء الإحساس مثل ما لدينا؛ ولذا فإنها إذا كانت لا تحس مطلقا فإن الله يكون قد أتى عملا باطلا، والواقع أن الله لا يفعل شيئا عبثا كما تشهدون، وليست الحيوانات إذن آلات صرفة مطلقا.
وعندكم أنه لا يمكن أن تكون للحيوانات نفس روحانية؛ ولذا فإنه لا يبقى شيء آخر يقال، وهذا على الرغم منكم، غير كون الله قد منح أعضاء الحيوانات - التي هي مادة - خاصية الإحساس والشعور التي تدعونها غريزة في الحيوانات .
অজানা পৃষ্ঠা